المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن أحوال الناس في يوم القيامة - القيامة الكبرى

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل الثامن أحوال الناس في يوم القيامة

‌الفصل الثامن أحوال الناس في يوم القيامة

تختلف أحوال الناس في ذلك اليوم اختلافاً بيناً، وسنعرض هنا لثلاثة: الكفار، وعصاة الموحدين، والأتقياء الصالحين.

حال الكفار

المطلب الأول

ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم

الذي يتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي تحدثنا عن مشاهد القيامة يرى الأهوال العظام والمصائب الكبار التي تنزل بالكفرة المجرمين في ذلك اليوم العظيم.

وسنعرض في هذا المبحث بعض المشاهد التي يصفها القرآن الكريم.

1-

قال تعالى مبيناً حال الكفار عند خروجهم من القبور: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)[المعارج: 43-44] .

ص: 119

والأجداث هي القبور، والنص يصور سرعة خروجهم من القبور في ذلك اليوم منطلقين إلى مصدر الصوت كأنهم يسرعون إلى الأنصاب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنهم اليوم لا ينطلقون فرحين أشرين بطرين كما كان حالهم عندما كانوا يقصدون الأنصاب، بل هم أذلاء، أبصارهم خاشعة، والصغار يعلوهم، على النعت الذي كان يعدهم الله به في الدنيا.

2-

وقال تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)[القمر: 6- 8] .

وهذه الآية تنص على ما نصت عليه الآيات السابقة من خروجهم خاشعي الأبصار أذلاء، مسرعين إلى مصدر الصوت الذي يناديهم ويدعوهم، وتزيدنا بياناً بإعطائنا صورة حية لمشهد البعث والنشور، فحالهم في ذلك اليوم في حركتهم وانطلاقتهم وهم يخرجون مسرعين كحال الجراد المنتشر، ويفيدنا النص أيضاً اعتراف الكفار في ذلك اليوم بصعوبة موقفهم (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر: 8] .

3-

ويفيدنا نص ثالث أن الكفار ينادون بالويل والثبور عندما ينفخ في الصور متسائلين عمن أقامهم من رقدتهم.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا)[يس: 51-52] .

ص: 120

وقد كان أبو محكم الجسري يجتمع إليه إخوانه، وكان حكيماً، فإذا تلى الآية السابقة بكى، ثم قال:" إن القيامة ذهبت فظاعتها بأوهام العقول، أما والله لئن كان القوم في رقدة مثل ظاهر قولهم، لما دعوا بالويل عند أول وهلة من بعثهم، ولم يوقفوا بعد موقف عرض ولا مسألة إلا وقد عاينوا خطراً عظيماً، وحقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها، ولكن كانوا في طول الإقامة في البرزخ يألمون ويعذبون في قبورهم، وما دعوا بالويل عند انقطاع ذلك عنهم، إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه، ولولا أن الأمر على ذلك ما استصغر القوم ما كانوا منه، فسموه رقاداً، وإن في القرآن لدليلاً على ذلك: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) [النازعات: 34] ، ثم يبكي حتى يبل لحيته "(1) .

4-

ويضيف نص آخر ملامح جديدة إلى صورتهم حال بعثهم، فأبصارهم لشدة الهول شاخصة جاحظة، وأفئدتهم خالية إلا من الهول الذي يحيط بهم، قال تعالى:(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)[إبراهيم: 42-43] .

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله وأجزل له المثوبة - في تفسير هذه الآيات: "والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون، ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون، ويسمع بوعيد الله، ثم لا يراه واقعاً بهم في الحياة الدنيا، فهذه الصيغة تكشف عن الأجل

(1) النهاية لابن كثير: (1/274) .

ص: 121

المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة، التي لا إمهال بعدها، ولا فكاك منها، أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع، فتظل مبهوتة مذهولة، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك.

ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول..، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء، ولا يلتفتون إلى شيء، رافعين رؤوسهم، لا عن إرادة، ولكنها مشدودة، لا يملكون لها حراكاً. يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب، فلا يطرف ولا يرتد إليهم، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية، لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه، أو يتذكرونه، فهي هواء خاوية. هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه، حيث يقفون في هذا الموقف، ويعانون هذا الرعب، الذي يرتسم من خلال هذه المقاطع الأربعة، مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب:(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)[إبراهيم: 42-43] .

فالسرعة المهرولة المدفوعة، في الهيئة الشاخصة المكروهة المشدودة، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي من الإدراك.. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار " (1) .

5-

ويصور القرآن الفزع الذي يسيطر على نفوس الكفار في يوم الموقف العظيم فيقول: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر: 18] .

(1) في ضلال القرآن: (4/2111) .

ص: 122

" والآزفة

القريبة العاجلة

هي القيامة، واللفظ يصورها كأنها زاحفة والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر، وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم، والكظم يكربهم، ويثقل على صدورهم، وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم، ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب " (1) .

6-

وما كان هؤلاء في حكم الله مجرمين متمردين على خالقهم وإلههم، مستكبرين عن عبادته وطاعته - فإنه يؤتى بهم إلى ربهم وخالقهم مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران تغشى وجوههم النار، ويا لفظاعة حالهم، وعظم ما يلقون (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ) [إبراهيم: 48-50] .

يقول الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآيات: " وتعاين الذين كفروا بالله، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ، يعني يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، (مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) [إبراهيم: 49] ، يقول: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد، وهي الوثاق من غل وسلسلة، واحدها صفد "(2) .

والسرابيل: هي القمص التي يلبسونها، والقطران: المادة التي تطلى بها الإبل إذا أصابها الجرب، وقيل: القطران النحاس.

7-

وتدنو الشمس من رؤوس العباد في ذلك اليوم حتى لا يكون بينها وبينهم إلا

(1) في ضلال القرآن: (6/3074) .

(2)

تفسير ابن جرير الطبري: (13/254) .

ص: 123

مقدار ميل واحد، ولوا أنهم مخلوقون خلقاً غير قابل للفناء لانصهروا وذابوا وتبخروا، ولكنهم بعد الموت لا يموتون.

ويذهب عرقهم في الأرض حتى يرويها، ثم يرتفع فوق الأرض، ويأخذهم على قدر أعمالهم. ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل ".

قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين.

قال: " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ".

قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه (1) .

وفي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم يقوم الناس لرب العالمين)[المطففين: 6]، قال:" يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه "(2) .

وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض

(1) صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب في صفة القيامة (4/2196)، ورقمه:(2864) .

