الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الدَّعوَى وَالبَيِّنَاتِ
كتاب الدعوى والبينات
(الدعوى) هي في اللغة: الطلب، ومنه قوله تعالى:{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} وألفها للتأنيث، وجمعها: دعاوى كفتوى وفتاوى بفتح الواو وكسرها.
قيل: سميت دعوى لأن المدعى يدعو صاحبه إلى مجلس الحكم، ليخرج من دعواه.
(والبينات): جمع بينة، وهو الشهود، سموا بذلك لأن بهم تتبين الحقوق.
وأفرد الدعوى وجمع البينة، لأن حقيقة الدعوى واحدة والبينات مختلفة.
والأصل فى الباب: قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} .
قال الحسن: من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب .. فهو ظالم، وفى (الصحيحين) (خ4552 - م 1711/ 1) عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطي الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه).
وفي (البهيقي)(10/ 252) بإسناد حسن: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ووهم فى (الكفاية) فعزى هذه إلى مسلم.
وإنما كانت البينة على المدعى لأنها حجة قوية لإنتفاء التهمة، لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضررًا، وجانب المدعى ضعيف، لأنه يدعي خلاف الظاهر، فكلف الحجة القوية، ليقوي بها ضعفه، وعكسه المدعي عليه فأكتفى منه بالحجة الضعيفة.
ولا خلاف بين المسلمين في هذه الجملة، قال الحسن: (كان رسول الله
تُشْتَرَطُ الدَّعْوى عِنْدَ قَاضٍ فِي عُقُوبَةٍ كَقِصَاصٍ وَقَذْفٍ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ عَيْنًا .. فَلَهُ أَخْذُهَا إِنْ لَمْ يَخَف فِتْنّةً،
ــ
صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أحدًا بقرف أحد، ولا يصدق أحدًا على أحد).
ولما كانت الخصومات تدور على خمسة: الدعوى والجواب واليمين والنكول والبينة .. ذكرها المصنف كذلك.
قال: (تشترط الدعوى عند قاض في عقوبة) أي: لآدمي (كقصاص وقذف) أي: حد قذف؛ لعظم خطره، والاحتياط في إثباته واستيفائه.
وشملت عبارته المحكم؛ فإنه قاض عند الخصمين، لكن تمثيله بالقصاص والقذف يفهم التصوير بحق الآدمي، وأن حدود الله تعالى لا يشترط فيها ذلك، وليس كذلك، بل لابد فيها من القاضي أيضًا، مع أنه لا تسمع فيها الدعوى أصلًا؛ لأنها ليست حقًا للمدعي، بل هو مأمور بالإعراض والدفع ما أمكن، إلا أنه يستثنى منه ما إذا قذفه بالزنا وأراد القاذف تحليفه أنه لم يزن .. فالأصح: أنه يجاب، ولا تسمع الدعوى بذلك، ويحلف على نفيه إلا في هذه الصورة، لكن يرد على المصنف السيد؛ فإنه يسمع الدعوى على عبده.
قال: (وإن استحق عينًا .. فله أخذها) مستقلًا بها (إن لم يخف فتنة) بالاتفاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهند في أخذ ما في الذمة، فعين المال أولى.
وشمل قوله: (استحق عينًا) المالك والمستأجر والموصى له بالمنفعة والموقوف عليه، وفيه نظر؛ فإن الاستقلال بالأخذ للمالك فقط فيما يتبادر من كلام الغزالي والرافعي، فيحمل كلام المصنف عليه؛ لأن مستحق العين حقيقة هو المالك، وأما غيره .. فيستحق المنفعة لا العين نفسها، والأشبه: أن مستحق المنفعة- لاسيما المؤبدة فيما نحن- فيه كالمالك، وقد نص الشافعي على أن لولي الطفل الأخذ.
وفي معنى الفتنة: خوف الضرر على نفسه.
ثم الكلام إنما هو في ذوي اليد العادية ومن في حكمها، فلو كانت في يد أمين
وَإِلَاّ .. وَجَبَ الرَّفْعُ إِلَى قَاضٍ، أَوْ دَنْنًا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَداءِ .. طَالَبَةُ، وَلَا يَحِلُّ أّخْذُ شَيْءٍ لَهُ، أَوْ عَلَضى مُنْكِرٍ وَلَا بَيِّنَةَ .. أَخَذَ جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ مَاِلهِ، وَكَذَا غَيْرُ جِنْسِهِ إِنْ فَقَدَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ،
ــ
باذل .. لم يجز له أخذها بغير إذنه ولا عمله، ولا دخول منزله لأجلها، بل سبيله الطلب.
قال: (وإلا .. وجب الرفع إلى قاض)؛ لتمكنه من الخلاص به، فلا حاجة لإثارة الفتنة، وليس المراد أنه يكلف ذلك حتى يأثم بالترك، بل المراد امتناع الاستقلال بالأخذ في هذه الحالة.
والمراد بالرفع إلى القاضي: الرفع إلى من له إلزام الحقوق والإجبار عليها من أمير ومحتسب ونحوهما، والرفع: تقريبك الشيء، فمعنى رفعه إلى السلطان قربه إليه، وقد تقدم ذلك في (باب الخيار) في البيع.
قال: (أو دينًا) حالًا (على غير ممتنع من الأداء .. طالبه)؛ ليؤدي ما عليه.
قال: (ولا يحل أخذ شيء له)؛ لأن الخيار في تعيين المال المرفوع إلى من عليه، فإن خالف وأخذ شيئًا من ماله .. رده، فإن تلف عنده .. ضمنه، فإن اتفقا .. جاء خلاف التقاص.
قال: (أو على منكر ولا بينة .. أخذ جنس حقه من ماله) عند الظفر به؛ لعجزه عن أخذه إلا كذلك، وسواء أنكره في الظاهر والباطن، أو كان ينكر في الظاهر ويقر باطنًا.
وعن القفال: ليس له الأخذ مطلقًا؛ بل يقتصر على التحليف.
قال: (وكذا غير جنسه إن فقده على المذهب)؛ لما روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله؛ إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله وهو لا يعلم، فهل على ذلك شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك (فجوز لها الأخذ من غير فرق بين الجنس وغيره.
وقيل: في جواز الأخذ قولان: أحدهما: هذا.
أَوْ عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ أَوْ مُنْكِرٍ وَلَهَ بَيِّنَةٌ .. فَكَذَلِك، وَقِيلَ: يَجِبُ الرَّفْعُ إِلى قَاضٍ .....
ــ
والثاني: لا يأخذ غير الجنس؛ لأنه لا يتمكن من تملكه.
وقال أبو حنيفة: يأخذ جنس حقه لا غيره، إلا أن يكون دراهم فيأخذ الدنانير وبالعكس.
والمصنف أطلق الجواز من غير الجنس، ومحله إذا لم يجد أحد النقدين، فإن وجده .. لم يعدل إلى غيره، كذا نقله في (المطلب) عن المتولي وارتضاه ثم قال: ومحله أيضًا إذا كان الغريم مصدقًا أنه ملكه، فلو كان منكرًا كونه له .. لم يجز له أخذه وجهًا واحدًا، صرح به الإمام في (كتاب الوكالة) وقال: إنه مقطوع به.
وقال أحمد: لا يأخذ من جنسه ولا من غير جنسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك).
وأجاب الشافعي بأن الحديث غير ثابت، ولو كانت ثابتًا .. لم تكن فيه حجة؛ إذ دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن من أخذ حقه .. ليس بخائن، إنما الخيانة من يأخذ ما لا يستحق، والعجب من استدلال أحمد بالحديث وهو يقول: إنه باطل لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، وأعله ابن حزم [المحلي 8/ 181] وابن القطان والبيهقي بقيس بن الربيع وشريك وغيرهما، لكن الحاكم قال: إنه على شرط مسلم، وقال الترمذي: إنه حسن غريب.
قال: (أو على مقر ممتنع أو منكر وله بينة .. فكذلك) أي: يستقل بالأخذ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالمرافعة.
قال: (وقيل: يجب الرفع إلى قاض) كما لو أمكنه تحصيل الحق بالمطالبة والتقاضي.
وعلى هذا: لو كان المستحق يرجو إقراره لو أحضره عند القاضي وعرضه عليه .. وجب إحضاره.
هذا كله في دين الآدمي، أما الزكاة إذا امتنع المالك من أدائها وظفر الفقير بجنسها
وَإِذَا جَازَ الأَخْذُ .. فَلَهُ كَسْرُ بَابٍ، وَنَقْبُ جِدَارٍ لَا يَصِلُ الىَ الْمِالِ إلَاّ بِهِ،
ــ
من ماله .. فليس له الأخذ، بخلاف الدين، كذا أجاب به القاضي أبو بكر الشاشي في (فتاويه)، وهو في طبقة القاضي أبي الطيب، وهو متوجه؛ لتوقفها على النية، بخلاف الدين، وغفل عن هذا من فصل بين أن يتعين الفقراء أو لا إلحاقًا لها بالديون.
فروع:
ادعى من أخذ من ماله على الظافر أنه أخذ من ماله كذا، فقال: ما أخذت، فأراد استحلافه .. كان له أن يحلف أنه ما أخذ من ماله شيئًا، ولو كان مقرًا لكنه يدعي حيلة كذبًا ولو حلف لحلف .. فللمستحق الأخذ من ماله فيما يظهر، ويحتمل أن يفرق بين الأجل القريب والبعيد.
ولو كان المدين صغيرًا أو سفيهًا أو مجنونًا بأن أتلف له شيئًا ولا بينة له بذلك .. فلا خلاف أنه ليس له الأخذ من ماله إن ظفر بجنس حقه، حكاه في (الذخائر) عن الغزالي، وغلط من قال خلاف ذلك.
ولو كان المدين مقرًا، لكنه ادعى الفلس وأقام بينة أو صدق بيمينه، ورب الدين يعلم أن له مالًا كتمه، فإن لم يقدر على بينة .. فله الأخذ منه.
ولو جحد قرابة من تلزمه نفقته أو ادعى العجز عنها كاذبًا أو أنكر الزوجية .. فعلى ما فصلناه، لكن إنما يأخذ قوت يوم بيوم فيما يظهر.
قال: (وإذا جاز الأخذ .. فله كسر باب، ونقب جدار لا يصل إلى المال إلا به)؛ لأن من استحق شيئًا .. استحق الوصول إليه، ولا يضمن ما فوته، كمن لم يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله فأتلفه .. لا يضمن.
وحكي الرافعي وجهًا: أنه يضمن، ولو وكل في ذلك أجنبيًا .. لم يجز له، ولو فعل .. ضمن.
ثُمَّ الْمَاخُوذُ مِنْ جِنْسِهِ يَتَمَلَّكُهُ، وَمِنْ غَيْرِهِ يَبِيعُهُ، وَقيلَ: يَجِبُ رَفْعُهُ إلَى قَاضٍ لِيَبِيعَهُ،
ــ
ثم كسر الباب ونحوه لا يجوز في ملك الغائب المعذور وإن جوزنا الأخذ، ولا في ملك الصبي والمجنون، وإنما ذلك مخصوص بالمتعدي بالمنع، وكذا لا يجوز ذلك في جدار غريم الغريم قطعًا.
وإذا غصب منه نجاسة تختص بها كجلد ميتة وسرجين وكلب معلم وجحده .. فظاهر كلام الصحاب أنه لا يكسر بابًا ونحوه؛ لأنهم إنما تكلموا في المال خاصة.
قال: (ثم المأخوذ من جنسه يتملكه) بدلًا عما استحقه؛ لأنه ثمرة الملك.
والتعبير بـ (التملك) وقع في (الشرحين) و (الروضة) أيضًا، وهو يقتضي: أنه لا يملكه بنفس الخذ، بل لابد من إحداث تملك، والصواب خلافه كما صرح به القاضي والإمام والبغوي والمحاملي والماوردي وغيرهم؛ فإن الشارع قد أذن في قبضه، فأشبه ما إذا أقبضه الحاكم إياه.
قال: (ومن غيره يبيعه) كما يتسلط على الأخذ ولا يتملكه على الصحيح.
وقيل: يتملك منه قدر حقه للضرورة، وهو ضعيف، وإنما يجوز له بيعه بنفسه إذا كان القاضي جاهلًا بالحال ولا بينة للأخذ، فإن كان القاضي عالمًا به .. فالمذهب أنه لا يبيعه إلا بإذنه، وكما يجوز للظافر أن يبيع له أن يوكل فيه، قاله في (الروضة) في آخر (الطلاق).
قال: (وقيل: يجب رفعه إلى قاض ليبيعه)؛ لأنه لا يتصرف في مال غيره لنفسه، ولم يرجح في (المحرر) في المسألة شيئًا، بل قال: رجح كلًا طائفة، والصحيح في (الشرح الصغير) و (الروضة): أنه يستقل ببيعه.
قال الرافعي: وإذا أريد بيع المظفور به، فإن كان الحق من جنس نقد البلد .. بيع به، وإن لم يكن بأن ظفر بثوب وله حنطة .. فيباع الثوب بنقد البلد، ثم تشتري الحنطة بالثوب، والذي رجحه الرافعي هنا من امتناع البيع بغير نقد البلد سبق له نظير في (باب الفلس)، وخالف ذلك في بابي (الرهن) و (الوكالة).
وَالْمَاخُوذُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الأَصَحِّ فَيَضْمَنُهُ إِنْ تَلِفَ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ وَبَيعِهِ، وَلَا يَاخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ إِنْ أَمْكَنَ الاِقْتِصَارُ،
ــ
فرع:
حقه دراهم صحاح فظفر بمكسرة .. فله أخذها وتملكها بحقه، ولو استحق مكسرة فظفر بصحاح .. فالمذهب جواز الأخذ؛ لاتحاد الجنس.
وقيل: فيه الخلاف في اختلاف الجنس؛ لاختلاف الغرض، وإذا أخذها .. فليس له تملكها، ولا يشتري بها مكسرة، لا متفاضلًا؛ لما فيه من الربا، ولا متساويًا،؛ لأنه يجحف بالمأخوذ منه، لكن يبيع صحاح الدراهم بدنانير ويشتري بها دراهم مكسرة ويتملكها.
قال: (والمأخوذ مضمون عليه في الأصح)؛ لأنه قبضه لغرض نفسه فكان من ضمانه كالمستام، بل أولى؛ فإن المالك لم يأذن فيه.
والثاني: لا يضمنه من غير تفريط؛ لاستحقاقه أخذه وصرف ثمنه في دينه فأشبه المرهون.
وموضع الخلاف إذا تلف قبل التمكن من البيع، فإن تمكن منه فلم يفعل .. كان ضامنًا بلا خلاف.
ويؤخذ من كونه مضمونًا عليه قبل البيع أنه لو حدثت فيه زيادة قبل بيعه .. فهي على ملك المأخوذ منه، وبه صرح في زوائد (الروضة).
قال: (فيضمنه إن تلف قبل تملكه وبيعه)، وكذا لو أخر البيع لتقصير فنقصت قيمته .. ضمن النقص، ولو نقصت ثم ارتفعت ثم تلفت .. ضمن بالأكثر، فلو اتفق رد العين .. لم يضمن النقص، وإذا باعه وتملك ثمنه ثم قضى المستحق عليه دينه .. لزمه رد المأخوذ، ومتى انتفع بالعين المأخوذة قبل التملك .. لزمه أجرتها، وليس له إبقاؤها في يده رهنًا؛ لأن الرهن عقد لا يقع إلا عن مراضاة.
قال: (ولا يأخذ فوق حقه إن أمكن الاقتصار)؛ لحصول المقصود به، فإن زاد .. فالزيادة مضمونة عليه على الأصح.
وَلَهُ أَخْذُ مَالِ غَرِيمِ غَريمِهِ. وَالأَظْهَرُ: أَنَّ الْمُدَّعِيَ: مَنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ،
ــ
ثم إن أمكنه بيع قدر حقه منه .. باعه، وإلا .. باع الجميع، وأخذ من ثمنه وسعى في رد الباقي، ويحفظه إلى الإمكان.
قال: (وله أخذ مال غريم غريمه) كما يجوز الأخذ من مال الغريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا ..) الحديث.
والرافعي والمصنف أطلقا المسألة، وهي تقتضي أه لا فرق بين أن يكون غريم الغريم جاحدًا أم لا، ولا بين أن يكون ماله من جنس حقه أو لا؛ فإنه يجوز له نقب جداره وغيره، وهذا أمر لا يمكن لأقول به على الإطلاق، والرافعي إنما نقل هذا الفرع عن البغوي، والذي يقتضيه كلامه: التصوير بما إذا كان غريم الغريم مماطلًا لغريمه أو جاحدًا له ولا بينة، أما إذا كان مقرًا ولا شعور له بالحال .. فصرح القاضي حسين وإبراهيم المرور وذي بمنع ذلك، وهو المتعمد.
فرع:
لزيد على عمرو دينان، أحدهما ببينة وقد قبضه والبينة لا تعلم القبض، والأخر بغير بينة ولم يقبضه .. قال أبو سعد الهروي وشريح الروياني: له أن يدعي به ويقيم البينة بالدين المقبوض ويقبضه عن دينه الآخر، وصححه في زوائد (الروضة).
وقال القفال في (الفتاوى): ليس له ذلك.
قال: (والأظهر: أن المدعي: من يخالف قوله الظاهر) وهو براءة الذمة، ويقابل الظهر أنه من لو سكت .. خلي ولم يطالب بشيء.
والمدعي عليه: على الأول: من يوافق قوله الظاهر، وعلى الثاني: من لا يخلى إذا سكت، والقولان مستنبطان من مسألة اختلاف الزوجين في آنية المنزل، وقيل: منصوصان.
ولم يذكر الرافعي ولا المصنف هنا شرط المدعي والمدعى عليه؛ اكتفاء بذكره في
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: مَنْ يُوَافِقُهُ، فَإذَا أَسْلّمّ زّوْجَانِ قَبْلَ وَطْءٍ فَقَالَ: أَسْلَمْنَا مَعًا .. فَالنِّكَاحُ بَاقٍ، وَقَالَتْ: مُرَتَّبًا .. فَهُوَ مُدَّعٍ
ــ
أول (دعوى الدم والقسامة) حيث قال: (وإنما تسمع من مكلف ملتزم على مثله).
قال: (والمدعى عليه: من يوافقه) مثاله: ادعى زيد على عمرو عينًا أو دينًا فأنكر، فزيد: مدعٍ على القولين؛ لأنه لو سكت .. ترك، والظاهر براءة ذمة عمرو، وعمرو: مدعىً عليه عليهما؛ لأنه لا يخلى على سكوته، بل يطالب بالجواب، والظاهر معه، وإنما تظهر فائدتهما فيما ذكره المصنف.
قال: (فإذا أسلم زوجان قبل وطء فقال: أسلمنا معًا .. فالنكاح باق، وقالت: مرتبًا .. فهو مدع) فإن اتفاق إسلامهما دفعة خلاف الظاهر، وهي مدعىً عليها؛ لموافقة قولها الظاهر، فتصدق، فتصدق بيمنها، وعلى مقابلة: هي مدعية وهو مدعىً عليه؛ لأنه لا يترك إن سكت، فإنها تزعم انفساخ النكاح، فيحلف ويستمر، كذا في (الشرحين) و (الروضة) هنا.
وقال في (الصغير): سبقت المسألة في (النكاح)، والذي تقدم في الكتب الثلاثة على نكاح المشرك تصحيح أن القول قول الزوج، وهو مخالف لما رجحه هنا في حد المدعي والمدعى عليه.
وعكس مسألة الكتاب لو قال: أسلمت فبلي فلا نكاح ولا مهر، وقالت: معًا فهما باقيان .. فالقول قوله في الفرقة، وكذا في المهر إن قلنا: المدعى عليه من يوافق قوله الظاهر، وقولها إن قلنا: المدعي من لو سكت ترك، كذا قاله الرافعي، وهو مشكل؛ لأنها إن لم تكن قبضت المهر .. فهي مدعية على كلا القولين، وإن كانت قد قبضت .. فالزوج مدع به وهو مخلىً وسكوته، وهي مدعية إن قلنا: المدعي من يدعي خلاف الظاهر.
