الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْقَضَاءِ
ــ
كتاب القضاء
هو بالمد: الولاية المعروفة، وجمعه أقضية كغطاء وأغطية ورداء وأردية.
قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وهو في الأصل: إحكام الشيء وإمضاؤه وفراغه، ومنه:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} فالقاضي ينهي الأمر ويفرغ منه.
وقضى بمعنى أوجب، ومنه:{وقَضَى رَبُّكَ} ، فالقاضي يوجب الحكم على المحكوم عليه.
والقضاء: الإتمام، ومنه:{فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} ، فسمي القضاء قضاء؛ لأن القاضي يتم الأمر بالفصل ويمضيه ويفرغ منه.
وسمي حكمًا لما فيه من منع الظالم من الظلم، ومنه الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله، أو من إحكام الشيء مأخوذ من حكَمة اللجام؛ لمنعها الدابة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهو في الشرع: فصل الخصومة بحكم الله تعالى.
ونقل ابن بري عن بعضهم: أنه فرق بين القضاء والحكم بأن الحكم: إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولًا، والقضاء: إيقاع ما يوجبه الحكم فعلًا.
وقال ابن عبد السلام: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية هو إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه، بخلاف المفتي؛ فإنه لا يجب عليه إمضاءه.
والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} ، {وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} ، {وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب .. فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ .. فله أجر) رواه الشيخان [خ 7352 – م 1716]، وفي رواية للحاكم [4/ 88]:(إذا اجتهد فأخطأ .. فله أجر، وإن أصاب .. فله عشر أجور).
قال المصنف: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، إن أصاب .. فله أجران باجتهاده وإصابته، وإن أخطأ .. فله أجر باجتهاده في طلب الحق، وسيأتي في نقض الحكم بيان هذا الحديث.
فأما من ليس بأهل للحكم .. فلا يحل له أن يحكم، فإن حكم .. فلا أجر له، بل هو آثم ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد روى الأربعة والحاكم [4/ 90] والبيهقي [10/ 117]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة .. فرجل عرف الحق فقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى للناس على جهل).
فالقاضي الذي ينفذ حكمه هو الأول، والثاني والثالث لا اعتبار بحكمهما، ولذلك كان السلف يتحامون الدخول في القضاء؛ لخطر أمره
روى البيهقي [10/ 97] عن محارب بن دثار: أنه كان إذا جلس للقضاء قال: اللهم إنك تعلم أني لم أجلس هذا المجلس الذي ابتليتني به وقدرته عليه إلا وأنا أكرهه وأبغضه، فاكفني شر عواقبه.
قال: وطُلب قعنب التميمي للقضاء فلم يقبل، فلم يزل به الأمير إلى أن ولي كرهًا، فدخل منزله فسقط عليه البيت فمات متواريًا.
وقال أبو جعفر المنصور للّيث بن سعد: أوليك القضاء؟ فلم يفعل، فاستشاره في رجل يوليه، فأشار بعثمان بن الحكم الجذامي، فلما بلغه ذلك .. عاهد الله أن لا يكلم الليث أبدًا.
وقال: وعرض على الحسين بن منصور النيسابوري قضاء نيسابور، فاختفى ثلاثة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أيام ودعا الله فمات في اليوم الثالث.
وورد في كتاب السلطان بتولية نصر بن علي الجهضمي عشية قضاء البصرة فقال: أشاور نفسي الليلة وأخبركم غدًا، فأتوا إليه من الغد فوجدوه ميتًا.
ولما مات عبد الرحمن بن أذينة قاضي البصرة .. طلب أبو قلابة عبد الله بن زيد للقضاء، فهرب حتى أتى الشام، فوافق ذلك عزل قاضيها فذكر للقضاء فهرب حتى أتى اليمامة، فسئل عن ذلك فقال: ما وجدت مثل القاضي العالم إلا مثل رجل وقع في بحر فما عسى أن يسبح حتى يغرق.
وقال مكحول: لو خيرت بين القضاء والقتل .. اخترت القتل.
وامتنع الشافعي رضي الله عنه لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب.
وامتنع أبو حنيفة رحمه الله لما استدعاه المنصور، فحبسه وضربه.
وحكى القاضي الطبري وغيره: أن الوزير ابن الفرات طلب أبا علي بن خيران ليوليه القضاء، فهرب منه فختم دوره نحوًا من عشرين يومًا، وأشرت إلى ذلك في المنظومة بقولي [من الرجز]:
وطيَّنوا البابَ على أبي علي
…
عشرين يوما لِيَلِي فما وَلِي
وما أحسن قول قاضي القضاة شرف الدين بن عين الدولة [من المتقارب]:
وليت القضاء وليت القضا .... ء لم يك شيئًا توليته
فأوقعني في القضاء القضا .... وما كنت قدمًا تمنيته
وقال قاضي القضاة عماد الدين بن السكري وقد عاتبه بعض أصحابه على توليته القضاء [من السريع]:
يا ذا الذي آلمني عتبه .... أنسيت ما قدر في الماضي
والله ما اخترت سوى قربه .... فاختار أن يعكس أغراضي
إن الذي ساقك لي واعظًا .... هو الذي صيرني قاضي
هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ،
ــ
وقال آخر [من المتقارب]:
فيا ليتني لم أكن قاضيا
…
ويا ليتها كانت القاضيه
قال: (هو فرض كفاية) بل هو أسنى فروض الكفايات وأعلى مراتب الولايات.
فأما كونه فرضًا .. فلقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} .
وقوله تعالى: {ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} ، ولأن طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقل من ينصف من نفسه.
ولا يقدر الإمام على فصل كل الخصومات بنفسه، فدعت الحاجة إلى ولاية القضاء.
وأما كونه على الكفاية .. فلأنه أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وهما على الكفاية.
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًا إلى اليمين قاضيًا فقال: يا رسول الله؛ تبعثني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: (اللهم اهده وثبت لسانه) قال: فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين، رواه أبو داوود [3577] والحاكم [4/ 93] وقال: صحيح الإسناد.
واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة واليًا وقاضيًا، وقلد معاذًا قضاء بعض اليمين.
وبعث أبو بكر أنسًا إلى البحرين قاضيًا، وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيًا، وابنَ مسعود إلى الكوفة، وعثمان قلد شريحًا القضاء، وعلي قلد ابن
فَإِنْ تَعَيَّنَ .. لَزِمَهُ طَلَبُهُ،
ــ
عباس قضاء البصرة، فلو كان فرض عين .. لم يكف واحد.
وقال الرافعي: هو فرض كفاية لا غنى عنه بالإجماع.
فقوله: (بالإجماع) متعلق بلا غنى عنه لا بالأول؛ فإنه بعد ذلك نقل عن ابن كج كراهته.
وعن القاضي أبي الطيب: استحباب نصب القضاء في البلدان، قال ابن الرفعة: ولم أره لغيره، فعلى المشهور: إذا قام به من فيه الكفاية .. سقط الفرض عمن خوطب به، وهم من تكاملت فيهم الشروط الآتية، فإذا امتنعوا كلهم .. أثموا جميعًا، وحينئذ فالأصح: أن للإمام إجبارهم على التولية.
فإن قيل: لم يذكروا هنا ما يسقط به الفرض .. فالجواب: أنه محمول على ما ذكروه في (السير) من أنه لا يكفي أن يكون في الإقليم مفت واحد تعسر مراجعته بل المعتبر مسافة القصر.
لكن في (الوسيط) و (النهاية) قبيل (باب القسمة): أنه لا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن قاضٍ، ونقله شريح الروياني عن الإصطخري؛ لما في إحضار الخصوم من البلد البعيد من المشقة.
قال: (فإن تعين .. لزمه طلبه) كغيره من فروض الكفايات إذا تعينت، فإن توقف على بذل مال .. لزمه كما يلزمه شراء الرقبة للكفارة والطعام في المجاعة، هذا هو المشهور.
وقال الماوردي: لا يلزمه طلبه؛ لأن فرض التقليد على الإمام، قال ابن الرفعة: ولعله إذا علم به الإمام، وإلا .. لزمه إعلامه كما أطلقه ابن الصلاح وغيره، وعلى هذا: يستحب بذل المال ولا يجب.
هذا كله إذا لم يعرض عليه، فإن عرض .. لزمه القبول بلا خلاف.
وشمل إطلاقه ما إذا خاف على نفسه من الميل، وهو كذلك؛ لأن فرض العين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا يسقط بخوف العاقبة، وعليه مراقبة الله فيما عليه وله.
ويندب أن يقول إذا دعي: سمعًا وطاعة.
والصحيح: أنه إذا امتنع من الدخول فيه .. أجبر عليه؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره، فأشبه صاحب الطعام إذا منعه من المضطر.
وفي وجه: لا يجبر، واستدل له الرافعي بحديث:(إنا لا نكره أحدًا على القضاء) وهو غريب، والأول أصح، وحمل الحديث على حالة عدم التعين.
فإن قيل: هو بامتناعه من الواجب المتعين عليه فاسق، قال الرافعي: فيمكن أن يقال: يؤمر بالتوبة أولًا ثم يولى.
واختار المصنف أنه لا يفسق؛ لأن امتناعه غالبًا بتأويل فلا يعصي وإن كان مخطئًا.
وعلم من كلام المصنف: أنه لا يصير مولّىً بمجرد تعيينه وتكامل الشروط فيه، بل لا بد من تولية من الإمام؛ لأن الولاية عقد فافتقرت إلى عاقد.
وحكى الماوردي فيه الإجماع، وشذ بعض أهل المذاهب فجعل ولاية القضاء عند اجتماع شروطها منعقدة بلا عاقد.
وكلام الخطابي يقتضي: الانعقاد عند الضرورة من عينه الإمام ونحوه؛ فإنه ذكر في قصة مؤتة: أنه لما أصيب زيد ثم جعفر ثم ابن رواحة .. أخذها خالد من غير إمرة ففتح له، ووافق الحق، فصار ذلك أصلًا في الضرورات إذا وقعت في مهمات الدين.
وترجم البخاري عليه: (باب من تأمر في الحرب من غير إمرةٍ إذا خاف العدو)، والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليرتض المسلمون رجلًا) وخالد ارتضاه المسلمون فكان مولّىً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِلَاّ: فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ وَكَانَ يَتَوَلَاّهُ .. فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ، وَقِيلَ: لَا. وَيُكْرَهُ طَلَبُهُ، .....
ــ
قال: (وإلا) أي: وإن لم يتعين عليه (فإن كان غيره أصلح وكان يتولاه .. فللمفضول القبول) بناء على أن الإمامة العظمى تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل وهو الأصح، لأن تلك الزيادة خارجة عن حد الإمامة، والقضاء أولى بالجواز؛ لإمكان التدارك فيه بنظر من فوقه من الولاة، بخلاف الإمام.
قال: (وقيل: لا) أي: لا يجوز القبول بناء على منع الانعقاد.
ويدل له ما روى الحاكم [4/ 92] والبيهقي [10/ 118]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعمل رجلًا على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله عنه .. فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين).
وقال الماوردي: محل القولين: إذا لم يكن عذر في تولية المفضول، فإن كان بأن كان أطوع في الناس أو أقرب إلى القلوب، أو كان الأفضل غائبًا أو مريضًا .. انعقدت قطعًا، فإن منعنا ولاية المفضول .. حرم الطلب والتولية والقبول، وإن أجزنا .. جاز القبول، وكره الطلب، وقيل: يحرم.
واحترز بقوله: (وكان يتولاه) عما إذا كان لا يصلح ولا يتولاه .. فإنه كما لو لم يوجد.
قال: (ويكره طلبه)؛ لما فيه من الخطر، لأن الولاية تفيد قوة بعد ضعف، وقدرة عن عجر، تتخذها النفس المجبولة على الشر ذريعة إلى الانتقام من العدو، والنظر للصديق، وتتبع الأغراض الفاسدة، ولا يوثق بحسن عاقبتها وسلامة مجاورتها، فالأولى أن لا يطلب ما أمكن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة:(لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة .. وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة .. أعنت عليها) متفق عليه [خ 6622 – م 1652].
وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ .. فَلَهُ الْقَبُولُ. وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ خَامِلًا يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلمِ
ــ
وقال صلى الله عليه وسلم: (من طلب القضاء واستعان عليه .. وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه .. أنزل الله ملكًا يسدده).
وقال: (من ولي القضاء .. فقد ذبح بغير سكين) رواهما أبو داوود [3573 – 3566]، وقال الترمذي: حسنان غريبان [1323 – 1325].
ومعنى الذبح في الحديث: أنه متعرض للذبح؛ فإنه يريد أن يحكم على الصديق والعدو بحكم واحد.
وقيل: صار كمذبوح؛ فإنه يحتاج إلى إماتة شهوته وقهر نفسه بالمنع من المخالطة، وبغير سكين كناية عن شدة الألم؛ فإن الذبح بغيرها تعذيب، ويحتمل أنه عدل عن السكين؛ لأنه مفسد للدين لا للبدن.
قال: (وقيل: يحرم) بناء على امتناع ولاية المفضول، وعلى هذا: تحرم توليته.
قال: (وإن كان مثله .. فله القبول)؛ إذ لا محذور فيه، وقد أتاه من غير مسألة فيعان عليه.
وعلم من قوله: (فله) أنه لا يجب عليه، وهو الأصح؛ لأن غيره قد يقوم به.
وقد صحح ابن حبان [5056]: أن ابن عمر امتنع لما سأله عثمان القضاء.
وظاهر عبارته استواء القبول وعدمه في حقه.
وحكى الشيخ أبو خلف الطبري وجهين في الأَولى له، وصحح: أنه الأولى عدم القبول؛ لما فيه من الخطر، خصوصًا إذا خاف على نفسه اتباع الهوى، قال الرافعي: وينبغي أن يحترز؛ فإن أهم الغنائم حفظ السلامة.
قال: (ويندب الطلب إن كان خاملًا يرجو به نشر العلم)؛ لحصول المنفعة بنشره.
و (الخامل): الساقط الذِّكر الذي لا يعرف.
أَوْ مُحْتَاجًا إِلَى الرِّزْقِ، وَإِلًا .. فَالأَوْلَى تَرْكُهُ. قُلْتُ: وَيْكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
قال: (أو محتاجًا إلى الرزق) أي: مع الشهرة؛ لأنه يكسب كفايته بسبب هو طاعة، لما في العدل من جزيل الثواب.
وقال القفال: لا يندب الطلب بحال، ولكن تستحب له الإجابة إذا طلب، وقال بعض أصحابنا: يكره الطلب مطلقًا؛ لظاهر حديث عبد الرحمن بن سمرة.
وفي (صحيح مسلم)[1733]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه).
و (حرص) بفتح الراء،
ومن الصور التي يستحب فيها الطلب أيضًا: إذا كانت الحقوق مضاعة؛ لجور أو عجز، أو فسدت الأحكام بتولية جاهل فقصد بالطلب تدارك ذلك، ويندب حينئذ بذل المال لتحصيله، وقد أخبر الله تعالى عن يوسف عليه السلام: أنه طلب فقال:، وإنما طلب ذلك شفقة على المسلمين لا منفعة لنفسه.
هذا إذا لم يكن هناك قاض مولّىً، فإن كان وهو غير أهل .. فكالعدم، وإن كان أهلًا والطالب يروم عزله .. فهذا الطلب محظور وهذا الطالب مجروح، سواء كان فاضلًا أو مفضولًا.
قال: (وإلا) أي: وإن كان مع الشهرة مكفيًا (.. فالأولى تركه) أي: ترك الطلب إذا كان من أهل العفة والأمانة مكفيًا معروفًا بالعلم يرجع إليه في الفتاوى .. فالأولى له الاشتغال بنشر العلم والفتيا؛ لما في القضاء من الأخطار، وعلى هذا: يحمل امتناع من امتنع من تقليد القضاء من السلف الصالح.
قال: (قلت: ويكره على الصحيح والله أعلم) أي: الطلب والقبول إن لم يطلبه، وهذا الذي صححه الرافعي في (الشرح)، وقال هنا: إنه يروى عن الشافعي: أنه أوصى المزني في مرض موته أن لا يتولى القضاء، وعرض عليه كتاب الرشيد بالقضاء .. فلم يجبه إليه. اهـ.
والمعروف: أن الذي كتب بالقضاء إلى الشافعي المأمون بن الرشيد كما تقدم.
وَالاِعْتِبَارُ فِي التَّعْيِينِ وَعَدَمِهَ بِالنَّاحِيَةِ. وَشَرْطُ الْقَاضِي: مُسْلِمٌ، مُكَلَّفٌ، حُرٌّ،
ــ
قال الإمام: ولأن الولايات تستخرج من النفوس خبايا البليات، ومن العصمة ألا يقدر.
قال: (والاعتبار في التعيين وعدمه بالناحية) فلا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة أخرى لا صالح بها، ولا قبوله إذا ولي.
قال الرافعي: يجوز أن يفرق بينه وبين القيام بسائر فروض الكفايات المحوجة إلى السفر كالجهاد وتعلم العلم ونحوهما، فإن تلك يمكن القيام بها والعود إلى الوطن، وعمل القضاء لا غاية له، فالانتقال له هجرة، وترك الوطن بالكلية تعذيب.
قال: (وشرط القاضي: مسلم) فلا تجوز تولية الكافر لا على المسلمين ولا على الكافرين؛ لقوله تعالى: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، ولا سبيل أعظم من القضاء.
قال الماوردي والروياني: وما جرت به العادة من تنصيب الحاكم بين أهل الذمة منهم .. فتقليد رئاسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بإلزامه، بل بالتزامهم، ولا يلزمون بالتحاكم عنده.
وهذا الشرط داخل في اشتراط العدالة، والمصنف كثيرًا ما يكتفي باشتراط العدالة عن اشتراط الإسلام.
قال: (مكلف) فلا يولى صبي ولا مجنون؛ لنفصهما، ولأنهما لا يتعلق بقولهما حكم على أنفسهما فعلى غيرهما أولى.
وقد ادعى الإمام الإجماع عليه في المجنون، وسواء المنقطع وغيره.
وقال الماوردي: لا يكفي العقل الذي يتعلق به التكليف حتى يكون صحيح الفكر جيد الفطنة بعيدًا عن السهو والغفلة؛ ليتوصل إلى وضوح المشكل.
قال: (حر) فلا تصح ولاية الرقيق، ولا من بعضه رقيق، سواء تعلق به سبب العتق كالمكاتب والمدبر أو لا بالقياس على الشهادة، ولأنه ناقص عن ولاية نفسه، فعن ولاية غيره أولى.
ذَكَرٌ، عَدْلٌ، سَمِيعٌ،
ــ
قال: (ذكر) فلا تصح ولاية المرأة ولو فيما تقبل شهادتها فيه ولو بين النساء؛ لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} .
وفي (البخاري)[4425] عن أبي بكرة نفيع بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأه)، ولأنهن ناقصات عقل ودين، والمرأة مأمورة بالستر، والقاضي يحتاج إلى مخالطة الرجال.
وأبعد ابن جرير فجوز تقليد المرأة القضاء مطلقًا.
وجوزه أبو حنيفة فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه.
فلو ولى حنفي امرأة فيما تقبل شهادتها فيه على معتقده فحكمت .. قال الإصطخري: نقض قضاءها، وقال غيره: لا.
والخنثى المشكل كالمرأة، فإن بانت ذكورته قبل التولية .. صحت توليته قطعًا، وإن بانت بعدها .. لم تبن صحتها على المذهب.
قال: (عدل) فلا يولى الفاسق؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في أقل الحكومات فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} ، ولأنه ممنوع من النظر في مال الولد مع وفور شفقته فنظره في أمر الكافة أولى بالمنع، والعدالة معتبرة في سائر الولايات.
والمراد: فاسق بما لا شبهة له فيه.
قال المارودي: وهو أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيًا للمآثم، بعيدًا عن الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملًا لمروءة مثله في دينه ودنياه، فإن انخرم منها شيء .. منع الولاية كما يمنع قبول الشهادة.
ومن لا تجوز شهادته من المبتدعة لا تجوز توليته القضاء، وقال الماوردي: لا تجوز تولية الشيعة.
قال: (سميع)؛ لأن الأصم لا يفرق بين الإقرار والإنكار، فإن كان يسمع ولو بصياح في أذنه .. فهو سميع، فلو طرأ الصمم على السمع .. انعزل.
بَصِيرٌ، نَاطِقٌ، كَافٍ،
ــ
قال: (بصير) فلا يولّى الأعمى؛ لأنه لا يعرف الطالب من المطلوب، فلو سمع البينة ثم عمي .. قضى على الأصح.
وفي وجه ضعيف اختاره ابن أبي عصرون – وبه قال مالك –: تصح ولايته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة.
والجواب: أنه كان في إمامة الصلاة دون الحكم، لكن روى الطبراني في (معجمه الكبير) [11/ 147]: أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على الصلاة وغيرها من أمورها المدينة.
وتستثنى صورتان:
إحداهما: إذا نزل من في القلعة على حكم أعمى.
والثانية: إذا سمع البينة قبل العمى.
ويجوز أن يكون القاضي أعور بخلاف الإمام كما تقدم في (قتال البغاة).
قال: (ناطق) فلا تصح تولية الأخرس؛ لأنه كالجماد، وفي من فهمت إشارته وجه ضعيف.
قال: (كاف) الكفاية: كلمة جامعة، وهي شرط في صحة كل ولاية، وهي هنا: النهضة والقيام بعمل القضاء، فلا تجوز تولية المغفل ومختل النظر بكبر أو مرض ونحوهما.
مُجْتَهِدٌ،
ــ
واحتجوا لاعتبار هذا الشرط بما روى مسلم [1826]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: (إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تليَنَّ مال يتيم).
قال الشيخ عز الدين: وذلك أن الولاية لها شرطان: العلم بأحكامها والقدرة على تحصيل مصالحها ودرء مفاسدها، وقد نبه عليهما يوسف عليه السلام بقوله:{إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
فإذا فقد الشرطان .. حرمت الولاية.
ومن لا تقبل شهادته من أهل البدع لا يصح تقليده القضاء، وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالإجماع، أو لا يقول بأخبار الآحاد، وكذا حكم نفاة القياس الذين لا يقولون بالاجتهاد أصلًا، بل يتبعون النصوص فإن لم يجدوا .. أخذوا بقول سلفهم كالشيعة.
فإن كانوا مجتهدين في مجرى الكلام ويثبتون الأحكام على عموم النصوص وإشاراتها .. جاز تقليدهم على الأصح.
قال: (مجتهد) فلا تصح تولية الجاهل بالأحكام الشرعية وطرقها المحتاج إليها، ولأنه لا يصلح للفتوى فالقضاء أولى، قال الله تعالى:{ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} .
والضمير في (عنه) يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى: أن الله يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه، وذلك غاية الخزي.
ويحتمل عوده على (كل) التي هي السمع والبصر والفؤاد؛ أي: أن الله يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده فكأنه قال: كل هذا كان الإنسان عنه مسؤولًا، فهو على حذف مضاف.
ولا يخفى أنه يستثنى من هذا المحكَّمُ في النكاح كما تقدم في بابه.
وقال أبو حنيفة: تجوز تولية العامي، ثم هو يسأل أهل العلم.
وَهُوَ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحْكَامِ، وَخَاصَّةُ وَعَامَّهُ، وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ،
ــ
قال: (وهو: أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام)؛ لأن أهلية الاجتهاد لا تحصل إلا بالعلم بالكتاب والسنة.
وآيات الأحكام – كما قيل – خمس مئة آية، وفيه نظر؛ فإن الأحكام كما تستنبط من الأوامر والنواهي تستنبط من القصص والمواعظ ونحوهما، وكذلك قيل: أحاديث الأحكام خمس مئة حديث.
وكان الحافظ عبد الغني جعل (العمدة) خمس مئة حديث كذلك.
قال الغزالي: ولا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام كـ (سنن أبي داوود)، وسبقه إلى ذلك البندنيجي، واعترض عليه المصنف في التمثيل بـ (سنن أبي داوود) بأنه لم يستوعب الصحيح من الأحكام ولا اشترطه، وكم في (الصحيحين) من حديث حكمي ليس فيه، ولا يرد؛ فإنه لم يدع استيعاب الجميع، بل الاعتناء بالجميع.
ولا يشترط حفظ الآيات عن ظهر قلب، قال الروياني: وكذلك الأخبار، لكن نقل الفوراني عن النص: أنه يشترط حفظ جميع القرآن.
قال: (وخاصه وعامه) فـ (الخاص): خلال العام، و (العام): لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر.
ولا بد من معرفة العام المخصوص، والمراد به الخصوص والخاص الذي أريد به العموم.
وأفرد المصنف الضمير حملًا على لفظ (ما).
قال: (ومجمله ومبينه) فـ (المجمل): ما لم تتضح دلالته، و (المبين) ضده.
قال: (وناسخة ومنسوخه) فيعلم ما نسخ لفظه وبقيت تلاوته وعكسه، وجميع أنواعه التي قررها العلماء فيه.
وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ، وَالْمُتَّصِلَ وَالْمُرْسِلَ، وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَلِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا، وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا، وَالْقِيَاسَ بِأَنْوَاعِهِ،
ــ
قال ابن برهان: ولا بد من معرفة أسباب النزول، وكذلك لا بد من معرفة المطلق والمقيد، والمتشابه والمفصل، والنص والظاهر؛ لأن الجهل بهذه الأشياء يمنع من الاجتهاد.
قال: (ومتواتر السنة وغيره) وهو الآحاد.
وقيل: لا يوجد اليوم حديث متواتر إلا ثلاثة تواتر معناها: حديث إتيان الحوض، وحجة الوداع، (ومن كذب علي متعمدًا
…
)، واقتصر بعضهم على الحديث الثالث.
قال: (والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفًا)؛ لأنه بذلك يتوصل إلى تقرير الأحكام.
قال: (ولسان العرب لغة ونحوًا) فيعرف صيغ الأمر والنهي، والخبر والاستفهام، والوعيد والوعد، والإطلاق والتقييد، والأسماء والأفعال والحروف، وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة.
قال الزمخشري: علوم العربية ترتقي إلى اثني عشر علمًا، غير أن أصولها أربعة: اثنان يتعلقان بالمفردات هما اللغة والتصريف، ويليهما الثالث وهو علم النحو؛ فإن المركبات هي المقصود منه وهو كالنتيجة لها، ثم علم المعاني.
قال: (وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعًا واختلافًا)؛ حتى لا يخالف الإجماع باختيار قول ثالث.
قال: (والقياس بأنواعه) أي: جليه وخفيه، وصحيحه وفاسده.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل تكفي معرفة جمل منها، فلا يكون في النحو كسيبويه، وفي اللغة كالخليل، بل المعتبر ما يوصله إلى معرفة الحكم، وتعلم ذلك سهل؛ لأنه جمع ودون.
واقتصار المصنف على الأدلة الأربعة المتفق عليها يقتضي أنه لا تشترط معرفة المختلف فيها كالاستصحاب، والمصالح المرسلة، وقياس العكس، والأخذ بأقل ما قيل، ولا بد من معرفتها؛ لترتب بعض الأحكام عليها.
وأفهم أنه لا تشترط معرفة أصول الاعتقاد، لكن حكى الرافعي عن الأصحاب اشتراطه، وهذا إنما حكاه الغزالي في (المستصفى) عن الأصوليين، ثم خالفهم وقال: يكفي اعتقاد جازم، ولا تشترط معرفتها على طريق المتكلمين؛ فإنها لم تكن في عهد الصحابة.
واجتماع هذه العلوم إنما يعتبر في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الأبواب، أما المقلد .. فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه.
قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: لا يخلو العصر عن مجتهد إلا إذا تداعى الزمان وقربت الساعة.
وأما قول الغزالي والقفال: إن العصر خلا عن المجتهد المستقل .. فالظاهر أن المراد: مجتهد قائم بالقضاء؛ فإن العلماء كانوا يرغبون عنه.
قال ابن الرفعة: ولا يختلف اثنان أن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد بلغا رتبة الاجتهاد.
وقال ابن الصلاح: إمام الحرمين والغزالي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الأئمة المجتهدين في المذهب.
وقال مالك: خصال القضاء لا تجتمع الآن في أحد، فإذا اجتمعت في شخص خصلتان .. رأيت أن يولى العقل والورع، فبالعقل يسأل وبالورع يكف، فمن شأن ابن آدم أن لا يعلم كل شيء، ومن شأنه أن يعلم ثم ينسى، ومن شأنه أن يعلم ثم يزيده الله علمًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا حتى تكون فيه خمس خصال: العفة والحلم والعلم واستشارة ذوي الرأي وأن لا يبالي بملامة الناس.
وقال القاضي أبو الطيب: من جمع شرائط القضاء ولكن بلسانه لكنة تمنعه من تقويم (الفاتحة جاز أن يولى القضاء.
ويستحب أن يكون القاضي كامل الأعضاء، قرشيًا، حسن الصفات والخط، ولا يشترط أن يحسن الكتابة على الأصح، وأن يكون زائد الورع، كثير التقوى، خاليًا عن الشبهة في الاعتقاد، متضلعًا بعلوم الشروط والأقضية، متصفًا بكل صفة جميلة تزيده هيبة في النفوس وعظمة.
ورعاية العلم والتقوى أولى من رعاية النسب، وأن يكون حكيمًا ذا فطنة ويقظة لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة، صحيح الحواس، عالمًا بلغات أهل ولايته، جامعًا للعفاف نزهًا، بعيدًا من الطمع، بريئًا من الشحناء، صدوق اللهجة، ذا رأي ومشورة، إذا وعد وفى، لين الكلمة، ظاهر السكينة والهيبة والوقار.
وروي: أن عليًا ولى أبا الأسود الدؤلي القضاء ساعة ثم عزله فقال: لمَ عزلتني؟ فو الله ما خنت ولا جنيت! فقال: (بلغني أن كلامك يعلو الخصوم).
وقال الحليمي: ينبغي للإمام أن لا يولي الحكم بين الناس إلا من جمع إلى العلم السكينة والتثبت، وإلى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلًا أمينًا، نزهًا عن المطاعم الدنيئة، ورعًا عن المطامع الرديئة، شديدًا قويًا في ذات الله، متيقظًا متحفظًا من سخط الله، ليس بالنكس الخوار فلا يهاب، ولا المتعظم الجبار فلا ينتاب، بل وسطًا خيارًا.
ولا يدع الإمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته والتعرف بحاله وطريقته، فيقابل منه ما يجب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير، وأن يكف الأمراء والعمال عن معارضته ومزاحمته، ويأمرهم جميعًا بطاعته فيما يتصل بالانقياد للأحكام من نقض أو إبرام.
ويتوقى أن يقال في ولايته: هذا حكم الله وهذا حكم الديوان؛ فإن هذا شرك
فَإِنْ تَعَذَّرَ جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا أَوْ مُقَلِّدًا .. نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ،
ــ
من قائله، إذ لا حكم إلا الله، وإن سمع الوالي من قال ذلك وأقره عليه .. فهو مثله.
قال: (فإن تعذر جمع هذه الشروط فولى سلطان له شوكة فاسقًا أو مقلدًا
…
نفذ قضاؤه للضرورة)؛ لئلا تتعطل مصالح الناس.
ويؤيده: أنا ننفذ قضاء البغاة لمثل هذه الضرورة؛ كذا نقله الرافعي عن الغزالي ثم قال: وهو حسن، لكن قال ابن شداد وابن أبي الدم وابن الصلاح: ما قاله الغزالي لا نعلم أحدًا قاله، بل قطع الأصحاب قاطبة بأن الفاسق لا ينفذ حكمه وإن ولاه الإمام، وحكاه القاضي عن النص، وجزم به الشيخان في (باب البغاة).
وإذا كان قاضي البغاة تعتبر فيه مع العلم العدالة بلا خلاف فكيف تنفذ أحكام قاضي أهل العدل مع فسقه؟ وهذه المقالة لم ينفرد بها الغزالي، بل جزم بها الدرامي في (الاستذكار)، والجاجرمي في (الإيضاح).
ويستدل له بإجماع الأمة على تنفيذ أحكام الحكام الظلمة وأحكام من ولوا.
وأما القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ .. أجابه إليه، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد فقالت: إن لم يقض لهم خياركم .. قضى لهم شراركم.
والمنقول: أن قضاء الفاسق لا ينفذ، وقال ابن الرفعة: كلام صاحب الكافي دال على تردد فيه إذا كان ثَمَّ من يصلح، فإن لم يكن .. فلا وجه إلا تنفيذ حكمه، قال: ولو استولى الكفار على إقليم فولوا القضاء رجلًا مسلمًا .. يظهر نفاذ حكمه للضرورة، قال: وإذا ابتلينا بولاية امرأة أو صبي القضاء .. ففي نفوذه وقفة.
قال الأذرعي: وخرج بـ (السلطان) ما إذا ولى قاضي القضاة في النواحي من ليس بأهل .. فالظاهر أن حكمه لا ينفذ، ويفارق السلطان لخوف سطوته وبأسه، بخلاف القاضي غالبًا.
