الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في المراد بالأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها
وفي ذلك اختلاف كثير، وكلام للمصنفين طويل، فنذكر ما أمكن من ذلك مع بيان ما نختاره في تفسير ذلك بعون الله تعالى.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في كتاب "غريب الحديث": قوله سبعة أحرف يعني سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، هذا لم نسمع به قط، ولكن نقول: هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه نزل بلغة هوازن، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة أهل اليمن، وكذلك سائر اللغات، ومعانيها في هذا كله واحدة، قال: ومما يبين ذلك قول [34و] ابن مسعود رضي الله عنه: "إني سمعت القرأة فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم، إنما هو كقول أحدكم هلم وتعالى"(1)، وكذلك قال ابن سيرين:"إنما هو كقولك هلم وتعالى وأقبل"، ثم فسره ابن سيرين فقال: في قراءة ابن مسعود "إن كانت إلا زقية واحدة"، وفي قراءتنا:{صَيْحَةً وَاحِدَةً} (2) ، فالمعنى فيهما واحد، وعلى هذا سائر اللغات (3) .
وقال في كتاب "فضائل القرآن": وليس معنى تلك السبعة أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه، هذا شيء غير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فيكون الحرف منها بلغة قبيلة، والثاني بلغة أخرى سوى الأولى، والثالث بلغة
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 373 و؛ وانظر ص32/ ظ، 51/ وأيضا.
(2)
يس: 29؛ وذكرها الزمخشري في الكشاف 4/ 13؛ وانظر ص147 أيضا، وفي كل نسخ مصحف عثمان "صيحة".
(3)
غريب الحديث 3/ 159، 160.
أخرى سواهما، كذلك إلى سبعة، وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذلك بين في أحاديث تترى:
حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك أن عثمان رحمة الله عليه قال للرهط القرشيين الثلاثة حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتهم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم (1) .
قلت: يعني أول نزوله قبل الرخصة في قراءته على سبعة أحرف.
قال أبو عبيد: وكذلك يحدثون عن سعيد بن أبي عروبة (2) عن قتادة عمن سمع ابن عباس يقول: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب بن قريش وكعب بن خزاعة [34 ظ] قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة (3) .
قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم (4) .
وأما الكلبي (5) فإنه يروي عنه عن أبي صالح (6) عن ابن عباس قال: نزل
(1) انظر: التمهيد 4/ 62ظ-63و.
(2)
هو سعيد بن أبي عروبة العدوي، أبو النضر البصري، إمام أهل البصرة في زمانه، لكنه تغير مذهبه بآخر عمره ورمي بالقدر، له مؤلفات، توفي سنة 156هـ على خلاف "تهذيب التهذيب 4/ 63، ميزان الاعتدال 1/ 387".
(3)
انظر: التمهيد 4/ 63و.
(4)
انظر: التمهيد 4/ 63و.
(5)
هو محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي، أبو النضر الكوفي، عالم بالتفسير وأنساب العرب وأحاديثهم، ولم يعد ثقة في الحديث، توفي سنة 146هـ "وفيات الأعيان 1/ 624، تهذيب التهذيب 9/ 178".
(6)
هو باذام "ويقال باذان" أبو صالح مولى أم هاني بنت أبي طالب، ليس بثقة في التفسير عند الجمهور "تهذيب التهذيب 1/ 416".
القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن (1) .
قال أبو عبيد: والعجز هم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهذه القبائل هي التي يقال لها: عليا هوازن، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء (2) : أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم. فهذه عليا هوازن، وأما سفلى تميم فبنو دارم، فهذه سبع قبائل.
قلت: والكعبان كعب بن لؤي من قريش، وكعب بن عمرو من خزاعة.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي (3) : معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" مشكل لا يدرى معناه؛ لأن العرب تسمي الكلمة المنظومة حرفا، وتسمي القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على الحرف المقطوع من الحروف المعجمة، والحرف أيضا المعنى والجهة كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} (4) أي على جهة من الجهات ومعنى من المعاني.
قال أبو علي الأهوازي (5) : سمعت أبا عبد الله محمد بن المعلى
(1) هذه الرواية تأتي للمؤلف في ص102، 130.
(2)
هو زبان بن العلاء بن عمار بن عريان بن عبد الله التميمي المازني، أبو عمرو البصري، أحد القراء السبعة، قرأ على الحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم، توفي سنة 154هـ "مراتب النحويين ص13، معجم الأدباء 4/ 216، وفيات الأعيان 1/ 488، غاية النهاية 1/ 288، بغية الوعاة ص367".
(3)
هو محمد بن سعدان، أبو جعفر الكوفي الضرير، مقرئ، نحوي، صنف كتبًا في القراءات والنحو وغيرهما، توفي سنة 231هـ "إنباه الرواة 3/ 140، تاريخ بغداد 5/ 324، غاية النهاية 2/ 143".
(4)
الحج: 11.
(5)
هو الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد، أبو علي الأهوازي، مقرئ الشام في عصره له تصانيف، لم يعد ثقة في الحديث، توفي سنة 446هـ "ميزان الاعتدال 1/ 237، غاية النهاية 1/ 220، لسان الميزان 2/ 237".
الأزدي (1) بالبصرة يقول: سمعت أبا بكر محمد بن دريد الأزدي (2) يقول: سمعت أبا حاتم سهل بن محمد السجستاني يقول: معنى سبعة أحرف سبع لغات [35 و] من لغات العرب، وذلك أن القرآن نزل بلغة قريش وهذيل وتميم وأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر، قال: وسمعت أبا الحسن علي بن إسماعيل بن الحسن القطان (3) يقول: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم (4) يقول: سمعت أبي يقول: وهذا القول عظيم من قائله؛ لأنه غير جائز أن يكون في القرآن لغة تخالف لغة قريش لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (5) ، إلا أن يكون القائل لهذا أراد ما وافق من هذه اللغات لغة قريش.
وعن أيوب السختياني أنه قال: معنى قوله تعالى: {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أراد العرب كلهم.
(1) هو محمد بن المعلى بن عبد الله الأسدي، أبو عبد الله الأزدي، النحوي، اللغوي "معجم الأدباء 7/ 107، بغية الوعاة ص106".
(2)
هو محمد بن الحسن بن دريد، أبو بكر الأزدي، اللغوي، الشافعي، يقال له: أشعر العلماء وأعلم الشعراء، توفي سنة 321هـ "إنباه الرواة 3/ 92، تاريخ بغداد 2/ 195، بغية الوعاة ص30".
(3)
هو علي بن إسماعيل بن الحسن بن إسحاق، أبو الحسن البصري القطان، المعروف بالخاشع، توفي سنة 390هـ "غاية النهاية 1/ 526".
(4)
هو أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو جعفر الدينوري، قاض، فقيه، توفي سنة 322هـ "تاريخ بغداد 4/ 229، شذرات الذهب 2/ 170".
(5)
إبراهيم: 4.
قلت: فعلى هذا القول لا يستقيم اعتراض ابن قتيبة (1) على ذلك التأويل.
وقد قال بعض الشيوخ: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربي إذا فارق لغته التي طبع عليها يدخل عليه الحمية من ذلك، فتأخذه العزة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منا منه عز وجل لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على ما عهد رسول الله [35 ظ] صلى الله عليه وسلم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء في القرآن ألفاظ مخالفة ألفاظ المصحف المجمع عليه، كالصوف وهو "العهن"(2) ، وزقية وهي "صيحة"(3) ، وحططنا وهي "وضعنا"(4) ، وحطب جعنم وهي "حصب"(5) ونحو ذلك، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رجل منهم متمسك بما أجازه له صلى الله عليه وسلم وإن كان مخالفا لقراءة
(1) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، الشهير بابن قتيبة، صنف التصانيف المفيدة في القرآن والحديث والأدب وغيرها، توفي سنة 276هـ "مراتب النحويين ص84، إنباه الرواة 2/ 143، وفيات الأعيان 1/ 314".
(2)
القارعة: 5، قراءة "الصوف" لبعد الله بن مسعود كما سيذكر المؤلف نفسه في ص147، وذكره البخاري في صحيحه 6/ 91، والزمخشري في الكشاف 4/ 790، والقراءة به غير متواترة.
(3)
يس: 29، انظر ص91.
(4)
الانشراح: 20، قراءة "حططنا" تروى عن أنس بن مالك "انظر: الكشاف 4/ 770".
(5)
الأنبياء: 98، نسب ابن جرير الطبري في تفسيره 17/ 94 هذه القراءة لعلي بن أبي طالب وعائشة.
صاحبه في اللفظ، وعول المهاجرون والأنصار ومن تبعهم على العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام في العام الذي قبض فيه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه في كل سنة مرة جميع ما أنزل عليه فيها إلا في السنة التي قبض فيها، فإنه عرض عليه مرتين.
قلت: وهذا كلام مستقيم حسن، وتتمته أن يقال:
أباح الله تعالى أن يقرأ على سبعة أحرف ما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن وعلى دونها ما يحتمل ذلك من جهة اختلاف اللغات وترادف الألفاظ توسيعا على العباد، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لما أوحي إليه أن يقرأه على حرفين وثلاثة: "هون على أمتي
…
" (1) على ما سبق ذكره في أول الباب، فلما انتهى إلى سبعة وقف، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يحتاج من ألفاظه لفظة إلى أكثر من ذلك غالبا، والله أعلم.
وإنما غرضنا الآن تحقيق معنى [36 و] هذا العدد الذي هو سبعة أحرف.
قال الأهوازي: وقالت طائفة: سبع لغات من قريش حسب. وقال بعضهم: خمس منها بلغة هوازن، وحرفان لسائر لغات العرب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربي في هوازن ونشأ في هذيل. وجاء عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: نزل القرآن بلغة كل حي من أحياء العرب. وفي رواية عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ الناس بلغة واحدة، فاشتد ذلك عليهم، فنزل
(1) انظر رواية مسلم في ص79.
جبريل فقال: يا محمد، أقرئ كل قوم بلغتهم.
قلت: هذا هو الحق؛ لأنه إنما أبيح أن يقرأ بغير لسان قريش توسعة على العرب، فلا ينبغي أن يوسع على قوم دون قوم، فلا يكلف أحد إلا قدر استطاعته، فمن كانت لغته الإمالة، أو تخفيف الهمز، أو الإدغام، أو ضم ميم الجمع، أو صلة هاء الكناية، أو نحو ذلك فكيف يكلف غيره؟ وكذا كل من كان من لغته أن ينطق بالشين التي كالجيم، والجيم التي كالكاف، ونحو ذلك، فهم في ذلك بمنزلة الألثغ (1) والأرت (2) ، لا يكلف ما ليس في وسعه، وعليه أن يتعلم ويجتهد، والله أعلم.