(2)

رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول الله تعالى:(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون)[المطففين: 4] ، فتح الباري، (11/392) . ورواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في صفة يوم القيامة، (4/2196)، ورقمه:2862.

ص: 124

سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم " (1) .

8-

وعندما يرى الكفار العذاب والهوان الذي يصيبهم ويصيب أمثالهم من الكفرة المشركين يأخذهم الحسرة والندم، ولكثرة حسرة العذاب سمى الله ذلك اليوم بيوم الحسرة (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون) [مريم: 39] .

ولشدة تحسر الكفار وندمه على عدم اتباعه للرسول الذي بعثه إليه، واتباعه لأعداء الرسل، فإنه يعض على يديه (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27-29] .

9-

وفي ذلك اليوم يوقن الكفار أن ذنبهم غير مغفور، وعذرهم غير مقبول، فييأسوا من رحمة الله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم: 12] .

10-

ويتمنى الكفار في ذلك اليوم أن يهلكهم الله، ويجعلهم تراباً (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ) [النساء: 42] ، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ: 40] ، فما بالك بأقوام كانت مناياهم هي غاية المنى!! .

(1) المصادر السابقة، والسياق للبخاري.

ص: 125

المطلب الثاني

إحباط أعمالهم

أعمال الكفار قسمان: قسم هو طغيان وبغي وإفساد في الأرض ونحو ذلك، فهذه أعمال باطلة فاسدة لا يرجو أصحابها من ورائها خيراً، ولا يتوقعون عليها ثواباً.

وقد شبه القرآن هذه الأعمال بالظلمات التي يركب بعضها بعضاً: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)[النور: 40] .

والقسم الثاني: أعمال يظنون أنها تغني عنهم من الله شيئاً، كالصدقة والعتاق وصلة الأرحام والإنفاق في سبل الخير، وقد ضرب الله في كتابه لهذا النوع من الأعمال أمثلة.

فشبهها في بعض المواضع بالسراب الذي يظنه رائيه ماء، ولكنه عندما يأتيه - وهو يؤمل أن يصل إليه فيروي غلته، ويذهب ظمأه - لا يجده شيئاً، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور: 39] .

وشبهها في موضع آخر بالرياح الشديدة الباردة تهب على الزروع والثمار فتدمرها (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران: 117] .

ص: 126

والصر: البرد الشديد، وهذه الرياح الباردة هي الكفر والشرك التي تحرق أعمالهم الصالحة.

وشبهها في موضع ثالث بالرماد الذي جاءته ريح عاصف فذرته في كل مكان، فكيف يستطيع صاحبه جمعه بعد تفرقه!! (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَاّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) [إبراهيم: 18] .

ولذلك فإن الله يجعل أعمال الكفار هباء منثوراً (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان: 23] .

وهذا الفريق الذي يظن أنه على خير يفاجأ يوم القيامة بأن عمله باطل ضائع، ومن هؤلاء عباد اليهود والنصارى بعد البعثة النبوية، فإن فريقاً منهم يجهدون أنفسهم بالعبادة، وفعل الخيرات، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله تبارك وتعالى، وكذلك الذين انتسبوا إلى الإسلام، ولكنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وعبدوا غير الله، كل هؤلاء لا تنفعهم أعمالهم، ولا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) [الكهف: 103-106] .

وقد سأل مصعب بن سعد أباه بن أبي وقاص عن الأخسرين أعمالاً، فقال: " هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى

ص: 127

فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب " (1) .

وإنما كان اليهود والنصارى من الأخسرين أعمالاً، لأن كثيراً منهم يظنون أنفسهم على الحق، ويجتهدون في العبادة، وحقيقة الأمر أنهم خاسرون، لأنهم يكفرون برسول الله الخاتم، وكتابه المنزل، مع كفرهم بكثير مما أنزل إليهم من ربهم، وإيمانهم بالمحرف من دينهم.

فهذه الأعمال التي يظن الكفرة أنها نافعتهم في يوم الدين لا وزن لها ولا قيمة لها في ذلك اليوم لأنها قامت على غير أساس (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85] . والأساس هو الإسلام، فما لم يكن المرء مسلماً موحداً فعمله مردود، وسعيه موزور غير مشكور، روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " (2) .

المطلب الثالث

تخاصم أهل النار

عندما يعلن الكفرة أعداء الله ما أعد لهم من العذاب، وما هم فيه من أهوال يمقتون أنفسهم كما يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا، بل تنقلب كل محبة لم تقم على أساس من الإيمان إلى عداء، قال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ

(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة رقم:(18) فتح الباري: (8/425) .

(2)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل الدنيا عذاباً، (1/196) ورقم الحديث:214.

ص: 128

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67] ، وفي ذلك اليوم يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً، ويحاج بعضهم بعضاً، العابدون المعبودين، والأتباع السادة المتبوعين، والضعفاء المتكبرين، والإنسان قرينه، بل يخاصم الكافر أعضاءه.

1-

أما مخاصمة العابدين المعبودين: ففي قوله تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ - فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ - قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ)[الشعراء: 91-99] إنهم يخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها، ويسوون بينها وبين الخالق، وقد خاب وخسر من رفع المخلوق إلى مرتبة الخالق، وكل من عبد من دون الله آلهة، فقد سوى بين الخالق والمخلوق، وهذا هو الظلم العظيم، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه:(يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13] .

أما الصالحون الأخيار الذين عبدوا وهم لا يعلمون، أو عبدوا بغير رضاهم كالملائكة وصالحي البشر، فإنهم يتبرؤون من عابديهم، ويكذبون زعم العابدين وافتراءهم، فإن الملائكة ما طلبت هذه العبادة، ولا رضيت بها، والذين طلبوها هم الجن، كي يضلوا البشر ويوبقوهم، فهؤلاء الضالون عبادون للجن لا للملائكة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [السبأ: 40-41] .

ص: 129

وعيسى ابن مريم يتبرأ في يوم الدين من الذين اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ

) [المائدة: 116-117] .

هذا موقف جميع المعبودات التي لم ترض باتخاذها آلهة، تتبرأ من عابديها، وتكذبهم في دعواهم، وتقرُّ بعبوديتها لله ربها، (وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ - وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [النحل: 86-87] .

وقال في موضع آخر: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ - فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ - هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)[يونس: 28-30] .

2-

وأما تخاصم الأتباع مع قادة الضلال من أصحاب الفكر، والنظريات الضالة، والمبادئ المناقضة للإسلام، فقد ذكرها الله في موضع آخر فقال: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ - وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ - وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم

ص: 130

مَّسْئُولُونَ - مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ - بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ - وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ - قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ - قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ - فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ - فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ- فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ - إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ - إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات: 19-35] .

