المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل العاشر الحساب والجزاء - القيامة الكبرى

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل العاشر الحساب والجزاء

‌الفصل العاشر الحساب والجزاء

تمهيد: المراد بالحساب والجزاء:

يراد بالحساب والجزاء أن يُوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في حياتهم الدنيا من إيمان وكفر، واستقامة وانحراف، وطاعة وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، وإيتاء العباد كتبهم بأيمانهم إن كانوا صالحين، وبشمالهم إن كانوا طالحين.

ويشمل الحساب ما يقوله الله لعباده، وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود ووزن للأعمال.

والحساب منه العسير، ومنه اليسير، ومنه التكريم، ومنه التوبيخ، والتبكيت، ومنه الفضل والصفح، ومتولي ذلك أكرم الأكرمين.

ص: 193

مشهد الحساب

حدثنا ربنا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الزمر: 69] .

وحسبنا أن نعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم والعدل قيوم السماوات والأرض ليتبين لنا عظم هذا المشهد وجلاله ومهابته، ولعل هذا الإشراق المنصوص عليه في الآية، إنما يكون عند مجيء الملك الجليل لفصل القضاء، قال تعالى:(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ)[البقرة: 210] .

وهذا المجيء الله أعلم بكيفيته، نؤمن به ونعلم أنه حق، ولا نؤوِّله ولا نحرِّفه، ولا نكذب به، والآية تنصُّ على مجيء الملائكة، فهو موقف جليل تحضره ملائكة الرحمن بكتب الأعمال التي أحصت على الخلق أعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم، ليكون حجة على العباد، وهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] .

ويجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسألون عن الأمانة التي حمَّلهم

ص: 194

الله إياها. وهي إبلاغ وحي الله إلى من أرسلوا إليه، ويشهدون على أقوامهم ما علموه منهم.

ويقوم الأشهاد في ذلك اليوم العظيم فيشهدون على الخلائق بما كان منهم، والأشهاد هم الملائكة الذين كانوا يسجلون على المرء أعماله، ويشهد أيضاً الأنبياء والعلماء كما تشهد على العباد الأرض والسماء والليالي والأيام.

ويؤتى بالعباد الذين عقد الحق محكمته العظيمة لمحاسبتهم، ويقامون صفوفاً للعرض على رب العباد (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف: 48] ، ويؤتى بالمجرمين منهم وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض - مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران، (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ - لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [إبراهيم: 49-51] ، ولشدة الهول تجثوا الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب لعظم ما يشاهدون، وما هم فيه واقعون (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 28] .

إنه مشهد جليل عظيم نسأل الله أن ينجينا فيه بفضله وَمَنِّهِ وكرمه.

ص: 195

هل يُسأل الكفَّار؟ ولماذا يُسألون؟

اختلف العلماء في الكفار: هل يحاسبون ويسألون؟ أم يأمر بهم إلى النار من غير سؤال، لأن أعمالهم باطلة حابطة فلا فائدة من السؤال والحساب؟ وإذا كانوا يحاسبون ويسألون فما فائدة حسابهم وسؤالهم؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم، فممن قال إنهم لا يحاسبون أبو بكر عبد العزيز، وأبو الحسن التميمي، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم، وممن قال: إنهم يحاسبون: أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو طالب "(1) .

والصحيح أن الكفار محاسبون مسؤولون كما أن أعمالهم توزن، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، كقوله تعالى:(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)[القصص: 62]، وقوله:(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)[القصص: 65]، وقوله:(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ - وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ - فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ - نَارٌ حَامِيَةٌ)[القارعة: 6-11] . وقوله: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ -

(1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/305) .

ص: 196

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون: 103-105] ولا شك أن هذه النصوص في الكفار المشركين.

أما لماذا يحاسبون وتوزن أعمالهم مع أن أعمالهم حابطة مردودة فلأمور:

الأول: إقامة الحجة عليهم، وإظهار عدل الله فيهم، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، وهو صاحب العدل المطلق، ولذلك يسألهم ويحاسبهم، ويطلعهم على سجلاتهم التي حوت أعمالهم، ويظهر الميزان عظم سيئاتهم وشناعة أفعالهم (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47] ، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] .

يقول القرطبي: " والباري سبحانه وتعالى يسأل الخلق في الدنيا والآخرة تقريراً لإقامة الحجة وإظهاراً للحكمة "(1) .

الثاني: أن الله يحاسبهم لتوبيخهم وتقريعهم، يقول شيخ الإسلام: " يراد بالحساب عرض أعمال الكفار عليهم وتوبيخهم عليها، ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات، فإن أريد بالحساب المعنى الأول، فلا ريب أنهم محاسبون بهذا الاعتبار.

وإن أريد به المعنى الثاني فإن قصد ذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات

(1) تذكرة القرطبي: 225.

ص: 197

يستحقون بها الجنة فهذا خطأ ظاهر " (1) .

وهذا التأنيب والتقريع والتوبيخ ظاهر من نصوص كثيرة كقوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)[الأنعام: 30] . وقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ)[الأنعام: 130]، وقوله:(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ)[الشعراء: 91-92]، وقوله:(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ)[القصص: 64] .

