الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت: قراءة من لم يبسمل بين السورتين ينبغي أن يكون ضعيفة لمخالفتها الرسم.
قلت: لا، فإنه يبسمل إذا ابتدأ كل سورة، فهو يرى أن البسملة إنما رسمت في أوائل السور لذلك على أنا نقول الترجيح مع من بسمل مطلقا بين السورتين وعند الابتداء، وذلك على وفق مذهب إمامنا الشافعي (1) رحمه الله، وفي كل ذلك مباحث حسنة ذكرناها في "كتاب البسملة الكبير"، وبالله التوفيق.
(1) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله المكي، أحد الفقهاء الأربعة عند أهل السنة، له تصانيف كثيرة، أشهرها كتابه "الأم" في الفقه، توفي سنة 204هـ "تاريخ بغداد 2/ 56، معجم الأدباء 6/ 367، وفيات الأعيان 1/ 565، تذكرة الحفاظ 1/ 329، طبقات السبكي 1/ 100، غاية النهاية 2/ 95".
فصل:
قال شيخنا أبو الحسن رحمه الله:
"الشاذ مأخوذ من قولهم: شذ الرجل يَشُذ ويَشِذ شذوذا، إذا انفرد عن القوم واعتزل عن جماعتهم، وكفى بهذه التسمية تنبيها على انفراد الشاذ وخروجه عما عليه [71 و] الجمهور، والذي لم تزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن واجتناب الشاذ واتباع القراءة المشهورة ولزوم الطرق المعروفة في الصلاة وغيرها".
"وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم أو
روى عن كل أحد أو روى كل ما سمع".
"وقال خلاد بن يزيد الباهلي (1) : قلت ليحيى بن عبد الله بن أبي مليكة (2) : إن نافعا (3) حدثني عن أبيك عن عائشة أنها كانت تقرأ "إذ تَلِقونه" (4) وتقول: إنما هو ولق الكذب. فقال يحيى: ما يضرك أن لا تكون سمعته عن عائشة، نافع ثقة على أبي وأبي ثقة على عائشة، وما يسرني أني قرأتها هكذا، ولي كذا وكذا. قلت: ولم وأنت تزعم أنها قد قُرئت؟ قال: لأنه غير قراءة الناس، ونحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا وبينه إلا التوبة أو نضرب عنقه، نجيء به، نحن عن الأمة عن الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبري عن الله عز وجل. وتقولون أنتم: حدثنا فلان الأعرج عن فلان الأعمى أن ابن مسعود يقرأ ما بين اللوحين، ما أدري ماذا، إنما هو والله ضرب العنق أو التوبة".
"وقال [71 ظ] هارون (5) : ذكرت ذلك لأبي عمرو -يعني القراءة
(1) هو خلاد بن يزيد الباهلي، أبو الهيثم البصري، المعروف بالأرقط، توفي سنة 220هـ "ميزان الاعتدال 1/ 308، غاية النهاية 1/ 275، تهذيب التهذيب 3/ 176".
(2)
هو يحيى بن عبد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي، توفي سنة 173هـ "ميزان الاعتدال 3/ 294، تهذيب التهذيب 11/ 242".
(3)
هو نافع بن عمر بن عبد الله القرشي الجمحي المكي، الحافظ، توفي سنة 169هـ "تذكرة الحفاظ 1/ 213، تهذيب التهذيب 10/ 409".
(4)
بكسر اللام وضم القاف كما ذكره الطبري في تفسيره، والتي في قراءة القراء المشهورين {إِذْ تَلَقَّوْنَه} بفتح اللام والقاف مشددة "النور: 15"، وقال الطبري في تفسيره 18/ 98 بعد ذكر هذه الرواية: "والقراءة التي لا أستجيز غير إذ تلقونه"، على ما ذكرت من قراءة الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليها".
(5)
هو هارون بن موسى الأعور الأزدي العتكي بالولاء، أبو عبد الله البصري، قال ابن الجزري في وفاته:"مات هارون فيما أحسب قبل المائتين""غاية النهاية 2/ 348، تهذيب التهذيب 11/ 14".
المعزوة إلى عائشة فقال: قد سمعت هذا قبل أن تولد، ولكنا لا نأخذ به. وقال أبو عمرو في رواية أخرى: إني أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة".