وقد يكون الشخص مدعيًا ومدعىً عليه في المنازعة الواحدة كما في صورة الاختلاف في العقود، وأما الأمناء المصدقون في الرد بأيمانهم .. فإنهم باليمين؛ لأنهم أثبتوا اليد لغرض المالك وقد ائتمنهم فلا يحسن تكليفهم بينة على الرد.
وَمَتَى ادَّعَى نَقْدًا .. اشْتُرِطَ بَيانُ جِنْسٍ وِنِوْعٍ وَنَوْعٍ وَقَدْرٍ وِصِحَّةٍ وَتَكْسِيرٍ إِنِ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا قِيمَةٌ،.
ــ
وعلم من ذلك: أن دعوى المدعي تسمع وإن كذبة ظاهر الحال، كما إذا ادعى ذمي استئجار أمير أو فقيه لعلف دوابه وكنس بيته، أو أنه أقرض السلطان مالًا، أو أنه زوجه ابنته، ومن عرف منه التعنت برفع ذوي الأقدار إلى مجالس القضاة واستحلافهم ليفتدوا منه بشيء، خلافًا للإصطخري فإنه قال: إذا شهدت قرائن الأحوال بكذب المدعي .. لم يلتفت إلى دعواه.
وعن مالك: لا تسمع دعوى الدنيء على الشريف إذا لم تعرف بينهما مخالطة أو معاملة.
قال: (ومتى ادعى نقدًا .. اشترط بيان جنس ونوع وقدر وصحة وتكسير إن اختلفت بهما قيمة) أشار بهذا إلى أن شرط الدعوى الصحيحة: أن تكون معلومة ملزمة، فالشرط الأول: العلم، فالمدعي به إن كان نقدًا .. اشترط ما ذكره المصنف، فيقول مثلًا: لي عليه مئة درهم فضة كالملية، ولا خلاف أنه لو ادعى بألف صحاح ومكسرة .. لا يصح.
وحكي الشيخان في (البيع) وجهًا: أنه يصح، وينبغي طرده في الدعوى، فلو لم تختلف الصحاح والمكسرة .. لم يحتج إلى ذكر ذلك.
نعم؛ يستثنى ما إذا كان من دين سلم .. فإنه لابد من التعرض له وإن لم تختلف القيمة، وكون الدراهم سوداء أو بيضاء من اختلاف النوع، وكذلك كون الدنانير مشرقية أو مغربية.
وجميع ما ذكره المصنف في النقد الخالص، أما المغشوش .. فيذكر قيمته من النقد الآخر، قال الشيخ أبو حامد وغيره: قال الرافعي- وكأنه جواب على أنها متقومة-: فإن قلنا: مثلية- وهو الأصح- فينبغي أن لا يشترط التعرض للقيمة، ومطلق الدينار ينصرف إلى الشرعي فلا حاجة إلى بيان وزنه.
أَوْ عَيْنًا تَنْضَبِطُ كَحَيَوانِ .. وَصَفَهَا بِصِشفَةِ السَّلَمِ- وَقِيلَ: يَجِبُ مَعَهَا ذِكْرُ الْقِيمَةِ، ......
ــ
قال: (أو عينًا تنضبط كحيوان .. وصفها بصفة السلم)؛ لحصول التمييز بذلك.
قال: (وقيل: يجب معها ذكر القيمة) احتياطًا، وكذلك الحبوب والثياب وغيرها مما يضبط بالصفة، وقد سبق في (السلم): أنه يصح في اللؤلؤ الصغار، فعلى هذا: يثبت في الذمة وتصح الدعوى بها.
واحتراز عما لا ينضبط بالصفة كالجواهر واليواقيت، فتعتبر القيمة فتقول: جواهر قيمته كذا.
وقوله: (معها) يقتضي: أن صفات السلم لا خلاف في اعتبارها، وهل يجب ذكر القيمة؟ فيه وجهان، وليس كذلك؛ فإن القائل بالقيمة لا يوجبها مع الصفات، بل يكتفي بها عنها كما بينه الرافعي في (باب القضاء على الغائب)، ولذلك لم يتعرض في (المحرر) لقوله:(معها)، فهي زيادة مضرة.
تنبيه:
سكت المصنف عن الشرط الثاني للدعوى، وهو أن تكون ملزمة، فلو قال: وهب لي كذا أو باع .. لم تسمع دعواه حتى يقول: ويلزمه التسليم إلي؛ لأنه قد يهب ويبيع ويبطل ذلك قبل القبض، ولا يشترط أن يقول: هي في يده؛ لأنه يجوز أن ينازعه ولو لم يكن في يده.
وإذا ادعى ولم يقل للقاضي: مره بالخروج عن حقي، أو سله جواب دعواه .. طالبه القاضي بذلك على أقوى الوجهين عند المصنف، وقيل: لا يطالبه بذلك، فعلى هذا: طلب الجواب شرط آخر في صحة الدعوى.
فرع:
إذا ادعى دارًا .. اشتراط تعيينها، فيذكر بلدها والمحلة والسكة، وأنها أول دار أو غيرها، وعن يمين الداخل أو يساره، ولا يشترط ذكر فيمتها على الأصح، ولا يكفي
فَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ مُتَقَوَّمَةٌ .. وَجَبَ ذِكْرُ الْقِيمَةِ- أَوْ نِكَاحًا .. لَمْ يَكْفِ الإطْلَاقُ فِي الَصَحِّ، بَلْ يَقُولُ:(نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرِضَاهَا) إِنْ كَانَ يُشْتَرَطُ،
ــ
ذكر ثلاثة حدود دون الرابع، كذا قاله الرافعي هنا، وقدم في (باب الصول والثمار) فيما إذا باع دارًا وذكر لها ثلاثة حدود وجهين ينبغي طردهما هنا.
وقال القاضي حسين: ذكر الحدود الربعة ليس بشرط حتى لو علمت بحد أو حدين .. كفى.
وتقدم في (القضاء على الغائب): أن محل هذا في الدار المجهولة عند الحاكم، أما المشهورة باسم لا يشاركها فيه غيرها في البلد كدار الندوة بمكة .. فإنه يميزها باسمها، قاله الماوردي، وقال: يقول في الدعوى بالدار: لي في يده، ولا يقول: لي عنده ولا عليه، وفي العبد والدابة يجوز (لي عنده) وفي (لي عليه) خلاف.
قال: (فإن تلفت وهي متقومة .. وجب ذكر القيمة)؛ لأنها الواجبة عند التلف.
فإذا ادعى سيفًا محلىً .. ذكره وقيمته بالذهب إن كانت حليته فضة، وبالفضة إن كانت حليته ذهبًا، قال الصحاب: لا تصح الدعوى بالمجهول إلا في الوصية على الأصح؛ لأنها لو لم تسمع .. لأدى إلى ضياعها غالبًا؛ فإن الدعوى بها إنما تكون عند منازعة الورثة، وفي هذه الحالة يبعد اطلاعه عليها، وكذلك تسمع دعوى الإقرار بالمجهول على الأصح، كما يصح اقرار به، ودعوى الإبراء من المجهول صحيحة إن صححناه، وكذلك دعوى الطريق في ملك الغير وحق أجراء الماء.
كل هذا في المطلوب المعين، أما من حضر لطلب ما يعنيه القاضي له كالمفوضة إذا طلبت الفرض والواهب يطلب الثواب- على قولنا: إن الهبة تقتضيه- والرضخ والمتعة والحكومة .. فلا يتصور فيها إعلام.
قال: (أو نكاحًا .. لم يكف الإطلاق في الأصح، بل يقول: (نكحتها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها) إن كان يشترط)؛ لأن النكاح فيه حق لله ولآدمي، وإذا وقع .. لا يمكن استدراكه، فلا تسمع دعواه إلا مفصلة كالقتل.
فَإِنْ كَاَنَتْ أَمَةً .. فَالأَصَحُّ: وُجُوبُ ذِكْرِ الْعَجْزِ عَنْ طَوْلٍ وَخَوْفِ عَنَتٍ،
ــ
والثاني: يكفي الإطلاق ويكون التعرض لذلك مستحبًا، كما اكتفي به في دعوى استحقاق المال؛ فإنه لا يشترط فيه ذكر السبب بلا خلاف، ولأنه ينصرف إلى النكاح الشرعي وهو ما وجدت فيه الشرائط.
والثالث: إن ادعى دوام النكاح .. كفى الإطلاق، أو ابتداءه .. فلا؛ لأن ذلك شرط في الابتداء لا في الدوام.
وعبارته تقتضي اشتراط وصف الولي بالرشد والشاهدين بالعدالة، وهو الأصح، وقيل: لايشترط.
قال الرافعي: وقياس الأول وجوب التعرض لسائر الصفات المعتبرة في الولي، والصحيح: أنه لا يجب التعرض؛ لعدم الموانع كالعدة والردة والرضاع والإحرام بلا خلاف؛ لأن الأصل عدمها، ولأنه يعسر عدها.
هذا إذا ادعى أنه نكحها، فإن ادعى أنها امرأته .. لم يحتج إلى وصف العقد؛ لأنه يدعى ملك البضع لا النكاح، قاله ابن أبي هريرة في (تعليقه).
وإذا ادعت المرأة النكاح حيث تسمع .. فاشتراط التفصيل وعدمه كاشتراطه في دعوى الزوج.
قال: (فإن كانت أمة .. فالأصح: وجوب ذكر العجز عن طول وخوف عنت)؛ لأن الفروج يحتاط لها كالدماء.
والثاني: المنع، كما لا يشترط انتفاء الموانع.
فرع:
تصح دعوى النكاح من الزوج على الأب أو الجد إذا كانت الزوجة بكرًا بلا خلاف، فإن أقر .. فذاك، وإن أنكر .. حلف، فإن نكل .. حلف الزوج وسلمت إليه.
فرع:
تحته امرأه ادعى شخص زوجيتها .. فالصحيح: أن هذه الدعوى عليها لا على
أَوْ عَقْدًا مَالِيًّا كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَهِبَةٍ .. كَفَى الإِطْلَاقُ فِي الأَصَحِّ. وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ .. لَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي، فَإِنِ ادَّعَى أَدَاءً أَوْ إِبْرَاءً أَوْ شِرَاءَ عَيْنٍ أَوْ هِبَتَهَا أَوْ إِقْبَاضَهَا .. حَلَّفَهُ عَلَى نَفْيِهِ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَى عِلْمَهُ بِفِسْقِ شَاهِدِهِ أَوْ كَذِبِهِ فِي الأَصَحِّ،
ــ
الزوج؛ لأنها لا تدخل تحت يده، فلو أقام كل منهما بينة .. لم تقدم بينة من هي تحت يده، بل هما كائنين أقاما بينتين على نكاح خلية، فينظر، إن أطلقتا أو أرختا بتاريخ واحد .. فمتعارضتان، ولا قسمة هنا ولا قرعة، وإن اختلف تاريخهما .. قدمت السابقة، بخلاف نظيرها من المال على قول؛ لأن الانتقال فيه غالب دون النكاح.
قال: (أو عقدًا ماليًا كبيع وإجازة وهبة .. كفى الإطلاق في الأصح)؛ لأنه أخف حكمًا من النكاح، ولهذا: لا يشترط فيه الإشهاد.
والثاني: يشترط فيقول: تبايعنا بثمن معلوم ونحن جائزا التصرف، وتفرقنا عن تراض.
والثالث: إن تعلق العقد بجارية .. وجب احتياطًا للبضع، واختاره الشيخ عز الدين في (القواعد).
قال: (ومن قامت عليه بينة .. ليس له تحليف المدعى) أي: على استحقاق ما ادعاه؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، ولم يوجب اليمين إلا على من أنكر ولا بينة.
قال: (فإن ادعى أداء أو إبراء أو شراء عين أو هبتها أو إقباضها .. حلفه على نفيه)؛ لاحتمال مايدعيه، وهذا إذا ادعى حدوث شيء من ذلك بعد قيام البينة ومضى زمن إمكانه، وإلا .. فلا يلتفت إلى قوله.
نعم؛ يرد على قوله: (ادعى أداء) ما سيأتي قبيل قوله: (واليمين تفيد قطع الخصومة) أنه إذا قال الأجير للحج: قد حججت .. قبل قوله، ولا تلزمه بينة ولا يمين.
قال: (وكذا إذا ادعى علمه بفسق شاهده أو كذبه في الأصح) فله تحليفه؛ لأنه لو أقر له به .. لبطلت الشهادة.
وَإِذَا اسْتَمْهَلَ لِيَاتِيَ بِدَافِعٍ .. أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أّيَّامٍ، وَلَوِ ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ فَقَالَ: أَنَا حُرٌّ .. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ،
ــ
والثاني: لا؛ لأنه لم يدَّعِ عليه حقًا، وإنما ادعى عليه أمرًا لو ثبت .. نفعه، وهما جاريان فيما لو ادعى القاذف على المقذوف أنه زنى، وجواب الأكثرين فيها السماع، وفيما إذا توجهت على شخص يمين فقال: قد حلفني مرة أخرى، لكن لا تسمع الدعوى على القاضي والشاهد بالكذب، ولا يتوجه عليهما الحلف قطعًا وإن كان ينتفع بذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى فساد عام كما سيأتي.
قال: (وإذا استمهل ليأتي بدافع .. أمهل ثلاثة أيام)؛ لأنها مدة قريبة لا يعظم فيها الضرر، ومقيم البينة قد يحتاج إلى مثلها للفحص عن الشهود، وقيل: يومًا فقط؛ لأنه قد يكون متعنتًا، ويشبه أن يرجع في ذلك إلى نظر القاضي واجتهاده، وظاهر عبارته وجوب الإمهال.
وذكر الرافعي في الباب الثاني من (الكتابة): أن العبد إذا ادعى الأداء وأنكر السيد وأراد العبد إقامة البينة .. أمهل ثلاثة أيام، قال: وهل ذلك واجب أو مستحب؟ وجهان.
قال: (ولو ادعى رق بالغ) عاقل؛ أي: مجهول النسب (فقال: أنا حر .. فالقول قوله)؛ لأن الأصل الحرية فدعواه موافقة لها، هذا إذا قال: أنا حر الأصل، فلو قال: أعتقتني أو أعتقني الذي باعني منك .. لم يقبل منه إلا ببينة، وإذا قلنا: القول قوله في ادعاء الحرية الأصلية .. فلا فرق في ذلك بين أن يكون المدعي استخدمه وتسلط عليه قبل ذلك أو لا، وسواء جرى عليه البيع مرارًا وتداولته الأيدي أم لا.
فرع:
أقام المدعي بينة برقه، وأقام هو بينة أنه حر الأصل .. أطلق البغوي وغيره أن بينة الرق أولى؛ لأن معها زيادة علم وهو إثبات الرق، وحكى الهروي عن الأصحاب أن بينة الحرية أولى، خلافًا لابن سريج، وكذا قاله شريح في (روضة الأحكام).
أَوْ رِقَّ صَغِيرٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ .. لَمْ يُقْبَلْ إِلَاّ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ فِي يَدِهِ .. حُكِمَ لَهُ بِهِ إِنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْتِنَادَهَا إِلَى الْتِقَاطٍ، فَلَوْ أَنْكَرَ الصَّغِيرُ وَهُوَ مُمَيِّزٌ .. فَإِنْكارُهُ لَغْوٌ، وَقِيلَ: كالبَالِغِ، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الأَصَحِّ
ــ
فرع:
قال القفال: لا تجوز الشهادة لغريب بأنه حر الأصل، وإنما تجوز إذا عرف حال أبيه وأمه والنكاح وحدوثه بينهما وإن لم يشاهد الولادة، كما تجوز بالبينة.
قال: (أو رق صغير ليس في يده .. لم يقبل إلا ببينة)؛ لأن الأصل عدم الملك، والظاهر: أن المجنون البالغ كالصغير.
قال: (أو في يده .. حكم له به إن لم يعرف استنادها إلى التقاط) كما لو ادعى الملك في دابة أو ثوب في يده.
وحكى الدارمي وجهًا: أنه لا تقبل دعواه حتى يبين سببه كاللقيط يدعي رقه، وحيث حكمنا به .. فلا بد أن يحلف؛ لخطر شأن الحرية على المنصوص، وهذه المسألة تقدمت في الكتاب في (باب اللقيط).
قال: (فلو أنكر الصغير وهو مميز .. فإنكاره لغو) كما لو كان غير مميز؛ إذ لا عبرة بقوله.
قال: (وقيل: كالبالغ)؛ لأنه يعرب عن نفسه، وله كلام معتبر، فيحتاج مدعي الرق إلى بينة، فإن حكمنا له برقه في الصغر فبلغ وأنكر الرق .. فالأصح: استمرار الرق حتى تقوم ببينة بخلافه.
قال: (ولا تسمع دعوى دين مؤجل في الأصح)؛ لأنه لا يتعلق بها إلزام ومطالبة في الحال فيفوت نظام الدعوى.
والثاني: تسمع ليثبت في الحال ويطالب به في المستقبل، فقد يموت من عليه فيتعجل الطلب.
والثالث: تسمع إن كان له بينة ليسجل فيأمن غيبتها وموتها، وإلا .. فلا، ولم يصرح في (الشرح الصغير) ولا في (المحرر) بترجيح، إنما قال: رجح المنع،
فَصْلٌ:
أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى .. جُعِلَ كَمُنْكِرٍ نَاكِلٍ،
ــ
وذكر في (الكبير) أنه الجواب في (فتاوي القفال)، وجزم في متن (الروضة) بأنه الأصح، والأقرب إلى نص الشافعي الوجه المفصل.
تتمة:
هذا إذا كان الدين كله مؤجلًا، فلو كان بعضه حالًا وبعضه مؤجلًا .. صحيت الدعوى به، فيدعي بجميعه؛ لاستحقاق المطالبة بالبعض، ويكون المؤجل باقيًا، كذا صرح به الماوردي، ثم استثنى صورة ثانية وهي المؤجل إذا وجب بعقد، كالمسلم فيه إذا ادعى به صاحبه قاصدًا بدعواه تصحيح العقد .. فإن الدعوى تصح؛ لأن المقصود منه مستحق في الحال، ونازعه في ذلك ابن أبي الدم.
قال: (فصل:
أصر المدعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى .. جعل كمنكر ناكل) فترد اليمين على المدعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق، رواه الحاكم عن ابن عمر وقال: صحيح الإسناد، وخرجه الدارقطني] 4/ 157 [بإسناد فيه مجاهيل، وروى الشافعي في (المختصر) عن عمر أنه قضى بذلك، ولأن النكول كما يحتمل أن يكون تحرزًا عن اليمين الكاذبة يحتمل أن يكون تورعًا عن اليمين الصادقة، فلا يقضي به مع التردد والاحتمال.
وعند أبي حنيفة وأحمد: يقضي على المدعى عليه بنكوله.
و (الناكل) عن الشيء: الممتنع منه، يقال: نكل عن الشيء بفتح الكاف على المشهور ينكل بالضم نكولًا.
ولو لم يعرف المدعي تحويل اليمين إليه بنكول المدعى عليه .. عرفه القاضي، وبين أنه إن حلف .. استحق، وإنما يحصل النكول بأن يعرض القاضي اليمين عليه فيمتنع.
وإمساك الأخرس المفهم الإشارة عن الجواب كسكوت الناطق، ومن لايفهم لا تسمع الدعوى عليه.
فَإِنِ ادَّعَى عَشَرَةً فَقَالَ: لَا تَلْزَمُنيِ الْعَشَرَةُ .. لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَقُولَ: وَلَا بَعْضُهَا، وَكَذَا يَحْلِفُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْي الْعَشَرَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيهِ .. فَنَاكِلٌ، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى اسْتِحْقَاقِ دُونِ الْعَشَرَةِ بِجُزْءٍ وَيَاخُذُهُ. وَإِذَا ادَّعَى مَالًا مُضَافًا إِلَى سَبَبٍ كَأَقْرَضْتُكَ كَذَا .. كَفَاهُ فِي الْجَوَابِ: لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا،
ــ
وقوله: لي عن هذه الدعوى مخرج، ليس بإقرار؛ لاحتمال الخروج بالنكول، قال القاضي أبو سعيد: وكذا لو قال: لك علي أكثر مما ادعيت، أو قال: الحق أحق أن يؤدى .. لم يكن إقرارًا؛ لأن المعنى حيث يكون حقًا، فأما أنا .. فبريء.
