الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الأيْمَانِ
ــ
كتاب الأيمان
هي جمع يمين، وهو والحلف والإيلاء والقسم ألفاظ مترادفة.
وأصلها في اللغة: اليد اليمنى، وأطلقت على الحلف؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل: لأنها تحفظ الشيء على الحالف كما تحفظ اليد.
وهي في الشرع: تحقيق ما يحتمل المخالفة أو تأكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته.
والأصل في الباب: قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية، وقوله تعالى:(ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ).
و (العُرضة) في الأيمان: أن يحلف به في كل حق وباطل.
وفي (البخاري)[6617] عن ابن عمر: أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: (لا ومقلب القلوب
لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةٍ لَهُ،
ــ
وأجمعت الأمة على انعقاد اليمين وتعلق الكفارة بها.
قال: (لا تنعقد إلا بذات الله تعالى أو صفة له) هذا الذي اقتصر عليه في (الشرح الصغير): أنها ذات وصفات، وهو في (الروضة) ثلاثة: ذات وأسماء وصفات.
والمراد بـ (الذات) هنا: الحقيقة، وهو اصطلاح المتكلمين، وقد أنكر عليهم بعض الأدباء وقال: لا تعرف (ذات) في لغة العرب بمعنى الحقيقة، وإنما (ذات) بمعنى صاحبة.
وهذا الإنكار منكر، بل الذي قاله الفقهاء والمتكلمون صحيح، كما نبه عليه المصنف في (تهذيبه) قال: ومنه قوله تعالى: {وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي: الحالة التي بينكم، وهو قول الكوفيين، وعن الزجاج: معناه: حقيقة وصلكم.
قال الواحدي: فذات عندي بمعنى النفس، كما يقال: ذات الشيء ونفسه.
والتقييد بـ (ذات الله أو صفته) تخرج به صورتان:
إحداهما: الحلف بالمخلوق كالنبي والكعبة وجبريل والصحابة والآل، وذلك مكروه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا إلا بالله) رواه النسائي [7/ 5] وابن حبان [4357].
وفي (الصحيحين)[خ6108 - م1646/ 3]: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا .. فلا يحلف إلا بالله).
وان النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب، فسمعه يحلف بأبيه فقال:(إن الله ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا .. فليحلف بالله أو ليصمت)، قال عمر رضي الله عنه: فما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا، أي: حاكيا عن غيره أن حلف بها.
وقد جاء عن ابن عباس: (لأن أحلف بالله تعالى مئة مرة فآثم .. خير من أن أحلف
كَقَوْلِهِ: وَاللهِ،
ــ
بغيره فأبر) ذكره المصنف في (شرح مسلم)[11/ 105] ، ورواه الطبراني في (معجمه الكبير)[9/ 183].
وروى الحاكم [1/ 18] عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله .. فقد كفر) وروي: (فقد أشرك)[4/ 330] ، وحمل هذا على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى.
قال الرافعي: وأخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، قال الأصحاب: أي: محرما مأثوما عليه.
فمن حلف بغير الله .. لا ينعقد يمينه ولم تتعلق الكفارة بالحنث فيه، خلافا لأحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ فإنه قال: ينعقد به؛ لأنه أحد ركني الشهادة كاسم الله تعالى.
لنا: القياس على ما سلمه، وإذا سبق اللسان إليه لم يوصف بالكراهة ويكون بمثابة لغو اليمين، وعلى هذا يحمل ما في (الصحيحين) [م11/ 9] من قوله صلى الله عليه وسلم – للأعرابي الذي قال: لا أزيد على هذا ولا أنقص-: (أفلح – وأبيه – إن صدق).
والجواب: أن هذه الكلمة تجري على اللسان لا يقصد بها اليمين.
وقيل: اختلف في تصحيح هذه الزيادة، ولذلك لم يذكرها مالك في (الموطأ)، بل قال [1/ 175]:(أفلح إن صدق).
وقيل: الحديث منسوخ بالنهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: إذا قال: إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني: وستأتي.
قال: (كقوله: والله) ، سواء جر أو نصب أو رفع، وسواء تعمد أم لا؛ لأن اللحن لا يمنع انعقاد اليمين.
وَرَبِّ العَالَمِينَ، وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، ومَنْ نَفْسِي بِيَدِهِ،
ــ
وقال القفال: إذ رفع لا ينعقد إلا أن ينوي اليمين.
قال: (ورب العالمين)(الرب): يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبر والمربي والمنعم، وهذه صفات الله تعالى.
ومما جاء بمعنى المالك: قول صفوان لأبي سفيان بن حرب: لأن يربني رجل من قريش .. أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان.
ولم يطلقوا الرب إلا على الله وحده، وهو في غيره على التقييد والإضافة.
و (العالمون) جمع عالم، وهو: كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه، واختلفوا في اشتقاقه:
فقيل: من العلامة؛ لأن كل مخلوق علامة تدل على وجود خالقه.
وقيل: من العلم، وهو مذهب من يخصه بمن يعقل.
قال: (والحي الذي لا يموت)، قال الله تعالى:{وتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ؛ فهو الحقيق بذلك، ولا يتوكل على من يموت، فلا يصح لذي عقل أن يثق بعد هذه الآية بمخلوق.
قال: (ومن نفسي بيده)؛ لما روى أبو داوود [3259] بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اجتهد في اليمين قال لا والذي نفس أبي القاسم بيده.
وَكُلِّ أسْمِ مُخْتَصِّ بِهِ سبحانه وتعالى، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أُرِدْ بِهِ اليَمِينَ. وَمَا انْصَرَفَ إلَيْهِ سبحانه وتعالى عِنْدَ الإطْلَاقِ كَالرَّحِيمِ، وَالخَالِقِ، وَالرَّازِقِ، وَالرَّبِّ .. تَنْعَقِدُ بِهِ اليَمِينُ،
ــ
قال: (وكل اسم مختص به سبحانه وتعالى؛ لأن الأيمان منوطة بمن عظمت حرمته ولزمت طاعته، وإطلاق هذا مختص به سبحانه وتعالى، والحلف بالأسماء:
منها: ما يختص الباري سبحانه وتعالى به ولا يطلق في حق غيره.
ومنها: ما أطلق على غيره لكن الغالب استعماله في حق الله مطلقا ومقيدا في غيره.
ومنها: ما يطلق في حق الله تعالى وغيره ولا غالب، فهذه ثلاثة أقسام، وهي في كلام المصنف على هذا الترتيب.
فمثل الأول: بالله، وبرب العالمين، والحي الذي لا يموت، ومن نفسي بيده، ومثله: مالك يوم الدين، والقدوس، والرحمن، وخالق الخلق، والواحد الذي ليس كمثله شيء.
وقال البندنيجي: أكثر العلماء على أن الأسم الأعظم (الله) ، واختاره السهيلي، ولهذا قال ابن كج: لا صريح في اليمين سواه.
قال: (ولا يقبل قوله: لم أرد به اليمين)؛ لأنها لا تحتمل غير اليمين، وهذا لا خلاف فيه في الظاهر، وكذا فيما بينه وبين الله تعالى في الأصح.
قال: (وما انصرف إليه سبحانه وتعالى عند الإطلاق) أي: وينصرف إلى غيره بالتقييد (كالرحيم، والخالق، والرازق، والرب .. تنعقد به اليمين) ، سواء قصد
إلَّا أَنْ يُرِيدَ غَيْرَهُ، وَمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَالشَّيْءِ وَالْمَوْجُودِ وَالْعَالِمِ وَالحَيِّ .. لَيْسَ بِيَمِينٍ إلَّا بِنِيَّةٍ. وَالصِّفَةُ: كَوَعِزَّةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ .. يَمِينٌ،
ــ
أو أطلق، ومثله في (الروضة): بالجبار والحق والرب والتكبر والقادر والقاهر، قال: وكذا الخالق والرازق والرحيم على الصحيح، وقيل: من القسم الأول المختص بالله.
فائدة:
الألف واللام في أسماء الله تعالى للكمال، قال سيبويه: تكون لام التعريف للكمال، تقول: زيد الرجل، تريد الكامل في الرجولية، وكذلك هي في أسماء الله تعالى، فإذا قلت: الرحمن، أي: الكامل في معنى الرحمة، والعليم، أي: الكامل في معنى العلم، وكذلك تتمة الأسماء، فهي لا للعموم ولا للعهد، ولكن للكمال.
قال: (إلا أن يريد غيره)؛ لأنه قد يستعمل في غيره، كرحيم القلب ورب الدار وخالق الكذب وقاهر العدو ورازق الجيش، قال تعالى:{وتَخْلُقُونَ إفْكًا} ، وقال:{فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} .
وقيل: الحلف بكل اسم من التسعة والتسعين صريح.
قال: (وما استعمل فيه وفي غيره سواء كالشيء والموجود والعالم والحي .. ليس بيمين إلا بنية)؛ لأنها لما استعملت فيهما .. أشبهن كنايات الطلاق، وهذا الذي صححه في زوائد (الروضة).
وصحح الرافعي تبعا لأبي حامد والإمام وغيرهما: أنه وإن نوى لا يكون يمينا، ومن هذا النوع السميع والبصير والعليم والحليم.
واستثنى الماوردي من ذلك: ما يكثر استعماله في الله سبحانه ويقل في غيره؛ فيكون يمينا ظاهرا لا باطنا.
قال: (والصفة: كوعزة الله وعظمته وكبريائه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته .. يمين)؛ لأنها صفات لم يزل سبحانه موصوفا بها فكانت كاليمين بأسمائه المختصة، فينعقد اليمين بها وإن أطلق.
إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِالعِلْمِ المَعْلُومَ، وَبِالقُدْرَةِ الْمقْدُورَ
ــ
والصفات المعنوية الزائدة على الذات عند الأشاعرة ثمانية، وهي المشار إليها بقول الأول [من الطويل]:
حياة وعلم قدرة وإرادة
…
كلام وإبصار وسمع مع البقا
صفات لذات الله جل قديمة .... لدى الأشعري الحبر ذي العلم والتقى
ولم يلتزم منها بشيء شيوخه .... وكل بمشتقاتها قال مطلقا
وروي عن مالك كراهة الحلف بالصفات، ويعارضه ما في (البخاري) [279] في (أبواب الغسل) عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب عليه السلام يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب؛ ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك).
قال: (إلا أن ينوي بالعلم المعلوم)، كما يقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، أي: معلومك.
قال: (وبالقدرة المقدور) ولا يكون يمينا لاحتماله، كما يقال: انظر إلى قدرة الله، أي: مقدور الله.
وظاهر تخصيص الاستثناء بصفتي العلم والقدرة يقتضي: تعلق الحكم بهما فقط، وهو وجه جزم بع كثيرون: أنه إذا نوى بما عداهما .. لا يقبل، والأصح في زوائد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(الروضة) و (الشرحين): القبول أيضا كخلق الله.
ورزق الله ورحمة الله لا ينعقد بها اليمين إذا نوى بذلك المرزوق والمرحوم، وبه جزم الرافعي، وقال في (البسيط): لا خلاف فيه؛ لأنه ذكر مخلوقا.
ولو قال: والقرآن، أو ما مثبت في المصحف .. كان يمينا، كما لو حلف بكلام الله، وصرح الجمهور بأن قوله: والقرآن .. صريح، خلافا للقفال، ولو قال: والمصحف وأطلق .. فهو يمين، صرح به بعض الأصحاب، وبه أفتى الدولعي خطيب دمشق.
تنبيه:
ما جزم به من أن عظمة الله تعالى صفة .. هو المعروف، وبنى عليه بعضهم منع قولهم: سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، قال: لأن التواضع للصفة عبادة لها، ولا نعبد إلا الذات.
وَلَوْ قَالَ: وَحَقِّ اللهِ .. فَيَمِينٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ العِبَادَاتِ
ــ
ومنع القرافي ذلك وقال: الصحيح: أن عظمة الله المجموع من الذات والصفات، وهذا المجموع هو المعبود، وعلى هذا يصح إطلاق التسبيح.
قال: (ولو قال: وحق الله. فيمين، إلا أن يريد العبادات) المراد: أنه ينعقد إن نواه قطعا، وكذا إذا أطلق في الأصح؛ لأنه الغالب في الاستعمال فنزل الإطلاق عليه، ومعناه: وحقيقة الإلهية.
وقيل: لأن حق الله القرآن، قال تعالى:{وإنَّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ} .
وقيل: إنه كناية، وعزاه الإمام للأئمة؛ لأنه يطلق على العبادات التي أمر الله بها، وعند التردد لا يخلص لأحدهما إلا بالنية، فإذا أراد به غير اليمين .. انصرف عن اليمين؛ لاحتمال اللفظ وقوته بالنية.
قال المتولي: إذا قال: وحق الله –بالرفع- ونوى اليمين .. فيمين، وإن أطلق .. فلا، وإن نصب وأطلق .. فوجهان، جزم البغوي بالمنع.
ولو قال: وحرمة الله. فكقوله: وحق الله، وقيل: كعظمة الله، قال الرافعي: وفي كتب الحنفية: أنه قال: وسلطان الله .. كان يمينا إن أراد به القدرة، وإن أراد به المقدور .. فلا، قال: وبه نقول، وأنه لو قال: بأسم الله لأفعلن .. فهو يمين، وأنه لو قال: ورحمة الله وغضبه .. فلا.
وفي (فتاوى ابن الصلاح): ولو قال: وقدر الله كان يمينا؛ لقوله تعالى: (ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عظموه حق عظمته.
فائدة:
قال ابن الرفعة: (كلام المحاملي وابن الصباغ والماوردي والروياني يقتضي: أن الحلف بالطالب الغالب يمين صريحة؛ لأن فيها تنبيها على استجلاب منافعه واستدفاع مضاره –قال-: وسماعي من أقضى القضاة جمال الدين بن الحسن يحيى خليفة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ــ
الحكم العزيز بمصر رحمه الله: أن الحلف بذلك لا يشرع، وكان يذكر: أنه نقله عن أئمة المذهب، ويوجهه بأن الله تعالى وإن كان طالبا غالبا .. فأسماؤه توقيفية، ولم يرد تسميته بذلك) اهـ
وسيأتي جواز التحليف بذلك في (كتاب الدعوى والبينات).
وكان الجمال يحيى من صدور الشافعية، ناب عن قاضي القضاة ابن رزين، وكان يعرف فقهاء كثيرا، قال له يوما قاضي القضاء: لو أردت .. عزلتك، قال: لا تطيق ذلك، قال: ولم؟ قال: كنا عند الفقيه أبي طاهر فحصلت له حالة، فقال: من له حاجة يذكرها، فقلت: أنا أريد أن أكون نائب حكم ولا يعزلني أحد، فقال: لك ذلك.
توفي في شهر رجب سنة ثمانين وست مئة، والذي قال الجمال يحيى ذهب إليه الخطابي فقال: وما جرت به عادة الحكام في تغليظ الأيمان وتوكيدها إذا حلفوا الرجل أن يقولوا: بالله الطالب الغالب المدرك المهلك .. لا يجوز أن يطلق في حقه تعالى ذلك.
وإنما استحسنوا ذكرها في الأيمان؛ ليقع الردع بها للحالف؛ لأنه إذا توعد بالطالب والغالب .. استشعر الخوف وارتدع عن الظلم إذا كان يعلم أن الله سبحانه طالبه بحق أخيه، وأنه سيغلبه على انتزاعه منه. وإذا قال: المدرك المهلك .. علم أنه يدركه إذا طلبه، ويهلكه إذا عاقبه.
وإنما أضيفت هذه الأفعال إليه على معنى المجازاة منه لهذا الظالم على ما يستبيحه من حق أخيه المسلم، فلو جاز أن يعد ذلك في أسمائه وصفاته .. لجاز في أسمائه الخزي والمضل؛ لأنه قال:{وأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ} ، و {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُؤ} .
وأجاب في (مشكل الوسيط) في (باب اليمين في الدعاوى) عنه، وجوز إطلاق
وَحُرُوفُ القَسَم: (بَاءٌ) وَ (وَاوٌ) وَ (تَاءٌ) ، كَـ (بِاللهِ) وَ (واللهِ) و (تَاللهِ) ، وَتَخْتَصُ التَّاءُ بِاللهِ تَعَالَى
ــ
ذلك على الله تعالى في التسبيح والتحميد والتمجيد.
قال: (وحروف القسم: (باء) و (واو) و (تاء) كـ (بالله) و (والله) و (تالله).) كذا قاله الأكثرون، وفي (لباب المحاملي) أربعة: الألف والباء والتاء والواو.
وإنما بدأ المصنف بـ (الباء)؛ لأنها الأصل، وهي أعم من أختيها، والواو تليها؛ لأنها لا تدخل إلا على مضمر، بخلاف الباء، وأما التاء .. فمتأخرة عنهما.
وقال الماوردي: الأصل الواو ثم الباء ثم التاء.
قال: (وتختص التاء بالله تعالى)، قال الله تعالى:{تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ، والمنصوص هنا وفي (الإيلاء): أن تالله يمين، وفي (القسامة): أنه ليس بيمين، وللأصحاب في ذلك طرق:
أحدها: العمل بظاهرها.
والثاني: قولان، أظهرهما: القطع بأنه يمين؛ لاشتهاره عرفا.
وحمل ما نقل في (القسامة) على التصحيف بالياء المثناة من تحت.
وسمع دخولها شذوذا على غيره فقالوا: تربي وترب الكعبة.
فرع:
إذ قال: (بله) بتشديد اللام ونوى بذلك اليمين .. قال الشيخ أبو حامد والإمام والغزالي: انعقدت ولا يضره اللحن.
وقال المصنف: ينبغي أن لا يكون يمينا؛ لأن هذه كلمة أخرى، وقال ابن الصلاح: إنها لغة لبعض العرب، وممن حكاها الزجاج، وأنشد على ذلك [من الرجز]:
أقبل سيل جاء من عند الله .... يحرد حرد الجنة المغلة
قال: فينبغي أن يجعل ذلك يمينا عند الإطلاق.
وَلَوْ قَالَ: اللهُ، وَرَفَعَ أَوْ نَصَبَ أَوْ جَرَّ .. فَلَيْسَ بِيَمِينِ إِلَّا بِنِيَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَقْسَمْتُ أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ أَحْلِفُ بِاللهِ لأَفْعَلَنَّ .. فَيِمَيِنٌ إنْ نَوَاهَا أَوْ أَطْلَقَ،
ــ
قال: (ولو قال: الله، ورفع أو نصب أو جر .. فليس بيمين إلا بنية) ، لأجل حذف حرف القسم.
وفي حديث ركانة: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله ما أردت إلا واحدة) رواه صاحب (البيان) بالرفع، والروياني بالجر.
وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: (الله قتلت أبا جهل) بالنصب.
وأصح الوجهين عند الإطلاق: أنه لا يكون يمينا، وقال ابن الصلاح: الأقوى من حيث العربية في الرفع والنصب: أن كلا منهما يمين عند الإطلاق، ولا يبعد مجيء وجه مفصل بين العارف بالعربية وغيره.
قال سيبويه: ولا يجوز حذف حرف الجر وإبقاء عمله إلا في القسم.
ولو سكن الهاء فقال: والله لأفعلن .. فظاهر كلام الروياني في (البحر): أنه يكون يمينا.
فائدة:
قال في (الروضة): لو قال: آليت أ، أولي .. فهو كحلفت أو أحلف، ذكره الدرامي، وهو ظاهر.
قال: (ولو قال: أقسمت، أ، أقسم، أو حلفت، أو أحلف بالله لأفعلن .. فيمين إن نواها)؛ لاطراد العرف باستعمال ذلك في اليمين لاسيما وقد نواه، قال تعالى:{وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، وقال:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} .
قال: (أو أطلق)؛ لكثرة الاستعمال، هذا الذي قطع به الأكثرون.
وَلَوْ قَالَ: قَصَدْتُ خَبَرًا مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا .. صُدِّقَ بَاطِنًا، وَكَذَا ظَاهِرًا عَلَى المَذْهَبِ
ــ
وقيل: لا يكون ذلك يمينا؛ لأن صلاحية (أقسمت) للماضي و (أقسم) للمستقبل، وكذا حلفت وأحلف.
واحترز بقوله: (بالله) عما لو قال: أقسمت أو أقسم من غير ذكر الله؛ فليس بيمين وإن نواه.
وأما حديث ابن عباس في (الصحيح)[خ7046 - م2269] في الرؤيا التي فسرها الصديق بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:(أصبت بعضا وأخطأت بعضا)، فقال أبو بكر: أقسمت عليك لتخبرني بالخطأ، فقال:(لا تقسم) .. فقال صاحب (البيان): المراد به: المعنى اللغوي لا الشرعي، أي: لا تقسم قسما شرعيا يوجب الكفارة، وكذا قاله القاضي عياض في (شرح مسلم).
قال المصنف: والذي قاله عجيب؛ فإن الذي جميع نسخ (مسلم): (فوالله يا رسول الله لتحدثني) ، وهذا صريح يمين وليس فيها أقسم ، قال: وهذا الحديث دليل على أن إبرار القسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة إنما هو إذا لم يكن في الإبرار مفسدة ولا مشقة ظاهرة، فإن كان لم يؤمر بالإبرار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبر قسم أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة، ولعلها ما علم من انقطاع السبب مع عثمان والحروب المترتبة عليها .. فكره ذكرها مخافة شيوعها، أو أنه أخطأ في تعيين بعض الرجال الذين يأخذون بالسب بعده صلى الله عليه وسلم وكان في بيان ذلك مفسدة فلم يبر صلى الله عليه وسلم قسمه.
