الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنواع الحرية
- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية.
- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية.
الصنف الأول:
الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية، وهذا الصنف يشمل الآتي:
أ - الحرية الشخصية: والمقصود بها: أن يكون الإنسان قادرا" على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمنا من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، على ألا يكون في تصرفه عدوان على غيره. والحرية الشخصية تتضمن شيئين.
1 / حرمة الذات، وقد عنى الإسلام بتقرير كرامة الإنسان، وعلو منزلته. فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وميزه بالعقل والتفكير تكريما" له وتعظيما" لشأنه، وتفضيلا" له على سائر مخلوقاته، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا": «أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب» وفي هذه النصوص ما يدعو إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، وبذلك يضع الإسلام الإنسان، في أعلى منزلة، وأسمى مكان، حتى أنه يعتبر الاعتداء عليه، اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أيا كان الشخص، رجلا أو امراة، حاكما أو محكوما، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين. حتى اللقيط في الطرقات ونحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته وشخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فان تركوه دون التقاطه أثموا جميعا أمام الله تعالى، وكان عليهم تبعة هلاكه. هذا وكما حرص الإسلام على احترام الإنسان حيا، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتا، فمنع التمثيل بجثته، والزم تجهيزه ومواراته، ونهى عن الاختلاء والجلوس على القبور.
2 / تأمين الذات: بضمان سلامة الفرد وأمنه في نفسه وعرضه وماله:
فلا يجوز التعرض له بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن، كالضرب والسجن ونحوه، أو على النفس والضمير، كالسب أو الشتم والازدراء والانتقاص وسوء الظن ونحوه، ولهذا قرر الإسلام زواجر وعقوبات، تكفل حماية الإنسان ووقايته من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية. وكلما كان الاعتداء قويا كان الزجر أشد، ففي الاعتداء على النفس بالقتل وجب القصاص، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أو كان الاعتداء على الجوارح بالقطع وجب القصاص أيضا كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ومنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الولاة من أن يضربوا أحدا إلا أن يكون بحكم قاض عادل، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما ضربوا رعاياهم بل انه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحدا من الرعية، ووضع عقوبة على من يخالف ذلك.
ب-حرية التنقل (الغدو والرواح) : والمقصود بها: أن يكون الإنسان حرا في السفر والتنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه. والتنقل بالغدو والرواح حق إنساني طبيعي، تقتضيه ظروف الحياة البشرية من الكسب والعمل وطلب الرزق والعلم ونحوه، ذلك أن الحركة شأن الأحياء كلها، بل تعتبر قوام الحياة وضرورتها وقد جاء تقرير حرية التنقل بالكتاب والسنة والإجماع ففي الكتاب قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ولا يمنع الإنسان من التنقل إلا لمصلحة راجحة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طاعون عمواس، حين منع الناس من السفر إلى بلاد الشام، الذي كان به هذا الوباء، ولم يفعل ذلك إلا تطبيقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» ولأجل تمكين الناس من التمتع بحرية التنقل، حرم الإسلام الاعتداء على المسافرين، والتربص لهم في الطرقات، وأنزل عقوبة شديدة على الذين يقطعون الطرق ويروعون الناس بالقتل والنهب والسرقة، قال تعالى: {
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ولتأكيد حسن استعمال الطرق وتأمينها، نهى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن الجلوس فيها، فقال:«إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد في مجالسنا، قال: فإن كان ذلك، فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فالطرق يجب أن تفسح لما هيئ لها، من السفر والتنقل والمرور، وأي استعمال لغير هدفها محظور لا سيما إذا أدى إلى الاعتداء على الآمنين، ولأهمية التنقل في حياة المسلم وأنه مظنة للطوارئ، فقد جعل الله تعالى ابن السبيل- وهو المسافر- أحد مصارف الزكاة إذا ألم به ما يدعوه إلى الأخذ من مال الزكاة، ولو كان غنيًّا في موطنه.
ج-حرية المأوى والمسكن: فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه، فله حرية ذلك، كما أن العاجز عن ذلك، ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى مستوى لمعيشته.
