الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
الإلمام بعلوم التخصص:
إن الدراية الكافية، والمعرفة الجيدة بالعلوم التي يتخصص بها المدرس، تعدُّ مطلباً مهماً من مطالب التأهل للتعليم؛ لأن إيصال العلم بأمانة للآخرين متوقف على التأسيس المتين، والفهم السليم لأسس ومبادئ العلم المتخصص فيه.
وأهل كل علم وأرباب كل صنعة أدرى بها من غيرها، وقديماً قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى - (كل علم يسأل عنه أهله)(1) ، لذلك إذا تكلم الإنسان في علم لا يحسنه، ولا يعرف حدوده ومصطلحاته أتى بالعجائب والغرائب.
ويعد التمكن في علم التخصص مهماً - أيضاً - لإبراز شخصية المدرس، ودورها الفعال في التأثير والتوجيه، لأن المعلم الضعيف في هذا الجانب، يعطي صورة مهزوزة عنه أمام تلاميذه، مما يضعف تأثيره فيهم.
وسأتناول أهم العلوم المساعدة التي تؤهل مدرس القرآن الكريم إلى المستوى المنشود منه.
(أ) إتقان علم التجويد:
وهذا العلم هو الصفة الشرعية التي يُتَعَبَّد بها في تلاوة كلام ربنا، ويعتبر كذلك - إن صحَّ تعبيري - البنية التحتية لعلم القراءات؛ لأن كثيراً من قواعده وأصوله مشتركة بين القراء، فإتقانه على المستوى العلمي النظري، والمستوى العملي التطبيقي وسيلة ضرورية للمعلم.
(1) النشر: 1 / 271.
وإلا فكيف يستطيع المدرس شرح بعض المصطلحات الدقيقة في هذا العلم، نحو: الهمس، والشدة، إن لم يفهمها فهماً واضحاً دقيقاً، ويتلقها تلقياً جيداً متقناً؟، أو كيف يستطيع نطق بعض الكلمات القرآنية التي تحتاج إلى معرفة تامة بطريقة نطقها كوجهي الاختلاس، والإشمام مع الإدغام في قوله تعالى:{لا تَأْمَنَّا} (يوسف: 11)، أو التسهيل في قوله:{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) ، ونحوها؟
وقد يؤدي الأمر في بعض المتصدرين لتعليم القرآن إلى هُوَّة بعيدة، بسبب عدم فهم حدود التعريفات والمصطلحات، فيفسرها تفسيراً شاذاً أو بعيداً، كما حصل لبعض المؤلفين في أحكام التجويد، فذكر أن المد المنفصل يجوز قصره من طريق (الطيبة)، قال:(أهل المدينة المنورة)(1) .
ففسَّر طريق (الطيبة) ، وهو متن في القراءات العشر لابن الجزري نظم فيه كتابه (النشر) ، بأحد أسماء مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو فهم عجيب!!.
ويمكننا اعتبار بواكير الاهتمام بالناحية العملية في جانب التجويد، هو قراءة الصحابة رضوان الله عليهم على النبي عليه الصلاة والسلام، وقراءة بعضهم على بعض. وثبت عن جمع من الصحابة والتابعين قولهم:(القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول)(2) .
ومن مظاهر هذا الاهتمام أن عثمان رضي الله عنه لما بعث المصاحف إلى الأمصار، أرفق مع كل مصحف مقرئاً ضابطاً يقرئ عامة الناس
(1) انظر هداية القاري إلى تجويد كلام الباري: 303.
(2)
انظر طرق الأثر في السبعة لابن مجاهد: 49 - 52.
بما في هذا المصحف وَفق ما قرأ وروى؛ لأن في القراءة كيفيات وصفات لا تؤخذ إلا بالتلقي والمشافهة.
ومما ينبغي تأكيده - ونحن نتكلم على إتقان التجويد - أمران:
الأول: أن يُتَخيَّر للقراءة شيخ متقن ضابط، استكمل الأهلية في هذا الأمر، فإذا حصَّل المرء مثله فليحرص على طول ملازمته والأخذ عنه.
قال مكي بن أبي طالب: (يجب على طالب القرآن أن يتخير لقراءته ونقله وضبطه أهل الديانة والصيانة، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علم العربية، والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم)(1) .
الثاني: العناية بمخارج الحروف وصفاتها، وهو من أهم مباحث التجويد، وإتقانه يعد إتقاناً لثلاثة أرباع التجويد.
وعرَّف الإمام الداني التجويد بقوله: (فتجويد القرآن، هو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ومراتبها، وردّ الحرف من حروف المعجم إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتمكين النطق به على حال صيغته وهيئته من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف)(2) .
وجعل الصفاقسي التجويدَ: معرفة مخارج الحروف وصفاتها (3) .