قال ابن كثير: " وأما الكفار فتوزن أعمالهم، وإن لم تكن لهم حسنات تنفعهم يقابل بهذا كفرهم، لإظهار شقائهم وفضيحتهم على رؤوس الخلائق "(2) .

الثالث: أن الكفار مكلفون بأصول الشريعة كما هم مكلفون بفروعها، فيسألون عما قصروا فيه وخالفوا فيه الحق، يقول القرطبي: " وفي القرآن ما يدل على أنه مخاطبون بها (أي فروع الشريعة) مسؤولون عنها، محاسبون بها، مجزيون على الإخلال بها، لأن الله تعالى يقول: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا

(1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/305) .

(2)

النهاية، لابن كثير:(2/35) .

ص: 198

يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6-7] ، فتوعدهم على منعهم الزكاة، وأخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ - قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)[المدثر: 42-46] ، فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان والبعث وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأنهم مسؤولون عنها، مجزيون " (1) .

الرابع: أن الكفار يتفاوتون في كفرهم وذنوبهم ومعاصيهم، ويحلون في النار بمقدار هذه الذنوب، فالنار دركات بعضها تحت بعض، كما أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، وكلما كان المرء أشد كفراً وضلالاً كلما كان أشد عذاباً، وبعض الكفرة يكون في الدرك الأسفل من النار، ومنهم المنافقون (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء: 145] .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " عقاب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلَّت سيئاته، ومن كان له حسنات خففت عنه العذاب، كما أن أبا طلب أخف عذاباً من أبي لهب.. فكان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخولهم الجنة "(2) . ويذكر القرطبي في وزن أعمال العباد وجهين:

الأول: أنه يوضع في إحدى الكفتين كفره وسيئاته. ولا يجد الكافر حسنة توضع في الكفة الأخرى، فترجح كفة السيئات لكون كفة الحسنات فارغة.

والثاني: أن حسنات الكافر من صلة رحم، وصدقة، ومواساة للناس توضع في كفة الحسنات، ولكن كفة السيئات ترجح بسبب كفره وشركه (3)

(1) تذكرة القرطبي: 309.

(2)

مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/305) .

(3)

تذكرة القرطبي: 312.

ص: 199

والوجه الأول هو الصحيح لأن الشرك يحبط العمل، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 217] . وفي الحديث: " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه "(1) .

ولأنه قد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الكافر يطعم بحسنته في الدنيا فيوافى يوم القيامة وليس له حسنة، ففي صحيح مسلم، ومسند أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله لا يظلم مؤمناً حسنته، يعطى بها في الدنيا (وفي رواية يثاب عليها الرزق في الدنيا) ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها "(2) .

توجيه النصوص الدالة على أن الكفار لا يُسألون:

فإن قيل: قررتم فيما سبق أن الكفار يسألون ويجادلون ويتكلمون ويعتذرون، فيكف تفعلون بالنصوص الدالة على خلاف ذلك، كقوله تعالى:(وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)[القصص: 78]، وقوله:(فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ)[الرحمن: 39]، وقوله:(هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ - وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)[المرسلات: 35-36] ، ونحو ذلك من النصوص.

(1) رواه النسائي في الجهاد عن أبي أمامة، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 52.

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/82) ورقمه: 53.

ص: 200

فنقول: ليس بين هذه النصوص وتلك تعارض، وقد وفق أهل العلم بينهما بوجوه عدة.

الأول: أن الكفار لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، لم عملتم كذا وكذا؟ (1) وكذا يقال في تكليمهم واعتذارهم، أي لا يكلمهم الله بما يحبونه، بل يكلمهم كلام تقريع وتوبيخ (2) .

الثاني: أنهم لا يسألون سؤال استفهام، لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم، وإنما يسألون سؤال تقرير، فيقال لهم: لم فعلتم كذا؟ قال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله حفظها عليهم وكتبتها عليهم الملائكة (3) .

الثالث: أنهم يسألون في يوم القيامة في موطن دون موطن، قال القرطبي:" القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك "(4) .

وقال السفاريني: " وقيل يسألون في موطن دون موطن رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.. فللناس يوم القيامة حالات، والآيات مخرجة باعتبار تلك الحالات، ومن ثَمَّ قال الإمام أحمد في أجوبته القرآنية: أول ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون، ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون، فذلك قوله تعالى: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) [السجدة: 12] "(5) الآية، فإذا أذن لهم في الكلام

(1) التذكرة للقرطبي: 286.

(2)

انظر: تذكرة القرطبي: 287.

(3)

لوامع الأنوار البهية: (2/174) .

(4)

تذكرة القرطبي: 286.

(5)

لوامع الأنوار البهية: (2/174) .

ص: 201

تكلموا، واختصموا، فذلك قوله تعالى:(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر: 31] ، عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك:(لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ)[ق: 28] ، يعني في الدنيا، فإن العذاب مع هذا القول كائن " (1) .