قال: (فإن ادعى عشرة فقال: لاتلزمني العشرة .. لم يكف حتى يقول: ولابعضها، وكذا يحلف) أى إن حلف؛ لأن مدعي العشرة مدع لكل جزء منها، ولا بد أن يطابق الإنكار واليمين دعواه.
وعن القاضي حسين: أنه لا يكلف في الإنكار بقول: ولاشيء منها، وإنما يكلف ذلك في اليمين.
قال: (فإن حلف على نفي العشرة واقتصر عليه .. فناكل) أى: فيما دونها، (فيحلف المدعي على استحقاق دون العشرة بجزء ويأخذه)؛ لأن ذلك طريق لأخذ حقه.
فرع:
ادعى عليه ألفًا فقال: لا أحلف وأعطي المال .. لا يجب على المدعي قبوله من غير إقرار، وله تحليفه؛ لأنه لا يأمن أن يدعى عليه بما دفعه إليه بعد هذا، وكذلك لو نكل عن اليمين وأراد المدعي أن يحلف يمين الرد فقال المدعى عليه: أنا أبذل المال بلا يمين .. له أن يحلف، ويقول له الحاكم: إما أن تقر بالحق أو يحلف المدعي بعد نكولك، قاله البغوي والمروروذي وغيرهما.
قال: (وإذا ادعى مالًا مضافًا إلى سبب كأقرضتك كذا .. كفاه في الجواب: لا تستحق علي شيئًا)؛ لأن المدعي قد يكون صادقًا في الإقراض وعرض ما يقتضي إسقاطه من أداء أو إبراء، فلو نفى السبب .. كذب، أو اعترف به وادعى المسقط ..
أَوْ شُفْعَةً .. كَفَاهُ: لَا تَسْتَحِقُ عَلَيَّ شَيْئًا، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ الشِّقْصِ، وَيَحْلِفُ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِ هَذَا، فَإِنْ أَجَابَ بِنَفْيِ السَّبَبِ الَمَذْكُورِ .. حَلَفَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَهُ الْحَلِفُ بِالنَّفْيِ الْمُطْلَقِ،
ــ
طولب ببينة، وقد يعجز عنها فيقبل الإطلاق للضرورة.
قال: (أو شفعة .. كفاه: لا تستحق علي شيئا، أو لا تستحق تسليم الشقص)، وكذا إذا قال: غصبت عبدي فتلف عندك، أو مزقت ثوبي وأنا مطالك بالبدل، أو بعتك داري وأطلب الثمن؛ لأن المدعي قد يكون صادقا فى البيع والشراء والغصب والتمزيق وعرض ما يسقط الحق كما تقدم، فاقتضت الحاجة قبول الجواب المطلق، لكن يستنثى من إطلاقه ما إذا ادعى عليه وديعة .. فلا يكفي في الجواب: لا يلزمني تسليم شيء إليك؛ لأن المودع لا دفع عليه، أو يقول: هلكت في يدي، أو رددتها، حكاه الرافعي في ىخر (الدعاوى) عم أبي عاصم العبادي وبحث فيه.
قال المصنف في زوائده: (قلت: الذي قاله ابن القاص صحيح) وتعبيره بابن القاص سبق قلم.
قال: (ويحلف على حسب جوابه هذا) فإن أجاب بالإطلاق .. حلف كذلك، ولم يكلف التعرض لنفي السبب، وإن تعرض لنفيه في اليمين .. جاز.
قال: (فإن أجاب بنفي السبب المذكور. حلف عليه)؛ لتحصل المطابقة بين اليمين والإنكار (وقيل: له الحلف بالنفي المطلق) كما له أن يجيب به في الابتداء.
فرع: تقدم في (باب الإقرار) أنه لو ادعى عليه شخص مئة فقال: قبضت خمسين .. لم يكن مقرا بالمئة، وكذا لو قال: قضيت منها خمسين، كذا في (الروضة)، وفيه نظر، وجزم في (التنبيه) بأنه لو قال: قضيته .. كان إقرارا بالحق، وأقره عليه في (التصحيح).
وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَرْهُونٌ أَوْ مُكْرَيّ وَادَّعَاهُ مَالِكُهُ .. كَفَاهُ: لَا يَلْزَمُنِي تَسَلِيمُهُ، فَلَوِ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ وَادَّعَى الرَّهْنَ أَوِ الإِجَارَةَ .. فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلَاّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَخَافَ أَوَّلًا إِنِ اعْتَرَفَ بِالمِلْكِ جَحْدَهُ الرَّهْنَ وَالإِجَارَةَ .. فَحِيلَتُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ ادَّعَيْتَ مِلْكًا مُطْلَقًا .. فَلَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُهُ، وَإِنْ ادَّعَيْتَ مَرْهُوناَ .. فَاذْكُرْهُ لِأُجِيبَ،
ــ
قال: (ولو كان بيده مرهون أو مكرى وادعاه مالكه .. كفاه: لا يلزمني تسليمه)؛ لأنه جواب صحيح ولا يجب التعرض للملك.
قال: (فلو اعترف بالملك وادعى الرهن أو الإجارة) أي: وكذبه المدعي (فالصحيح: أنه لا يقبل إلا ببينة)؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه.
والثاني: القول لقوله؛ لأن اليد تصدقه في ذلك.
قال: (فإن عجز عنها وخاف أولًا إن اعترف بالملك جحده الرهن والإجارة .. فحيلته أن يقول: إن) كنت (ادعيت ملكًا مطلقًا .. فلا يلزمني تسليمه، وإن ادعيت مرهونًا .. فاذكره لأجيب) هذه الكيفية ذكرها القفال.
قال القاضي حسين: لا يسمع الجواب مع التردد، بل حيلته أن يجحد ملكه إن جحد صاحب الدين والرهن أخذا من الظفر بغير جنس الحق.
وعلى عكسه: لو ادعى المرتهن وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين .. فعلى المجزوم به في الكتاب: يفصل فيقول: إن ادعيت ألفًا لي عندك بها كذا رهنا .. فاذكره حتى أجيب، وإن ادعيت ألفًا مطلقًا .. فلا يلزمني.
وعلى الثاني: صارت العين مضمونة عليه بالجحود، فلمن عليه الدين أن يجحده ويجعل هذا بذاك بشرط التساوي.
فرع:
ادعت على رجل ألفًا صداقًا .. يكفيه أن يقول: لا يلزمني تسليم شيء إليها.
قيل للقفال: هل للقاضي أن يقول: هل هي زوجتك؟ فقال: ما للقاضي ولهذا
وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَيْنًا فَقَال: َ لَيْسَ هِيَ لِي، أَوْ هِيَ لِرَجُلٍ لَا أَعْرِفُهُ، أَوْ لاِبْنِي الطِّفْلِ، أَوْ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ مَسْجِدِ كَذَا .. فَالأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا تَنْصَرِفُ الخُصُومَةُ وَلَا تُنْزَعُ مِنْهُ، بَلْ يُحَلِّفُهُ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ
ــ
السؤال، لكن لو سأل فقال: نعم .. قضى عليه بمهر المثل، إلا أن يقيم البينة أنه نكحها بكذا فلا يلزمه أكثر منه.
قال: (وإذا ادعى عليه عينا فقال: ليس هي لي، أو هي لرجل لا أعرفه، أو لابني الطفل، أو وقف على الفقراء، أو مسجد كذا .. فالأصح: أنه لا تنصرف الخصومة ولا تنزع منه، بل يحلفه المدعي أنه لا يلزمه التسليم إن لم تكن بينة) أما إذا اقتصر على قوله: (ليس هو لي) أو (هو لرجل لا أعرفه) .. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: يسلم المال إلى المدعي؛ إذ لا مزاحم.
والثاني: تصرف الخصومة عنه؛ لأنه تبرأ من المدعي، وينزع الحاكم المال من يده، فإن أقام المدعي بينة على الاستحقاق .. أخذه، وإلا .. حفظه إلى أن يظهر مالكه.
والثالث: الأصح- كما قال المصنف-: لا تنصرف الخصومة ولا ينزع المال من يده، لأن الظاهر أن ما في يده ملكه، وما صدر عنه ليس بمزيل، ولا يظهر لغيره استحقاقه.
ولو قال في الجواب: نصفه لي ونصفه لآخر .. ففي النصف الآخر الأوجه الثلاثة.
وأما إذا أضافه إلى معلوم .. فالمضاف إليه ضربان:
أحدهما: أن تمتنع مختاصمته وتحليفه، كما إذا قال: هو وقف على الفقراءـ، أو على المسجد الفلاني، أو على ابني الطفل .. ففي هذه قطع الغزالي والشيخ أبو الفرج بأن الخصومة تنصرف، ولا سبيل إلى تحليف الولي ولا الطفل، وقال البغوي: لا تسقط الدعوى بهذا، فإن أقام بينة .. أخذه، وإلا .. حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمه إذا كان هو قيم الطفل.
والثاني: أشار إليه المصنف حيث قال:
وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِمُعَيَّنٍ حَاضِرٍ يُمْكِنُ مُخَاصَمَتُهُ وَتَحْلِيُفُهُ .. سُئِلَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ .. صَارَتِ الخُصُومَةُ مَعَهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ .. تُرِكَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَقِيلَ: يُسَلَّمُ إِلَى يَدِ الْمُدَّعِي، وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ الْحَاكِمُ لِظُهُورِ مَالِكٍ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِغَائِبٍ .. فَالأَصَحُّ: انْصِرَافُ الْخُصُومَةِ عَنْهُ، وَيُوقَفُ الأَمْرُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ .. قَضَى بِهَا، وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ، فَيَحْلِفُ مَعَهَا، وَقِيلَ: عَلَى حَاضِرٍ،
ــ
(وإن أقر به لمعين حاضر يمكن مخاصمته وتحليفه .. سئل، فإن صدقه .. صارت الخصومة معه)؛ لأنه المجيب عن ذلك.
قال: (وإن كذبه .. ترك في يد المقر)؛ لأنا لم نعرف مالكه، والمقر أولى بحفظه؛ فإن يده تشعر بالملك ظاهرا، والإقرار الطارئ عارضه إنكار المقر له فسقط.
قال: (وقيل: يسلم إلى يد المدعي، وقيل: يحفظه الحاكم لظهور مالك) هذه الأقوال تقدمت في (الإقرار) و (الشفعة) وفي (النكاح) فيما إذا ادعى كل من الزوجين سبق النكاح.
قال: (وإن أقر به لغائب .. فالأصح: انصراف الخصومة عنه، ويوقف الأمر حتى يقدم الغائب)؛ لأن المال بظاهر الإقرار لغيره.
والثاني- وهو ظاهر نص (المختصر)، وبه قال أبو حنيفة-: لا ينصرف؛ لأن المال في يده، والظاهر: أنه له، فلا يمكن منصرف الخصومة عنه بالإضافة إلى غائب قد يرجع وقد لا يرجع.
ويخالف ما إذا أضاف إلى صبي أو مجنون، فإن هناك تمكن مخاصمة وليه.
قال: (فإن كان للمدعي بينة .. قضى بها) أي: وسلمت له العين (وهو قضاء على غائب، فيحلف معها) كما تقدم في بابه.
قال: (وقيل: على حاضر) فلا يحلف معها، وإن لم تكن بينة .. فله تحليف المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمه إليه، فإن نكل .. حلف المدعي وأخذ المال من يده.
وَمَا قُبِلَ إِقْرَارُ عَبْدٍ بِهِ كَعُقُوبَةٍ .. فَالدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَمَا لَا كَأَرْشٍ .. فَعَلَى السَّيِّدِ
ــ
ثم إذا عاد الغائب وصدق المقر .. رد المال عليه بلا حجة؛ لأن اليد له بإقرار صاحب اليد، والمصنف تبع في ترجيح الأول قول الرافعي: إنه أقوى مع النص، وهو في ذلك تابع لاختيار الإمام، والصواب: ترجيح الثاني؛ فإنه المنصوص في (الأم) و (المختصر).
قال في (البحر): ولا معنى للوجهين مع النص، وهو الذي رجحه العراقيون، ومال إليه الماوردي وغيره.
ومحل الوجهين إذا لم تكن مع صاحب اليد بينة تشهد بالملك للغائب، فإن كانت .. سمعت، وحكم بأنها للغائب في الظاهر، ويكون القضاء عليه وجها واحدا، ويحتاج المدعي أن يحلف مع البينة ههنا بلا خلاف.
قال: (وما قبل إقرار عبد ربه كعقوبة) أي: من حدأو قصاص (.. فالدعوى عليه، وعليه الجواب) أي: الجواب المطلوب منه قطعا؛ لأن أثر ذلك يعود عليه.
ومحل الوجهين إذا لم تكن مع صاحب اليد بينة تشهد بالملك الغائب، فإن كانت .. سمعت، وحكم بأنها للغائب في الظاهر، ويكون القضاء عليه وجها واحدا، ويحتاج المدعي أن يحلف مع البينة ههنا بلا خلاف.
قال: (وما قبل إقرار عبد به كعقوبة) أي: من حد أو قصاص (.. فالدعوى عليه، وعليه الجواب) أي: الجواب المطلوب منه قطعا؛ لأن أثر ذلك يعود عليه.
وشمل قوله: (كعقوبة) التعزير لحق الدمي، وأما حدود الله تعالى .. فلا دعوى فيها.
قال: (وما لا) أي: وما لا يقبل فيه (كأرش) وكذلك ضمان المتلفات (.. فعلى السيد) فيتوجه فيه عليه؛ لأن الرقبة التي هي متعلقها حقه، فلو وجهت هنا على العبد .. فوجهان: اختار الإمام والغزالي المنع، والمقطوع به في (المهذب) السماع إن كان للمدعي بينة، أو لم تكن قلنا: المردودة كالبينة، وإلا .. فلا.
قال الرافعي: وفي كل منهما إشكال، قال: والمتوجه أن يقال: تسمع لإثبات الأردش في ذمته لا لتعلقه برقيته، لكن يرد على المصنف أنه قد يدعى على العبد بما لا يقبل إقراره يه، وذلك في دعوى القتل خطأ أو شبه عمد في محل اللوث، فإنها تكون على العبد، ولا يقبل إقراره به؛ لأن الولي يقسم وتتعلق الدية برقبة العبد، صرح به الرافعي في الشرط الرابع في (كتاب القسامة)
فَصْلٌ:
تُغَلَّظُ يَمِينُ مُدَّعٍ وَمُدَّعىً عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِمَال وَلَا يُقْصَدُ بِهِ مَالٌ، وَفِي مَالٍ يَبْلُغُ نِصَابَ زَكَاةٍ،
ــ
وفهم من كلام المصنف أن الدعوى على الماذون له في التجارة فيما يتعلق بها تكون عليه، وهو كذلك.
تتمة:
في (فتاوى القاضي حسين): لو ادعى نكاح مكاتبة- وصححناه- فالدعوى عليها وعلى السيد جميعا؛ لأن لا بد من اجتماعهما على التزويج، فلو أقر السيد وأنكرت .. حلفت، فإن نكلت وحلف المدعي .. حكم بالزوجية، ولو أقرت وأنكر السيد .. حلف السيد، فإن نكل .. حلف المدعي وحكم له بالنكاح، ويأتي مثل هذا في المبعضة.
قال: (فصل:
تغلظ يمين مدع ومدعى عليه فيما ليس بمال ولا يقصد به مال) كدعوى النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء واللعان والنسب والعتق والولادة والوكالة والشركة والقراض والوصاية والرضاع وعيوب النساء.
وضابطه: كل ما لا يثبت إلا بشاهدين؛ لأن اليمين موضوعة للزجر عن التعدي فيشرع فيها التغليظ مبالغة وتأكيدا للردع، فاختص بما هو متاكد في نظر الشرع.
وتوقف الإمام في الوكالة وقال: التغليظ أن يكون فيما يعظم خطره، والوكالة في درهم لا تزيد على مالك الدرهم، فلا يبعد منع التغليظ فيها، ولكن إطلاق الأصحاب ما قدمناه، والذي قاله ظاهر.
قال: (وفي مال يبلغ نصاب زكاة)؛ لما تقدم (اللعان): أن عبد الرجمن بن عوف رأى قوما يحلفون بين البيت والمقام فقال: (أعلى دم؟ قالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس
وَسَبَقَ بَيَانُ التَّغْلِيظِ فِي اللِّعَانِ،
ــ
بهذا البيت- أي: ما يأنسوا به- فتذهب هيبته) فهذا يدل على أن التغليظ في الدماء والخطير من الأموال كان معروفا عندهم، فألحق بهما ما في معناهما.
وخالف الإقرار حيث قبل في تفسير العظيم فيه أقلل ما يتمول؛ فإن الأصل فيه براءة الذمة.
والتييد بالنصاب يفهم أن ما دونه لا تغليظ فيه، وهو كذلك، لكن استثنى الشيخان من ذلك تبعا للبغوي أن القاضي إذا رأى من الحالف جرأة ورأى التغليظ .. جاز، وحكاه ابن الرفعة عن القاضي حسين.
واقتضى كلامه: أن المشهور خلافه، والمشهور: أن النصاب هنا تحديد، وفي الترغيب في كونه تقريبا أو تحديدا قولان.
والمراد: نصاب الزكاة عينا أو قيمة، وهو عشرون دينارا، أو مئتا درهم خالصا، أو ما بلغت قيمته نصابا بأحدهما، فإن لم يبلغ ذلك .. فلا.
وفي وجه شاذ: أن المعتبر نصاب زكاة ما كان، ويلزم منه التغليظ في خمسة أوسق شعيرا وذرة ونحوها تساوي ثلاثين درهما، وهذا الوجه مع شذوذه ظاهر عبارة المصنف، وهو غير مراد.
وفي ثالث: أن المعتبر النصاب الخالص من الذهب المطبوع من النقد الغالب بالبلد أو قيمته، قاله الماوردي.
وعن مالك: تغلظ في نصاب السرقة، وفي وجه غريب: تغلظ في المال الواجب بالجناية عمدا أو خطأ وإن قل.
وعن ابن جرير: التغلظ يجري في قليل المال وكثيره، ووهم صاحب (البيان) في نسبته إلى ابن خيران.
قال: (وسبق بيان التغليظ في اللعان) أي: بالزمان والمكان، وتقدم هناك أنه مستحب لا واجب، لكن هناك التغليظ يكون بحضور جمع ولم يذكروه هنا، قاله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الرافعي، ويشبه مجيئه في يمين تتعلق بإثبات حق أو دفعه كاللعان.
قال المصنف: الصواب القطع بعدم اعبتاره هنا، ومن به مرض أو زمانة لا تغليظ عليه في المكان؛ لعذره، وكذا الحائض؛ إذ لا يمكنها اللبث في المسجد، كذا قاله الرافعي، ونازعه في (المهمات).
ويكون التغليظ أيضًا بزيادة الأسماء والصفات كقوله: والله الذى لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أو يقول: بالله الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم السر
وأخفى؛ لأن القصد الإتيان بغير ما ألفه الناس من أيمانهم؛ ليكون أردع عن اليمين الفاجرة.
فإن كان يهوديًا .. فقد تقدم أنه يحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق، وإن كان نصرانيًا .. حلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان مجوسيًا حلف بالله الذي خلقه وصوره، وإن اقتصر على الاسم وحده .. جاز.
فرع:
قال المأوردي والروياني: لا يجوز أن يحلف أحد بطلاق أو عتاق أو نذر؛ لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة والتزام غرم، وهو مستبدع، وقد قال الشاعر] من الطويل [:
رأيت كليبًا أحدثت في قضائها
…
طلاق نساء لم يسوقوا لها مهرًا
قال الشافعي رضي الله عنه: ومتى بلغ الإمام أن حاكمًا يستحلف الناس بالطلاق أو العتاق ..