وهذا المذكور في هذه الآيات هو تلاوم أهل النار في عرصات القيامة، فالأتباع يقولون لقادة الضلال: أنتم الذين كنتم تزينون لنا الباطل، وتغروننا بمخالفة الحق، كما قال تعالى:(وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)[البقرة: 257] ، ولكن القادة ورجال الفكر والزعماء يرفضون هذا، ويقولون لهم: أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم فقد اخترتم الكفر، ولم يكن لنا من سلطان عليكم، إن طغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية.

3-

أما مخاصمة الضعفاء للسادة من الملوك والأمراء وشيوخ العشائر الذين كانوا يتسلطون على العباد، ويشدُّ الضعفاء أزرهم، ويعينوهم على باطلهم بالنفس والمال فقد ذكرها الله تعالى في قوله:(وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ)[إبراهيم: 21] .

ولندع الداعية المفسر الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وأجزل له المثوبة يفسر لنا هذه الآيات الكريمة، ولنعش معه في الظلال.. (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا..) [إبراهيم: 21] الطغاة المكذبون، وأتباعهم من الضعفاء

ص: 131

المستذلين.. ومعهم الشيطان.. ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات.. برزوا (جميعاً) مكشوفين.. وهم مكشوفون لله دائماً، ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون لا يحجبهم حجاب، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق.. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار، وبدأ الحوار:(فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ) والضعفاء هم الضعفاء. هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة. ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله.

والضعف ليس عذراً، بل هو الجريمة فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارهاً. والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستبعد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال!

من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في

ص: 132

أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان!

إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان!

إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان!

إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء..، وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة!! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ)[إبراهيم: 21] .

وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟!

أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة، وتعريضهم إياهم للعذاب؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال!

ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:

(قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ)[إبراهيم: 21] . وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:

(لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) .

فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد

ص: 133

ونضلكم. ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حساباً لقدرة القاهر الجبار. وإنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله.. والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه (إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) [الأعراف: 28] .. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي، فيعلنوا لهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر. فقد حق العذاب، ولا راد له من صبر أو جزع، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى، وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله. لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:

(سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ)[إبراهيم: 21] .

لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار.. وهنا نرى على المسرح عجباً.. نرى الشيطان.. هاتف الغواية، وحادي الغواة.. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، أو مسوح الشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:

(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم: 22] .

ص: 134

الله! الله! أما إن الشيطان حقاً لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار..

إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة..، هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان:

(إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)[إبراهيم: 22] .

ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم، فاستجابوا لدعوته الباطلة، وتركوا دعوة الحق من الله:

(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي)[إبراهيم: 22] .

ثم يؤنبهم، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم، يؤنبهم على أن أطاعوه!

(فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم)[إبراهيم: 22] .

ثم يتخلى عنهم، وينفض يده منهم، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم، ووسوس لهم أن لا غالب لهم، فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:

(مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ)[إبراهيم: 22] .

وما بيننا من صلة ولا ولاء!

ص: 135

ثم يبرأ من إشراكهم به، ويكفر بهذا الإشراك:

(إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)[إبراهيم: 22] .

ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم: 22] .

فيا للشيطان، ويالهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه، ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوهم (1) .

وفي موضع آخر يذكر الله تخاصم الضعفاء والسادة المستكبرين فيقول: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)[المؤمن: 47-48] .

وهذه الآيات الكريمة تأتي بعد الإخبار بما كان من استعلاء فرعون من تذبيحه الأطفال، ومحاولته قتل موسى، ومحاورته ذلك المؤمن الذي واجه فرعون ودحض حجته وباطله، وكيف وقف الشعب موقف التابع الذي ينفذ رغبات الطاغية، فيقوم أفراده بالتذبيح والإيذاء والمطاردة، هؤلاء الذين كانوا في الدنيا أعواناً للظلمة المجرمين يعلمون في يوم القيامة فداحة الجريمة التي وقعوا فيها، ويقولون للسادة أمثال فرعون:(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ)[المؤمن: 47] ، ولكن السادة لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولا يستطيعون نصر

(1) في ضلال القرآن: 4/2095.

ص: 136

أنفسهم فيقولون: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)[المؤمن: 48] .

وهذا الموقف يدلنا على الجواب الذي يمكننا أن نواجه به المقولة الباطلة التي يرددها بعض الظلمة حيث يقولون لأتباعهم: اتبعوني، وأنا أتحمل وزركم إن كان عليكم وزر، فإن تحملهم مثل أوزار الذين يضلونهم، لا يمنع العذاب عن الذين اتبعوهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت: 12-13] .

وقال في موضع آخر محدثاً عن مخاصمة الضعفاء للمستكبرين: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ - وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[سبأ: 31-33] .

فالأتباع والضعفاء يتهمون سادتهم وزعمائهم قائلين لهم: أنتم الذين حلتم بيننا وبين الإيمان، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل إلينا من ربنا، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة، ويقولون لهم: أنتم المجرمون، كل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا عليكم من سلطان، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة: بل مكركم بنا في الليل والنهار أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب، فالمؤامرات والمؤتمرات، ووسائل الإعلان في مختلف العصور التي تصور

ص: 137

الحق باطلاً، والباطل حقاً، وما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم باطلة، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله، ونشرك به والحق أن الجميع خاطئون، وهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم.

ويصف الحق هذا التخاصم بين أهل النار عند دخولهم النار فيقول: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ - جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ - هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ - وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ - هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ - قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ - وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ - أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ - إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)[ص: 55-64] .

فهؤلاء الذين كان بعضهم يرحب ببعض في الحياة الدنيا، ويوقِّر بعضهم بعضاً، يتحول حالهم في ذلك اليوم فيقول بعضهم لبعض:(لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ)[ص: 59-60] ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد من كانوا أحبابه في الدنيا من العذاب والآلام، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك في ذلك، كذلك يقول ربنا تبارك وتعالى.

4-

ويقع الخصام في ذلك اليوم بين الكافر وقرينه الشيطان، قال تعالى: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ - أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ - مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ - الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ - قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ - قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ

ص: 138

وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ - مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [ق: 23-29] .

5-

ويبلغ الأمر أشده والمخاصمة ذروتها عندما يخاصم المرء أعضاءه: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ - حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[فصلت: 19-21] .