وَيُنْدَبُ لِلإِمَامِ إِذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَاذَنَ لَهُ فِي الاِسْتِخْلَافِ،
ــ
وقد أطلق الرافعي أنه إذا استخلف من لا يصلح للقضاء .. فأحكامه باطلة لا يجوز إنفاذها.
فرع:
إذا لم يكن في البلد إلا مفت واحد يصلح للفتوى .. تعين عليه أن يفتي، فإن كان هناك غيره .. فهو من فروض الكفايات، ومع هذا لا يحمد التسارع إليه؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم – مع مشاهدتهم الوحي – يحيل بعضهم على بعض في الفتوى، ويحترز عن استعمال الرأي والقياس ما أمكن، وقد أطال المصنف هنا في الروضة في صفات المفتي والمستفتي.
فرع:
لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون، وإذا دونت المذاهب .. فهل يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب؟ الأصح: الجواز كما لو قلد في القبلة هذا أيامًا وهذا أيامًا.
ولو قلد مجتهدًا في مسائل وآخر في مسائل أخرى واستوى المجتهدان عنده أو خيرناه .. فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز، كما أن الأعمى إذا قلنا: لا يجتهد في الأواني والثياب .. له أن يقلد في الثياب واحدًا وفي الأواني آخر؛ لكن الأصوليون منعوا منه للمصلحة.
وقال أبو إسحاق: إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون .. فسق به، وعن ابن أبي هريرة: لا يفسق.
قال: (ويندب للإمام إذا ولى قاضيًا أن يأذن له في الاستخلاف)؛ ليكون أسهل له وأسرع إلى فصل الخصومات، ويتأكد ذلك عند اتساع الخطة وكثرة الرعية واتساع العمل.
قال الماوردي: وإذا قلده بلدًا وسكت عن ذكر ضواحيها، فإن جرى العرف
فَإِنْ نَهَاهُ .. لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَطْلَقَ .. اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا فِي غَيْرِهِ فِي الأَصَحِّ. وَشَرْطُ الْمُسْتَخْلَفِ كَالْقَاضِي،
ــ
بإفرادها عنها .. لم تدخل في ولايته، وإن جرى بإضافتها .. دخلت، وإن اختلف العرف .. روعي أكثرهما عرفًا، فإن استوى .. روعي أقربهما عهدًا.
قال: (فإن نهاه .. لم يستخلف)؛ لأنه لم يرض بنظر غيره.
فإن كان ما فرضه إليه لا يمكنه القيام به .. قال القاضي أبو الطيب: كان النهي كالعدم.
قال الرافعي: والأقرب أحد أمرين: إما بطلان التولية وبه قال ابن القطان، وإما اقتصاره على الممكن وترك والاستخلاف، قال المصنف: وهو أرجحهما.
قال: (وإن طلق .. استخلف فيما لا يقدر عليه)؛ لأن العرف يقتضيه فحملت التولية عليه.
قال: (لا في غيره في الأصح)؛ لأن العرف لا يقتضيه.
والثاني: يستخلف في الجميع كالإمام، واختاره ابن أبي عصرون؛ لأن الإمام لما ولاه .. صار ناظرًا للمسلمين، فله الاستنابة فيما له التصرف فيه كالإمام.
كل هذا في الاستخلاف العام، أما الأمور الخاصة كتحليف وسماع بينة .. فقطع القفال بجوازه للضرورة، ومقتضى كلام الأكثرين أنه على الخلاف.
ومحل الخلاف عند الإطلاق في العجز المقارن، أما الطارئ كما لو مرض أو أراد أن يغيب عن البلد لشغل .. فيجوز له الاستخلاف قطعًا، قاله في (التهذيب)، ولا يأتي هذا في حالة النهي.
قال ابن سريج: ولو جعل لرجل التزويج والنظر في أمر اليتامى .. لم يكن له أن يستنيب فيه، ونقله الرافعي عنه في (فصل العزل) وأقره، فليس للعاقد ولا لناظر الأيتام الاستنابة فيما فوض إليهما.
قال: (وشرط المستخلف كالقاضي)؛ لأنه فرعه فاشترط فيه ما اشترط فيه.
ويؤخذ من هذا: أنه له أن يستخلف أباه وابنه، وبه صرح الماوردي والبغوي
إِلَاّ أَنْ يُسْتَخْلَفَ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ – كَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ – فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَيَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ أَوِ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ خِلَافَهُ
ــ
وغيرهما، كما أن للإمام أن يستخلف في أعماله من يرى من أولاده، ومحل جواز استخلاف الولد أو الوالد إذا ثبتت عدالته عند عيره، لكن يستثنى من ذلك إذا فوض الإمام إليه اختيار قاض .. فإنه لا يختار ولده كما لا يختار نفسه.
قال: (إلا أن يستخلف في أمر خاص – كسماع بينة – فيكفي علمه بما يتعلق به)، ولا تشترط فيه رتبة الاجتهاد، كذا نقله الرافعي هنا عن الجويني وغيره، وجزم في الكلام على التزكية بأنه إذا نصب حاكمًا في الجرح والتعديل .. تعتبر فيه صفات القضاء.
وإذا جوزنا الاستخلاف فاستخلف حنفيًا أو مالكيًا أو بالعكس .. فالمشهور: الجواز.
قال: (ويحكم باجتهاده أو اجتهاد مقلده) أي: بفتح اللام (إن كان مقلدًا)؛ لأنه إنما يحكم بما يعتقده.
قال: (ولا يجوز أن يشرط عليه خلافه)؛ لأنه لا يعتقد ذلك.
والمراد: إذا شرط على النائب المجتهد أن يخالف اجتهاده ويحكم باجتهاد المنيب .. لم يجز، وكذا إذا جاز تولية المقلد للضرورة .. فاعتقاد مقلده في حقه كاجتهاد المجتهد لا يجوز أن يشترط عليه الحكم بخلافه.
فلو خالف وشرط القاضي الحنفي على نائبه الشافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة.
وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا فِي غَيْرِ اللهِ تَعَالَى .. جَازَ
ــ
قال في (الوسيط): له الحكم بالمسائل التي اتفق عليها المذهبان فقط.
وسئل الدامغاني عن حنفي ولى شافعيًا على أن يحكم بمذهب أبي حنيفة هل يصح؟ قال: نعم؛ لأن القاضي أبا حازم ولى ابن سريج ببغداد على أن لا يقضي إلا بمذهب أبي حنيفة فالتزمه.
وفي (فتاوي القاضي حسين): لو شرط عليه أن لا يقضي بشاهد ويمين ولا غائب .. لغا الشرط وقضى باجتهاده.
قال: (ولو حكم خصمان رجلًا في غير حَقِّ الله تعالى .. جاز)؛ ففي (سنن البيهقي)[10/ 145]: أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت في نخل، وعثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم [5/ 268]، وعمر والعباس إلى أبي بن كعب في أرض بالقرب من المسجد، ولم ينكر ذلك أحد.
واستدل الرافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: (من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل .. فعليه لعنة الله).
ولو لم يكن لحكمه اعتبار ولزوم .. لما كان لهذا التهديد معنىً، والحديث غريب لا يعرف.
نعم؛ روى أبو داوود [4916] والنسائي [8/ 226] وابن حبان [504] والحاكم [1/ 24]: أن هانئًا الحارثي لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه .. سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلِمَ تكنى بذلك؟! قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء .. أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال عليه الصلاة والسلام:(ما أحسن هذا؟! فما لك من الولد؟) قال: شريح وعبد الله ومسلم، قال:(من أكبرهم؟) قال: شريح، قال:(فأنت أبو شريح) ودعا له ولولده.
وكان شريح بن هانئ من أعيان أصحاب علي، شهد معه حروبه كلها، وعاش مئة وعشرين سنة.
مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ عَدَمُ قَاضٍ فِي الْبَلَدِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إِلَاّ عَلَى رَاضٍ بِهِ، فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ،
ــ
أما حدود الله تعالى .. فلا يحكم فيها؛ إذ ليس لها طالب معين، ولأنها أمور خطرة فتناط بنظر الحكام، وهذا الاستثناء من زيادات (المنهاج) على (المحرر) ولا بد منه، لكن قوله:(خصمان) يوهم اعتبار الخصومة، وليس كذلك؛ فإن التحكيم يجري في النكاح، فلو قال: اثنان .. كان أحسن.
وقوله: (رجلًا) يوهم عدم جواز اثنين.
وقال في (المطلب): لو تحاكما إلى اثنين .. لم ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا.
قال: (مطلقًا) أي: سواء كان في الأموال أم غيرها، وسواء كان هناك قاض أم لم يكن، وسواء كان المحكم فيه قصاصًا أم نكاحًا أو غيرهما مما سيأتي.
قال: (بشرط أهلية القضاء)؛ لأن ذلك منزل منزلة الحكم، فإذا لم يكن أهلًا .. لم ينفذ حكمه اتفاقًا.
قال: (وفي قول: لا يجوز)؛ لأن تقليد القضاء من مناصب الإمام فلا يثبت للآحاد، ولأن في ذلك افتتانًا على الإمام والحكام، وإنما تحاكم عمر وعثمان مع خصميهما؛ لأنهما خصميهما؛ لأنهما إمامان فتحكيمهما تولية للحكم، واختاره الإمام والغزالي.
قال: (وقيل: يشترط عدم قاض في البلد)؛ لأن في جواز ذلك مع وجود القاضي تفويت الحكومات عليه.
قال: (وقيل: يختص بمال دون قصاص ونكاح ونحوهما) كاللعان واحد القذف؛ لأنها أمور خطرة فتناط بنظر القاضي ومنصبة.
والصحيح: لا فرق؛ لأن من صح حكمه في المال .. صح في غيره كالمولَّى من جهة الإمام.
قال: (ولا ينفذ حكمه إلا على راض به، فلا يكفي رضا قاتل في ضرب دية على عاقلته) إن لم يرضوا بحكمه، ولا يكفي رضا القاتل.
فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ .. امْتَنَعَ الْحُكْمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الأَظَهَرِ
ــ
وقيل: يكفي رضاه، والعاقلة تبع له.
وخصه السرخسي بقولنا: تجب الدية على الجاني، ثم تتحملها العاقلة، فإن قلنا: تجب عليهم ابتداء .. اشترط رضاهم قطعًا، واستحسنه الرافعي.
وما ذكره من اشتراط الرضا محله: إذا كان المحكم غير القاضي، فلو كان أحد المتحاكمين القاضي نفسه .. فالمذهب أنه لا يشترط رضا الآخر؛ لأن المحكم نائبه، وهذا حيث له أن يستنيب.
فروع:
ليس للمحكم الحبس على الأصح، بل غايته الإثبات والحكم.
قال في (الوسيط): وإذا حكم بشيء من العقوبات كالقصاص وحد القذف .. لا يستوفيه؛ لأن ذلك خرم لأُبَّهة الولاية، وإذا رفع حكمه إلى القاضي .. لم ينقضه إلا حيث ينقض حكم قاضي الإمام.
والراجح: أنه ليس له أن يحكم بعلمه؛ لانحطاط رتبته.
وإذا ثبت الحق عند المحكم وحكم به أو لم يحكم .. فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة؛ لأن قوله بعد الافتراق لا يقبل كالقاضي بعد العزل، قاله الماوردي.
وإذا تحاكم رجل وبكر إلى فقيه ليزوجها منه وجوزنا التحكيم فيه فقال المحكم: حكمتني لأزوجك من هذا فسكتت .. كان سكوتها إذنًا كما لو استأذنها الولي فسكتت.
قال: (فإن رجع أحدهما قبل الحكم .. امتنع الحكم)، حتى لو أقام المدعي شاهدين فقال المدعى عليه: عزلتك .. لم يكن له أن يحكم.
قال: (ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر) كحكم الحاكم.
والثاني: يشترط؛ لأن رضاهما معتبر أولًا في ابتداء الحكم، فكذلك في انتهائه.
وَلَوْ نَصَبَ قَاضِيَيْنِ بِبَلَدٍ وَخَصَّ كُلًا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَنٍ أَوْ نَوْعٍ .. جَازَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَخُصَّ فِي الأَصَحِّ، إِلَاّ أَنْ يَشْتَرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ
ــ
قال: (ولو نصب قاضيين ببلد وخص كلًا بمكان أو زمن أو نوع) بأن جعل أحدهما يحكم في الأموال والآخر في الدماء والفروج.
قال: (.. جاز)؛ لأن الضرورة قد تدعو إلى ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وأبا موسى حاكمين إلى اليمن، وأردفهما بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
قال ابن كج: وكذا لو ولاهما على أن يحكم كل واحد منهما في الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه.
فإن شرط عليهما الاجتماع في الحكم .. لو يجز، قال ابن الرفعة: بالاتفاق؛ لأن اختلاف الاجتهاد غالب، والتقليد ممتنع، فيؤدي إلى بقاء الخصومات واستمرار المنازعات.
قال: (وكذا إن لم يخص في الأصح) كما إذا عمم؛ لأنهما كالوكيلين والوصيين.
والثاني: لا يجوز كالإمامة العظمى، وصححه الإمام والغزالي وابن أبي عصرون، ونقله مجلي عن الأصحاب، فعلى هذا: إن ولاهما معًا .. بطلت ولايتهما، أو متعاقبين .. صحت تولية الأول دون الثاني.
قال: (إلا أن يشترط اجتماعهما على الحكم) فإنه لا يجوز؛ لأن بذلك يكثر الخلاف في مواقع الاجتهاد فتتعطل الحكومات.
فرعان:
أحدهما: تلوية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة، وهو المشافهة باللفظ، والمراسلة والمكاتبة عن الغيبة.
وصريح اللفظ: وليتك القضاء، واستخلفتك واستنبتك، واقض بين الناس، أو احكم ببلد كذا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والكنايات: اعتمدت عليك في القضاء، أو فوضته إليك، أو أسندت.
وعند المشافهة يشترط القبول على الفور، وفي المراسلة والمكاتبة لا يشترط الفور.
وسبق في (الوكالة) خلاف في اشتراط القبول، وفي الفور يأتي مثله هنا.
والثاني: إذا خلا الزمان عن إمام وعن سلطان ذي كفاية .. فأطلق الإمام في (الغياثي) أن الأمور موكولة إلى العملاء، ويلزم الأمة الرجوع إليهم، ويصيرون ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد .. استقل أهل كل ناحية باتباع علمائهم، فإن كثر علماء ناحية .. فالمتبع أعلمهم، فإن استووا واتفقوا على أحدهم .. فذاك، وإن تنازعوا أقرع.
تتمة:
يجب على الإمام نصب قاض في كل بلدة وناحية خالية عن قاض، فإن عرف حال من يوليه عدالة وعلمًا .. فذاك، وإلا .. أحضره وجمع بينه وبين العلماء؛ ليعرف علمه، ويسأل عن سيرته جيرانه وخلطاءه.
فلو ولى من لا يعرف حاله .. لم تنعقد توليته وإن عالم بعد ذلك كونه بصفة القضاء.
وما ذكروه من عدم الصحة قد استشكل قديمًا؛ لأنه قد تبين اجتماع الشروط حالة الولاية، وليس هو مما تعتبر فيه النية حتى يقال: إنه أقدم عليه مترددًا فلا يصح كما لو اقتدى بمن بان رجلًا، بل هذا نظير البيع والنكاح والإجارة وغيرها من العقود المستجمعة للشروط في نفس الأمر لا في ظن العاقد.
وقد أجابوا في جميعها بالصحة كما إذا باع مال أبيه على ظن حياته، بل هذه أولى بالصحة؛ لظنه هناك عدم وجود الشروط، لأن الفرض أنه ظنه لغيره، وهاهنا لم يظن شيئًا.
والجواب: أن تولية الحاكم حكم بأهلية المولَّى، وليس للحاكم أن يحكم إلا بعد
فَصْلٌ:
جُنَّ قَاضٍ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ عَمِيَ، أَوْ ذَهَبَتْ أَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ وَضَبْطِهِ بِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ، لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ،
ــ
قيام المستند، حتى لو حكم ثم قامت بينة بعد ذلك على وفق الحكم .. لم يكن ذلك الحكم نافذًا.
ويجوز أن يجعل الإمام نصب القاضي إلى والي الإقليم وأمير البلد وإن لم يكن المعجول إليه صالحًا للقضاء؛ لأنه سفير محض.
قال: (فصل:
جن قاض، أو أغمي عليه، أو عمي، أو ذهبت أهلية اجتهاده وضبطه بغفلة أو نسيان .. لم ينفذ حكمه)؛ لأن القضاء عقد جائز، ولهذا له عزل نفسه، وللإمام عزله.
وقيل: لا يبطل به وإن بطلت الوكالة به؛ لأنه أقوى منها، حكاه في (البحر) وضعفه، والذي جزم به الرافعي والمصنف في الإغماء حكاه الروياني وجهًا وضعفه واستبعده، والقول بعدم انعزاله وجه محكي في (الوكالة)، وفي الحكمين في الشقاق، وقد حكاه الرافعي فيه، ولم يحكه في (القضاء)، والقضاء أقوى من الوكالة وأولى بعدم الانعزال، كما قال في (البحر).
واختار الشيخ عدم الانعزال بالإغماء، وأنه لا يسلب الولايات؛ لأنه مرض يطرأ ويزول، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في بابي (الوكالة)(والقراض).
وينبغي أن يفصل بين أن يطول زمنه فينعزل به، أو لا فلا يوثر كالنوم.
وأما العمى .. ففيه الوجه الشاذ الذي تقدم، وفي معناه الخرس والصمم، وذهاب أهلية الاجتهاد والضبط؛ فإنه ركن في القضاء.
وهل العمى إذا عرض سالب للولاية أو مانع؟ فيه وجهان اختلف في تصحيح ما يترتب عليهما، فصححوا عود ولايته إذا شفي، وصححوا فيما إذا عمي بعد الدعوى عنده وسماع البينة نفوذَ قضائه على المتحاكمين المعروفين، فحينئذ تستثنى هذه من إطلاق المصنف.
وَكَذَا لَوْ فَسَقَ فِي الأَصَحِّ، فَإِنْ زَالَتْ هَذِهِ الأَحْوَالُ .. لَمْ تَعُدْ وِلَايَتُهُ فِي الأَصَحِّ. وَلِلإِمَامِ عَزْلُ قَاضٍ ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ،
ــ
ومراده بعدم نفوذ حكمه: انعزاله كما صرح به الأصحاب.
قال: (وكذا لو فسق في الأصح)؛ لوجود المنافي.
والثاني: ينفذ حكمه كالإمام الأعظم والمسألة تقدمت في (الوصايا).
وقال الماوردي والروياني: إن أصر على الفسق .. انعزل، وإن أقلع بتوبة ومعصية حفية .. لم ينعزل.
قال: (فإن زالت هذه الأحوال .. لم تعد ولايته في الأصح) كالوكالة، ولأن الشيء إذا .. بطل لم ينقلب إلى الصحة بنفسه وإن زال المانع كالبيع ونحوه.
والثاني: تعود من غير استئناف؛ لأن التولية الأولى اقتضت دوام الولاية، فإذا وجد المانع ثم زال .. وجب العود؛ لمقتضى السبب الأول.
وفي (أمالي السرخسي): القطع بأن الإغماء إذا زال .. تعود الولاية، بخلاف الجنون.
ولو ارتد ثم أسلم .. لم تعد ولايته قطعًا.
ويجري الخلاف في الوصي وقيم الحاكم، بخلاف الأب والجد؛ لقوة ولايتهما.
ولو زالت أهلية الناظر المشروط في أصل الوقف ثم عادت .. عادت ولايته جزمًا كما أفتى به المصنف؛ لقوته، إذ ليس لأحد عزله ولا الاستبدال به.
ولو أخبر الإمام بموت القاضي أو جنونه أو فسقه فولى غيره ثم بان خلافه .. لم يقدح ذلك في ولاية الثاني.
وإذا أنكر كونه قاضيًا .. نقل في (البحر) عن جده أنه ينعزل، وأقره ابن الرفعة عليه، ويشبه أن يقال: إن كان له غرض في ذلك .. لم ينعزل، وإلا .. انعزل كالوكيل.
ولو سافر القاضي سفرًا طويلًا بغير إذن الإمام .. لم ينعزل بذلك.
قال: (وللإمام عزل قاض ظهر منه خلل)؛ لأنه يجب عليه أن ينظر للمسلمين بالمصلحة، وهذا عين المصلحة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ففي (سنن أبي داوود): أن النبي صلى الله عليه وسلم عزل إمامًا كان يصلي بقوم ويبصق في القبلة، وقال:(لا يصلي بهم بعدها أبدًا) وإذا ثبت هذا في إمامة الصلاة .. فالقاضي أوبى.
قال في (الوسيط): وتكفي فيه غلبة الظن، وبه جزم في (الشرح الصغير).
ومن غلبة الظن: كثرة شكوى رعيته، وكراهيتهم له، فقد عزل عمر سعدًا عن الكوفة لما شكوه إليه، واعتذر عن عزله، وأدخله عند موته في الستة الذي جعل الأمر شورى بينهم وقال:(إني لم أعزله لعجز ولا لخيانة) رواه البخاري في (باب مناقب عمر).
قال الشيخ عز الدين: ومن دقيق النظر الذي لا يفهمه إلا مثل عمر رضي الله عنه من إقامة حقوق الله وحقوق المسلمين: أن عمر عزل خالد بن الوليد عن قنسرين، وأشخصه إلى المدينة لما بلغ عمر إضافة الناس الفتوح إلى خالد، ونسوا إضافة ذلك إلى الله تعالى، فعزله خوفًا على المسلمين من ذلك.
لكن في (مسند أحمد)[3/ 475] في عزله سبب آخر غير هذا، أخرجه عن ناشرة بن سمي اليزني قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول في خطبته: (إني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته وأمرت أبا عبيدة، فقال أبو عمرو بن حفض: والله ما عدلت! نزعت عاملًا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغمدت سيفًا سله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت لواء نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: إنك حديث السن مغضب في ابن عمك).
وفي (أمالي ابن عبد السلام): يجب العزل مع الريبة؛ دفعًا للمفسدة، لقوله صلى الله عليه وسلم (من ولي من أمور المسلمين شيئًا ثم لم يجتهد لهم ولم
أَوْ لَمْ يَظْهَرْ وَهُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ وَفي عَزْلِهِ بِهِ مَصْلَحَةٌ كَتَسْكِينِ فِتْنَةٍ، وَإِلَاّ .. فَلَا، لَكِنْ يَنْفُذُ الْعزْلُ فِي الأَصَحِّ،
ــ
ينصح .. فالجنة عليه حرام).
قال: (أو لم يظهر وهناك أفضل منه)؛ لما في ذلك من تحصيل مصلحة زائدة.
قال: (أو مثله) وكذا دونه (وفي عزله به مصلحة كتسكين فتنة) هذا قيد في المثل لا في الأفضل، وقيده في (المحرر) بعدم الفتنة في عزله أيضًا فقال: أو مثله وفي عزله به للمسلمين مصلحة، وليس في عزله فتنة.
قال: (وإلا .. فلا) أي: وإن لم تكن فيه مصلحة .. فليس له عزله.
وشملت عبارة المصنف مسألتين:
إحداهما: أن لا تكون في عزلة مصلحة.
والثانية: أن يكون الموجود دون المتولي فلا يجوز العزل فيهما.
هذا ظاهر كلامه، وسوى في (الروضة) و (الشرحين) بين المثل والدون فقال: وإن كان مثله أو دونه، فإن كان بالعزل به مصلحة من تسكين فتنة ونحوها ولو على سبيل الاحتمال .. فللإمام عزله، فإن لم تكن فيه مصلحة .. لم يجز.
ونقل في (الشرح الكبير) هذا التفصيل عن الإمام، وجزم به في (الروضة) و (الشرح الصغير).
كل هذا إذا وجد من يصلح للقضاء، وإلا .. لم يجز عزل الصالح، ولا ينعزل بالعزل.
قال: (لكن ينفذ العزل في الأصح)؛ للمصلحة وطاعة السلطانة.
والثاني: لا؛ لأنه لا خلل في الأولى، فلا خلل في عزله.
ونقل ابن أبي الدم طريقة ثالثة: أنه ينعزل قولًا واحدًا.
وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ خَبَرَ عَزْلِهِ
ــ
تنبيه:
سكوت المصنف عن العزل بعزل نفسه يوهم أنه لا ينعزل بذلك، والذي جزم به الشيخان: أن للقاضي أن يعزل نفسه كالوكيل.
وقال الماوردي في (الإقناع): لا ينعزل إلا بإذن من ولاه؛ لأنه لم يول نفسه فلم يجز أن يعزلها.
وفي (البحر) و (الحاوي): إن كان معذورًا .. جاز اعتزاله، وإلا .. فلا بد من إعلام الإمام واستعفائه.
وقال القاضي شريح: إن لم يتعين عليه .. انعزل، وإن تعين .. لم ينعزل بعزل نفسه في أظهر الوجهين، وبهذا جزم ابن عبد السلام.
هذا في الأمر العام، أما الوظائف الخاصة كالإمامة والأذان والتصوف والتدريس والطلب والنظر ونحوه .. فلا ينعزل أربابها بالعزل من غير سبب كما أفتى به كثير من المتأخرين، منهم قاضي القضاة تقي الدين بن رزين والشيخ؛ فقال: ولي تدريسًا .. لم يجز عزله بمثله ولا بدونه، ولا ينعزل بذلك، ولا شك في التحريم.
وفي (الروضة) في آخر (باب الفيء): أنه إذا أراد ولي الأمر إسقاط بعض الجند المثبتين في الديوان بسبب .. جاز، وبغير سبب لا يجوز.
وإذا ثبت هذا في الحقوق العامة .. ففي الخاصة أولى، وقد قالو: إن الفقيه لا يزعج من بيت المدرسة، لثبوت حقه بالسبق.
قال: (والمذهب: أنه لا ينعزل قبل بلوغه خبر عزله)؛ لعظم الضرر بنقص الأحكام وفساد الأنكحة وإبطال التصرفات العامة، بخلاف الوكيل.
وقيل: على قولين كالوكيل، لكن يستثنى من هذا ما إذا علم الخصم أنه
وَإِذَا كَتَبَ الإِمَامُ إِلَيْهِ: إِذَا قَرَاتَ كِتَابِي فَأَنْتَ مَعْزُولٌ، فَقَرَأَهُ .. انْعَزَلَ، وَكَذَا إِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ فِي الأَصَحَّ، وَيَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَانْعِزَالِهِ مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعِ مَالِ مَيْتٍ، والأَصَحُّ: انْعِزَالُ نَائِبِهِ الْمُطْلَقِ إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الاِسْتِحْلَافِ،
ــ
معزول .. فلا ينفذ حكمه عليه؛ لعلمه أن غير حاكم باطنًا، ذكره المارودي في (النكاح).
فإن رضيا بحكمه .. كان كالتحكيم بشرطه، ولم يتعرضوا لما يحصل به بلوغ الخبر، وينبغي إلحاق ذلك بخبر التولية، بل أولى حتى يعتبر شاهدان، وتكفي الاستفاضة.
قال: (وإذا كتب الإمام إليه: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فقرأه .. انعزل)؛ لوجود القراءة، ولا ينعزل قبل القراءة قطعًا.
واحترز المصنف بقوله: (إذا قرأه) عما إذا كتب إليه: عزلتك أو أنت معزول من غير تعليق على القراءة .. فإنه كما لو عزله بلفظه، ففيه الطريقان.
قال: (وكذا إن قرئ عليه في الأصح)؛ لأن الغرض إعلامه، سواء كان قارئًا أو أميًا وجوزناه.
والثاني: لا ينعزل؛ لأنه علقه على أمر لم يوجد، والانعزال في الأمي أولى.
والظاهر: أنه تكفي هاهنا قراءة موضع العزل فقط لا جميع الكتاب، ولا يأتي في الخلاف السابق في الطلاق فيما إذا ذهب بعضه أو انمحق.
قال: (وينعزل بموته وانعزاله من أذن له في شغل معين كبيع مال ميت) كالوكيل؛ فإنه ينعزل بموت الموكل، وكذا بيع مال غائب أو سماع بينة في حادثة معينة.
قال: (والأصح: انعزال نائبه المطلق إن لم يؤذن له في الاستخلاف)؛ لأن
أَوْ قِيلَ لَهُ: اسْتَخْلِفْ عَنْ نَفْسِكَ، أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ قَالَ: اسْتَخْلِفْ عَنِّي .. فَلَا. وَلَا يَنْعَزِلُ قَاضٍ بِمَوْتِ الإِمَامِ،
ــ
الاستخلاف هاهنا لحاجته إلى من يعاونه في العمل وقد زال بزوال ولايته.
قال: (أو قيل له: استخلف عن نفسك، أو أطلق)؛ لظهور غرض المعاونة، وبطلانها ببطلان ولايته.
قال: (فإن قال: استخلف عني .. فلا)؛ لأنه مأذون من جهة الإمام، وكان الأول سفيرًا محضًا في التولية.
والثاني: ينعزل مطلقًا كما ينعزل الوكيل بموت الموكل.
والثالث: لا مطلقًا؛ رعاية لمصلحة الناس.
والرابع: إن استخلف بالإذن .. لم ينعزل، وإلا .. انعزل.
والخامس: إن كان المولي قاضي القضاة .. لم ينعزل بموته وعزله من ولَاّه، قاله المارودي.
فرع:
تنازع خصمان في الحضور إلى الأصل والنائب، طلب أحدهما الرفع إلى الأصل والآخر إلى النائب .. قال في (الحاوي): إن كان القاضي يوم الترافع ناظرًا .. فالداعي إليه أولى بالإجابة من الداعي إلى نائبه؛ لأنه الأصل، وإن كان الناظر نائبه .. فالداعي إليه أولى؛ لأنه أعجل.
وقال الإمام والغزالي: يجاب الداعي إلى الأصل مطلقًا.
قال: (ولا ينعزل قاض بموت الإمام) أي: ولا بانعزاله؛ لأن الإمام يعقده للمسلمين، فإذا مات .. لم يبطل ما عقده لغيره، كولي المرأة إذا زوجها ثم مات .. لم يبطل النكاح.
وَلَا نَاظِرُ يَتِيمٍ وَوَقْفٍ بِمَوْتِ قَاضٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدً عَزْلِهِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ بِحُكْمِهِ .. لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ، أَوْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ جَائِزِ الْحُكْمِ .. قُبِلَتْ فِي الأَصَحِّ،
ــ
وحكم من ولاه الإمام حكمًا عامًا يختص بمصالح الولاية كالقاضي، وذلك كنظر الجيوش والحسبة ووكالة بيت المال، فلا ينعزل متولي ذلك بموت الإمام.
وقد غلط بعض الفقهاء فأفتى بعزل وكيل بيت المال بعزل السلطان ظنًا منه أنه كالوكيل ينعزل بموت الموكل، والصواب: عدم انعزاله؛ لأنه ليس وكيلًا عنه، بل متوليًا كالحاكم.
قال: (ولا ناظر يتيم ووقف بموت قاض)؛ لئلا تنسد أبواب المصالح، وجعلهما الغزالي كالخلفاء.
قال: (ولا يقبل قوله بعد عزله: حكمت بكذا)؛ لأنه لا يملك الحكم حينئذ فلا يقبل إقراره به.
قال: (فإن شهد مع آخر بحكمه .. لم يقبل على الصحيح)؛ لأنه يشهد بفعل نفسه.
والثاني: يقبل؛ لأنه لم يجر لنفسه بذلك نفعًا ولم يدفع ضررًا.
ومحل الخلاف في غير الإقرار، فإذا شهد أنه أقر في مجلس حكمه .. قبلت شهادته قطعًا؛ لأنه لم يشهد على فعل نفسه.
قال الماوردي: ولا يحتاج في هذا الإقرار إلى استرعاء؛ لأن الإقرار في مجلس الحكم استرعاء، فإن أراد أنه يقبل مع شاهد آخر أو مع يمين المدعي .. فواضح، وإن أراد أن يقبل وحده معه إلزام الحكم .. ففيه نظر.
قال: (أو بحكم حاكم جائز الحكم .. قبلت في الأصح) كما تقبل شهادة المرضعة كذلك.
والثاني: المنع؛ لأنه قد يريد نفسه وكما لا يجوز لشاهد الفرع إبهام شاهد الأصل وإن وصفه بالعدالة وزكَّاه.
وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ قَبْلَ عَزْلِهِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ .. فَكَمَعْزُولٍ
ــ
وهل الوجهان في الكتاب فيما إذا لم يعلم القاضي أنه يعني نفسه فإن علم .. فكما لو أضاف إلى نفسه، أو هما إذا علم، وإلا .. قبل قطعًا؟ فيه احتمالان للرافعي، صحح المصنف الأول.
قال: (ويقبل قوله قبل عزله: حكمت بكذا)؛ لقدرته على الإنشاء حينئذ، حتى لو قال على سبيل الحكم: نساء هذه القرية طوالق من أزواجهن .. قبل قوله من غير حجه.
وعن مالك: لا يقبل قوله إلا بحجة بينة.
ورد بولي البكر المجبر إذا قال: زوجتها من هذا .. فإنه يقبل بالإجماع، ففرق مالك بأن ولي البكر غير مهتم؛ لتمام شفقته، بخلاف الحاكم.
