الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر الحشر إلى دار القرار: الجنَّة أو النار
المبحث الأول
يطلب من كل أمة أن تتبع الإله الذي كانت تعبده
في ختام هذا اليوم يحشر العباد إما إلى الجنة وإما إلى النار، وهما المقرّ الأخير الذي يصير إليه العباد جميعاً، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من كل أمة في آخر ذلك اليوم أن تتبع الإله الذي كانت تعبده، فالذي كان يعبد الشمس يتبع الشمس، والذي كان يعبد القمر يتبع القمر، والذي كان يعبد الأصنام تصور لهم آلهتهم ثم تسير أمامهم ويتبعونها، والذين كانوا يعبدون فرعون يتبعونه، ثم إن هذه الآلهة الباطلة تتساقط في النار، ويتساقط عبادها وراءها في السعير، كما قال تعالى في فرعون:(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)[هود: 98] .
ولا يبقى بعد ذلك إلا المؤمنون وبقايا أهل الكتاب، وفي المؤمنين المنافقون الذين كانوا معهم في الدنيا، فيأتيهم ربهم، فيقول لهم: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيعرفونه بساقه عندما يكشفها لهم، وعند ذلك يخرون له سجوداً، إلا المنافقون فلا يستطيعون (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم: 42] ، ثم يتبع المؤمنون ربهم، وينصب الصراط ويعطى المؤمنون أنوارهم، ويسيرون على الصراط، ويطفأ نور المنافقين، ويقال لهم: ارجعوا
وراءكم فالتمسوا نوراً، ثم يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ويمر العباد على الصراط مسرعين بقدر إيمانهم وأعمالهم الصالحة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبَّر (1) أهل الكتاب. فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيز ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا، فاسقنا. فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار.
ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ما تبغون؟ فيقولون: عطشنا، يا ربنا فاسقنا، قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنهم سراب، يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة ن التي رأوه فيها، قال: فماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً (مرتين أو ثلاثاً) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم،
(1) غبرهم: بقاياهم.
وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا.
ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم.
قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم " (1) .
وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة في وصف المرور على الصراط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وترسل الأمانة والرحم، فتقومان على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كالبرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمرّ الريح، ثم كمرِّ الطير وشدِّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب، سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، قال: وعلى حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به. فمخدوش ناج، ومكدوس في النار "(2) .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود، فقال: " نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا (3) انظر إلى ذلك فوق
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، (1/167)، ورقمه:(183) .
(2)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة، (1/187)، ورقمه:(195) .
(3)
يقول ابن رجب في تعليقه على هذه اللفظة من الحديث: " أصل هذه اللفظة تصحيف من الراوي للفظ (كوم) ، فكتب عليه كذا وكذا لإشكال فهمه عليه، ثم كتب انظر إلى ذلك، يأمر الناظر فيه بالتروي والفكر في صحة لفظه، فأدخل ذلك كله في الرواية قديماً " التخويف من النار: ص 199، وقد ذكر أن الصواب كما جاء في المسند وكتاب السنة:" نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها.. ".
الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك.
قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم، منافق أو مؤمن نوراً، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء.. " (1) .
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في إجابته للصحابة عندما سألوه عن رؤيتهم الله: " هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم،
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة:(1/175)، ورقمه:(191) .
منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردلُ، ثم ينجوا.. " (1) .
وقد دلت هذه النصوص الصحيحة الصريحة الواضحة على عدة أمور مهمة، فقد ذكرت حشر الكفار إلى النار، ومسير المؤمنين إلى الجنة على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين، كما أشارت في جملتها إلى معنى الورود على النار الذي نص الله عليه في قوله:(وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)[مريم: 71] .
وسنتناول هذه المباحث بشيء من التفصيل فيما يأتي.
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، فتح الباري:(11/444) ورقمه: 806، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، (1/163) ورقم الحديث (182) ، واللفظ للبخاري.
حشر الكفار إلى النَّار
جاءت نصوص كثيرة تصور لنا كيف يكون حشر الكفار إلى النار هم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها.
1-
فمن ذلك أنهم يحشرون كقطعان الماشية جماعات جماعات، ينهرون نهراً غليظاً، ويصاح بهم من هنا وهناك، كما يفعل الراعي ببقره أو غنمه (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر: 71] ، (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور: 13] ، وقال:(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)[فصلت: 19] . ومعنى يوزعون أي يجمعون، تجمعهم الزبانية على آخرهم، كما يفعل البشر بالبهائم.
