الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا: أولوية الوصف التزامني
.
مبدأ أولوية الوصف التزامني الذي يميز معظم النظرية اللغوية في القرن العشرين يعني ضمنا ألا تكون الاعتبارات التاريخية متصلة بموضوع بحث حالة متعلقة بزمن معين للغة ما، وقد ورد من قبل مصطلحا دي سوسير: وصفي "Synchronic" وتاريخي "diachronic" انظر 2 - 1" ويمكننا أن نستخدم إحدى ثنائيات دي سوسير لنوضح أولوية الوصف التزامني على الوصف التاريخي.
دعنا نقارن التطور اللغوي للغة معينة بمباراة شطرنج تدور أمامنا، فحالة المسطح الخشبي تتغير باستمرار كما أدى لاعب حركته، ورغم ذلك فإنه في أي وقت من الأوقات يمكن أن يوصف وضع المبارة وصفا إجماليا من خلال الأوضاع التي تشغلها قطع الشطرنج "وفي الواقع إن هذا الوصف ليس صحيحا تماما فعلى سبيل المثال يتأثر وضع المبارة بقدر ما تلقى إمكانيات التحصين من عناية بتحريك الملك من مكانه الأصلي وإليه، ويمكن أن نهمل مثل هذه النقاط التفصيلية الثانوية التي يمكن أن تتحطم فيها ثنائية دي سوسير" دون اهتمام بخطط اللاعبين التي بلغت وضعا محددا في المبارة، وبغض النظر عن عدد
الحركات السابقة أو طبيعتها أو ترتيبها، فالحالة الراهنة للمبارة يمكن أن توصف وصفا تزامنيا دون الإشارة إليها، وكذلك الأمر تبعا لسوسير فيما يتعلق بالتطور التاريخي للغات فكل اللغات تتغير باستمرار لكن كل حالة من الحالات المتعاقبة للغة ما يمكن -ويجب- أن توصف في حد ذاتها دون الإشارة إلى الحالة التي تطورت منها أو التي يبدو أنها ستتطور إليها.
وقد يبدو ذلك كله نظريا ومجردا بدرجة عالية غير أن له تضمينات عملية إلى حد بعيد، أولها يتعلق بما سأدعوه الزيف التأصيلي، والتأصيل1 دراسة أصول الكلمات وتطورها، وقد أخذ وجهته -بقدر ما تلقى التقليدية النحوية الغربية من اهتمام- في تأملات بعض الفلاسفة الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد ويكشف مصطلح التأصيل عن نفسه بنفسه، فالمصطلح يتضمن الحروف اللاتينية التي تكتب بها صيغة الكلمة الإغريقية "etumos" ومعناها أصلي أو حقيقي، وتبعا لإحدى مدارس فلاسفة القرن الخامس ترتبط كل الكلمات -بطريقة طبيعية أكثر منها عرفية- بما تشير إليه، وقد لا يكون هذا الارتباط واضحا لغير المتخصص غير أن الفلاسفة يستطيعون توضيحه حيث يستطيعون إبانة الحقائق التي تقع وراء مظاهر الأشياء، واختراق المظاهر المختلفة عادة بالتحليل الدقيق للتغيرات التي تحدث في تطور صيغة كلمة ما أو معناها للكشف عن أصل الكلمة، ويكشف معناها الحقيقي عن إحدى حقائق طبيعتها، وما أشرت إليه بالزيف التأصيلي هو ذلك الافتراض الذي يذهب إلى أن الصيغة الأصلية أو المعنى الأصلي لكلمة ما -بالضرورة وبفضل الحقيقة المجردة- هي الصيغة الصحيحة أو المعنى الصحيح، وهذا
1 التأصيل "etymology" مصطلح يستخدم استخداما تقليديا لدراسة أصول صيغ الكلمات ومعانيها، وبدلا من أن يأخذ التأصيل طرائقه ومناهجه من علم اللغة "وبصفة خاصة علم الدلالة" فإنه قد يبدو فرعا من علم اللغة التاريخي.
الافتراض يتمسك به على نطاق واسع، كيف نواجه عادة القول بأن كلمة كذا وكلمة كذا بسبب مجيئها من اللغة الإغريقية، أو اللغة اللاتينية، أو اللغة العربية، أو أي لغة أخرى يجب أن يكون معناها الصحيح في لغة الأصل؟ وهذا القول غير صحيح؛ لأن الافتراض المفهوم ضمنا الحقيقة الأصلية أو التوافق المناسب بين الصيغة والمعنى التي يقوم عليها القول لا يمكن إقامة الدليل عليه.