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» وقد استدل الإمام ابن حزم بهذا الحديث وغيره على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال الزكاة والفيئ عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة والدولة هي التي تجمع هذه الأموال وتوزعها على المحتاجين ولا فرق في هذا بين المسلمين وغيرهم لأن هذا الحق يشترك فيه جميع الناس كاشتراكهم في الماء والنار فيضمن ذلك لكل فرد من أفراد الدولة بغض النظر عن دينه.
فإذا ما ملك الإنسان مأوى ومسكن، فلا يجوز لأحد، أن يقتحم مأواه، أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو حاكما أعلى -رئيس دوله-ما لم تدع إليه ضرورة قصوى، أو مصلحة بالغة، لان الله تعالى يقول:{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وإذا نهي عن دخول البيوت بغير إذن أصحابها، فالاستيلاء عليها، أو هدمها أو إحراقها من باب أولى، إلا إذا كان ذلك لمصلحة الجماعة، بعد ضمان البيت ضمانا عادلا، وهذه المصلحة قد تكون بتوسعة مسجد، أو بناء شارع، أو إقامة مستشفى، أو نحو ذلك، وقد أجلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه -أهل نجران، وعوضهم بالكوفة ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها، حرم الإسلام التجسس، فقال تعالى:{وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وذلك لأن في
التجسس انتهاكا لحقوق الغير، والتي منها: حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره بل وبالغ الإسلام في تقرير حرية المسكن بأن أسقط القصاص والديه عمن انتهك له حرمة بيته، بالنظر فيه ونحوه يدل على ذلك حديث أبى هريرة رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه» وهدرت: أي لاضمان على صاحب البيت. فعين الإنسان -رغم حرمتها وصيانتها من الاعتداء عليها، وتغليظ الدية فيها -لكنها هنا أهدرت ديتها بسب سوء استعمالها واعتدائها على حقوق الغير.
د-حرية التملك: ويقصد بالتملك: حيازة الإنسان للشيء وامتلاكه له، وقدرته على التصرف فيه، وانتفاعه به عند انتقاء الموانع الشرعية وله أنواع ووسائل نوجزها في الآتي:
1 / أنواع الملكية: للملكية أو التملك نوعان بارزان، هما: تملك فردي، وتملك جماعي.
فالتملك الفردي: هو أن يحرز الشخص شيئا ما، وينتفع به على وجه الاختصاص والتعين.
وقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك، وجعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، ورتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه لصاحبه، وصيانته له عن النهب والسرقة، والاختلاس ونحوه، ووضع عقوبات رادعة لمن اعتدى عليه، ضمانا له لهذا الحق، ودفعا لما يتهدد الفرد في حقه المشروع. كما أن الإسلام رتب على هذا الحق أيضا نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو الشراء، والإجارة والرهن، والهبة والوصية وغيرها من أنواع التصرف المباح.
غير أن الإسلام لم يترك (التملك الفردي) مطلقا من غير قيد، ولكنه وضع له قيودا كي لا يصطدم بحقوق الآخرين، كمنع الربا والغش والرشوة والاحتكار ونحو ذلك، مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة. وهذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل والمرأة قال الله تعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}
أما النوع الثاني: فهو التملك الجماعي: وهو الذي يستحوذ عليه المجتمع البشري الكبير، أو بعض جماعاته، ويكون الانتفاع بآثاره لكل أفراده، ولا يكون انتفاع الفرد به، إلا لكونه عضوا في الجماعة، دون أن يكون له اختصاص معين بجزء منه مثاله: المساجد والمستشفيات العامة والطرق والأنهار والبحار وبيت المال ونحو ذلك. وما ملك ملكا عاما يصرف في المصالح العامة، وليس لحاكم أو نائبه أو أي أحد سواهما أن يستقل به أو يؤثر به أحد ليس له فيه استحقاق بسب مشروع وإنما هو مسؤول عن حسن إدارته وتوجيهه التوجيه الصحيح الذي يحقق مصالح الجماعة ويسد حاجاتها.