قال: (ولو قال: قصدت خبرا ماضيا أو مستقبلا .. صدق باطنا)؛ لاحتمال ما يدعيه، فلا تلزمه كفارة فيما بينه وبين الله تعالى.
قال: (وكذا ظاهرا على المذهب)؛ لظهور الاحتمال، والذي صححه المصنف هو المنصوص هنا، ونص في (الإيلاء) على أنه إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، ثم قال: أردت يمينا ماضية .. لا يقبل، وللأصحاب في ذلك طرق:
أصحها: قولان فيهما، أظهرهما: القبول.
وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللهِ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِاللهِ لَتَفْعَلَنَّ، وَأَرَادَ يَمِينَ نَفْسِهِ فَيَمينٌ، وَإلَّا .. فَلَا
ــ
والثاني: لا يقبل مطلقا.
والثالث: تقرير النصين.
والفرق: أن حق الله مبني على المسامحة، بخلاف حق الآدمي.
ومحل الطرق: إذا لم تعلم له يمين ماضية، فإن علمت .. قبل قوله في إرادتها بأقسمت أو حلفت قطعا، ولو قال: شهدت بالله أو أشهد بالله .. فيمين إن نواها، وإن نوى غيرها .. فلا.
ولو قال: عزمت بالله أو أعزم بالله لأفعلن .. لم يكن يمينا إلا أن ينوي بها اليمين.
قال: (ولو قال لغيره: أقسم عليك بالله، أو أسألك بالله لتفعلن، وأراد يمين نفسه .. فيمين)؛ لاشتهاره في ألسنة حملة الشرع، وفيه وجه ضعيف، وعلى المذهب: يندب للمخاطب إبراره إن لم تكن مفسدة كما تقدم.
قال: (وإلا .. فلا) هذا يشمل ثلاث صور:
قصد يمين المخاطب.
وإذا لم يقصد يمينا بل التشفع إليه بالله.
أو يطلق.
ومسألة الإطلاق تؤخذ من تعبير المصنف دون (المحرر) كما قاله في (الدقائق).
وفي الثلاثة لا ينعقد اليمين؛ لأنه لم يحلف لا هو ولا المخاطب.
ولو قال: لعمرو الله لأفعلن .. فهو يمين إن نوى، وإن أطلق .. فلا في الأصح، وكذلك: على عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته.
وإن قال: وايم الله أو أيمن الله لأفعلن كذا، فإن نوى .. فيمين، وإن
وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ الإسْلَامِ .. فَلَيْسَ بِيَمِينٍ،
ــ
أطلق .. فلا على الأصح.
قال: (ولو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو بريء من الإسلام .. فليس بيمين)؛ لانتفاء الاسم والصفة، ولا كفارة عليه في الحنث، ثم بهذا قال مالك.
وكذا لو قال: فهو بريء من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم أو من الإسلام أو من الكعبة، أو مستحل للخمر أو الميتة، خلافا لأبي حنيفة وأحمد.
لنا: أن قوله ذلك يتضمن تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن اليهود وذلك ليس بقسم.
هذا إذا قصد القائل تبعيد النفس عن ذلك، فأما من قال ذلك على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل .. فهو كافر في الحال.
قال الأصحاب: وإذا لم يكفر في الصورة الأولى فليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وليستغفر الله، ويستدل له بما ثبت في (الصحيحين) [خ4860 - م1647]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن حلف فقال في حلفه: باللات والعزى .. فليقل: لا إله إلا الله).
وجزم في (الأذكار) بأن هذا الحلف حرام تجب التوبة منه، وبه جزم الماوردي وابن الرفعة في (المطلب).
ويستحب أيضا لكل من تكلم بقبيح أن يستغفر الله، وتجب التوبة من كل كلام محرم، وجزم صاحب (الإستقصاء) بوبجوب التشهد، وهو ظاهر الحديث.
فرع:
لو قال: أيمان البيعة لازمة لي .. قال أصحابنا: كانت البيعة في زمن رسول الله
وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِهَا بِلَا قَصْدٍ .. لَمْ تَنْعَقِدْ
ــ
صلى الله عليه وسلم بالمصافحة، فلما ولي الحجاج .. رتبها أيمانا تشتمل على ذكر الله تعالى وعلى الطلاق والإعتاق والحج وصدقة المال.
فإن لم يرد القائل الأيمان التي رتبها الحجاج .. لم يلزمه شيء، وإن أرادها .. نظر: إن قال: بطلاقها وعتاقها لازم لي .. انعقدت يمينه بهما ولا حاجة إلى النية، وإن لم يصرح بذكرهما لكن نواهما .. فكذلك؛ لأنهما تنعقدان بالكناية مع النية.
وإن نوى اليمين بالله أو لم ينو شيئا .. لم تنعقد يمينه ولا شيء عليه.
قال: (ومن سبق لسانه إلى لفظها بلا قصد .. لم تنعقد) كحالة اللجاج والغضب، وذلك كقوله: لا والله، وبلى والله؛ لقوله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} أي: قصدتم، بدليل الآية الأخرى:{ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} .
قالت عائشة رضي الله عنها: (لغو اليمين هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله) رواه البخاري [4613] كذلك، وصحح ابن جبان [4333] رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك رفعه أبو داوود [3249] من رواية إبراهيم بن ميمون الصائغ الذي قتله أبو مسلم الخراساني بفرندس ظلما في سنة إحدى وثلاثين ومئة.
قال أبو داوود: كان إبراهيم الصائغ إذا رفع المطرقة فسمع النداء سيبها.
وكلام المصنف يفهم: أن الحالف لابد وأن يكون له قصد؛ فلا تنعقد يمين الصبي والمجنون والمكره، وفي السكران الخلاف في طلاقه
وَتَصِحُّ عَلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ،
ــ
تنبيهان:
أحدهما: قال ابن الصلاح: المراد من تفسير اللغو ببلى والله ولا والله: أن يقول أحدهما مرة والآخر أخرى، أما إذا جمعهما في كلام واحد .. فقال الماوردي: الأولى لغو؛ لأنها غير مقصودة، والثانية منعقدة؛ لأنها استدراك مقصود منه، وكلام الإمام والغزالي يقاضي: أن لغو اليمين أن يقصد اللفظ دون الحكم.
الثاني: من حلف وقال: لم أقصد اليمين .. ففي الطلاق والعتاق والإيلاء لا يصدق في الظاهر؛ لتعلق حق الغير.
قال الإمام: وفي اليمين أيضا لو اقترن بها ما يدل على القصد .. لم يصدق ظاهرا.
قال: (وتصح على الماضي والمستقبل)؛ لأن لفظ اليمين يقع عليها، قال تعالى:{ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} ، فعم الماضي والمستقبل، وقال:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} ، وقال:{ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وقال صلى الله عليه وسلم: (لأغزون قريشا ثلاث مرات) رواه أبو داوود [3278] وابن حيان [4343].
فمن حلف على الماضي كاذبا عالما .. فهي اليمين الغموس، سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهي من الكبائر.
ففي (البخاري)[2653] عن عبد الله بن عمرو بن العاصي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).
وتجب الكفارة بها، وتعلق الإثم لا يمنع وجوبها، كما أن الظهار منكر من القول وزور وتتعلق به الكفارة، وإن كان جاهلا .. ففي وجوب الكفارة قولا، كما لو فعل المحلوف عليه ناسيا.
وقال الأئمة الثلاثة: لا تجب الكفارة باليمين الغموس.
والذي أطلقه المصنف من انعقاد الغموس صرح به جماعة منهم القاضي حسين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأنكره ابن الصلاح وقال: إنها غير منعقدة عندنا كقول الحنفية، لكنا نعتبر في الكفارة مجرد العقد والخنث وقد وجدا، ولا نعتبر الانعقاد.
وكذا صرح به الماوردي فقال: إنها يمين محلولة غير معقودة؛ لأن الحنث اقترن بها، ويوافقهما قول الإمام قبل (باب من حلف على غريمه لا يفارقه): إنه يستحيل فرض الانعقاد فيها.
وعلى هذا: يصح قول المصنف: (تصح) ومعناه: تترتب عليها آثارها، وهي الكفارة لا الانعقاد.
وكما تجب الكفارة في الغموس .. يجب التعزيز أيضا كما تقدم في بابه.
والمراد بـ (المستقبل): إذا كان ممكنا، أما غير الممكن كما إذا حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن الحجر ذهبا .. ففيه وجهان: الأصح: انعقاد اليمين به أيضا.
وهل تجب الكفارة في الحال أو قبل الموت؟ وجهان: أصحهما الأول.
ولو حلف لا يصعد السماء ولا يقتل ميتا .. فالأصح: عدم انعقادها؛ لامتناع الحنث.
فائدة:
التورية في الأيمان نافعة، والعبرة فيها بنية الحالف إلا إذا استحلفه القاضي بغير الطلاق والعتاق كما سيأتي في (الدعاوى) ، وهي وإن كان لا يحنث بها لا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحق بالإجماع.
فمن التورية: أن ينوي باللباس الليل، وبالفراش والبساط الأرض، وبالأوتاد الجبال، وبالسقف والبناء السماء، وبالإخوة إخوة الإسلام، وما ذكرت فلانا، أي: ما قطعت ذكره، وما رأيته، أي: ما ضربت رئته، وبما عرفته: ما جعلته عريفا، وبما سألته حاجة، أي: شجرة صغيرة، وبما أكلت له دجاجة: كبة من الغزل، ولا فروجة، أي: دراعة، ولا في بيتي فرش، يعني: صغار الإبل، ولا حصير، أي: الملك، وما ضربت له رجلا، أي: قطعة من جراد، ومال له عندي جارية،
وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ إلَّا فِي طَاعَةٍ،
ــ
…
أي: سفينة، وما عندي فهد ولا كلب، الكلب: المسمار في قائم السيف، والفهد: المسمار في وسط الرحل، وما كتبت اليوم شيئا، أي: ما خرزت الجلود، وما ظلمته، أي: ما أخذت له ظليما.
وقد تقدمت جملة من هذا في (الطلاق)، وكل هذا يجمعه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب).
وقال عمر رضي الله عنه: (أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب).
وقال ابن عباس: (ما أحب بمعاريض الكلام حمر الوحش).
قال: (وهي مكروهة) أي: في الجملة؛ لأن الله تعالى نهى عنها، ويكره الاستكثار منها أيضا؛ لقوله تعالى:{ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أي: لا تكثروا الحلف بالله، ولأنه ربما يعجز عن الوفاء بموجبها.
وفي (سنن ابن ماجه)[2103] و (ابن حبان)[4356]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الحلف حنث أو ندم).
قال حرملة: سمعت الشافعي يقول: ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا قط.
قال: (إلا في طاعة) كالجهاد وكالأيمان الواقعة في الدعاوى إذا كانت صادقة، فإنها لا تكره، لكن الأفضل أن لا يحلف؛ لأن عثمان رضي الله عنه امتنع منها بين يدي عمر رضي الله عنه وقال:(أخشى من موافقة قدر).
وكذلك لا تكره إذا دعت إليها ضرورة كتأكيد وتعظيم أمر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعمر في صلاة العصر:(والله ما صليتها) تطييبا لقلبه، وكقوله:(والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليل ولبكيتم كثيرا).
فإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ .. عَصَى وَلَزِمَهُ الحِنْثُ وَكَفَّارَةٌ،
ــ
وفي (الصحيح): (والله لا يمل الله حتى تملوا) قيل: حتى بمعنى الواو.
وقيل: معناه: أن الله لا يمل أبدا، مللتم أو لم تملوا، فجرى مجرى قولهم: حتى يشيب الغراب ويبيض القار.
وقيل: معناه: أن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فسمى فعل الله تعالى مللا على طريق الازدواج في الكلام كقوله:{وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .
وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاث مواضع من القرآن؛ في (سورة سبأ) و (يونس) و (التغابن).
ولا تجب اليمين أصلا، وقال ابن عبد السلام: إن كان المدعى عليه كاذبا في يمينه .. لم تحل، فضلا عن أن تجب عليه، وإن كان صادقا في يمينه والمدعى به مما لا يباح بالإباحة كالدماء والأبضاع، فإن علم الدعى عليه أن خصمه لا يحلف .. وجب عليه الحلف، وإن كان يباح بالإباحة وعلم أو ظن أنه يحلف .. وجب عليه الحلف؛ دفعا لمفسدة كذب الخصم.
قال: (فإن حلف على ترك واجب أو فعل حرام .. عصى ولزمه الحنث وكفارة)؛ لأن الإقامة على هذه الحالة معصية، وقال صلى الله عليه وسلم:(من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها .. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه).
لكن إنما يلزمه الحنث إذا لم يكن له طريق سواه، وإلا .. فلا، كما لو حلفت لا ينفق على زوجته .. فإن له طريقا، بأن يعطيها من صداقها أو يقرضها ثم يبرئها؛ لأن الغرض حاصل مع بقاء التعظيم.
وعكس مسألة المصنف: أن يحلف على فعل واجب أو ترك حرام، فيعصي بالحنث ويطيع باليمين وعليه الكفارة.
أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ، أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ .. سُنَّ حِنْثُهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، أَوْ تَرْكِ مُبَاحِ أَوْ فِعْلِهِ .. فَالأَفْضَلُ: تَرْكُ الحِنْثِ، وَقِيلَ: الْحِنْثُ
ــ
قال: (أو ترك مندوب، أو فعل مكروه .. سن حنثه وعليه كفارة)؛ لقوله تعالى: {ولا يَاتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ والسَّعَةِ} الآية.
وفي (الصحيحين)[خ3133 - م1649/ 7] عن أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها .. إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها).
فإن قيل: لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي الذي قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؟ .. قلنا: يحتمل أنه لما حلف .. تضمنت يمينه ما هو طاعة وهو امتثال الأمر، ويحتمل أنه سبق لسانه إليه فكان من لغو اليمين.
قال: (أو ترك مباح أو فعله .. فالأفضل ترك الحنث)؛ لقوله تعالى: (ولا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) ، ولما فيه من تعظيم اسم الله.
قال: (وقيل: الحنث)؛ لينتفع المساكين بالكفارة.
وفي وجه ثالث: يتخير بين الوفاء والحنث.
وعلم مما ذكرناه أن اليمين تغير حال المحلوف عليه عما كان وجوبا وتحريما وندبا وكراهة وإباحة، وعن أبي حنيفة خلافه.
وَلَهُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةٍ بِغَيْرِ صَوْمٍ عَلَى حِنْثٍ جَائِزِ،
ــ
فإن قيل: الزوج لا يلزمه الوطء، فإذا آلى وانقضت المدة لزمه .. قلنا: المراد: أن اليمين لا تصير المباح حراما ولا الحرام واجبا، كما صار إليه أبو حنيفة فيها، ويمين المولي كذلك.
قال: (وله تقديم كفارة بغير صوم على حنث جائز)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحلف على يمين ثم أرى غيرها خيرا منها .. إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) رواه الشيخان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة؛ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها .. فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) رواه أبو داوود [3271] والنسائي [7/ 11].
وأيضا: فإن الكفارة حق مالي يتعلق بسببين، فجاز تقديمها على أحدهما لا عليهما كزكاة الفطر، وبهذا قال مالك والأوزاعي والثوري وأربعة عشر صحابيا لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث خروجا من خلاف أبي حنيفة؛ فإنه لا يجوز تقديمها على الحنث بكل حال.
والخلاف بيننا وبينه ينبني على أن اليمين عندنا سبب الكفارة، والحق المالي يجوز إخراجه بعد وجوب سببه أو أحد سببيه، كما تعجل الزكاة على الحول بعد كمال النصاب.
وعنده السبب الحنث، والتقديم على السبب لا يجوز كما لا يجوز تقديم الزكاة على ملك النصاب وكفارة الوقاع عليه.
وأما الصوم .. فلا يقدم؛ لأنه عبادة بدنية لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها بغير حاجة كصوم رمضان، واحترزنا بغير الحاجة عن الجمع بين الصلاتين.
وفي وجه أو قول قديم: يجوز تقديم الصوم أيضا؛ لعموم الحديث، أما التقديم قبل انعقاد اليمين .. فلا يجوز بالإجماع.
قِيلَ: وَحَرَامٍ. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَكَفَارَةِ ظِهَارٍ عَلَى العَوْدِ،
ــ
قال: (قيل: وحرام) أي: إذا كان الحنث بارتكاب حرام، كان إذا حلف لا يزني أو لا يشرب الخمر .. فهل يجوز التكفير قبل أن يشرب؟ فيه وجهان:
أحدهما –وبه قال ابن القاص-: المنع؛ لأنه يتطرق به إلى ارتكاب محظور.
والثاني: يجوز؛ لوجود أحد السببين، والتكفير لا تتعلق به استباحة ولا تحريم، بل المحلوف عليه محظور قبل اليمين وبعدها.
قال: (قلت: هذا أصح والله أعلم)، وقال في (الشرح الصغير): إنه أظهر، وفي (الكبير): إنه أقيس عند جماعة، ونقل تصحيحه في (الروضة) عن الأكثرين.
تنبيهان:
أحدهما: إذا كفر بالإعتاق يشترط في إجزائه بقاء العبد حيا مسلما إلى الحنث، فلو مات أو تعيب أو ارتد قبل الحنث .. لم يجزئه، كما لو مات المدفوع إليه الزكاة قبل الحول أو صار غنيا، قاله القاضي حسين.
وأبدى صاحب (التهذيب) احتمالا فيما إذا مات العبد أو ارتد في أنه يجزئ، كما لو ماتت الشاة المعجلة.
الثاني: قال الدرامي: لو قدم ثم لم يحنث .. استرجع، أي: حيث يقتضي الحال الاسترجاع.
وقال الإمام: لا فرق بين البابين.
وقال القاضي حسين في (باب تعجيل الزكاة) في ضمن بحث مع الخصوم: إن تقديم الكفارة على الحنث عندنا مراعى، فإن حنث .. وقع عن الواجب، وإن أيس من الحنث وكان قد شرط الرجوع .. فله الاسترجاع.
قال: (وكفارة ظهار على العود) أي: له تقديمها على العود إذا كفر بالمال؛ لأن الظهار أحد السببين، والكفارة منسوبة إليه كما أنها منسوبة إلى اليمين.
ومنهم من جعله على الخلاف في الحنث المحرم، وليس بشيء.
وَقَتْلٍ عَلَى المَوْتِ، وَمَنْذورٍ مَالِيِّ
ــ
ويتصور بين الظهارة والعود بما إذا ظاهر من رجعية ثم كفر ثم راجع، أو ظاهر وطلق رجعيا فكفر ثم راجع، أو بائنا وكفر ثم نكحها وقلنا: يعود الحنث، أو ظاهر مؤقتا وصححناه وكفر وصار عائدا بالوطء.
وأما إذا ظاهر وأعتق على الاتصال عن ظهاره .. فهذا ليس بتكفير قبل العود، بل هو مع العود، ولأن الاشتغال بالإعتاق عود.
واحترز بقوله: (على العود) عن تقديمها على الظهار؛ فلا يجوز على المشهور، وفي (البحر) في (باب تعجيل الزكاة) وجه: أنه يجوز.
قال: (وقتل على الموت) فيجوز تقديم كفارته على الموت بع حصول الجرح؛ لأنه بعد وجود السبب، وكذا تقديم جزاء الصيد قبل الموت بعد الجرح.
هذا في التكفير بالإعتاق، أما بالصوم .. فلا يتقدم على الصحيح كما سبق.
ولا يجوز تقديك كفارة القتل على الجرح بكل اعتبار، لا في الآدمي ولا في الصيد.
قال: (ومنذور مالي)، فيجوز تقديمه كما إذا قال: إن شفى الله تعالى مريضي أو رد غائبي .. فلله علي أن أعتق أو أتصدق بكذا؛ فيجوز تقديم العتق والصدقة قبل الشفاء ورجوع الغائب.
قال الرافعي: وفي (فتاوى القفال) ما ينازع فيه، واعترضه في (المهمات) بأنه قدم في (باب تعجيل الزكاة): أن الأصح في هذا المنع، وتبعه في (الروضة) فيهما.
واحترز بـ (المالي) عند البدني؛ فإنه لا يجوز تقديمه على المشروط قطعا.
فَصْلٌ:
يَتَخَيَّرُ فِي كَفَّارَةِ اليَمِينِ بَيْنَ عِتْقٍ كَالظِّهَارِ، وَإِطْعَامِ عَشَرةِ مَسَاكِينَ؛ كُلُّ مِسْكِينٍ مُدُّ حَبٍّ مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ، وَكِسْوَتِهِمْ بِمَا يُسَمَّى كِسْوَةً كَقَمِيصٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ إزَارٍ،
ــ
تتمة:
الحامل والمرضع إذا شرعتا في الصوم ثم أرادتا الإفطار .. فلهما إخراج الفدية على الأصح.
وعلى هذا: ففي جواز تعجيلها لسائر الأيام وجهان بناء على الخلاف في تعجيل زكاة عامين.