الرابع: قال القرطبي: " أن معنى قوله تعالى: (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78] ، سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين، أي إن الملائكة لا تحتاج إلى أن تسأل أحداً يوم القيامة أن يقال: ما دينك؟ وما كنت تصنع في الدنيا؟ حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه كان مؤمناً أو كان كافراً، لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور، ويكون المشركون سود الوجوه زرقاً مكروبين، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار، وتميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم.. "(2) .

(1) لوامع الأنوار البهية: (2/174) .

(2)

تذكرة القرطبي: 287.

ص: 202

القواعد التي يحاسب العباد على أساسها

لو عذَّب الله جميع خلقه لم يكن ظالماً لهم، لأنهم عبيده، وملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء.

ولكن الحق تبارك وتعالى يحاكم عباده محاكمة عادلة، لم تشهد البشرية لها مثيلاً من قبل، وقد بين لنا ربنا في كثير من النصوص جملة القواعد التي تقوم عليها المحاكمة والمحاسبة في ذلك اليوم.

وسنذكر من ذلك ما ظهر لنا من تلك القواعد.

1-

العدل التام الذي لا يشوبه ظلم:

يُوَفِّي الحقُّ عز وجل عباده يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة، ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281] .

وقال لقمان في وصيته لابنه معرفاً إياه بعدل الله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 16] .

ص: 203

وقال الحق في موضع آخر: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[النساء: 40]، وقال:(وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)[النساء: 77] . وقال: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[النساء: 124] .

وقال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8] ، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى في هذه النصوص أنه يُوفِّي كل عبدٍ عمله، وأنه لا يضيع منه، ولا ينقص منه مقدار الذرة، وهي الهباءة التي في أشعة الشمس إذا دخلت من الطاق، ولا مقدار الفتيل ولا النقير، والفتيل هو الخيط الذي يكون في شق النواة، والنقير: النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة.

2-

لا يؤخذ أحد بجريرة غيره:

قاعدة الحساب والجزاء التي تمثل قمة العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يحمل الحق تبارك وتعالى أحداً وزر غيره، كما قال تعالى:(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[الأنعام: 164] . وهذا هو العدل الذي لا عدل فوقه، فالمهتدي يقطف ثمار هدايته، والضال ضلاله على نفسه، (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] .

ص: 204

وهذه القاعدة العظيمة إحدى الشرائع التي اتفقت الرسالات السماوية على تقريرها، قال تعالى:(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى)[النجم: 36-41] .

يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]" أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها، وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) [الشرح: 2] ، وهو هنا الذنب،.. والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم، ذكره ابن عباس، وقيل: إنها نزلت رداً على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وابنه، وبجريرة حليفه "(1) .

الذين يجمعون أثقالاً مع أثقالهم:

قد يعارض بعض أهل العلم هذا الذي ذكرناه من أن الإنسان لا يحمل شيئاً من أوزار الآخرين بمثل قوله تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ)[العنكبوت: 13]، وقوله:(وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ)[النحل: 25] .

وهذا الذي ذكروه موافق لما ذكرناه من النصوص، وليس بمعارض لها،

(1) تفسير القرطبي: (4/157) .

ص: 205

فإن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن دعاة الهدى ينالون أجر ما عملوه، ومثل أجر من اهتدى بهديهم، واستفاد بعلمهم، فإضلال هؤلاء لغيرهم هو فعل لهم يعاقبون عليه (1) .

3-

إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال:

من إعذار الله لخلقه، وعدله في عباده أن يطلعهم على ما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها، حتى يحكموا على أنفسهم، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر.

قال تعالى: (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105]، وقال:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران: 30]، وقال:(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)[الانفطار: 5]، وقال:(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49] .

وإطلاع العباد على ما قدموه يكون بإعطائهم صحائف أعمالهم، وقراءتهم لها، فقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أنه وكل بكل واحد منا ملكين يسجلان عليه صالح أعماله وطالحها، فإذا مات ختم على كتابه، فإذا كان يوم القيامة أعطى العبد كتابه، وقيل له: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.

(1) توسع أ. د. عمر الأشقر في بحث هذه المسألة في كتابه (مقاصد المكلفين) .

ص: 206

قال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا - اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء: 13-14] .

وهو كتاب شامل لجميع الأعمال كبيرها وصغيرها (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49] .

4-

مضاعفة الحسنات دون السيئات:

ومن رحمته أن يضاعف أجر الأعمال الصالحة (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)[التغابن: 17] .

وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام: 160] . أما السيئة فلا تجزى إلا مثلها (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا)[الأنعام: 160] . وهذا مقتضى عدله تبارك وتعالى.

وقد روى الحاكم في مستدركه، وأحمد في مسنده بإسناد حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: حدثنا الصادق المصدوق فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: " الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد.. والسيئة واحدة أو أغفرها، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة "(1) .

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحديث:128.

ص: 207

ومن الأعمال التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تضاعف عشرة أضعاف قراءة القرآن، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي والدارمي بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: (الم) حرف. ألف حرف. ولا حرف. وميم حرف " وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. غريب إسناداً (1) .

وأخبرنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه أيضاً أن الذكر يضاعف عشرة أضعاف، ففي سنن الترمذي والنسائي وأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" خصلتان - أو خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسيرٌ، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قال: فلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ قالوا: فكيف لا نحصيها؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينفتل، فلعله لا يفعل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام "، أخرجه الترمذي والنسائي.

وفي رواية أبي داود بعد قوله: " في الميزان " الأولى، قال: " ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فذلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده.

قالوا: يا رسول الله، كيف هما يسيرٌ، ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم

(1) مشكاة المصابيح: (1/661) رقم الحديث: 2137.

ص: 208

الشيطان في منامه، فينومه قبل أن يقوله، ويأتيه في صلاته فيذكره حاجته قبل أن يقولها " (1) .

وحدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الذي يرويه البخاري وغيره تردده صلى الله عليه وسلم بين ربه وموسى، حيث كان يشير عليه موسى في كل مرة أن يرجع إلى ربه، فيسأله أن يخفف عنه من الصلاة، حتى أصبحت خمساً بعد أن كانت خمسين.. قال في ختام ذلك:" قال الجبار تبارك وتعالى: إنه لا يبدل القول، كما فرضت عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشرة أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى. فقال: كيف فعلت؟ قال: خففت عنا، أعطانا بكل حسنة عشرة أمثالها ".

وقد يضاعفها أكثر من ذلك، وقد تصل المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، وأكثر من ذلك، ومن ذلك أجر المنفق في سبيل الله، قال تعالى:(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 261]، قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. فقال:(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)[البقرة: 261] قال سعيد بن جبير: " يعني في طاعة الله ". وقال مكحول: يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك. وعن ابن عباس: الجهاد والحج يضعف الدرهم فيها إلى سبعمائة ضعف " (2) .

وأورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية الحديث الذي يرويه مسلم والنسائي

(1) جامع الأصول: (4/372) . رقم الحديث: 2148.

(2)

تفسير ابن كثير: (1/561) .

ص: 209

وأحمد عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لتأتين يوم القيامة بسبعمائة مخطومة " هذا لفظ أحمد والنسائي. ولفظ مسلم: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله. هذه في سبيل الله، فقال:" لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة "(1) .

وأما الأعمال التي تضاعف أضعافاً لا تدخل تحت حصر، ولا يحصيها إلا الذي يجزى بها: الصوم، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: " إلا الصوم فإنه لي: وأنا أجزي به " (2) .

والسر في كون الصائم يعطى من غير تقدير، أن الصوم من الصبر، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، قال تعالى:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10]، قال القرطبي:" وقال أهل العلم: كل أجر يكال كيلاً، ويوزن وزناً إلا الصوم، فإنه يحثى ويغرف غرفا "(3) .

ومن الصبر: الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها وكربها التي يبتلي الله بها عباده (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155-157] .

وعندما يرى أهل العافية عظم أجر الصابرين يتمنون أن تكون جلودهم قرضت

(1) تفسير ابن كثير: (1/562) .

(2)

مشكاة المصابيح: (1/613)، ورقمه:1959. وهو في صحيح مسلم، ورقمه: 1151 ورواه البخاري في مواضع: 1894، 1904، 5927. واللفظ لمسلم.

(3)

تفسير القرطبي: (15/240) .

ص: 210

بالمقاريض لينالوا أجر الصابرين، ففي سنن الترمذي عن جابر، ومعجم الطبراني عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليودَّن أهل العافية يوم القيامة، أن جلودهم قرضت بالمقاريض، مما يرون من ثواب أهل البلاء "(1) .

ومن فضل الله تبارك وتعالى أن المؤمن الذي يهم بفعل الحسنة، ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة، والذي يهم بفعل السيئة، ثم تدركه مخافة الله، فيتركها تكتب له حسنة تامة، ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال:" إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها، فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة "(2) .

تبديل السيئات حسنات:

وتبلغ رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن يبدِّل سيئاتهم حسنات، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها. رجل يؤتى به يوم القيامة. فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا.

فيقول نعم: لا يستطيع أن ينكر. وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه.

(1) صحيح الجامع الصغير: (5/111)، ورقم الحديث:5360.

(2)

صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو سيئة، فتح الباري:(11/323) .

ص: 211

فيقال له: فإن لك مكانا كل سيئة حسنة.

فيقول: رب، عملت أشياء لا أراها ها هنا ".

فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (1) .

5-

إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين:

أعظم الشهداء في يوم المعاد على العباد هو ربهم وخالقهم وفاطرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، قال تعالى:(وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)[يونس: 61]، وقال:(إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)[النساء: 33] .

ولكن الله يحب الإعذار على خلقه، فيبعث من مخلوقاته شهداء على المكذبين الجاحدين حتى لا يكون لهم عذر، وقد أشارت أكثر من آية إلى الشهداء الذين يشهدون على العباد، كقوله تعالى:(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51]، وقوله تعالى:(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء)[الزمر: 69] .