2 / وسائل الملكية: وهي طرق اكتسابها التي حددها الإسلام، وعينها، وحرم ما سواها، ويمكن تقسيمها أيضا إلى قسمين: وسائل الملكية الفردية، والجماعية.
- وسائل الملكية الفردية، ولها مظهران:
المظهر الأول: الأموال المملوكة، أي المسبوقة بملك، وهذه الأموال لا تخرج من ملك صاحبها إلى غيره إلا بسبب شرعي كالوراثة، أو الوصية، أو الشفعة، أو العقد، أو الهبة، أو نحوها.
المظهر الثاني: الأموال المباحة، أي غير المسبوقة بملك شخص معين، وهذه الأموال لا يتحقق للفرد تملكها إلا بفعل يؤدي إلى التملك ووضع اليد، كإحياء موات الأرض والصيد، واستخراج ما في الأرض من معادن، وإقطاع ولي الأمر جزءا من المال لشخص معين، والعمل، ونحوه.
على أن ثمة قيودا على الملكية الفردية، تجمل فيما يلي:
1 / مداومة الشخص على استثمار المال، لأن في تعطيله إضرارا بصاحبه، وبنماء ثروة المجتمع.
2 / أداء زكاته، إذا بلغ نصابا، لأن الزكاة حق المال، وكذلك إنفاقه في سبيل الله.
3 / اجتناب الطرق المحرمة للحصول عليه، كالربا، والغش والاحتكار ونحوه.
4 / عدم الإسراف في بذله أو التقتير.
- وسائل الملكية الجماعية، ولها مظاهر كثيرة، نوجزها في الآتي:
المظهر الأول: الموارد الطبيعية العامة، وهي التي يتناولها جميع الناس في الدولة دون جهد أو عمل. كالماء، والكلأ، والنار، وملحقاتها.
المظهر الثاني: الموارد المحمية، أي التي تحميها الدولة لمنفعة المسلمين أو الناس كافة، مثل: المقابر، والمعسكرات، والدوائر الحكومية، والأوقاف، والزكوات ونحوها.
المظهر الثالث: الموارد التي لم تقع عليها يد أحد، أو وقعت عليها ثم أهملتها مدة طويلة كأرض الموات.
المظهر الرابع: الموارد التي تجنيها الدولة بسبب الجهاد كالغنائم والفيء ونحوها.
هـ- حرية العمل: العمل عنصر فعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام، وله شرف عظيم باعتباره قوام الحياة ولذلك فإن الإسلام أقر بحق الإنسان فيه في أي ميدان يشاؤه ولم يقيده إلا في نطاق تضاربه مع أهدافه أو تعارضه مع مصلحة الجماعة. ولأهمية العمل في الإسلام، اعتبر نوعا من الجهاد في سبيل الله، كما روى ذلك «كعب بن عجرة رضي الله عنه -قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان» وهكذا نجد كثيرا من نصوص الكتاب والسنة، تتحدث عن العمل، وتحث عليه، وتنوه بأعمال متنوعة كصناعة الحديد ونجارة السفن، وفلاحة الأرض، ونحو ذلك، لأن العمل في ذاته وسيلة للبقاء، والبقاء -من حيث هو - هدف مرحلي للغاية الكبرى، وهي عبادة الله، وابتغاء رضوانه، وبقدر
عظم الغاية تكون منزلة الوسيلة، فأعظم الغايات هو رضوان الله تعالى، وبالتالي فإن أعظم وسيلة إليها هي العمل والتضحية، وإنما نوه القرآن بالعمل والكسب للتنبيه على عظم فائدته وأهميته للوجود الإنساني، وأنه أكبر نعمة الله على الإنسان.