قال الشيخ عزل الدين: وقول مالك متجه.
قال: (فإن كان في غير محل ولايته .. فكمعزول)؛ لأنه ليس له إنشاء الحكم ثَمَّ، فلا يقبل إقراره.
والمراد بـ (محل ولايته): بلد قضائه.
وظن بعضهم أنه لا ينفذ حكمه في غير مجلسه المعد للحكم، وهو خطأ صريح نبه عليه ابن الصلاح والمصنف في (الطبقات).
وقوله: (كمعزول) يفهم أن الولاية ليست ثابتة له في هذه الحالة، ويؤيده أن الواحد من العصبات لا يسمى وليًا في النكاح قبل الإذن حقيقة، لكن كلام الإمام مصرح بأن الولاية ثابتة، وإنما تعذر الشرط نفوذ الحكم، ولهذا إذا عاد .. لا يحتاج إلى تولية جديدة.
وَإِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَعْزُولٍ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ بِرَشْوَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَبْدِيْنِ مَثَلًا .. أُحْضِرَ وَفُصِلَتْ خُصُومَتُهُما، وَإِنْ قَالَ: حَكَمَ بِعَبْدِيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَالًا .. أُحْضِرَ. وَقِيلَ: لَا حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِدَعْوَاهُ،
ــ
قال: (وإذا ادعى شخص على معزول أنه أخذ ماله برشوة أو شهادة عبدين مثلًا) أي: أو غيرهما ممن لا تقبل شهادته.
قال: (.. أحضر وفصلت خصومتهما)؛ لأن هذا كالغصب، وله أن يوكل ولا يحضر، فإذا حضر أو وكيله .. استؤنفت الدعوى.
وإنما يجب إحضاره إذا ذكر شيئًا يقتضي المطالبة شرعًا كما مثله المصنف، فلو طلب إحضاره إلى مجلس الحكم ولم يعين شيئًا .. لم يجب إليه؛ إذ قد لا يكون له حق، وإنما قصد ابتذاله بالخصومة.
و (الرشوة) مثلثة الراء: عطية بشرط أن يحكم له بغير حق، أو يمتنع عن الحكم عليه بحق، بخلاف الهدية؛ فإنها عطية مطلقًا.
وأول من ارتشى في الأحكام يرفأ حاجب عمر، فلما علم به .. عزله.
قال: (وإن قال: حكم بعبدين، ولم يذكر مالًا .. أحضر)؛ ليجيب عن دعواه كما لو طلب إحضار غيره، كذل صححه في (الروضة)، ولم يطلقه في (أصلها)، بل نقله عن الروياني وغيره، وظاهر ما في (الصغير) و (المحرر) ترجيح الوجه الثاني؛ إذ قال في (المحرر): رجحه مرجحون، وفي (الشرح) الصغير رجعه البغوي، ولم يتعرض فيهما لتجيح الأول.
قال في (الدقائق): وليس ما في (المنهاج) مخالفًا لما في (المحرر)؛ لأنه لا يمنع أن الأول رجحه آخرون أو الأكثرون، قال: وقد صحح هو الأول في (الشرح)، وصححه آخرون. اهـ
وليس في (الشرحين) هاهنا إلا ما تقدم من الإغراء.
قال: (وقيل: لا حتى تقوم بينة بدعواه)؛ لأن الظاهر جريان حكمه على الصواب، واختاره الشيخ.
فَإِنْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ .. صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ فِي الأَصَحِّ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: بِيَمِينٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ ادُّعِيَ عَلَى قَاضٍ جَوْرٌ فِي حُكْمٍ .. لَمْ يُسْمَعْ، وَيُشْتَرَطُ بَيِّنَةٌ،
ــ
قال: (فإن حضر وأنكر .. صدق بلا يمين في الأصح) واستحسنه الرافعي في) الكبير)، ورجحه في (الصغير) أيضًا، وصححه الشيخ في (الحلبيات)؛ لأنه أمين الشرع فيصان منصبه عن التحليف والابتذال بالمنازعات الباطلة كالمودع.
قال: (قلت: الأصح: بيمين والله أعلم)؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (واليمين على من انكر) واختاره العراقيون والروياني، ولا فرق في ذلك بين أن يدعي عليه الحكم في مال أو دم.
ثم إن المصنف خالف هذا في (الروضة) في (الدعاوى)، فصحح في الباب الثالث: أن القاضي المعزول لا يحلف، وهو الصواب؛ فقد نص عليه الشافعي كما نقله شريح الوياني في (روضته)، والعموم مخصوص بالمعنى كما خصت الملامسة بالمحارم، فإن اليمين إنما توجهت على المنكر لاتهامه بدفع الضرر عن نفسه، وهو منتف عن القاضي؛ لأنه أمين الشرع فلا تتطرق إليه تهمة، وأحكامه الأصل فيها السداد حتى يقوم دليل على خلافه.
هذا فيمن عزل مع بقاء أهليته أما من ظهر فسقه وجوره وعلمت خيانته .. فالظاهر أنه يحلف قطعًا، ولا يأتي فيه خلاف.
والدعوى على نائب المعزول كالدعوى على المعزول؛ لانعزاله بعزله على الأصح، وأما امناؤه الذين يجوز لهم اخذ الجرة إذا حوسب بعضهم فبقي عليه شيء فقال: أخذت هذا المال أجرة على عملي، وصدقه المعزول .. لم ينفعه تصديقه، ويسترد منه ما يزيد على أجرة المثل.
قال: (ولو ادعي على قاضٍ) أي: في حال ولايته (جور في حكم .. لم يسمع، ويشترط بينة)؛ لأنه لو فتح باب التحليف .. لتعطل القضاء، وعلله الشيخ بأن القاضي نائب الشرع، والدعوى على النائب دعوى على المستنيب، والدعوى على الشرع لا تسمع.
وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحُكْمِهِ .. حَكَمَ بَيْنَهُمَا خَلِفَتُهُ أَوْ غَيْرُهُ.
فَصْلٌ:
لِيَكْتُبِ الإِمَامُ لِمَنْ يُوَلِّيهِ،
ــ
فإن فرض إقامة بينة عادلة .. فقد خرج عن إنابة الشرع، فتسمع إذ ذاك كما أن المعزول ليس نائبًا للشرع الآن.
وكذلك الشاهد إذا ادعي عليه أنه شهد بالزور وأريد تحليفه كما سيأتي في كلام المصنف في (الدعوى).
وعن الشيخ أبي حامد: أن قياس المذهب التحليف في الجميع كسائر الأمناء إذا ادعيت خيانتهم.
قال: (وإن لم تتعلق بحكمه .. حَكَمَ بينهما خليفتُه أو غيره)؛ لأجل فصل الخصومة.
تتمة:
إذا لم يتظلم متظلم على القاضي المعزول .. لم يجب على المولى تتبع أحكامه، وفي جوازه وجهان:
أحدهما: نعم احتياطًا.
والثاني – وهو الذي يظهر من جزم (الروضة) -: لا؛ لأنه قدح فيه، ولأن الظاهر منها السداد، فإن ظهر له فيها المخالفة، فإن تعلقت بحق الله كطلاق وعتق .. قال القاضي أبو الطيب: فسخها، وإلا .. لم يتعرض لها؛ لأن لها مستحقًا معينًا.
هذا في أحكام الصالح للقضاء، اما من لا يصلح .. فتنتقض أحكامه كلها، أصاب فيها أم أخطأ؛ لأنه حكم من لا يجوز حكمه فأشبه احكام بعض الرعية من غير تحكيم، كذا صرح به طوائف من العراقيين.
قال: (فصل:
ليكتب الإمام لمن يوليه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابًا حين بعثه إلى اليمن وهو ابن سبع عشرة سنة، رواه أصحاب السنن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكتب لحبان الصدائي، رواه أحمد مطولًا [4/ 168]، وابن أبي شيبة مختصرًا وكتب لوائل بن حجر.
وكتب أبو بكر لأنس حين بعثه إلى البحرين، وختمه بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري في (الزكاة)[3106].
وروى حارثة بن مضرب: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد: فإني بعثت إليكم عمارًا أميرًا وعبد الله بن مسعود قاضيًا ووزيرًا، فاسمعوا لهما وأطيعوا؛ فقد آثرتكم بهما.
وقال القفال الشاشي: ينبغي أن يتخذ الإمام لنفسه نسخة منه؛ ليتذكر بها إن نسي أنه ولاه.
ويستحب أن يعظه فيه، وأن يوصيه بتقوى الله، والعمل بما في العهد، ومشاورة أهل العلم، وتفقد الشهود والأطفال وغير ذلك.
وفي معنى الإمام: القاضي الكبير إذا استخلف في أعماله البعيدة.
وينبغي للقاضي أن يتصفح كل ما يكتب عنه؛ لاحتمال أن يصف عليه الكاتب شيئًا.
وإتيان المصنف بـ (لام الأمر) يقتضي وجوب الكتابة، وليس كذلك بالاتفاق، بل هو مستحب، ولهذا لم يكتب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، بل اقتصر على وصيته.
ويستحب أن يقرأ عليه عهد عمر الذي كتبه إلى أبي موسى، رواه أحمد والدراقطني [4/ 206] والبيهقي [10/ 135].
قال الشيخ أبو إسحاق في (الطبقات): وهو من أجل كتاب؛ فإنه بين فيه آداب القضاء وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس، ولفظه:
وَيُشْهِدْ بِالْكِتَابِ شَاهِدَيْنِ
ــ
أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا ولي إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا احل حرامًا او حرم حلالًا.
ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل للمدعي أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة .. أخذت له بحقه، وإلا .. استحلت عليه القضية؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأيمان.
وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويجزل عليه الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه .. كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه .. شأنه الله، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.
قال: (ويشهد بالكتاب شاهدين) سواء قرب محل الولاية أم بعد؛ لقوله تعالى: {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} ، فيقرآنه أو يقرأه الإمام عليهما.
فإن قرأه غير الإمام .. فالأحوط أن ينظرا فيه، ولو أشهدهما ولم يكتب .. كفى؛ فإن الاعتماد على الشهود، وهذه الشهادة ليست على قواعد الشهادات؛ إذ ليس هناك
يَخْرُجَانِ مَعَهُ إِلَى الْبَلَدِ يُخْبِرَانِ بِالْحَالِ، وَتَكْفِي الاِسْتِفَاضَةُ فِي الأَصَحِّ، لَا مُجَرَّدُ كِتَابٍ عَلَى الْمَذْهَبِ .....
ــ
قاض تؤدي عنده الشهادات، بل يكفي إخبار محل اهل الولاية بها.
قال: (يخرجان معه إلى البلد يخبران بالحال) ولا يشترط لفظ الشهادة ولا تقدم دعوى.
وقال الماوردي: يشهدان عند اهل العمل، فإذا شهدا .. لزمهم طاعته.
قال: (وتكفي الاستفاضة في الأصح)؛ لأنها آكد من الشهادة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين الإشهاد.
والثاني – وبه قال أبو إسحاق -: لابد من الإشهاد؛ لأن العقود لا تثبت بالاستفاضة كالبيع والوكالة والإجارة.
ومحل الخلاف في البلد القريب، ومنهم من أطلقه كما فعل المصنف.
قال الرافعي: ويشبه أن لا يكون في هذا خلاف، ويكون التعويل على الاستفاضة.
قال: (لا مجرد كتاب على المذهب)؛ لإمكان تحريفه، قال تعالى:{ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} ، ولأن الخط لا يعتمد في كثير من الأحكام.
والطريقة الثانية حاكية لوجهين.
وجه القبول: عدم الجرأة في مثل ذلك على الإمام، وصححه الهروي والجاجرمي.
وخص الإمام والغزالي موضع الخلاف بظهور مخايل الصدق في الكتابة، فإن تجرد عن ذلك .. لم يكف قطعًا.
وذكر المصنف في زوائد (الروضة) و (شرح المهذب) أنه يجوز الاعتماد في الفتوى على خط المفتي إذا اخبره من يقبل خبره أنه خطه، أو كان يعرف خطه ولم يشك فيه، وينبغي اعتباره هنا أيضًا.
وَيَبْحَثُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ وَعُدُولِهِ،
ــ
وأفهم كلام المصنف انه لا يكفي مجرد إخبار القاضي لهم، ولا خلاف في ذلك إن لم يصدقوه، فإن صدقوه .. ففي لزوم طاعته عليهم وجهان في (الحاوي)، وقياس ما سبق في (الوكالة) انه تلزمهم طاعته؛ فإن الإمام لو أنكر توليته .. كان القول قوله.
قال: (ويبحث القاضي عن حال علماء البلد وعدوله)؛ لأنه لا بد له منهم، فندب تقديم العلم بهم، وهذا قبل خروجه، فإن لم يتيسر .. سأل في الطريق، فإن لم يجد .. فحين يدخل، يسأل عنهم سرًا وعلانية ليعاملهم إذا دخل عليهم بما يليق بهم؛ ففي الناس بر وفاجر، وأمين وخائن، اللهم إلا أن يكون يعلم بحالهم.
نصيحة:
قال الشيخ: ينبغي للقاضي أن لا يغفل عن ثلاثة أمور: مراقبة الله تعالى في الإخلاص، والنبي صلى الله عليه وسلم في أنه لا يدخل في شريعته ما ليس منها، وعباد الله اجمعين في أنه لا يحصل لأحد منهم أذى من جهته إلا إذا وجب عليه بالشرع شيء، فيكون فعله تنفيذًا لحكم الشرع لا من جهة نفسه.
ولا يعجل بمدح ولا ذم، ولا قول ولا فعل، ولا يسمع من أحد في أحد حتى يتروى.
وإذا قيل له في أحد شيء فطباع التأثر .. فيمسك نفسه ويصبر حتى ينظر في ذلك القول إذا خلي وحده، ويحاسب نفسه مع ربه، ويعرض ما هَمَّ به على الشرع المبين.
ويجرد نفسه عن الغرض، ويفعل ذلك مرة بعد مرة، فإذا تبين له أمر .. أقدم عليه.
وفي (كامل ابن عدي) وغيره عن الحسن: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأخذ احدًا بقرف أحد، ولا يسمع كلام أحد في أحد.
وَيَدْخُلُ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ،
ــ
وقال الزبيلي في (أدب القضاء): يجب على من ولي القضاء أن يذكر مقامه بين يدي الله تعالى يوم يدعى للحساب.
وقال محمد بن واسع: أول من يدعى للحساب يوم القيامة القضاة.
وقال عبد الله بن وهب: العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين. ولذلك لما عرض عليه القضاء .. جنن نفسه ولزم بيته، وقرئ عليه كتاب (أهوال يوم القيامة) فخر مغشيًا عليه، ولم يتكلم حتى مات في اليوم الثالث في سنة تسع وتسعين ومئة.
قال: (ويدخل يوم الإثنين)؛ ففي (البخاري)[3906]: ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فيه حين تعالى النهار.
فإن فاته .. فيوم الخميس؛ لما روى ابن ماجه [2237] عن أبي هريرة: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم؛ بارك لمتي في بكورها يوم الخميس).
ويستحب ان يكون دخوله أول النهار؛ للحديث المذكور، وكذلك كل من له وظيفة كقراءة أو تسبيح أو اعتكاف ونحوها من العبادات، أو صنعة أو عمل من العمال، أو أراد سفرًا أو إنشاء أمر كعقدة نكاح؛ لما روى الأربعة واحمد [3/ 417] عن صخر بن وداعة الغامدي – بالغين المعجمية والدال المهملة، ولا يعرف له غير هذا الحديث -: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية أو جيشًا .. بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان إذا بعث تجارة .. بعثها أول النهار، فأثرى وكثر ماله.
وَيَنْزِلُ وَسَطَ الْبَلَدِ، وَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي أَهْلِ الْحَبْسِ – فَمَنْ قَالَ: حُبِسْتُ بِحَقٍّ .. أَدَامَهُ،
ــ
قال: (وينزل وسط البلد)؛ لئلا يطول الطريق على بعضهم، ويجمع الناس، ويقرأ عليهم العهد، ويتسلم المحاضر والسجلات من القاضي الذي كان قبله ليحفظها على أربابها، ويتسلم منه أموال الأيتام والضوال والوقوف وغيرها.
قال: (وينظر أولًا في اهل الحبس)؛ لأنه عذاب، وإدامته بلا سبب لا سبيل إليها.
قال الرافعي: وهذا مستحب، وقال الإمام: واجب، وليس هذا من تعقيب أحكام القاضي الأول حتى يجب فيه الاستعداد، بل لنه قد يكون فيه مظلوم لا يتمكن من التظلم.
وكيفية النظر أن يبعث أمينين او أمينًا وشاهدين ليكتبا أسماء من فيه وأسماء من حبسهم وفي أي شيء حبسوا، ويقرع الأمين بينهم، فمن خرجت قرعته قدم اسمه ثم يقدمه في النظر في أمره، وإذا نظر في الأيتام .. قدم من شاء.
والفرق أن المحابيس ينظر لهم، والأيتام ينظر عليهم، وموضع الباءة بهذا وما بعده إذا لم يزاحمه حق يعظم الضرر بتأخيره من خصوم حضروا، أو فصل معضلة أشكلت على من قبله، أو حفظ ما أشرف على الضياع ليتم لا قيم له ونحو ذلك، فالبداية به متعينة، وكلام الأصحاب محمول على الحالة الأولى.
قال: (فمن قال: حسبت بحق .. أدامه)؛ لأنه يستحقه، وهذا ليس على إطلاقه، بل إن كان حدًا .. أقامه عليه وأطلقه.
وإن كان تعزيرًا .. فقال الغزالي: يطلقه الثاني، ولم يتعرض الجمهور لهذا.
فإن بانت خيانته عند الثاني ورأى إدامة حبسه .. فالقياس الجواز.
قال ابن الصلاح: كلام الغزالي محمول على ما إذا كان فيما مضى من حبسه كفاية في تعزيره.
وجزم الماوردي والروياني بانه يحسبه وإن لم يكمل مدة الحبس في نظر الأول؛ لأن القاضي الثاني لا يعزر لذنب غيره.
أَوْ ظُلْمًا .. فَعَلَى خَصْمِهِ الْحُجَّةُ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا .. كَتَبَ إِلَيْهِ لِحْضُرَ – ثُمِّ الأَوْصِيَاءِ، فَمَنْ ادَّعَى وِصَايَةً .. سَأَلَ عَنْهَا وَعَنْ حَالِهِ
ــ
وإن كان حبس بمال .. أمر بأدائه، فإن ادعى الإعسار .. فعلى ما سبق في (التفليس)، فإن لم يؤد ولم يثبت إعساره .. رد إلى الحبس، وإن أدى أو ثبت إعساره .. نودي عليه؛ لاحتمال خصم آخر، فإن لم يحضر أحد .. أطلق.
قال: (أو ظلمًا .. فعلى خصمه الحجة) ويكون القول قول المحبوس بيمينه.
لم يخلق الله محبوسًا تسائله ما بال حبسك إلا قال مظلومًا
فإن اعترف الخصم بالظلم أو كان القاضي يعلمه .. أطلقه.
وحيث اطلق من ادعى أنه حبس ظلمًا .. لم يطالب بكفيل على الأصح.
قال: (فإن كان غائبًا .. كتب إليه ليحضر) لفصل الخصومة بينهما، فإن قال: لا خصم لي أو لا أعلم كيف حبست .. نودي عليه لطلب الخصم، فإن لم يحضر أحد .. حلف وأطلق.
قال: (ثم الأوصياء) وكذا اولياء المجانين والسفهاء؛ لأن الوصي يتصرف في حق من لا تمكنه المرافعة والمطالبة كالأطفال وأصحاب الجهات العامة، وإنما ينظر في الأوصياء بعد ثبوت الوصاية عنده بطريقه.
هذا إذا كان الأيتام في عمله، فإن كانوا في غيره والأوصياء والمال في عمله .. فالأصح عن الشيخين في آخر (باب القضاء على الغائب): أن الاعتبار بمكان الطفل لا المال، ومال إليه الإمام، وصححه ابن أبي الدم، وهو أحد جوابي القاضي حسين.
قال: (فمن ادعى وصاية .. سأل عنها) أي: حال الوصية، وهل لها حقيقة أو لا؟
قال: (وعن حاله) بالنسبة إلى الأمانة والكفاية.
وَتَصَرُّفِهِ، فَمَنْ وَجَدَهُ فَاسِقًا .. أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ، أَوْ ضَعِيفًا .. عَضَدَةُ بِمُعِنٍ، وَيَتَّخِذُ مُزَكِّيًا وَكَاتِبًا،
ــ
قال: (وتصرفه) فإن قال: فرقت ما أوصى به، فإن كان لمعين .. لم يتعرض له، أو لجهة عامة وهو عدل .. أمضاه، أو فاسق .. ضمنه.
قال: (فمن وجده فاسقًا .. أخذ المال منه)، وكذا لو شك في عدالته في احد الوجهين.
قال: (أو ضعيفًا .. عضده بمعين)؛ لأن ذلك من المصالح العامة، وكذلك إذا كان المال كثيرًا لا يمكن الواحد حفظه والتصرف فيه، فإن أقام الوصي بينة أن القاضي قبله .. نفذ وصايته، وقبل تصرفه .. قرره.
ثم بعد الأوصياء ينظر في أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا، فمن تغير بفسق أو غيره .. صرفه، وإلا .. أبقاه.
ثم ينظر في الأوقاف العامة والمتولين عليها، وفي اللقط والضوال، ويقدم من ذلك الأهم فالأهم.
قال: (ويتخذ مزكيًا) يعرفه حال من يجهل عدالته من الشهود؛ لأنه لا يمكنه البحث عنهم، وستاتي صفة المزكي في الفصل الآتي.
وإفراده المزكي أراد به الجنس، وكان حقه أن يقول: مزكين، لكنه إنما لم يذكره لأنه يوجد من شرط التعديل كما سياتي.
قال: (وكاتبًا)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كُتَّاب فوق الأربعين، ذكر السهيلي منهم ثلاثة وعشرين، منهم الخلفاء الأربعة، وذكر أبو نعيم وابن منده منهم السجل.
وفي (سنن أبي داوود)[2928] في (كتاب الخراج): كان السجل كاتبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن دحية: كان يكتب له ثم تنصر، فأظهر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه معجزة، وهو أنه لما دفن .. لفظته الرض ولم تقبله.
وفي (صحيح البخاري) في (باب علامات النبوة)[3617] عن أنس: أن رجلًا كان نصرانيًا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا، عَدْلًا، عَارِفًا بِكِتَابَةِ مَحَاضِرَ وَسِجِلَّاتٍ،
ــ
وسلم، فعاد نصرانيًا، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض.
وأفرد المصنف الكاتب؛ ليعلم أنه لا يشترط فيه العدد، بل يتخذ ما تقع الكفاية به واحدًا أو جماعة، والأولى أن يقتصر على واحد إن حصلت الكفاية به.
قال الماوردي: وللكاتب أن يتخذ كاتبًا كما يجوز للقاسم أن يتخذ قاسمًا.
قال: (ويشترط كونه مسلمًا)؛ لقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية، وقد تقدم في (قسم الفيء والغنيمة) حديث أبي موسى وغيره.
وجزم في (التنبيه) والمحاملي في (التجريد) بالجوز؛ لأن ما يكتبه لابد أن يقف عليه القاضي ثم يمضيه، والمشهور الأول، ولا يأتي هذا الوجه إذا كان القاضي أميًا.
قال الشافعي: ولا ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتبًا ذميًا، ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلمًا، فيعز بالمسلمين أن تكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم، والقاضي أقل الخلق في هذا عذرًا.
قال: (عدلًا)؛ لأن القاضي قد يغفل عما يكتبه، فإذا كان فاسقًا .. لم تؤمن خيانته.
والثاني – وبه جزم في (التنبيه) وأقره عليه في (التصحيح) -: الاستحباب.
قال: (عارفًا بكتابة محاضر وسجلات)؛ ليعلم صحة ما يكتبه من فساد.
و (المحاضر) جمع كحضر بفتح الميم، وهو: ما يكتب فيه ما جرى للمتحاكمين في المجلس وحجتهما، فإن كتب مع ذلك تنفيذ الحكم .. سمي سجلًا.
ولا ينبغي التخصيص بهما، بل سائر الكتب الحكمية كذلك.
وأهمل المصنف اشتراط الحرية؛ لدخولها في وصف العدالة، واعترض عليه بان العدالة لا تنافي الرق، وأيضًا فقد جمع بينهما في المترجم كما سيأتي فدل على عدم الدخول.
كل هذا فيما يتعلق بالحكم، فإن اراد أن يستكتب في خاصة نفسه .. جاز له أن يستكتب من شاء.
وَيُسْتَحَبُّ فِقْهٌ، وَوُفُورُ عَقْلٍ، وَجَودَةُ خَطٍّ،
ــ
قال: (ويستحب فقه)؛ لئلا يؤتي من قبل الجهل.
والمراد به: الفقه في احكام الكتابة، ومعرفة شروط المحاضر والسجلات، واستعمال الألفاظ الموضوعة لها، والتحرز من الألفاظ المجملة.
قال: (ووفور عقل)؛ لئلا يدلس عليه، وجزم الماوردي والقاضي أبو الطيب باشتراطه.
ويستحب فيه أيضًا أن يكون ذا عفة عن الطمع، لا يستمال بهدية.
قال: (وجود خط)؛ ليزين ما يكتبه، وذلك بأن يكون ضابطًا للحروف وما يحصل بسببه الاشتباه.
قال علي رضي الله عنه: الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا.
قال الرافعي: والأولى أن يجلسه القاضي بين يديه، وقال الماوردي وغيره: عن جهة يساره؛ ليشاهد ما يكتبه.
ويستحب أن يكون حاسبًا؛ لأنه يحتاج إلى الحساب في كتب المقاسمات والمواريث، وأن يكون فصيحًا عارفًا بلغات الخصوم، قوي الخط، قائم الحروف، عالمًا بمواضع التدليس، ضابطًا لا يلتبس في خطه تسعة بسبعة ولا خمسة عشر بخمسة وعشرين.
فائدة:
قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ} : قيل: الخط الحسن، وقيل: ملاحة العين.
وقال الجوهري: التواضع في الأشراف، والسخاء في الأغنياء، والتعفف في الفقراء.
وقال الزمخشري: الوجه الحسن، والشعر الحسن، وطول القامة، والاعتدال والتمام في الأعضاء، والقوة في البطش، والحصافة في العقل، والجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، وإبانة في التكلم،
وَمُتَرْجِمًا، وَشَرْطُهُ: عَدَالَةٌ، وَحُرِّيَّةٌ، وَعَدَدٌ،
ــ
وحسن تأتِّ في مزاولة الأمر، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.
قال: (ومترجمًا)؛ لأن القاضي قد لا يعرف لسان الخصوم والشهود، والمراد: يتخذه عارفًا باللغات التي يغلب وجودها في ذلك العمل.
فإن كان القاضي يعرف لغة الخصوم .. لم يتخذه.
واستدلوا لاتخاذ المترجم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن ثابت: (تعلم لغة العبرانية؛ فإن اليهود يكتبون بها، وما أحب أن يقف على كتبي كل أحد) قال: فتعلمتها في نصف شهر، فكنت أقرأ كتبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكتب لهم، رواه أبو داوود [3640] والحاكم في (كتاب الأيمان) من (مستدركه) [1/ 75] وقال: صحيح الإسناد، والبخاري تعليقًا بصيغة جزم.
وهل اجرة المترجم على صاحب الحق او في بيت المال؟ فيه وجهان: أقربهما الثاني.
وعلى الأول: اجرة من يترجم للمدعي .. عليه، ومن يترجم للمدعى عليه .. عليه.
و (الترجمان) جمعه تراجم، كزعفران جمعه زعافر، وجعل الجوهري تاءه زائدة فذكره في رجم، والمعروف أنها أصلية، فكان حقه أن يذكرها في بابها.
قال: (وشرطه: عدالة، وحرية، وعدد)؛ لأنه ينقل إلى القاضي قولًا لا يعرفه فأشبه المزكي والشاهد، بخلاف الكاتب؛ فإنه لا يثبت شيئًا.
وحكى في (الذخائر) تبعًا للإمام وجهًا: انه يكفي واحد، واختاره ابن المنذر؛ لحديث زيد بن ثابت، وأشار افمام إلى تخصيص الخلاف بما إذا كان يحضره من يعرف لسانهما.
فلو كان الخصمان اعجميين وليس هناك غيرهما .. فالوجه القطع باشتراط العدد.
وزاد في (المحرر) اشتراط التكليف، وأسقطه المصنف؛ لدخوله في شرط العدالة، وشرط الماوردي انتفاء التهمة، فلا تقبل ترجمة الوالد والولد كما لا تقبل
وَالأَصَحُّ: جَوَازُ أَعْمَىً، وَاشْتِراطُ عَدَدٍ فِي إِسْمَاعِ قَاضٍ بِهِ صَمَمٌ
ــ
شهادتهما، وهو ظاهر إن كانت الترجمة عن القاضي بالحكم لأبيه أو ابنه، أو عن الخصم بما يتضمن حقًا لبيه أو ابنه، فإن كانت بما يتضمن حقًا عليهما .. فلا يظهر؛ لامتناعه وجه.
والمراد بـ (العدد): أقل العداد، فإن كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين .. قبلت الترجمة من رجل وامرأتين، خلافًا للإمام.
وفي الزنا هل يشترط أربعة أو يكفي رجلان؟ قولان كالشهادة على الإقرار، وهل يكفي للخصمين اثنان أو يجب لكل منهما اثنان؟ قولان كشهود الفرع.
وعلم من اشتراط العدد اشتراط لفظ الشهادة، وهو كذلك.
وأشار الرافعي تفقهًا إلى جريان الوجه الآتي في المسمع هنا حتى يكتفي بلفظ الخبر، وقد صرح بنقله الماوردي وضعفه.
هذا في نقلهما من الخصوم إلى القاضي، أما نقلهما عن القاضي إلى الخصوم .. فقال الماوردي: ان المغلب عليه الخبر؛ لأن الشهادة لا تكون إلا عند قاض فيكفي فيها الواحد حرًا كان أو عبدًا، ولا يشترط العدد، وفي كلام القاضي ما يوافقه، وهو ظاهر.
قال: (والأصح: جواز أعمىً)؛ لأن الترجمة تفسير للّفْظ فلا يحتاج إلى معاينة وإشارة، بخلاف الشهادة.
والثاني: لا يجوز كالشاهد، فالذي صححوه هنا غلبوا فيه شائبة الرواية، وهو مخالف ما سبق من اشتراط العدالة والحرية من تغليب الشهادة.
قال: (واشتراط عدد في إسماع قاض به صمم) كالمترجم.
والثاني: لا؛ لأن المسمع لو غيَّر .. أنكر عليه الخصم والحاضرون، بخلاف المترجم.
والثالث: إن كان الخصمان أصمين .. اشترط، وإن كانا سميعين .. فلا.
والمراد هنا: صمم يسمع معه برفع الصوت، وإلا .. استحالت المسألة؛ إذ لا تصح ولايته.
وَيَتَّخِذُ دِرَّةً لِلتَّاديِبِ،
ــ
هذا كله في إسماع الخصم القاضي، أما إسماع ما يقوله القاضي وما يقوله الخصم .. فلا يشترط فيه العدد، قاله القفال؛ لأنه إخبار محض.
ثم إذا اشترطنا العدد في المسمع .. اشترطنا لفظ الشهادة في الأصح، وإذا لم نشترط العدد .. اشترطنا الحرية على الأصح كهلال رمضان.
وسكت المصنف عن اعوان القاضي ووكلائه، واشترط الزبيلي فيهم العدالة والصدق.
وقال ابن أبي الدم: ينبغي أن يكونوا من ذوي الدين والعفة والأمانة والقنع والبعد عن الطمع.
واشترط شريح الروياني في الوكلاء مع ذلك أن يعرفوا طرفًا من الفقه.
وأجرة العون على الطالب إن لم يمتنع المدعي عليه من الحضور، فإن امتنع .. فالأجرة عليه؛ لأنه متعد بالامتناع عن الحضور، فكانت كأجرة الحد تجب على المحدود.
قال: (ويتخذ درة للتأديب)، قال ابن المنذر: روينا عن عمر أنه كانت له درة.
قال الشعبي: وهي اهيب من سيف الحجاج.
وفي (مرج البحرين) لابن دحية: أنه أول من اتخذها، وأول من حملها، وأول من ضرب بها، لكن روى البيهقي في (دلائله)[1/ 246] عن ميمونة بنت كردم ما يخالف ذلك.
و (الدِّرَّة) يكسر الدال المهملة وتشديد الراء معروفة، ويقال لها: المخفقة، وفي حفظي من شيخنا رحمه الله: أن درة عمر كانت من نعل رسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ما ضرب بها احدًا على ذنب وعاد إليه.
وعبارة المصنف تفهم أنه لا يؤدب بالسوط، وبه أجاب في (تتمة التتمة)؛ لأن الضرب بالسياط من شأن الحدود، والذي ادعاه غير مقبول؛ فالمنصوص جواز الضرب بالسياط في غير الحدود.