وأول من يشهد على الأمم رسلها، فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ، (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41] ، (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء) [النحل: 89] .

(1) صحيح مسلم: (1/177) . ورقم الحديث: 190.

ص: 212

وقوله: (شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ) ، هم الرسل، لأن كل أمة رسولها منها، كما قال تعالى:(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ)[التوبة: 128] وقال تعالى: (وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)[القصص: 75] .

وكما يشهدون على أممهم بالبلاغ يشهدون عليهم بالتكذيب، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109] ، وقال:(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ)[الأعراف: 6-7] .

قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: " هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلوا إليهم،

وقول الرسل: (لا علم لنا) قال مجاهد والحسن البصري والسدي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم.. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، رواه ابن جرير ثم اختاره، ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الله عز وجل، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا ما أجبنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا شيء " (1) .

ثم إن الأمم تكذب رسلها، وتقول كل أمة ما جاءنا من نذير، فتأتي هذه الأمة: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد للرسل بالبلاغ، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ

(1) تفسير ابن كثير: (2/676) .

ص: 213

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] .

وقد أورد البخاري في صحيحه في كتاب التفسير الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدعى نوح يوم القيامة، لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: " هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله جل ذكره:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143] " (1) .

وقد أفاد ابن حجر أنه قد جاء الحديث عند أحمد والنسائي وابن ماجة بلفظ: " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك. قال: فيقال لهم: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ .. " الحديث. وذكر ابن حجر أيضاً أن في بعض روايات الحديث زيادة: " فيقال ما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه "(2) .

ومن الأشهاد الأرض والأيام والليالي، تشهد بما عمل فيها وعليها، ويشهد المال على صاحبه، وقد عقد القرطبي في تذكرته لهذا الموضوع باباً، وذكر فيه حديث الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه

(1) صحيح البخاري: (4487)، كتاب التفسير:(8/171) .

(2)

فتح الباري: (8/172) .

ص: 214

الآية (يومئذٍ تحدث أخبارها)[الزلزلة: 4] . قال: " أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها ".

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

ويشهد على العبد أيضاً ملائكة الرحمن الذين كانوا يسجلون عليه صالح أعماله وطالحها، كما قال تعالى:(وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)[ق: 21] ، والسائق والشهيد الملكان اللذان كانا موكلين بتلك النفس.

وتشهد الملائكة على العباد بما كانوا يعملون، (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ) [هود: 18] ، فإذا لج العبد في الخصومة، وكذب ربه، وكذب الشهود الذين شهدوا عليه، أقام الله عليه شاهداً منه، فتشهد على المرء أعضاؤه، وقد مضى بيان هذا.

ص: 215

ما يسأل عنه العباد

يسأل العباد عن الإله الذي كانوا يعبدونه، وعن إجابتهم للمرسلين، وقد بينا ذلك فيما مضى.

ويسألون عن أعمالهم التي عملوها، وعما تمتعوا به من النعيم في الحياة الدنيا، كما يسألون عن عهودهم ومواثيقهم، وعن أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم، وهذا ما سنبينه في هذا المبحث.

1-

الكفر والشرك:

أعظم ما يسأل عنه العباد هو كفرهم وشركهم، فيسألهم عن الشركاء والأنداء الذين كانوا يعبدونه من دون الله كما قال تعالى:(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ)[الشعراء: 92-93]، (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص: 62] .

ويسألون عن عبادتهم لغير الله من تقديم القرابين للآلهة التي كانوا يعبدونها، ونحر الذبائح باسمها (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ) [النحل: 56] .

ص: 216

ويسألون عن تكذيبهم للرسل: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ - فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ)[القصص: 65-66] .

2-

ما عمله في دنياه:

يسأل المرء في يوم القيامة عن جميع أعماله التي عملها في الحياة الدنيا، كما قال تعالى:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الحجر: 92-93] . وقال: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف: 6]، وفي سنن الترمذي عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ "(1) .

وفي سنن الترمذي أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه، حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم "(2) .

والذي يتأمل في مثل هذا الحديث يعلم السر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم إلى

(1) سنن الترمذي: 2417. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وكذا رمز له الشيخ ناصر بالصحة في صحيح الجامع: (6/148) ، ورقمه: 7177 وهو في صحيح سنن الترمذي: 1970.

(2)

جامع الأصول: (10/437)، ورقمه:7970. وهو حديث حسن كما قال محقق جامع الأصول، وقد حسنه الشيخ ناصر في صحيح الجامع: (6/148) ، ورقمه: 7176. وهو في صحيح سنن الترمذي: 1969. ورقمه في سنن الترمذي: 2416.

ص: 217

التخفف من المال، فكلما كثر مال العبد كثر حسابه وطال، وكلما قل ماله خف حسابه وأسرع به إلى الجنة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين سنة، ففي صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنا عنده، فقالوا: يا أبا محمد، إنا والله، ما نقدر على شيء، لا نفقة، ولا دابة، ولا متاع. فقال: ما شئتم إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم. وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان. وإن شئتم صبرتم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء، يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً "(1) .