2-
وأفادت النصوص أنهم يحشرون إلى النار على وجوههم، لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم، قال تعالى:(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان: 34] .
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: " أليس الذي أمشاه على رجليه في
الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " قال قتادة: بلى وعزة ربنا (1) .
ومع حشرهم على هذه الصورة المنكرة على وجوههم فإنهم يحشرون عمياً لا يرون، وبكماً لا يتكلمون، وصماً لا يسمعون (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء: 97] .
3-
ويزيد بلاءهم أنهم يحشرون مع آلهتهم الباطلة وأعوانهم وأتباعهم (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[الصافات: 22-23] .
4-
وهم في هذا مغلوبون مقهورون أذلاء صاغرون (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران: 12] .
5-
وقبل أن يصلوا إلى النار تصك مسامعهم أصواتها التي تملأ قلوبهم رعباً وهلعاً (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)[الفرقان: 12] .
6-
وعندما يبلغون النار ويعاينون أهوالها يندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنعام: 27]، ولكنهم لا يجدون من النار مفراً:(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)[الكهف: 53] .
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الحشر، فتح الباري:(11/377)، ومسلم:(4/2161) ] ورقمه: (2806) . واللفظ لمسلم.
7-
وعند ذلك يؤمرون بالدخول في النار وغضب الجبار أذلاء خاسرين (فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[النحل: 29] ، ولا ينجو من النار من الجن والإنس إلا الأتقياء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا - ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا - وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 68-72] .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: " يقسم الله بنفسه وهو أعظم قسم وأجله أنهم سيحشرون بعد الموت، فهذا أمر مفروغ منه (فوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُم) [مريم: 68] ، ولن يكونوا وحدهم (لنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) [مريم: 68] فهم والشياطين سواء، والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود..
وهنا يرسم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة، (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) [مريم: 68] ، وهي صورة رهيبة، وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها، ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها، وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع..، وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتواً وتجبراً:(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)[مريم: 69] ، وفي اللفظ تشديد، ليرسم بظله وجرسه
صورة لهذا الانتزاع، تتبعها صورة القذف في النار، وهي الحركة التي يكملها الخيال.
وإن الله ليعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ أحد جزافاً من هذه الجموع التي لا تحصى، والتي أحصاها الله فرداً فرداً:(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا)[مريم: 70] ، فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين " (1) .
وقد غيرت هذه الآية: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)[مريم: 71] أحوال الصالحين، فأسهرت ليلهم، وعكرت عليهم صفو العيش، وحرمتهم الضحك، والتمتع بالشهوات، فقد ذكر ابن كثير أن أبا ميسرة كان إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا الله أنا واردوها، ولم نخبر أنا صادرون عنها.
وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله، وقال ابن عباس لرجل يحاوره: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ (2) .
(1) في ضلال القرآن: (4/2317) .
(2)
تفسير ابن كثير: (4/476) .
مرور المؤمنين على الصّراط وخلاص المؤمنين من المنافقين
عندما يذهب بالكفرة الملحدين، والمشركين الضالين إلى دار البوار: جهنم يصلونها، وبئس القرار، يبقى في عرصات القيامة أتباع الرسل الموحدون، وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر كما في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: " هم في الظلمة دون الجسر ".
يقول شارح الطحاوية (1) : " وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم ".
روى البيهقي بسنده عن مسروق، عن عبد الله، قال:" يجمع الله الناس يوم القيامة " إلى أن قال: " فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر
(1) شرح الطحاوية: ص 470.
كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد " (1) .
وقد حدثنا تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط، فقال:(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ - يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ - فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الحديد: 12-15] .
فالحق يخبر أن المؤمنين والمؤمنات الذين استناروا بهذا الدين العظيم في الدنيا، وعاشوا في ضوئه، يعطون في يوم القيامة نوراً يكشف لهم الطريق الموصلة إلى جنات النعيم، ويجنبهم العثرات والمزالق في طريق دحض مزلة، وهناك يبشرون بجنات النعيم، ويحرم المنافقون الذين كانوا يزعمون في الدنيا أنهم مع المؤمنين، وأنهم منهم، لكنهم في الحقيقة مفارقون لهم لا يهتدون
(1) قال الشيخ ناصر في تخريجه لأحاديث شرح الطحاوية: (470) : (صحيح، وأخرجه الحاكم، وأظن أن البيهقي من طريقه رواه، وقال الحاكم: (صحيح على شرح الشيخين) ووافقه الذهبي وبين الشيخ أن أحد رواته فيه ضعف، ثم هو مدلس، لكنه توبع، وصرح بالتحديث، فالحديث صحيح.