وقد قال أبو بكر بن العربي شيخ السهيلي (3) في كتاب شرح الموطأ.
"لم تتعين هذه السبعة بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بإجماع من الصحابة، وقد اختلفت فيها الأقوال، فقال ابن عباس: اللغات [36 ظ] سبع والسماوات سبع والأرضون سبع، وعدد السبعات، وكأن معناه أنه نزل بلغة العرب كلها، وقيل: هذه الأحرف في لغة واحدة، وقيل: هي تبديل الكلمات إذا استوى المعنى (4) .
وقال أبو سليمان الخطابي:
(1) الألثغ: من كان بلسانه لثغة، أي قلب السين ثاء أو الراء غينا.
(2)
الأرت: من كان في لسانه رتة، أي عجمة وعدم أفصاح.
(3)
مرت ترجمة ابن العربي في الحاشية رقم 2 ص490 والسهيلي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم وأبو زيد، الحافظ، توفي سنة 581هـ "وفيات الأعيان 1/ 351، تذكرة الحفاظ 4/ 137، غاية النهاية 1/ 371".
(4)
القبس ص45ظ.
"اختلف الناس في تفسير قوله "سبعة أحرف" فقال بعضهم: معنى الحروف اللغات، يريد أنه نزل على سبع لغات من لغات العرب، هي أفصح اللغات، وأعلاها في كلامهم، قالوا: وهذه اللغات متفرقة في القرآن، غير مجتمعة في الكلمة الواحدة، وإلى نحو من هذا أشار أبو عبيد. وقال القتبي: لا نعرف في القرآن حرفا يقرأ على سبعة أحرف (1) . وقال ابن الأنباري (2) هذا غلط، فقد وجد في القرآن حروف تقرأ على سبعة أحرف، منها قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوت} (3) وقوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} (4) ، وذكر وجوها، كأنه يذهب في تأويل الحديث إلى أن بعض القرآن أنزل على سبعة أحرف، لا كله".
(1) انظر: تأويل مشكل القرآن ص26.
(2)
هو محمد بن القاسم بن محمد، أبو بكر بن الأنباري البغدادي، صنف التصانيف الكثيرة في القراءات وغيرها، توفي سنة 328هـ "تاريخ بغداد 3/ 181، تذكرة الحفاظ 3/ 57، بغية الوعاة ص91".
(3)
المائدة: 60، ذكر ابن جني فيها عشر قراءات، وهي: 1، "وعبد الطاغوت" على "فعل" ونصب "الطاغوت"، 2،"وعبد الطاغوت" بفتح العين وضم الباء وفتح الدال وخفض "الطاغوت" وهما في السبعة، 3، "وعبد الطاغوت" بضم العين والباء وفتح الدال وخفض "الطاغوت"، 4، و"عبد الطاغوت" بضم العين وفتح الباء وتشديدها وفتح الدال وخفض "الطاغوت"، 5، "وعباد الطاغوت" بتشديد الباء وألف بعدها وفتح الدال وخفض "الطاغوت"، 6، "وعباد الطاغوت" بكسر العين وألف بعد الباء وفتح الدال وخفض "الطاغوت"، 7، "وعبد الطاغوت" مبنيا للمجهول، 8، "وعابد الطاغوت" بفتح الدال وخفض "الطاغوت"، 9، "وعبدوا الطاغوت" بواو، 10، "وعبد الطاغوت" بضم العين وفتح الباء والدال وخفض "الطاغوت" "انظر: المحتسب 1/ 214- 215".
(4)
الأوجه السبعة في هذه الآية هي ما يأتي: 1، "يرتع ويلعب" بالياء فيهما وكسر عين "يرتع" من غير ياء، والفعلان مجزومان، 2، "يرتع ويلعب" بالياء كذلك فيهما، لكن=
"وذكر بعضهم وجها آخر، وهو أن القرآن أنزل مرخصا للقارئ، وموسعا عليه أن يقرأه على سبعة أحرف، أي يقرأ بأي حرف شاء منها على البدل من صاحبه، ولو أراد أن يقرأ على معنى ما قاله ابن الأنباري لقيل: أنزل القرآن سبعة أحرف، وإنما قيل: "على سبعة أحرف" ليعلم أنه أريد به هذا المعنى، أي كأنه أنزل على هذا من الشرط، أو على هذا من الرخصة والتوسعة، وذلك لتسهل قراءته على الناس، ولو أخذوا [37 و] بأن يقرءوه على حرف واحد لشق عليهم، ولكان ذلك داعية إلى الزهاد فيه وسببا للنفور عنه".
قال: "وقيل: فيه وجه آخر، وهو أن المراد به التوسعة، ليس حصرًا للعدد"(1) .
قلت: هذا موافق لما سبق تقريره على ما روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، وهو كما قيل في معنى قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (2) إنه جرى كالمثل في التعبير عن التكثير، لا حصرا في هذا العدد، والله أعلم.
وقال أبو القاسم الهذلي (3) في كتابه "الكامل": قال أبو عبيد: المقصود
= مع سكون العين، 3، "نرتع ونلعب" بالنون فيهما وسكون العين، 4، "نرتع ونلعب" بالنون فيهما وكسر العين من غير ياء، 5، "نرتعي ونعلب" بالنون فيهما وإثبات الياء بعد العين على لغة من يثبت حرف العلة في الجزم، هذه القراءات كلها في السبعة، 6، "يرتع ويلعب" بالياء فيهما وكسر عين "يرتع" وضم ياء "يلعب"، 7، "يرتع ويلعب" بضم ياء "يرتع" وسكون العين "انظر: المحتسب 1/ 333، التيسير ص128، 131، اتحاف فضلاء البشر ص262".
(1)
معالم السنن 1/ 292.
(2)
التوبة: 80.
(3)
هو يوسف بن علي بن جبارة البسكري، أبو القاسم الهذلي مقرئ، نحوي، عالم بالقراءات والعربية، كان ضرير البصر، له تصانيف في القراءات وغيرها، توفي سنة 465هـ "معجم الأدباء 7/ 308، غاية النهاية 2/ 397، لسان الميزان 6/ 325".
سبع لغات، لغة قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن، وقيل: خمس لغات في أكناف هوازن: لسعيد وثقيف وكنانة وهذيل وقريش ولغتان على جميع ألسنة العرب. قال: وليس الشرط أن تأتي سبع لغات في كل حرف، بل يجوز أن يأتي في حرف وجهان أو ثلاثة أو أكثر، ولم تأت سبعة أحرف إلا في كلمات يسيرة، مثل:"أف" بالضم والفتح والكسر (1) مع التنوين وبغير تنوين مع الحركات الثلاث وبالسكون.
فصل:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر (2) في "كتاب التمهيد":
"وهذا مجتمع عليه أن القرآن لا يجوز في حروفه وكلماته وآياته كلها أن تقرأ على سبعة أحرف، ولا شيء منها، ولا يمكن ذلك فيها، بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل، مثل: {وَعَبَدَ الطَّاغُوت} (3) [37 ظ] و {تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (4) ، وساق الكلام إلى أن قال: "وقال قوم: هي سبع لغات في القرآن متفرقات على لغات العرب كلها يمنها
(1) يعني بضم الفاء وفتحها وكسرها "الإسراء: 23، الأنبياء: 67، الأحقاف: 17".
(2)
هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد الله البر النمري، أبو عمر القرطبي، الحافظ الفقيه، العالم بالقراءات والحديث والأنساب والأخبار، له مؤلفات مشهورة، توفي سنة 463هـ "وفيات الأعيان 2/ 458": تذكرة الحفاظ 3/ 306، شذرات الذهب 3/ 314".
(3)
المائدة: 60، مر ذكره قريبا، انظر ص98.
(4)
البقرة: 79، ذكر البناء في هذه الكلمة وجهين، الأول:"متشابه" بميم وتاء مرفوعة الهاء منونة في الوصل وتخفيف الشين والثاني: "يشابه" مضارعا بالياء وتشديد الشين مرفوع الهاء "انظر: اتحاف فضلاء البشر ص139"، وقراءة الأئمة العشرة "تشابه" بفتح التاء والهاء وتخفيف الشين، ولم أجد في المراجع بقية الأوجه السبعة في هذه الآية.
ونزارها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم".
"وقال آخرون: هذه اللغات كلها السبع، إنما تكون في مضر، واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: نزل القرآن بلسان مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة، ومنها لقيس، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذا المراتب".
"وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر وقالوا: في مضر شواذ، لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها، مثل كشكسة قيس وعنعنة تميم (1) . وفي سنن أبي داود أن عمر كتب إلى ابن مسعود: أما بعد، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فاقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل"(2) .
"قال أبو عمر: ويحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار؛ لأن ما قرأ به ابن مسعود لا يجوز"، قال:"وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل عندي، والله أعلم". قال: "وقد روي عن عثمان مثل قول عمر هذا: "إن القرآن نزل بلغة قريش، بخلاف الرواية الأولى، وهذا أثبت عنه ومعناه عندي في الأغلب؛ لأن غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها [38 و] وقريش لا تهمز" (3) .
(1) انظر ص131.
(2)
سنن أبي داود رواياته، ولا أدري أي رواية ينقل عنها ابن عبد البر، والنسخة التي بأيدينا "طبع القاهرة، 1369هـ/ 1959م" لم أجد فيها هذه الرواية.
(3)
التمهيد 4/ 62ظ-63ظ.
قلت: أشار عثمان رضي الله عنه إلى أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس، فجوز لهم أن يقرءوه على لغاتهم على ما سبق تقريره؛ لأن الكل لغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين.
وأما من أراد من غير العرب حفظه فالمختار له أن يقرأه على لسان قريش، وهذا إن شاء الله تعالى هو الذي كتب فيه عمر إلى ابن مسعود رضي الله عنهما:"أقرئ الناس بلغة قريش"؛ لأن جميع لغات العرب بالنسبة إلى غير العربي مستوية في التعسر عليه، فإذًا لا بد من واحدة منها، فلغة النبي صلى الله عليه وسلم أولى له، وإن أقرى بغيرها من لغات العرب، فجائز فيما لم يخالف خط المصحف، وأما العربي المجبول على لغة فلا يكلف لغة قريش لتعسرها عليه، وقد أباح الله تعالى القراءة على لغته، والله أعلم.
ثم قال ابن عبد البر:
"وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، صار في عجز هوازن منها خمسة"(1) .