قال: (فصل:
يتخير في كفارة اليمين بين عتق كالظهار، وإطعام عشرة مساكين؛ كل مسكين مد حب من غالب قوت بلده، وكسوتهم بما يسمى كسوة كقميص أو عمامة أو إزاز)؛ لقوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية، وهي تشمل على تخبير في الابتداء وترتيب في الانتهاء، وليس لنا كفارة فيها ذلك إلا هي وما ألحق بها من نذر اللجاج والغضب، وانعقد الإجماع على التخبير فيها.
وأشار بقوله: (عتق كالظهار) إلى ما يجزئ من الرقاب وما يشترط فيها.
ويجب لكل مسكين مد من الحب من أي نوع كان من غالب قوت بلد الحالف.
وقيل: العبرة بغالب قوت نفسه لا بلده؛ لظاهر الآية.
وإنما اعتبر المد بحديث المجامع في نهار رمضان؛ فإنه عليه الصلاة والسلام دفع إليه ستين مدا وقال: (تصدق به) ولأنه سداد الرغيب وكفاية المقتصد ونهاية الزهيد.
وروى نافع عن ابن عمر: أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين، لكل
لَا خُفٍّ وَقُفَّازَيْنِ وَمِنْطَقَةٍ،
ــ
مسكين مد من حنطة، وكان يعتق رقبة إذا أكد اليمين.
وجوز الصيمري والماوردي والروياني أن يطعم كل مسكين من الخبز اللين رطلين، قالوا: فإن كان يابسا أو دقيقا أو عصيدة .. لم يجزئ.
ويكفي ما ينطلق عليه الاسم من الكسوة؛ لأن الشارع أطلقها ولا عرف له فيها، وهي تمليك كالطعام.
ويكفي فيها السراويل والقباء والمقنعة، لا التبان في الأصح، وهو سراويل قصير لا يبلغ الركبة، ولا يشترط المخيط.
وفي قول قديم – وإليه ذهب مالك وأحمد -: يشترط أن يستر العورة بحيث تصح الصلاة فيه، فيجزئ الإزار للرجل دون المرأة.
وقال أبو حنيفة: لا تجزئ العمامة ولا السراويل، ولا يكفي منها ما لا يعتاد لبسه كالجلود، فإن اعتيدت: أجزأت.
ولو عين إحدى الخصال الثلاثة بالنذر .. لم تتعين؛ لما فيه من تغيير إيجاب الله تعالى، قاله القاضي حسين.
تنبيه:
تقدم أنها سميت كفارة لأنها تستر الذنب، فإن كان عقد اليمين طاعة وحلها معصية مثل: لا زنيت، فإذا زنى .. كفرت إثم الحنث، وإن كان عكسه مثل: لا صليت، فإذا صلى .. كفرت إثم اليمين، وإن كان العقد والحل مباحين مثل: لا ألبس هذا .. تعلقت الكفارة بهما، وهي بالحنث أحق؛ لاستقرار وجوبها به.
قال: (لا خف وقفازين ومنطقة)؛ لخروج ذلك عن الكسوة الملبوسة، أما
وَلَا تُشْتَرَطُ صَلَاحِيَتُهُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ سَرَاوِيلُ صَغِيرٍ لِكَبِيرٍ لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَقُطْنٌ وَكَتَّانٌ وَحَرِيرٌ لِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ
ــ
المنطقة .. فبلا خلاف، ولهذا لا يمنع المحرم من لبسها، وأما الخف .. فعلى الأصح.
وقيل: يجزئ؛ لإطلاق اسم اللبس عليه.
ولم يذكر في (الشرح) و (الروضة) القفازين، ولا يبعد طرد الخلاف فيهما؛ لأنهما كالخف، وبه صرح القاضي حسين.
وزاد في (المحرر) التكة، وحكى الروياني فيها خلافا، وهي: رباط السراويل بفتح التاء لا غير، وكسرها من لحن العوام، ومثل الخف أيضا المداس والنعل والجورب.
قال: (ولا تشترط صلاحيته للمدفوع إليه، فيجوز سراويل صغير لكبير لا يصلح له، وقطن وكتان وحرير لامرأة ورجل)؛ لوقوع اسم الكسوة على ذلك.
وفي وجه: يشترط أن يتمكن الآخذ من لبسه؛ لقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ، فلو أخذ الولي ما يكفي الصبي .. جاز بلا خلاف، وسواء الجنس الجيد والرديء.
ويجزئ المنديل الذي يحمل باليد، والعمامة أيضا، وكثير من المشارقة يطلقون المنديل عليها، وفي الاكتفاء بالمنديل نظر؛ لأن الصحيح: عدم إجزاء الدرع، وهو: ثوب لا أكمام له، وهو ساتر لغالب البدن، والمنديل لا يسمى كسوة عادة ولا لغة.
وأما القلنسوة .. فقيل: تجزئ؛ لما في (البهيقي)[10/ 56] عن عمران بن
وَلَبِيسٍ لَمْ تَذْهَبْ قُوَّتُهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الثَّلَاثَةِ .. لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
ــ
حصين: أنه سئل: هل تجزئ في الكفارة؟ فقال: إذا قدم وفد على الأمير فأعطاهم قلنسوة قلنسوة .. قيل: قد كساهم.
والأصح: لا تجزئ؛ لأنه لا يقع عليها اسم كسوة.
وقيل: تجزئ القلنسوة الكبيرة التي تغطي الرأس والأذنين والقفا، دون الصغيرة التي تغطي قحف الرأس، والطاقية والقبع أولى بعدم الإجزاء منها.
قال: (ولبيس لم تذهب قوته) كالطعام القديم، أما الذي ذهبت قوته –وهو الخلق بفتح الخاء واللام- فلا يجزئ؛ لأنه يشبه الطعام المسوس والعبد الزمن، ويجزئ المرقع للزينة لا للبلى، ويجوز اللبد إذا اعتيد لبسه، ويجزئ المتنجس وعليه أن يعرفهم بذلك حتى لا يصلوا فيه، ولا يجزئ ما نسج من صوف ميتة.
وفي وجه: لا يجوز دفع الحرير للرجل، قال القاضي: ولو قيل باعتبار عرف البلد .. لم يبعد.
ولا يجوز إعطاء الزلالي والبسط والأنطاع والهميان؛ لخروجها عن اسم الكسوة.
قال الماوردي: ولو أعطى عشرة مساكين ثوبا طويلا، فإن دفعه إليهم بعد قطعة .. أجزأ، وإلا .. فلا؛ لأنه ثوب واحد.
قلت: قد تقدم في (كفارة الظهار) أنه لو وضع لهم ستين صاعا وقال: قد ملكتم هذا بالسوية، أو أطلق فقلبوه .. جاز خلافا للإصطخري، وهي كمسألة الثوب، إلا أن يفرق بأن هذا ثوب واحد وتلك أمداد مجتمعة.
قال: (فإن عجز عن الثلاثة .. لزمه صوم ثلاثة أيام) للآية.
والمراد بـ (العجز): أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته فقط، وقال الرافعي: من يحل له أخذ الزكاة بالفقر والمسكنة وقد يملك نصابا وهو لا يفي دخله بخرجة فيزكيه؛ لئلا يخلو نصاب عنها، ويأخذ الزكاة.
وَلَا يَجِبُ تَتابُعُهَا فِي الأَظْهَرِ، فِإِنْ غَابَ مَالُهُ .. انْتظَرَهُ وِلَمْ يَصُمْ. وَلَا يُكَفِّرُ عَبْدٌ بِمَالٍ إِلَّا إذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً وَقُلْنَا: يَمْلِكُ،
ــ
واعترض على تعبيره بـ (العجز) عن الثلاثة بأن الثلاثة ليست بواجبة، بل الواجب أحدهما مبهما، ولأن من قدر على خصلة أو ثنتين غير قادر على الثلاثة، ولا يجزئه الصوم.
فرع:
تقدم في (باب الحجر): أن السفيه حكمه حكم المعسر، حتى إذا حلف وحنث .. كفر بالصوم على الأصح، وقيل: يكفر بالمال.
قال: (ولا يجب تتابعها في الأظهر)؛ لإطلاق الآية.
والثاني: تجب؛ لقراءة أبي بن كعب وابن مسعود: (ثلاثة أيام متتابعات) والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العمل، وقياسا على الظهار والقتل حملا للمطلق على المقيد.
والجواب: أن هذه القراءة لم تثبت، والصوم هنا خفف بقلة العدد، فكذا بالتفرقة، بخلاف الظهار والقتل.
قال: (فإن غاب .. انتظره ولم يصم) وإن كانت الزكاة تحل له؛ لقدرته على التكفير بالمال من غير ضرورة، وأخذه الزكاة لحاجة يختص بمكانه، والكفارة منوطة بمكانه، كما أنه إذا فقد الرقبة وماله حاضر ينتظر أيضا، بخلاف فاقد الماء؛ فإنه يتيمم لضيق وقت الصلاة.
فإن قيل: المتمتع في الحج إذا كان معسرا بمكة موسرا ببلده .. يكفر بالصوم، فهلا كان هذا مثله؟! فالجواب: أن مكان الدم مكة فاعتبر يساره وإعساره بها، ومكان الكفارة مطلق فاعتبر يساره مطلقا.
قال: (يكفر عبد بمال)؛ لعدم ملكه.
قال: (إلا إذا ملكه سيده طعاما أو كسوة وقلنا: يملك) .. فإنه يكفر بذلك، وشرط المسألة: أن يملكه ذلك ليكفر به، أو يملكه مطلقا ثم يأذن له في التكفير.
بَلْ يُكَفِّرُ بِصَوْمٍ، فَإِنْ ضَرَّهُ وَكَانَ حَلَفَ وَحَنِثَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ .. صِامَ بِلَا إِذْنٍ، أَوْ وُجِدَا بِلَا إذْنٍ .. لَمْ يَصُمْ إلَّا بِإِذْنٍ،
ــ
…
واحترز بقوله: (طعاما أو كسوة) عما إذا ملكه عبدا ليعتقه عن الكفارة .. فإنه ممتنع؛ لأن العتق يستعقب الولاء، وهو لا يكون لرقيق.
وقيل: يصح والولاء له.
وقيل: موقوف، إن عتق قبله .. كان له، وإلا .. فللسيد.
قال: (بل يكفر بصوم)؛ لعجزه عن غيره، ولا فرق بين كفارة اليمين والظهار في ذلك.
قال: (فإن ضره) بأن كان في شدة حر، أو برد شديد، أو نهار طويل وكان يضعفه عن العمل.
قال: (وكان حلف وحنث بإذن سيده .. صام بلا إذن)؛ لوجود الرضا.
قال: (أو وجدا) أي: الحلف والحنث (بلا إذن .. لم يصم إلا بإذن)؛ لأن حق السيد على الفور، والكفارة على التراخي، بخلاف صوم رمضان، فإن شرع فيه بغير إذنه .. كان له تحليله؛ لأنه لم يأذن في السبب، وعليه فيه ضرر، فكان له منعه كالحج.
وحيث احتاج إلى إذن فصام بدونه .. أجزأه كما لو صلى الجمعة بلا إذن.
وَإنْ أَذِنَ فِي أَحَدِهِمَا .. فَالأَصَحُّ: اعْتِبَارُ الحَلِفِ،
ــ
ولو مات العبد وعليه كفارة .. فللسيد أن يكفر عنه بالإطعام وإن قلنا: لا يملك بالتمليك؛ لأن التكفير عنه في الحياة يتضمن دخلوه في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك، ولأن الميت ليس له ملك محقق، والرق يزول بالموت فهو والحر سواء، أما لو أعتق عنه .. فلا يجوز؛ لأجل ثبوت الولاء.
قال: (وإن أذن في أحدهما .. فالأصح: اعتبار الحلف) ، فإذا حلف بإذنه وحنث بغير إذنه .. صام بغير إذنه، وعكسه عكسه؛ لأن إذنه في الحلف إذن فيهما يترتب عليه، كما أن إذنه في النكاح إذن في اكتساب المهر والنفقة.
والثاني: المعبر الحنث؛ لأن اليمين مانعة منه، فليس إذنه فيها إذنا في التزام الكفارة، وهذا هو الأصح في (الشرحين) و (الروضة) ، ولعل الذي في الكتاب و (المحرر) سبق قلم من الحنث إلى الحلف، وهذه المسألة نظير رجوع الضامن في أقسامها الأربعة كما سبق في بابه.
ولو حلف وهو في ملك زيد، ثم انتقل إلى ملك عمرو .. فهل للثاني المنع إن كان الأول قد أذن فيهما، أو في أحدهما ثم انتقل عنه قبل التكفير، أو كان الحلف في ملك شخص والحنث في ملك آخر؟ في جميع ذلك نظر.
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَلَهُ مَالٌ .. يُكَفِّرُ بِطَعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ لَا عِتْقٍ
ــ
وإذا عتق العبد ثم حنث .. كفر كالأحرار، وإن عتق بعد الحنث .. صام إن كان معسرا، وإن كان موسرا واعتبرنا حال الأداء أو أعلاهما .. كفر بالمال، أو حال الوجوب .. كفر بالصوم.
تنبيه:
التعبير بالعبد يخرج الأمة، فللسيد منعها من الصوم للاستمتاع الناجز والصوم على التراخي، وكذلك قال أصحابنا: حيث أطلق العبد .. شمل الأمة إلا هنا، فالتفصيل المذكور خاص بالعبد.
قال: (ومن بعضه حر وله مال .. يكفر بطعام أو كسوة)؛ لقدرته على ما تقدم على الصوم، فلا يصوم على الأصح، كما لو وجد ثمن الماء .. لا يباح له التيمم.
قال: (لا عتق)؛ لنقصه عن أهلية الولاء والإرث.
وقيل: في عتقه قولان كالمكاتب بالإذن.
وقال المزني وابن سريج: فرضه الصوم كالعبد، واستدل المزني بأن نفقته عند الشافعي نفقة المعسرين فكذلك كفارته، وأجيب بأن المزني في النفقات جعله كالحر.
تتمة:
أصح الأوجه: أن سبب وجوب الكفارة: الحنث واليمين معا.
والثاني: اليمين فقط، والحنث شرط، كالزكاة تجب بملك النصاب بشرط الحول.
فصل:
حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يُقِيمُ فِيهَا .. فَلْيَخْرُجْ فِي الحَالِ،
ــ
والثالث: الحنث فقط؛ لأنه قبله لم يكن مخاطبا بها، ومتى أتى بكفارة اليمين أو القتل أو جزاء الصيد .. كانت أداء، وكذلك كفارة الظهار بعد العود وقبل الجماع، فإن فعلت بعد الجماع .. كانت قضاء كما صرح به البندنيجي.
وإذا مات الحالف قبل التكفير .. أخرجت من تركته وإن لم يوص بها كالدين، وإذا أعتق الوارث عنه .. كان الولاء للميت؛ لوقوع العتق عنه.
قال: (فصل:
حلف لا يسكنها أو لا يقيم فيها .. فليخرج في الحال).
(السكنى) مشتقة من السكون وهو ضد الحركة، سكن بالمكان يسكن: أقام، والمسكن: المنزل.
والمراد بـ (الخروج): أن يخرج ببدنه دون أهله ومتاعه؛ فإنه المحلوف عليه.
واستدل الماوردي لذلك بقوله تعالى: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} فأطلق إسكانهم مع خلوهم عن مالهم فدل على أن المعتبر البدن.
وقال تعالى: {يُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} ، لكن الجمهور فسروا المتاع بالاستمتاع.
ولا يكلف الخروج عن العادة من العدو والهرولة، ولا فرق بين أن يخرج من باب قريب منه أو بعيد عنه، لغرض أو لغيره.
وظاهر عبارة المصنف: أنه يكفي مطلق الخروج، سواء قصد التحول أم لا، وظاهر نص (الأم) و (المختصر): أنه لابد من الخروج بنية التحول؛ ليقع الفرق بينه وبين الساكن، وبهذا صرح المتولي وصاحب (المستظهري) والشيخ نصر والشاشي وصاحب (الإستقصاء)، وفي (التنبيه) و (الشامل): والشيخان أطلقا
فَإِنْ مَكَثَ بِلَا عُذْرٍ .. حَنِثَ وَإنْ بَعَثَ مَتَاعَهُ، وَإِنِ اشْتَغَلَ بِأَسْبَابِ الخُرُوجِ كَجَمْعِ مَتَاعٍ وَإخْرَاجِ أَهْلٍ وَلُبْسِ ثَوْبٍ .. لَمْ يَخْنَثْ
ــ
ذلك؛ لأن من كان ساكنا في دار فخرج منها إلى السوق مثلا .. يعده أهل العرف ساكنا نظرا إلى عادة الساكنين من الدخول والخروج.
قال: (فإن مكث بلا عذر .. حنث وإن بعث متاعه)؛ لأن المحلوف عليه سكناه، وهو موجود، والسكنى تطلق على الدوام كالابتداء، يقال: سكن شهرا، فإن مكث بعذر كما إذا أغلق عليه الباب، أو منع من الخروج، او خاف على نفسه أو ماله لو خرج، أو كان مريضا أو زمنا لا يقدر على الخروج .. لم يحنث.
وجعل الماوردي من الأعذار: أن يضيق وقت الصلاة ويعلم أنه لو اشتغل بالخروج .. لفاتته، فإن طرأ العجز بعد الحلف .. ففي حنثه الخلاف في المكره.
قال: (وإن اشتغل بأسباب الخروج كجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب .. لم يحنث)؛ لأنه لا يعد ساكنا.
وقيل: يحنث؛ لأنه أقام مع التمكن من الخروج، ونسب الإمام الأول للمراوزة والثاني للعراقيين.
وقيد الشاشي الخلاف بما إذا لم يقدر على الاستنابة، فإن قدر ولم يفعل .. حنث، وأجرى القاضي وغيره الخلاف من غير تقييد.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا فِي الحَالِ .. لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ بُنِيَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ وَلِكُلِّ جَانِبٍ مَدْخَلٌ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا وَهُوَ فِيهَا أَوْ لَا يَخْرُجُ وَهُوَ خَارِجٌ .. فَلَا حِنْثَ بِهَذَا، ....
ــ
ولو احتاج إلى مبيت ليلة لحفظ متاع .. فأصح احتمالي ابن كج: لا يحنث.
قال: (ولو حلف لا يساكنه في هذه الدار فخرج أحدهما في الحال .. لم يحنث)؛ لعدم المساكنة، فإن المفاعلة لا تتحقق إلا من اثنين، فلو مكث ساعة .. حنث؛ لصدق الاسم، فلو اشتغل بأسباب الخروج .. فهو كما سبق.
قال: (وكذا لو بني بينهما جدار) أي: من طين أو غيره (ولكل جانب مدخل في الأصح) ، سواء كان موجودا أو أحدثاه؛ لاشتغاله برفع المساكنة.
والثاني: يحنث؛ لأنهما قبل كماله يقطع بأنهما متساكنان.
ونظيره: ما لو تبايعا وبني بينهما جدار .. فإن ذلك لا يقطع الخيار على الأصح؛ للبقاء في مجلس العقد، وهذا هو الأصح في (الشرح الصغير) ، ونقل في (الكبير) و (الروضة) تصحيحه عن الجمهور، ولم ينقلا ترجيح الأول إلا عن البغوي فقط، والمصنف تبع فيه (المحرر).
هذا كله إذا قيد المساكنة ببعض المواضع لفظا، وإليه أشار بقوله:(هذه الدار) ، فإن لم يقيدها، فإن نوى موضعا معينا من بيت أو دار أو محلة أو بلد .. فالأصح: أن اليمين محمولة على ما نوى، وإلا .. فيحنث بالمساكنة في أي موضع كان، فلو حلف لا يساكنه وأطلق وكانا في موضعين بحيث لا يعدان متساكنين .. لم يحنث.
وفي وجه ضعيف: لابد من مفارقة أحدهما مكانه في الدار أو المحلة، ولا يحنث بالبلد قطعا.
ولو حلف لا يساكن زيدا وعمرا .. بر بخروج أحدهما، ولو قال: لا ساكنت زيدا ولا عمرا .. لم يبر بخروج أحدهما.
قال: (ولو حلف لا يدخلها وهو فيها أو لا يخرج وهو خارج .. فلا حنث بهذا)؛
أَوْ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يَتَطَهَّرُ [أَوْ لَا يَلْبَسُ] أَوْ لَا يَرْكَبُ أَوْ لَا يَقُومُ أَوْ لَا يَقْعُدُ، فَاسْتَدَامَ هَذِهِ الأَحْوَالَ .. حَنِثَ. قَلْتُ: تَحْنِيثُهُ بِاسْتِدَامَةٍ التَّزَوُّجِ وَالتَّطَهُرِ غَلَطٌ؛ لِذُهُولٍ، واسْتِدَامَةُ طِيبٍ لَيْسَتْ تَطَيُّبًا فِي الأَصَحِّ، ..
ــ
لأن الدخول: الانفصال من خارج إلى داخل، والخروج عكسه، ولم يوجد ذلك في الاستدامة، ولهذا لا يقال: دخلت الدار شهرا، وإنما يقال: دخلتها منذ شهر.
وفي قول أو وجه: يحنث بالاستدامة فيهما؛ لأنها كالابتداء في التحريم بالنسبة إلى ملك الغير، ولهذا: لو دخل دار الغير وهو لا يعلم ثم علم فاستدام .. أثم.