وأرى أن من أفضل ما يدرسه المعلم في باب التجويد - ويحسن به حفظه - هو منظومة ابن الجزري (المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه) المعروفة بالجزرية؛ لأنها تمثل واسطة العقد في مؤلفات هذا الفن، ولاقت
(1) الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة: 89.
(2)
التحديد في الإتقان والتجويد: 70.
(3)
غيث النفع: 21.
احتفاء واهتماماً من أهل العلم، لكون ناظمها إماماً مقدَّماً في هذا العلم، ولأنها جمعت أمهات المسائل وأطر علم التجويد.
وإن أراد الارتقاء إلى علم القراءات، فليحفظ كتاباً جامعاً مشتملاً على ما ينبغي أن يقرأ به من أصول القراءات وفرشها (1) .
وينبغي له معرفة حكم تركيب القراءات بعضها مع بعض (2) ، ومعرفة طريقة جمعها؛ لأن معظم شيوخ هذا العلم المتأخرين يأخذون بطريقة الجمع (3) .
وأنبه في خاتمة حديثي عن التجويد أن بعض من لم يتلق هذا العلم عن شيوخه الأثبات أهل الورع والرواية، والعلم والدراية، يقع في تكلُّف وتزيُّد من غير أصل، وهذا بسبب تعاطيه هذا العلم من غير أن يقتبسه من عالم مُجيد.
قال الداني رحمه الله – "فأما ما يذهب إليه بعض أهل الغباوة من أهل الأداء من الإفراط في التمطيط، والتعسف في التفكيك، والإسراف في إشباع الحركات وتلخيص السواكن، إلى غير ذلك من الألفاظ المستبشعة، والمذاهب المكروهة، فخارج عن مذاهب الأئمة وجمهور سلف الأمة، وقد وردت الآثار عنهم بكراهة ذلك، وبكيفية حقيقته"(4) .
(1) انظر منجد المقرئين: 52، ولطائف الإشارات: 1 / 334.
(2)
انظر منجد المقرئين: 77 - 78، والنشر: 1 / 18 - 19.
(3)
انظر منجد المقرئين: 72 - 74، والنشر: 2 / 194 - 206.
(4)
التحديد: 89.
(ب) الاهتمام بالسند:
وهو من أهم وسائل علم القراءة؛ لأن القراءة قائمة على الرواية والنقل، فلا بد من إثباتها، وطريق ذلك الإسناد.
وقد نبه العلماء على أهمية الاعتناء بهذا العلم، وعدوه من العلوم اللازم
معرفتها لطالب القراءة، كابن الجزري (1) ، والبقاعي (2) ، والقسطلاني (3) ، والصفاقسي (4) .
وقد قال الإمام عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"(5) .
ويعتبر حصول الطالب على إسناد في القراءة متصلاً سنده بالنبي صلى الله عليه وسلم شهادة على أهليته وصلاحه للتدريس وتعليم القرآن الكريم، وتزكية له وتوثيقاً في دخوله في السلسلة المباركة لتحمُّل القرآن ونقله، بحيث أصبح عدلاً ضابطاً في نقل الرواية أو الروايات التي قرأها
وتلقاها.
ولما كان القرآن لا يؤخذ من المصحف، اشتدت العناية بالتلقي والإسناد، وكان هذا الأمر دأب العلماء، وطلبة العلم الجادين.
(1) انظر منجد المقرئين: 57، والنشر: 1 / 193.
(2)
انظر الضوابط والإشارات لأجزاء علم القراءات: 20.
(3)
انظر لطائف الإشارات: 1 / 172 - 173.
(4)
انظر غيث النفع: 21.
(5)
رواه مسلم في مقدمة صحيحه: 1 / 15.
ومن طريف ما يذكر ما حكاه ابن الجوزي، قال: سمعت ابن الرومي
يقول: خرج رجل إلى قرية فأضافه خطيبها، فأقام عنده أياماً، فقال له الخطيب: أنا منذ مدة أصلي بهؤلاء القوم، وقد أشكل عليَّ في القرآن بعض
مواضع.
قال: سلني عنها، قال: منها في (الحمد لله)، قال:(إياك نعبد وإياك) أي شيء: تسعين أو سبعين؟ أشكلت عليَّ هذه، فأنا أقولها (تسعين) آخذ بالاحتياط (1) .
وقد ذكر العلماء أن مقرئ القرآن لا بدَّ له من أنسة بحال الرجال والأسانيد، وهو من أهم ما يحتاج إليه (2) ، وما وقعت أخطاء عدد من القراء في أسانيدهم، إلا بسبب غفلتهم عن هذا الجانب (3) .
وذكر ابن الجزري رحمه الله أنه لا بدَّ من سماع الأسانيد على الشيخ، والأعلى أن يحدثه الشيخ بها من لفظه، فأما من لم يسمع الأسانيد على شيخه، فأسانيده من طريقة منقطعة (4) .