بهداهم، ولا يسلكون سبيلهم من النور، كما حرموا أنفسهم في الدنيا من نور القرآن العظيم، فيطلب المنافقون من أهل الإيمان أن ينتظروهم ليستضيئوا بنورهم، وهناك يخدعون، كما كانوا يخدعون المؤمنين في الدنيا، ويقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، وبذلك يعود المنافقون إلى الوراء، ويتقدم المؤمنون إلى الأمام، فإذا تمايز الفريقان، ضرب الله بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويكون مصير المؤمنين والمؤمنات الجنة، ومصير المنافقين والمنافقات النار.
وقد أخبر الحق أن دعاء المؤمنين عندما يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم هو (ربنا أتمم لنا نورنا)، قال تعالى:(يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم: 8] .
قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طُفئ " (1) .
(1) تفسير ابن كثير: 7/61.
الذين يمرُّون على الصّراط هم المؤمنون دون المشركين
دلت الأحاديث التي سقناها على أن الأمم الكافرة تتبع ما كانت تعبد من آلهة باطلة، فتسير تلك الآلهة بالعابدين، حتى تهوي بهم في النار، ثم يبقى بعد ذلك المؤمنون وفيهم المنافقون، وعصاة المؤمنين، وهؤلاء هم الذين ينصب لهم الصراط.
ولم أر في كتب أهل العلم من تنبه إلى ما قررناه من أن الصراط إنما يكون للمؤمنين دون غيرهم من الكفرة المشركين والملحدين غير ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى، فإنه قال: في كتابه التخويف من النار:
" واعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون، فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط "(1) .
وقد ساق بعض الأحاديث التي سقناها، ومنها حديث أبي سعيد الخدري الذي في الصحيحين، ثم قال: " فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط، إلا أن عباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا، فترد النار مع معبودها أولاً، وقد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى في شأن فرعون:
(1) التخويف من النار: ص 187.
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)[هود: 98]
…
وأما من عبد المسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إلى الأنبياء، ثم يردون النار بعد ذلك.
وقد ورد في حديث آخر أن من كان يعبد المسيح يمثل له شيطان المسيح فيتبعونه، وكذلك من كان يعبد العزير، وفي حديث الصور أنه يمثل لهم ملك على صورة المسيح، وملك على صورة العزير، ولا يبقى بعد ذلك إلا من كان يعبد الله وحده في الظاهر سواء كان صادقاً أو منافقاً من هذه الأمة وغيرها، ثم يتميز المنافقون عن المؤمنين بامتناعهم عن السجود، وكذلك يمتازون عنهم بالنور الذي يقسم للمؤمنين " (1) .
وهذا نظر سديد من قائله رحمه الله.
(1) التخويف من النار: ص 188.
معنى ورُود النّار
ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بورود النار المذكور في قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)[مريم: 71] هو دخول النار، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه (1)، وكان يستدل على ذلك بقول الله تعالى في فرعون:(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ)[هود: 98]، وبقوله:(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)[مريم: 86]، وقوله:(لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا)[الأنبياء: 99]، وروى مسلم الأعور عن مجاهد:(وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)[مريم: 71] قال: داخلها (2) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالورود هنا المرور على الصراط، يقول شارح الطحاوية: " واختلف المفسرون في المراد بالورود في قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)[مريم: 71] ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[مريم: 72] .
وفي ((الصحيح)) أنه صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة "، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول:(وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)[مريم: 71] . فقال: " ألم تسمعيه قال: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا
(1) التخويف من النار: ص 20.
(2)
التخويف من النار: ص 200.
وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72] . وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه، ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم.
ولهذا قال تعالى: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا)[هود: 58]، (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا) [هود: 66] . (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا)[هود: 94] ، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة، لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الوارد على النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور أن الورود هو الورود على الصراط " (1) .
والحق أن الورود على النار ورودان: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك كما قال تعالى في شأن فرعون:(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)[هود: 98] ، أي بئس المدخل المدخول.
والورود الثاني: ورود الموحدين، أي مرورهم على الصراط على النحو المذكور في الأحاديث.
(1) شرح العقيدة الطحاوية: ص 471.