وهذا يكون من الكفار عندما يعاينون العذاب الشديد الذي أعده الله لهم، فيلجؤون إلى التكذيب والإنكار، ويزعمون أنهم كانوا صالحين، ويكذبون بشهادة الملائكة والمرسلين والصالحين الذين يشهدون عليهم، فعند ذلك يختم الله على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك يقولون لأعضائهم:" بعداً لكنَّ وسحقاً، عنكن كنت أجادل "(1) .

أخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يلقى العبد ربه، فيقول الله: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فقول: لا، فيقال: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فيقول له مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه انطقي، فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان،

(1) هذا جزء من حديث رواه مسلم وغيره، انظر تفسير ابن كثير:(6/168) .

ص: 139

وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه " (1) .

وإن هذا الحوار الذي يجري بين العبد وجوارحه موضع عجب واستغراب، وقد أضحك هذا الموقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي يرويه مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك.

فقال: " هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم.

قال: من مخاطبة العبد ربه. يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟

قال: يقول: بلى.

قال: فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني.

قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله.

قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام.

قال: فيقول: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل " (2) .

6-

ويخاصم البدن في يوم القيامة الروح:

قال ابن كثير: " وقد روى ابن منده في كتاب (الروح) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت. ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سولت.

فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما:

إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير دخلا بستاناً. فقال المقعد للضرير: إني أرى ها هنا ثماراً، ولكن لا أصل إليها.

(1) رواه مسلم في صحيحه: (4/2280) ورقمه: 2969.

(2)

رواه مسلم في صحيحه: (4/2280) ورقمه: 2969.

ص: 140

فقال له الضرير: اركبني فتناولها. فركبه فتناولها. فأيهما المعتدي؟

فيقولان: كلاهما.

فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما. يعني أن الجسد للروح كالمطية، وهو راكبه " (1) .

7-

وفي ذلك الموقف يمقتون أنفسهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)[المؤمن: 10] ، كما يمقتون كل الذين كانوا لهم أنصاراً وخلاناً في الدنيا، ويدعون عليهم، ويطلبون لهم المزيد من العذاب (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب: 66-68] ، ولشدة حنقهم على من أضلهم يسألون الله أن يريهم الذين أضلوهم ليدوسوهم بأقدامهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت: 29] ، وعندما يدخلون النار ترتفع أصواتهم بلعن بعضهم بعضاً، ثم يتمنى بعضهم لبعض مزيداً من العذاب (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ) [الأعراف: 38] .

(1) تفسير ابن كثير: (6/92) .

ص: 141

حال عصاة المؤمنين (الجزء الأول)

بعض المؤمنين قد يكون قارف في الدنيا ذنوباً توقعه في أهوال ومشقات وصعاب، وسنعرض في هذا المبحث لذكر بعض العصاة وما يصيبهم في ذلك اليوم من البلاء.

المطلب الأول

الذين لا يؤدون الزكاة

من حقوق الله الكبرى الزكاة، وهي حق المال، والذين لا يؤدون زكاة أموالهم يعذبون بهذه الأموال في الموقف العظيم، وقد أخبرت النصوص أن عذابهم بها على وجوه:

الأول: أن يمثل لصاحب المال ماله شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيطوق عنقه، ويأخذ بلهزمتي صاحبه، قائلاً له: أنا مالك، أنا كنزك، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه: يعني بشدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ

ص: 142

الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 180] " (1) .

والشجاع الأقرع: الحية الذكر المتعمط شعر رأسه لكثر سمه، والزبيبتان نقطتان سودوان فوق عيني الحية.

الثاني: أن يؤتى بالمال نفسه الذي منع زكاته، فإن كان من الذهب والفضة جعل صفائح من نار، ثم عذب به صاحبه، وإن كان المال حيواناً. إبلاً أو بقراً أو غنماً، أرسل على صاحبه فعذب به، قال تعالى:(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة: 34-35] .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت عليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار ".

قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال:" ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر (2) ، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها (3) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار ".

(1) البخاري. كتاب الزكاة. باب إثم مانع الزكاة. ورقمه: 1403. ورواه مسلم: 987 مطولاً.

(2)

بطح لها بقاع قرقر: بسط لها ومد لها بأرض مستوية.

(3)

قال النووي في ((شرح مسلم)) : قوله صلى الله عليه وسلم: " كلما مر عليه أولاها ردّ عليه أخراها " هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع. قال القاضي عياض: قالوا: هو تغيير وتصحيف، وصوابه ما جاء به في الحديث الآخر من رواية سهيل عن أبيه، وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر:" كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها " وبهذا ينتظم الكلام.

ص: 143

قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال:" ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي فيها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء (1) ، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها (2) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "(3) .

المطلب الثاني

المتكبرون

الكبر جريمة كبرى في حكم الله وشرعه، والله يبغض أصحابها أشد البغض، وعندما يبعث الله العباد يحشر المتكبرون في صورة مهينة ذليلة، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان "(4) .

والذر صغار النمل، وصغار النمل لا يعبأ به الناس، فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون.

وكما يبغض الله المتكبرين يبغض أسماءهم التي كانوا يطلقونها على أنفسهم استكباراً واستعلاءً، وتصبح هذه الأسماء التي كانوا يفرحون عند سماعها أنكر الأسماء وأخبثها، وأغيظها على الله.

(1) العقصاء: الملتوية القرون، والجلحاء: التي لا قرون لها. والعضباء: التي انكسر قرنها الداخل.

(2)

انظر التعليق (3) .

(3)

رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، (2/680) ورقمه: 987، والحديث في الصحاح والسنن عن أكثر من صحابي، راجع جامع الأصول: 4/554.

(4)

مشكاة المصابيح: (2/635) ورقمه: 5112، وإسناده حسن كما قال محقق المشكاة.

ص: 144

روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أخنع اسم عند الله يوم القيامة، رجل تسمى ملك الأملاك " وزاد مسلم في رواية " لا مالك إلا الله عز وجل ".

ورواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، وأغيظه عليه، رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله "(1) .

قال القاضي عياض: أخنع: معناه أشد الأسماء صغاراً، وقال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء، كان من تسمى به أشد ذلاً (2) .

المطلب الثالث

ذنوب لا يكلم الله أصحابها ولا يزكيهم

وردت نصوص كثيرة ترهب من ذنوب توعد الله من ارتكبها بأن لا يكلمه في يوم القيامة ولا يزكيه، وله عذاب أليم.

فمن هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، وهم الأحبار والرهبان والعلماء الذين يكتمون ما عندهم من العلم إرضاءً لحاكم، أو تحقيقاً لمصلحة، أو طلباً لعرض دنيوي، ككتمان الأحبار والرهبان ما يعرفونه من كتبهم من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم لنبوته، مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

وقد قال الله في هؤلاء: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/619)، ورقمه:914.