ومما ينبغي تأكيده ما يحصل من إعطاء الإجازات المبهمة، أي التي لا تعيين فيها لنوع المقروء، ومقداره، وكيفيته، سواء من جانب الشيخ المجيز، أو
(1) أخبار الحمقى والمغفلين: 71.
(2)
انظر منجد المقرئين: 57، ولطائف الإشارات: 1 / 173 - 174.
(3)
انظر كلام ابن الجزري في الأوهام التي وقعت في أسانيد (الكامل) للهذلي في غاية النهاية: 2 / 400.
(4)
منجد المقرئين: 76.
في جانب الطالب المجاز، وهو تدليس، بل يرى ابن الجزري أنه تدليس فاحش، يلزم منه مفاسد كثيرة (1) .
فينبغي للمجيز أن ينص على الرواية أو الروايات التي قرأها الطالب عليه، ومن أي كتاب، ومن أي طريق، وهل ختم ختمة كاملة أو لا؟.
وأرى أنه يحسن ذكر أن الطالب قرأ القرآن الكريم حفظاً من صدره - وهو الأصل في تلقي القرآن (2) - بسبب تساهل بعض من يجيز بالقراءة نظراً، وحتى يتميز الحافظ عن غيره.
(ج) العناية باللغة العربية:
يعد الاعتناء بلغة القرآن الكريم من شعائر الدين؛ لأنها السبيل للنطق الصحيح، والبيان الواضح، والفهم السليم.
وقد وردت آثار عديدة في الحث على تعلمها والحرص على طلبها، فمن ذلك ما ثبت عن عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:(تعلموا العربية، وتفقهوا في العربية)(3) .
وعد أئمة القراءة الاعتناء بها من الوسائل المهمة لعلم القراءة، كابن الجزري (4) ، والبقاعي (5) ، والقسطلاني (6) ، والصفاقسي (7) .
(1) انظر منجد المقرئين: 54.
(2)
انظر هذا الأصل عند: ابن تيمية في مجموع الفتاوى 13 / 400، وابن الجزري في النشر 1 / 6.
(3)
جامع بيان العلم وفضله: 2 / 1132 - 1133.
(4)
منجد المقرئين: 50 - 51.
(5)
الضوابط والإشارات: 20.
(6)
لطائف الإشارات: 1 / 172، 182.
(7)
غيث النفع: 21.
واعتبر ابن مجاهد حامل القرآن الذي لا يعرف الإعراب، وهو غير مطبوع عليه، حافظاً لا يلبث أن ينسى؛ لتشابه الحركات عليه، ولأنه لا يعتمد على علم بالعربية، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه (1) .
قال ابن عبد البر رحمه الله (القرآن أصل العلم، فمن حفظه قبل بلوغه، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب، كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه)(2) .
ويرى ابن الجزري أن النحو والصرف من أهم ما يحتاج إليهما قارئ القرآن ومعلمه؛ لأنه محتاج إليهما في توجيه القراءات، وفي باب وقف حمزة على الهمز، وفي أبواب الإمالة، وفي الوقف والابتداء (3) .
وقال أبو الحسن علي بن عبد الغني الحُصْري (ت: 488 هـ)(4) :
وأحسِنْ كلام العُرْب إن كنت مقرئاً
…
وإلا فتخطي حين تقرأ أو تُقري
لقد يدَّعي علم القراءة معشر
…
وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قيل: ما إعراب هذا ووزنه
رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
وقال الداني: - في صفات من يُؤخذ عنهم العلم - (5) :
وفَهِم اللغاتِ والإعرابا
…
وعلم الخطأ والصَّوابا
(1) انظر السبعة في القراءات: 45.
(2)
جامع بيان العلم وفضله: 2 / 1130.
(3)
انظر منجد المقرئين: 50 - 51.
(4)
شرح القصيدة الحصرية لابن عظيمة الإشبيلي: 2 / 26.
(5)
الأرجوزة المنبهة: 168، 171.
وقال:
وكل من لا يعرف الإعرابا
…
فربَّما قد يترك الصوابا
وربما قد قوَّل الأيمَّهْ
…
ما لا يجوز وينال إثمه
لذلك ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكتب إلى عماله: "لا يقرئ القرآن إلا من يعرف الإعراب"(1) .
فحري بمعلم القرآن أن يتقن هذا العلم، ويدرب طلابه عليه، ويحببه إليهم.
وإذا نظرنا إلى أئمة القرآن نجد أن معظمهم جمعوا بين علمي القراءة والعربية، ولهم تراجم في طبقات القراء، وفي طبقات النحاة واللغويين، ونراهم قد زاوجوا في تآليفهم بين العلمين، فصنفوا فيهما.
(د) معرفة الوقف والابتداء:
معرفة هذا العلم من المقاصد الجليلة، والمطالب النبيلة لقارئ القرآن ومعلمه؛ كي يعرف كيف يقف، وأين يقف، ومن أين يبتدئ وكيف يبدأ القراءة.