قال: (أو لا يتزوج أو لا يتطهر [أو لا يلبس] أو لا يركب أو لا يقوم أو لا يقعد، فاستدام هذه الأحوال .. حنث. قلت: تحنيثه باستدامة التزوج والتطهر غلط؛ لذهول) هو كما قال، وزاد في (الروضة) تبعا لـ (الشرح): أو لا يتوضأ وهو متوضئ؛ فإن الشافعي في (الأم) نص على عدم الحنث في هذه المسائل، وذلك أن الاستدامة فيها ليست كالابتداء؛ لأنه لا يقال: تزوجت شهرا وتطهرت شهرا، بخلاف الباقي.
و (الذهول) بالذال المعجمة نسيان الشيء والغفلة عنه.
قال: (واستدامة طبب ليست تطيبا في الأصح)؛ لأنه لم يحدث فعلا بدليل تطيب المحرم قبل الإحرام إذا استدامه لا تلزمه الفدية.
والثاني: نعم؛ لأنه منسوب إلى الطيب.
وفي (الكفاية) وجه ثالث: إن استدام أثره .. حنث، أو رائحته .. فلا اعتبار ببقاء العين وزوالها.
وَكَذَا وَطْءٌ وَصَوْمٌ وَصَلَاةٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا .. حَنِثَ بِدُخُولِ دِهْلِيزٍ دَاخِلَ الْبَابِ أَوْ بَيْنَ بَابَيْنِ،
ــ
قال: (وكذا وطء وصوم وصلاة والله أعلم) فلا يحنث باسدامتها على الأصح.
ويتصور اليمين في الصلاة إذا حلف ناسيا للصلاة .. فإن اليمين تنعقد، وكذلك إذا حلف غيره، فلو حلف لا يستقبل القبلة وهو مستقب فاستدام .. حنث قطعا، هذا هو المنقول في (الشرح) و (الروضة) و (التهذيب) و (الكفاية)، ووقع في بعض شروح هذا الكتاب: لا يحنث، وهو سبق قلم، لكنه وقع كذلك في (تعليق البغوي).
واستدامة السفر سفر، فإن رجع في الحال .. فلا؛ لأنه أخذ في ترك السفر.
وأما استدامة الغصب .. فنقل الرافعي عن البغوي: أنها ليست غاصبا، وبه جزم في (الروضة)، وهو مشكل؛ فإنه يصدق أن يقال: غصبه شهرا وسنة ونحو ذلك.
وقد صرح الأصحاب بأن مستديم الغصب غاصب، وبه جزم الماوردي، لا جرم في (المهمات): الصواب المفتى به عكس ما في (الروضة).
فرع:
حلف لا يشارك فلانا وهو شريكه فاستدام .. أفتى ابن الصلاح بحنثه، إلا أن يريد شكرة مبتدأة، وأفتى بأنه إذا حلف لا يملك هذه العين وهو مالكها بأنه يحنث.
قال: (ومن حلف لا يدخل دارا .. حنث بدخول دهليز داخل الباب أو بين بابين)؛ لأنه من الدار، ومن جاوز الباب عد داخلا.
وحكي عن النص: أنه لا يحنث، وحمل على الطاق خارج الباب.
لَا بِدُخُولِ طَاقٍ قُدَّامَ الْبَابِ، وَلَا بِصُعُودِ سَطْحِ غَيْرِ مُحَوَّطٍ، وَكَذَا مُحَوَّطُ فِي الأَصَحِّ
ــ
و (الدهليز) بكسر الدال: ما بين الباب والدار، فارسي معرب، وجمعه دهاليز.
قال: (لا بدخول طاق قدام الباب)؛ لأنه لا يقال دخل الدار.
وفي وجه: يحنث؛ لأنه من الدار بدليل دخوله في بيعها.
و (الطاق): المعقود أمامها متصلا بها، فارسي معرب أيضا، وجمعه أطواق.
كل هذا إذا لم يكن للطاق باب يغلق كالدرب؛ فإن كان .. قال المتولي: هو من الدار مسقفا كان أو غير مسقف. كذا نقله عنه الرافعي وأقره، وهو مشكل؛ لخروجه عن العرف.
وقوله: (قدام الباب) تفسير للطاق لا تقييد.
قال: (ولا بصعود سطح غير محوط) المراد: إذا صعده من خارج بأن تسور إليه من الجدار أو دار .. جاز؛ لأن السطح حاجز يقي الدار الحر والبرد فهو كحيطانها، وهو لو وقف على العتبة في سمك الحائط .. لم يحنث، فكذا هنا، ولأن الدار حرز يقطع السارق منها بخلاف السطح، سواء كان محوطا بحجر أو آجر، أو محصرا بقصب أو خشب.
وفي وجه ضعيف: يحنث بغير المحوط؛ لأنه جزء من الدار بدليل دخوله في بيعها.
قال: (وكذا محوط في الأصح)؛ لأنه لا يقال له في العرف داخل الدار.
والثاني: يحنث؛ لإحاطة حيطان الدار به، ولهذا لو صلى على سطح الكعبة وهو على هذه الهيئة .. صحت صلاته، وهذا يبطل بما إذا كان التحويط من جانب واحد فإنه لا أثر له.
وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ أَوْ رَاسَهُ أَوْ رِجْلَهُ .. لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِيهَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا .. حَنِثَ، وَلَوِ انْهَدَمَتْ فَدَخَلَ وَقَدْ بَقِيَ أَسَاسُ الْحِيطَانِ .. حَيِثَ،
ــ
وقيل: إن كانت السترة عالية بحيث يحجز مثلها لو كان في العرصة .. حنث، وإلا .. فلا.
ولو حلف لا يخرج منها فصعد السطح .. حنث، قاله ابن الصباغ.
ولو حلف ليخرجن منها فصعده .. بر في الأصح.
قال: (ولو أدخل يده أو رأسه أو رجله .. لم يحنث)؛ لأنه لا يمسى داخلا ولا خارجا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إلى عائشة وهو معتكف، ولم يعد ذلك خروجا مبطلا للاعتكاف.
ونظيره: ماسح الخف إذا أخرج بعض رجله عن مقرها ثم أحدث ثم أعادها قبل استكمال النزع .. يحوز المسح عليها ولو أدخل بعضها ابتداء ثم أحدث قبل استقرارها. لم يجز المسح؛ تمسكا بالأصل حتى يظهر خلافه.
قال: (فإن وضع رجليه فيها معتمدا عليهما) أي: وباقي بدنه خارج (.. حنث)؛ لأنه يسمى داخلا.
واحترز بقوله: (معتمدا) عما إذا مدهما وهو قاعد .. فلا حنث، ويقاس الخروج في جميع ذلك بالدخول.
قال: (ولو انهدمت فدخل وقد بقي أساس الحيطان .. حنث)؛ لتحقق الدخول فيها، كذا قاله في (التهذيب) ، وتبعه في (المحرر) و (المنهاج) ، واستبعده في (المطلب) بأن حقيقة الأساس هو البناء المدفون في الأرض تحت الجدار البارز.
وعبارة (الشرح) و (الروضة): إن بقي أصول الحيطان والرسم .. حنث، وهي أولى من عبارة الكتاب.
والظاهر: ما قاله الإمام: إن انهدم بعضها، فإن كان يسمى دارا .. حنث به،
وَإنْ صَارَتْ فَضَاءٌ أَوْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا .. فَلَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ .. حَنِثَ بِدُخُولِ مَا يَسْكُنُهَا بِمِلْكٍ، لَا بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ وَغَصْبٍ،
ــ
وإن سميت رسوم دار .. فلا، وذكر مثله الغزالي في (البسيط) ، والجاجرمي والفوراني والماوردي.
والحاصل: أن الحكم يدار مع اسم الدار وعدمه، وهو ظاهر نص (الأم) و (المختصر) ، وأطبق عليه الأصحاب، وكأن الرافعي والمصنف لم يمعنا النظر في المسألة.
كل هذا إذا قال: هذه الدار، فإن قال: لا أدخل هذه .. حنث بالعرصة، ولو قال: دارا .. لم يحنث بفضاء ما كان دارا، وهذه ترد على الكتاب؛ فإنه صور المسألة في أولها بقوله:(دارا) لكن مراده هذه الدار.
قال: (وإن صارت فضاء أو جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا .. فلا)؛ لزوال مسمى الدار.
ومقتضى عبارة الكتاب: انحلال اليمين بذلك، حتى لو أعيدت لم يحنث، وهو كذلك إذا أعيدت بآلة أخرى، فإن أعيدت بآلتها الأولى .. فالأصح في زوائد (الروضة) الحنث.
قال: (ولو حلف لا يدخل دار زيد) وكذلك لا يدخل بيته (.. حنث بدخول ما يسكنها بملك لا بإعارة وإجازة وغصب)؛ لأن الإضافة إلى من يملك تقتضي ثبوت الملك حقيقة، بدليل أنه لو قال: هذه الدار لزيد .. كان إقرارا له بالملك، حتى لو قال: أردت أنه يسكنها .. لم يقبل.
وعن القاضي حسين: أنه إن حلف بالفارسية حمل على المسكن.
قال الرافعي: ولا يكاد يظهر فرق بين اللغتين.
قال القمولي: وأفتى بعض علماء عصرنا بالحنث بدخول الدار التي يسكنها بإجازة أو إعارة؛ لأنه المفهوم عرفا وهو قول الأئمة الثلاثة.
ولا يحنث بدخول الدار الموقوفة عليه إن قلنا: لا يملكها، وإن قلنا: يملكها .. حنث.
ولو حلف لا يدخل مسكن زيد .. حنث بدخول ما يسكنه بإجازة أو إعارة؛ لأنه
إِلَّا أَنْ يُرِيدَ مَسْكَنَهُ، وَيَحْنَثُ بِمَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْكُنُهُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ مَسْكَنَهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ أَوْ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَبَاعَهُمَا أَوْ طَلَّقَهَا فَدَخَلَ وَكَلَّمَ .. لَمْ يَحْنَثْ،
ــ
ـَ
وجد المسكون حقيقة، فلو دخل مسكنه المغضوب .. فوجهان: صحح المصنف أنه يحنث إلا أن ينوي مسكنه المملوك .. فلا يحنث بغيره.
ومقتضى عبارة المصنف: أنه لو حدثت له دار أخرى .. حنث بدخولها، وهو قياس ما فرقوا به بين الولد المتجدد والعبد المتجدد، فإنه إذا حلف لا يكلم عبد فلان .. حنث بالموجود في ملكه والمتجدد اعتبارا بالمالك، وإن قال: لا أكلم ولد فلان .. حنث بالموجود دون المتجدد، والفرق: أن اليمين ينزل على ما للمحلوف عليه قدرة على تحصيله، ويشكل عليه ما لو حلف لا يمس شعر فلان فحلقه ونبت شعر آخر فمسه. فإنه يحنث كما صرح به صاحب (الكافي) وغيره.
قال: (إلا أن يريد مسكنه) فيحنث بالمعار ونحوه؛ لأنه مجاز اقترنت به النية، قال الله تعالى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} والمراد: بيوت الأزواج التي يسكنها.
قال: (ويحنث بما يملكه ولا يسكنه)؛ لأنه دخل في دار زيد حقيقة قال: (إلا أن يريد مسكنه) فلا يحنث بذلك اعتبارا بقصده. وهذا متفق عليه إذا كان الحلف بالله تعالى، فإن كان بالطلاق أو العتاق .. لم يقبل في الحكم.
هذا إذا كان يملك الجميع، فإن كان يملك بعذ الدار .. فظاهر نص (الأم) –وأطبق عليه الأصحاب-: أنه لا يحنث وإن كثر نصيبه.
وفي معنى الملك ما لا يعرف إلا به كسوق أو دار او خان بالبلد لا يعرف إلا به كسوق أمير الجيوش بمصر، وسوق يحيى ببغداد، وخان أبي يعلى بقزوين، ودار الأرقم بمكة، فإذا حلف لا يدخل ذلك .. حنث بدخوله وإن كان من يضاف إليه ميتا؛ لتعذر حمل الإضافة على الملك فتعين أن يكون للتعريف، ومثله في (الروضة) بدار العقيقي بدمشق.
قال: (ولو حلف لا يدخل دار زيد أو لا يكلم عبده أو زوجته فباعهما أو طلقها فدخل وكلم .. لم يحنث)؛ تغليبا للحقيقة، لأنه لم يدخل داره، ولم يكلم عبده
إِلَّا أَنْ يَقُولَ: دَارَهُ هَذهِ، أَوء زَوْجَتَهُ هَذِهِ، أَوْ عَبْدَهُ هَذَا .. فَيَحْنَثُ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ مَا دَامَ مِلْكُهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَنُزِعَ وَنُصِبَ فِي مَوْضِعٍ آخرَ مِنْهَا. لمَ ْيَحْنَثْ بِالثّانِيِ، وَيَحْنَثُ بِالأَوَّلِ فِي الأَصَحِّ0000000000000
ــ
وزوجته حقيقة؛ لزوال الملك بالبيع والطلاق.
وكذلك إذا قال: لا أكلم زوج هذه المرأة وسيد وهذا العبد فكلمه بعد زوال الملك أوا لنكاح.
ولو عبر بقوله: فأزال ملكهما بدل (فباعهما) .. كان أعم؛ لتدخل الهبة وغيرها.
ولو اشترى زيد دارا بعد بيع الأولى .. قال الصيدلاني: إن أراد الأولى .. لم يحنث بالثانية، وإن أراد أي دار كانت في ملكه .. حنث بالثانية دون الأولى، وإن أراد ما جرى عليه ملكه. حنث بأيهما دخل.
قال: (إلا أن يقول: داره هذه، أو زوجته هذه، أو عبده هذا .. فيحنث)؛ تغليبا للتعيين فإنه أقوى.
قال: (إلا أن يريد ما دام ملكه) عملا بالإرادة، وضبط المصنف بخطة الكاف وبالفتح والضم، وكلاهما صحيح.
وضابط هذا النوع: أن تعلق اليمين بشيء بعينه مضافا إلى غيره.
وضابط النوع قبله: أن تعلق اليمين بشيء غير معين مضافا إلى غيره إضافة ملك لا تعريف.
قال: (ولو حلف لا يدخل من هذا الباب، فنزع ونصب في موضع آخر منها .. لم يحنث بالثاني، ويحنث بالأول في الأصح).
أصل هذه المسألة: أن الباب عند الإطلاق هل يحمل على المنفذ أو على الخشب المنصوب أو عليهما، وفي ذلك أوجه:
أصحها: أولها؛ لأنه المحتاج إليه في الدخول دون المنصوب، ويتفرع عليها مسألة الكتاب، والأصح فيها الحنث اعتبارا بالمنفذ الأول وإن لم يكن الخشب عليها.
أَوْ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا .. حَنِثَ بِكُلِّ بَيْتٍ مِنْ طِينٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ خَشَبٍ أَوْ خَيْمَةٍ،
ــ
والثاني: عكسه اعتبارا بالخشب.
والثالث: لا يحنث بواحد منهما، إنما يحنث بالأول إذا كان الخشب عليه.
هذا كله عند الإطلاق، فإن نوى شيئا من ذلك .. حمل عليه بلا خلاف.
ولا فرق عند الرافعي وجماعة بين أن يسد الباب الأول أم لا.
وقيد صاحبا (المذهب) و (التهذيب) المسألة بأن يكون الأول قد سد، وتبعهما المصنف في (نكت التنبيه) ، قال ابن الرفعة ولم يتعرض له الجمهور، ولا يظهر لسده أثر في الاعتبار، وإنما وقع في كلامهما جريا على الغالب في أنه لا يفتح باب إلا ويسد الأول، ويحتمل أن يكون وجها في المسألة.
وصورة المسألة –كما قال المصنف-: إذا أشار إلى الباب، فإن قال: لا أدخلها من بابها ففتح باب جديد فدخل منه .. حنث في الأصح؛ لأن المفتوح ثانيا ينطلق عليه اسم (بابها).
ونقل الرافعي في آخر الباب عن الحنفية –ووافقهم عليه-: أنه لو حلف لا يدخل هذه الخيمة فنقلت وضربت في موضع آخر فدخلها .. حنث.
قال: (أو لا يدخل بيتا) أي: ولا نية له (.. حنث بكل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خشب أو خيمة)؛ لأن اسم البيت يقع على ذلك حقيقة في اللغة، واستدل بعضهم لذلك بقوله تعالى:{وجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} .
وَلَا يَحْنَثُ بِمَسْجِدٍ وَحَمَّامٍ وَكَنِيسَةٍ وَغَارِ جَبَلٍ
ــ
واعترض عليه بأنه لا يحنث بالمساجد كما سيأتي، وسماها الله تعالى بيوتا، وسواء كان الحالف حضريا أو بدويا، هذا هو الأصح المنصوص.
وقيل: لا يحنث بالخيمة ونحوها إن كان حضريا، وصححه الجاجرمي.
وقيل: إن قربت قريته من البادية .. حنث، وإلا .. فلا؛ لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه.
كل هذا عند الإطلاق، فإن نوى نوعا منها .. انصرف إليه، وفيما إذا تلفظ بالبيت بالعربية، فإن قاله بالفارسية .. فالأصح في (الشرح الصغير): لا يحنث ببيت الشعر والخيام، لأن العجم إنما يطلقونه على المبني، وهو وارد على إطلاق المصنف.
قال: (ولا يحنث بمسجد وحمام وكنيسة وغار جبل)؛ لأنها ليست للإيواء والسكنى، واسم البيت لا يقع عليها إلا بضرب من التقييد كما يقال: الكعبة بيت الله والبيت الحرام.
وقيل: يحنث بالكعبة والمسجد؛ لأن الله سمى كلا منهما بيتا، والتكرر في القرآن يجعل اللفظ صريحا.
وقيد الإمام والمتولي موضع الخلاف في المسجد بالمسقف.
ولا يحنث بساحة المدرسة والرباط، ولا بدخول دهليز دار وصحنها أو صفتها على الأصح؛ لأنه يقال: لم يدخل البيت وإنما وقف في الدهليز والصفة، وهذا بخلاف ما تقدم في دخول الدار، فإنه يحنث بدهول دهليزها؛ لانه يقال: دخل الدار بذلك.
والأصح في زوائد (الروضة): أنه لا يحنث بدخول بيت الرحى.
وما ذكره في (غار الجبل) ظاهر إذا لم يقصد به الإيواء، أما ما اتخذ منها بيتا
أَوْ لَا يَدْخُلُ عَلَى زَيْدٍ، فَدَخَلَ بَيْتًا فِيهِ زَيْدٌ وَغَيْرُهُ .. حَنِثَ، وَفِي قَولٍ: إِنْ نَوَى الدُّخُولَ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ .. لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ جَهِلَ حُضُورَهُ .. فَخِلَافُ حِنْثِ النَّاسِي. قُلْتُ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ واسْتَثْنَاهُ .. لَمْ يَحْنَثْ،
ــ
للسكنى .. فيحنث به من اعتاد سكناه؛ لقوله تعالى: {يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا} {وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتًا} أما الغار .. فلا يسمى بيتا.
قال: (أو لا يدخل على زيد، فدخل بيتا فيه زيد وغيره .. حنث)؛ لوجود صورة الدخول عليه.
قال: (وفي قول: إن نوى الدخول على غيره دونه .. لم يحنث) كما في مسألة السلام الآتية، والفرق: أن الاستثناء لا يصح من الأفعال.
قال: (فإن جهل حضوره .. فخلاف حنث الناسي) ، سواء كان فيه وحده أم مع غيره.
والأصح عدم الحنث؛ لقوله تعالى: {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ} [الأحزاب: 5]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(وضع عن أمتي الخطأ والنسيان) واليمين داخلة في هذا العموم.
ولو دخل لشغل ولم يعلم به. فأولى بعدم الحنث؛ لانضمام قصد الشغل إلى الجهل، وقيل: الجاهل أولى بالحنث من الناسي، وقال القفال: يحنث في الطلاق دون الأيمان بالله تعالى.
لكن يستثنى ما إذا قال: لا أدخل عليه عامدا ولا ناسيا .. فإنه يحنث إذا دخل ناسيا بلا خلاف.
ثم إذا حكمنا بعدم الحنث في الناسي والجاهل .. لا ينحل اليمين على الأصح كما تقدم في الطلاق.
قال: (قلت: ولو حلف لا يسلم عليه، فسلم على قوم هو فيهم واستثناه .. لم يحنث)؛ لأنه سلم بلفظ عام يقبل التخصيص بالنية وقد خصه، بخلاف الدخول.
وَإِنْ أَطْلَقَ .. حَنِثَ فِي الأَظْهَرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
حَلَفَ لَا يَاكُلُ الرُّؤُوسَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ. حَنِثَ بِرُؤُوسٍ تُبَاعُ وَحْدَهَا،
ــ
ولا فرق بين أن يستثنيه باللفظ أو بالنية على الأصح.
قال: (وإن أطلق .. حنث في الأظهر والله أعلم) نظرا إلى عموم اللفظ، وهو الراجح في (الشرحين).
والثاني: لا؛ لأن اللفظ يصلح للجميع وللبعض فلا يحنث بالشك.
وفهم من تحنيثه عند الإطلاق تحنيثه إذا قصد من باب أولى.
تتمة:
يجري الخلاف فيما لو سلم الحالف من صلاة وزيد من المأمومين به، كذا قاله الرافعي، وقال ابن الصلاح: إنه قياس المذهب، وبه جزم المتولي، وفيه نظر؛ لأنه خارج عن العرف، ولاسيما إذا بعد عن الإمام بحيث لا يسمع كلامه فإنه لا يعد مكلما.