عزله عن الحكم؛ لأنه جاهل.
وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا من أهل العلم يرى الاستحلاف بذلك.
ثم التغليظ يكون بطلب الخصم، والأصح: أن للقاضي أن يغلط وإن لم يطلبه الخصم كما صححه في (الشرح الصغير)، واستحسن بعضهم أن يحلف قائمًا في جميع الأيمان كما في (اللعان)، ذكره ابن الصباغ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فروع:
من أنواع التغليظ: أن يجعل المصحف في حجر الحالف حالة حلفه، ويضع يده عليه، قال الشافعي: وكان ابن الزبير ومطرف قاضي صنعاء يحلفان به، واستحسن الشافعي مع ذلك أن يقرأ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية. واستحب بعضهم قراءة قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف يمينًا فاجرة ليقتطع بها مال امرىءٍ مسلم .. لقي الله وهو عليه غضبان).
قال القاضي: ويكسر على اليهودى سبته ويخرج للتحليف والدعوى، وإذا غلظ القاضي عليه بلفظ فامتنع واقتصر على اسم الله .. فالأصح: أنه يكون بذلك ناكلًا؛ لأنه ليس له رد اجتهاد القاضي.
ولو قال له الحاكم: قل والله، فقال: والرحمن .. كان ناكلًا قطعًا، ولو قال: قل والله أو بالله، فقال: تالله .. ففي جعله ناكلًا وجهان، وسواء الرجال والنساء والعبيد والإماء والمدعي والمدعى عليه في اليمين المردودة واليمين مع الشاهد في التغليظ إذا كانوا مسلمين، والأصح: أن المخدرة تخرج للتغليظ، وتحلف متنقبة.
وقال الماوردى: لايجوز أن ينقل مستحلف من بلد ليغلظ يمينه بمكة أو المدينة، فإن قيل: فكيف كتب الصديق إلى المهاجر بن أبي أمية أخي أو سلمة أن يرسل إليه قيس بن مكشوح في وثاق من اليمن إلى المدينة حتى يحلفه بها؟ ونقل عمر أهل القسامة من مسافة اثنين وعشرين يومًا إلى مكة حتى أحلفهم على الحجر الأسود .. فالجواب: أن ذلك فعل من جهة السياسة الشرعية المعتبرة بالرأي والمصلحة.
وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ فِي فِعِلِهِ، وَكَذَا فِعْلُ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا .. فَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَلَوِ ادَّعَى دَيْنًا لِمُوَرِّثِهِ فَقَالَ: أَبْرَأَنِي .. حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْبَرَاءَةِ،
ــ
قال: (ويحلف على البت) أى: القطع والجزم (في فعله) نفيًا كان أو إثباتًا؛ لأنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها، هكذا أطلقوه، وهو محمول على ما إذا صدر الفعل منه في حال عقله وتمييزه، فول صدر منه في جنونه أو إغمائه أو سكره الطافح، وتوجهت عليه اليمين بعد كماله .. فلا يظهر التوجيه المذكور.
قال: (وكذا فعل غيره إن كان إثباتًا) فيحلف فيه على البت؛ لأنه يسهل الوقوف عليه.
قال: (وإن كان نفيًا .. فعلى نفي العلم)؛ لأن النفي المطلق يعسر الوقوف على سببه، ولهذا لاتجوز الشهادة على النفي فيقول: والله ماعلمت أنه فعل كذا، أو ما أشبه ذلك.
قال ابن الصلاح: إلا أن يكون فعل الغير منسوبًا إلى الحالف .. فيحلف على البت.
فلو حلف على البت .. اعتد به؛ لأنه قد يعلم ذلك، أما لو حلفه على نفي العلم والحال يقتضي الحلف على البت .. فلايعتد بذلك قطعًا.
ومراد المصنف بالنفي: المطلق لا المحصور؛ لأنه صرح في آخر هذا الباب أنه كالإثبات لإمكان الإحاطة به، فعلى هذا: يحلف في مثله على البت وإن كان ينفي فعل الغير، كما تجوز الشهادة به.
وظاهر عبارته حصر اليمين في فعله وفعل غيره، وقد تكون اليمين على تحقق موجود لا على فعل ينسب إليه ولا إلى غيره، كما إذا قال لزوجته: إن كان هذا الطائر غرابًا .. فأنت طالق، فطار ولم يعرف، وادعت أنه غراب وأنكر، وقد قال الإمام: إنه يحلف فيه على البت.
قال: (ولو ادعى دينًا لمورثه فقال: أبرأني .. حلف على نفي العلم بالبراءة)؛ لأنه حلف على نفي العلم، وكذا إذا ادعى أنه استوفاه منه.
وَلَوْ قَالَ: جَنَى عَبْدُكَ عَلَيَّ بِمَا يُوجِبُ كَذَا .. فَالَأَصَحُّ: حَلِفُهُ عَلَى الْبَتِّ. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: جَنَتْ بَهِيمَتُكً .. حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ قَطْعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ الْبَتُّ بِظَنٍّ مُؤَكَّدٍ يَعْتَمِدُ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ أَبِيهِ،
ــ
قال: (ولو قال: جنى عبدك علي بما يوجب كذا .. فلأصح: حلفه على البت)؛ لأن فعل عبده كفعل نفسه، ولذلك سمعت الدعوى عليه.
والثاني: على نفي العلم؛ لأنه يتعلق بالغير.
وأطلق المصنف (العبد) ولم يفرق بين الحاضر والغائب، ولا بين المأذون وغيره، والمكاتب وغيره، ولا نص فى ذلك.
ولو مات المأذون أو المكاتب أو عامل القراض الحر وقد عاملا ودعت الحاجة إلى تحليف المالك نفيًا أو إثباتًا .. فكيف الحال إذا لم يكن له اطلاع على تصرفهما؟ هل يحلف على البت أو على نفي العلم؟ فيه وقفة، ولا يختص هذا بالجناية على العبد، بل لو نفى البائع العيب عن العبد .. حلف على البت أيضًا كما جزم به الرافعي، وجزم الدارمي بأنه يحلف على نفي العلم.
قال: (قلت: ولو قال: جنت بهيمتك) أى أتلفت زرعًا أو غيره حيث يجب الضمان بإتلافها.
قال: (.. حلف على البت قطعًا والله أعلم)؛ لأنه لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعلها، إنما يضمن بالتقصير في حفظها، وهذا أمر يتعلق بنفس الحالف.
قال: (ويجوز البت بظن مؤكد يعتمد خطه أو خط أبيه)؛ لأن الظاهر يعضده، والمسألة سبقت في (كتاب القضاء).
وظاهر عبارته أنه لايشترط في خط نفسه مع الظن المؤكد التذكر، والذي في (الروضة): أنه لو وجد بخط نفسه شيئًا .. لم يعتمده حتى يتذكر، وعزاه إلى (الشامل).
والفرق بينه وبين اعتماد خط أبيه: أنه في خط نفسه يمكنه التذكر، بخلاف خط أبيه.
وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْقَاضِي الْمُسْتَحْلِفِ، فَلَوْ وَرَّى أَوْ تَأَوَّلَ خِلَافَهَا أَوِ اسْتَثْنَى بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ القَاضِي .. لَمْ يَدْفَعْ إِثْمَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ
ــ
وقد يقال: لا يتصور الظن المؤكد في حق نفسه ما لم يتذكر، بخلاف خط الأب فلا إيراد.
وقال ابن الرفعة: إذا غلب على ظنه كذب أبيه فيما وجده بخطه .. لم يجز له الإقدام على اليمين، وكذا لو استوى الاحتمالان عنده فيما يظهر.
قال: (وتعتبر نية القاضي المستحلف)؛ لما روى مسلم] 1653/ 21 [عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين على نية المستحلف) وحملوه على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف.
والمعنى فيه أنه لو اعتبرت نية الحالف .. لبطلت فائدة الأيمان، وضاعت الحقوق؛ لأن كل أحد يحلف على ما يقصد، وسواء وافقه الحالف في المذهب أو خالفه، مجتهدًا كان الحالف أو مقلدًا.
فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجوار، والقاضي يعتقد إثباتها .. فليس للمدعى عليه أن يحلف على عدم استحقاقها عليه عملًا باعتقاده، بل عليه اتباع القاضي، ويلزمه في الظاهر ما ألزمه به، وكذا في الباطن في الأصح.
وكان ينبغي أن يقول: من له ولاية التحليف؛ ليشمل المحكم والإمام الأعظم والمنصوب للمظالم وغيره ممن يصح أداء الشهادة عنده.
وألحق الشيخ عز الدين بالقاضي الخصم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يمينك ما يصدقك عليه صاحبك).
قال: أراد به الخصم، والحديث في (صحيح مسلم)] 1653/ 20 [أيضًا.
قال: (فلو ورى أو تأول خلافها أو استثنى بحيث لا يسمع القاضي .. لم يدفع إثم اليمين الفاجرة)؛ لأن اليمين شرعت ليهاب الخصم الإقدام عليها خوفًا من الله، فلو صح تأويله .. بطلت هذه الفائدة؛ فإن كل شيء قابل للتأويل في اللغة، وما ذكره من كون التورية على خلاف قصد القاضي لا يرفع الإثم مقيد بأمرين:
أحدهما: أن يكون الحلف بالله، فإن حلفه القاضي بالطلاق أو العتاق فحلف
وَمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لَوْ أَقَرَّ بِمَطْلُوبِهَا لَزِمَهُ فَأَنْكَرَ .. حُلِّفَ
ــ
وورَّى .. نفعته التورية؛ لأنه ليس له التحليف بهما كما تقدم قريبًا، وبه جزم في (شرح مسلم) و (الأذكار).
الثاني: أنه لا يكون ظالمًا في نفس الأمر؛ فقد تقدم في (الوديعة): أن الظالم إذا طلب منه الوديعة مأمور بالإنكار، فإن اكتفى منه باليمين .. حلف أنه لا وديعة عنده، بل قال في (البسيط): يجب ذلك.
واقتضى كلامه أنه لا يأثم ولو قدر على التورية.
ومثله: لو ادعى على معسر فقال: لا يستحق علي، وتأوله باستحقاق التسليم الآن .. صح، ولا يؤاخذ بيمينه؛ لانتفاء المفسدة السابقة، بل خصمه ظالم بمطالبته إن علم ومخطئ إن جهل، قاله الشيخ عز الدين.
تنبيه:
جمع المصنف بين التورية والتأويل؛ لأن التورية: قصد ما يخالف ظاهره اللفظ، والتأويل: اعتقاد خلافه، فمن التورية أن يقول: ماله علي درهم ولا دينار، فدرهم: قبيلة، ودينار: رجل معروف، وما له قبلي ثوب ولا شقة ولا قميص، فالثوب: الرجوع، والشقة: البعد، والقميص: غشاء القلب.
والاستثناء أن يقول عقب اليمين: إن شاءالله، إما سرًا أو ينويه بقلبه، وتنعقد اليمين في الجميع.
وأحترز بقوله: (بحيث لا يسمع القاضي) عما إذا سمع .. فإن اليمين لا تنعقد قطعًا، وعليه الإعادة؛ لأنه طلب منه يمينًا جازمة ولم يأت بها.
فائدة:
قال في (شرح مسلم): التورية في غير تحليف الحاكم وإن كان لا يحنث بها لا يجوز فعلها؛ حيث يبطل بها حق المستحق بالإجماع.
قال: (ومن توجهت عليه يمين لو أقر بمطلوبها لزمه فأنكر .. حلف) جميع ما تقدم من أول الفصل إلى هنا فيما يتعلق بالحلف وكيفيته، والكلام الآن في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الحالف، ويدل لحلفه قوله صلى الله عليه وسلم:(واليمين على من أنكر).
وصواب العبارة: ومن توجهت عليه دعوى كما هو في (الشرح) و (الروضة) و (المحرر)، وبذلك اعترض عليه ابن الفركاح وغيره.
وصوب الشيخ في (الحلبيات) عبارة المصنف وقال: قد تطلب اليمين من غير دعوى، كما إذا طلب القاذف يمين المقذوف أو وارثه على أنه مازنى .. فإنه يجاب إلى تحليفه على الأصح، وله غرض ألا يدعي الزنا حتى لا يكون قاذفًا، قال: لكن يحتاج أن يتأول (توجهت) بمعنى طلبت منه، ثم قال: لكن قول (المنهاج): (فأنكر) غير متضح؛ لأن الإنكار يكون بعد الدعوى لا بعد طلب اليمين، إلا أن يريد أنه صمم على الإنكار.
ويجري التحليف في النكاح والطلاق والرجعة والفيئة في الإيلاء، وفي العتق والاستيلاد والولاء والنسب، ولا تسمع في حدود الله تعالى، ولايطلب الجواب؛ لأنها ليست حقًا للمدعي، فإن تعلق به حق آدمى كمسألة القذف المذكورة .. حلف، فإن حلف .. أقيم الحد على القاذف، وإن نكل .. حلف القاذف وسقط حد القذف، ولايثبت بحلفه حد الزنا على المقذوف.
واحترز بقوله (لو أقر بمطلوبها .. لزمه) عما إذا ادعى دينًا على ميت، أو أنه أوصى له بشيء، وللميت وصي فأنكر ولا بينة .. فإنه لا يحلف الوصي؛ لأن المقصود من التحليف أن يصدق الخصم فيقر إن كان المدعى به حقًا، والوصي لا يقبل إقراره بالدين والوصية، وكذا لو أنكر الخصم وكالة الوكيل .. فليس للوكيل أن يحلفه على نفي العلم بالوكالة؛ لأنه – وإن علم الوكالة- لايجب عليه التسليم إليه.
تنبيه:
وقع في (الشرح) و (الروضة) و (المحرر) و (المنهاج) و (الكفاية) ما يوهم أن الأمة إذا ادعت الاستيلاد .. لا يحلف السيد، والصواب: أنه إن كانت المنازعة لإثبات النسب .. فهي مسألة هذه الكتب، وإن كانت لأمية الولد ليمتنع من بيعها ويعتق بموته .. حلف.
وَلَا يُحَلَّفُ قَاضٍ عَلَى تَرْكِ الظُّلْمِ فِي حُكْمٍ وَلَا شَاهِدٌ: أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ. وَلَوْ قَالَ مُدَّعَىً عَلَيْهِ: أَنَا صَبِيُّ .. لَمْ يُحَلَّفْ، وَوَقِفَ حَتَّى يَبْلُغَ
ــ
قال: (ولا يحلف قاض على ترك الظلم في حكم) مراد المصنف أن هذه القاعدة تستثنى منها صور، فالقاضي لا يحلف على أنه ما ظلم، لارتفاع منصبه عن ذلك، أما ما لا يتعلق بالحكم كدعوى مال وغيره .. فهو كغيره، ويحكم فيه خليفته أو قاض آخر، وهذه المسألة تقدمت في (كتاب القضاء).
قال: (ولا شاهد: أنه لم يكذب)؛ لأن من شأنه أن لا يشان بذلك.
قال: (ولو قال مدعى عليه: أنا صبي) أي: وهو محتمل (.. لم يحلف، ووقف حتى يبلغ)؛ لأنه لو كان كاذبا .. لم يمتنع من الإقدام على الحلف، فلا فائدة فيها.
ويستثنى مع ما ذكره إذا علق الطلاق على شيء من أفعال المرأة كالدخول، فادعته المرأة وأنكره الزوج .. فالقول قوله، فلو طلبت المرأة تحليفه على أنه لا يعلم وقوع ذلك .. لم يحلف، فإن ادعت وقوع الفرقة .. حلف على نفيها، كذا نقله الرافعي في (باب تعليق الطلاق) عن القفال وأقره.
وكذا إذا طالب الإمام الساعي بما أخذه من الزكاة فقال: لم آخذ شيئا .. لم يحلف وإن كان لو أقر بالأخذ لزم، حكاه شريح عن الأصحاب.
وكذلك لو قسم المال بين غرماء المفلس فظهر غريم آخر وقال لأحد الغرماء: أنت تعلم وجوب ديني وطلب يمينه .. لم يحلف، حكاه عن العبادي.
ويستثنى من أن المدعي يحتاج إلى البينة والمدعى عليه يقبل قوله بيمينه مسائل:
أحدها: إذا قوي جانب مدعي القتل باللوث .. فيقبل قوله فيه بيمينه.
الثانية: أن يدعي زنا لزوجته .. فإنه يقبل قوله بلعانه؛ لرجحان جانبه.
الثالثة: أن يقتضي ذلك مصلحة عامة وهو قبول قول الأمناء في تلف ما ائتمنوا عليه ورده على مؤمنيهم خاصة.
الرابعة: إذا استحلق منبوذا .. لحقه من غير يمين.
وَالْيَمِينُ تُفِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ فِي الحَالِ لَا بَرَاءَةَ، فَلَوْ حَلَّفَهُ ثُمّ أَقَامَ بَيِّنَةً .. حَكَمَ بِهَا
ــ
الخامسة: دعوى المرأة انقضاء عدتها بالحيض ونحوه.
السادسة: دعوى الصبي الاحتلام تقبل من غير يمين.
فرع:
قال الزبيلي: لو اكترى من يحج عن أبيه، فقال الأجير: حججت .. قبل قوله، ولا يمين عليه ولا بينة، كما لو طلق امرأته ثلاثا وادعت أنها تزوجت ودخل بها وطلقها وانقضت عدتها .. قبل منها، ولا بينة عليها ولا يمين.
قال: (واليمين تفيد قطع الخصومة في الحال لا براءة) احتج له البخاري] 2680 [بحديث: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
…
).
وروى أبو داوود] 3269 [والنسائي] سك 5963 [والحاكم] 4/ 95 [عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا بعدما حلف بالخروج من حق صاحبه) كأنه عليه الصلاة والسلام علم كذبه كما رواه أحمد] 1/ 296 [فدل على أن اليمين لا توجب براءة.
وفي (البخاري) عن شريح وطاووس وإبراهيم: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة، وليس بحديث صحيح كما زعمه إمام الحرمين.
قال: (فلو حلفه ثم أقام بينة .. حكم بها) قياسا على إقرار المدعى عليه بعد حلفه، وكذا لو ردت اليمين على المدعي فنكل ثم أقام بينة.
وقال مالك: إن كانت البينة حاضرة .. لم يجز؛ لاتصال الحكم باليمين.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز أصلا، واختاره ابن حزم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك).
وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: قَدْ حَلَّفَنِي مَرَّةً فَلْيَحْلِفْ أَنَّهُ لَمْ يُحَلِّفْنِي .. مُكِّنَ فِي الأَصَحِّ،
ــ
فنص على أنه ليس له إلا أحدهما لا كلاهما.
وجوابه: أنه حصر حقه في النوعين؛ أي: لا ثالث لهما، وأما منع جميعها .. فلا دلالة للحديث عليه.
كل هذا إذا لم يتعرض حالة التحليف للبينة، فإن قال: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة .. فقد ذكره المصنف في (القضاء على الغائب)، والأصح: سماعها أيضا.
فرع:
أقام بدعواه بينة ثم قال: شهودي كاذبون أو مبطلون .. سقطت بينته، ولا تبطل دعواه على الأصح؛ لاحتمال أن يكون هو محقا في دعواه، والشهود مبطلون لشهادتهم بما لا يحيطون به علما، وفي مثل ذلك الله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}
فرع:
إذا اشتملت دعوى الشخص الواحد على أنواع فأراد تحليفه على بعضها دون بعض .. جاز، ولو أراد أن يحلفه على كلمنها يمينا .. فنظر، إن فرقها في الدعوى .. جاز، وإلا .. فلا، قاله الماوردي.
قال: (ولو قال المدعى عليه: قد حلفني مرة) أي: فليس له تحليفي (فليحلف أنه لم يحلفني .. مكن في الأصح)؛ لأنه محتمل غير مستبعد، ولا يسمع غير ذلك من المدعي؛ لئلا يتسلسل.
والثاني: المنع؛ إذ لا يؤمن أن يدعي المدعي أنه ما حلفه على أنه ما حلفه وهكذا، فيدور الأمر ولا ينفصل، وهذا نسبة الرافعي إلى ابن القاص، وتبعه عليه في (الروضة)، والذي في كلامه الجزم بالأول.