"قال أبو حاتم: عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر بن معاوية: قال أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب، [38 ظ] لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان، قال: وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش، ثم أدناهم من بطون مضر".
"قال أبو عمر: وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أنزل القرآن على سبعة أحرف" سبع لغات، وقالوا:
(1) سبق ذكر هذه الرواية في ص92-93، وانظر ص130 أيضا.
هذا لا معنى له؛ لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر؛ لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم ينكر عليه، وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي مكي، وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما محال أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما بغير ما يعرفه من لغته، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا. وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل وتعالى وهلم، وعلى هذا أكثر أهل العلم (1) .
ثم ذكر الأحاديث في ذلك، منها: حديث أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أقرئت القرآن فقلت: على حرف أو حرفين، فقال لي الملك [39 و] الذي عندي: على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف وليس منها إلا شافٍ كافٍِ، غفورا رحيما، عليما حكيما، عزيزًا حكيما، أي ذلك قلت فإنه كذلك -زاد بعضهم- ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب"(2) .
ومنها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا، ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر برحمة"(3) .
(1) التمهيد 4/ 63ظ.
(2)
التمهيد 4/ 64و.
(3)
التمهيد 4/ 65و.
ومنها حديث أبي جهيم الأنصاري:
"أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن المراء كفر" (1) .
قال: "وهذه الآثار كلها تدل على أنه لم يعن به سبع لغات، والله أعلم"(2) .
"وقد جاء عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} (3) ، مهلونا، أخرونا، أرجئونا (4) ، وكان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (5) ، مروا فيه، سعوا فيه (6) ، كل هذه الحروف كان يقرأ بها أبي بن كعب، إلا أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد". وقال: "وعلى هذا أهل العلم، فاعلم".
"وذكر ابن وهب في كتاب الترغيب من جامعه قال: قيل لمالك: أترى أن يقرأ بمثل [39 ظ] ما قرأ به عمر بن الخطاب: "فامضوا إلى ذكر الله" (7) ؟ قال: ذلك جائز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل
(1) التمهيد 4/ 64و.
(2)
التمهيد 4/ 65و.
(3)
الحديد: 13.
(4)
يعني أنه كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} ، "للذين آمنوا مهلونا"، "للذين آمنوا أخرونا"، "للذين آمنوا أرجئونا" "انظر: تفسير القرطبي 1/ 42، فضائل القرآن لابن كثير ص37".
(5)
البقرة: 20.
(6)
يعني أن أبي بن كعب كان يقرأ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} ، "كلما أضاء لهم مروا فيه"، "كلما أضاء لهم سعوا فيه" "انظر: فضائل القرآن لابن كثير ص37".
(7)
هي قراءة أبي العالية أيضا كما روى الطبراني في تفسيره 28/ 100، وقراءتنا {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} "الجمعة: 9".
القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" (1) ، مثل تعملون ويعملون، وقال مالك: لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا"(2) .
"قال أبو عمر: معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة على وجه التعليم والوقوف على ما روي في ذلك من علم الخاصة، وإنما ذكرنا ذلك عن مالك تفسيرا لمعنى الحديث، وإنما لم تجز القراءة به في الصلاة؛ لأن ما عدا مصحف عثمان لا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد، لكنه لا يقدم أحد على القطع في رده، وقد قال مالك: إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود، أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه".
"وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوما شذوا، لا يعرج عليهم، منهم الأعمش". قال: "وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها، إلا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان رضي الله عنه المصاحف".
"قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني (3) المقرئ: أخبرنا أبو علي الحسن بن صافي الصفار أن عبد الله بن سليمان حدثهم قال: حدثنا أبو [40 و] الطاهر قال: سألت سفيان بن عيينة (4) عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين،
(1) مر تخريج هذا الحديث في الحاشية رقم 3 ص78.
(2)
التميهد 4/ 65ظ.
(3)
هو المعروف بابن أشتة، أستاذ كبير وعالم بالقراءات والعربية، له مؤلفات، منها "المفيد" في شواذ القراءات، توفي سنة 360هـ "غاية النهاية 2/ 184".
(4)
هو سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي، محدث مجمع على صحة حديثه وروايته، توفي سنة 198هـ "تاريخ بغداد 9/ 174، غاية النهاية 1/ 308، تهذيب التهذيب 4/ 117".
هل تدخل في السبعة الأحرف؟ فقال: لا، وإنما السبعة الأحرف كقولهم هلم، أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزاك. قال أبو الطاهر: وقاله ابن وهب. قال أبو بكر الأصبهاني: ومعنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري" (1) .
"وقال أبو جعفر الطحاوي (2) : كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها؛ لأنهم كانوا أميين، لا يكتبون إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك، حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، ولم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص، لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم [40 ظ] هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد"(3) .
"قال أبو عمر: وهو الذي عليه الناس في مصاحفهم وقراءاتهم من بين سائر الحروف؛ لأن عثمان رضي الله عنه جمع المصاحف عليه". قال: "وهذا الذي عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه، وتجوز الصلاة به، وبالله
(1) انظر: تفسير الطبري 1/ 65.
(2)
هو أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي أبو جعفر المصري، له مؤلفات في القرآن والحديث والفقه وغيرها، توفي سنة 321هـ "وفيات الأعيان 1/ 23، تذكرة الحفاظ 3/ 28، غاية النهاية 1/ 116".
(3)
التمهيد 4/ 65ظ-66و.
العصمة والهدى" (1) .
قلت: وسنعود إلى الكلام في هذا في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.
فصل:
ذهب قوم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف، فمنها زاجر، ومنها آمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها محكم، ومنها متشابه، واحتجوا بحديث يرويه سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن (2) عن أبيه (3) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به كل من عند [41 و] ربنا"(4) .
قال عمر بن عبد البر:
"هذا حديث عند أهل العلم لم يثبت، وأبو سلمة (5) لم يلق ابن مسعود،
(1) التمهيد 4/ 67و.
(2)
سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن: ترجمته في لسان الميزان 3/ 68.
(3)
ستأتي ترجمته.
(4)
ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره 1/ 68، وابن عبد البر في كتابه التمهيد 4/ 62ظ، وانظر ص137أيضا.
(5)
هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو سلمة المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، تابعي، كثير الحديث، توفي سنة 104هـ على خلاف "تهذيب التهذيب 12/ 115".
وابنه سلمة ليس ممن يحتج به، وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده، وقد رده قوم من أهل النظر، منهم أحمد بن أبي عمران (1) فيما سمعه الطحاوي منه قال: من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد؛ لأنه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه، أو يكون حلالا لا ما سواه؛ لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله. قال أبو عمر: ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سلمة بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا" (2) .
قلت: "وهكذا رواه البيهقي في "كتاب المدخل" وقال: هذا مرسل جيد، أبو سلمة لم يدرك ابن مسعود. ثم رواه موصولا وقال: فإن صح فمعنى قوله: "سبعة أحرف": أي سبعة أوجه، وليس المراد به ما ورد في الحديث الآخر من نزول القرآن على سبعة أحرف، ذاك المراد به اللغات التي أبيحت القراءة عليها، وهذا المراد به الأنواع التي نزل القرآن عليها، والله [41 ظ] أعلم.
قلت: وعندي لهذا الأثر أيضا تأويلان آخران، أحدهما: ذكره أبو علي الأهوازي في "كتاب الإيضاح"، والحافظ أبو العلاء (3) في "كتاب المقاطع"، أن قوله "زاجر وآمر" إلى آخره استئناف كلام آخر، أي هو كذلك، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه،
(1) هو أحمد بن أبي عمران، أبو جعفر، الفقيه الحنفي، قاضي الديار المصرية، توفي سنة 280هـ "شذرات الذهب 2/ 175".
(2)
التمهيد 4/ 62ظ.
(3)
هو الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد، أبو العلاء الهمداني، إمام في علوم القرآن والنحو واللغة والأدب والحديث، له مؤلفات في أنواع من العلوم، توفي سنة 569هـ "غاية النهاية 1/ 204، بغية الوعاة ص215".
لاتفاقهما في العدد وهو السبعة، وروي "زاجرًا وآمرًا
…
" بالنصب، أي نزل على هذه الصفة من سبعة أبواب على سبعة أحرف، ويكون المراد بالأحرف غير ذلك.
التأويل الثاني: أن يكون ذلك تفسير للأبواب، لا للأحرف، أي هذه سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه وأنواعه، أي أنزله الله تعالى كائنا من هذه الأصناف، لم يقتصر به على صنف واحد، بخلاف ما يحكى أن الإنجيل كله مواعظ وأمثال، والله أعلم.
إذا ثبت هذا فنعود إلى تفسير الأحرف السبعة بأحد القولين: وهم اللغات السبع مع اتحاد صورة الكتابة، والثاني الألفاظ المترادفة والمتقاربة المعاني كما سبق.
وقد ضعف الأهوازي تفسير الأحرف السبعة باللغات، قال: لأن اللغات في القبائل كثير عددها، وأبطل تفسيرها [42 و] بالأصناف؛ لأن أصنافه أكثر من ذلك، منها الإخبار، والاستخبار على وجه التقرير والتقريع، ومنها الوعد، والوعيد، والخبر بما كان وبما يكون، والقصص، والمواعظ، والاحتجاج، والتوحيد، والثناء، وغير ذلك.
واختار الحافظ أبو العلاء تفسيرها باللغات المتفرقة في القرآن، قال: وليس الغرض أن تأتي اللغات السبع في كل كلمة من كلم القرآن، بل يجوز أن يأتي في الكلمة وجهان أو ثلاثة، فصاعدًا إلى سبعة، ولم تأت سبعة أوجه إلا في كلمات محصورة، نحو "جبريل"(1) ، {وَعَبَدَ
(1) جبريل "البقرة: 97، 98" التحريم: 4" الأوجه التي ترد في هذه الكلمة كما يأتي: 1، "جبريل" بكسر الجيم والراء وإثبات الياء،2، "جبريل" بفتح الجيم وكسر الراء وياء ساكنة من غير همزة، 3، "جبرئل" بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء، 4، جبرئيل" بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة وياء ساكنة -هي في السبعة-، 5، "جبرائل" بألف قبل الهمزة وحذف الياء6" "جبرائيل" بألف قبل الهمزة وإثبات الياء، 7، "جبرئل" بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء وتشديد اللام "انظر: المحتسب 1/ 97، التيسير ص75، النشر 2/ 219، إتحاف فضلاء البشر ص144".