وقد صرح الرافعي في هذا في (كتاب الطلاق) بعدم الحنث، ويحتمل التفصيل بين أن يقصده أم لا كما سيأتي في قراءة الآية المفهمة.
قال: (فصل:
حلف لا يأكل الرؤوس) وكذلك لا يشتريها (ولا نية له. حنث برؤوس تباع وحدها) وهي رؤوس الغنم والبقر والإبل؛ لأن ذلك هو المتعارف أكله، فإنها تفرد وتقصد بالأكل فيحنث بها دون غيرها، ومجموع ما في ذلك خمسة آراء ما بين قول ووجه:
أصحها: ما قاله المصنف.
والثاني: أنه يحنث بالرؤوس مطلقا.
والثالث: عن ابن سريج: لا يحنث إلا برؤوس البقر والغنم.
لَا طَيْرٍ وَحُوتٍ وَصَيْدٍ، إلَّا بِبَلَدٍ تُبَاعُ فِيهِ مُفْرَدَةً
ــ
والرابع: عن أبي هريرة: أنه إنما يحنث بأكل رؤوس الغنم خاصة.
والخامس: أنه لا يحنث في البلد الذي لم تجر العادة فيها ببيع غير رؤوس الغنم إلا برؤوس الغنم.
واحترز بقوله: (لا نية له) عما إذا نوى مسمى الرأس .. فلا يختص بما يباع وحده، أو نوى نوعا خاصا .. فلا يحنث بغيره على المنصوص.
والرأس: يجمع في القلعة على ارؤس، وفي الكثرة على رؤوس، ويقال لبائعه: رآس، والعامة تقول: رواس.
قيل: كان مروان بن أبي حفصة بخيلا، وكان لا يأكل من اللحم إلا الرؤوس، فقيل له في ذلك فقال: لأن الرأس أعلم سومه وآمن خيانة بائعه ومبتاعة، ولا يؤذخ مه شيء إلا عرف، وفيه طعوم مختلفة.
قال: (لا طير وحوت وصيد)؛ لأنها لا تفرد بالبيع، ولا تفهم من اللفظ عند الإطلاق.
قال: (إلا ببلد تباع فيه مفردة) فإنه يحنث بأكلها هناك؛ لانها كرؤوس الأنعام في غيرها، ففي غير تلك البلد إذا أكلها .. لم يحنث؛ عملا بعرف البلد، كذا صححه المصنف في (التصحيح).
والثاني –وهو الأقوى في (الشرحين) و (الروضة) -: الحنث كخبز الأرز، وهو أقرب إلى ظاهر النص.
وهل يعتبر نفس البلد أو كون الحالف من أهله وجهان.
وظاهر كلام المصنف: أنه لا فرق بين أن يأكل بعض الرأس أو كله.
وفي (فروع ابن القطان): إذا قال: الرؤوس .. لابد من أكل ثلاثة منها.
قال القفال: سمعت الشيخ أبا زيد يقول: لا أدري ماذا بنى الشافعي عليه مسائل الأيمان، إن كان يتبع اللفظ .. فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث بكل
وَالْبَيْضُ يُحْمَلُ عَلَى مُزَايِلِ بَائِضِهِ فِي الحَيَاةِ كَدَجَاجٍ وَنَعَامَةٍ وَحَمَامٍ، لَا سَمَكٍ وَجَرَادٍ
ــ
رأس، وإن اتبع العرف .. فأصحاب القرى لا يعدون الخيام بيوتا، ولم يفرق بين القروي والبدوي.
قال الرافعي: والفرق أنه يتبع اللفظ تارة، وذلك عند ظهوره وشموله وهو الأصل، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد أبدا.
قال: (والبيض يحمل على مزايل بائضة في الحياة كدجاج ونعامة وحمام) وكذلك العصافير والإوز والبط ونحوها؛ لأنه المفهوم عند الإطلاق.
والثاني: يحنث بهذه البيوض خلا بيض الحمام والعصافير.
والثالث: لا يحنث إلا بيض الدجاج والإوز.
والرابع: لا يحنث إلا بيض الدجاج.
وفرع الماوردي على الثالث أنه يحنث بأكل بيض النعام أهل البادية دون أهل الأمصار.
قال المتولي: ولا يحنث بأكل خصية الشاة وإن حلف بالعجمية، وأما المتصلب في الجوف الذي خرج بعد الموت .. فالأصح في زوائد (الروضة) الحنث بأكله.
قال: (لا سمك وجراد) فإنه لا يحنث بأكل بيضهما؛ لأنه لا يؤكل منفردا، فلا ينزل اليمين عليه.
قال الأذرعي: وبيض السمك هو البطارخ، فلو حلف لا يأكل بيض السمك .. حنث بالبطارخ؛ لأنه بيضه، قال: ولا يجوز أكل مصارين السمك المملوحة مع بيضة؛ لأنها محتوشة عن النجاسة.
والبيض: جمع بيضة، تقول: باضت الطائر فهي بائض، ودجاجة بياضة وبيوض: إذا أكثرت البيض، ورجل بياض يبيع البيض، والبيض كله بالضاد إلا بيظ النمل فالبظاء المشالة.
وَاللَّحْمُ عَلَى نَعَمٍ وَخَيْلٍ وَوَحْشٍ وَطَيْرٍ، لَا لَحْمِ سَمَكٍ
ــ
تتمة:
لا فرق في الحنث بين أكله وحده أو مع اللحم، أو في الطبيخ إذا ظهر فيه، فأما إذا أكله في يشء لا تظهر صورته فيه كالناطف المعمول ببياضه .. لم يحنث قاله المتولي، وبه أجاب المسعودي، فسعد بالجواب لما أقفلت المسألة على شيخه القفال، فتوقف فيمن حلف لا يأكل البيض ثم لقي رجلا فحلف ليأكلن مما في كمه فإذا هو بيض، فقال المسعودي: يتخذ منه ناطفا ويأكله فيكون قد أكل ما في كمه ولم يأكل البيض، فاستحسن ذلك منه.
قال: (واللحم على نعم وخيل ووحش وطير)؛ لوقع اسم اللحم عليه حقيقة، قال تعالى:{ولَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} .
والمراد بـ (النعم): الإبل والبقر والغنم.
و (الخيل) من زوائده على (المحرر) وعلى (الشرح) و (الروضة) ، وقد صرح به ابن الصباغ وغيره.
قال: (لا لحم سمك)؛ لأنه يصح أن يقال: ما أكلت لحما، بل سمكا، ولأنه لا يفهم من الإطلاق عرفا وإن سماه الله تعالى لحما طريا، كما لا يحنث بالجلوس في الشمس إذا حلف لا يجلس في ضوء السراج وإن سماها الله تعالى سراجا، وكما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف لا يجلس على بساط وإن سماها الله تعالى بساطا.
وقيل: يحنث به؛ لظاهر الآية.
وظاهر إطلاق المصنف أنه لا فرق بين المأكول وغيره، وهو في المأكول بلا خلاف، وفي غيره كالميتة والخنزير والذئب وجهان: أقواهما في زوائد (الروضة): عدم الحنث؛ لأنه يقصد باليمين المعتاد، ولأنه واقع على المأكول شرعا كالبيع والنكاح.
هذا كله عند الإطلاق، فإن نوى شيئا .. حمل عليه.
وَشَحْمِ بَطْنٍ، وَكَذَا كَرِشٌ وَكَبِدٌ وَطِحَالٌ وَقَلْبٌ فِي الأَصَحِّ،
ــ
ولا فرق بين المطبوخ والمشوي والنيء والقديد والطري.
واقتصاره هنا على استثناء السمك ولم يذكر معه الجراد كما فعل في البيض يوهم الحنث بالجراد، والصواب: عدم الحنث به.
ورام الرافعي تخريج خلاف فيه من الخلاف المتقدم في (باب الربا) أن الجراد هل هو من جنس اللحم؟ وخالفه المصنف فجزم في زوائد (الروضة) بعدم الحنث؛ لعدم الإطلاق لغة.
قال: (وشحم بطن) ، وكذلك شحم العين؛ لأنهما يخالفان اللحم اسما وصفة.
وقال مالك: إذا حلف لا يأكل لحما فأكل شحما .. حنث، وإن حلف لا يأكل شحما فأكل اللحم .. لم يحنث؛ لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، واللحم لا يدخل في الشحم؛ لأن الله تعالى حرم لحم الخنزير، فتاب ذكر لحمه عن شحمه؛ لأنه دخل تحت اسم اللحم، وحرم على بني إسرائيل الشحوم بقوله:(حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) فلم يحرم عليم بذلك اللحم؛ لأنه لم يدخل في اسم الشحم.
قال: (وكذا كرش وكبد وطحال وقلب في الأصح)؛ لصحة نفيه عنها في الحلف عند الإطلاق.
والثاني: يحنث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها في حكم اللحم.
ولا يحنث بأكل المخ جزما.
و (الكرش) بفتح الكاف وكسر الراء، ويجوز إسكانها مع كسر الكاف وفتحها، وهي من الحيوان كالمعدة للإنسان، وهي مؤنثة، وجمعها في القلة: أكراش، وفي الكثرة: كروش.
و (الكبد) مؤنثة، وهي بكسر الباء، ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها، والجمع: أكباد وأكبد كبود.
و (الطحال) بكسر الطاء معروف.
وَالأَصَحُّ: تَنَاوُلُهُ لَحْمَ رَأسٍ وَلِسَانٍ وَشَحْمِ ظَهْرٍ وَجَنْبٍ، وَأَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الشَّحْمُ،
ــ
قال الجوهري: ويقال: إن الفرس لا طحال له، وهو مثل لسرعته وجريه كما يقال للبعير: لا مرراة له؛ أي: لا جسارة له.
روى البيهقي في (الشعب)[4662] عن علي أنه قال: (العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحالة).
قال: (والأصح: تناوله) يعني: اللحم (لحم رأس ولسان)؛ لصدق الاسم عليهما.
والثاني: لا؛ لأنه لا يطلق عليهما إلا مضافا، والخلاف جار في لحم الخد والأكارع، لكنه جزم هنا بطريقة الوجهين.
وصحح في (الروضة) تبعا لـ (الشرح) القطع بالتناول، وسكت الشيخان هنا عن الجلود، وفي (الرافعي) في (باب الربا): أنها جنس آخر غير اللحم.
وذكر صاحب (الإستقصاء) هناك أنها قبل أن تغلظ وتخشن من جنس اللحم؛ لأنها لا ينتفع بها في غير الأكل فهي كسائر أجزاء اللحم، فإذا غلظت وخشنت .. كانت جنسا آخر؛ لأنه لم تجرد العادة بأكلها، وهذا متعين هنا.
وقال ابن أبي عصرون: لا يحنث بقانصة الدجاج وجها واحدا؛ لأنها لا تدخل في مطلق اسم اللحم.
قال: (وشحم ظهر وجنب) وهو الأبيض الذي لا يخالطه الأحمر؛ لأنه لحم سمين، ولهذا يحمر عند الهزال.
والثاني: لا؛ لأنه شحم، قال تعالى:{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} ، وإذا كان شحما .. كان كشحم البطن والعين، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.
قال: (وأن شحم الظهر لا يتناوله الشحم) ، وكذا شحم العين؛ لما ذكرناه كونه لحما.
وَأَنَّ الأَلْيَةَ وَالسَّنَامَ لَيْسَا شَحْمًا وَلَا لَحْمًا. وَالأَلْيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ سَنَامًا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا، وَالدَّسّمُ يَتَنَاوَلُهُمَا وَشَحْمَ ظَهْرٍ وَبَطْنٍ وَكُلَّ دُهْنٍ، وَلَحْمُ بَقَرٍ يَتَنَاوَلُ جَامُوسًا
ــ
والثاني: يتناول؛ لما قلناه من كونه شحمًا.
وقيل: إن كان الحالف عربيًا .. فهو شحم؛ لأنهم يعدون ذلك شحمًا، وإن كان عجميًا .. فهو لحم؛ لعرفهم.
قال: (وأن الألية والسنام ليسا شحمًا ولا لحمًا)؛ لأنهما يخالفان كلًا منهما في الاسم والصفة.
والثاني: هما لحم؛ لقربهما من اللحم السمين.
والثالث: أنهما من اللحم؛ لأنهما ينبتان فيه وأشبهاه في الصلابة.
وعطف المصنف يقضي قوة الخلاف، وهو قد عبر في (الروضة) بالصحيح، وحكاية الخلاف في الألية والسنام فيه توقف، إنما حكاه الماوردي وصاحب (الشامل) و (المهذب) وغيرهما في الألية خاصة.
قال: (والألية لا تتناول سنامًا ولا يتناولها)؛ للمخافة في الاسم والصفة، وهذا لا خلاف فيه، فتجب قراءة الألية هنا بالرفع على الابتداء، ولا يجوز أن يكون معطوفًا على ما قبله؛ لإيهام جريان الخلاف فيه.
قال: (والدسم يتناولهما وشحم ظهر وبطن وكلَّ دهن)؛ لصدق الاسم عليه.
قال ابن سيده: الدسم: الودك، وقال: الودك: الدسم.
وقال الجوهري: الدسم معروف، وقال: الودك: دسم اللحم.
وعلى كل حال: لا يحنث بدهن السمسم، قاله البغوي، وفي معناه دهن الجوز واللوز ونحوهما، ولم يذكروا اللبن، وفي (الصحيح) [خ 211 – م 358]: أنه صلى الله عليه وسلم شربه ثم تمضمض وقال:
(إن له دسمًا).
قال: (ولحم بقر يتناول جاموسًا)؛ لدخوله تحت اسم البقر، ولهذا كان جنسًا واحدًا في (باب الربا)، ويكمل نصاب البقر بالجواميس في الزكاة.
وفي تناول لحم البقر الوحشية وجهان: أصحهما: نعم، وقياس هذا تناول الضأن المعز؛ لأنهم جعلوها في (باب الربا) جنسًا واحدًا، وفيه نظر؛ للعرف.
وَلَوْ قَالَ – مُشِيرًا إِلَى حِنْطَةٍ -: لَا آكُلُ هَذِهِ .. حَنِثَ بَأَكْلِهَا عَلَى هَيْئَتِهَا وَبِطَحِينِهَا وَخُبْزِهَا. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ .. حَنِثَ بِهَا مَطْبُوخَةٍ وَنِيئَةً وَمَقْلِيَّةً، لَا بِطَحِينِهَا وَسَوِيقِهَا وَعَجِيِنهَا وَخُبْزِهَا
ــ
فرع:
حلف لا يأكل الميتة .. لم يحنث بالمذكى، وفي السمك والجراد وجهان: أصحهما: لا يحنث كمن حلف لا يأكل دمًا فأكل كبدًا أو طحالًا.
قال: (ولو قال – مشيرًا إلى حنطة -: لا آكل هذه .. حنث بأكلها على هيئتها) بلا خلاف.
قال: (وبطحينها وخبزها)؛ عملًا بالإشارة، هذا عند الإطلاق، فإن نوى شيئًا .. اعتبرت نيته.
قال: (ولو قال: لا آكل هذه الحنطة .. حنث بها مطبوخة ونيئة ومقلية)؛ لوجود الاسم كما لو قال: لا آكل هذا اللحم فجعله شواء.
والمراد: إذا طبخت مع بقاء حباتها، فلو عصدت أو هرست .. فلا؛ لزوال الاسم.
قال: (لا بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها)؛ لزوال اسم الحنطة، وصار كما لو زرعها وأكل حشيشها، أو لا آكل هذا البيض فصار فراخًا فأكله، هذا هو الصحيح، وفي الأربعة وجه قوي.
وَلَا يَتَنَاوَلُ رُطَبٌ تَمْرًا وَلَا بُسْرًا، وَلَا عِنَبٌ زَبِيبًا، وَكَذَا الْعُكُوسُ. وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَتَتَمَّرَ فَأَكَلَهُ، أَوْ لَا أُكَلَّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا .. فَلا حِنْثَ فِي الأَصَحِّ. وَالْخُبْزُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ خُبْزٍ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَأَرُزًّ وَباقِلَاءَ وَذُرَةٍ وَحِمِّصٍ،
ــ
ولو قال: من هذه الحنطة .. فكذلك، وقيل: يحنث بما يتخذ منها.
ولو قال: لا آكل حنطة .. لم يحنث بالأربعة، ويحنث بها على هيئتها.
قال: (ولا يتناول رطب تمرًا ولا بسرًا، ولا عنب زبيبًا، وكذا العكوس)؛ لاختلافهما اسمًا وصفة وإن كان أصلة واحدًا.
قال الجوهري: البسر أوله طلع، ثم خلال بفتح الخاء المعجمة، ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، الواحدة بُسْرًة وبُسُرة.
قال: (ولو قال: لا آكل هذا الرطب فتتمر فأكله، او لا أكلم هذا الصبي فكلمه شيخًا .. فلا حنث في الأصح)؛ لزوال الاسم كما في الحنطة.
والثاني: يحنث؛ لأن الذات باقية، وإنما تبدلت الصفة.
وقوله: (شيخًا) مثال، فلو قال: بالغًا أو شابًا .. لدخل الشيخ من باب أولى.
والخلاف جار فيما لو قال: لا أكلم هذا العبد فعتق، أو لا آكل لحم هذا السخلة أو الخروف فصار كبشًا فذبحه وأكله، أو من هذا البسر فصار رطبًا، أو العنب فصار زبيبًا، أو العصير فصار خمرًا، أو هذا الخمر فصار خلًا.
قال: (والخبز يتناول كل خبز كحنطة وشعير وأرز وباقلاء وذرة وحمص)؛ لصدق الاسم على ذلك.
وقيل: لا يحنث بخبز الأرز إلا بطبرستان.
وَلَوْ ثَرَدَهُ فَأَكَلَهُ .. حَنِثَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَاكُلُ سَوِيقًا، فَسَفَّهُ أَوْ تَنَاوَلَهُ بِإِصْبَعٍ .. حَنِثَ، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي مَاءٍ وَشَرِبَهُ .. فَلَا، أَوْ لَا أَشْرَبُهُ .. فَبِالْعَكْسِ،
ــ
وقال المتولي: يحنث بخبز البلوط أيضًا، وقد تقدم (الوكالة): حتى يتعلق بالحلف على أكل الخبز .. فلينظر منه.
والذرة بالذال المعجمة لا غير.
قال: (ولو ثرده فأكله .. حنث)؛ لصدق الاسم، اللهم إلا أن يصير في المرقة كالشيء الذي يتحسى فإنه لا يحنث بتحسيه.
قال: (ولو حلف لا يأكل سويقًا، فسفه أو تناوله بإصبع .. حنث)؛ لأنه يعد أكلًا.
والمراد بإصبع مبلولة أو حمله على إصبعه، وهذا قاعدة، وهي أن الأفعال المختلفة الأجناس كالأعيان لا يتناول بعضها بعضًا، فالأكل ليس شربًا وعكسه.
قال: (وإن جعله في ماء وشربه .. فلا)؛ لأن الحلف على الأكل ولم يوجد، ولو كان خاثرًا بحيث يؤخذ بالملاعق .. فالأصح: أنه ليس بشرب.
ولو حلف: لا أطعم .. تناول الأكل والشرب جميعًا.
قال: (أو لا أشربه .. والعكس) فيحنث في الثانية؛ لوجود المحلوف عليه، دون الأولى؛ لأنه لم يشرب.
فروع:
لو حلف لا يذوق شيئًا فأدرك طعمه بوضعه في فيه أو مضغه ثم مجه ولم ينزل إلى حلقه .. حنث في الأصح، ولو ازدرده .. حنث وإن ولم يدرك طعمه، كذا قاله الغزالي، وفيه نظر.
ولو حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه .. لم يحنث؛ لعدم وجدان المحلوف عليه، لا للإكراه.
ولو حلف لا يفطر .. انصرف إلى الأكل والوقاع ونحوهما، ولا يحنث بالردة
أَوْ لَا يَاكُلُ لَبَنًا أَوْ مَائِعًا آخَرَ فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ .. حَنِثَ، أَوْ شَرِبَهُ .. فَلَا، أَوْ لَا شَرِبَهُ فَبِالْعَكْسِ، أَوْ لَا يَاكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا .. حَنِثَ، وَإِنْ شَرِبَهُ ذَائِبًا .. فَلَا، وَإِنْ أَكَلَهُ فِي عَصِيدَةٍ .. حَنِثَ إِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ ظَاهِرَةً00000
ــ
والجنون والحيض، وفي حنثه بدخول الليل خلاف بين الشيخ أبس إسحاق وابن الصباغ تقدم.
قال: (أو لا يأكل لبنًا أو مائعًا آخر فأكله بخبز .. حنث)؛ لأنه كذلك يؤكل، ويدخل في اللبن: لبن الأنعام والصيد، والحليب والرائب، واللبأ، والشيراز وهو: لبن يغلي وتصير فيه حموضة، والروغ وهو: لبن نزع زبده وذهبت مائيته.
ولا يحنث بأكل الجبن والأقط والمصل والقريشة.
وفي وجه يحنث بجميع ما يستخرج من اللبن.
قال: (أو شربه .. فلا)؛ لعدم الأكل.
قال: (أو لا يشربه .. فبالعكس) فيحنث في الثانية؛ لوجود المحلوف عليه، دون الأولى؛ لعدمه.
