المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌ألقاب الشعراء

- ‌فصل فيمن لقب بشعر قاله

- ‌فصل في ذكر من لقب من الشعراء بعلامة من خلقه وبظاهر من لونه

- ‌فصل من لقب من الشعراء بفعل فعل غلب على اسمه

- ‌فصل من غلب اسم أمه على اسم أبيه

- ‌فصل من نسب إلى أبيه من الشعراء

- ‌أسماء المعرقين من الشعراء

- ‌ومن الشعراء المعرقين

- ‌نسب أبي سلمى

- ‌ومن قال الشعر من ولده، وولد ولده، وولد ولد ولده

- ‌ومن الشعراء المعرقين

- ‌ذكر عبد الرحمن بن حسان

- ‌ذكر سعيد بن عبد الارحمن بن حسان

- ‌ومن الشعراء المعرقين

- ‌ذكر جرير ولده

- ‌ذكر أم غيلان بنت جرير

- ‌ذكر بلال بن جرير

- ‌وولد بلال عقيل

- ‌وعمارة ولد عقيل بن بلال

- ‌ومن الشعراء المعرقين

- ‌ذكر مروان الأصغر

- ‌ذكر متوج بن محمود بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان

- ‌ذكر من قال الشعر من ولد ابن ابي حفصة

- ‌ومن الشعراء المحدثين الذين هم بيت

- ‌ذكر دعبل بن علي بن رزين

- ‌ذكر أبي الشيص

- ‌ذكر عبد الله بن ابي الشيص

- ‌ومن الشعراء المعرقين

- ‌ذكر أبي عتاهية

- ‌ذكر أبي عبد الله محمد بن ابي عتاهية

- ‌المعرقون من الرجاز

- ‌ومن المعرقين في شعر الرجز، وهم الرجاز

- ‌ذكر العجاج

- ‌ذكر رؤية بن العجاج

- ‌الأخوة من الشعراء

- ‌ذكر أبي جندب بن مرة

- ‌المعرقون من القواد

- ‌ومن الشعراء المعرقين من القواد والأمراء والوزراء

- ‌ذكر ذي اليمينين طاهر بن الحسين

- ‌ذكر أبي العباس عبد الله بن طاهر

- ‌ذكر أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

- ‌ذكر محمد بن عبد الله ابن طاهر، ابي العباس

- ‌ذكر سليمان بن عبد الله بن طاهر

- ‌أسماء شعراء الكتاب

- ‌وما يختار من اشعارهم

- ‌ذكر يعقوب بن الربيع

- ‌ذكر إبرهيم بن العباس

- ‌ذكر سعيد بن حميد ابن سعيد بن بختيار الكاتب

- ‌ذكر أحمد بن يوسف كاتب المأمون

- ‌ذكر الحسن وسليمان ابني وهب

- ‌ذكر محمد بن عبد الملك الزيات كاتب، ووزير

- ‌ذكر الحسن بن رجاء ابن أبي الضحاك الكاتب

- ‌شعراء عبيد العرب

- ‌وما احتضر من أخبارهم، واستحسن من اشعارهم

- ‌ذكر من سماه روح في قصيدته

- ‌الإماء من شواعر النساء

- ‌شعر المجانين

- ‌وما نخبره من أشعارهم

- ‌ذكر أبي حية النميري

- ‌ذكر ماني المجنون

- ‌ذكر أبي الفضل جعيفران المجنون

- ‌ذكر عباس المشوق المجنون

الفصل: ‌ذكر أبي عتاهية

ومنْ جعلَ الظلامَ له قعوداً

أصابَ يدَ الدجى خيراً وشرا

وكان عبد الله هذا كثير الذم لسر من رأى، ومنه قوله:

لعنَ الله سرَّ منْ را بلاداً

ورماها بالقحطِ والطاعونِ

بعتُ في الصيفِ عندهم قبة الخي

شِ، وبعتُ الكانونَ في كانونِ

ومنه قوله:

لعمركَ ما سررتُ بسرّ من را

ولكني عدمتُ بها السرورا

رأيتُ بها القصورَ مشيداتٍ

على قومٍ يشينونَ القصورا

إذا قيل: البسوا، لبسوا المخازي

وإنْ قيل: اركبوا، ركبوا الأيورا

وكتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق لأجله كتابا، وهو: كتابي إليك كتاب خططته بيدي، وفرغت له دهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني؟ أتراني أقصر في الشكر عليها، أم أقبل العذر فيها. وابن أبي الشيص ممن عرفت حاله وخالص مودته، وصفاء سريرته. ولو كانت الدنيا تنبسط بيده ما عدانا إلى غيره. فاكتف بهذا مني فيه وله، والسلام.