الطَّاغُوتَ} (1) ، "أرجئه"(2) ، و"أف"(3) ، و {عَذَابٍ بَئِيس} (4) ، و {هَيْهَات} (5) ، و"دري توقد"(6) ، ونظائرها، قال: وروي عن أبي طاهر بن أبي هاشم (7) أنه قال: شافٍ أي يشفي من الريب، لا يقصر بعضه
(1) من ذكره في ص98.
(2)
الأعراف: 111. الشعراء: 36، الأوجه التي ترد في هذه الكلمة كما يأتي: 1، "أرجه" بكسر الهاء من غير صلة، 2، "أرجئه" بهمزة ساكنة وصلة الهاء بواو، 3، "أرجئه" بهمزة ساكنة وضم الهاء من غير صلة، 4، "أرجه" من غير همزة وبكسر الهاء وصلتها بياء، 5، "أرجه" من غير همزة وبإسكان الهاء، 6، "أرجئه بهمزة ساكنة وكسر الهاء من غير صلة "انظر: التيسير ص111، النشر 1/ 311-312، اتحاف فضلاء البشر ص227"، ولم أقف في المراجع على الوجه السابع.
(3)
انظر ص110.
(4)
الأعراف: 165، وبقية الأوجه فيها:"عذاب بيس" بكسر الباء وياء ساكنة بعدها من غير همزة، و"
…
بيئس" بفتح الباء وهمزة مفتوحة بعد الياء -هي في السبعة- و"
…
بئس" بكسر الباء وهمزة ساكنة وفتح السين بلا تنوين، و"
…
بائس" بألف بعد الباء وكسر الهمزة، و"
…
بيس" بفتح الباء على وزن جيش، و"
…
بئس" بكسر الباء وهمزة ساكنة بعدها وغير ذلك "انظر: المحتسب 1/ 264-265، التيسير ص114، اتحاف فضلاء البشر ص232".
(5)
المؤمنون: 36 بفتح التاء وكسرها وضمها، كلها بتنوين وبلا تنوين وبالسكون على لفظ الوقف "انظر: تفسير الكشاف 3/ 186".
(6)
النور: 35، انظر: التيسير ص162: تفسير الكشاف 3/ 242، النشر 2/ 322، اتحاف فضلاء البشر ص199.
(7)
هو عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم، أبو طاهر البغدادي، أحد أعلم الناس بحروف القرآن ووجوه القراءات، له في ذلك تصانيف، منها "كتاب البيان والفصل"، توفي سنة 349هـ "تاريخ بغداد 11/ 7، غاية النهاية 1/ 475، بغية الوعاة ص317".
عن بعض في الفضل، وقوله كاف أي كاف في نفسه، غير محوج إلى غيره.
قال أبو العلاء الحافظ: واعلم أن الاختلاف على ضربين: تغاير تضاد، فاختلاف التغاير جائز في القراءات، واختلاف التضاد لا يوجد إلا في الناسخ والمنسوخ.
قلت: وقال قوم: السبعة الأحرف منها ستة مختلفة الرسم، كانت الصحابة تقرأ بها إلى خلافة عثمان رضي الله عنهم، نحو الزيادة، والألفاظ المرادفة، والتقديم، والتأخير، [42 و] نحو "إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي"(1) ، "وجاءت سكرة الحق بالموت"(2) ، "صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين"(3) ، "يأخذ كل سفينة صالحة غصبا"(4) ، "والعصر ونوائب الدهر"(5) ، "وله
(1) بزيادة "ولا يبالي""الزمر: 53"، قال الزمخشري في الكشاف 4/ 135: قيل: في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها "يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي".
(2)
هي قراءة شاذة مروية عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن مسعود "انظر: تفسير الطبري 26/ 160"، والقراءة المعروفة {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} "ق: 19".
(3)
"من أنعمت" و"غير الضالين" في قراءة تروى عن عمر بن الخطاب والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيين "انظر: كتاب المصاحف ص50، 51، 90"، والقراءة المعروفة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين} "الفاتحة: 7".
(4)
الكهف: 79؛ روى الطبري أن قراءة ابن مسعود "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا"، وروى أيضا أن أبي بن كعب كان يقرؤها "وكان وراءهم
…
صالحة غصبا"، يعني بزيادة "صالحة" "انظر: تفسير الطبري 16/ 2، وانظر: "الكشاف 2/ 741 أيضا.
(5)
بزيادة "ونوائب الدهر""العصر: 1"، هي قراءة يرويها الطبري في تفسيره 30/ 290 عن علي بن أبي طالب.
أخ أو أخت من أمة" (1) ، "وما أصابك من سيئة فمن نفسك إنا كتبناها عليك" (2) ، و"إن كانت إلى زقية واحدة" (3) ، و"كالصوف المنقوش" (4) ، و"طعام الفاجر" (5) ، و"إن بوركت النار ومن حولها" (6) في نظائر ذلك، فجمعهم عثمان على الحرف السابع الذي كتبت عليه المصاحف، وبقي من القراءات ما وافق المرسوم، فهو المعتبر، إلا حروفا يسيرة اختلف رسمها في مصاحف الأمصار، نحو "أوصى" و"وصى" (7) ، و {مَنْ يَرْتَد} و"من يرتدد" (8) ،
(1) بزيادة "من أمه""النساء: 12"، هي قراءة سعد بن أبي وقاص "انظر: تفسير الطبري 4/ 287".
(2)
بزيادة "إنا كتبناها عليك""النساء: 79"، هي قراءة ابن مسعود "انظر: البحر المحيط 3/ 301".
(3)
انظر ص91.
(4)
"الصوف" هنا يدل من كلمة "العهن""القارعة: 5"، انظر ص95، 147.
(5)
وقراءتنا {طَعَامُ الْأَثِيم} "الدخان: 44"روى الطبري في تفسيره 25/ 131، أن أبا الدرداء يقرئ رجلا هذه الآية {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيم} ، فلما أكثر عليه فرآه لا يفهم، قال: "
…
طعام الفاجر".
(6)
هي قراءة أبي بن كعب كما ذكر المؤلف أبو شامة نفسه في ص147، والقراءة المعروفة {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} "النمل: 8"، انظر: تفسير الطبري 19/ 134، والكشاف 3/ 349.
(7)
قرأ المدنيان -أبوجعفر ونافع- وابن عامر "أوصى""البقرة: 132" بهمزة مفتوحة صورتها ألف قبل الواو مع تخفيف الصاد، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون كقراء أهل البصرة والكوفة "وصى" بتشديد الصاد من غير همزة قبل الواو، وكذلك هو في مصاحفهم "كتاب المصاحف ص39، 41، 43، 44" والنشر 2/ 222".
وانظر ص148.
(8)
قرأ أهل المدينة كأبي جعفر ونافع، وأهل الشام كابن عامر "من يرتدد" "المائدة: 54" بدالين، الأولى مكسورة والثانية مجزومة، وكذا هو في مصاحف أهل المدينة والشام وقرأ الباقون كقراء العراق {مَنْ يَرْتَد} بدال واحدة مفتوحة مشددة، وكذا هو في مصاحفهم "كتاب المصاحف ص39، 41، 43، 45، والنشر 2/ 255".
و"من تحتها" و"تحتها"(1) ، وكأنهم أسقطوا ما فهموا نسخه بالعرضة الأخيرة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام، ورسموا ما سوى ذلك من القراءات التي لم تنسخ.
فصل:
وقد حاول جماعة من أهل العلم بالقراءات استخراج سبعة أحرف من هذه القراءات المشهورة فقال بعضهم: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة: منها ما تتغير حركته ولا يزول [43 و] معناه ولا صورته، مثل {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم} ، "أطهرَ لكم"(2) ، {وَيَضِيقُ صَدْرِي} "ويضيقَ صدري"(3) بالرفع والنصب فيهما، ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته، مثل "ربُّنا باعدَ بين أسفارنا" و {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (4) ، ومنا ما يتغير معناه بالحروف واختلافها
(1) قرأ ابن كثير بزيادة "من" وخفض تاء "تحتها" في سورة التوبة "الآية: 100"، وكذلك هي في المصاحف المكية، وقرأ الباقون بحذف لفظ "من" وفتح التاء وكذلك هي في مصاحفهم، واتفقوا على إثبات "من" "تحتها" في سائر القرآن "انظر: كتاب المصاحف ص47: والنشر 2/ 280".
(2)
يعني "أطهر""هود: 78" بضم الراء، هي قراءة الأئمة العشرة المشهورين، و"أطهر" بفتح الراء هي قراءة سعيد بن جبير وغيره "انظر: المحتسب 1/ 325".
(3)
النصب عطفا على {أَنْ يُكَذِّبُونِ} قراءة ليعقوب الحضرمي، والرفع قراءة الباقين من الأئمة العشرة "انظر: النشر 2/ 335".
(4)
سبأ: 19، "ربنا" بالرفع و"باعد" بوزن فاعل ماض هي قراءة يعقوب الحضرمي وبالنصب و"باعد" فعل أمر هي قراءة الجمهور، وبالنصب و"بعد" مضعفا هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وهشام "انظر: النشر 2/ 350"، وكلمة "بعد" في المصحف بغير ألف، فاحتملت هذه القراءات.
باللفظ ولا تتغير صورته في الخط، مثل "إلى العظام كيف ننشرها"(1) بالراء والزاي، ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه، مثل {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} و"كالصوف المنفوش"(2) ، ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُود} "وطلع منضود"(3) . ومنها التقديم والتأخير، مثل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} "وجاء سكرة الحق بالموت"(4) ، ومنها الزيادة والنقصان، نحو "نعجة أنثى"(5) ، و"من تحتها"(6) في آخر التوبة، و"هو الغني الحميد"(7) في الحديد.
قال ابن عبد البر: "وهذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث، وفي كل وجه منها حروف كثيرة لا تحصى عددًا، وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحرف السبعة التي نزل القرآن عليها، إلا حرف
(1) قرأ الكوفيون وابن عامر "ننشزها""البقرة: 259" بالزاي، وقرأ الباقون بالراء "انظر: التيسير ص82".
(2)
القارعة: 5، انظر ص95، 147.
(3)
الواقعة: 29، هذه في قراءتنا بالحاء، وقراءة "طلع" بالعين المهملة تروى عن علي بن أبي طالب "انظر: تفسير الطبري 27/ 180"، وهي قراءة شاذة تخالف رسم المصحف.
(4)
ق: 19، انظر ص111.
(5)
ص: 23، زيادة "أنثى" قراءة شاذة مروية عن عبد الله بن مسعود كما ورد في تفسير الطبري 23/ 143.
(6)
مر ذكره قريبا في ص 113.