"قال أبو حاتم السجستاني: أول من تتبع بالبصرة وجوه القراءات وألفها وتتبع الشاذ منها فبحث عن إسناده هارون بن موسى الأعور، وكان من العتيك مولى، وكان من القراء فكره الناس ذلك، وقالوا: قد أساء حين ألفها، وذلك أن القراءة إنما يأخذها هارون وأمة عن أفواه الأمة، ولا يلتفت منها إلى ما جاء من وراء وراء".
"وقال الأصمعي (1) عن هارون المذكور: وكان ثقة مأمونا، قال: وكنت أشتهي أن يضرب لمكان تأليفه الحروف"(2) .
ثم قال الشيخ:
"فإن قيل: فهل في هذه الشواذ شيء تجوز القراءة به؟ "
"قلت: لا تجوز القراءة بشيء منها لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي ثبت به القرآن -وهو التواتر- وإن كان موافقا للعربية وخط المصحف؛ لأنه جاء من طريق الآحاد، وإن كانت نقلته ثقات. فتلك الطريق لا يثبت بها القرآن. ومنها ما نقله من لا يعتد بنقله ولا يوثق [72 و]
(1) هو عبد الله بن قريب الأصمعي، أبو سعيد البصري، أحد أئمة اللغة والغريب والأخبار، له مؤلفات، توفي سنة 215هـ "مراتب النحويين ص46، غاية النهاية 1/ 470، تهذيب التهذيب 6/ 415".
(2)
جمال القراء ص 61و-62و.
بخبره، فهذا أيضا مردود، لا تجوز القراءة به ولا يقبل، وإن وافق العربية وخط المصحف، نحو "ملكَ يوم الدين"(1) بالنصب (2) .
قلت: هذا كلام صحيح، ولكن الشاذ في ضبط ما تواتر من ذلك وما أجمع عليه.
ثم قال: "ولقد نبغ في هذا الزمان قوم يطالعون كتب الشواذ ويقرءون بما فيها، وربما صحفوا ذلك فيزداد الأمر ظلمة وعمى"(3) .
قلت: وقد سبق في الباب الثالث ما نقله ابن عبد البر عن مالك رحمه الله من المنع من قراءة ما خالف المصحف في الصلاة (4)، قال مالك:
"من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف، لم يصل وراءه".
قال أبو عمر:
"وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلا قوما شذوا لا يعرج عليهم"(5) .
قلت: وقد ذكر الإمام أبو بكر الشاشي (6) في كتابه المسمى بالمستظهري
(1) الفاتحة: 4، لعله يشير إلى قراءة علي بن أبي طالب، بنصب اللام والكاف ونصب "يوم" "انظر: الإبانة ص75".
(2)
جمال القراء ص63ظ.
(3)
جمال القراء ص63ظ.
(4)
انظر ص105.
(5)
التمهيد 4/ 65ظ.
(6)
هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، أبو بكر الشاشي، له مؤلفات، توفي سنة 507هـ "وفيات الأعيان 1/ 588، طبقات السبكي 4/ 57".
نقلا عن القاضي الحسين (1) وهو من كبار فقهاء الشافعية المراوزة (2) : "إن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح".
ثم قال أبو بكر: "هذا فيما يحيل المعنى عن المشهور، فإن لم يحل صحت".
قلت: ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن ذلك وعن قراءة القارئ عشرا، كل آية بقراءة قارئ، فأجاب عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا، [72 ظ] منهم شيخا الشافعية والمالكية حينئذ -وكلاهما أبو عمرو عثمان- (3)، قال شيخ الشافعية:
"يشترط أن يكون المقروء به قد تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا أو استفاض نقله كذلك وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع؛ لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول، فما لم يوجد فيه ذلك كما عدا السبع أو كما عدا العشر فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة، وممنوع منه من
(1) هو الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروزي، توفي سنة 462هـ "وفيات الأعيان 1/ 182، طبقات السبكي 3/ 155".
(2)
المراوزة: جمع مروزي: نسبة إلى مدينة "مرو" عاصمة خراسان.
(3)
قال الزركشي في البرهان 1/ 332، بعد ذكر "وكلاهما أبو عمرو عثمان" نقلا عن أبي شامة:"يعني ابن الصلاح وابن الحاجب". أبو عمرو عثمان بن الصلاح: هو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الشهرزوري الكردي الشرخاني، أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وغيرها من العلوم، توفي سنة 643هـ "وفيات الأعيان 1/ 393، طبقات السبكي 5/ 137".