قال: (أو لا يأكل سمنًا فأكله بخبز جامدًا أو ذائبًا .. حنث)؛ لأنه فعل المحلوف عليه وزاد، فأشبه ما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على زيد وعمرو، وهذا هو الأصح.
وقال الإصطخري: لا يخنث؛ لأنه لم يفرده في الأكل، فأشبه من حلف لا يأكل ما اشتراه زيد فأكل ما اشتراه زيد وما اشتراه عمرو.
أما لو حلف لا يأكل السمن أو الزبد .. فإنه لا يحنث بالادهان.
قال: (وإن شربه ذائبًا .. فلا)؛ لأنه لم يأكله.
قال: (وإن أكله في عصيدة .. حنث إن كانت عينة ظاهرة)؛ لأنها مميزة في الحس، فهو قد أكل المحلوف عليه وزيادة، هذا هو المنصوص، وفيه وجه بعيد، أما إذا لم يظهر .. فلا حنث.
وَيَدْخُلُ فِي فَاكِهَةٍ: رُطَبٌ وَعِنَبٌ وَرُمَّانٌ
ــ
و (العصيدة) معروفة، ويقال فيها: العصيد، سميت بذلك لأنها تعصد؛ أي: تلوى.
قال: (ويدخل في فاكهة: رطب وعنب ورمان)؛ لأن الفاكهة ما يتفكه به؛ أي: يتنعم بأكله، وهذه خلقت لذلك، قال تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمَّانٌ} .
واتفق أهل اللغة على ان ثمر النخل والرمان من الفاكهة، والعطف يقتضي المغايرة، فقال الفراء: عطفهما على الفاكهة ترغيبًا لأهل الجنة، كما عطف الصلاة الوسطى على الصلوات.
وَأُتْرُجٌّ
ــ
وقال يونس بن حبيب: عطفهما لفضلهما كقوله [تعالى]: {ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ} ، [وقوله]:{وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ومِنكَ ومِن نُّوحٍ} الآية، وهم من الأنبياء.
وقال أبو حنيفة: لا يحنث بالرطب والرمان، وخالفه صاحباه واتفقوا على انه لا يحنث بالبلح.
وشرط الفاكهة: النضج، فلو تناوله قبل إدراكه ونضجه وطيبه .. لم يكن حانثًا.
وحلف لا يأكل العنب والرمان .. لم يحنث بشرب عصيرهما، ولا بدبسهما ولا بامتصاصهما ورمي الثفل؛ لأنه لا يسمى أكلًا.
قال: (وأتراج)؛ لوقوع الاسم عليه، وهو بضم الهمزة، ويقال له: أترانج بالنون، الواحدة أتراجة، وحكي: ترنج وترنجة وهو المتك، واحدته متكة، وفسر به قوله تعالى:{وأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًا} .
قال أبو داوود في (سننه): رأيت بمصر أترنجًا تشق الواحدة منها لثقلها البعيرُ.
فائدة:
علي ابن الحسن بن الحسين بن محمد الخلعي من أصحاب الشافعي، نسبة إلى بيع الخلع، قبره معروف في القرافة بإجابة الدعاء، كان يقال له: قاضي الجن، اخبر أنهم أبطؤوا عنه جمعة ثم أتوه فسألهم عن ذلك فقالوا: كان في بيتك شيء من هذا الأترنج، وإنا لا ندخل بيتًا هو فيه.
قلت: ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل للمؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة؛ لأن الشياطين تهرب من قلب المؤمن القارئ للقرآن، فناسب ضرب المثل به، بخلاف سائر الفواكه.
وروى الطبراني [طب 22/ 339] عن حبيب بن عبد الله بن أبي كبشة عن أبيه عن جده
وَرَطْبٌ وَيَابِسٌ. قُلْتُ: وَلَيْمُونٌ وَنَبِقٌ
ــ
قال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الترج والحمام الحمر).
قال: (ورطب ويابس)؛ لوقوع ذلك عليه لغة وعرفًا، فيحنث بالتمر والزبيب والسفرجل والتفاح والإجاص والخوخ والتين والمشمش اليابس.
وقال الماوردي: إن تجديد له بعد الجفاف اسم جديد كالتمر والزبيب .. لم يحنث بأكله، وإن لم يتجدد كالخوخ والمشمش والتين .. فوجهان، واستحسنه ابن الصلاح.
وقال الزبير: يحنث بالموز بلا خلاف، وفي (التتمة): لا يحنث باليابس مطلقًا.
قال: (قلت: وليمون)؛ لما سبق، وألحقوا به النارنج، وقيدهما الفارقي بالطريين، فالمملحان منهما ليسا فاكهة، وهو ظاهر منقاس.
و (الليمون) بفتح اللام وإثبات النون في آخره، الواحدة ليمونة، والجمع ليمون، قاله في (تثقيف اللسان).
والعجب أن شيخنا الشيخ شهاب الدين أنكر على المصنف في (نكته) إثبات النون وقال: المعروف: ليمون بغير نون.
ولليمون خاصية عجيبة في دفع السموم.
قال: (ونبق)؛ لأنه يتفكه به قال الزبيري: ولا فرق فيه بين رطبه ويابسه، قال: وكذلك العناب والزعرور.
و (النبق) بفتح النون وكسر الباء: حمل السدر، الواحدة: نبقة، ويجمع على نبقات.
وَكَذَا بِطِّيخٌ وَلُبُّ فُسْتُقٍ وَبُنْدُقٍ وَغَيْرِهمَا فِي الأَصَحِّ، لَا قِثَّاءٌ وَخِيَارٌ وَبَاذِنْجَانٌ وَجَزَرٌ
ــ
قال: (وكذا بطيخ)؛ لأن له نضجًا وإدراكًا كالفواكه، والمراد: البطيخ الأصفر.
قال: (ولب فستق وبندق وغيرهما في الأصح)؛ لأنهما يعدان من يابس الفاكهة.
والثاني: لا في المسألتين؛ لعدم اشتهاره في العرف.
والفستق بضم الفاء وفتحها، والبندق معروف، وهو في (تهذيب الأزهري) بالفاء بدل الباء.
قال: (لا قثاء وخيار وباذنجان وجزر)؛ لأنها من الخضروات لا الفواكه، فأشبهت البقل، وانفرد الغزالي بتحنيثه بالقثاء.
قال ابن الفركان: ومن العجيب أن الخيار لا يكون من الفاكهة، مع أن لب الفستق والبندق من الفاكهة، والعادة جارية بجعل الخيار في أطباق الفاكهة دون لب الفستق والبندق.
وفي اندراج الزيتون في الفاكهة وجهان في (البحر).
وفي عطف المصنف القثاء على الخيار ما يقتضي المغايرة بينهما، لكن في (الصحاح) في موضوعين: الخيار: القثاء، وليس بعربي، فشكل على المصنف المغايرة بينهما.
ومن غريب أمر القثاء: أن الحائض إذا عبرت المَقْثأة تغيرت وذبلت وفسدت.
و (الباذنجان) بالذال المعجمة معروف، ولم يصح في فضل أكله شيء، ومن الموضوعات:(الباذنجان لما أكل له).
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قطعت في ثلاث مجالس ولم أجد لذلك سببًا، إلا
وَلَا يَدْخُلُ فِي الثِّمَارِ يَابِسٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أُطْلِقَ بِطِّيخٌ وَتَمْرٌ وَجَوْزٌ .. لَمْ يَدْخُلْ هِنْدِيٌّ. والطَّعَامُ يَتَنَاوَلُ قُوتًا وَفَاكِهَةً وَأُدْمًا وَحَلْوَى
ــ
أني أكثرت من أكل الباذنجان في أحدها، ومن الباقلاء في الآخر، ومن الزيتون في الثالث.
قال: (ولا يدخل في الثمار يابس والله أعلم)؛ لأن العرب لا تستعمل هذا الحرف إلا في الرطب، لكن فيه نظر من جهة العرف.
وعبارة الرافعي: وذكر أنه لو حلف لا يأكل الثمار .. اختصت بالرطب، ولم تتناول الثمرة اليابسة.
قال: (ولو أطلق بطيخ وتمر وجوز .. لم يدخل هندي) أي: في الجميع، فلا يدخل في البطيخ الهندي وهو الأخضر، قاله المصنف في (تصحيحه) في (البيع): ولا في التمر التمرُ الهندي، ولا في الجوز الجوزُ الهندي؛ لأنهما يختلفان صورة وطعمًا، وهذا حكاه الرافعي عن البغوي خاصة، وتبعه صاحب (الكافي).
وحكى الإمام عن القاضي التحنيث بالجوز الهندي دون التمر الهندي واستحسنه؛ لأن اسم التمر لا يطلق عليه ما لم يضف إلى الهند، وقطع به في (الوجيز)، ولم يرجح في (الشرح) و (الروضة) شيئًا، ثم جزم في (المحرر) بما جزم به المصنف.
وفي عدم تحنثه بالبطيخ الأخضر في عرف مصر والشام إشكال، فلعل ما قاله البغوي عرف بلادهم، ولهذا قال في (العباب): إن تسميته بالهندي لغة الفرس، وتسمية أهل اليمن والحجاز: الحَبْحَب، وكذلك خيار الشنبر لا يدخل في الخيار.
قال: (والطعام يتناول قوتًا وفاكهة وأدمًا وحلوى)؛ لأن اسم الطعام يقع على الجميع بدليل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسْرَائِيلَ إلَاّ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} .
ومقتضى كلامه: أنه لا يحنث بالدواء، وقد حكى الشيخان فيه وجهين بلا ترجيح، وجعله المصنف داخلًا في اسم الطعام في (باب الربا)، وأسقط الدم، والفرق بين البابين مشكل؛ لأنا إذا نظرنا إلى اللغة .. اتحدا، أو إلى العرف .. فأهله لا يسمون الفاكهة والحلوى ونحوها طعامًا.
وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَقَرَةِ .. تَنَاوَلَ لَحْمَهَا دُونَ وَلَدٍ وَلَبَنٍ، أَوْ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ .. فَثَمَرٌ دُونَ وَرَقٍ وَطَرَفِ غُصْنٍ
ــ
والحلوى إن قصرتها .. كتبتها بالياء، وإن مددتها .. فبالألف، وهو كل حلو، وقال الخطابي: لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، فيخرج السكر والعسل.
والحلو غير الحلوى، وصوبه المصنف في (الروضة).
روى البيهقي في (الشعب)[5934] عن أبي أمامة الباهلي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قلب المؤمن حلو يحب الحلاوة).
وفي (الصحيح)[خ 5216 – م 1474/ 21]: (كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل).
ونص الشافعي في (كتاب الوكالة) على انه إذا قال: اشتر لي طعامًا .. حمل على الحنطة.
والقوت محمول على ما يقتات من الحبوب والتمر والزبيب واللحم إن كان ممن يقتات ذلك، وإلا .. فوجهان، وتقدم في أول (زكاة النبات) بيان القوت، وتفسير لفظه ومعناه.
قال: ولو قال: لا آكل من هذه البقرة .. تناول لحمها) كذا في (الروضة) وغيرها؛ لأن المفهوم عرفًا، ولم يبينوا هل يختص به أو يتناول الشحم والكلية والكبد وغيرهما، والذي يظهر التناول، وإنما ذكروا اللحم لإخراج اللبن والولد كما سيذكره، وفي الجلد احتمال.
قال: (دون ولد ولبن)؛ حملًا على الحقيقة المتعارفة، إلا أن ينويهما كما قاله البغوي.
قال: (أو من هذه الشجرة .. فثمر دون ورق وطرف غصن)؛ حملًا على المجاز
فَصْلٌ
حَلَفَ لَا يَاكُلُ هذِهِ التَّمْرَةَ، فَاخْتَلَطَتْ بِتَمْرٍ فَأَكَلَهُ إِلَاّ تَمْرَةً .. لَمْ يَحْنَثْ، أَوْ لَيَاكُلَنَّهَا فَاخْتَلَطَتْ .. لَمْ يَبْرَا إِلَاّ بِالْجَمِيعِ،
ــ
المتعارف؛ لأن الحقيقة تعذرت فهجرت، والمجاز الراجح مقدم على الحقيقة المرجوحة.
تتمة:
حلف لا يشرب من ماء النيل أو من النيل .. حنث بالشرب منه بيده أو فيه أو في إناء، وكذلك لو كرع منه؛ خلافًا لأبي حنيفة.
ولو قال: لا أشرب ماء النيل أو ماء هذا النهر أو الغدير .. لم يحنث بشرب بعضه، هذا هو الصواب، والذي وقع في (الروضة) بخط المصنف عكس ذلك سبق قلم.
قال: (فصل:
حلف لا يأكل هذه التمرة .. لم يحنث) لجواز أن تكون هي المحلوف عليها، والأصل براءة ذمته عن الكفارة، والورع أن يكفر؛ لاحتمال أنها غير المحلوف عليها.
روي الترمذي [2518] والنسائي [8/ 327] عن الحسن بن على قال: حفظت من رسول الله صلي الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) والمراد: دع المشكوك فيه وخذ بغيره، وهذا أصل في الورع، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين
…
).
فإن تيقن أنه أكل المحلوف عليها .. حنث جزمًا.
قال: (أو ليأكلنها فاختلطت .. لم يبرأ إلا بالجميع)؛ لاحتمال أن تكون المتروكة هي المحلوف عليها.
أَوْ لَيَاكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ .. فَإِنَّمَا يَبَرُّ بِجَمِيعِ حَبِّهَا، أَوْ لَا يَلْبَسُ هَذَيْنِ .. لَمْ يَحنَثْ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ لَبِسَهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا .. حَنِثَ، أَوْ لَا يَلْبَسُ هَذَا وَلآ هَذَا .. حَنِثَ بِأَحَدِهِمَا، أَوْ لَيَاكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا فَمَاتَ قَبْلَهُ .. فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ تَلِفَ الطَّعَامُ فِي الْغَدِ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَكْلِهِ .. حَنِثَ،
ــ
قال: (أو ليأكلن هذه الرمانة .. فإنما يبر بجميع حبها)؛ لأن يمينه تعلقت بالجميع كما تقدم في الطلاق.
وخرج بـ (الحب): القشور والشحم؛ لأن اليمين محمولة على المأكول عادة، كما لو حلف ليأكلن هذه التمرة فأكلها إلا قمعها ونواتها .. لم يحنث، ولو أكلها إلا يسيرًا منها كنقرة طائر .. حنث، خلافًا لمالك.
قال: (أو لا يلبس هذين .. لم يحنث بأحدهما)؛ لأن الحلف عليهما.
قال: (فإن لبسهما معًا او مرتبًا .. حنث)؛ لوجود الجميع المحلوف عليه، واستعمل المصنف (معًا) للاتحاد في الزمان، والراجح خلافه كما تقدم.
قال: (أو لا يلبس هذا ولا هذا .. حنث بأحدهما)؛ لأنهما يمينان، واليمين لا ينحل، بل إذا لبس الآخر .. حنث.
نعم؛ إذا قال: لا ألبس أحدهما أو واحدًا منهما، ولم يقصد واحدًا .. حنث بأحدهما وانحلت اليمين، فلا يحنث بالآخر.
قال: (أو ليأكلن هذا الطعام غدًا فمات قبله .. فلا شيء عليه)؛ لأنه لم يبلغ زمن البر والحنث.
وقيل على الخلاف الآتي في تلف الطعام، وهو الأشبه في (التنبيه) و (الشرح الصغير).
قال: (وإن مات أو تلف الطعام في الغد بعد تمكنه من أكله .. حنث)؛ لأنه تمكن من البر ولم يفعل، فصار كما لو قال: لآكلن هذا الطعام، وتمكن من أكله فلم يأكله حتى تلف .. فإنه يحنث قطعًا، وكذلك لو تلف بعضه.
وفي قول: لا يحنث؛ لأن جميع اليوم ظرف له.
وَقَبْلَهُ قَوْلَانِ كَمُكْرَهٍ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ بِأَكْلٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ الْغَدِ .. حَنِثَ، وَإِذَا تَلِفَ أَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ .. فَكَمُكْرَهٍ. أَوْ لأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ عِنْدَ رَاسِ الْهِلَالِ .. فَلْيَقْضِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَإِنْ قَدَّمَ أَوْ مَضَى بَعْدَ الْغُرُوبِ قَدْرُ إِمْكَانِهِ .. حَنِثَ،
ــ
والخلاف كالخلاف فيمن مات في أثناء وقت الصلاة بعد التمكن، هل يقضي أو لا، لكن الأصح هنا الحنث.
قال: (وقبله .. قولان كمكره) فيأتي فيه الخلاف، والأصح: عدم الحنث.
فإن قلنا: يحنث .. فهل يحنث في الحال لحصول اليأس أو بعد مجيء الغد؟ قولان، قطع ابن كج بالثاني.
وفائدة الخلاف: أنه لو كان معسرًا يكفر بالصوم .. جاز أن ينوي صوم الغد عن الكفارة.
وحيث أطلقوا قولي المكره .. أرادوا به ما إذا اختار الحلف ثم أكره على التحنث، أما إذا أكره على الحلف .. فلا خلاف في عدم الوقوع.
قال: (وإن أتلفه بأكل وغيره قبل الغد .. حنث)؛ لأنه فوت البر باختياره، ولكن الأصح: أنه يحنث في الغد، لا عند أكل شيء منه.
وصحح البغوي أنه يحنث إذا مضى من الغد وقت إمكان الأكل.
قال: (وإذا تلف أو أتلفه اجنبي .. فكمكره)؛ لفواته بغير اختياره، والأصح: عدم الحنث.
قال: (أو لأقضين حقك عند رأس الهلال .. فليقض عند غروب الشمس في آخر الشهر)، وكذا لو قال: مع أو عند رأس الشهر، أو عند الاستهلال، أو أول الشهر .. فهذه الألفاظ تقع على أول جزء من الليلة الأولى منه، ولفظتها (عند) و (مع) تقتضيان المقارنة.
قال: (فإن قدم أو مضى بعد الغروب قدر إمكانه .. حنث)؛ لتفويته البر على نفسه، وينبغي أن يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضي فيه.
وّإِنْ شَرَعَ فِي الْكَيْلِ حِنَئِذٍ وَلَمْ يَفْزُغْ لِكْثْرَتِهِ إِلَاّ بَعْدَ مُدَّةٍ .. لَمْ يَحْنَثْ .. أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ فَسَبَّحَ أَوْ قَرَأَ قُرْآنًا .. فَلَا حِنْثَ، أَوْ لَا يُكَلَّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ .. حَنِثَ،
ــ
وقيل: له فسخه في الليلة الأولى ويومها، ويروى عن أبي حنيفة ومالك.
وقال الإمام والغزالي: المحلوف عليه في هذه المسألة لا يكاد يقدر عليه، فإما أن يتسامح به ويقضي بالممكن، أو يقال: التزم محالًا فيحنث بكل حال، ولا ذاهب إليه.
قال: (وإن شرع في الكيل حينئذ ولم يفرغ لكثرته إلا بعد مدة .. لم يحنث)، وكذلك إذا شرع في أسباب القضاء ومقدماته كحمل الميزان، فلو أخر القضاء عن الليلة الأولى للشك في الهلال .. ففيه قولا حنث الناسي.
قال: (أو لا يتكلم فسبح أو قرأ قرآنًا .. فلا حنث)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم [537].
ولأن القراءة إنما تسمى كلامًا مع الإضافة، ولم يتناول اليمين المطلقة كما لو حلف لا يدخل بيتًا فدخل مسجدًا، وسواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها.
وقال أبو حنيفة: إن قرأ خارج الصلاة .. حنث؛ لأن القراءة كلام الله تعالى، فإذا قرأه .. كان متكلمًا.
لنا: أن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين.
وفي التسبيح والدعاء وجه: أنه يحنث به؛ لأنه مباح للجنب، فأشبه سائر الكلام.
وروى مسلم [2137] عن سمرة بن جندب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت).
وقال الجيلي: لو حلف لا يسمع كلام زيد، فسمعه يقرأ .. لم يحنث.
قال: (أو لا يكلمه عليه .. حنث)؛ لأنه كلمه، كما يزول تحريم الهجران به.
وَإِنْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا .. فَلَا فِي الْجَدِيدِ، وَإِنْ قَرَأَ آيَةً أَفْهَمَهُ بِهَا مَقْصُودَهُ وَقَصَدَ قِرَاءَةً .. لَمْ يَحْنَثْ،
ــ
وألحق به الرافعي ما لو سلم من صلاة والمحلوف عليه من المأمومين به، وقد سبق ما فيه من الإشكال.
ولا بد أن يسمعه، فلو كلمه وهو أصم .. لم يحنث في الأصح، فلو تكلم بشيء فيه تعريض له ولم يواجهه .. لم يحنث كما سيأتي في خاتمة الباب.
قال: (وإن كاتبه أو راسله أو أشار إليه بيد أو غيرها .. فلا في الجديد) وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه يصدق نفي الكلام عنه فيقال: ما كلمه بل كاتبه أو راسله أو أشار إليه، قال تعالى:{فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِيًا} {فَأَشَارَتْ إلَيْهِ} ، وسواء أشار الناطق أو الأخرس، وإنما جعلنا إشارته كنطقه في المعاملات للضرورة.
والقديم – وبه قال مالك وأحمد: يحنث بذلك بدليل قوله تعالى: {لَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إلَاّ رَمْزًا} ، ولقوله تعالى:{ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَاّ وحْيًا أَوْ مِن ورَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} ، فاستثنى الرمز والرسالة من التكلم، فدل على أنهما منه.