وَسِجْنًا لأَدَاءِ حَقٍّ وَتَعْزِيرِ،
ــ
ويؤخذ من عبارة المصنف: أنة يؤدب من أساء الأدب في مجلسه بما يقتضيه
اجتهاده، وله أن يعزر اللدد في الخصومة ومن اجترأ عليه كقوله أنت: تجور أو تميل
أو تظلم، والأولى أن يعفو عنه إن لم يحمل على ضعفه، والتعزيز أولى إن حمل عليه.
وأما حكم شاهد الزور .. فتقدم في (فصل التعزير).
فائدة:
لما ولي قاضي القضاة تقي الدين القشيري .. منع نوابه من ضرب المستترين بالدرة وقال: لايجوز في هذا الزمان؛ لأنه صغار يعير به من يأتي من ذرية المضروب وأقاربه، بخلاف أراذل الناس الذين لا يتأثرون بذلك.
قال: (وسجنا لأداء حق وتعزيز)؛ لأن عمر اشترى دارًا بأربعة آلاف وجعلها سجنًا، رواه عبد الرزاق [9213].
وفي (البخاري (: بأربع مئة، وحبس الحطيئة الشاعر لما هجا الزبرقان بن بدر بقوله [من البسيط]:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها .... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فسأل عمر حسانًا ولبيدًا فقالا: إنه هجاه، فأمر به عمر فحبس في قعر بئر، فمكث أيامًا، وكتب أبياته التي في (المهذب (وغيره، ثم كلمه فيه عبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاصي حتى أخرجه، وهدده بقطع لسانه إن عاد يهجو أحدًا، ثم إنه اشترى منه أعراض المسلمين بأربعة آلاف درهم.
وحبس عمر آخر، فكتب إليه وهو في الحبس [من الرجز]:
يا عمر الفاروق طال حبسي .... وول مني إخوتى وعرسي
في حدث لم تقترفه نفسي .... والأمر أضوى من شعاع الشمس
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وحبس صبيغًا اليمني حين سأله عن الذرايات والمرسلات والنازعات، وضربه ونفاه إلى العراق، وقيل: إلى البصرة.
وروي: أن عليا بنى سجنا بالكوفة.
وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ما سجنا أحدًا، ولم يكن لهما سجن، وجوابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجن بالمدينة في تهمة دم، رواه أبو داوود والترمذى والنسائي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة، وقد تقدم فى (باب كيفية القصاص) عند قول المصنف:(ويحبس القاتل).
وروى أبو داوود ايضا: (ان النبى صلى الله عليه وسلم سجن رجلا أعتق شركًا فى عبد فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غنيمة له).
وروى ابن شعبان في كتابه: أنه صلى الله عليه وسلم حكم به.
وروى ابن القاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بات في سجن ليلة مظلوما .. خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
واستدل القرطبي بقوله تعالى: (تحسبونهما من بعد الصلوة)، وبقوله صلى الله عليه وسلم:(لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) قال ابن المبارك: العقوبة: الحبس.
وتقدم في أول (باب الجنايات) عند قول المصنف: (ولو أمسكه فقتله آخر): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمسك الرجل الرجل حتى قتله آخر .. يقتل القاتل، ويصبر الممسك) وروي: (وحبس الممسك) وهو بمعناه.
ولما حبس الإمام أحمد .. قال له السجان: يا أبا عبد الله؛ الحديث الذى يروى في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم، قال: فأنا منهم، قال أحمد: أعوانهم من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يأخد شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك، أما انت .. فمن أنفسهم.
فروع:
قال الشافعي: إذا حبس القاضي المديون .. لا يغفل عنه، بل يستكشف حاله، فإن كان غريبا .. وكل به من يبحث عنه حتى يظهر له أنه مفلس فيخليه، ومن حبس فى حق رجل ثم جاء آخر يدعي عليه .. أخرجه وسمع الدعوى ثم رده، ولا يتوقف ذلك على إذن غريمه.
وقال مالك: لايجوز إخراجه لسماع الدعوى عليه؛ لما فيه من إسقاط حق الأول.
لنا: أنه توصل إلى الحقين.
وقال شريح: لو أراد الزوج السفر بها فأقرت بدين لإنسان .. حبسها ومنعها من الخروج، ولا يقبل قول الزوج: إن قصدها بذلك منع السفر.
والمخدرة تحبس كغيرها، صرح به الزبيلي.
وقال العبادى: لا تحبس، بل يوكل بها، والأجرة عليها كأجرة السجان على المحبوس حيث لا مال في بيت المال.
وقال الزبيلي: لايجوز أن يقفل على المحبوس باب الحبس نهارًا، ولا أن يحبس فى بيت مظلم، وأن القاضي إذا خاف أن المحبوس يهرب من حبسه .. نقله إلى حبس اللصوص، ولو جن في الحبس أو مرض فيه ولم يجد من يخدمه .. أخرج.
وفي (فتاوى الشاشي): يمنع من شم الريحان ونحوه إلا لمرض؛ لأنه ترفه، فإذا مات .. إخرج ودفع لاهله ليتولوه، وليس لغرمائه منع دفنه، فإن منعوه .. عزروا.
وقال الماوردي: لايمنع من محادثة من يزروه إلا أن يرى القاضي ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفي (تفليس "الروضة"): أنه يمكن من عمل الصنعة على الأصح.
وتحبس المرأة عند نساء ثقاة، أو ذى رحم محرم، ولا تمنع من إرضاع ولدها في الحبس، ويمنع الزوج منها، قاله الماوردي والروياني وابن الرفعة.
قال الشيخ: وفيه نظر، بل ينبغيأن لايمنع؛ لأنه حق واجب عليها، أما المحبوس إذا دعا زوجته أو أمته .. لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال، فإن امتنعت .. أجبرت الأمة ولم تجبر الزوجة.
وإن اقتضى رأى الحاكم أن يمنع زوجته وأمته .. كان له ذلك، هذا هو المفتى به في المسألة، قاله الشيخ وغيره، والمصنف ذكرها في أول (باب التفليس)، ونقل فيها عن (فتاوى الغزالي (أن الأمر راجع إلأى رأى الحاكم، وعن (فتاوى ابن الصلاح): أن ذلك ممنوع.
وفى تقييد المحبوس إذا كان لجوجا وجهان، وفي (البحر) لايمنع المحبوس من التطلع إلى الطريق من كوة، وقد تقدم في (الجمعة): أن المحبوس على حق لا يأثم بترك الجمعة إن كان معسرا، ولا يلزمه الاستئذان للخروج.
وقال بعض الفقهاء: يلزمه أن يستأذن كل جمعة، فإذا منع .. امتنع؛ لأن أبا يعقوب البويطي كان إذا سمع النداء يوم الجمعة .. اغتسل ولبس ثيابه ومشى إلى باب السجن فيقول له السجان: أين تريد؟ فيقول له: أجيت داعي الله، فيقول له: ارجع عافاك الله، فيقول: اللهم؛ إنى قد أجبت داعيك فمنعوني، وكذلك كان يفعل محمد بن سيرين لما حبس.
قال الخطيب: وكان سبب حبسه أنه اشترى زيتا بأربعين ألفا، فوجد فى زق منه فأرة فقال: الفأرة كانت فى المعصرة، فصب الزيت كله، وكان يقول: عيرت رجلًا بالفقر منذ ثلاثين سنه .. فعوقبت به بعد ذلك.
وإذا هرب المحبوس .. لا يلزم القاضي طلبه، وللخصم طلبه، فإذا أحضره سأله عن سبب هربه، فإن تعلل بإعسار .. لم يعزره، وإلا .. عزره.
ولو أراد مستحق الدين أن يلازمه بدلا عن الحبس .. مكن، إلا أن يقول: إنه تشق
وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ مَجْلِسِهِ فَسِيحًا، بَارِزًا، مَصُونًا مِنْ أذَى حَرًّ وَبَرْدِ، لَائِقًا بِالْوَقْتِ وَالْقَضَاءِ، ....
ــ
عليه الطهارة والصلاة مع ملازمته ويختار الحبس .. فيجيبه.
وأجرة السجن على المحبوس؛ لأنها أجرة المكان وهو الذى شغله، وأجرة السجان على صاحب الحق إذا لم يتهيأ صرف ذلك من بيت المال.
قال: (ويستحب كون مجلسه فسيحًا، بارزًا، مصونًا من أذى حر وبرد)؛ لأن المجلس الضيق يتأذى به الخصوم
والمراد بـ (البارز): أن يصل أليه كل أحد من قوي وضعيف، و (صيانته من الحر والبرد) بأن يكون في الصيف في مهاب الرياح وفي الشتاء في كن.
قيل: خير المجالس ما سافر فيه النظر، ولم يتأذ به الجليس إذا حضر.
قال: (لائقًا بالوقت والقضاء) هذه من زياداته على (المحرر (، وكان المراد به: أنه يستحب جلوسه بمرتفع كدكة ونحوها، ويوضع له فراش ووسادة؛ ليعرفه كل داخل.
قال الماوردي: ويفعله وإن كان موصوفًا بالزهد والتواضع؛ للحاجة إلى قوة الرهبة والهيبة.
قال الشافعي: وحسن أن توطًا له الفرش والوسائد؛ لأنه أرفق به وأهيب له.
قال الماوردي: ويجلس في صدر المجلس، فلو خالف وجلس في بيته .. كره، قاله في (المرشد (وغيره.
فإن جلس فيه لا للحكم فحضرت خصومة .. فلا بأس
ويستحب أن يستقبل القبلة؛ لأنها أشرف المجالس كما رواه الحاكم وصححه [4/ 270]، وقيل: يستدبرها كالخطيب، حكاه ابن أبى الدم.
ويكره له مد رجله والاتكاء، ويستحب أن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والعصمة والتسديد.
والأولى: ماروته أم سلمة: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقول: (اللهم؛ إنى أعوذ بك أن أزل او أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أوجل يجهل علي، أو أعتدي أو يعتدى علي (اللهم؛ أغنني بالعلم، وزيني بالحلم، وأكرمني بالتقوى حتى لا أنظق إلا بالحق ولا أقضى إلا بالعدل (رواه الحاكم.
واستحب الماوردي والروياني أن يصلي قبل جلوسه ركعتين إن كان مسجدًا تحية المسجد، وإلا .. لم يصلهما في وقت الكراهة، ويندب أن يأتى المجلس راكبًا ويسلم على الناس يمينًا وشمالًا، قالا: وإذا كان القاضي زاهدًا في الدنيا .. فذلك أعظم لهيبته، وليستكمل ما جرت العادة به من العمامة والطيلسان، وأن يضع بين يديه القمطر مختومًا؛ ليجعل فيه المحاضر والسجلات، وأن يكون مطرق الرأس عند دخول الخصوم، مراعيا للوقار، ولا يبدأ أحدًا بكلام ولا سلام.
حكى أن المهدى أمير المؤمنين تقدم مع خصم له إلى مجلس عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، فلما رئه القاضي مقبلًا أطرق إلى الأرض حتى جلس مع خصمه مجلس المتحاكمين، فلما انقضى الحكم .. قام القاضي فوقف بين يديه، فقال المهدي:(والله لو قمت حين دخلت إليك لعزلتك) وذلك لأن قيامه له قبل الحكم ميل، وترك قيامه له بعد الحكم ترك حق الامام
قال الشافعي: وأحب أن لا يكون القاضي جبارًا عنيفًا، ولا مهينًا ضعيفًا
وقال عمر: لا يصلح لأمور الآمة إلا رجل قوي من غير ضعف، لا تأخذه في الله لومة لائم.
فرع:
إذا جلس للقضاء ولا زحمة .. كره له أن يتخذ حاجبًا في الأصح؛ لما روى الترمذى [1332] عن عمرو بن مرة الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما
لَا مَسْجِدًا،
ــ
وال أو قاض أغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة .. أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته (.
وال أو قاض أغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة .. أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته (.
وروى أبو داوود [2941] والحاكم [4/ 94]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمور الناس شيئًا فاحتجب .. احتجب الله عنه يوم القيامة (.
ولا كراهة له في أوقات خلوته في المسألتين.
وقال الماوردي: إنما يركه اتخاذ الحاجب إذا كان وصول الخصم إليه موقوفًا على إذنه، فأما من وظيفته ترتيب الخصوم والإعلام بمنازل الناس- أي: وهو المسمى في زماننا بالنقيب- فهذا لا بأس باتخاذه، بل صرح القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ باستحبابه.
قال ابن أبى الدم: ولو قيل: إنه متعين .. لم يبعد.
ويشترط في النقيب المذكور أن يكون عدلًا أمينًا عفيفًا، واستحب الماوردي أن يكون حسن المنظر، جميل المخبر، عارفًا بمقادير الناس، بعيدًا عن الهوى والعصبية.
وفي (اللطيف (لابن خيران: يستحب كونه كهلًا، كثير الستر على الناس.
واستحب ابن المنذر كونه خصيًا، وقال الصيمري: هذا لا أصل له.
قال: (لا مسجدًا) أى: لا يتخذه مجلسًا للحكم؛ ففي (الصحيحين ([م 569]: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فقال: (إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة (ولأن مجلس القضاء لا يخلو عن اللغط والتخاصم، ويغشاه الحيض والجنب والصبيان والكفار والدواب وما تجب صيانة المسجد عنه.
وظاهر عبارته: أنه لا يستحب، وهو وجه جرم به المحاملي والجرجاني.
والجمهور على الكراهة؛ لحديث: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم (رواه ابن ماجه [750]، وله طرق يعتضد بها.
وموضع الكراهة إذا اتخذه لذلك، فلو اتفق حضوره فيه ففصل قضية أو قضايا ..
وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي حَالِ غَضَبِهِ
ــ
فلا بأس؛ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بين المتلاعنين، وبين الزبير وصاحب شراج الحرة وغيرهما، فهذه تستثنى من الكراهة، وكذلك إذا احتاج إليه لعذر من مطر ونحوه، وإقامة الحدود فيه أشد كراهة، كذا نص عليه.
وقال الخفاف: تحرم إقامتها فيه، وهو مقتضى كلام الماوردي في (الإقناع)، وبه جزم ابن الصباغ والبنذنيجى، والرافعي في آخر (باب الشرب)؛ فإنه قال: لاتقام الحدود فيه، ويسقط الفرض لو أقيمت كما لو صلى في مكان مغصوب.
قال: (ويكره أن يقضي في حال غضبه)؛ لما روى الشيخان [خ 7158 - م 1717] عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان).
وفي (شعب البيهقي)[8036]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل).
وروى البخاي [6116] عن أبى هريرة: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني فقال: (لا تغضب (فكرر السؤال مرارًا وهو يقول: (لا تغضب) زاد البيهقي [10/ 105]: قال الرجل ففكرت حين قال صلى الله عليه وسلم ما قال؛ فإذا الغضب يجمع الشر كله.
وروى أبو داوود [4744] والترمذي [2021] عن معاذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه .. دعاه الله سبحانه على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء (
وفي (الصحيحين)[خ 6114 - 2608] عن أبى هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وما جزم به المصنف من الكراهة هو المشهور.
وشذ الماوردي فقال: إنه خلاف الأولى، وخص الإمام والبغوي وغيرهما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى للزبير وهو غضبان وطاهر كلام الأكثرين: أنه لا فرق.
وفرق الفارقي بأن الغضب لله يؤمن معه من التعدي، بخلاف الغضب لحظ النفس.
فائدة:
سبب الغضب: هجوم ما تكرهه النفس ممن دونها، وسبب الحزن هجوم ما تكرهه ممن فوقها، والغضب يتحرك من داخل الجسد إلى خارجه، والحزن يتحرك من خارجه إلى داخله، ولذلك يقتل الحزن ولا يقتل الغضب؛ لبروز الغضب وكمون الحزن، فصار الحادث عن الغضب السطوة والانتقام والحادث عن الحزن المرض والأسقام؛ لكمونه، فمن ذلك أفضى الحزن إلى الموت ولم يفض الغضب إليه، كذا قاله الماوردي.
وقال الراغب: الغضب: ثوران دم القلب لإرادة الانتقام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(اتقو الغضب؛ فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم).
وإذا وصف الله تعالى به. فالمراد به: الانتقام دون غيره.
والغضب نقيض الرضا، يقال: رجل غضبان وامرأة غضبى، وفي لغة لبني أسد غضبانة، والغضوب: الكثير الغضب، والغضبة: سريع الغضب، وحكي أنه يقال: غضبت لفلان إذا كان حيًا، وغضبت به إن كان ميتًا.
وفي (الصحيحين)[ح 3282 - م2610]: أن الغضبان إذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. ذهب عنه ما يجد.
وفي (سنن أبى داوود)[4751]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغضب:
وَجُوعِ وَعَطَشِ مُفْرِطَيْنِ، وَكُلَّ حَالِ يَسُوءُ خُلُقُهُ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاء
ــ
شعلة من الشيطان، خلق من النار، وإنما تطفا النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ (.
قال: (وجوع وعطش مفرطين)؛ لما روى الدارقطني [4/ 206] والبيهقي [10/ 105] بسند تفرد به القاسم العمري- وهو ضعيف- عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان (ويغنى عنه قول عمر لأبي موسى: (وإياك والقلق والضجر
…
إلخ).
قال: (وكل حال يسو خلقه) كما إذا كان مهموما هما شديدا، أو مريضا مرضا مؤلما، أو في حر مزعج، أو برد مؤلم، أو غلبة النعاس أو الفرح، أو كان حاقنا أو حاقبًا أو حازقًا، أو تاقت نفسه إلى الطعام؛ لأن هذه الأحوال لا يتمكن معها من الاجتهاد.
وأصل ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقضي القاضي وهو غضبان (.
ومعلوم أنه لم يرد الغضب نفسه، بل الاضطراب الحاصل به المغير للعقل والخلق، وهو في هذه الأحوال متغير العقل.
والموجود في غالب نسخ الكتاب: (وكل حال يسيء خلقه)، والذي بخط المصنف:(وفي كل حال يسوء خلقه).
قال: (ويندب أن يشاور الفقهاء)؛ لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وشاورهم في الأمر).
وفي (سنن البيهقي)[7/ 46] عن الحسن أنه قال: كان غنيا عن المشاورة، ولكن أراد أن يستن به الحكام بعده.
وقد شاور صلى الله عليه وسلم في أساري بدر، وفي حفر الخندق، وفي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المصالحة على ثلث ثمار المدينة
وشاور أبو بكر في ميراث الجدة أم الأم، وعمر في أم الأب وفي دية الجنين وفي ميراث الجد مع الإخوة وشاور عثمان في أحكام.
وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي (سنن البيهقي)[10/ 112] وغيره: المستشير معان، والمستشار مؤتمن
قال الشافعي: يشاور من جمع العلم والأمانة، وقال القاضي والبندنيجي: إنما يشاور الذين تجوز توليتهم القضاء، وقال الروياني وآخرون: الذين يجوز لهم الإفتاء، وهو الظاهر، فيشاور الأعمى والعبد والمرأة، لا الجاهل والفاسق، وإنما يشاور من هو فوقه أو مثله في العلم، لا من دونه على الأصح.
ويستحب أن يجمع أصحاب المذاهب المختلفة؛ ليذكر كل واحد دليله، فيتأمله القاضي ويأخذ بأرجحها.
ثم المشاورة تكون عند اختلاف وجوه النظر وتعارض الآراء فأما الحكم المعلوم بنصأو إجماع أو قياس جلي .. فلا مشاورة فيه، وتعبيره بـ (الفقهاء) يقتضي أنه لا يكفي الواحد، وبه صرح في (البحر (
وَأَنْ لَا يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ مَعْرُوفٌ،
ــ
ومن المستحبات للحاكم أن يحضر أصدقاءه الأمناء ويلتمس منهم أن يخبروه بعيوبه؛ ليسعى في إزالتها.
قال: (وأن لا يشتري ويبيع بنفسه)؛ لئلا يحابى، أو يمنعه ذلك عما هو بصدده؛ فقد روى النقاش: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عدل وال اتجر في رعيته)
وفي (الرافعي) عن شريح أنه قال: اشترط علي عمر حين ولأني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أقضي وأنا غضبان وكتب عمر إلى عماله: أن تجارة الأمير في إمارته خسارة.
وسواء في ذلك مجلس الحكم وغيره، وهو في المجلس أشد كراهة.
وعن أبي حنيفة: لا تكره له مباشرة البيع والشراء، فظاهر عطف المصنف المسألة على ما قبلها أنه خلاف الأولى، والمشهور كراهته، ومع ذلك .. فالبيع صحيح، كما يكره للإنسان أن يشتري صدقته خسية أن يحابى فيها.
وينبغي أن يستثنى بيعه من أصوله أو فروعه؛ لانتفاء المعنى، إذ لا ينفذ حكمه لهم، وفي معنى البيع والشراء: السلم والإجارة والتجارة وسائر المعاملات.
ونص في (الأم (على أنه لا ينظر في نفقة عياله ولا أمر صنعته، بل يكل ذلك إلى غيره؛ ليتفرغ قلبه.
قال: (ولا يكون له وكيل معروف) خشية أن يحابى أيضًا، فإن عرف وكيله ..
استبدل به، فإن لم يجد وكيلًا .. عقد بنفسه للضرورة؛ فإذا وقعت خصومة لعامله .. أناب في فصلها.
فَإِنْ أَهْدَى إِلَيْهِ مَنْ لَهُ خُصُومَهٌ أَوْ لَمْ يُهْدِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ .. حَرُمَ قَبُولُهَا، وَإِنْ كَانَ يُهْدِي وَلَا خُصُومَةَ لَهُ .. جَازَ بِقَدْرِ الْعَادَةِ، وَالأَوْلى أَنْ يُثِيبَ عَلَيْهَا
ــ
قال: (فإن أهدى إليه من له خصومة أو لم يهد قبل ولايته .. حرم قبولها، وإن كان يهدي ولا خصومة له .. جاز بقدر العادة، والأولى أن يثيب عليها).
الذي يأخذه الحكام من الرعية من غير عوض ينقسم إلى هدية ورشوة وقد تقدما، والأولى للحاكم أن يسد باب الهدية؛ لأنه أبعد عن التهمة، ثم ينظر فإن كان للمهدي خصومة في الحال .. حرم قبول هديته؛ أنه يدعو إلى الميل إليه، وانكسار قلب خصمه، وإن لم تكن له خصومة فإن لم تعهد منه الهدية قبل توليه القضاء .. حرم قبولها منه في محل ولايته؛ لأن هذه هدية سببها العمل ظاهرًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول) ويروى: (سحت) الأول رواه أحمد [5/ 424] والبيهقي [10/ 138] بإسناد حسن.
وأيضًا القاضي نائب الشرع فيجب أن يصون منصبه عن التهمة؛ كي ينقاد الناس إلى أحكامه، ولا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضى به عليهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية؛ لأنه معصوم، وغيره ليس كذلك.
روى البيهقي [10/ 138]: أن رجلًا كان يهدي إلى عمر كل سنة فخذ جزور، فجاء يخاصم إليه فقال: يا أمير المؤمنين؛ اقض بيننا قضاء فصلا كما تفصل الفخذ من الجزور، فكتب عمر إلى عماله: لا تقبلوا هدية؛ فإنها رشوة.
وقال عمر بن عبد العزيز: كانت الهدية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هدية، واليوم رشوة فإن زاد المهدي على القدر المعهود منه .. صارت كهدية من لم تعهد منه الهدية.
وقال الماوردي والروياني: إن كانت الزيادة من جنس الهدية .. جاز قبولها؛
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لدخولها في المألوف، وإن كانت من غير جنسها .. منع من قبولها؛ لخروجها عن ذلك.
وحيث قلنا بالتحريم .. لا يملكها المهدي له على الأصح، فيردها على مالكها، فإن لم يعرفه .. وضعها في بيت المال.
وقول المصنف: (بقدر العادة) ليست في (المحرر)، ولو قال: كالعادة .. كان أشمل؛ ليعم القدر والصفة، ولم أر أحدًا ضبط العادة في ذلك، والظاهر: أنها تثبت بمرة؛ لما تقدم من التعليل، وتقدم في (الوليمة) الخلاف في أن الإجابة إليها واجبة أو مستحبة، وذلك في غير القاضي؛ فإنه لا يحضر وليمة أحد الخصمين في حال خصومتهما ولا وليمتها.
ونزول القاضي على أهل ولايته ضيفًا وأكله طعامهم كقبول هديتهم.
وأما الرشوة .. فأجمعوا على أنها على الأمراء والحكام والعمال حرام، وأما بذلها، فإن كلن على أن يعمل غير الحق أو على أن لا يعمل به .. فحرام أيضًا بالاتفاق، وإن كان على الحكم بالحق .. لم يحرم، والمتوسط بينهما له حكم موكله منهما، فإن وكلاه .. حرم عليه؛ لأنه وكيل بالأخذ، فهو آثم بذلك، فإن لم يقدر على وصوله إلى حقه إلا بذلك .. جاز كفك الأسير، وإن قدر بدونها .. لم يجز وهكذا حكم ما يعطى على الولايات والمناصب يحرم على الآخذ مطلقًا، ويفصل في الدافع.
فروع:
إذا لم يكن للقاضي رزق في بيت المال .. كان محتاجًا، قال الهروي: له أن يأخذ من الخصوم أجرة عمله.
وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والجرجاني: له أن يقول: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي جعلًا
قال الشيخ: والمقالتان خطأ نستغفر الله لقائلهما، أما إذا تعين عليه وهو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مستغن .. فلا يجوز أن يأخذ عليه رزقًا من بيت المال على الصحيح كما إذا أعتق عبدًا عن الكفارة على عوض.
وقيل: يجوز كصاحب الطعام في المخمصة، فإن كان محتاجًا .. جاز؛ لأنه لا يلزمه تضييع نفسه لغيره، وإن كان له كسب ويعطله الحكم عنه .. فيأخذ ما يكفيه لنفسه وخادمه بلا إسراف ولا تقتير، وإن لم يتعين عليه ولم يوجد متبرع .. جاز أن يأخذ من بيت المال ما يحتاج إليه لنفسه وخادمه وعياله على ما يليق بحالهم؛ لأن عمر استقضى شريحا وجعل له كل شهر مئة درهم، وبالقياس على عامل الزكاة، بل أولى؛ لأنه أهم. وكذلك الإمام يأخذ ما يليق به من الخيل والغلمان والدار الواسعة، ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم؛ لأنه قد بعد العهد بزمن النبوة التي كانت سبب الظفر وإلقاء الرعب والهيبة في القلوب، فلو اقتصر الإمام على ذلك اليوم .. لم يطع وتعطلت الأمور.
وقال الماوردي: لا يستحق القاضي الرزق إلا حين وصوله إلى عمله وتصديه للنظر فيه، فلو لم يتصد للنظر .. لم يستحقه.
ولا يجوز عقد الإجازة على القضاء على الصحيح، وينبغي للإمام ان يجعل شيئا من بيت المال مع رزق القاضي لثمن ورق المحاضر والسجلات وأجرة الكاتب ونحوه.
ولا يضيف القاضي احد الخصمين، وله أن يضيفهما معا على الصحيح، وله أن يشفع لأحدهما، وأن يؤدي المال عمن عليه؛ لأنه ينفعهما، ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويزور القادمين.
قال الشيخ: ولا يلتحق بالقضاة: المفتي والواعظ ومعلم القرآن والعلم؛ لأنه ليس لهم أهلية الإلزام، والأولى في حقهم إن كانت الهدية لأجل ما يحصل منهم من الفتوى والوعظ والتعليم عدم القبول؛ ليكون عملهم خالصا لله تعالى، وإن أهدي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إليهم تحببا وتوددا لعلمهم وصلاحهم .. فالأولى القبول، وهذه هدية السلف.
وأما إذا أخذ المفتي الهدية ليرخص في الفتيا، فإن كان بوجه باطل .. فهذا رجل فاجر، يبدل أحكام الله تعالى ويشتري بها ثمنًا قليلًا وإن كان بوجه صحيح .. فهو مكروه كراهة شديدة، ويحتمل تحريمه.
وفي حديث (القوس) ما يقتضي أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن حرام، والحديق المذكور رواه أبو داوود [3409] وابن أبي شيبة [5/ 98] عن عبادة بن الصامت: أنه علم رجلا من أهل الصفة القرآن، فأهدى له قوسا فأخذها وقال: أرمي عليها في سبيل الله، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (إن كنت تحب أن يطوقك الله طوقا من نار .. فاقبلها (وحمله الجمهور على أنه كان عمله محتسبا، فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، ولأن أهل الصفة كانوا يعيشون بصدقة الناس، وأخذ المال منهم مكروه، ودفعه إليهم مستحب.
أما إذا قصد المهذي بالهدية استمالة قلب المهدى إليه ليوليه شيئًا مما بيده من الأحكام .. فذلك حرام عليهما، ومن فعل ذلك .. فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
فوائد:
الأولى: قال الشيخ رحمه الله: إذا ابتلي إنسان بالقضاء .. لا يحل له أن يأخذ عليه شيئًا إلا أن يرزقه الإمام، أو يكتب مكتوبا يستحق عليه أجرة مثله إذا لم تكن كتابة ذلك واجبة عليه، ولا يجوز له أن يأخذ على الحكم ولا على تولية نيابة القضاء ولا مباشرة وقف أو مال يتيم شيئًا، وكذلك حاجب القاضي وكل من يلي أمور المسلمين، ومن فعل خلاف ذلك .. فقد غير فريضة الله، وباع عدله الذي بذله لعباده بثمن قليل، ولهذا تجد بعض الفجرة الذين يفعلون ذلك يأخذونه خفية، وهذه علامة الحرام، فإن الحلال يأخذه صاحبه ولا يستحيي من أخذه، والله يعلم المفسد من المصلح.
الثانية: هل يجوز للقاضي الاستعارة من رعيته ممن لم تجر له عادة بها منه قبل
وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ وَرَقِيقِهِ وَشَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَكَذَا أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ،
ــ
الحكم كالملبوس والمركوب والمساكن ونحوها؟ لا نقل فيها، والظاهر: التحريم؛ لأن المنافع كالأعيان، إلا أنه لا بأس باستعارة كتب العلم، ويتأكد التجنب مطلقًا حالة المحاكمة.
الثالثة: إذا كان القاضي فقيرًا هل يحرم عليه قبول الصدقة من أهل ولايته؟
قال الشيخ في تفسيره: ينبغي أن يقال: إن لم يكن المتصدق عارفًا بأنه القاضي ولا القاضي عارفًا به .. فلا شك في الجواز، وإلا .. فيحتمل أن يكون كالهدية، ويحتمل الفرق؛ لأن المتصدق إنما يبتغي ثواب الآخرة.
وأفتى في (الحلبيات) بجواز قبول القاضي الصدقة ممن لم تكن له بها عادة؛ لأنها تقع في يد الرحمن، وخصوص القضاء غير مقصود بها، وإذا وقف عليه أحد من أهل عمله فإن شرطنا القبول في الوقف فكالهدية.
الرابعة: ما بنعم به الملوك على القضاة من الخلع وغيرها .. الذي يظهر أنه حلال؛ لأنه لا يفعل لاستمالة قلب القاضي في محاكمة، ولذلك لا يشترط القبول في ذلك كما تقدم في (باب الهبة).
قال: (ولا ينفذ حكمه لنفسه ورقيقه وشريكه في المشترك)؛ للتهمة في ذلك، وكذلك شريك مكاتبه.
والمراد بـ (الحكم للعبد): فيما ليس بمال كالقصاص في الطرف والتعزير، وكذلك الحكم في المبعض، أما حكمه على نفسه .. فيقبل، وهل هو حكم أو إقرار؟ وجهان.
قال: (وكذا أصله وفرعه على الصحيح)؛ لأنهم أبعاضه، فيشبه قضاؤه لهم قضاءه لنفسه، ولأن التهمة هنا أكثر من التهمة في الشهادة، وكذا إن علا الأصل أو سفل الفرع، ومثله رقيق أصله وفرعه، وشريك أحدهما المشترك.
والوجه الثاني- وهو مذهب أبي ثور-: ينقذ، واختاره ابن المنذر؛ لعموم الأمر بالقضاء بين الناس، ولأن القاضي أسير البينة فلا تظهر فيه تهمة، بخلاف الشهادة،
وَيَحْكُمُ لَهُ وَلِهَؤُلَاءِ الإِمَامُ أَوْ قَاضٍ آخَرُ، وَكَذَا نَائِبُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى إِقْرَارِهِ. عِنْدَهُ أَوْ يَمِينِهِ أَوِ الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ وَالإِشْهَادَ بِهِ .. لَزِمَهُ،
ــ
ولهذا لو أراد أن يقضي لهم بعلمه .. لم يجز قطعًا، بخلاف الأجانب، فلو حكم لولده على ولده .. فالأصح كذلك.
واختار فى (المرشد) الجواز؛ لاستوائهما فى القرب، كما يجوز أن يبيع مال أحدهما للآخر.
وفهم من اقتصاره على (الأصل والفرع) جوازه لمن سواهما من الأقارب والزوجة والمعتق، واحتج له ابن المنذر بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لعائشة على الذين تكلموا فى الإفك، وأقام عليهم الحد، وحكم لابن عمته على الأعرابي وقال:(أول ربا أضعه ربا العباس).