وكتب إلى بعض إخوانه:

رداؤكَ في الحربِ العوانِ هو الردى

ورأيكَ في داجي الخطوبِ هو الفجرُ

ولو أنَّ للأوعارِ والسهلِ ألسناً

لأثنى عليكَ السهلُ بالجودِ، والوعرُ

أسلكَ بحقِّ الراحِ والرشأ الذي

له في حواشي طرفهِ، أبداً، سحرُ

ترى منكَ ماءَ الوجهِ في ماءَ وجههِ

وللعينِ في ديباجِ بهجتهِ زهرُ

فانَّ له حقاً على كلِّ ذي هوىً

وللكأسِ أجرٌ حقهُ، أبداً، وزرُ

بحقيهما ألا قبلتَ مموهاً

من العذرِ يهديهِ امرؤٌ ماله عذرُ

فإنْ يكُ غداراً فمن آلِ دعبلٍ

فإنهمُ قومٌ، وفاؤهمُ غدرُ

إذا عاهدوا فالنكثُ بحتُ عهودهم

وإنْ وصلواخلاً، فوصلهمُ هجرُ

سأكفيكَ يا ابن المجدِ ذمي، ولم تكنْ

لتبلغَ من ذمي الذي بلغَ الشعرُ

‌ومن الشعراء المعرقين

أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي عتاهية، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد، وبلده الكوفة.

‌ذكر أبي عتاهية

كان من أكثر المحدثين شعراً، واسهلهم في المعاني والألفاظ، وأبعدهم عن التكلف. وقال ابن الأعرابي: إن أبا عتاهية وبشاراً أجود المحدثين شعراً، وأبعدهم من التكلف. وقيل لربة بن العجاج: من أشعر المحدثين؟ قال: الذي إذا جد جد، وإذا هزل هزل، كأنما يتناول الكلام من كمه. يعني ابا عتاهية. وقال مسعود بن بشر الأزدي.: قلت بمكة لابن مناذر: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شبب لعب، وإذا جد جد. قلت: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول:

إنَّ الذين غدوا بقلبكَ غادروا

وشلاً بعينكَ لا يزالُ معينا

غيضنَ من عبراتهنَّ، وقلنَ لي

ماذا لقيتَ من الهوى، ولقينا

ثم قال حين جد:

إن الذي حرمَ الخلافةَ تغلباً

جعلَ الخلافةَ والنبوةَ فينا

هذا ابنُ عمي في دمشقَ خليفةٌ

لو شئتُ ساقكمُ إلي قطينا

فيروى عن الوليد أنه قال: لو قال جرير: لو شاء لفعلت، ولكن جعلني شرطياً له. ثم قال ابن الأعرابي: ومن هؤلاء المحدثين هذا الخبيث، الذي يتناول الشعر من كثب، يعني ابا عتاهية، حيث يقول:

الله بيني وبين مولاتي

أبدتْ ليَ الصدَّ والملالاتِِ

ثم يخرج من الغزل فيجد ويقول:

ومهمهٍ، قد قطعتُ، طامسةٍ

قفرٍ على الهولِ والمخافاتِ

بحرةٍ، جسرةٍ، عذافرةٍ

خوصاءَ عيرانةٍ علنداةِ

تقولُ للريح كلما بسمتْ

هل لك يا ريحُ في مباراتي

وبهذا الشعر قال ابن العجاج ما قال، لأنه كان أنشده إياه، فقال: ما كنت أظن أنه يكون بحضرتي مثل طبعك.

وسمعه أبو نواس ينشد بحضرة قوم، فقال: أفجر هذا، أم أنتم لا تبصرون. وبطريق هذه التائية تاب عن الشعر، وذلك أنه رأى في منامه كأن شخصاً يقول له: ما كان في الدنيا احد يكون بينك وبين مولاتك وحبيبتك إلا الله تعالى، حتى تقول: بيني وبين مولاتي. فصار يميل في أشعاره إلى الزهديات.