لذلك اعتنى به السلف، وتعلّمه الصحابة رضوان الله عليهم، فقال ابن عمر:(لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها)(2) .
(1) ذكره الشهرزوري في (المصباح الزاهر) : 1522.
(2)
رواه أبو جعفر النحاس في القطع والائتناف: 87، والحاكم في المستدرك: 1 / 35 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي.
قال النحاس: "فهذا الحديث يدل على أنهم كانوا يتعلمون التمام كما يتعلمون القرآن، وقول ابن عمر: (لقد عشنا برهة من الدهر) ، يدل على أن ذلك إجماع من الصحابة"(1) .
وقال ابن الجزري: "وصحَّ بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع - إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين -، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم، وأبي عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم من الأئمة، وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب"(2) .
أليس يقبح بالقارئ أن يقف - مثلاً - على قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ} (3)، أو على قوله:{وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ} (4)، أو على قوله:{فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هَارُونُ} (5) ، فيفسد المعنى في هذا كله، ويقشعر جلد من سمعه؟
وأليس يستبشع من القارئ ألا يعلم كيف يبدأ بنحو قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (الأحقاف: 4) أو قوله: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
…
} (ص الآية: 6) ؟
(1) القطع والائتناف: 87.
(2)
النشر: 1 / 225.
(3)
النساء، الآية:11.
(4)
يوسف، الآية:17.
(5)
القصص، الآية: 33، 34.
ولهذا اشترط كثير من أئمة القراءة على المجيز أن لا يجيز الطالب في القرآن إلا بعد معرفة الوقف والابتداء (1) .
وقد ألَّف العلماء في هذا العلم مؤلفات كثيرة قديماً وحديثاً، ما بين مختصرات كالمقدمة للعلم، نحو (نظام الأداء في الوقف والابتداء) لابن الطحان السماتي (ت بعد: 560 هـ) ، وهي مقدمة مفيدة، وما بين مطوَّلات ككتاب (المرشد) للعماني (ت بعد: 500 هـ) .
ومن أحسن الكتب المتأخرة في هذا العلم كتاب (منار الهدى في بيان الوقف والابتدا) لأحمد بن محمد بن عبد الكريم الأشموني (ت بعد: 1099 هـ) ، فقد جمع فيه خلاصات كثير من الكتب السابقة.
وتعتبر علامات الوقوف الست المرموز لها في المصحف برموز خاصة، علامات هادية لأماكن الوقف والابتداء، فيحسن بمعلم القرآن العناية بها، وأخذ الطلاب لاعتبارها والاهتمام بها أثناء قراءتهم وحفظهم.
(هـ) الدراية برسم القرآن:
كتب القرآن الكريم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بصورة معينة، أضْفَتْ عليه صبغة خاصة تناقلها رواة وكتبة المصاحف، ثم دونها علماء القراءة في مصنفات وصفوا فيها هيئات تلك الكتابة على نحو أمين ومتقن، صار بعد ذلك عِلْماً قائماً بذاته، هو علم (رسم القرآن) ، فغدا هذا العلم عِلْماً مميزاً لا يخضع لقواعد الإملاء، لا من حيث النطق، ولا من حيث الرسم، في الكثير منه.
(1) انظر النشر: 1 / 225.
وتعدُّ معرفة قواعد الرسم العثماني من الوسائل المهمة لمعرفة القراءة، نصَّ على ذلك عدد من أهل العلم، منهم: البقاعي (1) ، والقسطلاني (2) ، والصفاقسي (3) .
وتنحصر معرفة الرسم القرآني في ست قواعد (4) :
- الحذف: وهو مطرد في الألف، والياء، والواو، واللام، وأحياناً في النون.
- الزيادة: وهي مطردة في الألف، والياء، والواو.
- الهمزات: ولها أوضاع خاصة في أول الكلمة، ووسطها، وآخرها.
- الإبدال: وهو مطرد في إبدال الألف واواً أو ياء، أو تاء التأنيث المربوطة تاء مفتوحة، أو إبدال الثلاثي الواوي ألفاً، أو نون التوكيد الخفيفة ألفاً، وورد في موضعين (5) .
- المقطوع والموصول: نحو قطع (أن لا) أو وصلها (6) .
(1) الضوابط والإشارات: 20.
(2)
لطائف الإشارات: 1 / 172.
(3)
غيث النفع: 21.
(4)
انظر تفصيل هذه القواعد في: الإتقان 4 / 147 - 158، ولطائف الإشارات: 1 / 288 - 306، وإيقاظ الأعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الإمام: 41 - 61.
(5)
في قوله تعالى: {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} يوسف، الآية: 32، وقوله:{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} العلق، الآية:15.
(6)
ورد قطعها في القرآن الكريم في عشرة مواضع باتفاق وفي بقيتها موصولة. انظر الفوائد المفهمة في شرح الجزرية المقدمة: 51.