وقد قام التأصيل في القرن التاسع عشر على أقدام ثابتة أكثر مما كان عليه في الفترات السابقة، وليس هناك أنسب مما قرره فولتير "voltaire" من أن التأصيل علم لا تلقى فيه الحركات اهتماما بينما تلقى الصوامت قليلا من الاهتمام، ويعد التأصيل -كما يمارس اليوم- فرعا هاما من فروع علم اللغة التاريخي وللتأصيل -كما سنرى في الفصل السادس- أسسه المنهجية الخاصة التي تعتمد بشكل موثوق به على شواهد كمية ونوعية تحتشد عليها، وفي أمثلة مواتية تكون الثقة في إعادة البناء التأصيلي حقيقية إلى حد بعيد.
ومن النقاط التي أصبحت واضحة لعلماء التأصيل في القرن التاسع عشر، ويسلم بها الآن كل اللغويين أن معظم كلمات معجم أي لغة من اللغات لا يمكن العودة بها إلى أصولها، والكلمات التي خلقت عن عمد عن طريق استعارة صيغ من لغات أخرى أو باستخدام أي قاعدة أخرى ليست نموذجا للمفردات ككل، وينطبق ذلك أيضا -وبالتأكيد- على ما يعتبر مفردات أكثر أساسية وغير اصطلاحية في لغة من اللغات، وما يقوم به عالم التأصيل اليوم أنه يربط الكلمات الخاصة بحالة لغة ما يمكن وصفها وصفا تزامنيا بما يصدق عليها أو بما أعيد بناؤه من حالات سابقة من اللغة نفسها أو من بعض اللغات الأخرى، لكن كلمات الحالة السابقة للغة نفسها أو كلمات اللغة الأسبق تطورت هي أيضا من كلمات أخرى قبلها، وما إذا كانت الصيغ أو المعاني الخاصة بهذه
الكلمات الأسبق يمكن أن تكشف عنها وسائل علم التأصيل أم لا يعتمد على الشواهد الباقية على قيد الحياة، فعلى سبيل المثال يمكن أن تربط الكلمة الإنجليزية المعاصرة "ten" بالكلمة الإنجليزية القديمة التي صيغتها إما "ten" "بحركة طويلة" أو "tien" ويمكننا أن نربط الكلمة الإنجليزية القديمة -من خلال حالات افتراضية متعاقبة- بالكلمة الهندية الأوروبية الأم المعاد بناؤها بالصيغة:"dekm" ومعناها أيضا "ten" لكننا لا نستطيع أن نذهب بأي قدر من الثقة وراء ذلك، وحتى الكلمة الهندية الأوروبية الأم "dekm" -العلامة النجمية التي تتصدر الكلمة تبين أنها معادة البناء وليست حقيقية "انظر: 6 - 3"- لا تعد بشكل واضح أصلا بأي معنى تام لكل الكلمات التي تطورت منها في اللغات التي يمكن أن نحدد هويتها على أنها تنتسب إلى الأسرة الهندية الأوروبية، فمن المؤكد أنها نفسها قد تطورت من كلمة أخرى "قد تكون وقد لا تكون بمعنى "ten" - لا توجد طريقة لمعرفة ذلك" تنتسب إلى معجم لغة أخرى، وهذه الكلمة بدورها جاءت من كلمة أخرى أسبق في لغة أخرى وهلم جرا، وعموما فإن علماء التأصيل لا يعنون هذه الأيام بأصول الكلمات، وفي الحقيقة إنهم يذهبون إلى أنه في كثير من الأمثلة "مثل كلمة "ten"" لا معنى للاستفسار عن أصل كلمة ما، وكل ما يستطيع علماء التأصيل أن يخبرونا به -بثقة تزيد وتنقص حسب الدليل- أن كذا وكذا هو الصيغة أو المعنى الخاص بكلمة معينة لسلف مفترض أو معروف بشكل ممعن في القدم.
ويصل بنا ذلك إلى طريق من أكثر الطرق التي تتحطم فيها ثنائية سوسير وضوحا، فكل مبارة شطرنج تدور وفق قواعد، وهي تامة أي: لها بداية محددة ونهاية محددة، وذلك بخلاف اللغة، ولا ينحصر ذلك في قضية أن اللغات "بقدر ما نعلم" بدأت من وضع واحد ثم تطورت بأشكال مختلفة،
لكن من المستحيل أن نؤرخ لبداية لغة من اللغات إلا إذا كان الأمر لا يتعدى الاتفاق الاعتباطي والتقريب، فلا نستطيع على سبيل المثال أن نقول في أي وقت صارت اللغة اللاتينية المنطوقة لغة فرنسية قديمة أو لغة إيطالية أو لغة أسبانية، ولا نستطيع أن نقول في أي وقت انتهت لغة من اللغات باستثناء اللغات التي أصبحت هامدة بشكل مفاجئ إلى حد ما في الوقت الذي مات فيه آخر متكلم أصلي بها، فاللغات من وجهة النظر التاريخية ليس لها بدايات محددة أو نهايات محددة، وما إذا كنا سنذهب إلى أن اللغة الإنجليزية القديمة واللغة الإنجليزية الحديثة حالتان للغة واحدة أم أنهما لغتان مختلفتان هو في الملاذ الأخير حالة من الاتفاق والموائمة.