(7)
"هو الغني""الحديد: 24": هي قراءة أهل الكوفة والبصرة من العشرة، وكذلك جاءت مصاحفهم، وسقطت كلمة "هو" من قراءة أهل المدينة والشام ومصاحفهم "انظر: كتاب المصاحف ص40-47، والنشر 2/ 384".
واحد، وهو صورة مصحف عثمان، وما دخل فيها يوافق صورته من الحركات واختلاف النقط من سائر الحروف" (1) .
واعتمد على هذه الأوجه مكي، وجعل من القسم الأول [43 ظ] نحو "البخل" و"البخل"(2) ، و"ميسرة" بضم السين وفتحها (3)، ثم قال:"وهذه الأقسام كلها كثيرة، لو تكلفنا أن نؤلف في كل قسم كتابا بما جاء منه وروي لقدرنا على ذلك"(4) .
ثم ذكر أنه لا يقرأ من ذلك بما خالف خط المصحف، ثم قال:
"فأما ما أختلف فيه القراء من الإمالة والفتح والإدغام والإظهار والقصر والمد والتشديد والتخفيف وشبه ذلك، فهو من القسم الأول لأن القراءة بما يجوز منه في العربية، وروي عن أئمة وثقات: جائزة في القرآن؛ لأن كله موافق للخط". قال: "وإلى هذه الأقسام في معاني السبعة ذهب جماعة من العلماء، وهو قول ابن قتيبة (5) ، وابن شريح، وغيرهما، لكنا شرحنا ذلك من قولهم"(6) .
قال: "وهو الذي نعتقده ونقول به وهو الصواب إن شاء الله تعالى"(7) .
(1) التمهيد 4/ 66و - ظ
(2)
"البخل""النساء: 37، الحديد: 24": بفتح الباء والخاء كما قرأ حمزة والكسائي، وضم الباء وإسكان الخاء كما قرأ الباقون "انظر: التيسير ص96".
(3)
"ميسرة""البقرة: 280" ضم السين قراءة نافع، وفتحها قراءة الباقين من العشرة "انظر: النشر 2/ 236".
(4)
الإبانة ص39.
(5)
انظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص28.
(6)
الإبانة ص41-42.
(7)
الإبانة ص34.
واختار أبو علي الأهوازي طريقة أخرى فقال:
"قال بعضهم: معنى ذلك هو الاختلاف الواقع في القرآن، يجمع ذلك سبعة أوجه: الجمع والتوحيد، كقوله تعالى: {وَكُتُبِهِ} "وكتابه" (1) ، والتذكير والتأنيث، كقوله تعالى: {لا يُقْبَل} و"لا تقبل" (2) ، والإعراب، كقوله تعالى: "المجيد" و {الْمَجِيدُ} (3) ، والتصريف، كقوله تعالى: "يعرُشون" و {يَعْرِشُون} (4) ، والأدوات التي يتغير الإعراب لتغيرها، كقوله تعالى: "ولكنِ الشياطينُ" {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ} (5) ، واللغات، كالهمز [44 و] وتركه، والفتح، والكسر، والإمالة، والتفخيم، وبين بين، والمد، والقصر، والإدغام، والإظهار، وتغيير اللفظ والنقط بالتفاق الخط، كقوله تعالى: "ننشرها" و {نُنْشِزُهَا} (6) ، ونحو ذلك". قال: "وهذا القول أعدل الأقوال وأقربها
(1) البقرة: 285، قراءة حمزة والكسائي "وكتابه" بالألف على التوحيد، والباقون قرءوا "وكتبه" بغير ألف على الجمع "انظر: التيسير ص85"، والكلمة في المصاحف بغير ألف فاحتملت القراءتين "انظر: المقنع ص20".
(2)
"لا تقبل" بالتاء هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، و {لا يُقْبَل} بالياء هي قراءة الباقين، وهذا الاختلاف في الآية: 48 فقط من سورة البقرة، واتفقوا على قراءة {لا يُقْبَل} بالياء في الآية: 123 من هذه السورة "انظر: التيسير ص73".
(3)
"المجيد""البروج: 15" بالجر في قراءة حمزة والكسائي، وبالرفع في قراءة الباقين من السبعة "انظر: التيسير ص221".
(4)
"يعرشون""الأعراف: 137، والنحل: 68" بضم الراء هي قراءة ابن عامر وأبي بكر شعبة، وبكسرها هي قراءة الباقين من العشرة "انظر: النشر 2/ 271".
(5)
البقرة: 102، بتخفيف "لكن" ورفع "الشياطين" في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي، وبتشديد "لكن" ونصب "الشياطين" وهي قراءة الباقين من السبعة وغيرهم "انظر: التيسير ص75".
(6)
البقرة: 259، مر ذكره في ص114.
لما قصدناه، وأشبهه بالصواب".
ثم ذكر وجها آخر فقال: "قال بعضهم: معنى ذلك سبعة معان في القراءة".
"أحدها: أن يكون الحرف له معنى واحد، تختلف فيه قراءتان تخالفان بين نقطة ونقطة مثل {تَعْمَلُون} و"يعملون" (1) .
"الثاني: أن يكون المعنى واحدًا وهو بلفظين مختلفتين، مثل قوله تعالى: {فَاسَعَوْا} و"فامضوا" (2) .
"والثالث: أن تكون القراءتان مختلفتين في اللفظ، إلا أن المعنيين متفرقان في الموصوف، مثل قوله تعالى: "ملك" و {مَالِك} (3) .
"والرابع: أن تكون في الحرف لغتان، والمعنى واحد وهجاؤها واحد، مثل قوله تعالى: "الرَّشد" ورالرُّشْد"(4) .
"والخامس: أن يكون الحرف مهموزًا وغير مهموز، مثل "النبيء" و {النَّبِيُّ} .
"والسادس: التثقيل والتخفيف، مثل {الْأُكُل} و"الأكل" (5) .
(1) نحو {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} "البقرة: 74"، قرأ في هذه الآية ابن كثير بالغيب، وقرأ الباقون بالخطاب "انظر: التيسير ص74، والنشر 2/ 217".
(2)
الجمعة: 9، سبق ذكره في ص104.
(3)
الفاتحة: 4، قراءة عاسم والكسائي "مالك" بالألف، وقراءة الباقين بغير ألف "انظر: التيسير ص18"، وانظر: ص171 أيضا.
(4)
"الرشد""الأعراف: 146" بفتحتين في قراءة حمزة والكسائي، و"الرشد" بضم الراء وإسكان الشين في قراءة الباقين، واتفقوا على قراءة "الرشد" بضم الراء وإسكان الشين في سورة البقرة: 256 والجن: 2 "انظر: التيسير ص113".
(5)
الرعد: 4، التثقيل ضم الكاف من "الأكل"، والتخفيف تسكينها، والقراءة الثانية قراءة نافع وابن كثير، والأولى قراءة بقية العشرة "انظر: النشر 2/ 216".
"والسابع: الإثبات والحذف، مثل "المنادي" و {الْمُنَادِ} "(1) .
قال أبو علي: "وهذا معنى يضاهي معنى القول الأول الذي قبله، وعليه اختلاف قراءة السبعة الأحرف".
قلت: وذكر هذين الوجهين اللذين ذكرهما أبو علي الأهوازي، الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد، ونسب الأول إلى أبي طاهر بن أبي [44 ظ] هاشم، ثم قال عقيبه:"وهذا أقرب إلى الصواب إن شاء الله". قال: "وقد روي عن مالك بن أنس أنه كان يذهب إلى هذا المعنى". ونسب الوجه الثاني إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن واصل (2) .
وقال أبو بكر محمد بن علي بن أحمد الأذفوي (3) في "كتاب الاستغناء في علوم القرآن" فيما نقله عن أبي غانم المظفر بن أحمد بن حمدان (4)، قال:
"القرآن محيط بجميع اللغات الفصيحة، وتفصيل ذلك أن تكون هذه اللغات السبع على نحو ما أذكره.
"فأول ذلك تحقيق الهمز وتخفيفه في القرآن كله، في مثل {يُؤْمِنُون} ،
(1)"المنادي""ق: 41" بإثبات الياء في الوقف والوصل وهي قراءة ابن كثير ويعقوب، وإثباتها في الوصل فقط وهي قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو، و"المناد" بحذف الياء في الحالين وهي قراءة الباقين من العشرة "انظر: النشر 2/ 376".
(2)
هو أحمد بن محمد بن واصل، أبو العباس الكوفي، مقرئ حاذق، قرأ على الكسائي وغيره، وترجمته في: غاية النهاية 1/ 133.
(3)
هو محمد بن علي بن أحمد بن محمد الأذفوي، أبو بكر المصري، نحوي، أديب مقرئ، مفسر ثقة، له مؤلفات، توفي سنة 388هـ "معجم البلدان 1/ 156، غاية النهاية 2/ 198".
(4)
هو المظفر بن أحمد بن حمدان "أو أحمد كما في البغية" ابن أبي غانم المصري، مقرئ، نحوي، له كتاب في اختلاف القراءات، توفي سنة 333 هـ "غاية النهاية 2/ 301، بغية الوعاة ص293".
و"مؤمنين"(1) ، {النَّبِيِّين} (2) ، و {النَّسِيء} (3) ، و {الصَّابِئِين} (4) ، و {الْبَرِيَّة} (5) ، و {سَأَلَ سَائِل} (6) ، وما أشبه ذلك، فتحقيقه وتخفيفه بمعنى واحد، وقد يفرقون بين الهمز وتركه بين معنيين، في مثل {أَوْ نُنْسِهَا} من "النسيان""أو ننسأها"(7) من "التأخير"، ومثل {كَوْكَبٌ دُرِّي} و"دريء"(8) .
"ومنه إثبات الواو وحذفها في آخر الاسم المضمر، نحو: "ومنهمو
(1) تحقيق الهمز: النطق بالهمزة ساكنة، وتخفيفه: حذف الهمزة.
(2)
النبيئين" "البقرة: 61، 76، 213، آل عمران: 21، 80، 81، النساء: 69، 162، الإسراء: 55، مريم: 58، الأحزاب: 7، 40، الزمر: 69" بتحقيق الهمز هي قراءة نافع، و"النبيين" بتخفيفه هي قراءة الباقين من أئمة القراء المشهورين "انظر: التيسير ص73".
(3)
التوبة: 37، بتشديد الياء من غير همز في قراءة ورش صاحب قراءة نافع، وبالمد وإسكان الياء والهمز في آخره، وهي قراءة الباقين من السبعة "انظر: التيسير ص118".
(4)
"الصابين""البقرة: 62، الحج: 17" بغير همز هي قراءة نافع، و"الصابئين بتحقيقها هي قراءة الباقين من القراء المشهورين "انظر: التيسير ص74".