2 -
الإلمام بعلوم التخصص:
إن الدراية الكافية، والمعرفة الجيدة بالعلوم التي يتخصص بها المدرس، تعدُّ مطلباً مهماً من مطالب التأهل للتعليم؛ لأن إيصال العلم بأمانة للآخرين متوقف على التأسيس المتين، والفهم السليم لأسس ومبادئ العلم المتخصص فيه.
وأهل كل علم وأرباب كل صنعة أدرى بها من غيرها، وقديماً قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى - (كل علم يسأل عنه أهله)(1) ، لذلك إذا تكلم الإنسان في علم لا يحسنه، ولا يعرف حدوده ومصطلحاته أتى بالعجائب والغرائب.
ويعد التمكن في علم التخصص مهماً - أيضاً - لإبراز شخصية المدرس، ودورها الفعال في التأثير والتوجيه، لأن المعلم الضعيف في هذا الجانب، يعطي صورة مهزوزة عنه أمام تلاميذه، مما يضعف تأثيره فيهم.
وسأتناول أهم العلوم المساعدة التي تؤهل مدرس القرآن الكريم إلى المستوى المنشود منه.
(أ) إتقان علم التجويد:
وهذا العلم هو الصفة الشرعية التي يُتَعَبَّد بها في تلاوة كلام ربنا، ويعتبر كذلك - إن صحَّ تعبيري - البنية التحتية لعلم القراءات؛ لأن كثيراً من قواعده وأصوله مشتركة بين القراء، فإتقانه على المستوى العلمي النظري، والمستوى العملي التطبيقي وسيلة ضرورية للمعلم.
(1) النشر: 1 / 271.
وإلا فكيف يستطيع المدرس شرح بعض المصطلحات الدقيقة في هذا العلم، نحو: الهمس، والشدة، إن لم يفهمها فهماً واضحاً دقيقاً، ويتلقها تلقياً جيداً متقناً؟، أو كيف يستطيع نطق بعض الكلمات القرآنية التي تحتاج إلى معرفة تامة بطريقة نطقها كوجهي الاختلاس، والإشمام مع الإدغام في قوله تعالى:{لا تَأْمَنَّا} (يوسف: 11)، أو التسهيل في قوله:{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) ، ونحوها؟
وقد يؤدي الأمر في بعض المتصدرين لتعليم القرآن إلى هُوَّة بعيدة، بسبب عدم فهم حدود التعريفات والمصطلحات، فيفسرها تفسيراً شاذاً أو بعيداً، كما حصل لبعض المؤلفين في أحكام التجويد، فذكر أن المد المنفصل يجوز قصره من طريق (الطيبة)، قال:(أهل المدينة المنورة)(1) .
ففسَّر طريق (الطيبة) ، وهو متن في القراءات العشر لابن الجزري نظم فيه كتابه (النشر) ، بأحد أسماء مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو فهم عجيب!!.
ويمكننا اعتبار بواكير الاهتمام بالناحية العملية في جانب التجويد، هو قراءة الصحابة رضوان الله عليهم على النبي عليه الصلاة والسلام، وقراءة بعضهم على بعض. وثبت عن جمع من الصحابة والتابعين قولهم:(القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول)(2) .
ومن مظاهر هذا الاهتمام أن عثمان رضي الله عنه لما بعث المصاحف إلى الأمصار، أرفق مع كل مصحف مقرئاً ضابطاً يقرئ عامة الناس
(1) انظر هداية القاري إلى تجويد كلام الباري: 303.
(2)
انظر طرق الأثر في السبعة لابن مجاهد: 49 - 52.
بما في هذا المصحف وَفق ما قرأ وروى؛ لأن في القراءة كيفيات وصفات لا تؤخذ إلا بالتلقي والمشافهة.
ومما ينبغي تأكيده - ونحن نتكلم على إتقان التجويد - أمران:
الأول: أن يُتَخيَّر للقراءة شيخ متقن ضابط، استكمل الأهلية في هذا الأمر، فإذا حصَّل المرء مثله فليحرص على طول ملازمته والأخذ عنه.
قال مكي بن أبي طالب: (يجب على طالب القرآن أن يتخير لقراءته ونقله وضبطه أهل الديانة والصيانة، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علم العربية، والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم)(1) .
الثاني: العناية بمخارج الحروف وصفاتها، وهو من أهم مباحث التجويد، وإتقانه يعد إتقاناً لثلاثة أرباع التجويد.
وعرَّف الإمام الداني التجويد بقوله: (فتجويد القرآن، هو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ومراتبها، وردّ الحرف من حروف المعجم إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتمكين النطق به على حال صيغته وهيئته من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف)(2) .
وجعل الصفاقسي التجويدَ: معرفة مخارج الحروف وصفاتها (3) .