3-

النعيم الذي يتمتع به:

يسأل الله عباده في يوم القيامة عن النعيم الذي خولهم إياه في الدنيا، كما قال:(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر: 8] .

يعني بالنعيم شبع البطون، وبارد الماء، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم، وقال سعيد بن جبير: حتى عن شربة عسل. وقال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا. وقال الحسن البصري: من النعيم الغذاء والعشاء. وقال أبو قلابة: من النعيم أكل السمن والعسل بالخبز النقي. وعن ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار (2) .

وهذا الذي فسروها به من باب التنوع في التفسير، فإن أصناف النعيم كثيرة

(1) صحيح مسلم: (4/2285) . ورقمه: 2979.

(2)

تفسير ابن كثير: 7/364.

ص: 218

لا تعد ولا تحصى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)[إبراهيم: 34] ، وبعض أنواع النعيم من الضروريات وبعضها من الكماليات، والناس يتفاوتون في ذلك فيما بينهم، ويوجد في عصر مالا يجده أهل عصور أخرى، وفي بلد ما لا يجده أهل بلاد أخرى، وكل ذلك يسأل عنه العباد.

روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك؟ ونروك من الماء البارد "(1) .

وبعض الناس لا يستشعر النعم العظيمة التي وهبه الله إياها، فلا يدرك النعمة التي في شربة الماء، ولقمة الطعام، وفيما وهبه الله من مسكن وزوجة وأولاد، ويظن أن النعم تتمثل في القصور والبساتين والمراكب فحسب، فقد سأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. فأنت من الأغنياء. قال فإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك (2) .

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ "(3) ، ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون.

(1) مشكاة المصابيح: (2/656) ورقمه: (5196)، وقال محقق المشكاة: إسناده صحيح.

(2)

صحيح مسلم: (4/2285) ورقم الحديث: 2979.

(3)

صحيح البخاري: 6412.

ص: 219

وفي مسند أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم "(1) .

وفي بعض الأحاديث النبوية بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم عن صورة من صور السؤال عن النعيم الذي يواجه الله به عباده في ذلك اليوم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى (الرب) العبد فيقول: أي فُل (2) ، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ قال: فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني.

ثم يلقى الثاني فيقول: أي فُل، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني.

ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع. فيقول: ههنا اذن (3) .

قال: ثم يقال له: الآن نبعث عليك شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه، من ذا يشهد علي؟ فيختم الله على فيه. ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه.

وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه " (4) .

(1) مشكاة المصابيح: (2/676)، ورقمه: 5290، وعزاه المحقق إلى ابن ماجة، وقال: إسناده صحيح.

(2)

فل، أي: يا فلان.

(3)

معناه قف: ههنا إذن.

(4)

رواه مسلم في صحيحه: (4/2280)، ورقمه:2968.

ص: 220

والسؤال عن النعيم سؤال عن شكر العبد لما أنعم الله به عليه، فإذا شكر فقد أدى حق النعمة، وإن أبى وكفر، أغضب عليه الله، ففي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "(1) .

4-

العهود والمواثيق:

يسأل الله عباده عما عاهدوه عليه (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا)[الأحزاب: 15]، وكل عهد مشروع بين العباد فإن الله سائل العبد عن الوفاء به (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34] .

5-

السمع والبصر والفؤاد:

يسأل الله العباد عن جميع ما يقولونه، ولذلك حذرهم من القول بلا علم (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36] ، قال قتادة:" لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله "(2) .

قال ابن كثير: " ومضمون ما ذكروه في الآية أن الله نهى عن القول بغير

(1) صحيح مسلم: 2734.

(2)

تفسير ابن كثير: (4/308) .

ص: 221

علم، بل بالظن، الذي هو التوهم والخيال. كما قال تعالى:(اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الحجرات: 12] . وفي الحديث: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث "، وفي سنن أبي داود بئس مطية الرجل:(زعموا) وفي الحديث الآخر: " إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " وفي الصحيح: " من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل "(1) .

(1) تفسير ابن كثير: (4/308) .

ص: 222

أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله

أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله تبارك وتعالى الصلاة، فإن صلحت أفلح ونجح وإلا خاب وخسر، ففي سنن الترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئاً. قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك "(1) .

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته: انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال بعد ذلك "(2) .

(1) جامع الأصول: (10/434)، ورقمه: 7964، وعزاه في صحيح الجامع إلى الترمذي والنسائي وابن ماجة، وصححه. صحيح الجامع:(2/184)، ورقمه:2016.

(2)

جامع الأصول: (10/435)، ورقمه: 7956، وعزاه الشيخ ناصر في صحيح الجامع إلى أبي داود وأحمد والنسائي والحاكم. وقال فيه: صحيح. صحيح الجامع: (2/352)، ورقمه:2568.