حقيقة الصّراط ومعتقد أهل السنة فيه
قال السفاريني: " الصراط في اللغة الطريق الواضح. ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط ××× إذا اعوج الموارد مستقيم
وفي الشرع جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة بين الجنة والنار " (1) .
وقد بين شارح الطحاوية معقتده في الصراط المذكور في الأحاديث فقال:
" ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: " هم في الظلمة دون الجسر " (2) .
وقد بيّن السفاريني رحمه الله تعالى - موقف الفرق من الصراط، وهل هو صراط مجازي أم حقيقي؟ ثم قرر مذهب أهل الحق الذي دلت عليه النصوص فيه، فقال: " اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً ممدوداً على متن جهنم، أحدّ من السيف وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أتباعه زعماً
(1) لوامع الأنوار البهية: (2/189) .
(2)
شرح الطحاوية: ص 469.
منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى:(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)[محمد: 5]، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى:(فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[الصافات: 23] ، ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات والأعمال الرديئة التي يسأل عنها ويؤاخذ بها، وكل هذا باطل وخرافات لوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء، أو الوقوف فيه، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك.
وأنكر العلامة القرافي كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وسبقه إلى ذلك شيخه العز بن عبد السلام، والحق أن الصراط وردت به الأخبار الصحيحة وهو محمول على ظاهره بغير تأويل كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن الصحاح مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق، وهم في جوازه متفاوتون " (1) .
وذكر القرطبي مذهب القائلين بمجازية الصراط، المؤولين للنصوص المصرحة به، فقال:
" ذهب بعض من تكلم على أحاديث وصف الصراط بأنه أدق من الشعر، وأحدُّ من السيف أن ذلك راجع إلى يسره وعسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى، لخفائها وغموضها، وقد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي دقيق، فضرب المثل بدقة الشعر، فهذا من هذا الباب، ومعنى قوله: أحد من السيف أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى
(1) لوامع الأنوار البهية: 2/192.
الملائكة في إجازة الناس على الصراط يكون في نفاذ حد السيف ومضيه إسراعاً منهم إلى طاعته وامتثاله، ولا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحده وقوة ضاربه في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد، وإما أن يقال: إن الصراط نفسه أحد من السيف وأدق من الشعر فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه، وأن فيه كلاليب وحسكاً، أي أن من يمر عليه يقطع على بطنه، ومنهم من يزل، ثم يقوم، وفيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه، وفي ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه مواطئ الأقدام، ومعلوم أن دقة الشعر لا يحتمل هذا كله (1) .
ثم رد عليهم مقالتهم، فقال:" ما ذكره هذا القائل مردود بما ذكرنا من الأخبار وأن الإيمان يجب بذلك، وأن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن، فيجريه أو يمشيه، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة، ولا استحالة في ذلك للآثار المروية في ذلك، وبيانها بنقل الأئمة العدول، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور "(2) .
(1) التذكرة للقرطبي: 332.
(2)
التذكرة للقرطبي: 333.
عظة المرور على الصّراط
يقول القرطبي: " تفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط، مع ضعف حالك واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار، المانعة لك من المشي على بساط الأرض، فضلاً عن حدة الصراط.
فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك، فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع قدمك الثاني، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون إلى جهة النار رؤوسهم وتعلوا أرجلهم فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه " (1) .
وقال أيضاً: (2) " فتوهم نفسك - يا أخي - إذا صرت على الصراط، ونظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة، قد لظى سعيرها، وعلا لهيبها، وأنت تمشي أحياناً، وتزحف أخرى، قال:
أبت نفسي تتوب فما احتيالي ××× إذا برز العباد لذي الجلالِ
وقاموا من قبورهم سكارى ××× بأوزار كأمثال الجبال
وقد نصب الصراط لكي يجوزوا ××× فمنهم من يكب على الشمال
(1) التذكرة للقرطبي: 332.
(2)
التذكرة للقرطبي: 330.
ومنهم من يسر لدار عدن ××× تلقاه العرائس بالغوالي
يقول له المهيمن يا وليي ××× غفرت لك الذنوب فلا تبالي
وقال آخر:
إذا مد الصراط على جحيم ××× تصول على العصاة وتستطيل
فقوم في الجحيم لهم ثبور ××× وقوم في الجنان لهم مقيل
وبان الحق وانكشف المغطى ××× وطال الويل واتصل العويل