وكان أبو عمرو الشيباني يفضله. وقد ذكر محمد بن يزيد في كتاب الروضة من أخبار أبي عتاهية جملاً، فلم آت في هذا بشيء مما ذكره، ذلك إلا القليل، قصداً للفائدة. حدث أبو عمرو الشيباني قال: جاء أبو عتاهية، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس إلى أبي، فاستنشد أبا عتاهية، فأنشده قوله:

ص: 23

وعظتكَ أجداثٌ صمتْ

ونعتكَ ساكتةٌ خفتْ

وتكلمتْ عن أعظمٍ

تبلى، وعن صورٍ سبتْ

وأرتك قبرك في القبور

رِ، وأنتَ حيٌ لم تمتْ

والدهرُ كم من غيرةٍ

لكَ في نوائبهِ الثبتْ

غيرٌ مقلعةٌ لأو

تادٍ وأطنابٍ ثبتْ

لا تغفلنَّ، فأنهُ

من تمضِ ساعتهُ تفتْ

ولربما انتقلَ الشما

تُ، فحلَّ بالقومِ الشمتْ

وهذه أبيات ما وجد لمحدث مثلها.

وله ايضاً:

لكم من رجاءٍ، ومن شدةٍ

إلى غايةٍ، وإلى مدةِ

وكم عقدَ الدهرُ من عقدةٍ

فرقتْ، وكم حلَّ من عقدةِ

على سرعةِ الشمسِ في سيرها

دبيبُ الخلوقة في الجدةِ

وأنشدهم أيضاً:

يا عجبي للبلى وجدتهِ

يدبُ في الخلقِ ساكناً حركا

ثم انصرفوا، ولم يستنشد مسلماً، ولا أبا نواس شيئاً، فعادوا إليه بعد أيام، فاستنشد مسلماً، فأنشده قصيدته التي منها:

أجررتُ حبلَ خليعٍ في الصبا، غزلِ

حتى إذا بلغ إلى قوله:

ينالُ بالرفقِ ما تعيا الرجال له

كالموتِ مستعجلاً يأتي على مهلِ

قال له أبو عمرو: أحسنت يا أبا الوليد، إلا أنك أخذت قول أبي إسحاق، حيث يقول:

وحكتْ لكَ الساعاتُ سا

عاتٍ أتياتٍ بغتُ

ثم استنشد أبا نواس، فأنشده:

يا شقيقَ النفسِ من حكمِ

حتى بلغ إلى قوله:

فتمشتْ في مفاصلهم

كتمشي البرءِ في السقمِ

قال له أبو عمرو: احسنت يا ابا علي، غلا أنك أخذت معنى قول أبي إسحاق:

على سرعةِ الشمسِ في مرها

دبيبُ الخلوقةِ في الجدةِ

ولأبي عتاهية:

كلٌّ على الدنيا له حرصُ

والحادثاتُ أناتها غفصُ

وكأنَّ منْ واروهُ في جدثٍ

لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ

ليدِ المنيةِ في تلمسها

عن ذخرِ كلِّ شقيقةٍ فحصُ

نبغي من الدنيا زيادتها

وزيادةُ الدنيا هي النقصُ

وأخذ هذا المعنى مؤلف هذا الكتاب فقال:

زيادةُ عمر المرءِ نقصُ حياتهِ

فكيفَ غدتْ تلك الزيادةُ نقصانا

وللمتنبي:

لا يكثرُ الأمواتُ كثرةَ قلةٍ

إلا إذا شقيتْ بكَ الأحياءُ

وأما قول أبي عتاهية:

لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ

فمأخوذ من قول الأول:

وكأنَّ أقواماً مضوا لم يخلقوا

وأما قوله:

ليد المنيةِ في تلمسها

عن ذخرِ كلِّ شقيقةٍ فحصُ

وقوله:

نبغي من الدنيا زيادتها

وزيادةُ الدنيا هي النقصُ

فقد تردد هذا في كثير من شعره. فمن ذلك:

إذا ازددتُ من عمري قربتُ من البلى

وألفيتُ نقصي بيناً في زيادتي

وقوله:

وكلُّ زيادةٍ فليومِ نقصٍ

وكلُّ جماعةٍ فليومِ بينِ

وقوله:

وأسرعَ في نقضه امرئٍ تمامهُ

يا لكَ أمراً نقصهُ إبرامهُ

وقوله:

وأسرع ما يكونُ المرءُ نقصاً

وأقربُ ما يكونُ من الزيادةُ

ومعانيه قريبة بعضها من بعض. وللنمر بن تولب مما يلم بهذا المعنى قوله:

يحبُّ الفتى طولَ السلامةِ جاهداً

فكيف ترى طول السلامةِ يفعلُ

ويروى عن النبي، صلى الله عليه وسلم:" كفى بالسلامة داء ".