ويوجد كذلك طريق آخر تتحطم عليه ثنائية دي سوسير، فمباراة الشطرنج تحكمها قواعد مصوغة بوضوح وفي إطار يخضع لهذه القواع، ويحدد اللاعبون مجرى أي مباراة فهي بين لاعبين أحدهما في مواجهة الآخر، ويحددون أيضا الهدف المعترف به منه، وبقدر ما نعلم ليس هناك اتجاه في التطور التاريخي للغات وربما كانت هناك مبادئ عامة معينة تحدد مراحل الانتقال من حالة للغة ما إلى حالة أخرى، ولكن حتى إذا وجدت مثل هذه المبادئ فلا يمكن مقارنتها مع قوانين مباراة يجريها الإنسان مثل الشطرنج، وسوف نلقي نظرة على ما يطلق عليه قوانين التغير اللغوي في الفصل السادس.
ومبدأ أولوية الوصف التزامني يفهم منه عادة أنه يحمل ما يتضمن أنه بينما يعتمد الوصف التزامني على الوصف التاريخي فإن الوصف التاريخي يفترض سلفا التحليل التزامني السابق للحالات المتتابعة التي تمر من خلالها اللغة في مجرى تطورها التاريخي، وربما لم يمكن هذا وجهة نظر سوسير لكنه يترتب بالضرورة على ما يعد افتراضات مقبولة الآن على نطاق واسع حول طبيعة النظم اللغوية
ويتحدث اللغويون أحيانا بطريقة غامضة إلى حد ما كما لو كان مرور الوقت في حد ذاته كافيا لتوضيح تغير اللغة، وهناك عوامل كثيرة مختلفة داخل اللغة وخارجها يمكن أن تكون سببا في تغير حالة تزامنية إلى حالة تزامنية أخرى، وبعض هذه العوامل -وربما كان أكثرها أهمية- اجتماعية، ومرور الزمن وحده يسمح لهذا التفاعل المعقد أن يحدث ما يميز فيما بعد كمرحلة انتقال من حالة للغة لحالة أخرى.
وأكثر من ذلك فإن مفهوم التطور التاريخي بين الحالات المتعاقبة للغة ما يكون ذا أهمية إذا ما طبق فقط على ما يتصل بالحالات اللغوية التي تبتعد نسبيا فيها الواحدة عن الأخرى من حيث الزمن، وقد أشرت من قبل لما أسميته تصور التجانس وهو مفيد وضروري فيما يتصل بهذا الموضوع، وعلى كل حال إذا افترضنا أن التغير اللغوي يشمل تحويلا مستمرا عبر الزمن لما يكون في أي وقت نظاما لغويا متجانسا إلى حد بعيد، فإن العملية الكاملة للتغير في اللغة ستبدو أكثر غموضا بكثير عما هي عليه في الحقيقة، وما يميز كلام مجموعة قليلة من أفراد جماعة لغوية لا وزن لها من حيث الظاهر في وقت من الأوقات قد ينتشر فيما بين معظم الجماعة عبر جيل واحد أو جيلين، وربما كان مشروعا إلى حد بعيد للغوي الذي يصف اللغة وصفا تزامنيا في أي من هاتين النقطتين الزمنيتين أن يهمل كلام الأقلية المختلف، لكنه إذا فعل ذلك واستمر يتكلم تاريخيا من أن أحد النظم اللغوية المتجانسة من الناحية التزامنية قد تحول إلى نظام لغوي آخر متجانس بصورة مماثلة فإنه سيكون متهما بتشويه الحقائق، وأسوأ من ذلك أنه يخاطر بأن يخلق لنفسه مشكلات نظرية زائفة لا حل لها، وبالمرة فإننا ندرك أنه ليست هناك لغة ثابتة أو موحدة حتى الآن، وبذلك نكون قد خطونا الخطوة الأولى تجاه التفسير النظري لاستمرارية التغير اللغوي من حيث الزمان، ومن حيث المكان، ولو أننا أخذنا حالتين تاريخيتين محددتين للغة ما لم تفصل بينهما فترة زمنية طويلة فمن المحتمل أن نجد أن معظم الاختلافات، بينهما موجودة كذلك كتنوع تزامني في كلا المرحلتين السابقة واللاحقة، ومن وجهة النظر المجهرية -باعتبارها متميزة عن وجهة النظر المجردة التي يتبناها المرء عادة في علم اللغة التاريخي- من المستحيل أن نرسم مميزا حادا بين التغير التاريخي والتنوع التزامني.
والخلاصة إن مبدأ أولوية التنوع التزامني صحيح لكنه بدلا من أن يعتمد على تصور التجانس يجب أن يطبق بوعي وإدراك تام للحالات النظرية الخاصة بتصور النظام اللغوي، وهو ما يتصل بالنقطة التي سنتحول الآن إليها.