الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
قال الإمام أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم -وهو صاحب الإمامين أبي بكر بن مجاهد وأبي جعفر الطبري- في أول "كتاب البيان" عن اختلاف القراءة.
"وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا، فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية لحرف من القرآن، يوافق خط المصحف فقراءته به جائزة في الصلاة وفي غيرها، فابتدع بفعله ذلك بدعة ضل بها عن قصد السبيل، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله، وحاول إلحاق كتاب الله عز وجل من الباطل ما لا يأتيه [74 و] من بين يديه ولا من خلفه، إذا جعل لأهل الإلحاد في دين الله عز وجل بسيئ رأيه طريقا إلى مغالطة أهل الحق بتخير القراءات من جهة البحث والاستخراج بالآراء دون الاعتصام والتمسك بالأثر المفترض على أهل الإسلام قبولة والأخذ به كابرًا عن كابر وخالفا عن سالف".
"وكان أبو بكر بن مجاهد -نضر الله وجهه- نشله من بدعته المضلة باستتابته منها، وأشهد عليه بترك ما ارتكبه من الضلالة بعد أن سئل البرهان على صحة ما ذهب إليه، فلم يأت بطائل، ولم تكن له حجة قوية ولا ضعيفة، فاستوهب أبو بكر رحمه الله تأديبه من السلطان عند توبته وإظهار الإقلاع عن بدعته".
قال: "ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى من أصاغر المسلمين ممن هو في الغفلة والغباوة دونه ظنا منه أن ذلك يكون للناس دينا،
وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماما، ولن يعدو ما ضل به مجلسه؛ لأن الله عز وجل قد أعلمنا أنه حافظ كتابه من لغط الزائغين وشبهات الملحدين بقوله عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} " (1) .
قلت: هذا الشخص المشار إليه هو أبو الحسن [74 ظ] محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت المقرئ المعروف بابن شنبوذ البغدادي (2) في طبقة ابن مجاهد مقرئ مشهور.
قال الخطيب (3) في "تاريخ بغداد":
"روى عن خلق كثير من شيوخ الشام ومصر وكان قد تخير لنفسه حروفا من شواذ القراءات تخالف الإجماع يقرأ بها. فصنف أبو بكر بن الأنباري وغيره كتبا في الرد عليه".
"وقال إسماعيل الخطبي (4) في كتاب التاريخ: اشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ، يقرئ الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف مما يروى عن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما مما كان يقرأ به قبل جمع المصحف الذي جمعه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويتتبع الشواذ فيقرأ بها ويجادل، حتى عظم أمره وفحش، وأنكره الناس، فوجه
(1) الحجر: 9.
(2)
هو من كبار القراء، وصنف في ذلك كتبا، توفي سنة 328هـ "الفهرست ص53، تاريخ بغداد 1/ 280، معجم الأدباء 6/ 300، غاية النهاية 2/ 52".
(3)
هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر البغدادي، المعروف بالخطيب، أحد الحفاظ المؤرخين المتقدمين، تصانيفه أكثر من ستين كتابا، توفي سنة 463هـ "معجم الأدباء 1/ 246، وفيات الأعيان 1/ 32، طبقات السبكي 3/ 12".
(4)
هو إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أبو محمد الخطبي، مؤرخ ثقة، توفي سنة 350هـ "المنتظم 7/ 3".
السلطان (1) فقبض عليه في يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلى دار الوزير محمد بن علي -يعني ابن مقلة- (2) وأحضر القضاة والفقهاء والقراء وناظره -يعني الوزير- بحضرتهم، فأقام على ما ذكر عنه ونصره واستنزله الوزير عن ذلك [75 و] فأبى أن ينزل عنه أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف وتخالفه، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره إلى الرجوع فأمر بتجريده وإقامته بين الهنبازين وضربه بالدرة على قفاه، فضرب نحو العشرة ضربا شديدا، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة فخلي عنه وأعيدت عليه ثيابه واستتيب، وكتب عليه كتاب بتوبته وأخذ فيه خطه بالتوبة" (3) .
وقرأت في تاريخ هارون بن المأمون قال:
"وفي أيام الراضي ضرب ابن مقلة ابن شنبوذ سبع درر لأجل قراءة أنكرت عليه ودعا عليه بقطع اليد وتشتت الشمل فقطعت يده ثم لسانه.
وقرأت في تاريخ ثابت بن سنان (4) شرح هذه القصة فقال:
"بلغ الوزير أبا علي محمد بن مقلة أن رجلا -يعرف بابن شنبوذ-
(1) هو محمد بن المقتدر بن المعتضد، أبو العباس، المعروف بالراضي بالله، توفي سنة 329هـ "وفيات الأعيان 2/ 80، تاريخ ابن خلدون 3/ 399، تاريخ الخلفاء ص157".
(2)
هو محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله، أبو علي، المعروف بابن مقلة، توفي سنة 328هـ "المنتظم 6/ 309، وفيات الأعيان 2/ 79، الأعلام 7/ 157".
(3)
تاريخ بغداد 1/ 280.
(4)
هو ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة بن مروان، أبو الحسن الصابي، طبيب، مؤرخ، له تصانيف، توفي سنة 365هـ "معجم الأدباء 2/ 397، شذرات الذهب 3/ 44".