وَإِذَا نَكَلَ .. حَلَفَ الْمُدَّعِي وَقُضِيَ لَهُ، وَلَا يَقْضِي بِنُكُولِهِ،
ــ
وموضع الخلاف إذا قال: حلفني مرة عند قاض آخر، أو أطلق، فإن قال: عندك، فإن حفظ القاضي ذلك .. لم يحلفه ومنع المدعي مطالبته، وإن لم يحفظه .. حلفه، ولا تنفع إقامة البينة فيه؛ لما تقدم أن القاضي إذا تذكر حكمه .. أمضاه ولا يعتمد على البينة.
قال: (وإذا نكل .. حلف المدعي وقضي له، ولا يقضي بنكوله) هذا ابتداء فصل في (المحرر)، وبوب عليه في (الروضة)(باب النكول)، ويدل له قوله تعالى:{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: بعد الامتناع من الأيمان الواجبة فدل على نقل الأيمان.
وروى الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق) رواه الدارقطني] 213/ 4 [والحاكم] 4/ 100 [وقال صحيح الإسناد.
وحكم بذلك عمر بحضرة الصحابة كما رواه الشافعي.
ومن جهة المعنى: أن النكول كما يحتمل أن يكون تحرزا عن اليمين الصادقة؛ فقد ردت اليمين على زيد بن ثابت فحلف، وعلى عثمان فلم يحلف وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء فيقال: بيمينه، واشتهر ذلك عن الصحابة، ولا مخالف لهم.
وإذا لم يقض بالنكول .. ردت اليمين على المدعي إذا كان الحق له، فإذا حلف .. قضي له.
وقال أبو حنيفة أو أحمد: يقضى بالنكول.
لنا: الإجماع قيلهما كما قاله مالك في (الموطأ).
وظاهر قوله: (وقضي له) توقف الاستحقاق على الحكم، وأنه لا يثبت بمجرد الحلف، لكن الأرجح في (الروضة) عدم التوقف بناء على أن اليمين المردودة كالإقرار، كما يثبت الحكم بالإقرار من غير حكم على الأصح.
نعم؛ تستثنى صور يقضى فيها بالنكول للضرورة ستأتي.
وَالنُكُولُ: أَنْ يَقُولَ: أَنَا نَاكِلٌ، أَوْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ، فَيَقُولُ: لَا أَحْلِفُ، فَإِنْ سَكَتَ .. حَكَمَ الْقَاضِي بِنُكُولِهِ. [وَقَوْلُهُ لِلْمُدَّعِي: احْلِفْ .. حُكْمٌ بِنُكُولِهِ]
ــ
قال: (والنكول: أن يقول) المدعى عليه بعد عرض اليمين عليه: (أنا ناكل، أو يقول له القاضي: احلف، لا أحلف)؛ لظهوره فيه، ولا يحتاج في هذه الحالة إلى قضاء بالنكول، حتى لو قال المدعى عليه بعد قوله: لا أحلف أو أنا ناكل: أحلف .. لم يجد إليه سبيلا.
قال: (فإن سكت .. حكم القاضي بنكوله) كما أن السكوت عن الجواب في الابتداء منزل منزلة الإنكار، فلا تشرع اليمين المردودة عند سكوت المدعى عليه إلا إذا حكم الحاكم بنكوله، وإنما يحكم الحاكم بنكوله إذا لم يظهر كون السكوت لدهشة أو غبارة أو نحوهما.
ويستحب للقاضي أن يعرض اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات، والاستحباب فيما إذا سكت أكثر منه فيما إذا صرح بالنكول.
وعن أبي حنيفة: أن العرض ثلاثا شرط.
وإذا تفرس فيه سلامة جانب .. شرح له حكم النكول؛ فإن لم يشرح وحكم بأنه ناكل وقال المدعى عليه: لم أعرف حكم النكول .. ففي نفوذ الحكم احتمالان: أظهرهما: النفوذ إذا كان من حقه أن يبحث ويعرف قبل أن ينكل.
وإذا كان المدعى عليه لا يعرف معنى النكول .. وجب على القاضي أن يعرفه ذلك، وليس هذا تلقين دعوى.
وحيث منعنا المدعى عليه من الحلف بعد نكوله أو ما في معناه .. فذلك إذا لم يرض المستحق، فإن رضي .. فوجهان: أصحهما: له العود إليه؛ فإن الحق له لا يعدوه.
[قال: (وقوله للمدعي: أحلف .. حكم بنكوله)]
وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ فِي قَوْلٍ كَبَيِّنَةٍ، وَفِي الأَظْهَرِ: كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَهَا بَيِّنَةً بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ .. لَمْ تُسْمَعْ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَتَعَلَّلَ بِشَيْءٍ .. سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْخَصْمِ،
ــ
قال: (واليمين المردودة في قول كبينة) تغليبًا لجانب المدعي، فتنزل يمينه منزلة بينة يقيمها.
قال: (وفي الأظهر: كإقرار المدعى عليه)؛ تغليبًا لجانبه، فينزل نكوله منزلة إقراره؛ لأن به توصل إلى الحق.
ووقع في (الروضة) في الباب الخامس من هذا الباب ما يقتضي تصحيح الأول.
قال: (فلو أقام المدعى عليه بعدها بينة بأداء أو إبراء .. لم تسمع) هذه من فوائد القولين، وهي تفريع على الأظهر لكونه مكذبًا لبينته بإقراره، وعلى مقابله: تسمع، كذا قاله الشيخان هنا، وخالفاه قبيل الركن الثالث فرجحا السماع، وهذا هو الصواب؛ فإنه إقرار تقديري لا تحقيقي، فلم يصدر منه إقرار مكذب لها.
وأشار بقوله: (بأداء أو إبراء) إلى أن التصوير في الدين، فإن كان المدعى عينًا، فرد المدعى عليه على المدعي، فحلف ثم أقام بينة بالملك .. سمعت، أفتى به علماء العصر.
قال: (فإن لم يحلف المدعي ولم يتعلل بشيء .. سقط حقه من اليمين)؛ لإعراضه، (ولم يكن له مطالبة الخصم) كما لو حلف المدعى عليه، اللهم إلا أن يقيم بينة.
وقيل: يتمكن مناستئناف الدعوى وتحليفه في مجلس آخر؛ لبقاء حقه.
وعلم من هذا: أنه ليس له رد اليمين على المدعى عليه؛ لأن اليمين المردودة لا ترد، لأن ردها يؤدي إلى الدور.
وَإِنْ تَعَلَّلَ بِإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ أَوْ مُرَاجَعَةِ حِسَابٍ .. أَمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: أَبَدًا،
ــ
وقوله: (يتعلل) المراد به: إبداء علة أو عذر، وهذا خلاف المستعمل في اللغة؛ لأنهم إنما يستعملونه بمعنى شغله وألهاه، ومنه تعليل الصبي بالطعام ليسكت.
فرع:
ادعى شريكان حقا لهما على إنسان فأنكر .. حلف لكل منهما يمينًا، فإن رضيا بيمين واحدة .. فالأصح في (الروضة): المنع، وجزم الإمام بالاكتفاء بها ورجحه الشيخ؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما.
وحكى الماوردي عن الإصطخري قال: استحلف إسماعيل القاضي رجلا في حق رجلين يمينا واحدة، فأجمع فقهاء زماننا على أنه أخطأ.
قال الداركي: فسألت أبا إسحاق المروزي فقال: إن ادعيا ذلك من جهة واحدة .. حلف لهما يمينًا واحدة كما إذا ادعيا دارًا إرثًا من أبيهما أو شركة بينهما، وإن كان من جهتين .. حلف لكل واحد على الانفراد.
قال الماوردي: وقول أبي إسحاق صحيح، وهذا في الحقيقة وجه ثالث في المسألة.
قال: (وإن تعلل بإقامة بينة أو مراجعة حساب .. أمهل)؛ لما تقدم في كتاب عمر لأبي موسى: واجعل للمدعي أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة .. أخذت له بحقه، وإلا .. استحلت عليه القضية، فإنه أنفلا للشك وأجلى للعمة.
قال: (ثلاثة أيام)؛ لأنها مدة مغتفرة شرعًا، وفي الزيادة عليها إضرار بالمدعي، فإن لم يحلف بعدها .. سقط حقه من اليمين.
قال: (وقيل: أبدًا)؛ لأن اليمين حقه، فله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة.
وقيل: يرجع إلى العرف، وبه جزم الدارمي.
وقبل: لايمهل أصلًا إذا قال: أراجع الحساب كالمدعى عليه، حكاه الإمام في (كتاب الإقرار) وقال: إنه حسن متجه؛ إذ كان من حقه التفكر قبل الإحصار، وهو
فَإِنِ اسْتَمْهَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَ اسْتُخْلِفَ لِيَنْظُرَ حِسَابَهُ .. لَمْ يُمْهَلْ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةً، وَلَوِ اسْتَمْهَلَ فِي ابْتِدَاِء الْجَوَابِ .. أُمْهِلَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَمَنْ طُولِبَ بِزكَاةٍ فَادَّعَى دَفْعَهَا إِلَى سَاع آخَرَ أَوْ غَلَطَ خَارِصٍ وَأَلْزَمْنَاهُ الْيَمِينَ فَنَكَلَ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْيَمِينِ .. فَالأَصَحُّ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ
ــ
غريب، فتلخصنا على أربعة أوجه، والرافعي لم يفصح بترجيح في (شرحيه)، غير أنه رجح الأول في (المحرر)، والذي عليه جمهور العراقيين وغيرهم الثاني، وكذلك الحكم إذا طلب الاستمهال ليسأل الفقهاء.
قال: (فإن استمهل المدعى عليه حين استحلف لينظر حسابه .. لم يمهل)؛ لأنه مقهور محمول على الإقرار أو اليمين، بخلاف المدعي؛ فإن الحق له، اللهم إلا أن يرضى المدعي بإمهاله .. فإنه يمهل.
قال: (وقيل: ثلاثة)، للحاجة، واختاره الروياني، وفي (الحاوي): يمهل دون ثلاثة أيام.
واستحسنوا إمهاله ليسأل الفقهاء، وهذا الإمهال لم يتعرضوا لكونه واجبًا أو مستحبًا، وحكى الرافعي في نظيره من (باب الكتابة) وجهين، ثم حكى عن الروياني أنا إذا أمهلناه ثلاثًا فأحضر شاهدًا بعدها وطلب الإنظار ليأتى بالشاهد الثاني .. أنه ينظر ثلاثة أخرى.
قال: (ولو استمهل في ابتداء الجواب .. أمهل إلى آخر المجلس) هذا إذا طلب ذلك لمراجعة الحساب ونحوه.
وعبارة (المحرر): فقد ذكر أنه يمهل إلى آخر المجلس، وذاكر ذلك هو القاضي أو سعد.
قال: (ومن طولب بزكاة فادعى دفعها إلى ساع آخر أو غلط خارص وألزمناه اليمين فنكل وتعذر رد اليمين .. فالأصح: أنها تؤخذ منه)؛ لأن مقتضى ملك النصاب ومضي الحول الوجوب، فإذا لم يأت بدافع .. أخذنا الزكاة، وليس هذا حكمًا بالنكول، خلافًا لابن القاص.
والثاني: لا يطالب بشيء إذا لم يقم عليه حجة.
وَلَوِ ادَّعَى وَلِيُّ صَبِيٍّ دِيْنًا لَهُ فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ .. لَمْ يُحَلَّفِ الْوَلِيُّ، وَقِيلَ: يُحَلَّفُ، وَقِيلَ: إِنِ ادَّعَى مُبَاشَرةَ سَبَبِهِ .. حُلِّفَ
ــ
وهذا كالمستثنى من قوله: (ولا يقضي بنكوله) أي: ما تقجم من رد اليمين على المدعي هو الأصل، وقد يتعذر في هذه الصور.
وقوله: (وألزمناه اليمين) أشار به إلى خلاف في المسألة، وهو أنه إذا ادعى مسقطًا أو اتهمه الساعي .. فإنه يحلفه على ما يدعيه، وهل اليمين واجبة أو مستحبة؟ فإن كانت دعواه لا تخالف الظاهر كقوله: لم يحل الحول بعد .. فهي ندب، وإن خالفته كقوله: بعته ثم اشتريته ولم يحل الحول .. فالأصح: استحبابهما أيضًا، فإن قلنا به فامتنع من اليمين .. فلا شيء عليه، وإن قلنا بوجوبها فنكل .. فهي مسألة الكتاب.
وقوله: (وتعذر رد اليمين) أشار به إلى تفصيل، وهو أن المستحقين في البلد إن انحصروا ومنعنا النقل .. ردت اليمين عليهم، وإلا .. فقد تعذر الرد على السلطان أو الساعي.
وقوله: (فالأصح) يقابله أوجه:
أحدها: لا يطالب بشيء إذا لم يقم حجة.
والثاني: يحبس حتى يقر فيؤخذ منه أو يحلف فيترك.
والثالث: إذا ادعى خلاف الظاهر بأن قال: ما تم الحول أو الذي بيدي لفلان المكاتب .. لم يؤخذ منه، وإن قال: أديت في بلد آخر أو ساع آخر .. أخذت.
قال: (ولو ادعى ولي صبي) أي: أو مجنون (دينًا له فأنكر ونكل .. لم يحلف الولي)؛ لأن إثبات الحق للإنسان بيمين غيره مستبعد، بل ينتظر بلوغ الصبي وإفاقة المجنون.
قال: (وقيل: يحلف)؛ لأنه المستوفي، والصبي والمجنون ليس لهما أهلية اليمين.
قال: (وقيل: إن ادعى مباشرة سببه .. حلف)؛ لأن العهدة تتعلق به، وفي (الشرح) و (الروضة): أن هذا لا بأس به، ورجحه العبادي والسرخسي، قال في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(المهمات): وهو المفتى به المنصوص عليه، وقد سبق في (كتاب الصداق) بيان ذلك، وأن ما قاله هناك لا ينافي ما قاله هنا.
وتجري الأوجه فيما لو أقام شاهدًا هل يحلف معه؟ وفيما لو ادعى على الولي دينًا في ذمة الصبي هل يحلف الولي إذا أنكر؟ والوصي والقيم كالولي.
ويجري في قيم المسجد والوقف إذا نكل المدعى عليه هل يحلف.
وملخص هذا أن الحق إن كان لغير معين كالمسلمين ومال من لا وارث له والمال الموصى به للفراء، إذا ادعاه من أسندت تفرقته إليه .. يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يدفع الحق؛ لأنه لا يمكن القضاء بالنكول منغير يمين، لأن الحقوق تثبت بالإقرار أو البينة، وليس النكول واحدًا منهما، ولا يمكن رد اليمين على مستحق غير معين، ولا يمكن تركه؛ لما فيه من ترك الحق، فتعين لفصل الخصومة ما قلناه.
وقيل: يقضى عليه بالنكول، ويؤخذ منه الحق؛ للضرورة.
تتمة:
أفتى ابن عبد السلام والشيخ بأنه إذا ثبت دين لطفل أو مجنون على تركة مستحقها كذلك أنه يؤخذ في الحال من غير توقف على بلوغه وحلفه؛ إذ لا يجوز تأخير حق يجب على الفور لأمر محتمل، قالا: ولا يشهد للتأخير شيء من أصول الشرع.
قال الشيخ: ومن طالع كلام الرافعي والمصنف يعتقد أن المذهب: أنه ينتظر ويؤخر الحكم، وقد يترتب على ذلك ضياع الحق، وكثيرًا ما يتفق أن يموت رجلان لكل منهما على الآخر دين، ويترك كل ورثة صغارًا ولو أخر إلى البلوغ ربما ضاعت تركة الذي عليه الحق أو أكلها ورثته، فتأخير الحكم مع قيام البينة مشكل، لا سيما ونحن نعلم أن الصبي لا علم عنده من ذلك، واليمين الواجبة عليه بعد بلوغه إنما هي على عدم العلم بالبراءة، وهو أمر حاصل، فكيف يؤخر الحق لمثل ذلك؟!
قال: فالوجه عندي: الحكم الآن، ويؤخذ الدين للصبي الذي ثبت له، وإن أمكن القاضي أخذ كفيل به حتى إذا بلغ يحلفه .. فهو احتياط، وإن لم يمكن ذلك .. فلا يكلف.
فَصْلٌ:
ادَّعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً
…
سَقَطَتَا، وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَلَانِ، فَفِي قَوْلٍ، تُقْسَمُ،
…
ــ
قال: (فصل: ادعيا عينًا في يد ثالث) أي: ولم ينسبها ذو اليد إلى أحدهما قبل البينة ولا بعدها.
قال: (وأقام كل منهما بينة
…
سقطتا)؛ لتناقض موجبهما فأشبها الدليلين إذا تعارضا ولا مرجح، وبهذا قال أحمد ومالك في رواية.
فعلى هذا: كأنه لا بينة ويصار إلى التحليف، قال الرافعي وهو منسوب إلى القديم، فالمسألة مما يفتى بها على القديم، وليس كذلك؛ فقد حكاه البندنيجي عن نص (الأم) و (البويطي)، فهو قديم وجديد.
قال: (وفي قول: تستعملان)؛ صيانة لهما عن الإلغاء بقدر الإمكان، فتنزع العين ممن هي في يده؛ لاتفاق البيتين على أنها ليست له، ثم فيما يفعل على هذا القول الثلاثة الأقوال الآتية: وكأنهم هونوا أمرها لما كانت مفرعة على الضعيف كالأقوال المفرعة على القديم في ميراث المبتوتة في مرض الموت، وفي القولين المفرعين على القديم في امرأة المفقود، والذي يظهر ترجيح قول الوقف، وبه جزم الرافعي في (باب التحالف)، والأوفق لإطلاق الغزالي ترجيح مقابله.
قال: (ففي قول: تقسم) أي: تجعل بينهما نصفين؛ لاستواء حجتيهما، هذا إذا قبلت القسمة، وبهذا قال أبو حنيفة، ويدل له ما روى أبو داوود [3608] وابن حبان [5068] والحاكم [4/ 95] بإسناد صحيح عن أبي موسى: أن رجلين ادعيا بعيرًا، وأقام كل منهما شاهدين، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين.
ولأن البينة أقوى من اليد، ولو تساويا في اليد
…
لقسم بينهما، فهذا أولى.
وأجاب القائلون بالصحيح عنه باحتمال أن يكون ما تنازعا فيه في أيديهما، فأبطل البينتين وقسمه بينهما.
وَقَوْلٌ: يَقْرَعْ، وَقَوْلٌ: تَوَقَّفَ حَتَّى يَتَبَيَّتْ أَوْ يَصْطَلِحَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِهُمَا وَأَقَامَا بَيْنَتِيْن
…
بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ،
…
ــ
قال: (و) في (قول: يقرع) فيرجح جانب من خرجت له القرعة؛ لما روى أبو داوود في (مراسيله)[398] عن سعيد بن المسيب قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فجاء كل منهما بشهداء عدول على عدة واحدة، فأسهم بينهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(اللهم أنت تقضي بينهما) فقضى للذي خرج له السهم.
ولأن القرعة تدخل في الحقوق المتساوية عند الاشتباه، وإذا قلنا بهذا
…
فهل يحتاج من خرجت له القرعة إلى يمين؟ قولان لا ترجيح فيهما:
أحدهما: لا، والقرعة مرجحة لبينته.
والثاني: نعم، والبينة والقرعة تجعل أحدهما أحق باليمين.
قال: (وقول: توقف حتى يتبين أو يصطلحا)؛ لأنه أشكل الحال فيما يرجى انكشافه فتوقف كما لو زوجها وليان مرتبان وجهل السابق.
جوابه: أنه يمكن التذكر في النكاحين، بخلاف هذا.
قال الإمام تبعًا للقاضي: هذا أعدل الأقوال، وصححه الفارقي، وفي (البيان) عن الربيع: أنه أصح، وهل هذه الأقوال في الأولوية أو التعيين؟ حكى الإمام فيه وجهين لا ترجيح فيهما.
