الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع عشر: الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم
وصف الله تعالى القرآن بأنه كله محكم، وأنه كله متشابه، وفي موضع ثالث جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. وعلى هذا فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه (1).
أما الإحكام الذي يعمه فمذكور في مثل قوله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود: 1
قال قتادة رحمه الله: (أي جعلت محكمة كلها، لا خلل فيها ولا باطل)(2) وقال في موضع آخر: (أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام)(3) وقال مجاهد رحمه الله: (أحكمت جملة ثم بينت آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها)(4) وقال ابن كثير رحمه الله: (أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل: صورة ومعنى)(5).
فالقرآن الكريم كله محكم بمعنى أنه متقن مصون من الباطل والفساد؛ صدق في أخباره، حق في أحكامه، عدل في وعده ووعيده، قال ابن تيمية رحمه الله:(فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره)(6).
وأما التشابه الذي يعم القرآن فمذكور في مثل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23] قال مجاهد رحمه الله: (يعني القرآن كله متشابه مثاني)(7) وقال قتادة رحمه الله: (الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف)(8) وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (مثاني: قال: القرآن يشبه بعضه بعضا، ويرد بعضه على بعض)(9) وقال سعيد بن جبير رحمه الله: (يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ويدل بعضه على بعض)(10). ونحوه عن السدي (11).
فالتشابه الذي يعم القرآن هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته – إذا لم يكن هناك نسخ – ومثله يقال في الأخبار: فإذا أخبر عن شيء لم يخبر عن نقيضه أو بنفيه في موضع آخر، بل يخبر عنه بما يصدقه ويؤكده، أو يفصله ويبينه كما في القصص مثلا.
فهذا التشابه الذي يعم القرآن هو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] ولهذا كان القول المضاد للقرآن موصوفا بالاختلاف والاضطراب كما قال تعالى في وصف قول المشركين إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8 - 9].
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فالكلام المتقن يصدق بعضه بعضا، ويشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والعدل (12).
(1)((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 59)، و ((تفسير القرطبي)) (4/ 10)، و ((تفسير البغوي)) (1/ 268).
(2)
((تفسير القرطبي)) (9/ 2).
(3)
((تفسير القرطبي)) (9/ 3).
(4)
((تفسير القرطبي)) (9/ 3).
(5)
((تفسير ابن كثير)) (2/ 435)(طبعة دار إحياء الكتب العربية) وعزاه إلى مجاهد وقتادة.
(6)
((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 60).
(7)
((تفسير ابن كثير)) (4/ 50)(طبعة دار إحياء الكتب العربية).
(8)
((تفسير ابن كثير)) (4/ 50)(طبعة دار إحياء الكتب العربية).
(9)
((تفسير ابن كثير)) (4/ 50)(طبعة دار إحياء الكتب العربية).
(10)
((تفسير الطبري)) (23/ 135)(طبعة دار المعرفة – الطبعة الثانية 1392هـ - 1972م – بيروت).
(11)
((تفسير الطبري)) (23/ 134)(طبعة دار المعرفة).
(12)
((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 60).
أما الإحكام الخاص فإنه ضد التشابه الخاص، وهو المذكور في آية آل عمران (1). والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو هو مثله وليس كذلك. والإحكام الخاص هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون في القدر المشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي إلى الفصل بينهما، فيكون مشتبها عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم (الراسخون فيه) ما يزيل عنه هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشاهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله وإن كان مشابها له من بعض الوجوه (2).
وقد يكون المتشابه من الأمور التي لا يعلمها أحد من العباد، بل استأثر الله بعلمها، كما استأثر الله بالعلم بالقدر المميز بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- 2/ 477
(1) وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ * آل عمران: 7*.
(2)
((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 61).