قال: (وإن قرأ آية أفهمه بها مقصوده وقصد قراءة .. لم يحنث)؛ لأنه لم يكلمه.
وإن فتح عليه في صلاته بتسبيح أو قراءة آية وكان مقتديًا به .. لم يحنث كما جزم به الشيخان وغيرهما، وهذا يؤيد ما تقدم في (شروط الصلاة): أن القارئ إذا قصد الرد المجرد على الإمام لا تبطل صلاته.
فرع:
سبق في النشوز أن هجران المسلم فوق ثلاثة أيام حرام إذا كان لحظوظ النفوس وتعنتات أهل الدنيا، فأما إذا كان المهجور مبتدعًا أو متجاهرًا بالظلم أو الفسق .. فلا تحرم مهاجرته أبدًا، وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية، أو كان فيه صلاح لدين المهاجر أو المهجور .. فلا يحرم.
وَإِلَاّ .. حَنِثَ
ــ
وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن مكالمتهم.
ورأيت بخط ابن الصلاح: أن سعد بن أبي وقاص هاجر عمار بن ياسر حتى مات، وأن عائشة كانت مهاجرة لحفصة، وعثمان هجر عبد الرحمن بن عوف إلى أن مات، وطاووس هجر وهب بن منيه غلى أن مات، وكذلك الحسن وابن سيرين، وهجر سعيد بن المسيب اباه فلم يكلمه إلى أن مات، وكان أبوه زياتًا، وكان الثوري يتعلم من ابن أبي ليلى ثم هجره، ومات ابن أبي ليلى ولم يشهد الثوري جنازته.
قال: (وإلا .. حنث) أي: إذا لم يقصد القراءة بل الإفهام .. يحنث؛ لأنه كلمه، ولهذا تبطل الصلاة بمثل ذلك.
ويدخل في كلام المصنف حالة الإطلاق، وقد تقدم في الصلاة البطلان بها أيضًا، لكن في تخريج هذا عليه نظر.
فرع:
في (المبتدأ) للروياني: لو قيل له: كلم زيدًا اليوم، فقال: والله لا كلمته .. انعقدت يمينه على الأبد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان في طلاق وقال: أردت اليوم .. لم يقبل في الحكم.
قال المصنف: الصواب: قبوله في الحكم.
وخالف البغوي والروياني فيما إذا ادعاه، وقالا: يتقيد اليمين بالحالة الراهنة؛ للعرف.
تتمة:
حلف ليثنين على الله بأجل الثناء وأعظمه .. قال المتولي: طريق البر أن يقول: سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، قال: ولو قال:
أَوْ لَا مَالَ لَهُ .. حَنِثَ بُكُلَّ نَوْعٍ وَإِنْ قَلَّ، حَتَّى ثَوْبِ بَدَنِهِ، وَمُدَبَّرٍ، وَمُعَلَّقٍ عِتْقُهُ، وَمَا وَصَّى بِهِ،
ــ
لأحمدن الله بمجامع الحمد أو بأجل المحامد .. فطريقه أن يقول: الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده.
قال المصنف: وليس للمسألتين دليل يعتمد.
ولو قال: لأصلين على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة عليه .. فليقل: اللهم؛ صل على محمد كلما ذكره الذاكرون وسها عن ذكره الغافلون؛ لأن الشافعي كان يستعمل هذه الكيفية كثيرًا.
قال المصنف والصواب الذي ينبغي أن يجزم به: أن أفضل الصلاة ما يقال عقب التشهد في الصلاة، وفيما قاله نظر.
قال: (أو لا مال له .. حنث بكل نوع وإن قل، حتى ثوب بدنه) أي: الذي لا يسلبه اسم الفقر؛ لوجود حقيقة المال في ذلك، قال تعالى:{ولا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وهو يتناول الجليل والحقير.
وقال أبو حنيفة: يختص بالمال الزكوي؛ لنه عرف الشرع.
وقال مالك: يختص بالذهب والفضة دون غيرهما.
واقتضى إطلاق المصنف: أنه يحنث بالمنافع؛ لأنهم قسموا المال إلى منافع وأعيان، لكن الأصح: أنه لا يحنث بها؛ لأنها لا تفهم في العرف بذلك.
وقوله: (حتى ثوب بدنه) مجرورة عطفًا على ما تقدم، وهي من زياداته على (المحرر).
قال: (ومدبر، ومعلق عتقه، وما وصى به)؛ لأنه ملكه.
وَدَيْنٍ حَالٍّ، وَكَذَا مُؤَجَّلٌ فِي الأَصَحِّ، لَا مُكَاتَبٌ فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (ودين حال)، هذا إذا كان على مليء مقر؛ لأنه متى شاء .. أخذه كالمودع له عند إنسان.
وفيه وجه مخرج من قولنا: لا زكاة في الدين، وأفهم أنه إذا كان معسر .. لا يحنث.
وقال الرافعي: فيه وجهان: أقواهما: الحنث، ورجح المتولي المنع، وأجرى الوجهان في الدين على الجاحد.
قال: (وكذا مؤجل في الأصح)؛ لأنه ثابت في الذمة يصح الإبراء منه والاعتياض عنه، وأما عدم المطالبة به .. فلا يخرجه عن كونه مالًا، كما لو أجر داره وسلمها .. لم تكن له المطالبة بها وهي ماله.
وقال أبو حنيفة: لا يحنث بالدين حالًا كان أو مؤجلًا.
والوجه الثاني: المنع؛ لأنه غير موجود، وهذا اختاره ابن أبي هريرة وصرح بأنه غير مملوك له، وزيفه الإمام، سواء كان الذي عليه معسرًا أو موسرًا، وقيل بالمنع في المعسر، والوجه: الجزم بأنه إذا كان على الجاحد المليء بينة .. يحنث كما لو كان له مال مغصوب يمكنه انتزاعه بنفسه أو بغيره كما صرح به المتولي.
قال: (لا مكاتب في الأصح)؛ لعدم قررته على كل التصرفات فيه، فهو كالخارج عن ملكه.
والثاني: يحنث؛ لبقاء الملك.
والمراد: المكاتب كتابة صحيحة، أما الفاسدة .. فيحنث به.
ويحنث بالآبق والمغصوب، وبأم الولد في الأصح؛ لأن رقبتها مملوكة للسيد، وله منافعها وأرش جناية عليها.
وفي (الشرح) و (الروضة) عن (البيان) طريقة قاطعة بانه لا يخنث بالمكاتب، والذي نقلاه عن (البيان) إنما هو في مسالة ما لو حلف: لا عبد له وله مكاتب، وهي مسألة حسنة فيها وجهان من غير ترجيح.
والخلاف في المكاتب مفرع على ثلاثة اوجه حكاها ابن الرفعة: أن المكاتب هل
أَوْ لَيَضْرِبَنَّهُ .. فَالْبِرُّ بِمَا يُسَمَّى ضَرْبًا، وَلَا يُشْتَرَطُ إِيلَامٌ، إِلَاّ أَنْ يَقُولَ: ضَرْبًا شَدِيدًا
ــ
هو مملوك للسيد أو لنفسه أو لا مالك له ككسوة الكعبة؟
وقال في (الحاوي الصغير): الغصب: الاستيلاء على مال غير مستولدة ومكاتب ظلمًا، فيؤخذ منه أن المكاتب مال.
واجاب عنه الشارحون بأن الأيمان مبينة على العرف، وهو جواب ضعيف.
ولو حلف لا ملك له وفي نكاحه زوجة .. لم يحنث، وبناه المتولي على أن النكاح عقد ملك أو عقد حل، فإن قلنا بالأول .. حنث.
قال في (الروضة): المختار: أنه لا يحنث إذا لم تكن له نية؛ لأنه لا يفهم منه أن الزوجة مال.
وينبغي أن لا يحنث بالكلب والسرجين وغيرهما من النجاسات، ولا بالزيت النجس.
قال: (أو ليضربنه) أي: وأطلق (.. فالبر بما يسمى ضربًا)؛ لصدق الاسم، فلا يحصل بوضع اليد ورفعها، ولا بالشتم والسب بلا إشكال.
وقال مالك: يحنث بكل ما آلم القلب من أقوال وأفعال.
ولو مات المحلوف عليه فضربه بعد الموت .. لم يتخلص من يمينه، وإن أغمي عليه أو سكر وضربه بر.
قال: (ولا يشترط إيلام)؛ لأنه يقال: ضربه فلم يؤلمه، ويخالف الحد والتعزير؛ فالإيلام فيهما مشترط؛ لأن المقصود منهما الزجر.
قال الرافعي: وفيه وجه: أنه يشترط الإيلام، وقد ذكرناه في (الطلاق)، والذي سبق في (الطلاق) في (الروضة) تصحيح اشتراطه، وفي (الشرح) هناك: أنه الأشهر.
قال: (إلا أن يقول: ضربًا شديدًا) فيتعلق البر حينئذ بالإيلام بلا خلاف، وكذلك الحكم لو قال: ضربًا مبرحًا.
وَلَيْسَ وَضْعُ سَوْطٍ عَلَيْهِ وَعَضٌّ وَخَنِقٌ وَنَتْفُ شَعَرٍ ضَرْبًا، قِيلَ: وَلَا لَطْمٌ وَوَكْزٌ. أَوْ لَيَضْرِبَنَّهُ مِئَةَ سَوْطٍ أَوْ خَشَبَةٍ، فَشَدَّ مِئَةً وَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً، أَوْ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِئَةُ شِمْرَاخٍ .. بَرَّ إِنْ عَلِمَ إِصَابَةَ الْكُلِّ، أَوْ تَرَكَمَ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ فَوَصَلَهُ أَلَمُ الْكُلِّ
ــ
قال ابن سيده والجوهري: الضرب المبرح: الشديد.
قال: (وليس وضع سوط عليه وعض وخنق ونتف شعر ضربًا)؛ لأنه لا يسمى بذلك عرفًا، وقد توقف المزني في العض؛ لحصول الإيلام به.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يحنث بكل ذلك؛ لأن الغرض الإيلام وقد حصل.
قال: (قيل: ولا لطم ووكز)؛ لأنه لا يسمى ضربًا عادة، إذ الضرب إنما يطلق على ما كان بآلة مستعملة فيه.
والأصح: أنهما ضرب؛ لأنه يقال: ضربه بيده وإن تنوعت أسماء الضرب، والرافعي والمصنف جزما في (الطلاق) بما صححاه هنا، ولم يحكيا فيه خلافًا.
و (اللطم): الضرب على الوجه بباطن الراحة.
و (الوكز): الضرب باليد مطبقة، قال تعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، وقرأ ابن مسعود:(فلكزه) والمعنى واحد.
وقيل: الوكز في جميع الجسد، واللكز في الصدر خاصة.
قال: (أو ليضربنه مئة سوط أو خشبة، فشد مئة وضربه بها ضربة، أو بعثكال) أي: عرجون (عليه مئة شمراخ .. بر إن علم إصابة الكل، او تراكم بعض على بعض فوصله ألم الكل)؛ لقوله تعالى: {وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ ولا تَحْنَثْ} .
وقد تقدم في (باب حد الزنا) ما رواه أبو داود في (سننه)[4467]: أن رجلًا من الأنصار اشتكى حتى أضنى، فدخلت إليه أمة لغيره، فهش لها فوقع عليها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مئة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة، ولأن ضرب المئة قد حصل.
وقيل: لابد من ملاقاة الجميع لبدنه أو ملبوسه، ولا يكفي التحامل.
قُلْتُ: وَلَوْ شَكَّ فِي إِصَابَةِ الْجَمِيعِ .. بَرَّ عَلَى النَّصِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
تنبيهان:
أحدهما: ما ذكره الشيخان من البر في الخشبة تبعا فيه البغوي والفوراني والإمام والغزالي، ووقع كذلك في (النهاية) وبعض كتب الخراسانين، واعترض عليهم بأن لفظ الخشبة لا يصدق على الشماريخ ولا يصح، إلا أن يحمل على عرف جرت عادة أهله بإطلاق الخشب على عيدان الشماريخ.
وفي (النهاية) عن جماهير الأصحاب فيما إذا قال: مئة سوط: أنه لا يبر بالشماريخ؛ لأنها لا تسمى سياطًا، والشافعي فرض المسألة فيما إذا حلف ليضربن عبده بها، ووقائع الأعيان لا تعم.
الثاني: قوله: (وصله ألم الكل) هي عبارة (المحرر)، وهي تنافي قوله قبل ذلك:(لا يشترط الإيلام).
وعبارة (الروضة) و (الشرحين): (ثقل الكل) وهو أحسن، وقد تقدمت المسألة في (الطلاق)، وإدخال الألف واللام على (كل) قليل كما تقدم.
قال: (قلت: ولو شك في إصابة الجميع .. بر على النص والله أعلم)، عملًا بالظاهر وهو الإصابة؛ لإطلاق الآية.
وقال أبو حنيفة والمزني: لا يبر؛ لأن الأصل عدم الإصابة ما لم يتيقن.
والجواب: أن غلبة الظن أجريت في الحكم مجرى اليقين كما نحكم بخبر الواحد والقياس بغلبة الظن.
وفي المسألة قول مخرج من نصه على الحنث فيما إذا حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، فلم يدخل ومات زيد ولم يعلم مشيئته .. فإنه يحنث، والأصح: تقرير النصين.
والفرق: أن الضرب سبب ظاهر في الانكداس، فيكتفي به، وأما المشيئة .. فالأصل عدمها؛ إذ لا دليل عليها.
والثاني: في المسألة قولان، بالنقل والتخريج، وشبه القولان بالقولين في إعتاق العبد المنقطع الخبر عن الكفارة.
أَوْ لَيَضْرِبَنَّهُ مِئَةَ مَرَّةٍ .. لَمْ يَبَرَّ بِهَذَا، أَوْ لَا أُفَرِقُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ، فَهَرَبَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ اتِّبَاعُهُ .. لَمْ يَحْنَثْ
ــ
قال في (التنبيه): وإذ لم يتحقق بر .. فالورع أن يكفر، كذا يوجد في كثير من النسخ، وعليها شرح الشراح.
قال المصنف: والصواب الذي ضبطناه عن نسخة المصنف: لم يبر، وهو المخرج.
ثم إذا قلنا بعدم الحنث .. فالورع أن لا يضربه ليبر، بل يكفر عن يمينه.
فإن قيل: المصنف جزم في (باب حد الزنا) بأنه إذا شك في إصابة الجميع بعدم سقوط الحد، ولم يحك فيه خلافًا، وهنا نقل عن النص خلافه .. قلنا: الفرق أن الحد يتعلق به الإيلام بالجميع ولم يتحقق، وهنا المعتبر الاسم وقد وجد.
قال: (أو ليضربنه مئة مرة .. لم يبر بهذا) أي: لا يبر بضربه بعثكال عليه مئة شمراخ، ولا بمئة غصن، ولا بمئة سوط مشدودة ضربة واحدة؛ لأنه لم يضربه إلا مرة واحدة، وكذا لو حلف ليضربنه مئة ضربة على الأصح؛ لأن الجميع يسمى ضربة واحدة، بدليل ما لو رمى في الجمار بالسبع دفعة واحدة.
وكلام الإمام يفهم أن شيخه شرط على هذا توالي الضربات.
قال ابن الصلاح: وينبغي أن لا يشترط، والوجه المقابل لكلام المصنف: أنه يحصل بكل ضربة.
قال: (أو لا أفارقك حتى أستوفي، فهرب ولم يمكنه اتباعه .. لم يحنث)؛ لأنه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل غيره.
وقيل: على قولي الإكراه.
والمراد بـ (المفارقة): المؤثرة في البيع اللزوم إذا كان بالأبدان كما صرح به
قُلْتُ: الصَّحِيحُ: لَا يَحْنَثُ إِذَا أَمْكَنَهُ اتِّبَاعُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ فَارَقَهُ، أَوْ وَقَفَ حَتَّى ذَهَبَ وَكَانَا مَاشِيَيْنِ، أَوْ أَبْرَأَهُ، أَوْ احْتَالَ عَلَى غَرِيمٍ ثُمَّ فَارَقَهُ، أَوْ أَفْلَسَ فَفَارَقَهُ لِيُوسِرَ .. حَنِثَ، وَإِنِ اسْتَوْفَى وَفَارَقَهُ فَوَجَدَهُ نَاقِصًا: إِنْ كَانَ جِنْسَ حَقِّهِ لَكِنَّهُ أَرْدَأُ .. لَمْ يَحْنَثْ، وإِلَاّ .. حَنِثَ عَالِمٌ،
ــ
الغزالي والمارودي وابن الصباغ والمحاملي وغيرهم.
قال: (قلت: الصحيح: لا يحنث إذا أمكنه اتباعه والله أعلم)؛ لأنه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل غيره، والمصنف استدراك هذا على المفهوم؛ فإنه قيد عدم الحنث بعدم إمكان الاتباع، فيفهم الحنث عند إمكانه.
وقال ابن كج: يحنث إذا أذن له.
وقيل: يحنث إذا أمكنه منعه، قاله الصيدلاني.
وقيل: يحنث إذا أمكنه متابعته.
قال: (وإن فارقه، أو وقف حتى ذهب وكانا ماشيين، أو أبرأه، أو احتال على غريم ثم فارقه، أو أفلس ففارقه ليوسر .. حنث)؛ لأن المفارقة منسوبة إليه في المسألتين الأوليين، وفي الثالثة فوت البر باختياره، وفي الرابعة وهي ما إذا أحاله الغريم، وكذا إذا احتال عليه، فلأن الحوالة وإن قلنا: هي استيفاء فليست استيفاء حقيقة؛ إنما هي كالاستيفاء في الحكم، اللهم إلا أن ينوي أن يفارقه وذمته مشغولة بحقه .. فحينئذ ينبني الأمر على ما قصده ولا يحنث، قاله المتولي.
وأما في الخيرة .. فلوجود المفارقة وإن كان تركه واجبًا، كما لو قال: لا أصلي الفرض فصلى .. حنث وإن كانت الصلاة واجبة عليه شرعًا.
قال: (وإن استوفى وفارقه فوجده ناقصًا: إن كان جنس حقه لكنه أردأ .. لم يحنث)؛ لأن الرداءة لا تمنع الاستيفاء.
قال: (وإلا) أي: وإن كان غير جنس حقه؛ بأن كان حقه دراهم فوجد المأخوذ فلوسًا أو مغشوشًا.
قال: (.. حنث عالم)؛ لأنه فارقه قبل استيفاء الحق.
وَفِي غَيْرِهِ الْقَوْلَانِ. أَوْ لَا أَرَى مُنْكَرًا إِلَاّ رَفَعْتُهُ إِلَى الْقَاضِي، فَرَأَى وَتَمَكَّنَ فَلَمْ يَرْفَعْ حَتَّى مَاتَ .. حَنِثَ – وَيُحْمَلُ عَلَى قَاضِي الْبَلَدِ، فَإِنْ عُزِلَ .. فالْبَرُّ بِالرَّفْعِ إِلَى الثَّانِي – أَوْ إِلَاّ رَفَعْتُهُ إِلَى قَاضٍ .. بَرَّ بِكُلَّ قَاضٍ،.
ــ
قال: (وفي غيره القولان) أي: قولا حنث الناسي، وكذلك الحكم لو استوفى حقه ثم وجد به عيبًا .. لا يخرجه عن إطلاق الاسم، لكن أرشه كثير لا يسمح به، فإن علم بذلك قبل التفرق .. حنث، أو بعده .. خرج على قولي المكره، وإن كان الأرش قليلًا .. لم يحنث.
فإن قيل: نقصان القدر وإن قل يوجب الحنث، فهلا أوجبه عيب قليل الأرش؟ .. قلنا: لأن نقص القدر محقق والأرش مظنون.
فإن قيل: فلا تحنثوه إذا كثر الأرش .. قيل: لأن الظن يقوى إذا كثر ويضعف إذا قل، قاله الماوردي.
قال: (أو لا أرى منكرًا إلا رفعته إلى القاضي، فرأى وتمكن فلم يرفع حتى مات .. حنث)؛ لتفويته البر باختياره، فإن لم يتمكن .. فخلاف المكره، ولا تلزمه المبادرة إلى الرفع، بل له المهلة مدة عمره وعمر القاضي، فمتى رفعه إليه .. بر.
ولا يشترط في الرفع أن يذهب إليه مع صاحب المنكر، بل يكفي أن يحضر عند القاضي وحده فيخبره، أو يكتب إليه بذلك، أو يرسل رسولًا فيخبره.
قال: (ويحمل على قاضي البلد، فإن عزل .. فالبر بالرفع إلى الثاني)؛ لأن التعريف بـ (أل) يرجع إليه.
وقيل: لا يختص به، بل يرفع إلى أي قاض كان، وتكون الألف واللام للجنس.
فإن كان في البلد قاضيان .. فيرفع إلى من شاء منهما، فإن كان كل منهما في جانب .. فيظهر أن يتعين قاضي الشق الذي فيه فاعل المنكر، كذا في (الجواهر)، وفيه نظر.
قال: (أو إلا رفعته إلى قاض .. برَّ بكل قاض)، سواء كان في تلك البلد أو غيرها.