كل هذا إذا لم يقر الثالث لأحدهما، فإن أقر قبل إقامة البينة
…
رجحت بينته، أو بعدها
…
حكم للمقر له بالملك.
قال: (ولو كانت في يدهما وأقاما بينتين
…
بقيت كما كانت)؛ إذ لا مستحق لها غيرهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، هذا حاصل ما يفتى به من الطريقتين في المسألة.
والطريقة الثانية- وبها قال ابن الصباغ-: يجعل المال بينهما؛ لأن بينة كل واحد منهما ترجحت فيما بيده.
وَلَوْ كَانَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَ غَيْرِهِ بِهَا بَيِّنَةٌ وَهُوَ بَيِّنَةٌ
…
قَدَّمَ صَاحِبْ الْيَدْ،
…
ــ
فرع:
دار في يد ثلاثة، ادعى أحدهم نصفها والثاني ثلثها والثالث سدسها، لا بينة
…
جعلت أثلاثًا، كذا نص عليه في (المختصر)، واعترض عليه بأن مدعي السدس لا يدعي غيره فكيف يعطي الثلث؟! وأجيب بأن الصورة فيما إذا ادعى كل واحد منهم استحقاق اليد في جميعها، إلا أن الأول يقول: النص ملكي، والنصف الآخر لفلان وهو في يدي عارية أو وديعة، والآخران يقولان نحو ذلك، فكل واحد منهم صاحب يد في الثلث، وتبقى الدار في أيديهم كما كانت، ثم يجعل نصف الثلث الذي في يد مدعي السدس لذلك الغائب بحكم الإقرار، فأما إذا اقتصر كل واحد منهم على أن لي منها كذا
…
فلا يعطى لمدعي السدس إلا السدس، ولا يتحقق بينهم في هذه الصورة نزاع.
قال: (ولو كانت بيده فأقام غيره بها بينة وهو بينة
…
قدم صاحب اليد) ويسمى الداخل؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، وترجحت بينته بيده فقدمت كالخبرين اللذين مع أحدهما قياس.
وروى الشافعي [1/ 330] والدارقطني [4/ 209] والبيهقي [10/ 256] عن جابر: أن رجلين تداعيا دابة، وأقام كل منهما بينة أنها دابته نتجها، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده، وبه قضى شريح، وإليه ذهب أكثر العلماء.
وقيل: لا يقضي له إلا أن يحلف؛ لأن البيتين تعارضتا فسقطتا وبقيت اليد، وهي لا يقضى بها من غير يمين.
واقتضى إطلاق المصنف: أنه لا يشترط في سماع بينة صاحب اليد أن يبين سبب الملك من شراء أو إرث ونحوه، وأنه لا يشترط أن يحلف مع بينته، وهو الأصح فيهما.
فإن قيل: لو ادعيا لقيطًا في يد أحدهما وأقاما بينتين
…
لم يترجح صاحب اليد؟ قلنا: الفرق: أن اللقيط لا يدخل تحت اليد، فلهذا سوينا بينهما بخلاف غيره.
وقال أبو حنيفة: لا تسمع بينة صاحب اليد إلا في دعوى النتاج، وهو أن يتنازعا
وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتَهُ إِلَّا بَعْدَ بَيِّنَةُ الْمُدَّعٍي. وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدَهُ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَة بِمَلْكِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى مَا قَبْلَ إِزَالَة يَدِه وَاعْتَذَرَ بِغَيْبَةِ شُهُودِهِ
…
سَمِعْتُ وَقَدَّمْتُ، وَقِيلَ: لَا
…
ــ
دابة وأقاما بينتين وإحداهما شهدت له أنه نتجها فتقدم، وكذلك إذا تنازعا ثوبًا لا ينسج إلا مرة كالقطن والكتان، وأقام كل واحد بينة على أنه ملكه، وأنه نسجه، ومن المنسوجات ما ينسج أكثر من مرة كالخز، فإنه ينسج ثم ينكث فيغزل ثم ينسج ثانيًا.
وعن أحمد ثلاث روايات: إحداهما كمذهبنا، والثانية كمذهب أبي حنيفة، وأظهرها: لا تسمع بينة الداخل مطلقا، وحديث جابر حجة عليهما.
قال: (ولا تسمع بينته إلا بعج بينة المدعي) أشار بهذا إلى أن بينة الداخل إذا أراد أن يقيمها قبل أن يدعى عليه
…
لا تسمع على ظاهر المذهب؛ لأن الحجة إنما تقام على خصم، فإذا لم يكن خصم
…
فلا حاجة إلى الحجة.
وفي وجه: تسمع؛ لغرض التسجيل.
وعن ابن سريج: أنها تسمع؛ لتسقط اليمين عن نصيبه، كالمودع تسمع البينة منه على الرد والتلف.
وإن كانت يمينه كافية وإن أقامها بعد أن أقام الخارج البينة ولكن قبل أن يعدل
…
فالأصح: أنها تسمع وبحكم بها؛ لأن يده بعد إقامة البينة مشرفة على الزوال فتمس الحاجة إلى تأكيدها ودفع الطاعن فيها، وإن أقامها بعد بينة المدعي وتعديلها
…
فقد أقامها في أوان إقامتها، وإن لم يقمها بعد بينة المدعي وتعديلها
…
فقد أقامها في أوان إقامتها، وإن لم يقمها حتى قضى القاضي للمدعي وسلم المال إليه
…
فهذه أشار إليها المصنف حيث قال:
(وإن أزيلت يده ببينة ثم أقام بنية بملكه مستندًا إلى ما قبل إزالة يده واعتذر بغيبة شهوده
…
سمعت وقدمت)؛ لأنها أزيلت لعدم الحجة وقد قامت الحجة الآن.
قال: (وقيل: لا) أي: لا تسمع ولا ينقض القضاء؛ لأن تلك اليد قضي بزوالها وبطلان حكمها فلا ينقض القضاء، وإلى هذا ذهب القاضي حسين.
ونقل عنه الهروي أنه قال: أشكلت على هذه المسألة نيفًا وعشرين سنة؛ لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، وتردد جوابي فيها، ثم استقر على أنه لا ينقض.
وَلَوْ قَالَ الْخَارِجُ: هُوَ مِلْكِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، فَقَالَ: بَلْ مِلْكِي، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْن
…
قَدَّمَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجْ، وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَيٍء ثُمَّ ادَّعَاهُ
…
لَمْ تَسْمَعُ إِلَّا أَنْ يُذْكَرُ انْتِقَالًا،
…
ــ
واحترز بقوله: (بينة) عما لو أزيلت بنكوله وحلف المدعي
…
فإنها لا تسمع حتى يجمع بين كلامه هنا وبين ما سبق منه في الكلام على أن اليمين المردودة كالإقرار أو كالبينة.
قال: (ولو قال الخارج: هو ملكي اشتريته منك، فقال: بل ملكي، وأقاما بينتين
…
قدمت بينة الخارج)؛ لزيادة عملهما، ولو انعكس الحال فقال الداخل: هو ملكي اشتريته منك وأقام بينة، وأطلقت بينة الخارج للملك
…
قدمت بينة الداخل؛ لأنها تقدم عند الإطلاق فعند ذكر الانتقال أولى، لكن إذا كانت بينته حاضرة
…
لا تزال يده قبل إقامتها على الصحيح.
ووجه مقابله: أنه اعترف أنه كان له فيدفع إليه، فإذا ثبت ما ادعاه
…
استردا، أما لو زعم أن بينته غائبة
…
فإنه يؤمر بالتسليم في الحال، وإذا أثبت
…
استرد.
فرع:
تداعيا بعيرا لأحدهما عليه حمل
…
فالقول قول صاحب الحمل مع يمينه؛ لانفراده بالانتفاع به، ولو تداعيا عبدًا لأحدهما عليه ثوب
…
لم يحكم له بالعبد، والفرق: أن كون حمله على البعير انتفاع به قيده عليه، والمنتفعة في لبس الثوب للعبد لا لصاحب الثوب، فلا يد له.
وقال البغوي: إذا تداعيا جارية حاملًا، واتفقا على أن الحمل لأحدهما
…
فهي لصاحب الحمل.
قال: (ومن أقر لغيره بشيء ثم ادعاه
…
لم تسمع إلا أن يذكر انتقالًا)؛ لأن المكلف مؤاخذ بإقراره في المستقبل، فيستصحب ما أقر به إلى أن يثبت الانتقال.
وخالف القاضي حسين جميع الأصحاب فقال: تسمع دعواه مطلقًا من غير ذكر تلق من المقر له؛ لأنه وإن لم يذكر في الدعوى تلقي الملك منه فهو في تأويل
ومن أخذ منه مال ببينة ثم ادعاه
…
لم يشترط ذكر الانتقال في الأصح والمذهب: أن زيادة عدد شهود أحدهما لا ترجح، وكذا لو كان لأحدهما رجلان وللآخر رجل وامرأتان، وإن كان للآخر شاهد ويمين
…
رجح الشاهدان في الأظهر،
…
ــ
المتلقي، فيحمل عليه؛ إذ من الممكن أن يكون المقر اشتراها بعد الإقرار من المقر له.
قال: (ومن أخذ منه مال ببينة ثم ادعاه
…
لم يشترط ذكر الانتقال في الأصح) كالأجنبي؛ فإنه لا خلاف أنه إذا أقام ببينة مطلقة
…
سمعت.
والثاني: يشترط؛ لأنه صار مؤاخذًا بالبينة كما لو أقر، وهذه من صور قوله قبل ذلك:(ولو أزيلت يده ببينة) فكان الأحسن أن يذكرها عقبها.
قال: (والمذهب: أن زيادة عدد شهود أحدهما لا ترجح)، بل يتعارضان؛ لما روى البيهقي [10/ 257] عن علي أنه قال:(لا يرجح بكثرة العدد)، ولأن ما يتقدر بالشرع لا يختلف حكمه بالزيادة والنقصان كدية الحر، وهذا هو الجديد.
وفي القديم قولان: أشبههما: نعم؛ لأن القلب إلى قول الأكثر أميل، وكذلك إذا كانت إحداهما أظهر عدالة أو فقهًا، أو معها شهادة أحد الخلفاء الأربعة.
أما الرواية، فترجح بذلك، إذ لا ضبط فيها، فيعمل فيها بما يغلب على الظن، وللشهادة نصاب مضبوط، وقيل: هي كالشهادة أيضًا، وعن الإصطرخي: أنه يرجح بجميع ذلك في الشهادة.
ولا ترجيح بالشرف والسن قولًا واحدًا، وفي عدم الترجيح بالعلم نظر.
قال: (وكذا لو كان لأحدهما رجلان وللآخر رجل وامرأتان) فلا ترجيح على المذهب؛ لقيام الحجة بكل منهما، وقيل: قولان.
قال: (وإن كان للآخر شاهد ويمين
…
رجح الشاهدان في الأظهر)، لأنها حجة مجمع عليها، ولأنها أبعد عن تهمة الكذب.
والثاني: يتعادلان، لأن كلًا منهما حجة كافية في المال.
وَلَوْ شَهِدَتْ لِأَحَدُهُمَا بِمٍلْكٍ مِنْ سَنِةٍ وَلِلْآخِر مِنْ أَكْثَرُ
…
فَالْأَظْهَرْ: تَرْجِيحُ الْأَكْثَر، وَلِصَاحِبُهًا الْأُجْرَة والْزِيَادَة الْحَادِثَة مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَلَوْ أَطْلَقَتْ بَيِّنَة وَأَرْخَتْ بَيِّنَة
…
فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُمَا سَوَاء،
…
ــ
فعلى الأول: لو كان مع صاحب الشاهد واليمين يد فهل يرجح هو أو صاحب الشاهدين أو يتعادلان؟ أوجه: أصحها ثالثها.
قال: (ولو شهدت لأحدهما بملك من سنة ولآخر من أكثر
…
فالأظهر: ترجيح الأكثر)؛ لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه الأخرى، فوجب وقف المتعارض، ولأن ثبوت ملك المتقدم يمنع أن يملكه المتأخر إلا عنه، ولم تتضمنه الشهادة له، فلم يحكم له بها.
والثاني: يتعارضان، ورجحه ابن سريج وابن كج؛ لأن المقصود إثبات المالك في الحال، ولا تأثير للسبق؛ فإنه غير منازع فيه.
والطريقة الثانية: القطع بالأول، لكن الذي رجحاه هنا خالفاه في (باب اللقيط) فقالا: إن البينتين على اللقيط إذ قيدتا بتاريخين مختلفين
…
يقدم السابق، بخلاف المال؛ فإنه لا يقدم فيه بسبق التاريخ على الأصح، والصواب: ما ذكراه في هذا الباب من ترجيح التقديم.
وصورة المسألة: أن تكون العين في يدهما أو في يد ثالث، فإن كانت في يد أحدهما
…
فسيذكرها المصنف.
وصورها ابن الرفعة بما إذا شهدا مع ذلك بالملك في الحال، وهو مراد المصنف وغيره ممن أطلق المسألة؛ لما سيأتي في الشهادة بالملك القديم أنها لا تسمع، فضلًا عن أن ترجح.
قال: (ولصاحبها الأجرة والزيادة الحادثة من يومئذ)؛ لأنها نماء ملكه، وإن قلنا بمقابل الأظهر
…
ففيه الخلاف السابق في تعارض البينتين.
قال: (ولو أطلقت بينة وأرخت بينة
…
فالمذهب: أنهما سواء)؛ لأن المطلقة كالعامة بالنسبة إلى الأزمان.
وَقِيلَ: تَقَدَّمَ الْمُؤَّرِّخَةُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِصَاحِبْ مُتَأَّخِّرَة الْتَّارِيخُ يَدٍ
…
قَدَّمَ، وَأَنَّهَا لَوْ شَهٍدَتْ بِمَلْكِهِ أَمْسَ وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْحَال
…
لَمْ تَسْمَعْ حَتَّى يَقُولُوا: وَلَمْ يَزَلْ مَلِكَهُ، أَوْ لَا نَعْلَمُ مُزِيلًا لَهُ
…
ــ
قال: (وقيل: تقدم المؤرخة)؛ لأن معها زيادة علم، لأنها تثبت الملك من وقت معين، والأخرى لا تقتضي إلا الملك في الحال.
لكن يستثنى: ما إذا شهدت بينة بالحق والأخرى بالإبراء، أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى
…
فإن بينة البراءة أولى؛ لأنهما إنما تكون بعد الوجوب، وهذا بخلاف الرواية، فقد ذكر الأصوليون: أنه يرجح الخبر المروي مطلقًا على الخبر المؤرخ؛ لأن المطلق أشبه بالمتأخر.
قال: (وأنه لو كان لصاحب متأخرة التاريخ يد
…
قدم)؛ لتساقط البينتين فتبقى اليد، وهي أقوى من الشهادة على الملك ولهذا لا يزال بها.
والثاني: ترجيح السبق؛ لأن الترجيح من جهة البينة يقدم على الترجيح من جهة اليد.
والثالث: أنهما يتساويان؛ لتعارض المعنيين.
وحكى ابن الصياغ والفوراني طريقة قاطعة بالأول، وبه يتم في المسألة طريقان، ويصح عطف المسألة على التعبير ب (المذهب).
واحترز بقوله: (متأخرة التاريخ) عما إذا كانت اليد لصاحبه متقدمة التاريخ
…
فإنها تقدم بلا خلاف، وهي تفهم من كلامه من باب أولى.
قال: (وأنها لو شهدت بملكه أمس ولم تتعرض للحال
…
لم تسمع حتى يقولوا: ولم يزل ملكه، أو لا نعلم مزيلًا له)؛ لأن دعوى الملك السابق لا تسمع، فكذلك البينة عليه.
والثاني: تسمع؛ لأنها أثبتت الملك له سابقًا والأصل دوامه.
وَتَجُوزُ الشِّهَادَة بِمِلْكِهِ الآَنَ اسْتِصْحَابًا لِمَا سَبَقَ مِنْ إِرْثٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرٍهِمًا. وَلَوْ شَهِدَتْ بِإقْرَارِهِ أَمْسَ بِالمُلكِ لَهُ
…
اسْتُدِيمَ. وَلَوْ أَقَامَهَا بِمَلِكْ دَابَّة أَوْ شَجَرَةٌ
…
لَمْ يَسْتَحِقُّ ثَمَرَة مَوْجُودَةٌ، وَلَا وَلَدًا مُنْفَصِلًا،
…
ــ
وعن ابن سريج بناء الخلاف على أن الاستصحاب هل هو دليل شرعي أم لا؟
والطريقة الثانية: القطع بالأول، لكن تستثنى من إطلاقه صورتان:
إحداهما: إذا شهدت إحداهما أنه كان ملكه بالأمس اشتراء من صاحب اليد، أو أقر له بالأمس ولم تتعرض للحال
…
فإنها تقبل، وسيأتي في كلام المصنف.
الثانية: لو كان بيده شخص يدعي رقه، فادعى آخر أنه كان له وأنه أعتقه وأقام بينة
…
فقيل على القولين؛ لأنها شهادة بملك متقدم.
والمذهب: القطع بالقبول، لأن المقصود هنا إثبات العتق، وذكر الملك السابق وقع تبعًا، ذكره الرافعي في (فصل اليمن مع الشاهد).
قال: (وتجوز الشهادة بملكه الآن استصحابًا لما سبق من إرث وغيرهما) إعمالًا للاستصحاب، لأن الأصل البقاء.
هذا إذا أطلق الشهادة، فإن صرح في شهادته بأنه اعتمد الاستصحاب
…
لم تقبل كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي وحركة الحلقوم، وقال القاضي حسين: تقبل.
فإن قالا: لا ندري هل زال أم لا
…
لم تقبل قطعًا.
قال: (ولو شهدت بإقراراه أمس بالملك له
…
استديم) أي: حكم الإقرار وإن لم يصرح الشاهد بالملك في الحال.
وقيل يطرد القولين في الشهادة بالملك المتقدم، والظاهر الأول، ولولاه بطلت فائدة الأقارير.
قال الإمام: والخلاف منقاس، لكنه خرقٌ لما درج عليه الأولون.
قال: (ولو أقامها بملك دابة أو شجرة
…
لم يستحق ثمرة موجودة، ولا ولدًا منفصلًا).
وَيَسْتَحِقُّ حَمْلًا فِي الْأَصَحِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَخَذَ مِنْهُ بِحِجَّةٍ مُطْلَقَةٍ
…
رَجِعَ عَلَى بَائِعَهُ بِالثَّمَنِ،
…
ــ
قال: (ويستحق حملًا في الأصح) تبعًا لها، كما لو اشتراها وهي حامل
…
فإن الملك يثبت له على الحمل وإن لم يذكره حالة العقد.
والثاني: لا؛ لاحتمال كونه لغيره بوصية، والمنقول الأول، وإنما الثاني احتمال للإمام فقط، والمراد: الحمل الموجود ثم عند الشهادة له بالأم، حتى لو انفصل الحمل بعد الشهادة وقبل التزكية
…
كان للمدعي قياسًا على شراء الحامل.
واحترز ب (الحمل) عن الولد المنفصل؛ فإنه لا يستحقه، وكذلك لو أقامها بملك شجرة
…
لا يستحق ثمرتها.
قال: (ولو اشترى شيئا فأخذ منه بحجة مطلقة) أي: ليست معترضة لملك سابق (
…
رجع على بائعه بالثمن)؛ لأن الأصل أن لا معاملة بين المشتري والمدعي ولا انتقال، فيستدام الملك المشهود به.
واحترز بقوله: (مطلقة) عما لو أسندت الاستحقاق إلى حالة العقد فيرجع قطعًا، وعما لو أخذ منه بإقراراه بأنه ملك المدعي
…
فلا يرجع على البائع بشيء.
وموضع الخلاف إذا لم يصدقه المشتري، فإن صدقه
…
لم يرجع على البائع قطعًا كما تقدم.