ص: 223

أنواع الحساب وأمثلة لهذه الأنواع

المطلب الأول

أنواع الحساب

يتفاوت حساب العباد، فبعض العباد يكون حسابهم عسيراً وهؤلاء هم الكفرة المجرمون الذين أشركوا بالله ما لمن ينزل به سلطاناً، وتمردوا على شرع الله، وكذبوا بالرسل، وبعض عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب كثرة الذنوب وعظمها.

وبعض العباد يدخلون الجنة بغير حساب، وهم فئة قليلة لا يجاوزون السبعين ألفاً، وهم الصفوة من هذه الأمة، والقمم الشامخة في الإيمان والتقى والصلاح والجهاد، وسيأتي ذكرهم وصفتهم عند الحديث عن أهل الجنة وبعض العباد يحاسبون حساباً يسيراً، وهؤلاء لا يناقشون الحساب، أي لا يدقق، ولا يحقق معهم، وإنما تعرض عليهم ذنوبهم ثم يتجاوز لهم عنها.

وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ- فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الانشقاق: 7-8]، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى:(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ- فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الانشقاق: 7-8] ، فقال رسول

ص: 224

الله صلى الله عليه وسلم: " إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك "(1) .

قال النووي في شرحه للحديث: " معنى نوقش الحساب: استقصي عليه. قال القاضي: وقوله: (عذب) له معنيان: أحدهما: أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ. والثاني: أنه مفض إلى العذاب بالنار ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: (هلك) مكان (عذب) هذا كلام القاضي.

قال النووي: وهذا الثاني هو الصحيح، ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استقصي عليه، ولم يسامح هلك، ودخل النار، ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء " (2) .

ونقل ابن حجر عن القرطبي في معنى قوله: " إنما ذلك العرض " قال: " إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منَّة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة "(3) .

والمراد بالعرض - كما هو ظاهر من هذه الأحاديث - عرض ذنوب المؤمنين عليهم، كي يدركوا مدى نعمة الله عليهم في غفرانها لهم.

(1) صحيح الجامع، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، فتح الباري:(11/400)، وصحيح مسلم:(4/2204)، ورقمه: 2876، واللفظ للبخاري.

(2)

النووي على شرح مسلم: (17/208) .

(3)

فتح الباري: (11/402) .

ص: 225

المطلب الثاني

أمثلة هذه الأنواع

ورد في السنة النبوية مشاهد للمناقشة والعرض والمعاتبة التي تكون من الله لعباده، وسنسوق لكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة مشهداً مما صح في السنة.

1-

مناقشة المرائين:

روى مسلم والترمذي والنسائي عن شفي بن ماتع الأصبحي رحمه الله أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: " من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أسألك بحق وحق، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، فمكثنا قليلاً، ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح عن وجهه، وقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته طويلاًً، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء

ص: 226

الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك.

ويؤتى بصحاب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك، حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقيل ذلك.

ثم يؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ".

قال الوليد أبو عثمان المدائني: فأخبرني عقبة بن مسلم: أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا.

قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: " أنه كان سيافاً لمعاوية، فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هكذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً، حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[هود: 15-16] . أخرجه الترمذي.

وفي رواية مسلم والنسائي عن سليمان بن يسار: قال: " تفرق الناس عن

ص: 227

أبي هريرة، فقال له ناتل أخو أهل الشام: أيها الشيخ حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأوتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنه تعلمت العلم ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه بنعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ".

2-

عرض الرب ذنوب عبده عليه:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد:(هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18](1) .

(1) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب قوله تعالى:(ألا لعنة الله على الظالمين)، فتح الباري:(5/96)، وصحيح مسلم:(4/2120)، ورقمه:2768.

ص: 228

قال القرطبي في قوله: " فيضع عليه كنفه " أي: ستره ولطفه وإكرامه، فيخاطب خطاب ملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول له: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله ممتناً عليه، ومظهراً فضله لديه: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، أي لم أفضحك بها فيها، وأنا أغفرها لك اليوم (1) .

3-

معاتبة الرب عبده فيما وقع منه من تقصير:

وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معاتبة الرب لعبده يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني.

قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟

قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟

يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني؟

قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟

قال: أما علمت أنه استطعمتك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟

يا ابن آدم، استسقتيك فلم تسقني؟

قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟

قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟ " (2) .

(1) تذكرة القرطبي: 263.

(2)

مشكاة المصابيح: (1/486)، ورقم الحديث:1528.

ص: 229

إيتاء العباد كتبهم

في ختام مشهد الحساب يعطى كل عبد كتابه المشتمل على سجل كامل لأعماله التي عملها في الحياة الدنيا وتختلف الطريقة التي يؤتى بها العباد كتبهم، فأما المؤمن فإنه يؤتى كتابه بيمينه من أمامه، فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله في الجنة مسروراً (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق: 7-9] ، وإذا اطلع المؤمن على ما تحويه صحيفته من التوحيد وصالح الأعمال سر واستبشر، وأعلن هذا السرور، ورفع به صوته، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ - في جنَّةٍ عَالِيَةٍ - قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ - كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 19-24] .