قال: (ويحكم له ولهؤلاء الإمام أو قاض آخر)؛ دفعًا للتهمة.
قال: (وكذا نائبه على الصحيح)؛ لأنه حاكم وإن كان نائبًا، فأشبه سائر الحكام.
والثانى: لايجوز من نائبه؛ للتهمة، ورجحه الشاشي، وقد تقدم هذا الحكم فى (النكاح).
والصحيح: أنه لايقضي على عدوه، كما لايشهد عليه، وجوز فى (الأحكام السلطانية) ذلك؛ لأن أسباب الحكم ظاهرة، بخلاف الشهادة.
وإذا ولي وصي اليتيم القضاء .. قال ابن الحداد: لم يكن له أن يسمع البينة، ولا أن يحكم له، والصحيح: الجواز؛ لأن كل قاض ولي لليتيم.
قال: (وإذا أقر المدعى عليه أو نكل، فحلف المدعي وسأل القاضي أن يشهد على إقراره عنده أو يمينه أو الحكم بما ثبت والإشهاد به .. لزمه)؛ لأنه قد ينكر بعد ذلك فلا يتمكن القاضي من الحكم عليه إن قلنا: لا يقضي بعلمه، وإن قلنا: يقضي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
به .. فربما نسي أو يعزل فلا يقبل قوله، وهذا لا خلاف فيه.
ولو أقام المدعي بينة بما ادعاه وسأله الإشهاد عليه .. فالأصح: أنه يلزمه أيضًا.
وقيل: لايلزمه الإشهاد؛ لأن له بينة فلا يحتاج إلى بينة أخرى.
ولو حلف المدعى عليه وسأله الإشهاد ليكون حجة له فلا يطالبه مرة أخرى .. لزمه إجابته.
وعبارة المصنف تقتضي أنه لا يجب مالم يسأله المدعي، وهو كذلك، بل قال في (الروضة) فى (باب القضاء على الغائب): لايجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي على الأصح، لكن لم يبين المصنف صيغة الحكم اللازم.
ونقل الشيخان عن صاحب (الشامل) أنه يقول: حكمت له به، أو نفذت الحكم به، أو ألزمت صاحب الحق، وقول القاضي: حكمت بكذا حكمٌ، وكذا: قضيت على المذهب.
ولو قال: ثبت عندى بالبينة العادلة كذا، أو صح .. فمقتضى تعبير المصنف: أنه ليس بحكم، وهو الذى صححه (فى باب القضاء على الغائب)، ونقله فى (البحر) عن نص (الأم) وأكثر الأصحاب؛ لأن الحكم هو الإلزام، والثبوت ليس بإلزام.
قال الرافعى: (ويقرب منه ما اعتاد القضاة إثباته على ظهر الكتب الحكمية، وهو صح عنده، وقبله قبول مثله، وألزم العمل بموجبه) اهـ وفيه نظر؛ لأن الإلزام تصريح بالحكم.
وفائدة الخلاف فى أن الثبوت حكم أو لا يظهر فى صور:
منها: رجوع الحاكم والشهود بعده، هل يغرمون؟ إن قلنا: نعم .. فنعم، وإلا .. فلا.
ومنها: وجوب التحليف قبل التلفظ به فى الميت ونحوه.
أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، أَوْ سِجِلًا بِمَا حَكَمَ .. اسْتُحِبَّ إِجَابَتُهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ،
ــ
ومنها: حضور شاهد الأصل، أو برؤه من المرض بعد الثبوت بشهود الفرع.
ومنها: إذا حدث فسق الشهود بعده ونحوه.
قال: (أو أن يكتب له محضرًا بما جرى من غير حكم، أو سجلًا بما حكم) به (.. استحب إجابته)؛ لأن فى ذلك تقوية لحجته، والحق يثبت بالشهود لا بالكتابة.
قال: (وقيل: يجب)؛ توثيقًا لحقه كما يجب الإشهاد، والأصح: الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الأئمة كانوا يحكمون ولا يكتبون المحاضر والسجلات.
ومحل الخلاف: إذا كان عنده قرطاس من بيت المال، أو أتى به الطالب، فإن لم يكن ذلك .. لم تجب إجابته جزمًا، ومحله أيضًا فى البالغ العاقل، فلو تعلقت الحكومة بصبي أو مجنون له أو عليه .. وجب التسجيل جزمًا كما قطع به الزبيلي وشريح الروياني، وهو ظاهر، ويشبه أن يلتحق به الغائب؛ حفظًا لحقه.
وكذا ما تعلق بوقف ونحوه مما يحتاط له، ثم إذا حكم بشيء فطلب منه الإشهاد على حكمه .. لزمه الإشهاد، وإن طلب منه أن يكتب سجلًا .. فعلى التفصيل، والخلاف المذكور فى كتابة المحضر.
ونقل ابن كج وجهًا ثالثًا: أنه يجب التسجيل فى الدين المؤجل، وفى الوقوف وأموال المصالح، ولايجب فى الديون الحالة والحقوق الخاصة.
وقدذكر الشيخان وغيرهما صفة المحضر والسجل، وهى غير خفية على الحكام.
قال فى (الكفاية): ولا خلاف أن الدافع لو طلب الكتاب الذى وصل بوجوب الحق عليه بعد وفاء الحق .. لايسلم إليه؛ لأن الورقة قد تكون ملك الخصم، وكذا لو باع واحد شيئًا .. لايلزمه تسليم كتاب الأصل ولا تمزيقه؛ لأنه ملكه وحجة له عند
وَيُسْتَحَبُّ نُسْخَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَهُ، وَالأُخْرَى تُحْفَظُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ. وَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ بَانَ خِلَاف نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْماعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ .. نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ،
ــ
الدرك، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في (باب بيع الأصول والثمار)، وسيأتي في المسألة التي بعدها عن مالك وأحمد: أن قضاء القاضي إضا نقض وكان به مكتوب .. يقطع.
قال: (ويستجب نسختان: إحداهما له، والأخرى تحفظ في ديوان الحكم) وإن لم يطلب ذلك الخصم، بل يستحب للقاضي مهما وقعت قضية أن يكتبها؛ لأنه كفيل بحفظ الحقوق على أهلها، ولأنه إذا كانت نسخة واحدة ودفعها للمحكوم له .. لم يؤمن ضياعها.
قالوا: والتي يدفعها للخصم تكون غير مختومة لينظر فيها ويعرضها على الشهود؛ لئلا ينسوا، والتي بديوان القضاء تختم ويكتب على رأسها اسم الخصمين، ويضعها في حرز له.
قال: (وإذا حكم باجتهاد ثم بان خلاف نص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي .. نقضه هو وغيره)؛ لأن الحق أحق أن يتبع، وقال صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه .. فهو رد).
فأما النقض لمخالفة الإجماع .. فبالإجماع، والباقي في معناه؛ لأنه غير معذور في هذا الخطأ لمخالفة القاطع، وقد تقدم ما قاله عمر لأبي موسى في ذلك، وأنه كان يفاضل بين دية الأصابع؛ لتفاوت منافعها، حتى روي له الخبر في التسوية فنقض حكمه، رواه الخطابي في (معالمه).
ونقض علي قضاء شريح بأن شهادة المولى لا تقبل بالقياس الجلي، وهو أن ابن العم تقبل شهادته وهو أقرب من المولى، ونقض قضاءه أيضًا في ابني عم أحدهما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أخ لأم بأن المال للأخ متمسكًا بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، ال له على: قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} .
وقضى عمر بن عبد العزيز فيمن رد عبدًا بعيب أنه يرد معه خراجه، فأخبره عروة عن عائشة:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان) فرجع وقضى بأخذ الخراج من الذي أخذه، رواه الشافعي في (مسنده)[1/ 243].
وقوله: (نقضه) معناه: أنه يلزمه ذلك وإن لم يرفع إليه، خلافًا لابن سريج؛ فإنه قال: لا يلزمه إعلام الخصمين إن علما بالخطأ، بل إذا ترافعا إليه نقضه، والصحيح اللزوم وإن علما.
أما حقوق الله تعالى .. فعليه المبادرة لفصلها.
وقوله: (وغيره) أي: من الحكام لا المفتين؛ لأن من لا يملك العد .. لا يملك الحل.
وفي معنى قوله: (باجتهاده) ما إذا كان مقلدًا وحكم بخلاف نص إمامه كوجه ضعيف .. فإنهم جعلوا نص إمامه بالنسبة إليه كنص الشارع بالنسبة إلى المجتهد.
وليس المراد بالنص: ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، بل المراد به ما هو أعم، حتى يشمل، كذا نقله في (المطلب) عن النص، وإطلاقه (السنة) يشمل متواترها وآحادها.
وفي النقض بخبر الواحد وجه حكاه شريح الروياني.
والمراد بـ (القياس الجلي): ما تعرف به موافقة الفرع الأصل بحيث ينتفي احتمال افتراقهما أو يبعد كالتحاق الضرب بالتأفيف، وبعضهم لا يسميه قياسًا، بل فحوى خطاب.
وزاد بعضهم على ما ذكره المصنف رابعًا وهو: مخالفة القواعد الكلية.
وصيغة النقض أن يقول: نقضته أو أبطلته أو فسخته، فلو قال: هذا باطل أو ليس بصحيح .. فوجهان.
لَا خَفِيٍّ،
ــ
وعند مالك وأحمد: أنه إذا نقض وكان به مكتوب .. يقطع، ولم يذكره أصحابنا، والظاهر: أنه إذا خصمعلى ظاهره بالنقض .. كفى.
قال: (لاخفي)؛ لأن الظنون المتعادلة لو نقض بعضها ببعض .. لما استمر حكم، ولشق الأمر على الناس.
و (الخفي): ما لا يزيل احتمال الموافقة ولا يبعده، فمنه ما علته مستنبطة كقياس الأرز على البر بعلة الطعم، وجعله ابن القاص من الجلي، والصحيح الأول. ومنه: قياس الشبه، وهو أن تشبه الحادثة أصلين فتلحق بأشبههما، هذا إذا جعلنا قياس الشبه حجة، وفيه خلاف لأصحابنا.
فإذا بان له الخطأ بقياس خفي لكنه أرجح مما حكم به وأنه الصواب .. فليحكم فيما يحدث بعد ذلك به، ولا ينقض ما حكم به أولًا، بل يمضيه.
وقد تقدم عن عمر أنه حكم بحرمان الأخ من الأبوين في المشركة، ثم شرك بعد ذلك ولم ينقض قضاءه الأول، وقال:(ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي)، وقضى في الجد يمئة قضية مختلفة كما تقدم.
فائدة:
الصحيح: أن المصيب في المسائل الفرعية الاجتهادية واحد، والذاهب إلى غيره مخطئ لا إثم عليه.
والثاني: أن كل مجتهد مصيب؛ لأن كلًا منهم مأمور بالعمل بما غلب على ظنه، وغير الحق لا يؤمر بالعمل به.
واستدل الفريقان بالحديث المتقدم أول الباب: (إذا حكم الحاكم فاجتهد .. فله أجران، وإن أخطأ .. فله أجر) فالقائلون: كل مجتهد مصيب قالوا: قد جعل للمخطئ أجرًا فلولا إصابته .. لم يكن له أجر.
وَالْقَضَاءُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا،
ــ
واحتج الأولون بأنه سماه مخطئًا، وأما الأجر .. فإنه يحصل على تعبه في الاجتهاد.
أما أصول التوحيد .. فالمصيب فيها واحد بإجماع من يعتد به، والمخطئ فيها آثم، ولا يجوز التقليد فيها إلا عبيد الله بن الحسن العنبري وداوود.
تذنيب:
إذا حكم قاض بنفي خيار المجلس، أو بنفي العرايا، أو بتحريم الجنين بذكاة أمه، أو بشهادة فاسقين، أو بصحة النكاح بحضورهما بلا إعلان أو بلا ولي، أو ببيع أم الولد، أو بالتفرقة بلعان ثلاث مرات، أو بتحريم الرضاع بعد الحولين، أو بقتل مسلم بكافر أو بإرثه منه وعكسه، أو بإبطال قتل المرأة بالرجل حتى يغرم وليها نصف الدية .. ففي نقض ذلك خلاف، رجح ابن الرفعة النقض في الجميع، ونقل الرافعي عن الروياني عدم النقض في الجميع؛ لأنها اجتهادية، والأدلة فيها متعارضة.
وكذلك ينقض قضاء من حكم بملك العغاصب الثوب المغصوب إذا قطعه، والشاة المغصوبة إذا ذبحها، والأرض المغصوبة إذا بنى فيها، ويظهر أن يأتي فيه الخلاف.
قال: (والقضاء ينقذ ظاهرًا لا باطنًا)؛ لأنا مأمورون باتباع الظاهر والله يتولى السرائر، والرافعي وغيره أوردوا ذلك حديثًا، قال الحافظ جمال الدين المزي: لا نعرفه.
فإذا حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة وكانا كاذبين .. لا يفيد الحل باطنًا، سواء كان الحكم بمال أو نكاح أو غيرهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء .. فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار) متفق عليه] خ 2680 - م 1713 [.
وَلَا يَقْضِي بِخِلافِ عِلْمِهِ بِالإِجْمَاعِ،
ــ
فإذا كان المحكوم به نكاحًا .. لم يحل للمحكوم له الوطء ولا الاستمتاع، وعليها الامتناع والهرب ما أمكنها، فإن أكرهت .. فلا إثم عليها، فإن وطئ .. فهو عند الشيخ أبي حامد زان، وعند ابن الصباغ والروياني ليس بزان؛ لأن أبا حنيفة يجعلها منكوحة بالحكم، وذلك شبهة.
فرع:
الأصح: أن الشاهد تقبل شهادته فيما لا يعتقده كشافعي يشهد بشفعة الجوار؛ لأنه مجتهد فيه، والاجتهاد إلى القاضي لا إلى الشاهد، فيؤديه عند منيرى جوازه.
والثاني: لا، كما لا يقضي القاضي بخلاف ما يعتقده، وعلى القول بالجواز هل له الامتناع من الأداء؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يمتنع.
قال: (ولا يقضي بخلاف علمه بالإجماع)؛ لأنه لو حكم به .. لكان قاطعًا ببطلان حكمه، والحكم بالباطل محرم، كما إذا شهد شاهدان بزوجية وهو يعلم أن بينهما محرمية أو طلاقًا بائنًا، أو شهدا بموت إنسان يوم كذا وهو يعلم حياته حينئذ، أو برق عبد وهو يعلم أنه أعتقه.
وعن الإصطخري: أنه يتعين القضاء بالعلم في مواضع: منها: أن يقر عنده بالطلاق الثلاث ثم يدعي زوجيتها، أو يدعي أن فلانًا قتل أباه وهو يعلم أنه قتله غيره، أو أن هذه أمتي تصدقه وهو يعلم أنها ابنته.
وعبارة (المحرر) و (الشرحين) و (الروضة): لا يقضي بخلاف علمه بلا خلاف، وفيه نظر؛ فإن الماوردي والروياني والشاشي وابن يونس وابن الرفعة حكوا وجهًا: أنه يقضي بالبنية، وصواب العبارة: لا يقضي بما علم خلافه؛ فإن من يقضي بشهادة شاهدين لا يعلم كذبهما ولا صدقهما قاض، بخلاف علمه، وقضاؤه حق بالإجماع ما لم تكن ريبة، وكذا إن كانت على المذهب.
والمراد بـ (العلم) هنا: اليقين لا الظن المؤكد، بخلاف ما سيأتي في (الشهادة) بالعلم؛ فإن المراد به: الظن الغالب، وكذلك قولهم: إنَّ شرط تحمل الشهادة
وَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ إِلَاّ فِي حُدُودِ اللهِ تَعَالَى
ــ
العلمُ، المراد به: الظن الغالب.
قال: (والأظهر: أنه يقضي بعلمه إلا في حدود الله تعالى) في القضاء بالعلم ثلاثة أقوال:
أحدهما: يحكم به؛ لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ، وهو يعلم أن أحدهما محق فيلزمه الحكم للمحق، ولأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو شاهدان أو شاهد ويمين .. فبالعلم أولى، ولذلك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند على أبي سفيان بنفقة ولدها من غير بينة؛ لعلمه بأمرهم.
وقال الربيع: كان الشافعي يرى القضاء بالعلم، ولا يبوح به مخافة قضاة السوء، فعلى هذا: قال الماوردي والروياني: يشترط لنفوذه أن يقول: قد علمت أن له عليك ما ادعاه، وقد حكمت عليك بعلمي، فإن أغفل شيئًا من ذلك .. لم ينفذ.
والثاني: لا يحكم به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك).
وتداعى رجلان عند عمر فقال أحدهما: إنه شاهدي، فقال:(إن شئتما شهدت ولو أحكم، أو أحدكم ولا أشهد).
ولأن علمه لو أقيم مقام شاهدين .. لا يعقد النكاح بحضوره وحده.
فعلى هذا: لو شهد عند شاهد بما علمه فهل يقوم علمه مقام شاهد آخر؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع.
وأجاب القائل بالأول عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم المحق منهما، وأثر عمر لم يثبت.
والمغلب على حضور شاهدي النكاح التعبدُ، وبهذا القول قال مالك وأحمد.
وحيث قلنا بالجواز .. فهو مكروه كما أشار إليه في (الأم).
والقول الثالث: يحكم في غير حدود الله تعالى، وهي حد الزنا والسرقة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والمحاربة والشرب؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب سترها.
وروى أحمد بسند صحيح عن أبي بكر الصديق أنه قال: لو رأيت رجلًا على حد من حدود الله تعالى .. ما أخذته به، ولا دعوت له أحدًا حتى تقوم البينة عندي.
ويجوز في المال قطعًا، وكذا في القصاص وحد القذف على الأصح، وهذا هو الأظهر.
كل هذا فيما علمه بالمشاهدة، أما ما علمه بالتواتر، فإن قلنا: يقضي إذا علمه بالمشاهدة .. فهنا أولى، وإلا .. فوجهان.
والفرق أن المحذور ثَمَّ التهمةُ، فإذا شاع الأمر .. زالت.
ومحل الخلاف فيمن يجوز الحكم له بالبينة، فأما أصله وفرعه وشريكه .. فلا يقضي لهم بعلمه بلا خلاف كما تقدم.
وعبارة المصنف تقتضي طرد الخلاف، سواء حصل له العلم قبل الولاية أو بعدها، في محل الولاية أو في غيره.
نعم؛ لو أقر عنده شخص في مجلس حكمه .. فالذي جزم به الرافعي: أنه يقضي عليه وإن منعنا القضاء بالعلم.
والخلاف الذي ذكره المصنف جار في الجرح والتعديل أيضًا، وهي الطريقة الصحيحة، وقال العراقيون: يقضي بعلمه في الجرح والتعديل وجهًا واحدًا.
وعبارة الرافعي: لو عرف عدالتهما .. فله أن يقضي، ويغنيه علمه بها عن مراجعة المزكين، وفيه وجه؛ لقيام التهمة، وسيأتي في آخر الباب.
واللوث إذا عاينه الحاكم .. له اعتماده قطعًا، وأشار إلى أنه لا يقضي بعلمه في الإعسار وإن جاز له أن يشهد به كما تقدم في بابه.
وقوله: (حدود الله) ليس على إطلاقه، بل لو علم ردة شخص .. جاز له القضاء فيه بعلمه فيما يظهر، وكذلك حكم التعزير.
وَلَوْ رَأَى وَرَقَةً فِيهَا حُكْمُهُ أَوْ شَهَادَتُهُ أَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّكَ حَكَمْتَ أَوْ شَهِدْتَ بِهَذَا .. لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ فِي وَرَقَةٍ مَصُونَةٍ عِنْدَهُمَا، وَلَهُ الْحَلِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ حَقٍّ أَوْ أَدَائِهِ اعْتِمَادًا عَلَى خَطِّ مُوَرِّثِهِ إِذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَأَمَانَتِهِ،
ــ
قال: (ولو رأى ورقة فيها حكمه أو شهادته أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا .. لم يعمل به ولم يشهد)؛ لإمكان التزوير ومشابهة الخط.
قال: (حتى يتذكر)؛ لأنه ما لم يتذكر شهد بما لم يعلم، وقال تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، دلت الآية على أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم.
وقيل: ولو تذكر بناء على منع القضاء بالعلم.
قال: (وفيهما وجه في ورة مصونة عندهما): أنه يجوز الاعتماد عليه إذا وثق به ولم تداخله ريبة السجل والمحضر؛ لبعد التحريف في مثل ذلك، وهو رواية عن مالك وأحمد.
وقال أبو يوسف: يجوز له الحكم بخطه إذا عرف صحته ولم يتذكر، قال: وهو عرف القضاة في عصرنا.
ومقتضى إطلاق الأصحاب: أن المراد: تذكر الحكم والتحمل على التفصيل، وأنه لا يكفي تذكر أصل القضية فقط.
قال: (وله الحلف على استحقاق حق أو أدائه اعتمادًا على خط مورثه إذا وثق بخطه وأمانته)؛ لاعتضاده بالقرينة، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة:(أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم).
والفرق بينه وبين القضاء والشهادة على الخط- حيث لا يجوز ما لم يتذكر-: أن اليمين تتعلق بنفسه والشهادة والحكم بغيره.
واحتج ابن دقيق العيد لجواز اليمين على غلية الظن بحلف عمر بحضرة النبي
والصَّحِيحُ: جَوَازُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِخَطٍّ مَحْفُوظٍ عِنْدَهُ
ــ
صلى الله عليه وسلم أنَّ ابن صياد هو الدجال، ولم ينكره عليه.
وضابط وثوقه: أن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة لفلان علي هذا .. لم يجد في نفسه أن يحلف على نفي العلم به، بل يؤديه من التركة.
واحترز بقوله: (إذا وثق) عما إذا غلب على ظنه كذبه .. فلا يحلف قطعًا، واقتصاره على خط مورثه يوهم منع الحلف على خط نفسه، وهو الذي نقله الشيخان هنا عن (الشامل)، وجرى عليه في (البيان)؛ لإمكان التذكر في خط نفسه، بخلاف مورثه، لكن المصنف سوى بينهما في (باب الدعاوي) حيث قال:(يجوز البت بظن مؤكد يعتمد خطه أو خط أبيه) وكذا ذكراه في (الشرح) و (الروضة) هناك.
والظاهر: أن ذكر المورث ليس بقيد، حتى لو رأى شيئا بخط مكاتبه الذي مات قبل العتق، أو خط مأذونه القن بعد الموت، أو عامله في القراض، أو شريكه في التجارة .. جاز له أن يحلف عليه بالشرط السابق؛ لوجود العلة وهو الظن المذكور.
قال: (والصحيح: جواز رواية الحديث بخط محفوظ عنده)؛ لعمل العلماء به سلفًا وخلفًا، ولأن باب الرواية أوسع من الشهادة؛ لأن الفرع يروي مع حضور الأصل ولا يشهد.
والثاني: المنع إلى أن يتذكر كالشهادة.
تتمة: تجوز الرواية بالإجازة، خلافًا للماوردي والقاضي حسين، وهو أحد قولي الشافعي، وهي سبعة أنواع بينها المصنف وغيره.
والأصح: صحة الإجازة العامة كأجزت للمسلمين، أو كل أحد، أو من أدرك زماني، لا لزيد ولمن يولد له في الأصح.
والإجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الأصح.
فَصْلٌ:
لِيُسَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دُخُولٍ عَلَيْهِ، وَقِيامٍ لَهُمَا، وَاسْتِمِاعٍ، وَطَلَاقَةِ وَجْهٍ،
ــ
وإذا كتب الإجازة .. استحب أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة .. صحت كالقراءة عليه مع سكوته.
قال: (فصل:
ليسوِّ بين الخصمين في دخول عليه) وإن اختلفا في الشرف، فلا يدخل أحدهما قبل الآخر، وإذنه لأحدهما وحجب الآخر جور يأثم به القاضي، فلو أذن لهما فتقدم أحدهما من تلقاء نفسه أو تقدم في الممر .. فذلك قريب.
ولفظ الخصم يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدر، قال الله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} .
ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول: خصمان وخصوم.
و (الخصم) بفتح الخاء وكسر الصاد: الشديد الخصومة.
قال: (وقيام لهما) فيقوم لهما أو يترك، ولا يخص أحدهما بقيام.
وكره ابن أبي الدم القيام لهما جميعًا؛ لأن أحدهما قد يكون شريفًا والآخر وضيعًا، فإذا قام لهما .. علم الوضيع أن القيام لأجل خصمه، فيزداد الشريف تيهًا والوضيع كسرًا، فترك القيام لهما أقرب إلى العدل.
قال: (واستماع، وطلاقة وجه) ونحو ذلك من وجوه الإكرام، ويقبل عليهما معًا بمجامع لبه ويسمع لهما، ولا يمازح أحدهما ولا يضاحكه، ولا يشير إليه إشارة إكرام؛ لقوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الآية.
قيل: نزلت في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي.
وفي (سنن البيقهي)[10/ 135]: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بالقضاء بين المسلمين .. فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومعقده ومعقده، ولا يرفع صوته على أحدهما).
وَجَوَابِ سَلَامٍ، وَمَجْلِسٍ،
ــ
قال: (وجواب سلام) فإن سلما أجابهما معًا، وإن سلم أحدهما دون الآخر .. قال للآخر: سلم، أو يصبر حتى يسلم صاحبه فيجيبهما معًا.
قال الرافعي: وقد يتوقف في هذا إذا طال الفصل، وكأنهم احتملوا طوله للتسوية.
وقيل: يجوز ترك السلام مطلقًا، واستبعده الإمام، واعترضه في (المهمات).
وقال الماوردي: إذا حضر الخصمان إلى الحاكم .. سقط عنهما سنة السلام.
والواجب أن يسوي بينهما في الأفعال دون القلب، فإن كان يميل إلى أحدهما بقلبه ويحب أن يلهج بحجته على الآخر .. لم يأثم؛ لأنه لا تمكنه التسوية بينهما في ذلك، ولا يستطيع التحرز من الميل والمحبة كما قال صلى الله عليه وسلم في الميل إلى بعض نسائه:(اللهم؛ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك).
قال: (ومجلس) فيجلسهما بين يديه.
ويجوز إجلاس الشريفين عن يمينه وشماله؛ ففي (سنن أبي داوود)[3583] عن عبد الله بن الزبير قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم).
ولأن النظر إليهما والاستماع لكل منهما حينئذ يكون أسهل، وإذا جلسا .. تقاربًا، إلا أن يكونا رجلًا وامرأة غير محرم فيتباعدان.
ويستحب أن يجلسا بين يدي القاضي على الركب؛ ليتميزا عن غيرهما، ولأنه أهيب، وهي عادة العرب في المخاصمات، والمرأة متربعة كيف كانت؛ لأنه أستر لها.
ولا يجوز أن يرتفع الموكل في المجلس عن الوكيل والخصم؛ لأن الدعوى متعلقة به أيضًا بدليل تحليفه إذا وجب اليمين، كذا حكاه ابن الرفعة عن الزبيلي وأقره،
وَالأَصَحُّ: رَفْعُ مُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ فِيهِ
ــ
وينبغي أن يكون مفرعًا على وجوب التسوية، فإن قلنا باستحبابها .. لم يتجه فيما ذكره غير الاستحباب.
وبالجملة هو فقه حسن، والبلوى به عامة، وقد رأينا من يوكل فرارًا من التسوية بينه وبين خصمه.
وملخص ما في التسوية في المجلس وجهان: المذهب استحبابها، والأكثرون على وجوبها.
قال: (والأصح: رفع مسلم على ذمي فيه) أي: في المجلس، لقوله تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} .
قال الشيخ: وهذا من عطف الخاص على العام؛ لأن العلماء أخص من المؤمنين ويكون المعنى: أنه يرفع المؤمنين على غير المؤمنين، ويرفع العلماء من المؤمنين على بقية المؤمنين.
وروى البيقهي [10/ 136] عن الشعبي قال: خرج علي إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعًا فعرفها علي فقال: هذه ردعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتيا شريحًا فلما رأى القاضي أمير المؤمنين .. قام من مجلسه وأجلسه فيه، وجلس شريح أمامه إلى جنب النصراني، فقال له علي: لو كان خصمي مسلمًا .. لقعدت معه مجلس الخصم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا تساووهم في المجالس) اقض بيني وبينه يا شريح.
فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه درعي، ذهبت مني منذ زمان، فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال: ما أكذب أمير المؤمنين! الدرع درعي، فقال شريح لأمير المؤمنين: هل من بينة؟ فقال علي: صدق شريح، فقال النصراني: أشهد أن هضه أحكام الأنبياء، ثم أسلم النصراني، فأعطاه علي الدرع وحمله على فرس عتيق.
قال الشعبي: فلقد رأيته يقاتل المشركين عليه.
وَإِذَا جَلَسَا .. فَلَهُ أَنْ يَسْكُتَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لِيَتَكَلَّمِ الْمُدَّعِي، فَإِذَا ادَّعَى .. طَالَبَ خَصْمَهُ بِالْجَوَابِ، ....
ــ
والوجه الثاني: يسوي بينهما كما أنه يسوي بينهما في الإقبال عليهما والاستماع منهما.
قال الرافعي: ويمكن أن يكون الوجهان في رفع المجلس جاريين في سائر وجوه الإكرام، وقد صرح بذلك الفوراني قبله، وجزم في (التنبيه) بتقدمه عليه في الدخول.
قال: (وإذا جلسا) بين يديه وكذلك إذا انتصبا كما هو الواقع غالبًا، وهو خلاف الأولى والأدب، قال الماوردي: لا تسمع الدعوى منهما وهما قائمان حتى يجلسا بين يديه تجاه وجهه.
قال: (.. فله أن يسكت)؛ لأنهما حضرا ليتكلما.
قال: (وله أن يقول: ليتكلم المدعي)؛ لما فيه من إزالة هيبة القدوم، وكذا إذا عرف المدعي يقول له: تكلم.
ولو خاطبهما بذلك الأمين الواقف عنده .. كان أولى، والأولى أن يستأذنه الخصم في الكلام.
فإن طال سكوتهما لغير سبب .. قال: ما خطبكما، وهو أكمل ألفاظ الاستدعاء، وفيه وجه: أنه يسكت ولا يقول لهما شيئًا، فإن لم يدَّعِ واحد منهما .. أقيمها من مكانهما.
قال: (فإذا ادعى) أي: دعوى صحيحة (.. طالب خصمه بالجواب)؛ لأن به تنفصل الخصومة فيقول: ما تقول؟ أو اخرج من دعواه ونحو ذلك.
وقيل: لا يطالبه بالجواب حتى يسأل المدعي؛ لأنه حقه، فيقول: وأنا أسأل جوابه أو أطالبه بالجواب؛ لأنه حقه، فلا يطالب به خصمه إلا بسؤاله كاليمين؛ فإنه لا يحلفه إلا بمسألته، وصحح هذا الهروي، وقال في (الدعاوى) من (الشرح الصغير): إذا أشبه.
فلو كتب المدعي دعواه في رقعة وقال: أدعي بما في هذه .. ففيه وجهان:
فَإِنْ أَقَرَّ .. فَذَاكّ، وِإِنْ أَنْكَرَ .. فَلَهُ أَنْ يَقُولَ للْمُدَّعي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ وَأَنْ يَسْكُتَ، فَإِنْ قَالَ: لِيْ بَيِّنَةٌ وَأُرِيدُ تَحْلِيفَهُ .. فَلَهُ ذَلِكَ، أَوْ لَا بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ أَحْضَرَهَا .. قُبِلَتْ فِي الأَصَحِّ
ــ
أحدهما: لا يقبل القاضي هذا منه حتى ينطق بذلك بلسانه.
والثاني: يقبله منه، ويقرؤها على المدعى عليه، ويطالبه بالجواب، فإن كتب الآخر الجواب في رقعة .. استويا، ولا ترجيح في الوجهين.
قال: (فإن أقر .. فذاك) أي: فقد لزمه ما أقر به، فحينئذ للمدعي أن يطلب من القاضي الحكم عليه فيقول: اخرج من حقه، أو كلفتك الخروج منه، أو ألزمتك به.
والأصح: أن الحق يثبت بمجرد الإقرار دون حكم، بخلاف البينة، واستبعد الرافعي مقابله؛ فإنه لا خلاف أن للمدعي الطلب بعد الإقرار، وللقاضي الإلزام.
قال: (وإن أنكر) أي: والدعوى فيما لا قسامة فيه.
قال: (.. فله أن يقول للمدعي: ألك بينة؟)؛ لما روى مسلم] 139 [عن وائل بن حجر: أن رجلًا من حضر موت وآخر من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فال الحضرمي: يا رسول الله؛ إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال صلى الله عليه وسلم للحضرمي:(ألك بينة؟) قال: لا، قال:(فلك يمينه).
وفي وجه: لا يقول له ذلك؛ لأنه كالتلقين.
قال: (وأن يسكت)؛ تحرزًا من اعتقاد ميله إلى المدعي.
وقيل: له أن يقول: قد أنكرك فهل لك بينة، أو ما تقول؟
قال: (فإن قال: لي بينة وأريد تحليفه .. فله ذلك)؛ لأنه إن تورع عن اليمين وأقر .. سهل الأمر على المدعي، واستغنى عن إقامة البينة، وإن حلف .. أقام البينة، وإن كذبه .. فله في التحليف غرض صحيح.