وقال حميد بن ثور:

أرى بصري قد رابني بعدَ صحةٍ

وحسبكَ داءً أن تصحَّ وتسلما

وهذا من كلام الحكماء. قال بعض الحكماء، وقد سئل كيف أنت، فقال: كيف حال من يفنى ببقائه، ويسقم بصحته، ويؤتى من مأمنه. وقال بعض الشعراء:

وما ازدادَ شيءٌ قطُّ إلاّ لنقصهِ

وما اجتمعَ الالفانِ إلا تفرقا

وقال آخر:

كانتْ قناتي لا تلينُ لغامزٍ

فألانها الاصباحُ والإمساءُ

ودعوتُ ربي بالسلامةِ جاهداً

ليصحني، فإذا السلامةُ داءُ

وقال آخر:

يحبُّ الفتى طولَ البقاءِ، وإنهُ

على ثقةٍ أنَّ البقاءَ فناءُ

زيادتهُ في الجسمِ نقصُ حياتهِ

ليس عى طولِ البقاءِ بقاءُ

ولأبي عتاهية في الشيب ما قد أكثر فيه، فمن ذلك:

إنما الشيبُ لابنِ آدمَ ناعٍ

قامَ في عارضيهِ، ثمَّ نهاهُ

وهذا المعنى قس اتسع فيه الشعر، وقالته الخطباء والوعاظ. وقد قال عدي بن زيد:

ص: 24

وابيضاضُ المشيبِ من نذر المو

تِ، وهل بعدهُ لحيٍّ نذيرُ

وقال مزرد:

فلا مرحباً بالشيبِ من وفدِ زائرٍ

متى زارَ لا تحجب عليهِ لمداخلُ

وقال بعض أهل العصر:

إن الشبابَ نذيرُ الموتِ، ثمَّ إذا

جاءَ المشيبُ، فذاكَ القبرُ والكفنُ

وقال المتنبي:

وإذا الشيخُ قالَ: أفٍ، فما ملَّ

حياةً، وإنما الضعف ملا

وقال أيضاً:

وقد أراني الشبابُ الروحَ في بدني

وقد أراني المشيبُ النقصَ في بدني

وقال آخر:

والشيبُ ضيفٌ إذا ما حلَّ ربعَ فتىً

أعيى ترحلهُ، أوْ يرحلانِ معا

وعن أبي شقيقة الوراق قال: أتاني أبو عتاهية يوماً فجلس في دكاني، وجلس الناس حوله وكتبه عنه، ثم تناول دفتراً من كتبي فكتب عليه:

أيا عجباً كيفَ يعصى الإلهُ

أم كيفَ يجحدهُ الجاحدُ

وللهِ في كلِّ تحريكةٍ

وتسكينةٍ، أبداً، شاهدُ

وفي كلّ ما أبصرتهُ العيونُ

دليلٌ على أنهُ الواحدُ

ثم قام، وجاء أبو نواس فنظر إلى الكتاب، وقرأ ما تب أبو عتاهية، فسألني عن قائل الأبيات، فأخبرته، فقال: أحسن والله لوددت أنها ي بجميع شعري. ثم تناول القلم وكتب:

سبحانَ منْ خلقَ الخل

قَ من ضعيفٍ مهينِ

يسوقهُ من قرارٍ

إلى قرار مكينِ

يجوزُ شيئاً فشيئاً

في الحجبِ دون العيونِ

حتى بدتْ حركاتٌ

مخلوقةٌ من سكونِ

فجاء أبو عتاهية فنظر إليها: فقال: لمن هذه؟ لوددت أنها لي بجميع شعري فانظر إلى اتفاق قوليهما.