الصنف الثاني:
الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية، وهذا الصنف يشمل الآتي:
أ-حرية الاعتقاد، ويقصد بها: اختيار الإنسان لدين يريده بيقين، وعقيدة يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك. فإن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، ويجعل المكره مسلوب الإرادة، فينتفي بذلك رضاه واقتناعه وإذا تأملنا قول الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} نجد أن الإسلام رفع الإكراه عن المرء في عقيدته، وأقر أن الفكر والاعتقاد، لا بد أن يتسم بالحرية، وأن أي إجبار للإنسان، أو تخويفه، أو تهديده على اعتناق دين أو مذهب أو فكرة، باطل ومرفوض، لأنه لا يرسخ عقيدة في القلب، ولا يثبتها في الضمير. لذلك قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقال أيضا {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} كل هذه الآيات وغيرها، تنفي الإكراه في الدين، وتثبت حق الإنسان في اختيار دينه الذي يؤمن به. هذا ويترتب على حرية الاعتقاد ما يلي:
1 / إجراء الحوار والنقاش الديني، وذلك بتبادل الرأي والاستفسار في المسائل الملتبسة، التي لم تتضح للإنسان، وكانت داخلة تحت عقله وفهمه -أي ليست من مسائل الغيب - وذلك للاطمئنان القلبي بوصول المرء إلى الحقيقة التي قد تخفى عليه، وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يحاورون أقوامهم ليسلموا عن قناعة ورضا وطواعية، بل إن إبراهيم -أبا الأنبياء عليه السلام -حاور ربه في قضية الإحياء والإماتة ليزداد قلبه قناعة ويقينا وذلك فيما حكاه القرآن لنا في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بل إن في حديث جبريل عليه السلام، الذي استفسر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلامات الساعة دليل واضح على تقرير الإسلام لحرية المناقشة الدينية، سواء كانت بين المسلمين أنفسهم، أو
بينهم وبين أصحاب الأديان الأخرى، بهدف الوصول إلى الحقائق وتصديقها، لا يقصد إثارة الشبه والشكوك والخلافات، فمثل تلك المناقشة ممنوعة، لأنها لا تكشف الحقائق التي يصل بها المرء إلى شاطئ اليقين.
2 / ممارسة الشعائر الدينية، وذلك بأن يقوم المرء بإقامة شعائره الدينية، دون انتقاد أو استهزاء، أو تخويف أو تهديد، ولعل موقف الإسلام الذي حواه التاريخ تجاه أهل الذمة -أصحاب الديانات الأخرى -من دواعي فخره واعتزازه، وسماحته، فمنذ نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يثرب -المدينة المنورة - أعطى اليهود عهد أمان، يقتضي فسح المجال لهم أمام دينهم وعقيدتهم، وإقامة شعائرهم في أماكن عبادتهم. ثم سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون، فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء -القدس- معاهدة جاء فيها: هذا ما أعطاه عمر أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا على أنفسهم، ولكنائسهم وصلبانهم، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من غيرها ولا من صلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم. وها هم علماء أوروبا اليوم، يشهدون لسماحة الإسلام، ويقرون له بذلك في كتبهم. قال ميشود في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية) : إن الإسلام الذي أمر بالجهاد، متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وهو قد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وقد حرم قتل الرهبان -على الخصوص - لعكوفهم على
العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون المسلمين وحرقوا اليهود عندما دخلوها أي مدينة القدس.
ب- حرية الرأي، وتسمى أيضا بحرية التفكير والتعبير، وقد جوز الإسلام للإنسان أن يقلب نظره في صفحات الكون المليئة بالحقائق المتنوعة، والظواهر المختلفة، ويحاول تجربتها بعقله، واستخدامها لمصلحته مع بني جنسه، لأن كل ما في الكون مسخر للإنسان، يستطيع أن يستخدمه عن طريق معرفة طبيعته ومدى قابليته للتفاعل والتأثير، ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر وطول التفكير.
هذا ولإبداء الرأي عدة مجالات وغايات منها:
1 / إظهار الحق وإخماد الباطل، قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالمعروف هو سبيل الحق، ولذلك طلب من المؤمن أن يظهره، كما أن المنكر هو سبيل الباطل، ولذلك طلب من المؤمن أن يخمده.