وأرى أن من أفضل ما يدرسه المعلم في باب التجويد - ويحسن به حفظه - هو منظومة ابن الجزري (المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه) المعروفة بالجزرية؛ لأنها تمثل واسطة العقد في مؤلفات هذا الفن، ولاقت
(1) الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة: 89.
(2)
التحديد في الإتقان والتجويد: 70.
(3)
غيث النفع: 21.
احتفاء واهتماماً من أهل العلم، لكون ناظمها إماماً مقدَّماً في هذا العلم، ولأنها جمعت أمهات المسائل وأطر علم التجويد.
وإن أراد الارتقاء إلى علم القراءات، فليحفظ كتاباً جامعاً مشتملاً على ما ينبغي أن يقرأ به من أصول القراءات وفرشها (1) .
وينبغي له معرفة حكم تركيب القراءات بعضها مع بعض (2) ، ومعرفة طريقة جمعها؛ لأن معظم شيوخ هذا العلم المتأخرين يأخذون بطريقة الجمع (3) .
وأنبه في خاتمة حديثي عن التجويد أن بعض من لم يتلق هذا العلم عن شيوخه الأثبات أهل الورع والرواية، والعلم والدراية، يقع في تكلُّف وتزيُّد من غير أصل، وهذا بسبب تعاطيه هذا العلم من غير أن يقتبسه من عالم مُجيد.
قال الداني رحمه الله – "فأما ما يذهب إليه بعض أهل الغباوة من أهل الأداء من الإفراط في التمطيط، والتعسف في التفكيك، والإسراف في إشباع الحركات وتلخيص السواكن، إلى غير ذلك من الألفاظ المستبشعة، والمذاهب المكروهة، فخارج عن مذاهب الأئمة وجمهور سلف الأمة، وقد وردت الآثار عنهم بكراهة ذلك، وبكيفية حقيقته"(4) .
(1) انظر منجد المقرئين: 52، ولطائف الإشارات: 1 / 334.
(2)
انظر منجد المقرئين: 77 - 78، والنشر: 1 / 18 - 19.
(3)
انظر منجد المقرئين: 72 - 74، والنشر: 2 / 194 - 206.
(4)
التحديد: 89.
(ب) الاهتمام بالسند:
وهو من أهم وسائل علم القراءة؛ لأن القراءة قائمة على الرواية والنقل، فلا بد من إثباتها، وطريق ذلك الإسناد.
وقد نبه العلماء على أهمية الاعتناء بهذا العلم، وعدوه من العلوم اللازم
معرفتها لطالب القراءة، كابن الجزري (1) ، والبقاعي (2) ، والقسطلاني (3) ، والصفاقسي (4) .
وقد قال الإمام عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"(5) .
ويعتبر حصول الطالب على إسناد في القراءة متصلاً سنده بالنبي صلى الله عليه وسلم شهادة على أهليته وصلاحه للتدريس وتعليم القرآن الكريم، وتزكية له وتوثيقاً في دخوله في السلسلة المباركة لتحمُّل القرآن ونقله، بحيث أصبح عدلاً ضابطاً في نقل الرواية أو الروايات التي قرأها
وتلقاها.
ولما كان القرآن لا يؤخذ من المصحف، اشتدت العناية بالتلقي والإسناد، وكان هذا الأمر دأب العلماء، وطلبة العلم الجادين.
(1) انظر منجد المقرئين: 57، والنشر: 1 / 193.
(2)
انظر الضوابط والإشارات لأجزاء علم القراءات: 20.
(3)
انظر لطائف الإشارات: 1 / 172 - 173.
(4)
انظر غيث النفع: 21.
(5)
رواه مسلم في مقدمة صحيحه: 1 / 15.
ومن طريف ما يذكر ما حكاه ابن الجوزي، قال: سمعت ابن الرومي
يقول: خرج رجل إلى قرية فأضافه خطيبها، فأقام عنده أياماً، فقال له الخطيب: أنا منذ مدة أصلي بهؤلاء القوم، وقد أشكل عليَّ في القرآن بعض
مواضع.
قال: سلني عنها، قال: منها في (الحمد لله)، قال:(إياك نعبد وإياك) أي شيء: تسعين أو سبعين؟ أشكلت عليَّ هذه، فأنا أقولها (تسعين) آخذ بالاحتياط (1) .
وقد ذكر العلماء أن مقرئ القرآن لا بدَّ له من أنسة بحال الرجال والأسانيد، وهو من أهم ما يحتاج إليه (2) ، وما وقعت أخطاء عدد من القراء في أسانيدهم، إلا بسبب غفلتهم عن هذا الجانب (3) .
وذكر ابن الجزري رحمه الله أنه لا بدَّ من سماع الأسانيد على الشيخ، والأعلى أن يحدثه الشيخ بها من لفظه، فأما من لم يسمع الأسانيد على شيخه، فأسانيده من طريقة منقطعة (4) .