(5)
"البرية" بغير همز وتشديد الياء، هي قراءة الباقين "انظر: التيسير ص244".
(6)
"سال""المعارج: 1" بألف ساكنة بدلا من الهمزة قراءة نافع وابن عامر، و"سأل" بهمزة مفتوحة هي قراءة الآخرين "انظر: التسير ص214".
(7)
أو ننسأها" "البقرة: 196" بالهمزة مع فتح النون والسين هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، "أو ننسها" بغير همز مع ضم النون وكسر السين هي قراءة الباقين من السبعة "انظر: التيسير ص76".
(8)
"دري""النور: 35" بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، هي قراءة نافع وحفص وغيرهما، و"درئ" بكسر الدال والمد والهمز، هي قراءة الكسائي فقط من السبعة "انظر: التيسير ص162".
أميون} " (1) .
"ومنه أن يكون باختلاف حركة وتسكينها، في مثل {غِشَاوَة} ، و"غشوة" (2) ، و {جِبْرِيل} (3) ، و {مَيْسَرَة} (4) ، و {الْبُخْل} (5) ، و {سِخْرِيًّا} "(6) .
"ومنه أن يكون بتغيير حرف، نحو "ننشرها" (7) ، و"يقض الحق" (8) ، و {بِضَنِين} (9) ".
"ومنه أن يكون بالتشديد والتخفيف، نحو {يُبَشِّرُهُم} ، و"يَبْشُرُهم" (10) .
(1) البقرة: 78، "منهم بإسكان الميم و"منهمو" بواو موصولة بها "انظر: النشر 1/ 273".
(2)
الجاثية: 23، "غشاوة" بكسر الغين وفتح الشين وألف بعدها، و"غشوة" بفتح الغين وإسكان الشين من غير ألف "انظر: النشر 2/ 372".
(3)
البقرة: 97، 98، التحريم: 4، مر ذكره في 109.
(4)
البقرة: 280، انظر ص115.
(5)
النساء: 37، الحديد: 24، انظر ص115.
(6)
المؤمنون: 110، ص63، يعني بضم السين -هي قراءة نافع وحمزة والكسائي- وبكسرها -هي قراءة الباقين من السبعة- ولا خلاف في "سخريا" بضم السين في سورة الزخرف: 32 "انظر: التيسير ص160".
(7)
البقرة: 259، مر ذكره في ص114.
(8)
الأنعام: 57، قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وعاصم "يقص" بالصاد المهملة المشددة من القصص، وقرأ الباقون من العشرة "يقض" بإسكان القاف وكسر الضاد المعجمة من القضاء "انظر: النشر 2/ 258".
(9)
التكوير: 24، يعني "بظنين" من الظن -هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي- و"بضنين" بالضاد المعجمة -هي قراء الباقين من السبعة- "انظر: التيسير ص220".
(10)
التوبة: 21، "يبشرهم" بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففا، و"يبشرهم" بضم الأول وفتح الباء وكسر الشين مشددًا "انظر: التيسير ص87، 88".
"ومنه أن يكون بالمد والقصر، نحو "زكرياء" و {زَكَرِيَّا} "(1) .
"ومنه أن يكون بزيادة [45 و] حرف من "فعل" و"أفعل"، مثل {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} (2) ، و {نُسْقِيكُم} "(3) .
واختار نحو هذه الطريقة في تفسير الأحرف السبعة القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في "كتاب الانتصار" فذكر التقديم والتأخير وجها، ثم الزيادة والنقص، نحو {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم} (4) و"يا مال"(5) و"ناخرة"(6) و"سرجا"(7) ، و {خْرَجًا} (8) .
(1) آل عمران: 37، 38، الأنعام: 85، مريم: 2، 7، الأنبياء: 89، قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص من غير همز في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالمد والهمز "انظر: النشر 2/ 239، وإتحاف فضلاء البشر ص173".
(2)
هود: 81، الحجر: 65، من فعل الثلاثي "فاسر" بوصل الألف -هي قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر- و"فأسر" بقطع الهمزة من أفعل الرباعي -وهي قراءة الباقين- "وانظر: النشر 2/ 290".
(3)
النحل: 66، المؤمنون: 21، "نسقيكم" بفتح النون هي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب وأبي بكر عاصم و"نسقيكم" بضمها هي قراءة الباقين إلا أبي جعفر؛ لأنه قرأ بالتاء مفتوحة "انظر: النشر 2/ 304".
(4)
يس: 35، "وما عملت" بغير هاء وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، و"ما عملته" بالهاء وهي في مصاحف أهل المدينة والبصرة كذلك "انظر: كتاب المصاحف ص40، 47، 48، والنشر 2/ 353"ز
(5)
الزخرف: 77، "يا مال" هي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب كما ورد في الكشاف 4/ 264، والذي جاء في المصاحف "يا مالك" بزيادة الكاف.
(6)
النازعات: 11، "ناخرة" بالألف ونخرة" بغير ألف قراءتان مشهورتان "انظر: النشر 2/ 397".
(7)
الفرقان: 61، يعني "سرجا" بضم السين والراء من غير ألف على الجمع، و"سراجا" بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على الأفراد "انظر: النشر 2/ 334".
(8)
الكهف: 94، المؤمنون: 72، "خرجا" بإسكان الراء من غير ألف، و"خراجا" بفتح الراء وألف بعدها "انظر: النشر 2/ 315".
الثالث: اختلاف الصورة والمعنى، نحو {وَطَلْحٍ مَنْضُود} ، "وطلع منضود"(1) ، وقيل هما اسمان لشيء واحد، بمنزلة {الْعِهْن} و"الصوف"(2) ، و {الْأَثِيم} و"الفاجر"(3) ، فيكون مما تختلف صورته في النطق والكتاب، ولا يختلف معناه، قال:
"وقال الجمهور من الناس غير هذا، فزعم بعض أهل التفسير أن الطلح هو زينة أهل الجنة، وأنه ليس من الطلع في شيء، وقال كثير منهم: إن الطلح هو الموز، وقال آخرون: هو الشجر العظام الذي يظل ويعرش، وإن قريشًا وأهل مكة كان يعجبهم طلحات وج -وهو واد بالطائف- لعظمها وحسنها، فاخبروا على وجه الترغيب أن في الجنة طلحا منضودا، يراد أنه متراكم كثير، وقالوا: إن العرب تسمي الرجل طلحة، على وجه التشبيه له بالشجرة العظيمة المستحسنة، وإذا كان كذلك ثبت أن الطلح والطلع إذا قرئ بهما كان مما تختلف صورته ومعناه"."الوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في القراءتين، اختلافا في حروف الكلمة بما يغير معناها ولفظها [45 ظ] من السماع، ولا يغير صورتها في الكتاب، نحو "ننشرها" و {نُنْشِزُهَا} (4) .
"الخامس: الاختلاف في بناء الكلمة بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، نحو "البُخل" و"البَخل" (5) ، و"مَيْسَرة"،
(1) الواقعة: 29، سبق ذكره في ص114.
(2)
القارعة: 5، انظر ص95، 147.
(3)
الدخان: 44، مر ذكره في ص112.
(4)
البقرة: 259، انظر ص114.
(5)
النساء: 37، الحديد: 24، انظر ص115.
و"مَيّسَرة"(1) ، "يعكُِفون"(2) ، {هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور} (3) ".
"السادس: تغيير الصورة دون المعنى، نحو "العهن" و"الصوف" (4) ، و {صَيْحَة} و"زقية" (5) ، {فُومِهَا} و"ثومها" (6) .
"السابع: اختلاف حركات الإعراب والبناء، بما يغير المعنى، والصورة واحدة، نحو "باعَدَ، وباعِدْ بين أسفارنا" (7) ، و"لقد علمتَُ ما أنزل هؤلاء" (8) بالضم والفتح". قال: "فهذا، والله أعلم، هو تفسير السبعة الأحرف دون جميع ما قدمنا ذكره"(9) .
وأخبرنا شيخنا أبو الحسن رحمه الله في كتابه "جمال القراءة" قال:
"فإن قيل: فأين السبعة الأحرف التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها في قراءتكم هذه المشهورة؟
"قلت: هي متفرقة في القرآن، وجملة ذلك سبعة أوجه:
"الأول: كلمتان تقرأ بكل واحدة في موضع الأخرى، نحو
(1) البقرة: 280، انظر ص115.
(2)
الأعراف: 138، يعني بكسر الكاف وضمها "انظر: التيسير ص113".
(3)
سبأ: 17، يعني {هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور} بالنون وكسر الزاي وبنصب "الكفور"، أو ببناء "يجازى" للمجهول ورفع "الكفور" "انظر: التيسير ص181".
(4)
القارعة: 5، انظر ص95، 147.
(5)
يس: 29، انظر ص91.
(6)
البقرة: 61، "ثومها" بالثاء المثلثة، هي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود "انظر: كتاب المصاحف ص54، 55"، والقراءة المعروفة في هذه الكلمة {فُومِهَا} .
(7)
سبأ: 19، مر ذكره في ص113.
(8)
الإسراء: 102، يعني بضم التاء وفتحها من "علمت" "انظر: التيسير ص141".
(9)
كتاب الانتصار 1/ 126ظ - 128و.
{يُسَيِّرُكُم} و"ينشركم"(1) ، و {لَنُبَوِّئَنَّهُم} و"لنثوينهم"(2) ، و {فَتَبَيَّنُوا} و"فتثبتوا"(3) .
"الثاني: زيادة كلمة، نحو "من تحتها" (4) ، و {هُوَ الْغَنِيُّ} "(5) .
"الثالث: زيادة حرف، نحو {بِمَا كَسَبَت} و"فبما كسبت" (6) ، -يعني في سورة الشورى".
"الرابع: مجئ حرف مكان آخر، نحو {يَقُول} و"نقول" (7) ، و {تُبْلَو} و"تتلو" (8) .
(1) يونس: 22، بضم الياء وسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشددة من التيسير"، وبفتح الياء ونون ساكنة بعدها وشين معجمة مضمومة من "النشر" "انظر: النشر 2/ 282".
(2)
العنكبوت: 58، بالباء الموحدة والهمزة من "التبوء" وهو المنزل، وبالثاء المثلثة ساكنة بعد النون وإبدال الهمزة ياء من "الثواء" وهو الإقامة "انظر: النشر 2/ 344".
(3)
النساء: 94، الحجرات: 6، "فتبينوا" بالياء والنون من "التبين" و"فتثبتوا" بالثاء المثلثة المفتوحة بعد التاء وتشديد الباء من "التثبت" وهما قراءتان مشهورتان "انظر: النشر 2/ 251".