(2)

فتح الباري: (10/589) .

ص: 145

وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة: 174-175] .

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ)[البقرة: 174] . " وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، أي لا يثني عليهم، ولا يمدحهم، بل يعذبهم عذاباً أليماً "(1) .

وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي، ورواه الحاكم بنحوه. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي رواية لابن ماجة قال: " ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار "(2) .

ومن الذين يغضب الله عليهم يوم القيامة، فلا يكلمهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه، ويشترون بأيمانهم ثمناً قليلاً، فيحلفون الأيمان الكاذبة تحقيقاً لكسب دنيوي تافه، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران: 77] .

وقد ساق ابن كثير أحاديث كثيرة تتعلق بهذه الآية:

منها الحديث الذي رواه مسلم وأهل السنن وأحمد عن أبي ذر قال: قال

(1) تفسير ابن كثير: (1/363) .

(2)

الترغيب والترهيب للحافظ المنذري: (1/97) .

ص: 146

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ".

قلت: يا رسول الله، من هم؟ خسروا وخابوا.

قال: وأعاده رسول الله ثلاث مرات.

قال: (المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان) .

ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان ".

ومنها ما رواه البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله لقد أعطي فيها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) [آل عمران: 77] .

ومنها ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل خلف على سلعته بعد العصر، يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يف له " وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) .

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعته: لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال

(1) انظر هذه الأحاديث في تفسير ابن كثير: (2/60) .

ص: 147

امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك " (1) .

ومن الذنوب التي توعد الله عليها بعدم تكليم صاحبها، وعدم نظره إليه، وترك تزكيته، غير ما تقدم، الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والعائل (أي الفقير) المستكبر، والعاق لوالديه، والمرأة المتشبهة بالرجال، والديوث، ومن أتى امرأته في دبرها، ومن جر ثوبه خيلاء.

ففي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر "(2) .

وفي مسند أحمد وسنن النسائي، ومستدرك الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث "(3) .

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " رواه في ((شرح السنة)) (4) .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه بطراً "(5) .

(1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى:(وجوهٌ يومئذٍ ناضرة)[القيامة: 22] فتح الباري: (13/419) .

(2)

صحيح الجامع الصغير: (3/73)، ورقمه:3064.

(3)

صحيح الجامع الصغير: (3/74)، ورقمه:3066.

(4)

مشكاة المصابيح: (2/184) ورقم الحديث: (3194)، وقال فيه محقق المشكاة: ورواه النسائي في (الكبرى) ، وهو حديث صحيح.

(5)

مشكاة المصابيح: (2/472) ورقمه: 4311.

ص: 148

وفيهما أيضاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة "(1) .

وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً تخيلاً لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (2) .

المطلب الرابع

الأثرياء المنعمون

الذين يركنون إلى الدنيا، ويطمئنون إليها، ويكثرون من التمتع بنعيمها، يضيق عليهم في يوم القيامة، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يكثر شبعه في الدنيا، يطول جوعه يوم القيامة، ففي سنن الترمذي وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه:" كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة "(3) . كما أخبر أن أصحاب المال الكثير والمتاع الدنيوي الواسع يكونون أقل الناس أجراً في يوم القيامة، ما لم يكونوا قد بذلوا أموالهم في سبل الخيرات، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال:" إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله تعالى خيراً، فنفح فيه بيمينه وشماله، وبين يديه ورائه، وعمل فيه خيراً "(4) .

(1) مشكاة المصابيح: (2/472) ورقمه: 4312.

(2)

وإسناده صحيح كما قال محقق مشكاة المصابيح: (2/474) ورقم الحديث: (4332) .

(3)

ساق الشيخ ناصر الدين الألباني طرق الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحديث:(343) .

(4)

صحيح الجامع الصغير: (2/165)، ورقمه:(1950) .

ص: 149

وقلة الحسنات تؤخرهم، وتجعل الآخرين يتقدمونهم، بعدما كانوا في الدنيا مقدميين، ففي سنن ابن ماجة عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا، وكسبه طيب "(1) .

وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذين أثقلوا أنفسهم بالنعيم الدنيوي، والغنى والثراء لا يستطيعون أن يتجاوزوا في يوم القيامة العقبات والأهوال، ففي شعب الإيمان عن أم الدرداء قالت: قلت لأبي الدرداء: مالك لا تطلب كما يطلب فلان؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون "(2) .

حال عصاة المؤمنين (الجزء الثاني)

المطلب الخامس

فضيحة الغادر

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان " رواه مسلم (3) .

والغادر: الذي يواعد على أمر، ولا يفي به، واللواء: الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له (4) . فالغادر ترفع له راية تسجل عليها غدرته، فيفضح بذلك يوم القيامة،

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/364)، ورقمه:1766.

(2)

مشكاة المصابيح: (2/607) ورقمه: (5204) . وعزاه في صحيح الجامع إلى الحاكم أيضاً انظر: صحيح الجامع (2/178) ورقمه: 1997.

(3)

صحيح مسلم، (3/1359) ورقمه: 1735، والحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.

(4)

شرح النووي على مسلم: (11/42) .

ص: 150

وتجعل هذه الراية عند مؤخرته، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة "(1) .

وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة كلما ارتفعت الراية التي يفضح بها في يوم الموقف العظيم، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة "(2) ، وأمير العامة هو الحاكم أو الخليفة، وكانت غدرته كذلك لأن ضرره يتعدى إلى خلق كثير، ولأن الحاكم أو الوالي يملك القوة والسلطان فلا حاجة به إلى الغدر.

وقد جعل الله العقاب بهذا اللون من العقوبة على طريقة ما يعهده البشر ويفهمونه ألا ترى قول شاعرهم:

أسمي ويحك هل سمعت بغدرة ××× رفع اللواء لنا بها في المجمع

فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل ومواسم الحج، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته (3) .

المطلب السادس

الغلول

الغلول هو الأخذ من الغنيمة على وجه الخفية، وهو ذنب يخفي تحته شيئاً من الطمع والأثرة، وقد توعد الله تبارك وتعالى الغال بفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وذلك لتحميله ما غله في ذلك اليوم (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ

(1) صحيح مسلم: (3/1361)، ورقم الحديث:1738.

(2)

المصدر السابق.

(3)

التذكرة للقرطبي: 297.

ص: 151

يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161] .

يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: " أي يأتي به حاملاً له على ظهره وعلى رقبته، معذباً بحمله وثقله، ومرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد "(1) .

ومن الغلول غلول الحكام والموظفين والعمال والولاة من الأموال العامة، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يحمل الغالون يوم القيامة ما غلوه في أكثر من حديث، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (2)، فيقول: يا رسول

(1) تفسير القرطبي: (4/256) .

(2)

الصامت: الذهب والفضة.

ص: 152

الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك " متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وهو أتم (1) .

وأخرج الطبراني في ((معجمه الكبير)) ، والبيهقي في ((السنن)) والحميدي في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل عبادة بن الصامت على الصدقة، ثم قال له:" اتق الله يا أبا الوليد أن تأتي يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك، له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثؤاج "(2) .

وقد ساق ابن كثير في تفسيره الأحاديث المرهبة من الغلول، ومنها أحاديث غلول العمال من الصدقات، وساق حديث أبي حميد الساعدي قال: " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال:" ما بال العامل نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته. إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر " رواه البخاري ومسلم (3) .

المطلب السابع

غاصب الأرض

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين "(4) .

(1) مشكاة المصابيح: (2/401) . ورقم الحديث: 3995.

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/537)، ورقمه:(758) . والحديث صحيح.

(3)

تفسير ابن كثير: (2/145) .

(4)

صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، فتح الباري:(5/103) .

ص: 153

المطلب الثامن

ذو الوجهين

شر الناس يوم القيامة المتلون الذي لا يثبت على حال واحدة وموقف واحد، فيأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تجدون شرَّ الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه "(1) .

ورد في بعض الأحاديث أن هذا الصنف من الناس يكون له لسان من نار يوم القيامة، فقد أخرج أبو داود واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد، والدارمي، وأبو يعلى وغيرهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له وجهان في الدنيا كان له لسان من نار يوم القيامة "(2) .

المطلب التاسع

الحاكم الذي يحتجب عن رعيته

روى أبو داود وابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح عن أبي مريم الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ولي من أمور المسلمين شيئاً، فاحتجب دون خلتهم، وحاجتهم، وفقرهم، وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة، دون خلته، وحاجته، وفاقته، وفقره "(3) .

(1) مشكاة المصابيح: (2/578)، ورقمه:4820.

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/584)، ورقمه:(892) .

(3)

صحيح الجامع الصغير: (5/368)، ورقم الحديث:6471.

ص: 154

المطلب العاشر

الذي يسأل وله ما يغنيه

يبعث الذي كان يسأل الناس وله ما يغنيه، وفي وجهه خموش أو كدوش، فقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وغيرهم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه.

قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟

قال: خمسون درهماً، أو قيمتها من الذهب " (1) .

وفي مسند الإمام أحمد عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مسألة الغنى شين في وجهه يوم القيامة "(2) .

المطلب الحادي عشر

البصاق تجاه القبلة

جهة القبلة محترمة مقدسة، ولذا فقد جاءت الأحاديث ناهية عن استقبال القبلة واستدبارها حال البول والغائط.

ومما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم البصاق تجاه القبلة، وأخبرنا أن الذي يتنخم تجاه القبلة يأتي يوم القيامة ونخامته في وجهه، فقد روى البزار في مسنده، وابن حبان، وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال: " تبعث النخامة في القبلة يوم

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: ورقم الحديث: (499) .

(2)

صحيح الجامع الصغير: (5/208) ورقمه: 5747، وقال المحقق فيه: صحيح.

ص: 155

القيامة، وهي في وجه صاحبها " (1) .

وروى أبو داود في ((سننه)) وابن حبان في ((صحيحه)) عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه "، وإسناده صحيح (2) .

المطلب الثاني عشر

من كذب في حلمه

يعاقب الذي يكذب في حلمه يوم القيامة بأن يكلف بأن يعقد بين شعيرتين، والذي يستمع إلى قوم وهم كارهون يعاقب بأن يصب الآنك في أذنيه يوم القيامة، والآنك الرصاص.

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تحلم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صب في أذنه الآنك يوم القيامة "(3) .

(1) صحيح الجامع الصغير: (3/33) ورقمه: 2907، وقال الشيخ ناصر فيه: صحيح، وانظر كلام الشيخ ناصر الدين الألباني على الحديث في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) حديث رقم:223.

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحديث:222.

(3)

صحيح البخاري، كتاب تعبير الرؤيا، باب من كذب في حلمه، فتح الباري:(12/427) .

ص: 156

حال الأتقياء (الجزء الأول)

المطلب الأول

يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون

صنف من عباد الله لا يفزعون عندما يفزع الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، أولئك هم أولياء الرحمن الذين آمنوا بالله، وعملوا بطاعة الله استعداداً لذلك اليوم، فيؤمنهم الله في ذلك اليوم، وعندما يبعثون من القبور تستقبلهم ملائكة الرحمن تهدئ من روعهم، وتطمئن قلوبهم (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101-103] ، والفزع الأكبر، هو ما يصيب العباد عندما يبعثون من القبور، (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42] .

ففي ذلك اليوم ينادي منادي الرحمن أولياء الرحمن مطمئناً لهم (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)[الزخرف: 68-69] وقال في موضع آخر: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ -

ص: 157

الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس: 62-64] .

والسر في هذا الأمن الذي يشمل الله به عباده الأتقياء، أن قلوبهم كانت في الدنيا غامرة بمخافة الله، فأقاموا ليلهم، وأظمؤوا نهارهم، واستعدوا ليوم الوقوف بين يدي الله، فقد حكى عنهم ربهم أنهم كانوا يقولوه:(إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[الإنسان: 10] ، ومن كان حاله كذلك فإن الله يقيه من شر ذلك اليوم ويؤمنه، (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا - وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 11-12] .

وفي الحديث الذي يرويه أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي "(1) .

وكلما كان العبد أكثر إخلاصاً لربه تبارك وتعالى كان أكثر أمناً في يوم القيامة، فالموحدون الذين لم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك، لهم الأمن التام يوم القيامة، يدلك على هذا جواب إبراهيم لقومه عندما خوفوه بأصنامهم، فأجابهم قائلاً:(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام: 81-82] .

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/377)، ورقمه: 742، وإسناده حسن.

ص: 158

المطلب الثاني

الذين يظلهم الله في ظله

عندما يكون الناس في الموقف العظيم تحت وهج الشمس القاسي، يذوقون من البلاء شيئاً تنوء بحمله الجبال الشم الراسيات - يكون فريق من الأخيار هانئين في ظل عرش الرحمن، لا يعانون الكربات التي يقاسي منها الآخرون.