وقيل: لا، إلا إذا ادعى ملكا سابقا على الشراء. ولو ادعى ملكا مطلقا فشهدوا له مع سببه
…
لم يضر، وإن ذكر سببا وهم سببا آخر
…
ضر
…
ــ
وأشار بقوله: (رجع على بائعه) إلى فرع حسن، وهو أن المشتري من المشتري إذا استحق الملك في يده ولم يظفر ببائعه هل له مطالبة البائع الأول؟ الأصح: لا، وبه أفتى القاضي حسين.
قال: (وقيل: لا، إلا إذا ادعى ملكا سابقًا على الشراء)؛ وفاء بالأصل المذكور، لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، وتكون المبايعة صحيحة، وهذا ينقل عن القاضي حسين.
قال: (ولو ادعى ملكا مطلقًا فشهدوا له مع سببه
…
لم يضر)؛ لأنها زيادة علم لكن لا تقدم هذه البينة بذكر السبب بناء على أن ذكر السبب مرجح؛ لأنهم ذكروا السبب قبل الدعوى به والإشهاد عليه.
فإن أعاد دعوى الملك وسببه فشهدوا بذلك
…
رجحت حينئذ.
قال: (وإن ذكر سببًا وهم سببًا آخر
…
ضر) فتبطل شهادتهم؛ لمناقضتها الدعوى.
وقيل: لا يضر، بل تقبل على أصل الملك ويلغو السبب.
تتمة:
هذا نظير المرجح فيما إذا قال: له على ألف من ثمن عبد، فقال المقر له: لا، بل من ثمن دار
…
فإنه لا يضر، ويحتمل الاختلاف في عين السبب، وفي الفرق عسر.
ولو شهد شاهد بألف من ثمن مبيع وآخر بألف من قرض والدعوى مطلقة
…
فقد سبق في (الإقرار) أنه لا يثبت بشهادتهما شيء، وقياس الوجه الثاني في كلام المصنف على ضعفه: ثبوت الألف.
فصل:
قَالَ: آَجَرْتُكَ الْبَيْتُ بِعَشْرَة، فَقَالَ: بَلْ جَمِيعُ الْدَّارُ بِالْعَشْرَةِ، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْن
…
تَعَارَضَتَا، وَفِي قَوْلِ: يُقَّدِّمُ الْمُسْتَأجِرُ
…
ــ
قال: (فصل: قال: آجرتك البيت بعشرة، فقال: بل جميع الدار بالعشرة، وأقاما بينتين
…
تعارضتا)؛ لتكاذبهما، فتتساقطان على الصحيح، ويرجع إلى التحالف ثم ينفسخ العقد، أو يفسخ على ما سبق في بابه، وعلى القول بالاستعمال يقرع على الأصح، ولا تأتي القسمة والوقف على المشهور، أما القسمة
…
فلأن التنازع هنا في العقد وهو لا يمكن أن يقسم، بخلاف الملك، وأما الوقف
…
فلأن المنافع تفوت في مدة التوقف.
وقال ابن سلمة: لا يقرع؛ لأن القرعة عند تساوي الجانبين، ولا تساوي؛ لأن جانب المكري أقوى بملك الرقبة.
قال: (وفي قول: يقدم المستأجر)؛ لاشتمال بينته على زيادة، وهي اكتراء جميع الدار، فكان كما لو شهدت بينة بألف وبينة بألفين
…
يثبت ألفان، وهذا من تخريج ابن سريج.
فرع:
اختلف المكري والمكتري في الرفوف، فإن كانت مسمرة
…
فالقول قول المكري، وكذا حكم كل متصل كالأبواب والسلالم المسمرة وغيرها، وما لا يتصل بالدار من قماش ونحوه القول فيه قول المكتري كيده.
وأما الرفوف والسلالم غير المسمرة
…
فالعرف فيها مضطرب.
قال ابن سريج: المنصوص: أنهما يتحالفان فيها وتكون بينهما.
وقال: بعض الأصحاب: القول فيها قول المكتري مع يمينه؛ لأن الدار بيده بجميع ما فيها، وربما ينصب الساكن الرف بالمسمار، والعرف قاض بذلك.
وَلَوِ ادَّعَيَا شَيْئًا فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ كُلَّ مِنْهُمَا بَيِّنَة أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَوَزَنَ لَهً ثَمَنَهُ: فَإِنْ اخْتَلَفَ تَارِيخُ
…
حَكَمَ لِلْأَسْبَق، وَإِلَّا
…
تَعَارَضَتَا. وَلَوْ قَالَ كُلَّ مِنْهُمَا: بَعَتْكَهُ بِكَذَا، وَأَقَامَاهُمَا: فَإِنْ اتَّحَدَ تَارِيخَهُمَا
…
تَعَارَضَتَا،
…
ــ
قال: (ولو ادعيا شيئا في يد ثالث، وأقام كل منهما بينة أنه اشتراه ووزن له ثمنه: فإن اختلف تاريخ) بأن شهدت عليه إحداهما أنه ابتاعه منه في رمضان وبينة الآخر أنه ابتاعه منه في شوال (
…
حكم للأسبق)؛ لزيادة العلم، ولأنه إذا باع من أحدهما
…
لم يتمكن من البيع للآخر، فلو حصل منه إقرار لأحدهما
…
سلمت إليه وفي حلفه للآخر خلاف، ولو أقام أحدهما بينة
…
قضي له.
قال: (وإلا
…
تعارضتا)؛ لأن التاريخ لم يختلف، فإن قلنا بالسقوط
…
استرد الثمن على الأصح إن لم تتعرض البينة لقبض المبيع، وإن تعرضت له
…
فلا؛ لأن العقد استقر بالقبض، وليس على البائع عهدة ما يحدث بعده، وإن قلنا بالاستعمال
…
فالأشهر: لا يأتي الوقف، وتأتي القرعة والقسمة.
ولم يفرقوا فيما إذا لم يختلف تاريخ البينتين بين أن يطلقا، أو يتحد تاريخهما، أو تطلق واحدة وتؤرخ أخرى، بل صرحوا بالتسوية، وشمل ذلك قول المصنف:(وإلا تعارضتا).
قال: (ولو قال كل منهما: بعتكه بكذا، وأقاماهما: فإن اتحد تاريخهما
…
تعارضتا) هذه المسألة غير التي قبلها، فتلك ادعى اثنان شراء ما في يده وكل يطالب به، وههنا ادعى اثنان بيع ما في يده منه، وكل يطالب بالثمن.
وصورتها: دار في يد إنسان جاء اثنان فقال كل واحد منهما: ابتعت منك هذه الدار وكانت ملكي بكذا فأد الثمن، فإن أقر لهما
…
طولب بالثمنين، وإن أقر لأحدهما
…
طولب بالثمن الذي سماه وحلف للآخر، وإن أقر أنه ابتاعها منهما معًا
…
لزمه لكل منهما نصف الثمن وحلف على الباقي، وإن أنكرهما
…
حلف لكل منهما يمينًا واندفعا.
وإن أقاما بينتين .. تعارضتا كما قال المصنف؛ لاستحالة كون الشيء الواحد ملكا في وقت واحد لهذا وحده، ولهذا وحده فعلى قول التساقط كأنه لا بينة، وعلى قول
وَإِنْ اخْتَلَفَ
…
لَزِمَهُ الْثَّمَنَان، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا فٍي الْأَصَح
…
ــ
القرعة من خرجت له قضي لع بالثمن الذي شهد به شهوده، وللآخر تحليفه لا محالة؛ لأنه لو اعترف به بعد ذلك
…
لزمه، وعلى القسمة لكل منهما نصف الثمن الذي سماه، وكأن الدار كانت لهما فباعاها بثمنين مختلفين أو متفقين.
وفي مجيء قول الوقف الخلاف السابق، والظاهر مجيئه هنا، فلو لم تكن بينة
…
حلف لهما يمينين، وإن أقام أحدهما بينة
…
قضي له وحلف للآخر.
قال: (وإن اختلف
…
لزمه الثمنان)؛ لأن التنافي غير معلوم والجمع ممكن، لكن يشترط أن يكون بينهما زمان يمكن فيه العقد الأول، ثم الانتقال من المشتري إلى البائع الثاني، ثم العقد الثاني، فإذا عين الشهود وقتًا لا يتأتى فيه ذلك
…
لم يتصور لزوم الثمنين.
قال: (وكذا لو أطلقتا أو إحداهما) أي: وأرخت الأخرى (في الأصح)، لإمكان الجمع.
والثاني: أنهما كمتحدتي التاريخ؛ لأن الأصل براءة ذمة المشتري فلا يلزمه إلا اليقين.
وصور الشافعي المسألة بما إذا قال كل واحد: إنه باعه الدار وهو مالك لها، وجرى عليه الأكثرون.
وقضية إطلاق الكتاب وغيره أنه لا فرق في الحكم بين أن يذكر أنها ملكه وقت البيع أو لا، وهو ما حكاه أبو الفياض البصري في (تتمة الجامع الصغير) واستغربه الرافعي.
فرع:
شهد اثنان أنه باع من فلان ساعة كذا، وآخران أنه كان في تلك الساعة ساكتًا، أو شهد أنه قتل زيدًا ساعة كذا، وآخران أنه كان في تلك الساعة لا يتحرك ولا يعمل شيئا
…
ففي قبول الشهادة الثانية خلاف للأصحاب؛ لأنها شهادة على النفي.
قال المصنف: الأصح القبول؛ لأن النفي المحصور كالإثبات في إمكان الإحاطة
وَلَوْ مَاتَ عَنْ ابْنَيْن مُسْلِمُ وَنَصْرَانِي فَقَالَ كُل مِنْهُمَا: مَاتَ عَلَى دِينِي: فَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيَّا
…
صَدَقَ الْنَّصْرَانِي، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْن مُطْلَقَتَيْن
…
قَدَّمَ الْمُسْلِمُ، وَإِنْ قُيِّدَتْ أَنْ آَخِر كَلَامَهُ إِسْلَام وَعَكَسَتْهُ الْأُخْرَى
…
تَعَارَضَتَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ دِينَهُ وَأَقَامَ كُلَّ بَيِّنَة أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِه
…
تَعَارَضَتَا
…
ــ
به، ويوافقه قول الرافعي في آخر (الطلاق): إنه لو رأى ذهبًا فحلف بالطلاق أنه الذهب الذي أخذه من فلان فشهد شاهدان أنه ليس ذلك الذهب
…
وقع الطلاق على ظاهر المذهب وإن كانت هذه شهادة على النفي، لأنه نفي يحيط العلم به.
فرع:
قامت بينة أن هذا ابن زيد، لا يعرف له وارث سواه، وبينة أن هذا ابنه، لا يعرف له وارث سواه
…
ثبت نسبهما، ولعل كل واحدة أطلقت علم ما لم تطلع عليه الأخرى.
قال: (ولو مات عن ابنين مسلم ونصراني فقال كل منهما: مات على ديني: فإن عرف أنه كان نصرانيًا
…
صدق النصراني) أي: مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الكفر والمسلم يدعي النتقالًا الأصل عدمه.
قال: (فإن أقاما بينتين مطلقتين
…
قدم المسلم)؛ لأن مع بينته زيادة علم، وهو انتقاله من النصرانية إلى الإسلام، والأخرى استصحبت الأصل، والناقة أولى من المستصحبة.
قال: (وإن قيدت أن آخر كلامه إسلام وعكسته الأخرى
…
تعارضتا)؛ لاستحالة موته مسلمًا نصرانيًا، وتصير كأن لا بينة فيصدق النصراني بيمينه؛ لأن الظاهر معه.
ونقل شريح الروياني عن جده وجهًا ضعيفًا: أنه يصير مسلمًا لحكم الدار.
وإن قلنا بالاستعمال
…
فعلى قول الوقف: توقف؛ لأن المدعى مال، وعلى قول القرعة: من خرجت له
…
فله التركة، وعلى قول القسمة: تجعل بينهما نصفين كغير الإرث.
قال: (وإن لم يعرف دينه وأقام كل بينة أنه مات على دينه
…
تعارضتا)، سواء أطلقتا أم قيدتا باللفظ عند الموت، لاستحالة إعمالهما، أما إذا لم تكن بينة، فإن كان
وَلَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ المُسْلمُ: أَسْلَمْتُ بضعْدَ مَوْتِهِ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَنَا، وَقَالَ النَصْرَانِيُّ: بَلْ قَبْلَهُ .. صُدِّقَ المُسْلِمُ بشيَمِنِهِ، وَإِنْ أَقَامَاهُمَا .. قُدِّمَ النَصْرَانِيُّ، فَلَوْ اتَفَقَا عَلَى إسْلَام الابْنِ فِي رَمَضَانَ، وَقَالَ المُسْلِمُ: مَاتَ الأَبُ فِي شَعْبَانَ، وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: فِي شَوَّالِ .. صُدِّقَ النَّصْرَانِيُّ، ......
ــ
المال في يد غيرهما .. فالقول قوله، وإن كان في يدهما .. حلف كل لصاحبه وجعل بينهما، وكذا لو كان في يد أحدهما في الأصح.
وتقدم في (الجنائز): أن الميت يغسل ويصلى عليه في هذه المسائل، وتنوى الصلاة عليه إن كان مسلمًا، وكذا يقيد الدعاء بذلك.
ويشترط في بيئته أن يفسر كلمة التنصر بما يختص به كثالث ثلاثة ونحوها، وهل يجب التفسير في بينة المسلم؟ وجهان.
قال: (ولو مات نصراني عن ابنين مسلم ونصراني فقال المسلم: أسلمت بعد موته .. فالميراث بيننا، وقال النصراني: بل قبله) أي: فلا ميراث لك (.. صدق المسلم بيمينه)؛ لأن الأصل بقاؤه على دينه، فيحلف ويشتركان في المال، وإن أقام بينة .. قضي بها.
هذا إن لم يتعرض لتاريخ موت الأب وإسلام الابن، بل أطلقا ذلك أو اتفقا على وقت موت الأب كرمضان، وقال المسلم: أسلمت في شوال، وقال أخوه: بل في شعبان؛ لأن الأصل بقاؤه على دينه فيشتركان.
نعم؛ لو شهدت بينة المسلم بأنهم سمعوا منه النصرانية إلى نصف شوال مثلًا .. تعارضتا.
قال: (وإن أقاماهما .. قدم النصراني)؛ لما مع بينته من زيادة العلم، لأنها ناقلة من النصرانية إلى الإسلام، وتلك ميتصحبة ولا فرق – كما قاله في (المحرر) ويره – بين كون هذا التاريخ مع الاتفاق على تايخ موت الأب أو دونه.
قال: (فلو اتفقا على إسلام الإبن في رمضان، وقال المسلم: مات الأب في شعبان، وال النصراني في شوال .. صدق انصراني)؛ لأن الأصل بقاء الحياة.
وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ المُسلِمِ عَلَى بَيَّنَتِهِ. وَلَو مَاتَ عَن أَبَوَينِ كَافِرَينِ وَابنَينِ مُمسلِمَينِ فَقَالَ كُلُّ: مَاتَ عَلَى دِينِنَا .. صُدِّقَ الَأَبَوَانِ بِاليَمِينِ، وَفِي قَولٍ: يُوقَفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَو يَصطَلِحُوا
ــ
قال: (وتقدم بينة المسلم على بينته)؛ لأنها نقلت من الحياة إلى الموت في شعبان، وتلك استصحبت، فمع الأولى زيادة علم.
واعترض الإمام على الأصحاب بأن بينة النصراني أثبتت الحياة في شعبان؛ لأنها تشهد على الموت في شوال، والموت إنما يكون بعد الحياة، والحياة صفة ثابتة يشهد عليها كالموت، فيحكم بتعارضهما وجريان أقوال التعارض.
وأجاب الرافعي بأن هذا الكلام لا اختصاص له بهذه الحالة، بل يمكن أن يقال في الحالين السابقين.
واقتصر في (الشرح الصغبر) على موافقة الإمام، ولم يذكر بحثه معه.
قال: (ولو مات عن أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال كل: مات على ديننا .. صدق الأبوان باليمين)؛ لأن الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعًا للأبوين فيستصحب حتى يعلم خلافه.
قال: (وفي قول: يوقف حتى يتبين أو يصطلحوا)؛ لأن التبعية نزول بالبلوغ وحصول الاستقلال.
وقيل: القول قول الابنين؛ لظاهر الدار.
قال في زوائد (الروضة): قول الوقف أرجح دليلًا، لكن الأصح عند الأصحاب الأول، وأنكروا على صاحب (التنبيه) ترجيحه قول الابنين، وهو ظاهر الفساد. اهـ
وكأنه قلد ابن يونس في ذلك، والذي في (ابن الخل) لفظ الأبوين، وهو أعلم (بالتنبيه) من ابن يونس، وكذا ذكره جميع العراقيين لكن بلا ترجيح، وبالجملة نسخ (التنبيه) مختلفة.
تنبيهان:
أحدهما: قال ابن الرفعة: محل ما ذكرناه إذا كان الولدان بالغين ولم تكن أمهما
وَلَو شَهِدَت أَنَّهُ أَعتَقَ فِي مَرَضِهِ سَالِمًا، وأُخرَى غَانِمًا، وكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِهِ: فَإنِ اختَلَفَ تَارِيخٌ .. قُدِّمَ الأَسبَقُ، وَإن اتَّحَدَ .. أُقرِعَ، وَإن أَطَلَقَتَا .. قِيلَ: يُقرَعُ، وَقِيلَ: فِي قَولٍ: يُعتَقُ مِن كُلَّ نِصفُهُ. قُلتُ: المَذهَبُ: يَعتِقُ مِن كُلُّ نِصفُهُ، واللهُ أَعلَمُ. وَلَو شَهِدَ أَجنَبِيَّانِ أنَّهُ أوصَى بِعِتقِ سَالِمٍ وَهُوَ ثُلَثُهُ، وَوَارِثَانِ حَائِزَانِ أنَّهُ رَجَعَ عَن ذَلِكَ وَوَصَّى بِعِتقِ غَانِمِ وَهُوَ ثُلَثُهُ .. ثَبَتَت لِغَانِم، ....
ــ
كافرة، فإن كانا صغيرين وأمهما كافرة وقامت بينة بإسلامها أو أقر الجدان بذلك .. فإنه يحكم بموته مسلمًا، وتكون الدعوى من الناظر في مالهما كما قاله في (المرشد).
الثاني: لو انعكس الحال فكان الأبوان مسلمين والابنان كافرين، فإن لم يعرف للأبوين كفر قبل الإسلام .. حكم بالإسلام ولديهما ولا يمين عليهما والميراث لهما، وإن علم كفر الأبوين قبل الإسلام .. قال الماوردي: فيجوز أن يولد قبل إسلامهما فيحكم بكفره قبل بلوغه، ويجوز أن يولد بعده فيكون قبل البلوغ مسلمًا.
قال: (ولو شهدت أنه أعتق في مرضه سالمًا، وأخرى غانمًا، وكل واحد ثلث ماله: فإن اختلف تاريخ .. قدم الأسبق)؛ لأن التصرفات المنجزة في مرض الموت يقدم فيها الأسبق فالأسبق، ولأن معها زيادة علم.
قال: (وإن اتحد .. أقرع)؛ لعدم المرجح.
قال: (وإن أطلقنا .. قيل: يقرع)؛ لاحتمال المعية والترتيب.
قال: (وقيل: في قول: يعتق من كل نصفه)؛ لأنا لو قرعنا .. لم نأمن أن يخرج تارق على السابق، وله وللسابق حق الحرية، فيلزم منه إرقاق حر وتحرير رقيق، فلذلك اختاره المصنف فقال:
(قلت: المذهب: يعتق من كل نصفه والله أعلم) وعبارة (المحرر): ورجح كلًا طائفة من الأصحاب.
قال: (ولو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وهو ثلثه، ووارثان حائزان أنه رجع عن ذلك ووصى بعتق غانم وهو ثلثه .. ثبتت) أي: الوصية الثانية (لغانم) فتقبل
فَإِن كَانَ الوَارِثَانِ فَاسِقَينِ .. لَم يَثبُتِ الرُّجُوعُ فَيَعتِقُ سَالِمٌ وَمِن غَانِمِ ثُلُثُ مَالِهِ بَعدَ سَالٍم
ــ
شهادة الوارث في الرجوع وفي الوصية الثانية؛ لأنهما أثبتا للرجوع بدلًا لا يساويه فلا تهمة، ولا نظر إلى تبديل الولاء وكون الثاني أهدى لجمع المال الذي يورث عنه؛ فإن مجرد هذا الاحتمال لو ردت الشهادة به .. لما قبلت شهادة قريب لقريب.