وأما الكافر والمنافق وأهل الضلال فإنهم يؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعو الكافر بالويل والثبور، وعظائم الأمور (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا) [الانشقاق: 10-12] . (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ -

ص: 230

يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ - خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [الحاقة: 25-31] .

وعندما يعطى العباد كتبهم يقال لهم: (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجاثية: 29] .

ص: 231

تصوير القرطبي لمشهد الحساب

قال القرطبي مصوراً مشهد الحساب: " فإذا بعث العباد من قبورهم إلى الموقف، وقاموا فيه ما شاء الله، حفاة عراة، وجاء وقت الحساب الذي يريد الله أن يحاسبهم فيه، أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأتوها، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، فأولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله أو وراء ظهره، وهم الأشقياء، فعند ذلك يقرأ كل كتاب به، وأنشدوا:

مثل وقوفك يوم العرض عرياناً ××× مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا

والنار تلهَّب من غيظ ومن حنق ××× على العصاة ورب العرش غضبانا

اقرأ كتابك يا عبدي على مهل ××× فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا

لما قرأت ولم تنكر قراءته ××× إقرار من عرف الأشياء عرفانا

نادى الجليل خذوه يا ملائكتي ××× امضوا بعبد عصا للنار عطشانا

المشركون غداً في النار يلتهبوا ××× والمؤمنون بدار الخلد سكانا

فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله تعالى. وقد وكلت الملائكة بأخذك، فقربتك إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك، إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذا قرع النداء قلبك، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، تخطى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد

ص: 232

رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيديهم، وقد طار قلبك، واشتد رعبك، لعلمك أين يراد بك.

فتوهم نفسك، وأنت بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك، لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها! وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها! وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً! فيا حسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك.

فأما من أوتي كتابه بيمينه، فعلم أنه من أهل الجنة، فيقول: هاؤم اقرأوا كتابية، وذلك حين يأذن الله، فيقرأ كتابه، فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعوا إليه، ويأمر به، ويكثر تبعه عليه، دعي باسمه واسم أبيه، فيتقدم حتى إذا دنى أخرج له كتاب أبيض، في باطنه السيئات، وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه، فإذا بلغ آخر الكتاب، وجد فيه: هذه سيئاتك، وقد غفرت لك، فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه، فيقرأ حسناته، فلا يزداد إلا فرحاً، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجده فيه: هذه حسناتك، قد ضوعفت لك، فيبيض وجهه، ويؤتى بتاج، فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل فيه، ويطول ستين ذراعاً، وهي قامة آدم. ويقال له: انطلق إلى أصحابك فبشرهم، وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فإذا أدبر قال:(هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ) . قال الله تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)[الحاقة: 19-21] ، أي مرضية، قد رضيها (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) ، في السماء (قُطُوفُهَا) ، ثمارها وعناقيدها (دَانِيَةٌ)

ص: 233

أدنيت منهم. فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة الله، من أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان، ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)(1) أي قدمتم في أيام الدنيا.

وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إليه، ويأمر به، فيكثر تبعه عليه، ونودي باسمه واسم أبيه، فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود، بخط أسود، في باطنه الحسنات، وفي ظاهره السيئات، فبدأ بالحسنات فيقرؤها، ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب، وجد فيه: هذه حسناتك، وقد ردت عليك، فيسود وجهه، ويعلوه الحزن، ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه، فيقرأ سيئاته، فلا يزداد إلا حزناً، ولا يزداد وجهه إلا سواداً. فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك، وقد ضوعفت عليك، أي يضاعف عليه العذاب، ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل. قال: فيعظم في النار، وتزرق عيناه، ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران.

ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول:(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) يعني الموت (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) فسره ابن عباس رضي الله عنهما: هلكت عني حجتي. قال الله تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي اجعلوه يصلى الجحيم (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) الله أعلم بأي ذراع. قال الحسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك. (فاسلكوه)، قيل: يدخل عنقه فيها، ثم يجر بها، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب.

فينادي أصحابه فيقول: هل تعرفوني؟ فيقولون: لا، ولكن قد نرى ما

(1) الآيات التي استشهد بها المصنف في كلامه من سورة الحاقة: 19-32.

ص: 234

بك من الحزن. فمن أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا.

وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، تخلع كتفه اليسرى، فيجعل يده خلفه، فيأخذ بها كتابه. وقال مجاهد: يحول وجهه في موضع قفاه، فيقرأ كتابه كذلك.

فتوهم نفسك إن كنت من السعداء، وقد خرجت على الخلائق مسرور الوجه، قد حل بك الكمال والحسن والجمال، كتابك في يمينك، أخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان، سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. وأما إن كنت من أهل الشقاوة، فيسود وجهك، وتتخطى الخلائق كتابك في شمالك، أو من وراء ظهرك، تنادي بالويل والثبور، وملك آخذ بضبعيك ينادي على رؤوس الخلائق: ألا إن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً (1) .

(1) تذكرة القرطبي: 255.

ص: 235