وهؤلاء هم أصحاب الهمم العالية، والعزائم الصادقة، الذين تمثلت فيهم عقيدة الإسلام، وقيمه الفاضلة ، أو قاموا بأعمال جليلة، لها في مقياس الإسلام وزن كبير.

فمن هؤلاء: الإمام العادل، الذي يملك القوة والسلطان، ولكنه لم يطغ، وأقام العدل بين العباد وفق سلطان الشرع الإلهي.

ومنهم الشاب الذي نشأ في عبادة ربه، وألجم نفسه بلجام التقوى، وردع النفس والهوى، فعاش عمره طاهراً نقياً.

ومنهم الذين يعمرون مساجد الله، يجدون في رحابها الأنس بالله ومناجاته، فلا يكادون يفارقونها حتى يحنوا إلى رحابها.

ومن هؤلاء المتحابون في الله تبارك وتعالى، تجمعهم رابطة الأخوة فيه، ويجتمعون على البر والتقوى والصلاح، ويتفرقون على عمل صالح.

ومنهم الذين تعرض لهم فتنة النساء، فيحول خوف الله بينهم وبين الوقوع في الفاحشة.

ومنهم المنفق الذي يخلص في دينه لله، فيخفي الصدقة حتى عن نفسه.

ص: 159

ومنهم الذي تملأ مخافة الله قلبه، فتفيض عيناه من أجل ذلك وهو وحيد ليس معه أحد.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب ينشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه "(1) .

وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على إظلال الله للمتحابين فيه في ظل العرش في ذلك اليوم منها حديث أبي هريرة عند مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي "(2) .

وفي معجم الطبراني الكبير ومسند أحمد، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المتحابين في الله في ظل العرش "(3) . وفي كتاب ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن عبادة ابن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: " حقت محبتي على المتحابين، أظلهم في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظلي "(4) .

(1) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد، فتح الباري:(2/143) . ورواه مسلم: (2/715)، ورقمه:(1031) والسياق للبخاري.

(2)

رواه مسلم: (4/1988)، ورقمه:2566.

(3)

صحيح الجامع الصغير: (2/161) ورقمه: 1933.

(4)

صحيح الجامع الصغير: (4/116) .

ص: 160

والإضلال في ظل العرش لي مقصوراً على السبعة المذكورين في الحديث، فقد جاءت النصوص كثيرة تدل على أن الله يظل غيرهم، وقد جمع ابن حجر العسقلاني الخصال التي يظل الله أصحابها في كتاب سماه:((معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال)) (1) .

ومن هذه الخصال إنظار المعسر أو الوضع عنه، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي اليسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله "(2) .

وفي مسند أحمد وسنن الدارمي بإسناد صحيح عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة "(3) .

المطلب الثالث

الذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدون خلتهم

من أعظم ما يفرج كربات العبد في يوم القيامة سعي العبد في الدنيا في فك كربات المكروبين، ومساعدة المحتاجين، والتيسير على المعسرين، وإقالة عثرات الزالين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومنم يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "(4) .

(1) فتح الباري: (2/144) .

(2)

صحيح مسلم: (4/2302)، ورقمه:3006.

(3)

صحيح الجامع الصغير: (4/364)، ورقمه:1452.

(4)

مشكاة المصابيح: (1/71) ورقم الحديث: 204.

ص: 161

وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة "(1) .

وروى الدينوري في ((المجالسة)) والبيهقي في ((الشعب)) والضياء في ((المختارة)) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة "(2) .

المطلب الرابع

الذين ييسرون على المعسرين

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً تجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه "(3) .

وروى النسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا.

فلما هلك قال: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله أن يتجاوز عنا. قال الله: قد تجاوزت عنك " (4) .

(1) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، فتح الباري:(5/97) .

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/218)، ورقم الحديث:1217.

(3)

مشكاة المصابيح: (2/108)، ورقم الحديث:(2899) .

(4)

صحيح الجامع الصغير: (2/204)، ورقم الحديث:2073.

ص: 162

وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن حذيفة، وعقبة بن عامر، وأبي مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أتى الله عز وجل بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ فقال: ما عملت من شيء يا رب، إلا إنك آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي أن أيسر على الموسر وأنظر المعسر. قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي "(1) .

المطلب الخامس

الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا

العادلون في يوم القيامة في مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا "(2) .

حال الأتقياء (الجزء الثاني)

المطلب السادس

الشهداء والمرابطون

إذا فزع الناس في يوم القيامة فإن الشهيد لا يفزع، ففي سنن الترمذي وابن ماجة عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير

(1) صحيح الجامع الصغير: (1/92)، ورقم الحديث:124.

(2)

صحيح مسلم: (3/1458)، ورقم الحديث:1827.

ص: 163

من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه " (1) .

والشاهد في الحديث أن الشهيد يأمن من الفزع الأكبر، وهو فزع يوم القيامة. ومثل الشهيد المرابط في سبيل الله، فإنه إذا مات وهو مرابط أمَّنه الله من الفزع الأكبر، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" رباط يوم خير من صيام دهر، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغدي عليه برزقه، وريح عليه من الجنة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله "(2) .

ومن إكرام الله للشهيد يوم القيامة أن الله يبعثه وجرحه يتفجر دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده، لا يُكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك "(3) .

وروى الترمذي والنسائي وأبو داود بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قاتل في سبيل الله فواق (4) ناقة، فقد وجبت له الجنة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله، أو نكب نكبة (5) ، فإنها تجيء يوم القيامة

(1) مشكاة المصابيح: (2/358)، ورقم الحديث: 3834، وقال فيه محقق المشكاة: إسناده صحيح.

(2)

صحيح الجامع الصغير: (3/171)، ورقم الحديث:3473.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب من يجرح في سبيل الله، فتح الباري:(6/20) .

(4)

الفواق: ما بين الحلبتين.

(5)

أي أصيب بنكبة، أي حادثة.

ص: 164

كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك " (1) .

قال ابن حجر: " قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى (2) .

المطلب السابع

الكاظمون الغيظ

كثيرة هي المواقف العصيبة التي يصيب العبد فيها الأذى، وقد يكون مصدره قريب أو صديق أو محسن إليه، ولا شك أن الأذى مسموع أو المرئي أو المحسوس الذي يصيبنا يسبب لنا ألماً في أعماقنا، فتجيش نفوسنا بأنواع الانفعالات التي تدعونا إلى المواجهة الحادة، وضبط النفس في مثل هذه الأحوال لا يملكه إلا أفذاذ الرجال.