ومما ينبغي تأكيده ما يحصل من إعطاء الإجازات المبهمة، أي التي لا تعيين فيها لنوع المقروء، ومقداره، وكيفيته، سواء من جانب الشيخ المجيز، أو
(1) أخبار الحمقى والمغفلين: 71.
(2)
انظر منجد المقرئين: 57، ولطائف الإشارات: 1 / 173 - 174.
(3)
انظر كلام ابن الجزري في الأوهام التي وقعت في أسانيد (الكامل) للهذلي في غاية النهاية: 2 / 400.
(4)
منجد المقرئين: 76.
في جانب الطالب المجاز، وهو تدليس، بل يرى ابن الجزري أنه تدليس فاحش، يلزم منه مفاسد كثيرة (1) .
فينبغي للمجيز أن ينص على الرواية أو الروايات التي قرأها الطالب عليه، ومن أي كتاب، ومن أي طريق، وهل ختم ختمة كاملة أو لا؟.
وأرى أنه يحسن ذكر أن الطالب قرأ القرآن الكريم حفظاً من صدره - وهو الأصل في تلقي القرآن (2) - بسبب تساهل بعض من يجيز بالقراءة نظراً، وحتى يتميز الحافظ عن غيره.
(ج) العناية باللغة العربية:
يعد الاعتناء بلغة القرآن الكريم من شعائر الدين؛ لأنها السبيل للنطق الصحيح، والبيان الواضح، والفهم السليم.
وقد وردت آثار عديدة في الحث على تعلمها والحرص على طلبها، فمن ذلك ما ثبت عن عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:(تعلموا العربية، وتفقهوا في العربية)(3) .
وعد أئمة القراءة الاعتناء بها من الوسائل المهمة لعلم القراءة، كابن الجزري (4) ، والبقاعي (5) ، والقسطلاني (6) ، والصفاقسي (7) .
(1) انظر منجد المقرئين: 54.
(2)
انظر هذا الأصل عند: ابن تيمية في مجموع الفتاوى 13 / 400، وابن الجزري في النشر 1 / 6.
(3)
جامع بيان العلم وفضله: 2 / 1132 - 1133.
(4)
منجد المقرئين: 50 - 51.
(5)
الضوابط والإشارات: 20.
(6)
لطائف الإشارات: 1 / 172، 182.
(7)
غيث النفع: 21.
واعتبر ابن مجاهد حامل القرآن الذي لا يعرف الإعراب، وهو غير مطبوع عليه، حافظاً لا يلبث أن ينسى؛ لتشابه الحركات عليه، ولأنه لا يعتمد على علم بالعربية، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه (1) .
قال ابن عبد البر رحمه الله (القرآن أصل العلم، فمن حفظه قبل بلوغه، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب، كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه)(2) .
ويرى ابن الجزري أن النحو والصرف من أهم ما يحتاج إليهما قارئ القرآن ومعلمه؛ لأنه محتاج إليهما في توجيه القراءات، وفي باب وقف حمزة على الهمز، وفي أبواب الإمالة، وفي الوقف والابتداء (3) .
وقال أبو الحسن علي بن عبد الغني الحُصْري (ت: 488 هـ)(4) :
وأحسِنْ كلام العُرْب إن كنت مقرئاً
…
وإلا فتخطي حين تقرأ أو تُقري
لقد يدَّعي علم القراءة معشر
…
وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قيل: ما إعراب هذا ووزنه
رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
وقال الداني: - في صفات من يُؤخذ عنهم العلم - (5) :
وفَهِم اللغاتِ والإعرابا
…
وعلم الخطأ والصَّوابا
(1) انظر السبعة في القراءات: 45.
(2)
جامع بيان العلم وفضله: 2 / 1130.
(3)
انظر منجد المقرئين: 50 - 51.
(4)
شرح القصيدة الحصرية لابن عظيمة الإشبيلي: 2 / 26.
(5)
الأرجوزة المنبهة: 168، 171.
وقال:
وكل من لا يعرف الإعرابا
…
فربَّما قد يترك الصوابا
وربما قد قوَّل الأيمَّهْ
…
ما لا يجوز وينال إثمه
لذلك ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكتب إلى عماله: "لا يقرئ القرآن إلا من يعرف الإعراب"(1) .
فحري بمعلم القرآن أن يتقن هذا العلم، ويدرب طلابه عليه، ويحببه إليهم.
وإذا نظرنا إلى أئمة القرآن نجد أن معظمهم جمعوا بين علمي القراءة والعربية، ولهم تراجم في طبقات القراء، وفي طبقات النحاة واللغويين، ونراهم قد زاوجوا في تآليفهم بين العلمين، فصنفوا فيهما.
(د) معرفة الوقف والابتداء:
معرفة هذا العلم من المقاصد الجليلة، والمطالب النبيلة لقارئ القرآن ومعلمه؛ كي يعرف كيف يقف، وأين يقف، ومن أين يبتدئ وكيف يبدأ القراءة.