(4)
التوبة: 100، انظر ص113".
(5)
الحديد: 24، انظر ص114.
(6)
الشورى: 30، "بما" بغير فاء قبل الباء، هي قراءة أهل المدينة والشام، وكذلك هي في مصاحفهم، "فبما" قراءة أهل العراق، وكذلك هي في مصاحفهم "انظر: كتاب المصاحف ص42، 44، 47، والنشر 2/ 367".
(7)
ومثاله: "ونقول ذوقوا عذا الحريق" بالياء والنون في آل عمران: 181، ونحوه "انظر: النشر 2/ 345".
(8)
يونس: 30، "تبلو" بالتاء والباء من "البلوى" و"تتلو" بتائين من "التلاوة" "انظر: النشر 2/ 283".
"الخامس: تغيير حركات، [46 و] إما بحركات آخر، أو بسكون، نحو {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (1) ، و"ليحكم أهل الإنجيل" (2) .
"السادس: التشديد والتخفيف، نحو {تُسَاقِط} (3) و"بلد ميت وميت" (4) .
"السابع: التقديم والتأخير، نحو {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} ، {وقتلوا وقاتلوا} (5) .
ثم قال الشيخ: "وقوله عز وجل {ثم انظر أنى يوفكون} (6) يقرأ على سبعة أوجه، وكذلك قوله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} (7) ، وقوله عز وجل {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (8) ، ولذلك نظائر"(9) .
(1) البقرة: 37، بنصب "آدم" ورفع "كلمات" أو برفع "آدم" ونصب "كلمات" بكسر التاء "انظر: النشر 2/ 211.
(2)
المائدة: 47، بكسر اللام ونصب الميم، أو بإسكان اللام والميم من "وليحكم" "انظر: النشر 2/ 354".
(3)
مريم: 25، يعني "يساقط" بالياء على التذكير وفتحها وتشديد السين وفتح القاف، أو "تساقط" بفتح التاء والقاف وتخفيف السين و"تساقط" بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين أيضًا "انظر: النشر 2/ 318".
(4)
فاطر: 6، بتشديد الياء المكسورة وتسكينها "انظر: النشر 2/ 225".
(5)
آل عمران: 195، جاءت هاتان القراءتان؛ لأن المصاحف كان يحتملهما لعدم الألف بعد القاف في "قاتلوا" "انظر: المقنع ص10".
(6)
المائدة: 75.
(7)
الأنعام: 35.
(8)
الأنعام: 43.
(9)
جمال القراء ص64و.
قلت: يعني في مجموع هذه الكلم من هذه الآيات سبعة أوجه، لا في كل كلمة منها، وقد يأتي في غيرها أكثر من سبعة أوجه بوجوه كثيرة إذا نظر إلى مجموع الكلم آحادها، كقوله سبحانه في "طه":{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (1) ، الآية، وذلك كثير، وإنما الشأن أن يكون في الكلمة الواحدة سبعة أوجه، فهذا الذي عز وجوده فعد من ذلك ألفاظ يسيرة، نحو {أُفٍّ} (2) و {عَذَابٍ بَئِيس} (3) ، وليست كل الوجوه فيها من القراءات المشهورة، بل بعضها من القراءات الشاذة، إلا أنها من جملة اللغات والألفاظ المرادفة التي كانت القراءة قد أبيحت عليها، وقد تقدم أن معنى الحديث أن كلمات القرآن أبيح أن يقرأ كل كلمة منها على ما يحتمله من وجهين وثلاثة إلى سبعة، توسعة على الناس على قدر ما يخف [46 ظ] على ألسنتهم.
وقد تقدم من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: "إني بعثت إلى أمة أمية فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام، فقال: مرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف"(4) .
قلت: فمعنى الحديث أنهم رخص لهم في إبدال ألفاظه بما يؤدي معناها، أو يقاربه من حرف واحد إلى سبعة أحرف، ولم يلزموا المحافظة على حرف واحد؛ لأنه نزل على أمة أمية لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء.
(1) طه: 9.
(2)
الإسراء: 23، الأنبياء: 67، الأحقاف: 17، انظر الحاشية رقم 1 ص100.
(3)
الأعراف: 165، انظر الأوجه المروية في قراءة هذه الكلمة في الحاشية رقم 4 ص110.
(4)
مر ذكر هذا الحديث بألفاظ أخر في 82، وتخريجها في الحاشية رقم 4 و6 ص83.
على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بالجهاد والمعاش، فرخص لهم في ذلك، ومنهم من نشأ على لغة يصعب عليه الانتقال عنها إلى غيرها، فاختلفت القراءات بسبب ذلك كله، ودلنا ما ثبت في الحديث من تفسير ذلك بنحو: هلم، وتعال، على جواز إبداله باللفظ المرادف، ودلنا ما ثبت من جواز {غَفُورًا رَحِيمًا} موضع {عَزِيزًا حَكِيمًا} على الإبدال بما يدل على أصل المعنى دون المحافظة على اللفظ، فإن جميع ذلك ثناء على الله سبحانه، هذا كله فيما يمكن القارئ عادة التلفظ به، وأما ما لا يمكنه لأنه ليس من لغته فأمره ظاهر ولا يخرج إن شاء الله شيء من القراءات عن هذا الأصل وهو [47 و] إبدال اللفظ بمرادف له أو مقارب في أصل المعنى، ثم لما رسمت المصاحف هجر من تلك القراءات ما نافى المرسوم، وبقي ما يحتمله، ثم بعض ما يحتمله خط المصحف اشتهر وبعضه شذت روايته، وهذا أولى من حمل جميع الأحرف السبعة على اللغات؛ إذ قد اختلفت قراءة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم رضي الله عنهما وكلاهما قرشي مكي، لغتهما واحدة.
وهذه الطرق المذكورة في بيان وجود السبعة الأحرف في هذه القراءات المشهورة كلها ضعيفة؛ إذ لا دليل على تعيين ما عينه كل واحد منهم، ومن الممكن تعيين ما لم يعينوا. ثم لم يحصل حصر جميع القراءات فيما ذكروه من الضوابط، فما الدليل على جعل ما ذكروه مما دخل في ضابطهم من جملة الأحرف السبعة دون ما لم يدخل في ضابطهم، وكان أولى من جميع ذلك لو حملت على سبعة أوجه من الأصول المطردة كصلة الميم، وهاء الضمير، وعدم ذلك، والإدغام، والإظهار، والمد، والقصر، وتحقيق الهمز، وتخفيفه، والإمالة، وتركها، والوقف بالسكون، وبالإشارة إلى الحركة، وفتح الياءات، وإسكانها، وإثباتها، وحذفها، والله أعلم.
فصل:
وقد تكلم على معنى هذا الحديث كلاما شافيا صاحب "كتاب الدلائل"، -وهو القاسم بن ثابت بن عبد الرحمن [47 ظ] العوفي السرقسطي (1) رحمه الله فذكر الوجه الذي بدأنا به في أول الفصل الماضي، وهو الوجه الذي استحسنه ابن عبد البر من قول بعضهم (2) ، وإنما نقله أبو عمر من كتاب قاسم، ثم قال القاسم عقيبه":
"وفي هذا التفسير ما رغب بعض الناس بقائله عنه، وإن كان قد ذهب مذهبا واستنبط عجبا؛ لأنه اخترع معنى لا نعلم أحدًا من السلف قال به، ولا أشار إليه، وليس للخلف الخروج عن السلف، ولا رفض عامتهم لمذهب لم يسلكوه، وتأويل لم يطلقوه، ونقول -وبالله التوفيق- بالذي صحت به الآثار، وتواطأت عليه الأخبار، وتأويله من أهل التفسير من لا يدفع نقله ولا يتهم نظره، وإن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم والعرب متناءون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام ففي عادته وحمل لسانه على غير ذريته تكلف منه حملا ثقيلا، وعالج منه عبئًا شديدا، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط
(1) هو القاسم بن ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف بن سليمان العوفي السرقسطي، أبو محمد، عالم الحديث، واللغة والفقه، توفي سنة 302هـ "فهرست ابن خير ص191، بغية الوعاة ص276، نفح الطيب 1/ 255".
(2)
انظر ص113-115.
عنهم تبارك وتعالى هذه [48 و] المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه، على عاداتهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضله على جميع خلقه".
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما"(1)، قال:"وهذا الحديث يفسره قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس الخطأ أن تجعل خاتمة آية خاتمة آية آخرى، أن تقول: عزيز حكيم، وهو غفور رحيم، ولكن الخطأ أن تجعل آية الرحمة آية العذاب"(2) .
وذكر حديث حسين بن علي عن زائدة (3) عن عاصم (4) عن زر (5) عن أبي رضي الله عنه قال: لقي النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام
(1) المصنف 2/ 161، وانظر ص85.
(2)
انظر ص88.
(3)
هو زائدة بن قدامة الثقفي، أبو الصلت الكوفي، توفي سنة 161هـ "تذكرة الحفاظ 1/ 200، تهذيب التهذيب 3/ 306".
(4)
هو عاصم بن أبي النجود بهدلة الأسدي بالولاء، أبو بكر الكوفي، أحد القراء السبعة، كان أحسن الناس صوتا بالقرآن، وله اشتغال بالحديث، توفي سنة 127هـ "مراتب النحويين ص24، وفيات الأعيان 1/ 304، غاية النهاية 1/ 346، تهذيب التهذيب 5/ 38، ميزان الاعتدال 2/ 5".
(5)
هو زر بن حبيش الأسدي، أبو مريم الكوفي، تابعي مشهور، كان من أعرب الناس، وكان ابن مسعود يسأله عن العربية، توفي سنة 83هـ على خلاف "تذكرة الحفاظ 1/ 54، الإصابة 1/ 577، تهذيب التهذيب 3/ 321".
عند أحجار المراء فقال: "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الغلام والجارية والشيخ العاسي والعجوز"، فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف (1)، قال:"فمعنى قوله: "على سبعة أحرف"، يريد -والله أعلم- على لغات شعوب من العرب سبعة، أو من جماهيرها وعمايرها".
ثم ذكر حديث عثمان رضي الله عنه: "أنزل القرآن بلسان مضر".
وعن سعيد بن المسيب (2) قال: "نزل القرآن على لغة هذ الحي من لدن هوازن وثقيف [48 ظ] إلى ضربة".
وروي أبو خلدة (3) عن أبي العالية قال: "قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم من كل خمس رجل، فاختلفوا في اللغة، ورضي قراءتهم كلهم، وكانت تميم أعرب القوم".