إن الإسلام يعدُّ كظم الغيظ خلقاً إسلامياً راقياً يستحق صاحبه التكريم، فالجنة التي عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وكظم الغيظ في مقدمة صفات المتقين (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133-134] .

وفي يوم القيامة يدعو رب العزة من كظم غيظه على رؤوس الخلائق، ثم يخيره في أي الحور العين شاء، روى الترمذي وأبو داود عن سهل بن معاذ بن جبل

(1) مشكاة المصابيح: (2/355)، ورقم الحديث:3825.

(2)

فتح الباري: (6/20) .

ص: 165

عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كظم غيظاً، وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور العين شاء "(1) .

المطلب الثامن

عتق الرقاب المسلمة

من الأعمال الكريمة التي يتمكن صاحبها من اقتحام العقبات الكأداء في يوم القيامة، عتق الرقاب قال تعالى:(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ)[البلد: 11-13] .

وقد ساق ابن كثير في تفسير هذه السورة النصوص الحديثية التي توضح هذه الآيات قال الإمام أحمد: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن أبي هند، عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، عن سعيد بن مرجانة، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب - أي عضو - منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج ".

فقال علي بن الحسين: أأنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفاً، فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، وقد رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طرق عن سعيد بن مرجانة به وعند مسلم أن هذا الغلام الذي

(1) مشكاة المصابيح: (2/631) ، ورقمه 5088، وحسن الشيخ ناصر إسناده في صحيح الجامع (5/353) . ورقم الحديث فيه: 6398، وعزاه إلى أحمد والطبراني، وانظر رقم: 6394 في صحيح الجامع.

ص: 166

أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.

وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي نجيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما مسلم أعتق رجلاً مسلماً، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظماً من عظام محرره من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظماً من النار "، رواه ابن جرير، هكذا، وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية، حدثني بجير ابن سعد عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من بنى مسجداً ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتاً في الجنة. ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ".

وقال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا حريز عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عبسة: حدثنا حديثاً ليس فيه تزيد ولا نسيان. قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل " وروى أبو داود والنسائي بعضه.

وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي قال: قلت له حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم قال: سمعته يقول: " من ولد له ثلاث أولاد

ص: 167

في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له كعدل رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها " وهذه أسانيد جيدة قوية، ولله الحمد.

وقال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي، حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش الديلمي، قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان، فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته، فيزيد وينقص، قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل، فقال:" اعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضواً في النار ". وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش الديلمي، عن واثلة به.

وقال أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن قيس الجذامي، عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار ".

وحدثنا عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن قيساً الجذامي حدث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار " تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحي بن آدم وأبو أحمد، قالا: حدثنا عيسى ابن عبد الرحمن البجلي، من بني بجيلة، من بني سليم، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول

ص: 168

الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملاً يدخلني الجنة فقال:" لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة ". فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال:" لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من الخير "(1) .

المطلب التاسع

فضل المؤذنين

من الذين يظهر فضلهم يوم القيامة المؤذنون، فهم أطول الناس أعناقاً في ذلك اليوم، روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة "(2) . وطول العنق جمال، ثم هو مناسب لما قاموا به من عمل حيث كانوا يبلغون الناس بأصواتهم كلمات الأذان التي تعلن التوحيد وتدعو للصلاة.

والمؤذن يشهد له في ذلك اليوم كل شيء سمع صوته عندما كان يرفع صوته بالأذان في الدنيا، روى البخاري في صحيحه أن أبا سعيد الخدري قال لعبد الرحمن بن صعصعة:" إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذَّنت في الصلاة، فارفع بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة "(3) .

(1) تفسير ابن كثير: (7/295) .

(2)

صحيح مسلم: (4/290)، ورقم الحديث:387.

(3)

صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" الماهر بالقرآن.. ". فتح الباري: (13/518) .

ص: 169

المطب العاشر

الذين يشيبون في الإسلام

يكون الشيب نوراً لصاحبه إذا كان مسلماً في يوم القيامة، كما صحت بذلك الأحاديث، ففي سنن الترمذي والنسائي عن كعب بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة "(1) .

وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن حبان عن عمرو بن عبسة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة "(2) .

وروى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة "(3) . وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " لا تنتفوا الشيب، فإنه نور يوم القيامة، من شاب شيبة في الإسلام كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة " رواه ابن حبان بإسناد حسن (4) .

وروى ابن عدي والبيهقي في الشعب عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشيب نور في وجه المسلم، فمن شاء فلينتف نوره "(5) .

(1) صحيح الجامع الصغير: (5/304) ورقم الحديث: 6183، وعلم عليه الشيخ ناصر بالصحة.

(2)

صحيح الجامع الصغير: (5/304) ورقم الحديث: 6184، والحديث صحيح كما قال محقق الكتاب.

(3)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/247)، ورقم الحديث:1243.

(4)

المصدر السابق.

(5)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/247)، ورقم الحديث:1244.

ص: 170

المطلب الحادي عشر

فضل الوضوء

الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأقاموا الصلاة، وأتوا بالوضوء كما أمرهم نبيهم يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أمتي يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء "(1) .

قال ابن حجر: " (غراً) جمع أغر، أي ذو غُرّة، وأصل الغرة لمعة ببيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغُرّاً منصوب على المفعولية ليُدعون أو على الحال. أي أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة.

وقوله: (محجلين) من التحجيل، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحِجل بكسر الحاء وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضاً النور " (2) .

وهذه الغرة وذلك التحجيل تكون للمؤمن حلية في يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء "(3) .

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/247)، ورقم الحديث:1244.

(2)

فتح الباري: (1/236) .

(3)

مشكاة المصابيح: (1/96) ورقم الحديث: 291.

ص: 171

وبهذه الحلية النورانية تتميز هذه الأمة في يوم القيامة، وبها يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من بين الخلائق، لا فرق بين أصحابه وغيرهم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مقبرة فقال:" السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وودت أنا قد رأينا إخواننا ".

قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟

قال: " أنتم أصحابي، إخواننا الذين لم يأتوا بعد ".

فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟

فقال: " أرأيت لو أن رجلاً له خير غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ ".

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: " فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم (1) على الحوض "(2) .

وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك ".

فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟

قال: " هم غرٌّ محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم "(3) .

(1) أي سابقهم.

(2)

مشكاة المصابيح: (1/98)، ورقم الحديث:298.

(3)

مشكاة المصابيح: (1/99)، ورقم الحديث:299.

ص: 172