وأبو عمرو عثمان بن الحاجب شيخ المالكية: هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي، المتوفى سنة 646هـ، من كبار العلماء بالفقه والعربية والقراءات "وفيات الأعيان 1/ 395، غاية النهاية 1/ 508".
عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك، وواجب على ما قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك، وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد فيها تتعلق بعلم العربية، لا للقراءة بها، هذا طريق من استقام سبيله".
ثم قال: "والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاطة، متلقاة بالقبول من الأمة كما اشتمل عليه "المحتسب" لابن جني (1) وغيره، وأما القراءة بالمعنى على تجوزه من غير أن ينقل قرآنا فليس ذلك من القراءات الشاذة أصلا، والمجترئ على ذلك مجترى على عظيم وضال ضلا [73 و] لا بعيدًا، فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه ولا يخلي ذا ضلالة ولا يحل للمتمكن من ذلك إمهاله، ويجب منع القارئ بالشاذ وتأثيمه بعد تعريفه، وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه".
"إذا شاع القارئ بقراءة فينبغي أن لا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام تعلق بما ابتدأ به، وما خالف هذا ففيه جائز وممتنع، وعذر المرض منع من بيانه بحقه، والعلم عند الله تبارك وتعالى"(2) .
وقال شيخ المالكية رحمه الله:
"لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها، عالما كان بالعربية أو جاهلا. وإذا قرأ بها قارئ فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به وأمر بتركها، وإن كان عالما أدب بشرطه، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره
(1) هو عثمان بن جني، أبو الفتح الموصلي النحوي، عالم بالعربية، له تصانيف،، منها كتابه "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها"، توفي سنة 392هـ "معجم الأدباء 5/ 15، وفيات الأعيان 1/ 394، بغية الوعاة ص322".
(2)
انظر: فتاوى ابن الصلاح ص47ظ، 48ظ.
وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك".
"وأما تبديل "أتينا" بأعطينا و"سولت" بزينت ونحوه، فليس هذا من الشواذ، وهو أشد تحريما، والتأديب عليه أبلغ، والمنع منه أوجب".
"وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فالأولى أن لا يفعل، نعم، إن قرأ بقراءتين في موضع إحداهما مبنية على الأخرى، مثل أن يقرأ "نغفر لكم" بالنون و"خطيئاتكم" بالرفع (1) ، ومثل "إن تضل إحديهما" بالكسر (2) "فتذكر إحديهما" بالنصب (3) ، فهذا أيضا [73 ظ] ممتنع، وحكم المنع كما تقدم، والله أعلم".
قلت: المنع من هذا ظاهر، وأما ما ليس كذلك فلا منع منه، فإن الجميع جائز، والتخيير في هذا، وأكثر منه كان حاصلا بما ثبت من إنزال القرآن على سبعة أحرف توسعة على القراء، فلا ينبغي أن يضيق بالمنع من هذا ولا ضرر فيه، نعم، أكره ترداد الآية بقراءات مختلفة كما يفعله أهل زماننا في جميع القراءات لما فيه من الابتداع، ولم يرد في شيء عن المتقدمين. وقد بلغني كراهته عن بعض متصدري المغاربة المتأخرين، والله أعلم.
(1) لأن الصواب أن يقرأ "تغفر لكم خطيئاتكم""الأعراف: 161" بالتاء مضمومة وفتح الفاء في "تغفر" ورفع التاء في "خطيئاتكم" كما قرأ نافع: أو أن يقرأ "نغفر لكم" بالنون و"خطيئاتكم" بكسر التاء كما قرأ عاصم وغيره "انظر: التيسير ص114، والنشر 2/ 215، 272".
(2)
بكسر الهمزة على قراءة حمزة.
(3)
بنصب الراء على قراءة الباقين من غير حمزة. إن الصواب أن يقرأ "إن تضل" بكسر الهمزة و"فتذكر" برفع الراء على قراءة حمزة، أو "أن تضل" بفتح الهمزة و"فتذكر" "البقرة: 282" بفتح الراء كما قرأ الباقون "انظر: التيسير ص85، والنشر 2/ 236".