قال أبو حاتم السجستاني: "أحب الألفاظ واللغات إلينا لغات قريش ثم من دنا منهم من بطون العرب ومن بطون مضر خاصة للحديث الذي جاء في مضر".
وقال الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، صارت في عجز هوازن منها خمسة"(4) .
(1) انظر ص82، 83.
(2)
هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي، أبو محمد المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وأجد سادات التابعين فقها ودينا، توفي سنة 94هـ على خلاف "وفيات الأعيان 1/ 258، تهذيب التهذيب 4/ 48".
(3)
هو خالد بن دينار التميمي السعدي، أبو خلدة البصري، توفي سنة 152هـ "الطبقات الكبرى 7/ 275، تهذيب التهذيب 3/ 88".
(4)
انظر هذه الرواية في ص 92، 102.
قال أبو حاتم: "عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر".
قال أبو حاتم: "خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان".
قال قاسم بن ثابت: "ولو أن رجلا مثالا، يريد به الدلالة على معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف". وجعل الأحرف على مراتب سبعة، فقال: "منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفاظها، ومنها لقيس، لكان قد أوتي على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها القرآن" (1) .
قال: [49 و]"وإن في لغة مضر شواذ، لا نختارها ولا نجيز القرآن بها، مثل كشكشة قيس، يجعلون كاف المؤنث شينا (2) ، وعنعنة تميم، يقولون "عن" في موضع "أن" (3)، وكما ذكر عن بعضهم أنه يبدل السين تاء (4) . ثم قال:
"وهذه الأحاديث الصحاح التي ذكرنا بالأسانيد الثابتة المتصلة تضيق
(1) نقل قول قاسم بن ثابت هذا ابن عبد البر في كتابه التمهيد 4/ 63و، وانظر ص37/ ظ.
(2)
فيقولون في: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} "مريم: 24": "
…
ربش تحتش
…
"، انظر: التمهيد 4/ 63و.
(3)
فيقولون في {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْح} "المائدة: 52": "
…
عن يأتي
…
"، انظر التمهيد 4/ 63و.
(4)
فيقولون في "الناس": "النات"، انظر: التمهيد 4/ 63و.
عن كثير من الوجوه التي وجهها عليها من زعم أن الأحرف في صورة الكتبة وفي التقديم والتأخير والزيادة والنقصان؛ لأن الرخصة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب ليس لهم يومئذ كتاب يعتبرونه، ولا رسم يتعارفونه، ولا يقف أكثرهم من الحروف على كتبه، ولا يرجعون منها إلى صورة، وإنما كانوا يعرفون الألفاظ بجرسها، أي بصوتها، ويجدونها بمخارجها، ولم يدخل عليهم يومئذ من اتفاق الحروف ما دخل بعدهم على الكتبين من اشتباه الصور، وكان أكثرهم لا يعلم بين الزاي والسين سببا، ولا بين الصاد والضاد نسبا".
قال: "فإن قيل: فإنا نجد حروفا متباينة المخارج، وهي متفقة الصور يقرءون بها، مثل "ننشرها" و {نُنْشِزُهَا} (1) ، فإن العلة في ذلك تقارب معانيها، وإن تباعدت مخارجها، وليس بعجب أن يتوافى لحرفين [49 ظ] متباينين في اللفظ، متقاربين في المخرج صورة تجمعهما وسمة تأخذهما، كما أنه ليس بعجب أن يتوافى في اللفظ الواحد معنيان متباينان، يسوغ بها القول ويحملها التأويل. ألا ترى أن الذين أخذت عنهم القراءة إنما تلقوها سماعا وأخذوها مشافهة وإنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، ولا يلتفت في ذلك إلى الصحف ولا إلى ما جاء من وراء وراء، وإنما أخذت الرخصة في ذلك بالأمة الأمية، والعصبة المعدية، فلما كانت الرخصة وهم كانوا العلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وإن الشهر هكذا وهكذا" (2) ، وجعل يشير بأصابعه عد العرب".
(1) البقرة: 259، انظر ص114.
(2)
البخاري 2/ 230، مسلم 3/ 124، أبو داود 2/ 298.
قال: "وذكر بعض الخبريين أن هشام بن عبد الملك (1) مر على ميل فقال الأعرابي: انظر ما الذي عليه مكتوبا، فنظر ثم أقبل فقال: محجن وحلقة وثلاث، كأنها أطباء الكلبة، وهامة كأنها منقار قطاة. فقال هشام: هذه خمسة".
قد قاسم بن ثابت: "ومن قول هذا الرجل أيضا أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى حرف له سبعة وجوه من القراءات".
قال: "وهذا اعتساف بلا تثبت، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما له وجوه من القراءات سبعة، أو تزيد من غير أن تقول: "إن [50 و] هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، وإن ذلك موجود في جميع الحروف".
ثم ذكر عن أبي حاتم السجستاني في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوت} (2) سبعة أوجه من القراءات محفوظة، وإن كان المشهور عندنا اثنتين.
ثم قال: "وأما في اللغات فموجود عنهم أن يختلفوا في حركات الحرف الواحد على سبعة وجوه، مثل قوله عز وجل: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} (3) ، فقرأ بعضهم {عليهمو} بضمتين وواو، وبعضهم بضمتين وألقى الواو وأبقى حركة الميم، وبعضهم "عليهم" بضم الهاء وأسكن الميم، وبعضهم "عليهمي" بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألقى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وتسكين الميم، وبعضهم بكسر الهاء وضم
(1) هو هشام بن عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي، توفي سنة 125هـ، "تاريخ الخلفاء ص96".
(2)
المائدة: 60، انظر الحاشية رقم 3 ص98.
(3)
الفاتحة: 7.
الميم" (1) . قال: "وذلك كله مروي عن الأئمة من القراء والرؤساء من أهل اللغة والفصحاء من العرب".
قلت: وبقي فيها قراءة ثامنة مشهورة، وهي كسر الهاء وصلة الميم بواو (2) .
وقال صاحب (3) شرح السنة:
"أظهر الأقاويل وأصحها وأشبهها بظاهر الحديث أن المراد من هذه الحروف اللغات، وهو أن يقرأ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم من الإدغام والإظهار والإمالة والتفخيم والإشمام والإتمام والهمز والتليين وغير ذلك من وجوه [50 ظ] اللغات إلى سبعة أوجه منها في الكلة الواحدة".
ثم قال: "ولا يكون هذا الاختلاف داخلا تحت قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (4) ؛ إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها كلام الله عز وجل، نزل بها الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليه قوله عليه السلام: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" (5) ، فجعل الأحرف كلها منزلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض جبريل عليه السلام
(1) انظر: المحتسب 1/ 43.
(2)
انظر نفس المصدر 1/ 44.
(3)
هو أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، سبقت ترجمته في الحاشية رقم 6 ص66.
(4)
النساء: 82.
(5)
انظر ص77-86.
في كل شهر رمضان بما يجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله فيه ما شاء وينسخ ما يشاء، وكان يعرض عليه في كل عرضة وجها من الوجوه التي أباح الله له أن يقرأ القرآن به، وكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى أن يقرأ ويقرئ بجميع ذلك، وهي كلها متفقة المعاني وإن اختلف بعض حروفها".
ثم قال: وقوله في الأحاديث: "كلها شاف كاف"(1) ، يريد -والله أعلم- أن كل حرف من هذه الأحرف السبعة شاف لصدور المؤمنين، لاتفاقها في المعنى، وكونها من عند الله وتنزيله ووحيه، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} (2) ، وهو كاف في الحجة [51 و] على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعجاز نظمه وعجز الخلائق عن الإتيان بمثله" (3) .
وفي "كتاب غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر"(4) .
"ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل، ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ أن يقرأ الرجل القرآن على حرف، فيقول له الآخر: ليس هو هكذا ولكنه هكذا، على خلافه، وقد أنزلهما الله تبارك وتعالى جميعا، يعلم ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن
(1) انظر ص82، 87.
(2)
فصلت: 44.
(3)
شرح السنة 140ظ-141ظ.
(4)
انظر ص84، 85، 104.
نزل على سبعة أحرف كل حرف منها شافٍ كافٍ" (1) .
"ومنه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إياكم والاختلاف والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال، فإذا جحد هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يؤمن أن يكون ذلك قد أخرجه إلى الكفر لهذا المعنى"(2) .
"ومنه حديث عمر رضي الله عنه: اقرءوا القرآن ما اتفقتم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه"(3) .
"ومنه حديث أبي العالية الرياحي: أنه إذا قرأ القرآن عنده إنسان لم يقل: ليس هو هكذا، ولكن يقول: أما أنا فأقرأ هكذا"(4) .
"قال شعيب بن الحبحاب (5) : فذكرت ذلك لإبراهيم (6) فقال: أرى صاحبك [51 ظ] قد سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله"(7) .
وقال أبو جعفر الطبري:
"أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما خصه الله تعالى به وأمته من الفضيلة
(1) انظر ص84.
(2)
انظر ص88-89.
(3)
رواه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 372و، وانظر: البخاري 6/ 115 أيضا.
(4)
رواه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 374و.
(5)
هو شعيب بن الحبحاب الأزدي، أبو صالح البصري، تابعي ثقة، توفي سنة 130هـ على خلاف "غاية النهاية 1/ 327، تهذيب التهذيب 4/ 350".
(6)
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، فقيه، يرسل عن جماعة ولم يصح له سماع من صحابي، وقد استقر الأمر على أنه حجة، توفي سنة 96هـ "تذكرة الحفاظ 1/ 69، ميزان الاعتدال 1/ 35، غاية النهاية 1/ 29".
(7)
غريب الحديث 2/ 11-12.
والكرامة التي لم يؤتها أحدًا في تنزيله".
"وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به، كان ذلك ترجمة له وتفسيرًا، لا تلاوة له على ما أنزل الله".
"وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي كان له تاليا على ما أنزله الله، لا مترجما ولا مفسرًا، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ -إذا أصاب معناه- له مترجما".
"فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان الكتاب الأول نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف".
"وأما معنى قوله: "إن الكتاب الأول نزل من باب واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب" (1) ، فقد مضى تفسير "الأبواب السبعة".
وهي أنه آمر وزاجر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، ولم يجمع كتاب مما تقدم هذه "الأبواب السبعة" كزبور داود الذي هو تذكر ومواعظ، وإنجيل عيسى الذي هو تمجيد ومحامد [52 و] وحض على الصفح والإعراض" (2) .
وأطال الطبري رحمه الله كلامه في تقرير ذلك، والله أعلم.
(1) مر ذكر هذا الحديث في ص107.
(2)
تفسير الطبري 1/ 70.