قال: (أو لا بينة لي، ثم أحضرها .. قبلت في الأصح)؛ لأنه ربما لا يعرف، أونسي ثم عرف وتذكر.
وَإِذَا ازْدَحَمَ خُصُومٌ .. قُدِّمَ الأَسْبَقُ، فَإِنْ جُهِلَ أَوْ جَاؤُوا مَعًا .. أُقْرِعَ،
ــ
والثاني: لا يقبل، ونسبه الماوردي إلى الأكثرين؛ للمناقضة، فلنفيه البينة ثلاث صور:
إحداها: لا بينة لي حاضرة، فإذا أحضرها .. سمعت جزمًا.
الثانية: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، ثم يأتي ببينة، والأصح في (أصل الروضة) سماعها.
الثالثة: لا بينة لي، وهي صورة الكتاب، فلو قال: شهودي عبيد أو فسقة، ثم يأتي بأحرار عدول .. قبلت شهادتهم إن مضى زمان يمكن فيه العتق والاستبراء، كذا قاله الشيخان.
وينبغي القبول وإن لم يمض الزمان كما لو قال: لا بينة لي؛ لأنه قد لا يطلع على الحرية والعدالة، ثم يطلع عليهما.
ولو قال: كل بينة أقيمها باطلة أو كاذبة أو بينة زور، ثم أحضرها .. قبلت في الأصح؛ لأنه ربما لم يعرف أو نسي ثم عرف وتذكر.
والثاني: لا؛ للمناقضة، إلا أن يذكر لكلامه تأويلًا، ككنت جاهلًا أو ناسيًا، ونسبه الماوردي والروياني إلى الأكثيرين.
فرع:
قال المدعي للمدعى عليه: أبرأتك من اليمين .. سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله استئناف الدعوى وتحليفه، كذا قاله الشيخان.
قال ابن الرفعة: يظهر أنه لا تسوغ الدعوى عليه ثانيًا؛ لانقطاع الخصومة.
قال: (وإذا ازدحم خصوم .. قدم الأسبق)؛ لأنه أحق من المتأخر بسبقه، والاعتبار بسبق المدعي دون المدعي عليه.
قال: (فإن جهل أو جاؤوا معًا .. أقرع)؛ قطعًا للمنازعة، فإن آثر بعضهم بعضًا .. جاز، فإن كثروا وعسر الإقراع .. كتب أسماءهم في رقاع ووضعت بين يديه
وَيُقَدَّمُ مُسَافِرُونَ مُسْتَوْفزٌونَ وَنِسْوَةٌ وَإِنْ تَأَخَّرُوا
ــ
ليأخذ واحدة واحدة، فيسمع دعوى من خرج اسمه، قاله ابن الصباغ وغيره، وفسر الروياني الإقراع بهذا.
وتقديم القاضي الأول فالأول على سبيل الوجوب، فإن كان فيهم مريض يتضرر بالصبر إلى نوبته .. قال الروياني: الأولى لغيره تقديمه، فإن لم يفعلوا .. قدمه القاضي إن كان مطلوبًا، ولا يقدمه إن كان طالبًا.
فرع:
الازدحام على المفتي والمدرس فيما هو من العلوم فرض كفاية كالازدحام على القاضي، فيقدم بالسبق، وإن كان ذلك العلم لا يجبب تعلمه .. فالخيرة إلى المعلم والمفتي، وفي وجه: يجوز تخصيص بعضهم.
وقال الإمام والغزالي: الأولى المنع منه؛ فإنه لا يدري من المفلح منهم، فيعم الجميع، فإن لم يتأت تعليم الجميع .. قدم بالسبق أو بالقرعة.
قال: (ويقدم مسافرون مستوفزون ونسوة وإن تأخروا)؛ لدفع الضرر، ولأن النساء عورة.
و (المستوفز): الذي شد رحله، ويضره التخلف عن الرفقة.
قال الرافعي: وينبغي أن لا فرق في المسافر والمرأة بين المدعي والمدعى عليه، والأصح: أن تقديمها مستحب، ومنهم من يشعر كلامه بالوجوب.
والمسافرون بعضهم مع بعض كالمقيمين، فيعتبر السبق والقرعة، وكذا النسوة، فلو تعارضت النسوة والمسافرون .. ففي المقدم منهما نظر.
وقوله: (وإن تأخروا) راجع إلى المسافرين والنسوة، وغلب المذكر على المؤنث.
وكذا قوله: (ما لم يكثروا).
وإطلاقه النسوة يفهم أنه لا فرق بين الشابة والعجوز، والقياس إلحاق العجوز بالرجال؛ لانتفاء المحذور، ومن له مريض بلا متعهد ينبغي إلحاقه بالمريض،
مَا لَمْ يَكْثُرُوا، وَلَا يُقَدَّمُ َسَابِقٌ وَقَارِعٌ إِلَاّ بِدَعْوَى، وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُ شُهُودٍ مُعَيَّنِينَ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ، وَإِذَا شَهِدَ شُهُودٌ فَعَرَفَ عَدَالَةً أَوْ فِسْقًا .. عَمِلَ بِعِمْلِهِ،
ــ
وينبغي تقديم المسلم على الكافر كما يرفعه عليه في المجلس.
قال: (ما لم يكثروا)؛ دفعًا للضرر عن المقيمن في الأولى وعن الرجال في الثانية.
قال: (ولا يقدم سابق وقارع إلا بدعوى) واحدة؛ لئلا يطول على الباقين، فإن كان له دعوى أخرى .. فليحضر في مجلس آخر وينتظر فراغ القاضي، وحينئذ تسمع دعواه الثانية، سواء كانت على الذي ادعى عليه أولى أو على غيره.
وفي وجه ضعيف: أن الزيادة على الأولى مسموعة إذا اتحد المدعى عليه.
وعلى هذا: قال في (الوسيط): تسمع إلى ثلاث دعاوى، ومنهمم من أطلقه.
قال: (ويحرم اتخاذ شهود معينين لا يقبل غيرهم)؛ لمخالفة قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:(شاهدك أو يمينه)، والإجماع على قبول كل عدل، ولأن فيه مشقة على الناس في قطع المسافة إليهم.
قال الماوردي: وأول من فعل ذلك إسماعيل بن إسحاق المالكي، وتبعه بعض القضاة في البلاد، وهل ذلك مكروه أو حرام؟ الذي في (البحر) و (الحاوي) الأول، وجزم القاضي أبو الطيب بالثاني، وعبارة (الروضة): لا يجوز، فإن رتب ومًا وكان يقبل غيرهم .. فلا كراهة.
قال: (وإذا شهد شهود فعرف عدالة أو فسقًا .. عمل بعلمه) فترد شهادة الفاسق، ولا يحتاج أن يبحث عن عدالة العدل، وقد تقدم فيه وجه عند القضاء بالعلم.
فرع:
شهد عليه معروفان بالعدالة قبل الحكم، ثم اعترف .. فقيل: يستند الحكم إلى الإقرار فقط، والصحيح: إلى المجموع.
وَإِلَاّ .. وَجَبَ الاسْتِزْكَاءُ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَكَذَا قَدْرُ الدَّيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَبْعَثَ بِهِ مُزَكِّيًا
ــ
قال: (وإلا) أي: وإن لم يعرف منهم عدالة ولا فسقًا (.. وجب الاستزكاء) وبهذا قال مالك وأحمد؛ لأنه حكم بشهادة، فيسقط فيه البحث عن شرطها كما إذا طعن الخصم، ولا يجوز الاكتفاء بأن الظاهر من حال لمسلم العدالة، كما لا يجوز الاكتفاء بأن الظاهر من حال من كان في دار الإسلام الإسلام.
هذا في جهل العدالة والحرية، فأما في جهل الإسلام .. فيرجع فيه إلى قولهم؛ لأنهم قادرون على إنشائه.
وفي (الحاوي) في (كتاب الشهادات) وجه: أنه لا يقنع بقوله: إني مسلم، حتى يختبر بالإتيان بالشهادتين.
وفي الحرية وجه: أنه يرجع لقوله، وقال في (المهذب): إنه ظاهر النص.
ومحل ما ذكره إذا لم يصدقهما الخصم، فإن صدقهما فيما شهدا به .. قضى بإقراره، ولا حاجة إلى البحث، لكن الحكم هنا بالإقرار لا بالبينة، ثم بين المصنف كيفية الاستزكاء فقال:
(بأن يكتب ما يتميز به الشاهد) من اسم وكنية ولقب وولاء إن كان، واسم أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه ومسجده؛ لئلا يشتبه بغيره، وإن كان مشهورًا وحصل التمييز ببعض هذه الأوصاف .. كفى.
قال: (والمشهود له وعليه) بأن يكتب ذلك؛ لأنه قد يكون بينهما ما يمنع الشهادة له أو عليه من قرابة أو عداوة.
قال: (وكذا قدر الدين على الصحيح)؛ لأنه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير.
والثاني: لا يكتبه؛ لأن العدالة لا تتجزأ، فمن قبل في القليل .. قبل في الكثير.
قال: (ويبعث به مزكيًا) ليعرفه حاله، كذا في نسخة المصنف، وفي (المحرر): ويبعث به إلى المزكي، وفي (الروضة) و (الشرحين): ويكتب إلى كل مزك كتابًا ويدفعه إلى صاحب مسألته.
ثُمَّ يُشَافِهُهُ المُزَكِّي بِمَا عِنْدَهُ، وَقِيلَ: تَكْفِي كِتَابَتُهُ،
ــ
وعبارة (التنبيه): يكتب ذلك فى رقاع ويدفعها إلى أصحاب المسائل، ولايعلم بعضهم ببعض، وأقلهم اثنان، وقيل: يجوز واحد.
وأصل هذا أنه ينبغي أن يكون للقاضي مزكون وأصحاب مسائل.
فأصحاب المسائل: الذين يبعثهم القاضي إلى المزكين ليعرفوه ما اتضح عندهم من أحوال الشهود.
والمزكون: هم الذين يرجع إليهم فى أحوال الشهود.
وقيل: أصحاب المسائل اسم مشترك بين المزكين وبين رسل الحاكم إليهم.
ومراد المصنف بـ (المزكي): اثنان، لا ما يقتضيه لفظه من الوحدة.
قال: (ثم يشافهه المزكي بما عنده)؛ لأن الحكم يقع بشهادته فاعتبر ذلك، فإن اتصل به جرح .. لم يظهره، بل يقول للمدعى: زدني في الشهود، وإن كان تعديلًا .. عمل بمقتضاه.
وقوله: (يشافهه المزكي) إن أراد به صاحب المسألة– كما هو ظاهر عبارته-
…
فذاك، وسماه مزكيًا؛ لأنه ينقل للقاضي التزكية عن المزكين.
وإن أراد المبعوث إليه- كما اقتضاه كلام (المحرر) وغيره- .. فهو وجه قال به أبو إسحاق، ومنعُ الاعتماد على قول أصحاب المسائل؛ لأنهم شهود فرع، وشهادة الفرع لا تقبل مع حضور شاهد الأصل.
قال: (وقيل: تكفي كتابته) أي: مع أصحاب المسائل إلى القاضي، وهو الذى عليه الحكام فى بلاد الإسلام، يكتفون برؤية سجل العدالة.
والأصح: لا يكفي؛ لأن القاضي لا يعتمد على خط نفسه وإن وثق مالم يتذكر، فكيف بخط غيره المحتمل التزوير.
قال الرافعي: هذا ظاهر إن كان الحاكم يحكم بشهادة المزكيين، فأما إذا ولي بعضهم الحكم بالعدالة والجرح .. فلتكن كتابة ككتاب القاضي، وليكن الرسولان كالشاهدين على كتاب القاضي.
وَشَرْطُهُ كَشَاهِدٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَخُبْرَةِ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ لِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ،
ــ
قال: (وشرطه كشاهد) في الإسلام والتكليف والحرية والذكورة والعدالة، وعدم العداوة في الجرح، وعدم الأبوة والبنوة في التعديل، فلا تسمع شهادة الأب بتعديل الابن وعكسه على الأصح.
قال: (مع معرفة الجرح والتعديل)؛ ليكون على بصيرة من ذاك.
قال: (وخبرة باطن من يعدله لصحبة أو جوار أو معاملة)؛ لما روى البيهقي] 10/ 125 [عن خرشة بن الحر قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب فقال: لا أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، فقال: بأي شي تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرافقته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك.
ومن جهة المعنى أن الناس يخفون عوراتهم، ولا يتحقق الاطلاع عليها، فاعتبر ما يغلب على الظن بذلك، وهو الخبرة الباطنة.
واعتبر الإمام والغزالي والجاجرمي شرطًا ثالثًا وهو: أن لا يكون المزكي من أهل الأهواء والعصبية والمماطلة واللجاج؛ لأن اللجوج ينصر هواه، ويرتكب ما يهواه، ولا يرجع عن الخطأ؛ لضعف تقواه.
وينبغي أن يكون المزكي وافر العقل، ويجتهد في إخفاء أمرهم؛ لئلا يشتهروا في الناس بالتزكية.
والمراد بالمزكي هنا: من يشهد بالعدالة لا أصحاب المسائل، ولا تشترط فيهم الخبرة الباطنة إذا اكتفينا بشهادتهم كما صرح به ابن الرفعة.
قال الماوردي: ولايجوز للحاكم أن يقول لهم: من أين لكم ذلك.
وَالأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ لَفْظِ شَهَادَةٍ، وَأَنَّهُ يَكْفِي: هُوَ عَدْلٌ، وَقِيلَ: يَزِيدُ: عَلَيَّ وَلِي،
ــ
تنبيه:
ظاهر إطلاق المصنف أنه لا يشترط التقادم في المعرفة الباطنة، وظاهر لفظ الشافعي يقتضيه، قال الرافعي: ويشبه أن شدة الفحص كالتقادم فليس ذكره للاشتراط، بل لكون الغالب أن الباطن لا يعرف إلا به.
وسكت المصنف عن التعديل بالاستفاضة، قال الرافعي: ولايبعد أن له التعديل بذلك، فإذا سمع الناس يذكرون صلاح شخص وأمانته وعدالته .. قال القاضي: له تعديله وإن لم يكن من أهل الخبرة بحاله إذا تكرر ذلك على سمعه مرارًا بحيث يغلب على ظنه، ويشهد له من السنة حديث الجنازة لما مر بها على النبي صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليها خيرًا فقال:(أنتم شهداء الله في الأرض).
قال: (والأصح: اشتراط لفظ شهادة) بأن يقول: أشهد أنه عدل، كسائر الشهادات.
والثاني: لا يشترط، بل يقوم مقامها: أعلم وأتحقق وغيرهما، وهو شاذ.
قال: (وأنه يكفي: هو عدل)؛ لأنه أثبت العدالة التي اقتضاها ظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وهذا نص عليه فى (حرملة).
قال: (وقيل: يزيد: عليَّ ولي)، قال الإمام: وهو أبلغ عبارات التزكية، وهو المنصوص في (الأم) و (المختصر).
وظاهر عبارته أنه لا فرق بين أن يقدم عليَّ أو لي.
وفي (الرونق) و (اللباب): لا يقبل حتى يقول: لي وعليَّ، فإن قال: عليَّ ولي .. لم يقبل في أحد الوجهين.
والثاني: يقبل، سواء قدم أو أخر، وهو غريب.
وَيَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ،
ــ
ولا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين الآخر على الأصح، وعن (كتاب حرملة) جوازه، والمذهب الأول.
ولايحصل التعديل بقوله: لا أعلم منه إلا خيرًا؛ لأنه قد لا يعرف منه إلا الإسلام، ولا بقوله: لا أعلم منه ما يوجب رد الشهادة؛ لأنه قد لا يعرف منه ما يوجب القبول أيضًا.
قال: (ويجب ذكر سبب الجرح) وإن كان الجارح ذا فضل وفقه كما قاله في (الأم)؛ لأن أسبابه مختلف فيها، وقد يظن الشاهد ما ليس بجرح جرحًا.
وعلم من كلام المصنف أنه لا بد من التصريح بالسبب، وهو الصحيح، فيقول: هو زان أو سارق أو قاذف أو كاذب ونحو ذلك، لكن هل يشترط ذكر رؤية السبب أو سماعه بأن يقول: رأيته يزني أو سمعته يقذف؟ وجهان: أقيسهما: لا، فإذا بين السبب .. نظر فيه القاضي بعد ذلك.
وقال الإمام والغزالي: إذا كان الجارح عالمًا بالأسباب .. اكتفي بإطلاقه؛ وإلا .. فلا.
وقيل: يكفي التعريض بذكر ماينبه على ما يقع به الجرح مثل أن يسكت، أو يستعفي عن ذكره، أو يقول: الله أعلم بالسرائر، حكاه القاضي والإمام، ولا يجعل الجارح بذكر الزنا قاذفًا؛ للحاجة إلى ذلك كالشاهد.
قال المصنف: والصواب: أنه غير قاذف وإن لم يوافقه غيره؛ لأنه مسؤول عنه، فهو فى حقه فرض كفاية أو عين، بخلاف شهود الزنا؛ فإنهم مندوبون إلى الستر مقصرون.
وأما التعديل .. فلا حاجة إلى بيان سببه؛ لأن العدالة بالتحرز من أسباب الفسق، وهي كثيرة يعسر ضبطها وعدها.
وفي (العدة) وجه ضعيف: أنه يجب بيان سببه أيضًا، وجزم به في (الحاوي) فى موضعين، ولا يخفى أن الجرح لا يكون إلا عند القاضي، أو من نصبه للجرح أو التعديل.
وَيَعْتَمِدُ فِيهِ الْمُعَايَنَةَ أَوْ الاِسْتِفَاضَةَ، وَيُقَدَّمُ عَلَى التَّعْدِيلِ، فَإِنْ قَالَ الْمُعَدِّلُ: عَرَفْتُ سَبَبَ الْجَرْحِ وَتَابَ مِنْهُ وَأَصْلَحَ .. قُدِّمَ،
ــ
قال: (ويعتمد فيه) أى: في الجرح (المعاينة) والسماع كما إذا رآه يزني أو يشرب الخمر، أو سمعه يقذف إنسانًا، أو يقر على نفسه بذلك.
قال: (أو الاستفاضة) وكذا خبر التواتر؛ لحصول العلم بذلك، أما العدد اليسير .. فلا يجرح بقولهم، لكن له أن يشهد على شهادتهم بشرطه.
وقيل: يعتمد خبر واحد من الجيران إذا وقع فى القلب صدقه.
وقال في (العدة): إذا استفيض فسق الشاهد للناس .. فلا حاجة إلى البحث والسؤال، ويجعل المستفيض كالمعلوم.
وقال: (ويقدم على التعديل)؛ لزيادة علم الجارح، لأن التعديل بأمر ظاهر والجرح بباطن فقدمت شهادة علم ما خفي على غيره، كما لو قامت بينة على الحق وبينة على الإبراء .. تقدم بينة الإبراء؛ لأن المعدل ناف والجارح مثبت فهو أولى، وكذلك الحكم لو جرحه اثنان وعدله ثلاتة فأكثر إلى مئة، قاله القاضي حسين وغيره، وألحق به الإمام ما لو عدلوه وتحقق القاضي فسقه بالتسامع.
قال: (فإن قال المعدل: عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح .. قدم)؛ لزيادة العلم، وهذا كالمستثنى من تقديم بينة الجرح.
وفي (البيان) عن الأصحاب استثناء صورة أخرى، وهي ما إذا شهد بالجرح في بلد ثم انتقل لبلد أخرى فشهد اثنان بالتعديل .. فتقدم على الجرح؛ لأن العدالة طارئة على الجرح، والتوبة ترفع المعصية.
واقتصر في (الذخائر) على استثناء هذه الصورة، وقال: لا يشترط اختلاف البلدين، بل لو كانا في بلد واختلف الزمان .. فكذلك، كذا أطلقوه.
وقال ابن الرفعة: وينبغي أن يخص بتخلل مدة الاستبراء بينهما. اهـ
وهو الذى نص عليه فى اختلاف العراقيين من (الأم).
وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي التَّعْدِيلِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ وَقَدْ غَلِطَ
ــ
قال: (والأصح: أنه لا يكفي في التعديل قول المدعى عليه: هو عدل وقد غلط) أي: فيما شهد به؛ لأن الاستزكاء حق لله تعالى، ولأن الحكم بشهادته حكم بتعديله، وهو لا يثبت بواحد.
والثاني: يحكم بشهادته بلا بحث؛ لأن البحث لحقه وقد اعترف بعدالته، وهذه المسألة محلها فيما تقدم عند قوله:(وإلا .. وجب الاستزكاء)، وهناك ذكرها في (المحرر).
فرع:
عُدِّل الشاهد ثم شهد في واقعة أخرى، فإن لم يطل الزمان .. حكم بشهادته، ولا يطلب تعديله ثانيًا؛ وإن طال .. فوجهان: أصحهما: يطلب تعديله؛ لأن طول الزمان يؤذن بتغير الحال، كما قيل: تغير الأوقات ينكر المعارف، ثم يجتهد الحاكم فى طوله وقصره.
وقال بعض الأصحاب: يسأل عنه في كل ستة أشهر، ولو قيل: كل سنة .. كان أولى.
وإذا عدل شاهد والقاضي يتحقق فسقه بالتسامع .. قال الإمام: يجب القطع بأنه يتوقف فيه، ولا يقضي بعلمه.
تتمة:
إذا ارتاب القاضي بالشهود أو توهم غلطهم لخفة عقل وجدها فيهم .. فينبغي أن يفرقهم، ويسأل كل واحد عن وقت تحمل الشهادة عامًا وشهرًا ويومًا وغدوة وعشية، وعن مكانه محلة وسكة ودارًا وصفة وصحنًا، ويسأل أتحمل الشهادة وحده أم مع غيره، وأنه كتب شهادته أم لا، وأنه كتب قبل فلان أو بعده، وكتبوا بحبر أو مداد ونحو ذلك، يستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم، ويقف على عورة إن لم تتفق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ويقال: إن أول من فرق الشهود دانيال النبي عليه السلام، شهد عنده شهود بالزنا على امرأة ففرقهم وسألهم فقال أحدهم: زنت بشاب تحت شجرة كمثرى، وقال آخر: تحت شجرة تفاح، فعرف كذبهم.
وفرق الشهود داوود عليه السلام، ثم علي كرم الله وجهه.
أما إذا لم تكن ريبة بأن كانوا وافري العقل فقهاء .. لم يفرقهم؛ لأن فيه تهمة لهم وطعنًا فيهم، وقال الروياني: يفرقهم.
ثم إن التفريق والاستفصال جعله الغزالي بعد التزكية، والصحيح: أنه قبلها، فإن اظله على عورة .. استغنى عن الاستزكاء والبحث عن حالهم، وإن لم يطلع، فإن عرف عدالتهم .. حكم، وإلا .. استزكى، وهل هذا التفريق والاستفصال واجب أو مستحب؟ فيه أوجه: الصحيح: أنه مستحب، وقيل: واجب، وقيل: إن سأله الخصم .. وجب، وإلا .. فلا.
…
خاتمة
قال الشيخ: اختلف الفقهاء في أن الثبوت حكم بالثابت أو ليس بحكم، والصحيح عندنا وعند المالكية: أنه ليس بحكم، وعند الحنفية: أنه حكم، ولا يتجه في كونه حكمًا إلا أنه حكم بتعديل البينة وقبولها وجريان ذلك الأمر المشهود به، وله فائدتان: عدم احتياج حاكم آخر إلى النظر فيها، وجواز التنفيذ في البلد، فإن في تنفيذ الحكم في البلد من غير اقترانه بحكم خلافًا.
فإذا صرح بالحكم كما ذكرناه .. جاز التنفيذ، وأما صحته .. فالصحيح: أنه لا يدل عليها؛ لأن الحاكم قد يثبت الشيء ثم ينظر في كونه صحيحًا أو باطلًا، وكثيرًا ما يوجد في إسجالات الحكام: ليسجل بثبوته والحكم به، فيحمل على التصرف المعهود كما هو الواقع اليوم في الكتب الحكمية، والمراد: ذلك التصرف المدرج في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الكتاب، وقد يكون صحيحًا مجمعًا عليه، وقد يكون فاسدًا مجمعًا عليه، وقد يكون مختلفًا فيه.
وقد يقع في ألفاظ الحكام: الحكم بما قامت به البينة، فـ (ما) إن كانت مصدرية .. فهو كقوله: بقيام البينة، وإن كانت موصولة- وهو الظاهر- فهي كإثبات جريان العقود المحكوم بها، فالقاضي تارة يقتصر على الثبوت، وتارة يضيفه إلى الأحكام كقوله: ثبت عندي أن هذه الدار وقف، أو ملك فلان، أو أن هذه المرأة زوجة فلان، فهذا مثل الحكم لا يمكن التعرض لنقضه، إلا أن يتحقق أن مستنده جريان عقد مختلف فيه كقول الحنفي: ثبت عندي أن هذه زوجة فلان زوجته نفسها ونحو ذلك، فإن قلنا: الثبوت حكم .. امتنع على غيره إبطاله، وإن قلنا: ليس بحكم .. لم يمتنع.
وأما إذا حكم بصحة العقد .. فهذه أعلى درجات الحكم، فلا سبيل إلى نقضه باجتهاد مثله، فإذا كان في محل مختلف فيه اختلافًا قريبًا .. لم ينقض فيه قضاء القاضي، وكثيرًا ما يكتب: ليسجل بثبوته وصحته، فيحتمل عود الضمير على الثبوت، فيراجع فيه، فإن عسرت المراجعة .. حمل على الحكم؛ لصحة التصرف، كما لو صرح به لأنه المتعارف.
ومعنى صحته: كونه بحيث تترتب آثاره عليه، ومعنى حكم القاضي بذلك: إلزامه لكل أحد.
فإذا كان في محل مختلف فيه .. نفذ وصار كالمجمع عليه، ومن شرط هذا الحكم: ثبوت ملك المالك، وحيازته، وأهليته، وصحة صيغته في مذهب القاضي.
وأما الحكم بالموجب .. فهو أحط رتبة من الحكم بالصحة؛ فإن الحكم بالصحة يستدعي ثلاثة أشياء: أهلية التصرف، وصحة الصيغة، وأن التصرف في محله، ولذلك اشترط فيه ثبوت الملك والحيازة، والحكم بالموجب يستدعي شيئين: أهلية التصرف، وصحة الصيغة فيحكم بموجبهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومعناه: أنه إن كان مالكًا .. صح، فكأنه حكم بصحة تلك الصيغة الصادرة من ذلك الشخص، وهذا نافع في الصور المختلف فيها، فإذا وقف على نفسه فحكم حاكم بموجب ذلك .. كان حكمًا منه بأن الواقف من أهل التصرف، وأن صيغته هذه صحيحة حتى لا يحكم بعده ببطلانها من يرى الإبطال، وليس حكمًا بصحة وقفه، وذلك لتوقفه على كونه مالكًا لما وقفه ولم يثبت، فإذا ثبت حُكِمَ حينئذ بصحة الوقف، والرافع للخلاف الحكم بصحة الصيغة؛ لأنه المختلف فيه.
وإنما جاز الحكم بالموجب مع عدم ثبوت الملك؛ لأنه قد يعسر إثبات الملك وهذه اللفظة- وهي الحكم بالموجب- لا توجد في شيء من كتب المذاهب إلا في كتب أصحابنا.
فإن قيل: الموجب أمر مبهم يحتمل ان يكون الصحة، ويحتمل أن يكون غيرها، وحكم القاضي إذا لم يعين .. لم يصح، فلا يرفع الخلاف.
ولا يمنع الحكم من قاض يرى خلاف ذلك، ويدل لذلك، ما نقله الرافعي عن أبي سعد الهروي- ومال عليه-: أن ما يكتب على ظهور الكتب الحكمية وهو: صح ورود هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه .. ليس بحكم؛ لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب وإثبات الحجة.
فالجواب: أنا إذا أعدنا الضمير على الكتاب .. صح ما قالاه؛ لأن مضمون الكتاب وموجبه صدور ما تضمنه من إقرار، وأنه ليس بزور، فلذلك قال الرافعي: إنه ليس بحكم، وهذا صحيح إذا أريد ذلك أو احتمل، أما إذا حكم بموجب الوقف أو موجب الإقرار .. فليس موجبه إلا كونه وقفًا، أو كون المقر به لازمًا.
وقول من قال: (موجبة يحتمل الصحة والفساد) ممنوع؛ فاللفظ الصحيح موجبه حكمه، واللفظ الفاسد لا يوجب شيئًا.
وإذا كان اللفظ يحتمل موجبتين .. وجب على الحاكم أن يبين حكمه، وإبهام ذلك لا يجوز عند القدرة، إلا أن يخشى من ظالم ونحوه كما قاله الرافعي في موضع آخر،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فيفعل ذلك ملاينة له، فإذا علم ذلك .. عمل بمقتضاه، وبدون ذلك لا يحمل حكم القاضي إلا على البيان الواضح.
فتلخص: أنه إذا حكم بموجب وقف أو بيع أو إقرار ونحوها .. فهو حكم على العاقد بمقتضى قوله، وعلى المقر بمقتضى إقراره، وليس لحاكم آخر نقضه لاقتضاء مذهبه بطلانه؛ لأن فيه نقض الاجتهاد بالاجتهاد.
بَابُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
ــ
باب القضاء على الغائب
لم يبوب له في (المحرر)، بل جعله فصلًا، وترجمه الشافعي وكثير من الأصحاب بـ (باب كتاب القاضي إلى القاضي)؛ لأنه مقصود الباب.
والأصل في جواز العمل بكتب القضاة الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب .. فقصة سليمان عليه السلام وبلقيس في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} الآية، فأنذرها بكتابه، ودعاها إلى دينه بطيب خطابه، واقتصر منه على قوله:{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ} فأوجز واختصر.
وهكذا تكون كتب الأنبياء في لفظها المختصر.
وأما السنة .. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى ابن هرمز أن أسلم تسلم والسلام، فلما وصل إليه كتابه .. مزقه، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فمزق الله ملكه.
وكتب إلى قيصر، فلما وصل كتابه وضعه على رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثبت الله ملكه (فكان كما قال.
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم كتابه المشهور في الأحكام والديات، وجهز صلى الله عليه وسلم جيشًا وأمر عليهم عبد الله بن جحش، ودفع إليه كتابًا مختومًا وقال:(لا تنقضه حتى تبلغ موضع كذا، فإذا بلغته فاقرأه واعمل بما فيه) ففعل ذلك.
هُوَ جَائِزٌ
ــ
وأجمع الخلفاء الراشدون على الكتابة إلى أمرائهم وقضاتهم، وقد تقدم عهد عمر إلى أبي موسى.
وكتب علي إلى ابن عباس:
أما بعد: فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلت من دنياك فرحًا، ول بما فاتك منها ترحًا، ولا تكن ممن يرجو الآخر بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، فكأن قد والسلام.
قال ابن عباس: ما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكتاب.
ولم يزل الحكام من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن يكتب بعضهم إلى بعض، ويعملون على ذلك من غير إنكار.
ولأن ضرورات الحكام إلى ذلك داعية؛ إذ في المنع إضاعة للحقوق التي ندبوا إلى حفظها.
قال: (هو جائز) أي: في الجملة؛ للحاجة، وبه قال مالك وأحمد، واستدلوا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (وكان قضاء منه على زوجها أبي سفيان وهو غائب.
وقال عمر في قصة الأسيفع: من كان له عليه دين .. فليأتنا غدًا؛ فإنا بائعوا ماله وقاسموه بين غرمائه، وكان الأسيفع غائبًا، هكذا ترجم عليه البخاري.
وفي الاستدلال بحديث هند نظر؛ لأن أبا سفيان كان حاضرًا بمكة كما رواه الحاكم وغيره، ولهذا قال في (شرح مسلم (: لا يصح الاستدلال به؛ لأن شرط صحة القضاء على الغائب أن لا يكون في البلد، أو مستترًا لا يقدر عليه كما سيأتي، وذكر الرافعي في (النفقات) ما يدل على أن ذلك كان استفتاء.
وحكى المزني قولًا للشافعي بمنعه كمذهب ابي حنيفة، والحق القاضي حسين
إِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَهٌ وَادَّعَى الْمُدَّعِي جُحُودَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُقِرٌ .. لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ .. فَالأَصَحُّ: أَنَّهَا تُسْمَعُ،
ــ
بالغائب ما إذا أحضره المجلس فهرب قبل أن يسمع احاكم البينة، أو بعده وقبل الحكم .. فإنه يجكم عليه قطعًا.
قال: (إن كان عليه وادعى المدعي جحوده) أشار إلى أن لجوازه شرطين:
أحدهما: أن تكون عليه بينة؛ لأن الدعوى لقصد ثبوت الحق، وطريقه محصورة في إقرار أو يمين مردودة أو بينة، والأولان مفقودان عند غيبة المدعى عليه، فلو قلنا: لا تسمع .. لجعلت الغيبة طريقًا إلى إسقاط الحقوق.