2 / منع الظلم ونشر العدل، وهذا ما فعله الأنبياء والرسل إزاء الملوك والحكام ويفعله العلماء والمفكرون مع القضاة والسلاطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»
3 / وقد يكون إبداء الرأي، بتقديم الأمور حسب أهميتها وأولويتها، وهذا أكثر ما يقوم به أهل الشورى في أكثر من بلد، وأكثر من مجتمع وقد يكون بأي أسلوب آخر، إذ من الصعب حصرها، ولكنها لا تعني أن يخوض الإنسان فيما يضره، ويعود عليه بالفساد، بل لا بد أن تكون في إطار الخير والمصلحة إذ الإسلام بتقريره حرية الرأي، إنما أراد من الإنسان أن يفكر كيف يصعد، لا كيف ينزل، كيف يبني نفسه وأمته، لا كيف يهدمها، سعيا وراء شهوتها وهواها.
وباستعراض التاريخ الإسلامي، نجد أن حرية الرأي طبقت تطبيقا رائعا، منذ عصر النبوة، فهذا الصحابي الجليل، حباب بن المنذر، أبدى رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بدر، على غير ما كان قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله علبه وسلم برأيه، وأبدى بعض الصحابة رأيهم في حادثة الإفك، وأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بتطليق زوجته عائشة رضي الله عنها -إلا أن القرآن برأها، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التي كانوا يبدون فيها آراءهم.
ج-حرية التعلم: طلب العلم والمعرفة حق كفله الإسلام للفرد، ومنحه حرية السعي في تحصيله، ولم يقيد شيئا منه، مما تعلقت به مصلحة المسلمين دينا ودنيا، بل انتدبهم لتحصيل ذلك كله، وسلوك السبيل الموصل إليه، أما ما كان من العلوم بحيث لا يترتب على تحصيله مصلحة، وإنما تتحقق به مضرة ومفسدة، فهذا منهي عنه، ومحرم على المسلم طلبه، مثل علم السحر والكهانة، ونحو ذلك.
ولأهمية العلم والمعرفة في الحياة، نزلت آيات القرآن الأولى تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة قال تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} والقراءة هي مفتاح العلم، ولذلك لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونصب عليه الكفار الحرب، وانتصر المسلمون وأسروا من أسروا من المشركين، جعل فداء كل أسير من أسراهم، تعليم القراءة والكتابة لعشرة من صبيان المدينة وهذا من فضائل الإسلام الكبرى، حيث فتح للناس أبواب المعرفة، وحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وكره لهم القعود عن العلم والتخلف عن قافلة الحضارة والرفاهية والازدهار. ومن أجل ذلك كان على الدولة الإسلامية، أن تيسر سبل التعليم للناس كافة، وتضمن لكل فرد حقه في ذلك لأن هذا الحق مضمون لكل فرد من رعاياها، كسائر الحقوق الأخرى.
د- الحرية السياسية: ويقصد بها: حق الإنسان في اختيار سلطة الحكم، وانتخابها، ومراقبة أدائها، ومحاسبتها، ونقدها، وعزلها، إذا انحرفت عن منهج الله وشرعه، وحولت ظهرها عن جادة الحق والصلاح.
كما أنه يحق له المشاركة في القيام بأعباء السلطة، ووظائفها الكثيرة، لأن السلطة حق مشترك بين رعايا الدولة، وليس حكرا على أحد، أو وقفا على فئة دون أخرى واختيار الإنسان للسلطة، قد يتم بنفسه، أو من ينوب عنه من أهل الحل والعقد وهم أهل الشورى، الذين ينوبون عن الأمة كلها في كثير من الأمور منها: القيام بالاجتهاد فيما لا نص فيه، إذ الحاكم يرجع في ذلك، إلى أهل الخبرة والاختصاص من ذوى العلم والرأي، كما أنهم يوجهون الحاكم في التصرفات ذات الصفة العامة، أو الدولية، كإعلان الحرب، أو الهدنة، أو إبرام معاهدة، أو تجميد علاقات، أو وضع ميزانية أو تخصيص نفقات لجهة معينة أو غير ذلك من التصرفات العامة، التي لا يقطع فيها برأي الواحد. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.»