لذلك اعتنى به السلف، وتعلّمه الصحابة رضوان الله عليهم، فقال ابن عمر:(لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها)(2) .
(1) ذكره الشهرزوري في (المصباح الزاهر) : 1522.
(2)
رواه أبو جعفر النحاس في القطع والائتناف: 87، والحاكم في المستدرك: 1 / 35 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي.
قال النحاس: "فهذا الحديث يدل على أنهم كانوا يتعلمون التمام كما يتعلمون القرآن، وقول ابن عمر: (لقد عشنا برهة من الدهر) ، يدل على أن ذلك إجماع من الصحابة"(1) .
وقال ابن الجزري: "وصحَّ بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع - إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين -، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم، وأبي عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم من الأئمة، وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب"(2) .
أليس يقبح بالقارئ أن يقف - مثلاً - على قوله تعالى {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ} (3) ، أو على قوله {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ} (4) ، أو على قوله {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هَارُونُ} (5) ، فيفسد المعنى في هذا كله، ويقشعر جلد من سمعه؟
وأليس يستبشع من القارئ ألا يعلم كيف يبدأ بنحو قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (الأحقاف: 4) أو قوله: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
…
} (ص الآية: 6) ؟
(1) القطع والائتناف: 87.
(2)
النشر: 1 / 225.
(3)
النساء، الآية:11.
(4)
يوسف، الآية:17.
(5)
القصص، الآية: 33، 34.
ولهذا اشترط كثير من أئمة القراءة على المجيز أن لا يجيز الطالب في القرآن إلا بعد معرفة الوقف والابتداء (1) .
وقد ألَّف العلماء في هذا العلم مؤلفات كثيرة قديماً وحديثاً، ما بين مختصرات كالمقدمة للعلم، نحو (نظام الأداء في الوقف والابتداء) لابن الطحان السماتي (ت بعد: 560 هـ) ، وهي مقدمة مفيدة، وما بين مطوَّلات ككتاب (المرشد) للعماني (ت بعد: 500 هـ) .
ومن أحسن الكتب المتأخرة في هذا العلم كتاب (منار الهدى في بيان الوقف والابتدا) لأحمد بن محمد بن عبد الكريم الأشموني (ت بعد: 1099 هـ) ، فقد جمع فيه خلاصات كثير من الكتب السابقة.
وتعتبر علامات الوقوف الست المرموز لها في المصحف برموز خاصة، علامات هادية لأماكن الوقف والابتداء، فيحسن بمعلم القرآن العناية بها، وأخذ الطلاب لاعتبارها والاهتمام بها أثناء قراءتهم وحفظهم.
(هـ) الدراية برسم القرآن:
كتب القرآن الكريم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بصورة معينة، أضْفَتْ عليه صبغة خاصة تناقلها رواة وكتبة المصاحف، ثم دونها علماء القراءة في مصنفات وصفوا فيها هيئات تلك الكتابة على نحو أمين ومتقن، صار بعد ذلك عِلْماً قائماً بذاته، هو علم (رسم القرآن) ، فغدا هذا العلم عِلْماً مميزاً لا يخضع لقواعد الإملاء، لا من حيث النطق، ولا من حيث الرسم، في الكثير منه.
(1) انظر النشر: 1 / 225.
وتعدُّ معرفة قواعد الرسم العثماني من الوسائل المهمة لمعرفة القراءة، نصَّ على ذلك عدد من أهل العلم، منهم: البقاعي (1) ، والقسطلاني (2) ، والصفاقسي (3) .
وتنحصر معرفة الرسم القرآني في ست قواعد (4) :
- الحذف: وهو مطرد في الألف، والياء، والواو، واللام، وأحياناً في النون.
- الزيادة: وهي مطردة في الألف، والياء، والواو.
- الهمزات: ولها أوضاع خاصة في أول الكلمة، ووسطها، وآخرها.
- الإبدال: وهو مطرد في إبدال الألف واواً أو ياء، أو تاء التأنيث المربوطة تاء مفتوحة، أو إبدال الثلاثي الواوي ألفاً، أو نون التوكيد الخفيفة ألفاً، وورد في موضعين (5) .
- المقطوع والموصول: نحو قطع (أن لا) أو وصلها (6) .
(1) الضوابط والإشارات: 20.
(2)
لطائف الإشارات: 1 / 172.
(3)
غيث النفع: 21.
(4)
انظر تفصيل هذه القواعد في: الإتقان 4 / 147 - 158، ولطائف الإشارات: 1 / 288 - 306، وإيقاظ الأعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الإمام: 41 - 61.
(5)
في قوله تعالى (وليكوناً من الصاغرين) يوسف، الآية: 32، وقوله (لنسفعاً بالناصية) العلق، الآية:15.
(6)
ورد قطعها في القرآن الكريم في عشرة مواضع باتفاق وفي بقيتها موصولة. انظر الفوائد المفهمة في شرح الجزرية المقدمة: 51.