الشرط الثاني: أن يدعي المدعي جحوده؛ لأن البينة شرط، وهي لا تقام على مقر، فاحتيج إلى التصريح بالجحود.
وعلم من كلامه أن لا يكلف البينة على الجحود، وحكى الإمام فيه الاتفاق، قال: وهي من المشكلات؛ فإنه إن كان يدعي جحوده في الحال .. فهو محال؛ لأنه لا يعلم حاله، وإن كان يدعي جحوده لما كان حاضرًا .. فالقضاء في الحال لا يرتبط بجحود ماض.
قال: (فإن قال: هو مقر) أي: وأنا أقيم البينة استظهارًا مخافة أن ينكر (.. لم تسمع بينته) لتصريحه بالمنافي لسماعها؛ إذ لا فائدة فيها مع الإقرار.
قال: (وإن أطلق) أي: لم يتعرض لجحود ولا إقرار (.. فالأصح: أنها تسمع)؛ لأنه قد لا يعلم جحوده في غيبته، ويحتاج إلى الإثبات، فجعلت الغيبة كالسكوت.
والثاني: لا تسمع إلا عند تعرض البينة للجحود؛ لأن البينة إنما يحتاج إليها عنده.
فعلى هذا: يشترط أن يقول: هو جاحد، وعلى الأول الشرط أن لا يقول: وهو مقر.
وفي (فتاوى القفال (ان هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على دينه ليوفيه
وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ نَصْبُ مُسَخَّرٍ يُنْكِرُ عَنِ الْغَائِبِ، وَيَجِبُ أَنْ يُحَلَّفَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ: أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ،
ــ
القاضي .. يسمع بينته ويوفيه، سواء كان مقرًا أو جاحدًا.
ويقوم مقام الجحود ما في معناه، كما لو اشترى عينًا وخرجت مستحقة فادعى الثمن على البائع الغائب .. فلا خلاف أنها تسمع وإن لم يذكر الجحود؛ لأن إقدامه على البيع كاف في الدلالة على جحوده، قاله الإمام والغزالي.
قال: (وأنه لا يلزم القاضي نصب مسخر ينكر عن الغائب)؛ لأن الغائب قد يكون مقرًا فيكون إنكار المسخر كذبًا.
قال الرافعي: ومقتضى هذا التوجيه: أنه لا يجوز نصب المسخر، لكن الذي أورده أبو الحسن العبادي وغيره أنه مخير بين النصب وعدمه.
والثاني: يلزمه؛ لتكون البينة على إنكار منكر، قال في (المطلب (: وهو قياس المذهب في الدعاوي على التمرد.
قال: (ويجب أن يحلفه بعد البينة: أن الحق ثابت في ذمته)؛ لأن المدعى عليه لو كان حاضرًا .. لكان له أن يدعي براءته منه ويحلفه، فينبغي للقاضي أن يحتاط له فيحلفه بعد قيام البينة وتعديلها أنه ما أبرأ عن الدين الذي يدعيه ولا عن شيء منه، ولا اعتاض ولا استوفى ولا أحال عليه، ولا أخذ من جهته، بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه، يلزمه أداؤه.
ويجوز أن يقتصر في حلفه على ثبوت المال في ذمته ووجوب تسليمه.
وفيما قاله الجمهور إشكال؛ لأن المدعى عليه لو كان حيًا حاضرًا عاقلًا وقال بعد إقامة البينة: حلِّفْهُ على استحقاقه ما ادعاه .. لم يجب إليه؛ لأن فيه قدحًا في البينة، فكيف يحلفه عليه في غيبته؟!
وأجاب بعضهم بفرض المسألة فيما إذا قامت البينة على إقراره، فإن المدعى عليه لو كان حيًا حاضرًا عاقلًا وصدق الشهود ولكن قال: أشهدت على أنه يقبضني فلم يقبضني .. كان له تحليفه على الصحيح.
قال: (وقيل: يستحب)؛ لأن دعوى الأداء والإبراء دعوى جديدة لا تفوت،
وَيَجْرِيَانِ فِي الدَّعْوَى عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ. وَلَوِ ادَّعَى وَكِيلٌ عَلَى الْغَائِبِ .. فَلَا تَحْلِيفَ،
ــ
وإليه ذهب الصيمري، وبه جزم المتولي في (باب الفلس)، وهو ظاهر كلام ابن سراقة في (التلفين)، واستحسنه الإمام وقال: إنه منقاس.
ور يشترط التعرض في اليمين لصدق الشهود، بخلاف اليمين مع الشاهد؛ لأن البينة ههنا كاملة.
وفيه وجه: أنه يشترط، لكن يستثنى من إطلاق المصنف ما إذا كان للغائب وكيل حاضر .. فالمشهور- كما قاله ابن الرفعة في كتابيه-: أنه لا يحتاج إلى ضم اليمين إلى البينة.
قال: (ويجريان في الدعوى على صبي ومجنون)، وكذلك على ميت ليس له وارث حاضر؛ لعجزتهم عن التدارك، بخلاف الغائب، فإذا قدم الغائب أو بلغ الصبي .. فهو على حجته.
حادثة:
سئل الشيخ عماد الدين بن يونس عن رجل مات وخلف ورثة بعضهم غائبون وبعضهم أطفال، ولهم رهن بدين على رجل، فمات المديون أيضًا، فحضر وكيل الغائبين وهو بمسافة القصر ووصيُ الأيتام مجلس الحكم، وادعيا الدين والرهن وأثبتاه، والتمسا من الحاكم بيع الرهن وصرف ثمنه في الدين، فهل يجوز له بيعه وإيفاء الدين من ثمنه، أو يتوقف البيع والإيفاء على حضور الغُيَّب وبلوغ الأطفال وحلفهم، أو يباع الرهن ويوفى الدين وتوقف اليمين إلى الحضور والبلوغ؟ فقال: يباع ويوفى الدين من ثمنه، وتوقف اليمين إلى الحضور والبلوغ.
قال: (ولو ادعى وكيل على الغائب .. فلا تحليف)، بل يحكم بالبينة ويعطي المال المدعى به؛ لأن التحليف على البت لا سبيل إليه، وعلى نفي العلم لا يفيد.
قال الرافعي: ويقال: إن المسألة وقعت بمرو، وتوقف فيها فقهاء الفريقين، ثم أفتى القفال بما ذكرناه.
ووجدتُ في (تعليق (الشيخ أبي حامد مثل هذا الجواب في (باب الوكالة)،
وَلَوْ حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَالَ لِوَكِيلِ الْمُدَّعِى: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ .. أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ،
ــ
والسبب في ذلك: أنا لو وقفنا الأمر إلى أن يحضر الموكل لانْجرَّ الأمر إلى أن يتعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء. اهـ
وادعى الإمام في (الدعاوى) إجماع الأصحاب عليه، ونبه الشيخ في (باب الوقف) على ان المراد بفقهاء الفريقين: الفقهاء والمحدثون.
وفي (فتاوى ابن الصلاح (: لو ادعى على ميت وأقام بينة، ثم وكل وكيلًا وغاب إلى مسافة القصر، وطلب وكيله من الوارث إيفاء الدين مما في يده من التركة، فأبى الوارث حتى يحلف الوكيل على نفي المسقطات .. لم يكن له ذلك كما لو كانت الدعوى على حاضر وادعى ذلك.
قال: (ولو حضر المدعى عليه وقال لوكيل المدعي: أبرأني موكلك .. أُمر بالتسليم)، هذه مسألة مبتدأة ليست من تمام التي قبلها، وصورتها: أن يكون المدعى عليه حاضرًا، فيدعي عليه وكيل صاحب الحق ويقيم البينة فيقول بعد إقامتها: موكلك الغائب أبرأني، ويريد التأخير إلى حضور الموكل فيحلفه .. فإنه لا يجاب إليه، بل يؤمر بتسليم المدعى به، ثم يثبت الإبراء من بعد أن كانت له به حجة، وهل له تحليف الوكيل على أنه لا يعلم أن موكله أبرأه؟ قال الشيخ أبو حامد: له ذلك، ومن الأصحاب من خالفه وقال: لا يحلف الوكيل.
فرع:
يجوز القضاء على الغائب بشاهد ويمين كالحاضر، وهل تكفي يمين أم تشترط يمينان إحداهما لتكميل الحجة والثانية لنفي المسقطات؟ وجهان: أصحهما: الثاني.
فرع:
تعلق برجل وقال: أنت وكيل فلان الغائب، ولي عليه كذا وأدعي عليك وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيل وأراد أن لا يخاصم .. فليعزل نفسه، وإن لم يعلم .. فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل، وهل للمدعي إقامة بينة على وكالة من تعلق به؟ وجهان:
وَإِذَا ثَبَتَ مَالٌ عَلَى غَائِبٍ وَلَهُ مَالٌ .. قَضَاهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ، وَإِلَاّ: فَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِي إِنْهَاءَ الْحَالِ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ .. أَجَابَهُ، فَيُنْهِي سَمَاعَ بَيِّنَةٍ لِيَحْكُمَ بِهَا ثُمَّ يَسْتَوْفِيَ، أَوْ حُكْمًا لِيَسْتَوْفِيَ
ــ
أحدهما: نعم؛ ليتسغني عن ضم اليمين إلى البينة.
وأصحهما: لا؛ لأن الوكالة حق فكيف تقام بينة بها قبل الدعوى؟!.
قال: (وإذا ثبت مال على غائب وله مال .. قضاه الحاكم منه)؛ لأنه نائب عنه وكما لو كان حاضرًا وامتنع.
والأصح: انه إذا وفاه .. لا يطالب بكفيل؛ لأن الأصل عدم الدافع والحكم قد تَمَّ.
فرعان:
أحدهما: اعترف المدعي بعد ثبوت دينه أن للغائب مالًا عنده، فهل للحاكم قضاؤه منه من غير بينة على أنه ملك للغائب؟ أفتى ابن الصلاح بأن له ذلك ما لم يتصل بإقراره ما يمنعه ككونه رهنًا لغيره ونحوه.
الثاني: إن قضى دينه من الناض .. أحلفه عند الشروع في قضائه، ثم قضى بعد يمينه، وإن كان يقضي من بيع العقار .. أحلفه قبل بيعه، ثم بيع وقضي دينه من ثمنه، ولا يجوز أن يباع قبل حلفه؛ لجواز نكوله عن اليمين فيفوت استدراك البيع، قاله الماوردي في (الدعاوى).
قال: (وإلا) أي: وإن لم يكن له مال حاضر (فإن سأل المدعي إنهاء الحال إلى قاضي بلد الغائب .. أجابه)؛ مسارعة إلى قضاء الحقوق.
قال: (فينهي سماع بينة ليحكم بها ثم يستوفي، أو حكمًا ليستوفى) أشار إلى ان الغائب إذا لم يكن له مال حاضر وسأل المدعي الكتابة لقاضي بلد الغائب .. فللقاضي حالتان:
إحداهما: أن يثبت عنده الحق بسماع البينة ولا يحكم، فيجوز له الإنهاء ليحكم بها بشرطه الآتي، وهو بعد المسافة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثانية: أن يثبت عنده ويحكم به، فينهي ذلك لينفذه؛ لما روى الأربعة عن الضحاك بن سفيان قال: ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض الأعراب ثم كتب إلى أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فورثتها.
ولأن الحاجة تدعو لذلك؛ فإن من له بينة في بلد وخصمه في بلد آخر .. لا يمكنه حملها إلى بلد الخصم، ولا حمل الخصم إلى بلد البينة، فيضيع الحق.
ولا يشترط في هذه الحالة بعد المسافة كما سنذكره، ثم إنما يجيبه إذا كان أهلًا للقضاء، فإن كان غير صالح .. ففي (الإيضاح (للصيمري: أن في جواز ترك مكاتبته وجهين.
وجه اللزوم: أنه من قبل الإمام، فلزم أن يكتب إليه إذا علم أنه يوصل الحق إلى أهله.
ومقتضى ما صححه في (الروضة (في الشاهد إذا ادعى لغير صالح الوجوب هنا أيضًا.
فرع:
يجوز للقاضي أن يطلق فيكتب إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين.
وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز الإطلاق الكلي، وللقاضي أبي سعد الهروي حكاية مبنية على ذلك، قال: تحملت شهادة مع الشيخ أبي سعيد المتولي على كتاب حكمي من قاضي هراة إلى مجلس القاضي حسين، وكانت الشهادة على الختم والعنوان إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، فرد القاضي الكتاب وقال: الشهادة على الختم دون مضمون الكتاب غير مقبولة عند الشافعي رضي الله عنه، والعنوان من غير تعيين المكتوب إليه غير جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا أقبل كتابًا اجتمع الإمامان على رده، كما أن من احتجم وأمسك ذكره وصلى .. لا تصح صلاته على المذهبين.
[وَالإِنْهَاءُ: أَنْ يُشْهِدَ عَدْلَيْنِ بِذَلِكَ]. وَيُسْتَحَبُّ كِتَابٌ بِهِ يَذْكُرُ فِيهِ مَا يَتَمَيَزُ بِهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ
ــ
فإذا كان الكتاب إلى معين، فشهد شاهدا الحكم عند حاكم آخر .. فإنه تقبل شهادتهما، ويمضيه اعتمادًا على الشهادة.
وعند أبي حنيفة: لا يقبل غير المعين شهادتهما إذا لم يكتب: وإلى كل من يصل إليه.
ويجري هذا الخلاف فيما إذا مات الكاتب وشهد الشاهدان على حكمه عند المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه وشهدا عند من قام مقامه .. فعند أبي حنيفة: لا تقبل شهادتهما ولا يعمل بالكتاب، وعندنا: تقبل شهادتهما، ويمضي الحكم، والعزل والجنون والعمى كالموت.
ولو كتب القاضي إلى خليفته ثم مات القاضي أو عزل .. تعذر على الخليفة القبول والإمضاء إن قلنا، ينعزل بانعزال الأصل.
[قال: (والإنهاء: أن يشهد عدلين بذلك)].
قال: (ويستحب كتاب به) أي: قبل الإشهاد؛ ليتذكر بذلك الشهود، وإنما لم يجب؛ لأن الاعتماد على الشهادة، فلو شهد بخلاف ما فيه .. سمع.
وقيل: يجب عليه إن أوجبنا كتب السجل عند طلب الخصم.
وقيل: يجب مطلقًا؛ فقد ينسى الشهود أو تختلف شهادتهم.
قال: (يذكر فيه ما يتميز به المحكوم عليه) من اسم وكنية وقبيلة وصنعة وحلية، وكذا المحكوم له؛ ليسهل التميز.
فإن لم يرفع في نسب المحكوم عليه إلى أن يتميز .. فالحكم باطل، حتى لو أقر
وَيخْتِمُهُ ،
ــ
رجل أنه فلان المعني بالكتاب
…
لم يلزمه شيء، لبطلان الحكم إلا أن يقر بالحق.
وقيل: يلزمه الحق إذا اعترف أنه المعني بالكتاب.
وصفة الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم ، حضر– عافانا الله وإياك– فلان، وادعي علي فلان الغائب المقيم ببلدك كذا، وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان، وقد عدلا عندي،
وحلَّفتُ المدعي، وحكمت له بالمال، فسألني أن أكتب إليك في ذلك، فأجبته إليه وأشهدت عليه فلانًا وفلانًا.
ولا تشترط تسمية الشاهدين علي الحكم، ولا أصل الإشهاد، ولا النص على أسامي شهود الحق، بل يكفي أن يكتب: شهد عندي شهود عدول، ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة، ويكون الحكم بشهادتهم تعديلًا لهم.
ويجوز ألا يتعرض لأصل شهادة شهود، فيكتب: حكمت بكذا بحجة أوجبت الحكم لأنه قد يحكم بشاهد ويمين، وقد يحكم بعلمه إذا جوزنا القضاء بالعلم، وهذه حيلة يدفع بها القاضي قدح أصحاب الرأي إذا حكم بشاهد ويمين.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يكفي الكتاب المجرد؛ لأن الخط لا يعتمد عليه.
وعن مالك: أن المكتوب إليه إذا وثق بالخط والختم واتصلت بمثله كتبه .. جاز قبوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت كتبه مقبوله من غير شهادة، وفي (المهذب (وجه مثله عن الإصطخري.
قال: (ويختمه)؛ حفظًا للكتاب وإكرامًا للمكتوب إليه، ويدفع إلي الشاهد نسخة غير مختومة؛ ليطالعها ويتذكر عند الحاجة.
والمقصود من الكتاب ومن الختم الاحتياط، فلو ضاع أو انمحى أو انكسر الختم وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما
…
قبلت شهادتهما، وقضي بها، خلافًا لأبي حنيفة.
ويَشَهَدَانِ عَلَيهِ إِنْ أنَكَر، فَإنْ قَاَلَ: لَسْتُ الَمٌسَمَّى فِي اَلَكَتابِ
…
صَدًقَ بِيمَيِنِه، .....
ــ
فرع:
شهود الكتاب والحكم يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه، وهل تثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إياهم وجهان:
قال الفقال الشاشي: نعم، للحاجة.
وأصحهما: المنع ، لأنه تعديل قبل أداء الشهادة، ولأن الكتاب إنما يثيت بقولهم، فلو ثبت به عدالتهم .. ثبتت بقولهم، والشاهد لا يزكي نفسه.
قال: (ويشهدان عليه إن أنكر) أي: علي حكم القاضي الكاتب عند القاضي المكتوب إليه، فلا تقبل في الباب شهادة رجل وامرأتين، خلافًا لأبي حنيفة.
قال الرافعي: وحكي ابن كج وجهًا مثله إذا تعلقت الحكومه بمال، وذكر أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان
…
اكتفي بشاهد واحد علي قولنا: إنه يثبت بشهادة واحد، إجراء للكتاب مجرى المكتوب فيه، وأنه لو كتب في الزنا– وجوزنًا كتاب القاضي إلي القاضي في العقوبات– هل يشترط أربعة، أو يكفي اثنان؟ فيه القولان في الإقرار به. اھ
والذي جزم به الماروي واليندنيجي والقاضي حسين وغيرهم: أنه لا يكفي رجل وامرأتان إذا كان المحكوم به مالًا.
ومقتضي الدليل: الاكتفاء بالشاهد الواحد؛ ففي (الصحيحين ([خ 64]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلي عظيم البحرين) ، لكن فساد الزمان أوجب الاحتياط خشية التزوير.
كل هذا بالنسبة إلي كتاب القاضي للقاضي، أما كتاب القاضي للخليفة أو الخليفة للقاضي، فإن تعلقت بأحكام وحقوق
…
لم تثبت إلا بالشهادة، وأما الكتب إليهم في الأموال والأعمال .. فمقبولة علي ما جرت به العادة في أمثالهم.
قال: (فإن قال: لست المسمى في الكتاب .. صُدقِّ بيمينه) ، لأنه أخبر بنفسه،
وَعَلَى اَلمُدَّعِي اَلَبَيِّنَهُ بِأنَّ هَذَا اَلمَكْتُوبَ اسمُهُ وَنَسَبُهٌ، فَإِنْ أَقَامَهَا فَقَاَلَ: لَسْتُ الْمَحْكُومَ عَلَيِه
…
لَزِمَهُ اَلحُكْمُ إِنْ لَم يَكُنْ هُنَاكَ مُشَارِكٌ لَهٌ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ .. أُحْضِرَ، فَإِنِ اعتَرَفَ بِالحَقِّ
…
طُولِبَ وَتُرِكَ الأَوَّلُ، وَإِلَّا .. بَعَثَ إِلى الكَاتِبِ لَيَطْلُبَ مِنَ الشُّهوِد زِيَادَةَ صِفَةِ تُمَيِّزُهُ، وَيَكَتَّبُهَا ثَانِيًا. وَلَوْ حَضَرَ قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ بِبَلَدِ الحَاكِمِ فَشَافَهَهُ بِحُكْمِهِ .. فَفِي إِمضَائِهِ إِذَا عَادَ إَلَى وِلَايَتِهِ خِلَافُ الَقَضَاءِ بِعِلْمِهِ، وَلَوْ نَادَاهُ فِي طَرَفَي ِولَا يَتِهِمَا .. أَمضَاهُ،
…
ــ
والأصل فراغ ذمته (وعلى المدعي البينة بأن هذا المكتوب اسمه ونسبه) ، لأن الأصل عدم تسميته بهذا الاسم.
هذا إذا لم يكن معروفًا به، فإن كان معروفًا به .. حكم عليه، ولا يفيده إنكاره.
قال: (فإن أقامها) أي: بأنه اسمه ونسبه (فقال: لست المحكوم عليه .. لزمه الحكم إن لم يكن هناك مشارك له في الاسم والصفات)؛ لأن الظاهر أنه المحكوم عليه.
قال: (وإن كان
…
أحضر؛ فإن اعترف بالحق
…
طولب وترك الأول)؛ لتعلق الخصومة بالمعترف.
قال: (وإلا) أي: وإن أنكر (
…
بعث) يعني: الحاكم (إلي الكاتب ليطلب من الشهود زيادة صفة تميزه، ويكتبها ثانيًا) فإن لم يتميز بذلك
…
وقف الأمر حتى ينكشف.
ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات، فإن مات بعد الحكم .. فقد وقع الإشكال، وإن مات قبله فإن لم يعاصره المحكوم له
…
فلا إشكال، وإن عاصره .. حصل الإشكال علي الأصح.
قال: (ولو حضر قاضي بلد الغائب ببلد الحاكم فشافهه بحكمه
…
ففي إمضائه إذا عاد إلى ولايته خلاف القضاء بعلمه) ، فان قلنا: نعم
…
فنعم، وإن قلنا: لا
…
فالأصح: المنع، كما لا يجوز الحكم بشهادة سمعها في غير محل ولايته.
قال: (ولو ناداه في طرفي ولايتهما .. أمضاه) إذا كانا جميعًا في، محل الولاية، لأنه أبلغ من الشهادة والكتاب، وأولى بأن يعتمد عليه.
وَلَوِ اقَتَصَرَ عَلَي سَمَاعٍ بَيَّنه .. كَتَبَ: سَمِعْتٌ بَيِّنُهٌ عَلَى فُلَانٍ، وَيُسَمِّيهَا إِنْ لَم يُعًدِّلْهَا، وَإِلَّا .. فَاَلَأصَحُّ: جَوَازُ تَرْكِ الَتَّسَمِيِه. وَاَلكِتَابُ بِاَلحُكْمِ يَمَضِي مَعَ قُرْبِ اَلَمَسَافِة، وَبِسَمَاعِ الِبيَّنِه لَا يُقَبَلُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَاّ فِي مَسَافَهِ قُبولِ شَهَاَدَهٍ عَلَى شَهَادَةِ
…
ــ
وكذا لو كان في البلد قاضيان وجوزناه، فأخبرأحدهما الآخر بحكمه .. فإنه يمضيه، وكذا لو أخبر به نائبه في البلد وعكسه.
قال: (ولواقتصر علي سماع بينة .. كتب: سمعت بينة علي فلان، ويسميها إن لم يعدلها) ، ولا حاجة هنا إلى تحليف المدعي.
هذا إذا كانت شاهدين، فإن كانت شاهدًا ويمينًا أو اليمين المردودة
…
وجب بيانها، فقد لا يكون مقتضى ذلك حجة عند المكتوب إليه.
قال: (وإلا) أي: وإن عدلها الكاتب وهو أولي، لأن أهل بلدهما أعرف بهما.
قال: (.. فالأصح: جواز ترك التسمية) ، كما أنه إذا حكم .. استغنى عن تسمية الشهود.
والثاني: لا، وهو قول الإمام والغزالي.
قال الرافعي: والقياس الأول، وهو المفهوم من إيراد البغوي.
وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكاتب، أو له البحث وإعادة التعديل؟ لفظ الغزالي يقتضي الثاني، قال الرافعي: والقياس الأول، وصوبه المصنف.
قال: (والكتاب بالحكم يمضي مع قرب المسافة، وبسماع البينة لا يقبل على الصحيح إلا في مسافة قبول شهادة على شهادة) وهي التي تسمى العدوى، لا القصر علي الصحيح كما سيأتي.
والفرق بينهما: أن الحكم هناك قديم، وليس بعده إلا الاستيفاء، وسماع البينة بخلافه؛ فإنه إذا لم تبعد المسافة .. لم يعسر إحضار الشهود عند القاضي الآخر، بل لو تجاور البلدان .. جاز.
فَصْلٌ:
ادَّعَي عَيْنًا غَاِئَبَه عَنِ اَلْبَلَدِ يُؤْمَنُ اشْتِبَاهُهَا كَعَقَارٍ وَعَبَدٍ وَفَرَسٍ مَعرُوفَاتٍ
…
سَمِعَ بَيَّنَهُ وَحَكَمَ بِهَا، وَكَتَبَ إِلَي قَاضِي بَلدِ المَالِ لِيُسَلِّمَهُ لِلمُدَّعِي، وَيَعَتَمِدُ فِي اَلَعقَارِ حُدُودَهُ،
ــ
تتمة:
عدل القاضي الكاتب شهود الحق، فجاء الخصم ببينة علي جرحهم
…
سمعت، وتقدم على التعديل.
وإن استمهل لبينة الجرح .. أمهل ثلاثة أيام، وكذا لو قال: أبرأتني أو قضيت الحق واستمهل؛ ليقيم البينة عليه، فلو قال: أمهلوني حتي أذهب إلى بلدهم وأجرحهم، فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك، أو قال: لي بينة هناك دافعة .. لم يمهل، بل يؤخذ الحق منه، فإن أثيت جرحًا أو دفعًا .. استرد، وسواء في ذلك كتاب الحكم وكتاب نقل الشهادة.
قال: (فصل:
ادعى عينًا غائبه عن البلد يؤمن اشتباهها كعقار وعبد وفرس معروفات .. سمح بينته وحكم بها، وكتب إلى قاضي بلد المال ليسلمه للمدعي) ، كما تسمح البينة ويحكم علي الغائب، ولم يذكروا في هذا خلافًا.
وقوله: (معروفات) غلب فيه غير العاقل على العاقل، وهو خلاف المعروف، وفي (المحرر (و (الشرح (و (الروضة (عبر ب (معروفين) ، وهو الصواب تغليبًا للعاقل وهو العبد.
قال: (ويعتمد في العقار حدوده)؛ ليتميز، والمراد: الحدود الأربعة، فلا يجوز الاقتصار علي ثلاثة منها، كما جزم به في (الروضه (هنا، وقد تقدم هذا في (الأصول والثمار) وغيرها، ويأتي في (باب الدعاوى (أيضًا، وتعتمد فيه البقعة أيضًا والسكة، ولا يجب التعرض للقيمة في الأصح؛ لحصول التمييز بدونه.
هذا في الدار المجهولة عند الحاكم، فإن كانت معروفة عنده
…
فيميزها بذكر الاسم.
أَو لَا يُؤْمَنُ
…
فَالأَظهَرُ: سَمَاعٌ اَلَبَيِّنِة، وَيُبَالِغُ الْمُدَّعِي فِي اَلَوَصفِ وَيَذْكُرُ اَلْقِيَمَةَ، ......
ــ
وسكت المصنف عن غير العقار، وفي الكتاب العراقين: أن العبد والثوب والفرس إن تميز بصفة
…
فهو كالعقار.
قال: (أو لا يؤمن) أي: اشتباهها (.. فالأظهر: سماع البينه) أي: على عينها وهي غائبة، لأن الصفة تميزها عن غيرها، والحاجة داعية إلى إقامة الحجة عليها كالعقار.
والثاني: المنع، لكثرة الاشتباه، كما لو شهدوا علي غائب مجهول النسب مع ذكر حلاه، والرافعي لم يرجع شيئًا في (الكبير (وأغرب في (الشرح الصغير (فحكى الخلاف وجهين.
قال: (ويبالغ المدعي في الوصف)، ليحصل التمييز، فيذكر الشيات والشامات، وجنس المدعى به ونوعه، وفيما يضبطها به بعد ذلك أقوال:
أحدها: يجب ذكر الصفات المعتبرة في السلم.
وثانيها: يجب ذكر القيمة، ويستغى به ذكر الصفات.
وثالثها– والأصح –: إن كانت من ذوات الأمثال .. وجب ذكر الصفات، واستحب ذكر القيمة، وإن كانت من ذوات القيم
…
وجب ذكر القيمة واستحب ذكر الصفات، وكلام الرافعي والمنصف في (الدعوى والبينات) يخالف كلامهما هنا.
قال: (ويذكر القيمة) ، لأنه لا يصير معلومًا إلا بها.
ومقتضى كلام المصنف: أن هذا شرط مع المبالغه في الوصف، وهو ما أورده الماوردي.
وَأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِهَا، بَلْ يَكْتُبُ إِلَى قَاضِي بَلَدِ اَلْمَالِ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ، فَيَاخُذهُ وَيَبْعَثُهُ إِلَي الكَاتِبِ لِيَشَهَدُوا عَلَى عَيَنْهِ، وَالأَظهَرٌ: أَنَّهٌ يُسَلِّمُهُ إِلى الُمُدَّعِي بِكَفِيل بِبَدَنِهِ؛
ــ
كل هذا فيما يمكن ضبطه بالصفات، والذي لا يمكن كالجواهر والياقوت يذكر لونه إن اختلف وقيمته، وقال القاضي أبو الطيب والبندنيجي والإمام: يكفي ذكر القيمة.
قال: (وأنه لا يحكم بها) أي: ببينة الصفة، لأن الحكم مع خطر الاشتباه والجهاله بعيد.
والثاني: يحكم بها كالعقار؛ فإذا حكم .. كتب إلى قاضي بلد المال بذلك، فإذا وصل إليه .. أحضرالخصم المدعى عليه وأمره بإحضار المدعى به، فإذا أحضره واعترف أنه موصوف بالصفات المذكورة
…
نظر، فإن أبدى دافعًا بأن ادعى أن هناك عبدًا آخر مثلًا في يده أو يد غيره متصفًا بها أيضًا ..... انقطعت الطلبة عنه في الحال؛ لبطلان القضاء بالإبهام، وإن لم يظهر ذلك .. قال المارودي: سلم إلي طالبه، وقال ابن القاض: لا يسلم له حتى يحلف أن هذا العبد هو المشهود له به عند القاضي الكاتب.
قال: (بل يكتب الي قاضي بلد المال بما شهدت به، فيأخذه ويبعثه الي الكاتب ليشهدوا علي عينه) هذا تفريع علي الصحيح، ومحله إذا لم يبد الخصم دافعًا كما تقرر.
قال: (والأظهر: أنه يسلمه إلى المدعي بكفيل ببدنه) ، احتياطًا للمدعى عليه ،حتى إذا لم يعينه الشهود .. طولب برده.
وقيل: لا يكفله ببدنه، بل يكلفه بقيمة المال.
والثاني: أن القاضي يبعثه للمدعي، ثم يقبض منه الثمن ويضعه عند عدل، أو يكلفه بالثمن، فإن سلم له .. استرد المال، وبان بطلان البيع، وإلا .. فهو صحيح، وسلم الثمن للمدعى عليه، وهو بيع يتولاه القاضي للمصلحة كما يبيع الضوال.
وتعبير ب (الأظهر) يقتضي قوه الخلاف، وعبر في (الروضة) بقوله: بأظهرهما وأشهرهما، فجمع بين القوة والضعف في المقابل.
فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى عَيْنِه
…
كَتَبَ بِبَرَاءَةِ اَلْكَفِيلِ، وَإِلّا .. فَعَلى اَلمُدَّعِي مُؤْنَةُ الرَّدِّ، أَوْ غَائِبَةُ عَنِ المَجلِسِ لَا الَبلَدِ .. أُمِرَ بِإِحضَارِ مَا يُمكِنُ إِحضَارُهُ لِيَشهَدُوا بِعَيْنِهِ
ــ
فظاهر عبارة المصنف: أن أخذ الكفيل واجب، وهو ما عزاه الرافعي للأرغياني، ولم يحك خلافه، لكن حكي الإمام فيه خلافًا، ورجح عدم الوجوب.
نعم؛ يستثنى من إطلاقه ما لو كانت الدعوى بجارية
…
فالمرجع انها تسلم إلى أمين في الرفقة لا إلى المدعي، واستحسنه الرافعي، وقال في (الروضة): إنه الصحيح أو الصواب؛ لأن حفظ البضع واجب.
قال: (فإن شهدوا علي عينه
…
كتب ببراءة الكفيل) أي: بعد تتميم الحكم وتسليم العين إلى المدعي، لأن الحق قد اتصل بمستحقه، وبان بطلان البيع وتم الحكم، وإلا
…
فالبيع صحيح، ويسلم الثمن إلى المدعي عليه، وهذا بيع يتولاه القاضي لمصلحة كما يبيع الضوال.
وحكي الفوارني بدله أنه يسلم إليه المال، ويأخذ القيمة فيدفعها إلى المدعى عليه للحيلوله بينه وبين ملكًا، ثم هذه القيمة مستردة، سواء ثبت أن المال للمدعي أو لم يثبت.
قال: (وإلا
…
فعلي المدعي مؤنة الرد) أي: إذا لم يشهدوا بعينه .. لزم المدعي الرد ومؤنته، ويختم العين المدعاة عند تسليمها إليه بختم لازم، حتى لو كان المدعي عبدًا .. جعل في عنقه قلادة ويختم عليها.