بغير حروفا من القرآن، فاستحضره واعتقله في داره أياما، ثم استحضر القاضي أبا الحسين عمر بن محمد (1) وأبا بكر أحمد بن موسى بن مجاهد وجماعة من أهل القرآن، وأحضر ابن شنبوذ ونوظر بحضرة الوزير، فأغلظ للوزير [75 ظ] في الخطاب وللقاضي ولابن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة، وعيرهم بأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، واستصبى القاضي، فأمر الوزير بضربه، فنصب بين الهنبازين وضرب سبع درر، فدعا -وهو يضرب- على ابن مقلة بأن تقطع يده ويشتت شمله، ثم وقف على الحروف التي قيل إنه يقرأ بها فأنكر ما كان منها شنعا".
وقال فيما سوى ذلك: "إنه قد قرأ به قوم فاستتابوه فتاب. وقال: إنه قد رجع عما كان يقرأ به وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان رضي الله عنه وبالقراءة المتعاملة المشهورة التي يقرأ بها الناس، فكتب عليه الوزير أبو علي محضرًا بما سمع من لفظه، صورته:
"يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: قد كنت أقرأ حروفا تخالف ما في مصحف عثمان المجمع عليه الذي اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلاوته، ثم بان لي أن ذلك خطأ، فأنا منه تائب، وعنه مقلع، وإلى الله عز وجل منه بريء؛ إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا أن يقرأ بغير ما فيه".
"وكتب ابن شنبوذ فيه:
يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: إن [76 و] .
(1) هو عمر بن محمد بن يوسف، أبو الحسين الأزدي، عالم بالحديث والفرائض واللغة، له مؤلفات، توفي سنة 328هـ "المنتظم 6/ 305، بغية الوعاة ص364".
ما في هذه الرقعة صحيح، وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عز وجل وسائر من حضر على نفسي بذلك".
"وكتب بخطه:
"فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره فأمير المؤمنين (1) -وأطال الله بقاه- في حل وفي سعة من دمي، وذلك في يوم الأحد لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في مجلس الوزير أبي علي بن علي، أدام الله توفيقه".
"وكان مما اعترف به يومئذ: "فامضوا إلى ذكر الله" (2) ، "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون" (3) ، "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" (4) ، "كالصوف المنفوش" (5) ، "تبت يدا أبي لهب وقد تب" (6) ، "فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب" (7) ،
(1) هو الراضي بالله، سبقت ترجمته في الحاشية رقم1 ص188.
(2)
بدلا من {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} في سورة الجمعة: 9، انظر الحاشية رقم 7 ص104.
(3)
هي قراءة تروى عن علي بن أبي طالب "انظر: تفسير الطبري 27/ 208، والكشاف 4/ 469". وقراءتنا: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} "الواقعة: 82".
(4)
الكهف: 79، انظر الحاشية رقم 4 ص111.
(5)
بدلا من {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش} "القارعة: 5"، انظر الحاشية رقم 2 ص95.
(6)
بزيادة "قد""لهب: 1"، هي قراءة عبد الله بن مسعود "انظر: تفسير الطبري 30/ 336، والكشاف 4/ 814".
(7)
سبأ: 14، هكذا كان يقرؤها عبد الله بن عباس كما في تفسير الطبري 22/ 74، وقال الزمخشري في الكشاف 3/ 574:"وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: تبينت الأنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب" ولم يذكر "ما لبثوا حولا في العذاب" التي سبقت في قراءة ابن عباس، والقراءة المعروفة في هذه الآية: {فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين} .
"والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى"(1) و"فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما"(2) ، "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم"(3) ، "ولتكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(4) .
"وتحت ذلك بخط ابن مجاهد:
"اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الوقعة بحضرتي وكتب ابن مجاهد بيده". [76 ظ]
قلت: ثم مات ابن شنبوذ في صفر سنة ثمان وعشرين بعد موت ابن مجاهد بأربع سنين، وعزل ابن مقلة ونكب في سنة أربع وعشرين بعد نكبة ابن شنبوذ بسنة واحدة، فجرى عليه من الإهانة بالضرب والتعليق والمصادرة أمر عظيم، ثم آل أمره إلى قطع يده ولسانه ونسأل الله تعالى العافية.
وابن شنبوذ وإن كان ليس بمصيب فيما ذهب إليه ولكن خطأه في واقعة لا يسقط حقه من حرمة أهل القرآن والعلم، فكان الرفق به ومداراته أولى
(1) الليل: 2، 3 انظر ص154.
(2)
بدلا من {فَقَدْ كَذَّبْتُم} في سورة الفرقان: 77 "انظر: الكشاف 3/ 297".
(3)
آل عمران: 104، بزيادة "ويستعينون الله على ما أصابهم"، وهي قراءة عثمان بن عفان وعبد الله بن الزبير كما في تفسير الطبري 4/ 38.
(4)
الأنفال: 73، قراءة "فساد عريض" تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بدلا من {فَسَادٌ كَبِير} كما ذكره أبو حيان في البحر المحيط 4/ 523.
من إقامته مقام الدعار المفسدين في الأرض وإجرائه مجراهم في العقوبة، فكان اعتقاله وإغلاظ القول له كافيا في ذلك إن شاء الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى:{يَفْعَلُ مَا يَشَاء} (1) ويبتلي من شاء بما شاء سبحانه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل} (2) ، وهو تعالى أعلم وأحكم.
(1) آل عمران: 40، الحج:18.
(2)
الأنبياء: 23.