وعن أبي حنيفة ومالك: لا تقبل شهادتهما على الرجوع بذلك، بل يعتق العبدان معًا.
تنبيه:
قوله هنا: (حائزان) لا فائدة له؛ فإن الحكم كذلك وإن لم يكونا حائزين، بل ولا وارثين، وإنما ذكره المصنف توطئة للمسألة التي بعده فإنه قيد فيها.
قال: (فإن كان الوارثان فاسقين .. لم يثبت الرجوع فيعتق سالم) بشهادة الأجنبيين؛ لأن الثلث يحتمله ولم يثبت الرجوع فيه.
قال: (ومن غانم ثلث ماله بعد سالم) أي: ويعتق من غانم قدر ما يحتمله ثلث الباقي بعد سالم من الثلثين، وكأن سالمًا هلك أو غصب من التركة.
ولو قال الوارثان: أوصى بعتق غانم، ولم يتعرضا للرجوع عن سالم .. فالمذهب: القرعة، وقيل: قولان: ثانيهما القسمة.
ولو كانت المسألة بحالها لكن سالم سدس المال .. فالوارثان متهمان برد العتق من الثلث إلى السدس، فلا تقبل شهادتهما بالرجوع في النصف الذي لم يثبتا له بدلًا، وفي الباقي الخلاف في تبعيض الشهادة، فإن قلنا: لا تبعض –وهو الذي أجاب به الشافعي في هذه المسألة- ردت شهادتهما فيه أيضًا، ويعتق العبدان الأول بشهادة الأجانب والثاني بإقرار الورثة، فإن لم يكونا حائزين .. عتق منه بقدر ما يستحقانه، وإن قلنا: تبعض .. عتق نصف الأول وكل الثاني.
كل هذا لم يكن في التركة وصية أخرى، فإن كان أوصى بثلث ماله لرجل آخر وقامت البينتان لسالم وغانم كما ذكرنا .. قبلت شهادة الورثة بالرجوع عن وصية سالم؛
فَصلٌ:
ــ
إذ لا تهمة في الرجوع، فيجعل الثلث أثلاثًا بين الموصى له بالثلث وعتق سالم، فيعطى الموصى له ثلث الثلث، ويعتق من سالم ثلثاه وهو ثلث الثلث.
تتمة:
قال الشافعي: إ1ااختلف الزوجان في متاع البيت، فمن أقام البينة على شبء من ذلك .. فهو له، ومن لم يقم بينة .. فالقياس الذي لا يعذر أحد عندي بالغفلة عنه: أن هذا المتاع في أي\يهما معًا، فيحلف كل منهما لصاحبه على دعواه؛ فإن حلفا جميعًا .. فهو نصف بينهما نصفين.
وإن حلف أحدهما دون الآخر .. قضي للحالف، وسواء اختلفا مع دوام النكاح أم بعد التفرق، واختلاف مرثتهما كهما، وكذلك أحدهما ووارث الآخر، وسواء ما يصلح للزوج كالسيف والمنكقة أو للزوجة كالحلي والغزل، أو لهما كالدرهم والدنانير، أو ملا يصلح لهما كالمصحف وهما أميان والنبل وتاج الملوك وهما عاميان.
وقال أبو حنيفة: إن كان في يديهما حسًا .. فهو لهما، وإن كان في يديهما حكمًا، فما يصح للرجل .. فللزوج، أو لا
…
فلها، والذي يصلح لهما .. لهما، وعن أحمد ومالك قريب من ذلك.
احتج الشافعي بأن الرجل قد يملك متاع المرأة والمرأة متاع الرجل؛ إذ لو استعملت الظنون .. لحكم في دباغ وعطار تداعيا عطرًا ودباغًا في أيديهما أن يكون لكل ما يصلح له، وفيما إذا تنازع موسور ومعسر في لؤلؤ أن نجعله للموسر، ولا يجوز الحكم بالظنون.
قال: (فصل):
ترجمه في (المحرر) ب (كتاب إلحاق القائف) وهو في اللغة: متبع الثار، والجمع قافة كبائع وبائعة.
والأصل فيه: حديث عائشة الثابت في (الصحيحين)[خ 6771 _ م 1459/ 39] قالت:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسرور فقال: (أي عائشة؛ ألم تري أن مجززًا المدجلي دخل فرأى أسامة بن زيد وزيدَا عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض).
قيل: سمي مجززًا لأنه إذا أخذ أسيرًا جز ناصيته، قال أبو داوود [2261]: وكان أسامة أسود وزيد أبيض.
وروى ابن سعد: أن أسامة كان أحمر أشقر وزيد مثل الليل الأسود.
وفي (الرافعي): أن زيدًا كان بين البياض والسواد.
وقال الشافعي: فلو لم تكن القيافة علمًا ولها اعتبار وعليها اعتماد .. لمنعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقر على خأ، ولا يسر إلا بالحق.
وروى مالك [2/ 740]: أن عمر دعا قائفين في رجلين تداعيا مولودًا.
وشك أنس في مولود له فدعا له قائفًا، رواه الشافعي [1/ 330] ، ويقول لنا مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بقول القائف.
وفي (عجائب المخلوقات) و (الرافعيط وغيرهما عن بعض التجار: أنه ورث من أبيه مملوكًا أسود شبخًا، قال: فكنت في بعض أسفاري راكبًا على بعير والمملوك يقوده، فاجتاز بنا رجل من بني مدلج، فأمعن فينا نظره ثم قال: ما أشبه الراكب بالقائد، قال: فرجعت إلى أمي فأخبرتها بذلك فقالت: صدق، إن زوجي كان شيخًا كبيرًا ذا مال ولم يكن له ولد، فزوجني بهذا المملوك فولدتك، ثم نكحني واستلحقك.
وإنما ذكر المدجلي الأقدام لأنها ما يظهر به الشبه، قال القاضي أبو الطيب:
شَرطُ القَائِفِ: مُسلِمٌ، عَدلٌ، مُجَرِّبٌ،
ــ
أنشدني بعض النسابة لبعض العرب [من الرجز]:
قد زعموا أني أحب مطرفا .... بلى ورب البيت حبًا مشرفا
يعرفه من قاف أو تقوفا .... في القدمين واليدين والقفا
وطرف أذنيه إذا تشوفا
وكانت العرب تحكم بالقافة وتفخر بها وتعدها من أشرف علومها وهي الفراسة غرائز في الطباع، يعان بها المجبول عليها، ويعجز المصروف عنها.
قال: 0شرط القائف: مسلم، عدل) فلا يقبل الكافر والفاسق؛ لأنه حاكم أو قاسم.
وشرط في (المحرر) البلوغ والعقل، فاستغنى المصنف عنهما بوصف العدالة.
ولا تكفي الظاهرة، بل لابد من أهلية الشهادة، وهي أعم من مطلق العدالة؛ لشمول النطق والبصر وانتفاء العداوة والولادة.
وكان الصواب أن يقول: إسلام ، وكذا ما بعده فيأتي بالمصدر، ولهذا قال في (المحرر): أن يكون مسلمًا، وهو أحسن.
قال: (مجرب) لما روى الترمذي [2033] وقال: حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حكيم إلا ذو تجربة).
كما لا يولى القضاء إلا بعد معرفة علمه بالأحكام، فلو ادعى علمه بها .. لم يقبل حتى يجرب (.
وفسر في (المحرر) التجربة بأن يعرض عليه الولد في نسوة ليس فيهن أمه ثم مرة أخرى ثم مرة أخرى كذلك، ثم مرة أخرى في نسوة فيهن أمه ، فإن أصاب في الجميع .. فهو مجرب؛ لأنه يجوز أن يصيب في الأولى اتفاقًا وفي الثانية ظنًا وفي الثالثة يقينًا، والعجب من المصنف كيف حذف هذا الحكم، وفيه وجهان:
وَالأَصَحُّ: اشتِرطُ حُرٍّ ذَكَرٍ، لَا عَدَدٍ وَلَا كَونِهِ مُدلِجِليًا
ــ
أحدهما: لا بد من التجربة ثلاثًا، وهو المحكي في (الشرح) عن الشيخ أبي حاد وأتباعخ.
والثاني: كرة، ونقله في (الذخائر) عن ظاهرة الأحاب.
وتوسط الإمام فاعتبر غلبة الظن به عن خبرة لا عن اتفاق، وهو نظير ما تقدم في جارحة الصيد.
وأما العرض مع أمه .. فهذا من جهة الأولوية؛ فإن الأصح أنه لا يختص بها، بل يجوز مع الأب، وعند فقده مع أحد العصبات والقرابات.
وعلم من قوله: (مجرب) أنه يشترط أن يكون بصيرًا ناطقًا، وهو كذلك.
و (المجرب) بفتح الراء، قال الجوهري: هكذا تكلمت به العرب، وهو الذي جربته الأمور وأحكمته.
وقال ابن سيدةه: المجرب: الذي اختبر ما عنده.
قال: (والأصح: اشتراط حر ذكر) كالقاضي.
والثاني: يجوز الرجوع إلى العبد والمرأة كالفتوى، وقيل: تشترط الحرية دون الذكورة، ونسبه في (الذخائر) إلى القاضي أبي الطيب، وإنما أعاد المصنف الحرية مع فهمها من العدالة لأجل الخلاف فيها.
قال: (لا عدد) فيكفي قول الواحد كالقاضي والقاسم، ويدل له الحديث المتقدم.
والثاني: لا بد من اثنين كما في التزكية والتقويم.
قال: (ولا كونه مجدليًا) بل يجوز كونه من سائر العرب والعجم؛ لأن القيافة نوع من العلم، فمن تعلمه .. عمل بعلمه.
وفي (سنن البيهقي)[10/ 264]: أن عمر كان قافئًا يقوف.
والثاني: يشترط؛ لأن الصحابة رجعوا إلى بني مدلج دون سائر العرب، وقد يخص الله تعالى جماعة بنوع من الفضائل كما خص قريشًا بالإمامة، وصصح هذا الإمام والغزالي وبعض المراوزة.
وَإذَا تَدَاعَيَا مَجهُولًا .. عُرِضَ عَلَيهِ، وَكَذَا لَوِ اشتَرَكَا فِي وَطءٍ فَوَلَدَت مُمكِنًا مِنهُمَا وَتَنَازَعَاه؛
ــ
فرع:
يعرض الولد على القافة بعد موته على الأصح ما لم يتغير، قال البغوي: ولا يعرض بعد الدفن؛ لما في النبش من الهتك.
قال في (المطلب): وإطلاق غيره يحمل على تقييده، ولو ألقت سقطًا مخططًا .. عرض على القافة.
قال: (وإذا تداعيا مجهولًا .. عرض عليه) ، سواء كان لقيطًا أو غيره، والمجنون البالغ كالطفل.
وأطلق المصنف والرافعي العرض من غير فرق بين أن تكون لأحدهما عليه يد أو لا، والأشبه: تفصيل ذكره في (اللقيط)، وهو: أنه إن كان في يد عن التقاط .. لم يقر، وإن لم يكن عن التقاط .. قدم صاحب اليد.
لكن ظاهر عبارته: أن تداعيهما شرط للعرض، وليس كذلك، بل إذا ادعاه أحدهما والآخر ساكت أو منكر .. كان الحكم كذلك؛ لأن الولد صاحب حق في النسب، فلا يسقط حقه بإنكار الغير، وكذلك لو أنكراه معًا، وسواء كان الولد صغيرًا أم بالغًا، وقيل: لا يرجع إلى القافة بعد بلوغه.
قال: (وكذا لو اشتركا في وطء فولدت ممكنًا منهما وتنازعاه) أي: ولم تتخلل بين الوطأين حيضة كما سيأتي، فيعرض على القافة.
وعند أبي حنيفة: يلحق الولد بهما أو بهم، ولا اعتبار بقول القاف.
واحتج الأصحاب لاعتبار قول القاف بما تقدم ، وبقوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} ، فلو كان له أبوان .. لكان له قلب إلى كل منهما.
وبأن الولد لا ينعقد من ماء شخصين؛ لا بد وأن يكون على التعاقب، وإذا اجتمع ماء الأول مع ماء المرأة وانعقد الولد منه .. حصلت عليه غشاوة تمنع اختلاط ماء الثاني بذلك.
بِأَن وَطئِاَ بِشُبهَةٍ أَو مُشتَرَكَةً لَهُمَا، أو وَطِىءَ زَوجَتَهُ وَطلَّقَ فَوطِئَهَا آخَرُ بِشُبهَةٍ أَو نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَو أَمَتَهُ فَبَاعَهَا فَوَطِئَهَا المُشتَرِي ولَم يَستَبرِئ وَاحِدٌ مِنهُمَا، [وَكَذَا لَو وَطِءَ مَنكُوحَةً فِي الأَصَحِّ] ،
ــ
وأيضًا فإنه لو تداعى الولد مسلم وكافر أو حر وعبد .. لا يلحق بهما بالاتفاق، فكذلك إذا تداعاه مسلمان.
وقال إسحاق بن راهوية: السنة: الإقراع في دعوى الولد؛ لما روى الشافعي [7/ 177] وأحمد [4/ 374] وأبو داوود [2263] والنسائي [6/ 183]: وابن ماجه [2348] والبيهقي [10/ 267] عن زيد بن أرقم أنه قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليًا يختصمون إليه في أنهم ةقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل كلًا منهم أن يطيب بالولد لغيره فأبى، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع .. فله الولد، ثم أقرع بينهم فجعله لمن قرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال:(القضاء ما قضى علي).
وكان الشافعي يقول بهذا في القديم ثم رجع عنه، والحديث ضعفه البخاري، وقيل لأحمد: ما تقول فيه؟ قال: حديث القافة أحب إلي منه.
قال: (بأن وطئًا بشبهة) أشار بهذا إلى أن الاشتراك في الوطء على الوجه المذكور يعرض من وجوه: منها: أن يطأها كل منهما بالشبهة كما إذا ظنها زوجته أو أمته.
فلو كانت في نكاح صحيح فوطئها بشبهة .. فوجهان: أصحهما: أنه يعرض عليه أيضًا، وقيل: يلحق بازوج؛ لقوة الفراش.
قال: (أو مشتركة لهما، أو وطء زوجته وطلق فوطئها آخر بشبهة أو نكاح فاسد، أو أمته فباعها فوطئها المشتري ولم يستبرئ واحد منهما [وكذا لو وطء منكوحة في الأصح])؛ لأن هذه مواضع الاشتباه، فإذا ولدت ولدًا من الواطئين لزمن الإمكان .. عرض عليه.
فَإِذَا وَلَدَت لِمَا بَينَ سِتَّةِ أشهُرٍ وَأربَعٍ سِنِينَ مِن وَطأَيهِمَا وَادَّعَيَاهُ .. عُرِضَ عَلَيهِ، فَإِن تَخَلَّلَ بَينَ وَطأَيهِمَا حَيضَةٌ .. فَلِلثَّانِي، إلَّا أَن يَكُونَ الأَوَّلُ زَوجًا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ،
ــ
تنبيهان:
أحدهما: (المحرر) قيد النكاح بالصحيح، وحذفه المصنف؛ بناء على أن ألفاظ العقود تنزل على الصحيح، لكن يعكر عليه التقييد بالصحة في الصورة الآتية، ولو قيد هنا وأطلق هناك .. كان أولى؛ لإمكان الإجابة عليه، أو يطلق فيهما؛ حملا للفظ على الصحيح.
الثاني: أن ذلك لا يثبت إلا بالبينة على الوطء، ولا يكفي اتفاق الزوجين والواطئ عليه؛ لأن المولود حقًا في النسب، واتفاقهما ليس بحجة عليه.
فإذا قامت البينة .. عرض على القائف، كذا قاله الرافعي هنا، وكلامه في (كتاب اللعان) يقتضي الاكتفاء بالاتفاق.
فإن كان المدعى نسبه بالغًا واعترف بجريان وطء الشبهة .. وجب أن يغني عن البينة، وحينئذ فيجب تقييد كلام المصنف ببينة الوطء أو تصديق الولد المكلف.
قال: (فإذا ولدت) أي: الموطوءة في طهر واحد (لما بين ستة أشهر وأربع سنين من وطأيهما وادعياه .. عرض عليه) أي: على القائف؛ لإمكان أن يكون منهما، وتداعياتهما ليس بشرط كما تقدم.
قال: (فإن تخلل بين وطأيهما حيضة .. فللثاني)؛ لأن الحيض أمارة ظاهرة على البراءة عن الأول فيقطع تعلقه عنه، وإذا انقطع الأول .. تعين الثاني؛ لأن فراشه لم ينقطع بعد، ولا فرق بين أن يدعيه الأول أم لا.
قال: (إلا أن يكون الأول زوجًا في النكاح صحيح) أي: والثاني بشبهة أو نكاح فاسد .. فلا يتعين للثاني، بل يكون كما لو تخللت الحيضة؛ لأن إمكان الوطء مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطء، والإمكان حاصل بعد الحيضة، بخلاف ملك اليمين؛ فإنه لا يثبت فراشًا.
واحتراز ب (الصحيح) عما لو كان الأول زوجًا يناكح فاسد .. فالأصح أنه للثاني.
وَسَواءُ فِيهِمَا أَتَفَقَا إِسلَامًا وَحُرِيَّةً أَم لَا
ــ
قال: (وسواء فيهما أتفقا إسلامًا وحرية أم لا) كما سبق في (اللقيط) ، فالمصنف ذكر المسألة هناك.
وتقدم حكم ما إذا لم يكن قائف، أو كان وتحير، أو نفاه عنهما، أو ألحقه بهما.
تتمة:
قال القاضي حسين: إذا قال القائف: الولد لفلان قبل أن يقول له القاضي: ألحق الولد بأحدهما .. لا يكون شيئًا، ولا بد من تنفيذ القاضي قول القائف إلا أن يكون في البلد قائف نصبه القاضي حكمًا، فلا يحتاج أن يقول: نفذت قوله.
ونفقة الوالد إلى أن يعرض على القائف وفي مدة التوقف إلى الانتساب عليهما، فإذا التحق بأحدهما .. رجع الآخر إليه بما أنفق إن كان أنفق بإذن الحاكم على المشهور.
ولو استلحق رجل صبيًا محهولًا، فلما باغ .. أنكر كونه ابنه .. ففي قبوله قولان كالقولين فيمن حكم بإسلامه تبعًا لأصله ثم بلغ وكفر، هل يقر؟ والأصح: لا يقر ولا ينقطع اللحوق هنا.
خاتمة
إذا ألحقه قائف بأحدهما بالأمارة الظاهرو، فآخر بالأمارة الخفية كالخلق وتشاكل الأعضاء فأيهما أولى؟ وجهان: رجح الشيخان الثاني؛ لأن فيه زيادة حذق وبصيرة، وجزم الماوردي بالأول.
ويحتمل أن يقال: يعرض على ثالث، فإذا وافق أحدهما .. عمل به كما قيل بمثله في اختلاف جواب المفتيين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولو ادعاه مسلم وذمي وأقام أحدهما بينة .. تبعه نسبًا ودينًا، وإن ألحقه القائف بالذمي .. تبعه نسبًا لا دينًا، ولا تحصل حضانته للذمي.
ولو ادعاه حر وعبد فألحقه القائف بالعبد .. ثبت النسب وكان حرًا؛ لاحتمال أنه ولد من حرة ، كذا قاله الشيخان وغيرهما، وهذا فيما يلحقه العبد بنفسه.
فلو تداعيا عمومة المجهول أو أخوته .. فدعوة الحر أولى، قاله الجويني وغيره؛ لأن العبد وإن كان مقبول القول على نفسه في الإلحاق فلا يجوز قبول قوله في إلحاق المجهول بأبيه أو بجده، والله أعلم.
كتاب العتق