أَوْ إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ فَرَآهُ ثُمَّ عُزِلَ: فَإنْ نَوَى مَا دَامَ قَاضِيًا .. حَنِثَ إِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُهُ فَتَرَكَهُ، وَإِلَاّ .. فَكَمُكْرَهٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ .. بَرَّ بالرَّفْعِ إِلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ
ــ
قال: (أو إلى القاضي فلان فرآه ثم عزل: فإن نوى ما دام قاضيًا .. حنث إن أمكنه رفعه فتركه)؛ لتفويته البر باختياره، كذا في (المحرر).
والذي في (الروضة): إذا عزل .. لم يبر بالرفع إليه وهو معزول ولا يحنث وإن كان يمكنه؛ لأنه ربما ولي ثانيًا، واليمين على التراخي، فغن مات احدهما قبل أن يولى .. بان الحنث.
أما إذا لم يعزل ولم يرفع إليه حتى مات أحدهما بعد التمكن .. حنث، فإن لم يتمكن فقولا المكره، فالذي في (المنهاج) محله في (الروضة) في الموت دون عزل، وأما العزل فجزم بعدم الحنث فيه حتى يموت احدهما فيتبين الحنث.
قال: (وإلا .. فكمكره) فيأتي فيه القولان.
قال: (وإن لم ينو .. بر بالرفع إليه بعد عزله)؛ لتعلقه بالعين، وإن أطلق .. فوجهان؛ لتقابل العين والصفة، والأصح: أنه يبر بالرفع إليه بعد العزل تغليبًا للعين.
و (فلان): كناية عن اسم علم لمن يعقل، ومعناه واحد من الناس، كما أن (فُلُ) كناية عن نكرة من يعقل، تقول: يا فل، معناه: يا رجل، وهو محذوف النون لا على سبيل الترخيم، ولو كان ترخيمًا .. لقالوا: يا فلان، وربما قيل ذلك في غير النداء للضرورة، قال أبو النجم [من الرجز]:
في لجة امسك فلانًا عن فُلِ.
تتمة:
رأى المنكر بين يدي القاضي المرفوع إليه .. قال في (الوسيط): لا معنى للرفع إليه وهو يشاهده، وقال المتولي: إنما يحصل البر بأن يخبره.
ولو رآه الحالف بعد اطلاع القاضي عليه .. فوجهان:
احدهما: انه فات البر بغير اختياره، فيكون على القولين.
فَصْلٌ:
حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي، فَعَقَدَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ .. حَنِثَ – وَلَا يَحْنَثُ بِعَقْدِ وَكِيلِهِ لَهُ - .....
ــ
وأصحهما – وبه اجاب البغوي-: أنه يبر بالإخبار.
وفي الأحوال الثلاثة لو لم ير الحالف منكرًا حتى مات .. فلا شيء عليه، وفي حال تعيين القاضي لو لم ير منكرًا حتى مات القاضي .. فكذلك لا شيء عليه، ولو رآه بعد عزله فغن نوى الرفع إليه في حال القضاء .. فلا شيء عليه، وإن قصد غيره .. فليخبره.
قال: (فصل:
حلف لا يبيع او لا يشتري، فعقد لنفسه أو لغيره) أي: عقدًا صحيحًا بولاية أو وكالة (.. حنث) أما عقده لنفسه .. فبلا خلاف؛ لصدور الفعل منه، وأما لغيره .. فعلى الصحيح؛ لأن إطلاق اللفظ يشملها.
وقيل: لا؛ لانصراف العقد لغيره.
وقيل: إن أضاف العقد للموكل .. لم يحنث؛ لأنه حلف على الشراء المطلق، وعند التصريح بالسفارة لغيره لم يحصل، وإن نواه .. حنث.
ثم إن مطلق الحلف على العقود ينزل على الصحيح، فلا يحنث بالفاسد، وقد تقدم في نكاح العبد أن الشافعي عمم هذه القاعدة إلا في مسألة واحدة، وهي ما إذا أذن لعبده في النكاح فنكح فاسدًا .. فإنه أوجب فيه المهر كما في النكاح الصحيح على قول.
هذا إذا أطلق اليمين، فإن أضاف فيها العقد إلى ما لا يقبله كما لو حلف لا يبيع الخمر أو المستولدة فأتى بصورة البيع، فإن قصد أن لا يورد صيغة العقد عليها .. حنث، وإن أطلق .. لم يحنث.
قال: (ولا يحنث بعقد وكيله له)، سواء كان مما يتولاه الحالف بنفسه عادة أم لا؛ لأنه لم يفعل.
أوْ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يَعْتِقُ أَوْ لَا يَضْرِبُ، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ .. لَمْ يَحْنثْ، إِلَاّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ لَا يَفْعَلَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ،
ــ
وحكى الربيع قولًا فيمن لا يتولى ذلك الشيء بنفسه كالسلطان ونحوه: أنه يحنث للعرف.
واختلفوا هل هو من كسبه او ليس من كسبه؟ وإلى هذا ذهب مالك رحمه الله تعالى، قال ابن الصلاح: ولا ينبغي التسامح مع العامة بإطلاق عدم الحنث؛ فإنهم لا يعرفون الفرق بين مباشرة العقد والتسبب إليه في إطلاقهم.
قال: (أو لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يعتق أو لا يضرب، فوكل من فعله .. لم يحنث)؛ لأنه حلف على فعله ولم يفعل، سواء كان ممن يتعاطى ذلك بنفسه قطعًا او جرت عادته فيه بالاستنابة على الأصح.
هذا إذا كان المحلوف عليه يتعاطاه الحالف وغيره كما مثله المصنف، فإن كان لا يتعاطاه في العرف العام إلا بالمباشرة دون الأمر كحلق العانة .. لم يحنث بفعل غيره قطعًا.
وجعل الماوردي منه: لا قرأت ولا كتبت ولا حججت ولا اعتمرت.
وإن كان لا يمكن إلا بالأمر كالحلف على الاحتجام والفصد وحلق الرأس .. حنث بالأمر؛ لأنه لا يمكن إلا كذلك.
وصحح الرافعي في (كتاب الحج) في مسألة الحلق خلاف ما صححه هنا.
قال: (إلا أن يريد أن لا يفعل هو ولا غيره) عملًا بإرادته، قال الرافعي: كذا أطلقوه مع قولهم: إن اللفظ حقيقة لفعل نفسه، واستعماله في المعنى الاخر مجاز، ففي هذا استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعًا، وهو مستبعد عند أهل الأصول، قال: والأولى أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز فيقال: إذا نوى أن لا يسعى في تحقيق ذلك الفعل .. حنث بمباشرته وبالأمر به؛ لشمول المعنى، وإرادته هذا المعنى إرادته المجاز وحده.
أَوْ لَا يَنْكِحُ .. حَنِثَ بِعَقْدِ وَكِيلِهِ لَهُ لَا بِقَبُولِهِ هُوَ لِغَيْرِهِ،
ــ
قال في (الروضة): هذا الذي ذكره الرافعي حسن، والأول صحيح على مذهب الشافعي وأصحابنا المتقدمين في جواز إدارة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد.
مهمة:
حلف لا يبيع لزيد مالًا فوكل الحالف رجلًا بالبيع وأذن له في التوكيل فوكل الرجل زيدًا حتى باع .. جزم الشيخان بحنث الحالف، سواء علم زيد أم لا؛ لأن اليمين منعقدة على نفي فعله، وقد فعل زيد باختياره.
والصواب الجاري على القواعد: أنه إن كان ذلك الغير لا يأتمر بائتماره .. يحنث، وإن كان يأتمر بأمره .. فعلى القولين في الناسي، وينبغي أن يستثني من ذلك: ما إذا كان قد وكل قبل يمينه .. ففي (فتاوى القاضي حسين): أنه إذا حلف لا يبيع أو لا يهب ولا يوكل وكان قد وكل قبل ذلك ببيع ماله، فباع الوكيل بعد يمينه بالوكالة السابقة .. لم يحنث؛ لأنه بعد اليمين لم يباشر ولم يوكل.
قال: (أو لا ينكح .. حنث بعقد وكيله له)، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الوكيل في النكاح سفير محض.
وفي وجه: لا يحنث؛ لأنه لم يفعل، وسواء جرت عادته بالتوكيل فيه أم لا، وصححه في (التنبيه)، وأقره المصنف عليه، ولم يصحح في (الشرح) و (الروضة) شيئًا.
ومثله: لو حلف لا يطلق أو لا يعتق فوكل غيره ففعله.
وفي وجه: إن كان ممن عادته التوكيل .. حنث في الثلاث اعتبارًا بعادته.
قال: (لا بقبوله هو لغيره)؛ لأن النكاح تجب إضافته إلى الموكل، فلا يحنث به الوكيل، ولأنه لا يطلق عليه أنه تزوج.
هذا إذا اطلق، فإن نوى لا يفعله هو ولا غيره .. فكما سبق، فكان ينبغي للمصنف تأخير الاستثناء إلى هنا.
أَوْ لَا يَبِيعُ مَالَ زَيْدٍ فَبَاعَهُ بِإِذْنِهِ .. حَنِثَ، وَإِلَاّ .. فَلَا، أَوْ لَا يَهَبُ لَهُ فَأَوْجَبَ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ .. لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا إِنْ قَبِلَ وَلَمْ يَقْبِضْ فِي الأَصَحِّ، وَيَحنَثُ بِعُمْرَى وَرُقْبَى، وَصَدَقَةٍ
ــ
قال: (أو لا يبيع مال زيد فباعه بإذنه .. حنث)؛ لصدق الاسم، وكذلك لو باعه بإذن الحاكم لحجر أو امتناع.
قال: (وإلا .. فلا)؛ لفساد البيع.
وذكره (البيع) مثال، وإلا .. فسائر العقود لا تتناول إلا الصحيح، وكذلك العبادات إلا الحج؛ فإنه يحنث بفاسده، ولا يستثنى غيره.
قال: (أو لا يهب له فأوجب له فلم يقبل .. لم يحنث)؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض.
وقال ابن سريج: يحنث؛ لأنه يقال وهبه فلم يقبل.
قال الإمام: ولا شك انهم يطردون هذا الخلاف في البيع وغيره.
قال: (وكذا إن قبل ولم يقبض في الأصح)؛ لأن نقل الملك لم يوجد.
والثاني: يحنث؛ لأن الهبة قد حصلت والمختلف الملك.
والذي صححه المصنف تبع فيه (المحرر)، وصححه في زوائد (الروضة)، ولم يصحح في (الشرح) شيئًا، بل نقل تصحيح الأول عن المتولي والثاني عن البغوي.
وأفهمت عبارته: أنه إذا قبضها .. يحنث بلا خلاف، لكن متى يحنث؟ فيه وجهان في (الحاوي):
أحدهما: حالة القبض؛ لأن الملك حصل به.
والثاني: أن القبض دال على الملك حالة الهبة، فعلى هذا يكون حانثًا من وقت العقد.
قال: (ويحنث بعمري ورقبي، وصدقة) أي: صدقة تطوع على الصحيح في الثلاثة؛ لأنها أنواع من الهبة كما تقدم في بابها، فكل صدقة هبة ولا ينعكس.
لَا إِعَارَةٍ، وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ. أَوْ لَا يَتَصَدَّقُ .. لَمْ يَحْنَثْ بِهِبَةٍ فِي الأَصَحِّ،
ــ
وقيل: يحنث بالعمرى والرقبى دون الصدقة؛ لأن الهبة والصدقة تختلفان اسمًا وحكمًا، فإن الصدقة حرام على النبي صلى الله عليه وسلم دون الهبة.
وأما الزكاة وصدقة الفطر .. فلا يحنث بهما، وتردد فيهما القفال.
والكفارات كالزكوات، صرح به الماوردي.
قال: (لا إعارة)؛ إذ لا ملك فيها.
قال: (ووصية)؛ لأنها تمليك بعد الموت، والميت لا يحنث بها.
وقيل: يحنث بها؛ لأنها سبب في نقل الملك.
قال: (ووقف) بناء على أنه لا يملكه، فإن قلنا: يملكه الموقف عليه .. حنث.
ولا يحنث بالضيافة على الأصح.
قال: (أو لا يتصدق .. لم يحنث بهبة في الأصح)؛ لأنها ليست صدقة، ولهذا حلت للنبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: يحنث كعكسه.
ويحنث بالصدقة الواجبة والمندوبة، سواء تصدق على غني أو فقير؛ لشمول الاسم للقسمين جميعًا، وخالف أبو حنيفة في الغني.
وقال المتولي: يحنث بالوقف؛ لأنه صدقة، وقال: إنه إذا دفع الصدقة لذمي .. لم يحنث؛ لأنه لا قربة فيها، قال الرافعي: وهذا ممنوع.
فروع:
حلف لا يبر فلانًا .. تناول جميع التبرعات من الهبة والهدية والضيافة والإعارة والوقف وصدقة التطوع، يحنث بأيها وجد.
ولو كان المحلوف عليه عبده فأعتقه .. حنث، وكذا لو كان عليه دين فأبرأه منه، ولا يحنث بأن يدفع إليه الصدقة المفروضة ولا بالقرض.
أَوْ لَا يَاكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ .. لَمْ يَحْنَثْ بِمَا اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: مِنْ طَعَام اشْتَرَلهُ زَيْدٌ فِي الأَصَحِّ، وَيَحْنَثُ بِمَا اشْتَرَاهُ اشْتَرَاهُ سَلَمًا، وَلَوِ اخْتَلَطَ مُشْتَرَاهُ بِمُشْتَرَى غَيْرِهِ .. لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَكْلَهُ مِنْ مَالِهِ
ــ
ولو حلف لا يطلق فخالع .. حنث، أو لا يشارك فقارض .. حنث؛ لأنه نوع من الشركة، قاله صاحب (الكافي).
وأفتى العماد بن يونس بانه إذا حلف لا يستودع فأعطاه رجل درهمًا يشتري به شيئًا، وكان ليلًا فأمسكه إلى الغد .. لا يحنث؛ لأنه وكالة لا وداعة.
قال: (أو لا يأكل طعامًا اشتراه زيد .. لم يحنث بما اشتراه مع غيره) أي: مشاعًا؛ لأن كل جزء يقال فيه: هذا اشتراه زيد .. يصدق فيه: بل اشتراه عمرو؛ لأن زيدًا لم يختص بشراء شيء منه، فأشبه ما لو قال: لا أدخل دار زيد فدخل دارًا لزيد وعمرو، وجزم المصنف في هذه، وحكاية الخلاف في التي بعدها طريقة البغوي، وطريقة الجمهور طرد الخلاف.
والوجه الثاني: الحنث؛ لأنه ما من جزء إلا وقد ورد عليه شراء زيد.
والثالث: إن أكل أكثر من النصف .. حنث، وإلا .. فلا.
وموضوع الخلاف عند الإطلاق، فلو أراد أن لا يأكل طعامه أو من طعامه .. فقال البغوي: يحنث بالمشترك، وأقره الرافعي عليه، وفيه نظر.
قال: (وكذا لو قال: من طعام اشتراه زيد في الأصح)؛ لما سبق، هذا قول الجمهور، ويقابله الوجهان السابقان.
قال: (ويحنث بما اشتراه سلمًا)؛ لأنه نوع من الشراء، وكذا ما يملكه بالتولية والاشتراك، لا ما ملكه بإرث وهبة أو وصية، أو رجع إليه برد بعيب أو إقالة، أو خلص له بقسمة وإن جعلنا الإقالة والقسمة بيعًا، وكذا الصلح على الصحيح؛ لأن لفظ الصلح موضوع للرضا بترك الحق لا للتملك.
ولا يحنث بما اشتراه له وكيله، ويحنث بما اشتراه لغيره بالوكالة.
قال: (ولو اختلط مشتراه بمشترى غيره .. لم يحنث حتى يتيقن أكله من ماله)، وذلك بأن يأكل قدرًا صالحًا كالكف والكفين، بخلاف عشر حبات وعشرين.
أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارًا اشْتَرَاهَا زَيْدٌ .. لَمْ يَحْنَثْ بِدَارٍ أَخَذَهَا بِشُفْعَةٍ
ــ
والثاني: لا يحنث وإن أكل الجميع؛ لأنه لا يمكن الإشارة إلى شيء منه بأن زيدًا اشتراه.
والثالث: إن أكل أكثر من النصف .. حنث، وإلا .. فلا.
قال: (أو لا يدخل دارًا اشتراها زيد .. لم يحنث بدار أخذها بشفعة)؛ لعدم صدق الشراء، والمراد: أخذ بعضها؛ لأن الدار كلها لا تؤخذ بالشفعة عندنا.
فروع:
حلف لا يلبس حليًا .. حنث بالخلخال والسوار والطوق والدملج وخات الذهب والفضة.
وقال أبو حنيفة: لا يحنث بخاتم الفضة؛ لأنه مألوف، ولا بالمخنقة المتخذة من اللؤلؤ حتى تمزج بذهب أو فضة.
وعندنا: يحنث به؛ لأنه حلي، قال الله تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} .
فلو تحلى بالخرز والصفر، فإن كان في عرفهم حليًا كأهل البوادي وسكان السواد .. حنث.
ولو حلف لا يلبس خاتمًا .. لم يحنث بلبسه في غير الخنصر؛ لأن الرجل لا يعد بذلك لابسًا للخاتم، بخلاف المرأة.
وإن من عليه رجل فحلف لا يشرب له ماء من عطش فأكل له خبزًا أو لبس له ثوبًا .. لم يحنث.
وإن قال: لا صليت، فأحرم بفرض أو نفل .. حنث، وقال القفال: إلا صلاة الجنازة فلا يحنث بها؛ لأنها لا يطلق عليها صلاة عرفًا.
وإن قال: لا تسريب .. لا يحنث حتى يحضن الجارية ويطأ وينزل على الأصح.
وإذا حلف لا يسكن دار فلان فسكن دارًا له ولغيره فيها شركة قليلة أو كثيرة .. لم يحنث، نص عليه في (الأم).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وحكى ابن العربي: أنه حضر فخر الإسلام الشاشي عمن حلف لا يلبس ثوبًا معينًا واحتاج إلى لبسه، فأمره أن يسل منه خيطً ثم يلبسه.
وإن حلف لا يكلم الناس .. حنث إذا كلم واحدًا، وإن قال: لا اكلم ناسًا .. فثلاثة.
تتمة:
سئل بعض العلماء عن رجل حلف لينفرد بعبادة لله تعالى لا يشاركه فيها غيره، أو نذر ذلك، فقال: لا سبيل إلى ذلك إلا بأن يطوف بالبيت منفردًا، قال: وفي معنى ذلك الانفراد بالإمامة العظمى؛ فإن الإمام لا يكون إلا واحدًا، فإذا انفرد بها واحد .. فقد قام بعبادة هي أعظم العبادات، وعليه حمل قول سليمان صلوات الله عليه وسلامه:{وهَبْ لِي مُلْكًا لَاّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} ؛ فإنه انفراد بهذه العبادة، وهي القيام بمصالح الإنس والجن والطير وغيرها.
ولنختم الباب بأصول مأثورة وفروع منثورة في (فتاوى القفال) و (البحر) وغيرهما.
حلف لا يكلم زيدًا ثم ولاه ظهره، ثم قال: يا جدار افعل كذا .. لم يحنث وإن كان غرضه إفهام زيد، وكذا إذا أقبل على الجدار وتكلم ولم يقل يا زيد ولا يا جدار .. لم يحنث؛ لأن عائشة لما أرادت الخروج إلى البصرة .. أشارت عليهما ام سلمة أن لا تفعل وحلفت إن خرجت أن لا تكلمها، فخرجت، فلما عادت إلى المدينة كانت أم سلمة تقول بحضرتها: يا حائط؛ ألم أقل لك؟ يا حائط؛ ألم أنهك؟ ففعلت غرضها وسلمت من الحنث.
وفي (الحاوي): لو حلف لا يتزوج امرأة كان لها زوج فطلق امرأته ثم تزوجها .. لم يحنث؛ لأن اليمين تنعقد على غير زوجنه التي هي في نكاحه، فإن كانت بائنًا فتزوجها .. حنث.
ومنها: رجل له على آخر دين، فقال: إن لم أقبضه منك اليوم .. فامرأتي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
طالق، وقال صاحبه: غن أعطيتكم اليوم .. فامرأتي طالق، طريقه: أن يأخذ منه صاحبه جزءًا فلا يحنثان.
ومنها: حلف لا يتزوج سرًا فتزوج بولي وشاهدين .. حنث؛ لأن التزويج لا يصح بدون ذلك، وإن شهد ثلاثة .. لم يحنث.
وحكى القاضي أبو الطيب في (شرح التلخيص) في (كتاب الصلح): أنه لو حلف لا يكتب بهذا القلم وكان مبريًا فكسر برايته واستأنف ببراية اخرى .. لم يحنث وإن كانت الأنبوبة واحدة؛ لن القلم اسم للمبري دون القصبة، وإنما سميت القصبة قبل البري قلمًا مجازًا لا حقيقة.
وكذلك لو قال: بهذه السكين ثم أبطل حدها وجعل الحد من ورائها وبرى بها .. لم يحنث.
ولو حلف لا يزور فلانًا فشيع جنازته .. لم يحنث.
وإن حلف لا يركب ظهر إنسان واجتاز به النهر ونحوه .. لم يحنث.
ولو حلف لا يسكن هذا البيت أو لا يصطاد ما دام زيد واليًا أو فلان قاضيًا ونحو ذلك فعزل فلان ثم ولي .. لم يحنث بالمحلوف عليه؛ لانقطاع الديمومة، صرح به الخوارزمي وغيره.
* * *
كتاب النذر