ومن معنيه:

نراعُ إذا الجنائزُ قابلتنا

ونلهو إنْ تولتْ مدبراتِ

كروعةِ ثلةٍ لمغارِ سبعٍ

فلما غابَ عادتْ راتعاتِ

وقول الآخر:

نزاعُ لذكرِ الموتِ ساعةَ ذكرهِ

ونعترضُ الدنيا فنلهو ونلعبُ

ومثله لابن دريد:

نهالُ للشيءِ الذي يروعنا

ونرتعي في غفلةٍ إذا انقضى

ومثل ذلك:

إذا مرضنا نوينا كلَّ صالحةٍ

ومن معانيه المسترقة:

ألا يا موتُ لم أرَ منكَ بداً

أبيتَ فما تحيفُ، ولا تحابي

كأنكَ قد هجمتَ على مشيبي

كما هجمَ المشيبُ على شبابي

وله أيضاً:

نحمدُ الله كلنا سنموت

لخرابِ البيوتِ تبنى البيوتُ

وهذا معنى أخذه من قول أبي ذر رحمه الله، فإنه قال: تلدون للموت، وتعمرون للخراب، وتذرون ما يبقى، وتحرصون على ما يفنى.

وقال الآخر:

وللموتِ تغذو الوالداتُ سخالها

كما لخرابِ الدورِ تبنى المنازلُ

وله أيضاً:

منْ أحبَّ الدنيا تحيرَ فيها

واكتسى عقلهُ التباساً وتيها

قنعِ النفسَ بالكفافِ، وإلاّ

طلبتْ منكَ فوقَ ما يكفيها

ليسَ فيما مضى، ولا في الذي لم

يأتِ من لذةٍ لمستحليها

إنما أنتَ طول عمركَ ما عمر

تَ في الساعةِ التي أنتَ فيها

أخذه غيره:

ما مضى فاتَ، والمؤملُ غيبٌ

ولكَ الساعةُ التي أنتَ فيها

وهذا المعنى يروى عن محمد بن الحسن بن عبيد اله الكوفي، قال: كتب إلي داود الفارسي: يا ابن أخي الدنيا دار زلل وزوال، وتغير حال عن حال. ثم كتب في آخر كتابه:

أفرطتَ في العيشِ وتأميلهِ

وللمنايا شيمٌ نكدُ

وإنما عيشُ الفتى ساعةٌ

لا قبلها منهُ، ولا بعدُ

ما أوسعَ الدنيا على أهلها

لو لم يكنْ آخرها لحدُ

وأتى بهذا المعنى ذو اليمينين طاهر بن الحسين فقال:

دنياكَ دنيا هوىً ومتعبةٍ

يشقى بها مستهامها الأشرُ

تبدي لأبنائها مساوئها

عوداً وبدءاً، وليس معتبرُ

ما فاتَ منها كأنهُ حلمٌ

ليسَ له لذةٌ، ولا خطرُ

وليسَ للمرءِ غيرُ ساعتهِ

إن طالَ، أو لم يطلْ به العمرُ

وقال محمود في معنى بديع:

مازالَ يظلمني وأرحمهُ

حتى بكيتُ له من الظلمِ

أخذ هذا المعنى من أبي ذر، إذ أتاه رجل فقال: رأيت فلاناً شتمك حتى رحمتك، فقال: هل سمعتني شتمته؟ فقال: لآ، قال: فياه فارحم. وقال محمد ابن الحجاج: حضرت مجلساً فيه بشار وأبو عتاهية، فقال بشار لأبي عتاهية: أنشدني، فأنشده:

ص: 25

كمْ من صديقٍ لي أسا

رقهُ البكاءَ من الحيا

فإذا تفطنَ لامني

فأقولُ ما بي من بكاءِ

لكنْ ذهبتُ لأرتدي

فطرفتُ عيني بالرداءِ

قال بشار: يا عتبة ما أشعرك! إلا أنك سرقتني، قال: وما قلت يا ابا معاذ؟ قال:

وقالوا: قد بكيتَ، فقلتُ: كلا

وهل يبكي من الجزعِ الجليدُ

ولكني أهابُ سوادَ عيني

عويدُ قذىً له طرفٌ حديدُ

فقالوا: ما لدمعهما سواءٌ

أكلتا مقلتيكَ أصابَ عودُ؟

فقال له أبو عتاهية: وأنت يا بشار أخذت هذا المعنى من قول الآخر:

يقولُ خليلي يومَ أكثبةِ النقا

وعيناي من فرطِ البكا تكفانِ

أمنْ أجل دارٍ بين لوذانَ فالنقا

غداةَ اللوى عيناكَ تبتدرانِ

فقلتُ: ألا لا، بل قذيتُ، وإنما

قذى العينَ مما هيجَ الطللانِ

ومن معاني أبي عتاهية المخترعة:

وإذا شكوتُ إلى المحبِّ رأيتهُ

يجدُ الذي أشكو إليه لديهِ

وإذا شكا أيضاً إليَّ ظننتهُ

قد مسَّ قلبي، مرةً، بيديهِ

منْ لم يكنْ فيما شكوتُ به الذي

في الحبِّ مثلي، هانَ ذاكَ عليهِ

إنَّ المحبَّ إذا تطاولَ سقمهُ

يلقى المحبَّ، فيستريح إليهِ

أخذه بعض المحدثين فقال:

لو علقتَ الهوى عذرتَ، ولكن

إما يعذرُ المحبَّ المحبُّ

ومثله:

لا تلمْ صبوتي فمن حبِّ يصبو

إنما يرحمُ المحبَّ المحبُّ

ويقال: إن أبا عتاهية غلب على قلب الرشيد، فغضب عليه موسى الهادي بذلك السبب، وتوعده، فقال يخاطب المهدي:

ألا شافعٌ عندَ الخليفةِ يشفعُ

فيدفع عني كربَ ما أتوقعُ

فإني، على علمِ الرجاءِ، لخائفٌ

كأنَّ على رأسي الأسنةَ شرعُ

رماني وليُّ العهدِ موسى بغضبةٍ

فلم يكُ لي، إلاّ الخليفةُ، مفزعُ

وليس امرؤٌ يمسي ويصبحُ عائذاً

بظلِّ أميرِ المؤمنينَ، مروعُ

ثم أقبل على مديح موسى. فمن مدائحه قوله:

لهفي على الزمنِ القصيرِ

بين الخورنقِ والسديرِ

إذ نحنُ في غرفِ الجنا

نِ نعومُ في بحرِ السرورِ

في فتيةٍ ملكوا عنا

نَ الدهرِ، أمثالِ الصقورِ

ما منهمُ إلا الجسو

رُ على الهوى، غيرُ الحسورِ

يتعاورونَ مدامةً

صهباءَ من حلبِ العصيرِ

عذراءَ، رباها شعا

ع الشمس في حر الهجيرِ

حلبتْ على قومٍ كرا

مٍ سادةٍ، في درعِ قيرِ

ومشمر يسعى أما

م القومِ كالرشأ الغريرِ

بزجاجةٍ تستخرجُ ال

سرَّ الدفينَ من الضميرِ

تذرُ الحليمَ، وليس يد

ري ما قبيلٌ من دبيرِ

ومخدراتٍ زرننا

بعدَ الهدوِّ من الخدورِ

نفحٌ روادفهنَّ يل

بسنَ الخواتمَ في الخصورِ

متغمساتٍ في النعي

مِ، مضمخاتٍ بالعبيرِ

يرفلنَ في حللِ الجما

لِ، وفي المجاسدِ والحريرِ

ما إنْ يرينَ الشمس إلاّ

الفرط من خللِ الستورِ

ولقد غططنا البؤسَ في

لججِ الغضارةِ والسرورِ

فمحا لذاذةَ عيشنا

مرُّ الليالي والشهورِ

وغدا فألهب في الرؤو

سِ، وفي اللحى شعلَ القتيرِ

فالى ولي العهدِ مه

ربنا من الدهرِ العثورِ

وإليهِ أتعبنا المط

يَّ بالرواحِ، وبالبكورِ

صعرَ الخدودِ كأنه

نَّ كسينَ أجنحةَ النسورِ

هوجاً يطرنَ بزائرٍ

يهدي المديحَ إلى مزورِ

أضحتْ لموسى بيعةٌ

في الملكِ أثبتُ من ثبيرِ

فرضي عنه وأجازه. فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد قدمه ووفر له الجراية، وأمره بملازمته. فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر. وقيل: إنه حج مع الرشيد، فجاء الرشيد يوماً في الطريق، وقد استلقى في ظل ميل، وهو يقول:

ألا يا طالبَ الدنيا

دع الدنيا لشانيكا

فلما تصنعُ بالدنيا

وظلُّ الميلِ يكفيكا

فعجب الرشيد من بديهته.

وعمر أبو عتاهية إلى أيام المأمون، وقد جاوز لسبعين، فقال:

أعينيَّ هلا تبكيانِ على عمري

تناهبتِ الأيامُ عمري ولا أدري

ص: 26