قال: (أو غائبة عن المجلس لا البلد .. أمر بإحضار ما يمكن إحضاره ليشهدوا بعينه) ، لتيسر ذلك، والفرق بينه وبين الغائب بعد الشقة وكثرة المشقة.
أما ما لا يمكن كالعقار .. فيحده المدعي، وتشهد البينة بتلك الحدود.
فإن قالوا: نعرفه بعينه ولا نعرف الحدود .. بعث القاضي من يسمع البينة على عينه، أو يحضر هو بنفسه، ولو كان العقار مشهورًا بالبلد .. لم يحتج إلى تحديده كما تقدم.
وإن كان مما يعسر إحضاره كشيء ثقيل أو مثبت في الأرض أو جدار وضر قلعه .. فحكمه حكم العقار، فلو عبر بتيسر الإحضار
…
كان أشمل، فإن كان القاضي
وَلَا تُسمَعُ شَهَادَةُ بِصِفَةٍ. وَإِذَا وَجَبَ إِحْضَارٌ فَقَالَ: لَيْسَ بِيَدِي عَيَنٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .. صُدِّقَ بِيَمينِهِ، وَلِلمُدَّعِي دَعوَى القيِمَةِ ، فَإِنْ نَكَلَ فَحَلفَ اَلمُدَّعِى أَوْ أَقَامَ بَيِّنةَ
…
كُلَّفَ الإِحْضَارَ وَيُحْبَسُ عَلَيِه،
ــ
يعرفه .. قال الغزالي: حكم به دون إحضار، وهو صحيح إن كان معروفًا عند الناس أيضًا، فإن اختص هو بمعرفته وعلم صدق المدعي .. فكذلك تفريعًا علي القضاء بالعلم.
قال: (ولا تسمع شهادة بصفة) أي: بصفة غائبة عن مجلس الحكم دون البلد، بل إن كان الخصم حاضرًا
…
أمر بإحضارها ليقيم البينة علي عينها، ولا تسمع البينة على صفتها؛ لأنه إنما جاز السماع حالة غيبته للحاجة، وهي منتفية هنا.
قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه وجه كما هو في المشبه به، وقطع الإمام بعدم السماع في هذه الصورة.
وما جزم به من عدم السماع بالصفة ذكره في (الروضة) ثم قال بعده: ولو شهدوا انه عصب عبدًا صفته كذا فمات العبد
…
لستحق_بناء علي الشهادة- قيمته علي تلك الصفة. اھ
وهذا عزاه الرافعي لصاحب (العدة) ، وتبعه (الحاوي الصغير) ، وهو مخالف لكلامهما الأول.
قال: (وإذا وجب إحضار فقال: ليس بيدي عين بهذه الصفة
…
صدق بيمينه)؛ لأن الأصل عدم عين بتلك الصفة، وتكون يمينه علي حساب جوابه.
قال: (وللمدعي) أي: بعد أن يحلف المدعى عليه (دعوى القيمة)؛ لاحتمال أنها هلكت، قاله البغوي وغيره.
ومقتضى إطلاقه: أنه لا فرق في دعوى القيمة بين ان تكون العين متقومة أو مثلية، ويشبه تخصيصه بالمتقوم، فإن كانت مثلية
…
ادعى المثل؛ لأنه يضمن به.
قال: (فإن نكل فحلف المدعي أو أقام بينة .. كلف الإحضار)؛ ليشهد الشهود على عينه كما سبق (ويحبس عليه) ، لأنه امتنع من حق واجب عليه إذا لم يبين عذره فيه.
وَلَاَ يُطلَقُ إِلَاّ بإِحْضَارٍ أَوْ دَعْوَى تَلَفٍ. وَلَوْ شَكَّ اَلمُدَّعِي هَلْ تَلِفَتِ الَعَيْنُ فَيَدَّعِي قِيمَةٌ أَمْ لَا فَيَدَّعِيها، فَقَاَل: غَصَبَ مِنِّي كَذَا، فَإِنْ لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَإِلَّا فَقِيمَتُةُ؟ .... سُمِعَتٌ دَعْوَاهُ، وَقِيلَ: لَا، بَلْ يَدَّعِيهَا وَيُحَلِّفيُهُ ثُمَّ يَدِّعي الْقيِمَةَ، وَيَجْرِيَانِ فِيَمنْ دَفَعَ ثَوبًا لِدَلَالٍ لِيبَيِعَهُ فَجَحَدَهُ وَشَكَّ هَلْ بَاعَهُ فَيَطْلُبُ الثَّمَنَ، أَو أَتْلَفَهٌ فَقِيمتَهٌ، أَمْ هُوَ بَاقٍ فَيطْلُبُهُ؟ وحَيْثُ أَوجَبْنَا الإِحضَارَ فَثَبَتَت للِمُدَّعِي
…
اسْتَقَرَّت مُؤنَتُهُ عَلَى الَمُدَّعَى عَلَيْهِ،
ــ
قال: (ولا يطلق إلا بإحضار او دعوى تلف) فحينئذ تؤخذ منه القيمة، وتقبل دعوي التلف مع مناقضته لقوله الأول، للضرورة، لأنه قد يكون صادقًا، ولأنا لو لم نقبل قوله
…
لخلد عليه الحبس، وقيل: لا يطلق إلا بإحضار أو إقامة بينة علي التلف.
قال: (ولو شك المدعي هل تلفت العين فيدعي قيمة أم لا فيدعها، فقال: غصب مني كذا، فإن بقي لزمه رده، وإلا فقيمته؟ .. سمعت دعواه) على هذا التردد، للحاجة، وعليه عمل القضاة، وعلي هذا: يحلف المدعي عليه أنه لا يلزمه رد العين ولا قيمتها.
وقوله: (فإن بقي .. لزمه رده وإلا
…
فقيمته) ظاهر إذا كان المدعى متقومًا، فإن كان مثليًا .. ينبغي أن يقول: وإلا .. فمثله، وهو ما نقله العبادي في تعليقه عن القاضي حسين.
قال: (وقيل: لا، بل يدعيها ويحلفه) أي: على العين (ثم يدعي القيمة) أي: بعد حلفه ينشئ الدعوى بالقيمة، لأن الدعوى المترددة غير جائزة.
قال: (ويجريان فيمن دفع ثوبه لدلال ليبيعه فجحده وشك هل باعه فيطلب الثمن، أو أتلفه فقيمته، أم هو باق فيطلبه؟) فعلى الأول: يدعي أن عليه الثوب أو ثمنه أو قيمته، ويحلفه يمينًا واحده أنه لا يلزمه تسليمه ولا ثمنه ولا قيمته، وعلي الثاني: يدعي العين في دعوى والقيمة في دعوى والثمن في أخرى.
قال: (وحيث أوجبنا الإحضار) أي: إحضار العين علي المدعى عليه (فثبتت للمدعي .. استقرت مؤنته علي المدعى عليه) ، لأنه المحوج إلى ذلك.
وَإِلَّا .. فَهِي وَمُؤْنُةُ الرَّدَّ عَلَى المُدَّعِي.
فَصْلٌ:
الْغَائِبُ الَّذِي تُسمَعُ البَيَّنَةُ وَيَحْكُمُ عَلَيِه: مَنْ بِمَسَافَهٍ بَعِيدَةٍ،
ــ
قال: (وإلا) أي: وإن لم تثبت له (.. فهي) أي: مؤنة الإحضار (ومؤنة الرد علي المدعي)؛ لأنه المحوج إليه.
وفي (أمالي السرخسي): أن القاضي يتفق علي النقل من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شيء .. اقترض، فإن بان المال للمدعي .. لزم عليه رد القرض، لظهور تعديه، وإلا
…
كلفه المدعي، لظهور تعنته.
ووقع في (الشرح) و (الروضة) النقل عنه مقلوبًا، ولم يذكره في (المهمات). قال في (المطلب): ولو تلف في الطريق بانهدام دار ونحوه .. لم يضمنها بلا خلاف.
تتمه:
قال في (الوجيز): لا تلزمه منفعة العبد التي تعطلت، كما لا تلزمه منفعه المحكوم عليه، ويحتمل هذا للحاجة، قال الرافعي: وليحمل ما ذكره علي إحضار المدعى عليه العبد الغائب عن مجلس الحكم دون البلد خاصة، والفرق بين الحالتين زيادة الضرر.
قال: (فصل:
الغائب الذي تسمع البينة ويحكم عليه: مَن بمسافة بعيدة) ، لأن القريب يسهل إحضاره، وألحق القاضي حسين بالغائب ما إذا حضر المجلس فهرب قبل أن يسمع الحاكم البينة، أو بعده وقبل الحكم
…
فإنه يحكم عليه قطعًا كما تقدم.
وهذا معني قول غيره: يحكم علي المتمرد والمتواري في البلد كما سيأتي.
وألحقّ في (الأسرار) وغيره به الأخرسَ الذي لا يفهم؛ لأنه في معنى الصبي والمجنون.
وَهِيَ الَّتي لَا يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكَّرُ إِلَى مَوْضِعِهِ لَيْلًا، وَقِيلَ: مَسَافَةُ قَصْرٍ، وَمَنْ بِقَرِيَبِه كَحَاضِرٍ
…
فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنُتُهُ وَيَحْكُمُ بِغَيِر حُضُوِرِهِ إِلَّا لِتَوَارِيِه أَوْ تَعَزُّزِهِ،
ــ
قال: (وهي التي لا يرجع منها مبكر إلى موضعه ليلًا) ، لما في إيجاب الحضور عليه منها من المشقة الحاصلة بمفارقة الأهل والوطن في الليل.
هذا كله إذا كان الخصم الخارج عن البلد في محل ولاية القاضي، فإن كان خارجها
…
فيجوز أن يسمع الدعوى عليه، ويحكم ويكاتب، قاله الماوردي وغيره.
قال: (وقيل: مسافة قصر) ، لأن الشارع اعتبرها في مواضع، والقريبة ما دونها.
قال: (ومن بقريبة كحاضر .. فلا تسمع بينته ويحكم بغيرحضوره) ، لأن القضاء مبني على الفصل بأقرب الطرق، ولو حضر ربما أقر فأغنى عن سماع البينة والنظر فيها.
قال الرافعي وغيره: ويجري الخلاف فيما إذا كان بالبلد وتأتى إحضاره، والأشبه تخصيصه بما إذا كان جميع البلد في محل ولاية القاضي، فإن كان موضع الخصم في غير محل ولايته ..
فكما لوكان خارج البلد.
وإذا قلنا: تسمع البينة على الحاضر .. لم يحكم عليه بها في الأصح إلى أن يأتي فيبدي مطعنًا إن أمكنه، بخلاف الغائب عن البلد، فإن انتظاره يطول.
قال: (إلا لتواريه أو تعززه) فحينئذ يجوز سماع الدعوى والبينة والحكم عليه، لتعذر الوصول إليه كالغائب، وإلا
…
لا تخذ الناس ذلك ذريعة إلى إبطال الحق.
وقيل: لا يجوز ولا يلتحق الامتناع بالعجز، وفي حلف المدعي كما يحلف في القضاء علي الغائب وجهان: قطع بعضهم بالمنع لتفريط الخصم.
وَالأَظْهَرُ: جَوَازُ اَلقَضَاءِ عَلَى اَلغَائِبٍ فِي ِقَصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ، وَمَنَعُهُ فِي حُدُودِ اللهِ تَعَالى. وَلَوْ سَمِعَ بَيِّنَهُ عَلَى غَائِبٍ فَقَدِمَ قَبْل اَلْحُكْمِ .... لَمْ يَستَعِدْهَا،
ــ
قال: (والأظهر: جواز القضاء علي الغائب في قصاص وحد قذف، ومنعه في حدود الله تعالى) كحد الزنا والشرب وقطع الطريق إذا اعترف بها عند القاضي الكاتب، أو قامت عليه البينة بها ثم هرب.
والفرق: أن المقصود بالكتاب الاستيثاق، وحق الله تعالى مبني على المسامحه والدرء، بخلاف حق الآدمي.
والثاني: الجواز مطلقًا كالأموال.
والثالث: المنع مطلقًا؛ لخطر الدماء.
وما اجتمع فيه حق الله وحق الآدمي كالسرقة .. يقضى فيها علي الغائب بالمال دون القطع، وحقوق الله تعالى الماليه كحقوق الآدميين علي المذهب، فلهذا عبر المصنف بالحدود دون الحقوق.
فرع:
لا تسمع الدعوى والبينة على الغائب بإسقاط حق له، كما لو قال: له علي ألف قضيته إياها،
أو أبرأني منه ولي بينة به، ولا آمن إن خرجت إليه أن يطالبني ويجحد القبض أو الإبراء،
فاسمع بينتي واكتب بذلك إلى قاضي بلده
…
لم يجبه؛ لأن الدعوى بذلك والبينة لا تسمع إلا بعد المطالبة بالحق.
قال ابن الصلاح: وطريقه في ذلك أن يدعي إنسان أن رب الدين أحاله به، فيعترف المدعى عليه بالدين لربه وبالحوالة، ويدعي أنه أبرأه منه أو أقبضه، فتسمع الدعوى بذلك والبينة وإن كان رب الدين حاضرًا بالبلد.
قال: (ولو سمع بينة علي غائب فقدم قبل الحكم .. ولم يستعدها) ، بخلاف شهود الأصل إذا حضروا بعدما شهد شهود الفرع قبل الحكم .. لا يقضي بشهادتهم؛ لأنهم بدل، ولا حكم للبدل مع وجود الأصل.
وأفهم قوله: (قبل الحكم) عدم الاستعادة بعده من باب أولى، بل على حجته.
بَلَ يُخْبِرُهُ وَيُمَكَّنُهُ مِنَ الجَرَحِ، وَلَوْ عُزِلَ بَعْدَ سَمَاعِ بَيِّنَهٍ ثُمَّ وُلِّىَ .. وَجَبَتِ الِاسْتِعَادَهُ. وَإِذَا اَسَتُعِدَى عَلَى حَاضِرٍ بِاَلبَلَدِ .. أَحَضَرَهُ
ــ
في إقامه البينة بالأبراء وجرح الشهود.
قال: (بل يخبره ويمكنه من الجرح) ، وكذلك كل ما أشبهه مما يمنع شهادتهم عليه من عداوة، وتقدم على بينة التعديل.
قال الرافعي: ويشترط أن يؤرخ الجارح فسقه يوم الشهادة؛ لأنه إذا أطلق .. أمكن حدوثه بعد الحكم. أھ
ولا معني لاشتراطه يوم الشهادة، بل لو جرحه قبلها ولم يمض زمن الاستبراء .. فكذلك، فإن مضت .. ولم يؤثر الجرح كما صرح به الماوردي.
فرع:
حكم علي بناء علي أنه بمسافة بعيدة، فبان أنه كان قد قدم البلد، أو صار على مسافة قريبة، فهل نقول: الحكم صحيح بناء علي ظاهر الحال؟ أو فاسد بناء على ما في نفس الأمر؟
تقدم في (النكاح) عن القفال: أنه لو زوج امرأة بحكم غيبة وليها، ثم بان_ كما ذكرنا أن النكاح لا يصح .. فنظيره هنا أن لا يصح الحكم، وهو متجه، ولكن الفرق بين البابين ظاهر.
قال: ولو (عزل بعد سماع بينة ثم ولي .. وجبت الاستعادة) بلا خلاف؛ لأن السماع الأول بطل بالعزل، فلو خرج عن محل ولايته ثم عاد .. فله الحكم بالسماع الأول علي الصحيح، وقيل: لا؛ لعروض ما يمنع من الحكم، وهذه المسألة لا تعلق لها بهذا الباب بخصوصه، وإنما ذكرها استطرادًا، وكذا التي بعدها؛ لأن الباب معقود للغائب.
قال: (وإذا استعدي على حاضر بالبلد) أي: متأهل لسماع الدعوى والجواب عنها (.. أحضره) أي: وجوبًا؛ إقامه لشعار الأحكام، ورعاية لمراتب الحكام
بِدَفْعِ خَتْمِ طِين رَطْبٍ أَوْ غَيْرِهِ
ــ
وقال مالك: إن كان من أهل المروءات .. لم يحضره إلا أن تعرف بينهما معاملة؛ صيانة له عن الابتذال.
وعن ابن سريج: أنه يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلس الحكم، والمذهب: أنه لا فرق، ولكن استثني الشيخ من ذلك في (باب الفلس) حاضرًا وقعت الإجارة على عينه وكان يتعطل بحضوره مجلس الحكم حق المستأجر.
ومقتضي إيجاب الإحضار وجوب الحضور، وهو كذلك؛ لقوله تعالى:{إَنَّمَا كَا، قَولَ الَمُؤمِنِيِنَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُوِلِهِ لِيَحكُمَ بَيَنهُم أَن يَقُوِلُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَاَ}
قال الإمام: وذلك لأجل إجابه القاضي، فلو لم يطلبه القاضي وطلبه الخصم .. لم يجب الحضور، بل الواجب الأداء إن كان عليه، لكن المذكور في (الحاوي) و (المهذب) و (البيان) وجوب الحضور مطلقًا؛ لظاهر الآية.
ويوم الجمعة كغيره، إلا إذا صعد الخطيب المنبر .. فلا يحضر أحد إلي الفراغ من الصلاة كما قاله الرفعي في آخر (باب الدعاوى).
واليهودي يحضر يوم السبت، ويكثرعليه سبته.
والاستعداء: من أعدى عليه الحاكم يعدي إذا ترك العدوان، وهو الظلم، كقولهم أشكاه؛ أي: ازال شكواه.
قال: (بدفع ختم طين رطب)؛ ليعرضه علي الخصم، وليكن مكتوبًا عليه أجب القاضي فلانًا، وقد هجر هذا في هذا الأعصار، فالأولي ما اعتيد من الكتابة في كأغد.
قال: (أو غيره)؛ لما روى البزار [768] وأبو يعلى [294] وأحمد [1/ 151] عن علي ابن أبي طالب: أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى رسول الله عليه وسلم تشكو إليه الوليد فقال لها: (ارجعي فقولي له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجارني (ثم جاءت فقالت: يا رسول الله؛ ما أقلع عني، قالت: فقطع رسول الله صلي الله عليه وسلم هدبة من ثوبه وقال: اذهبي بهذه وقولي له: إن رسول الله
أَوْ بِمُرَتَّبُ لِذَلِكَ ̧فَإِنِ أمَتَنَع بِلَا عُذْرٍ .. أَحْضَرَهُ بِأَعْوَانِ الَسُّلْطَانِ
ــ
صلي الله عليه وسلم قال: هذه هدبة من ثوبه، وقولي له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجارني، قال: فلم تلبث إلا يسيرًا حتي رجعت فقالت: ما زادني إلا ضربًا، فرفع صلي الله عليه وسلم يديه وقال:(اللهم، عليك بالوليد بن عقبة أثم بي مرتين).
قال البزار: وفي هذا الحديث من الفقه إباحه العدوى علي الخصم إذا لم يحضر مع خصمه، لأن الهدبه من الثواب إعداد عليه ليحضر مثل الخاتم، وهذه السنة باقية إلي اليوم بالحجاز.
قال: (أو بمرتب لذلك) من الأعوان علي أبواب الحكام؛ صيانة للحقوق، وتكون مؤنة المحضر حينئذ علي الطالب إن لم يكن رزق من بيت المال، وإذا بعث بالختم فلم يجب .. بعث العون إليه.
ويلزم المطلوب الحضور، إلا أن يعلم أن القاضي المطلوب إليه يقضي عليه بالجور برشوة أو غيرها .. فيسعه باطنًا أن من الحضور، وأما في الظاهر .. فلا يسوغ.
قال: (فإن امتنع بلا عذر) كما إذا امتنع لسوء أدب (.. أحضره بأعوان السلطان) ، توصلًا إلى إقامة الأحكام علي أربابها، وتكون المؤنة في هذه الحالة علي المطلوب علي الصحيح، لامتناعه، وقيل: علي الداعي.
فإن كان عذر كمرض أو حبس أو خوف من ظالم
…
بعث إليه من يحكم بينهما، أو يأمره بالتوكيل، فإن وجب تحليفه .. بعث إليه من يحلفه، فإن اختفى .. نودي علي بابه إن لم يحضر إلي ثلاث .. سُمَّر بابه أو ختم، فإن لم يحضر فيها .. سُمِّر أو ختم بطلب المدعي إذا ثبت عنده أنها داره، فإن عرف موضعه .. بعث نسوة وصبيانًا وخصيانًا يهجمون عليه.
وإذا امتنع بعد وقوفه على أماره الطلب .. أشهد عليه الخصم شاهدين أنه امتنع، فإذا ثبت عند القاضي امتناعه .. بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره، ولا يبالغ القاضي في طلب تزكية الشاهدين بالامتناع، وينبغي الاكتفاء بإخبار عدل واحد.
وَعَزَّرَهُ، أَوْ غَائِبٍ فِي غَيِر مَحَلِّ وَلَايَتِهِ .. فَلَيسَ لَهُ إِحْضَارُهُ، أَو فِيهَا وَلَهُ هُنَاَك نَائِبُ .. لَم يُحضِرهُ، بَلْ يَسْمَعُ بَيّنةً وَيَكْتُب إِلَيِه، أَوْ لَا نَائِبَ .. فَالأَصَحُّ: ُيحضرهُ مِنْ مَسَافةِ العَدوَى فقَط، وَهِيَ الَّتي يَرْجِعً مِنْهَا المُبَكِّرُ لَيلًا،
ــ
قال القفال: ولا يجوز أن يبعث إليه عون السلطان في أول وهلة حتى يشهد عدلان أنه أبي المجيء.
قال: (وعزره)؛ لامتناعه نت طاعة أولي الأمر، وليس التعزير بحتم، بل إن شاء .. عفا عنه، وإن شاء .. عزره بالكلام أو غيره.
قال: (أو غائب في غير محل ولايته .. فليس له إحضاره) ، لعدم ولايته عليه.
قال: (أو فيها وله هناك نائب .. لم يحضره، بل يسمع بينة ويكتب إليه)؛ لأن في إحضاره مشقة مع إمكان الحكم في ذلك الموضع الذي هو فيه، وقيل: يحضره بطلب الخصم، وقيل: يتخير.
قال: (أو لا نائب .. فالأصح: يحضره من مسافة العدوى فقط، وهي التي يرجع منها المبكر ليلًا) أي: إلي موضعه، فإن كان أكثر من ذلك .. لم يحضره.
والثاني: يحضره من دون مسافة القصر لا منها.
والثالث_ وبه قطع العراقيون_: يحضره وإن بعدت المسافة؛ لأن عمر استحضر من نيف وعشرين يومًا، واستحضر قومًا من قنسرين إلى المدينة.
وقيل: يحضره من دون ثلاثة أيام، حكاه القاضي شريح، والذي رجحه المصنف تبع فيه (المحرر) ، ومقتضى كلام (الروضة (و (الشرح) موافقة العراقين، لأن عمر استدعى المغيرة بن شعبة في القصة المشهورة من البصرة إلى المدينة، وإذا كان هذا في حق الله تعالى .. ففي حق الآدمي أولى.
وإذا استعدي علي امرأه خارجة عن البلد .. فالأصح: أنه يبعث إليها محرمًا أو نسوة ثقات كما في الحج.
تنبيه:
أطلق المصنف الإحضار، وشرطه بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها، وبهذا
وَأَنَّ اَلمُخدَّرَةَ لَا تُحْضَرُ،
ــ
صرح العراقيون ومنهم الماوردي والجرجاني وغيرهما، وجزم به في (البيان) و (الإستقصاء).
وعبارة (التنبيه): لم يحضره حتى يحقق المدعي دعواه، فإن حقق الدعوى .. أحضره، وأقره المصنف عليه في (التصحيح) ، وجزم به صاحب (الإشراف) و (الكافي) وغيرهما من المراوزه.
وقال الإمام والغزالي وصاحب (العدة): لا يحضره حتي يقيم البينة، وأشار الرافعي إلى تفردهم بذلك، وقال في (المطلب): إنه تعطيل للحقوق؛ إذ ليس لكل خصم بينة.
وقال العراقيون: لا يتعين الإحضار، بل إن أراد أن يرسل إليه من يحكم بينهما .. فعل، واستأنسوا له بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم أنيسًا للمرأه المقذوفة.
هذا إذا لم يكن هنال من يتوسط بينهما، فإن كان وهو صالح للقضاء .. فهو بمنزلة خليفة القاضي، فيكتب إيه، وإلا .. فيحضره ..
فائدة:
قيل للمدة التي تقطع في اليوم عدوى؛ لأن القاضي يعدي فيها إذا استعدي علي الغائب، والإعداء: الإعانة، وتطلق العدوى علي مجاوزة المرض من صاحبه إلى غيره، فإنهم كانوا يعتقدون أن المرض بنفسه يتعدى، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس الأمر كذلك، بل الله هو الذي يمرض وينزل الداء.
قال علي لطلحة يوم الجمل: (عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما، عدى فيما بدى)؛ لأنه بايعه بالمدينة بعد ما ظهر منك من الطاعة والمبايعة.
قال: (وأن المخدرة لا تحضر)؛ دفعًا للمشقة عنها، وسبيل القاضي معها كسبيله مع المريض ونحوه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية جهرًا، وقال
وَهِيَ مَنْ لَا يَكْثُرُ خُرُوجُهَا لِحَاجَاتٍ
ــ
في الأخرى: (اغد يا أنيس إلى امرأه هذا، فإن اعترفت .. فأرجمها) قالوا: وكانت الغامدية برزة والأخرى بالضد؛ لأن الغامدية حضرت بنفسها، وإرسال أنيس إنما كان لإعلامها بالقذف.
والثاني: تحضر كغيرها، وبه أفتى القفال، وقال: لا معني للتخدر عندي، وليس له أصل في الشرع.
فعلي الصحيح: إذا وجب عليها اليمين أرسل إليها من يحلفها، وإذا اقتضى الحال تغليظ اليمين بالمكان .. فالأصح: أنها تكلف الحضور إليه كما تقدم في (اللعان).
و (المخدرة): الملازمة للخدر وهو الستر، ويقال لها: الخفرة من الخفر وهو شدة الحياء،
وقوله: (لا تحضر) بضم أوله وفتح ثالثه، مضارع أحضر.
قال: (وهي من لا يكثر خروجها لحاجات) كشراء الخبز والقطن وبيع الغزل، فإن كانت لا تخرج نادرًا لزيارة أو حمام .. فمخدرة.
وقال الإمام: المخدرة: من لا تخرج اصلًا.
وقال ابن أبي الدم: الأمر في ذلك إلى العرف.
وقال ابن الرفعة: هي من لا تخرج لحوائجها، وإن خرجت
…
استخفت.
وأفهمت عبارة المصنف أن كونها في عدة أو اعتكاف لا يكون مانعًا من حضور مجلس الحكم، وبه صرح الصيمري في (الإيضاح) ، لكن المريضة في حكم المخدرة.
تتمة:
لو كانت برزة ثم لازمت الخدر .. قال القاضي حسين في (الفتاوى): حكمها حكم الفاسق يتوب، فلا بد من مضي سنة وفي قول نصفها.
ولو اختلفا في كونها مخدرة .. قال الماوردي والروياني: إن كانت من قوم الغالب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
علي نسائهم التخدر .. صدقت فيه بيمينها، وإلا .. صدق هو بيمينه.
وقال القاضي: عليها البينة، وتمهل لإقامتها.
…
خاتمة
تصرف القاضي في مال الغائب مقيمًا كان أو غيره يكون بالحفظ والتعهد، فإذا أشرف على الهلاك .. أتى بما يقتضيه الحال بشرط الغبطة الائقة، فإن كان حيوانًا وخيف علي الهلاك ..
باعه، وإن حصلت الحصانة بالإجارة .. اقتصر عليها، وله إيجار ملك الغائب وإقراض ماله، فإن كان للغائب دين .. لم يكن للحاكم استقضاؤه، إلا أن يكون موروثًا وأوصى الموروث باستقضائه .. فإن الحاكم ينصب له أمينًا يتقاضاه ويحفظه حتى يحضر صاحبه.
وقد ذكر الرفعي المسألة في أبواب بينها في (المهمات) ، وأما ما لم يتعين له مالك وحصل اليأس من معرفته .. فيبيعه ويصرف ثمنه في المصالح، وله أن يحفظه.
***
بًابُ الْقِسْمَةِ
قَدْ يَقْسِمُ الشُّرَكَاءُ أَوْ مَنْصوُبُهُمْ ًاوْ مَنْصُوبُ الإِمَامِ،
ــ
باب القسمة
هي تمييز بعض الأنصباء من بعض.
والقسام: الذي يقسم الأشياء بين الناس، قال لبيد [من الكامل]:
فارضى بما قسم المليك فإنما
…
قسم المعيشة بيننا قسَّامُها
ولم يبوب لها في (المحرر) أيضًا.
وهي بكسر القاف: الاسم من قسم يقسم.
وهي عند العراقيين نوعان: قسمة رد، وقسمة لا رد فيها، وعند المراوزة ثلاثة أنواع: قسمة رد، وقسمة إفراز، وقسمة تعديل.
ووجه ذكرها في خلال القضاء: أن القاضي لا يستغني عن القسام للحاجة إلى قسمه المشتركات، بل القاسم كالحاكم فحسن الكلام في القسمة مع الأقضية.
والأصل في جوازها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَأِذَا حَضَرَ اَلِقْسمَةَ} الآية، وقوله:{وَنَبِتٌهٌمْ أنَّ المَاءَ قِسَمةٌ بَيَنَهُمْ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة فيما لم يقسم).
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون الغنائم، وكان له قسام.
ولا خلاف بين المسلمين في جوازها ووجوبها، فالحاجة داعية إليها، لأنه قد يتبرم الشركاء أو بعضهم بالمشاركة، ويريدون الاستبداد بالتصرف، ولهذا نقل في (التهذيب) و (الكافي) عن الأصحاب أنه لا يجوز للإمام أن يخلي نواحي الإسلام من قسام تحصل بهم الكفاية.
قال: (قد يقسم الشركاء أومنصوبهم أو منصوب الإمام) ، لحصول الغرض بكل
وَشَرْطً مَنْصُوِبهِ: ذَكَرُ، حًرُّ، عَدْلُ، يَعْلَمُ الِمسًاحَةَ وَالحِسَابَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَقْوِيمٌ .. وَجَبَ قَاسِمَانِ، وَإِلَّا .. فَقَاسِمٌ، .....
ــ
ذلك، وفي قول: لا يجوز أن يحكموا رجلًا في القرعة.
قال: (وشرط منصوبه: ذكر، حر، عدل)؛ لأنها ولاية، ومن لا يتصرف بذلك ليس أهلًا للولايات، ولأنه يلزم كالحكام، ولأن القسام أعوان الحكام، فيلزم الحاكم أن يختار من القاسمين من تكاملت فيه شروط القسمة.
وذكر في (المحرر) مع هذه الشروط التكليف، وحذفه المصنف، لدخوله في وصف العدالة.
قال: (يعلم المساحة والحساب) لأنهما آله القسمة، والمساحة: ذرع الأرض، وأعتبر الماوردي والبغوي مع ذلك أن يكون نزهًا قليل الطمع، وهل تشترط معرفة التقويم؟ فيه وجهان؛ لأن في أنواع القسمة ما يحتاج إليه، ومقتضى كلام الجمهور: أنه ليس بشرط. وبه صرح البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ فجعلوه مستحبًا، فإن جهلها .. جاز، ويرجع إلي إخبار عدلين.
وخرج ب (منصوب الإمام) منصوب الشركاء إذا لم يكن فيهم طفل ولا مجنون؛ فإنه لا يشترط فيه العدالة ولا الحرية، لأنه وكيل لهم، قال الرافعي: كذا أطلقوه.
وينبغي أن يكون في توكيل العبد في القسمة الخلاف في توكيله في البيع والشراء.
فإذا كان فيهم محجور عليه لصغر أو جنون أو سفه .. فلا بد في قاسمهم من العدالة.
واعتبر شريح الروياني إذن الإمام في ذلك، ولو حكموا رجلًا فيها .. جاء خلاف التحكيم، فإن جوزناه .. فهو كمنصوب القاضي.
قال: (فإن كان فيها تقويم .. وجب قاسمان)؛ لأنها شهادة بالقيمة، وظاهر كلام المصنف أنه لا خلاف فيه، وبه صرح في (البسيط).
قال: (وإلا .. فقاسم) أي: إذا لم يكن فيها تقويم .. ففي الأصح: يكفي قاسم، لأن قسمته تلزم بنفس قوله فأشبه الحاكم، وحيث اكتفينا به
…
قبل الحاكم قوله وحده؛ لأنه نائبه، وحيث اشترطنا اثنين .. قبل قولهما دون أحدهما
وَفِي قَوْلٍ: اثْنَانِ وَلِلإمَامِ جَعْلُ الْقَاسِمِ حَاكِمًا فِي التَقْوِيمِ فَيَعْمَلُ فِيهِ بِعَدْلَيْنِ، وَيَقْسِمُ ......
ــ
ولا يحتاج القاسم إلى لفظ الشهادة على المشهور، لأنها تستند إلى عمل محسوس.
وفي (الصحيح) في قصة الحمار الوحشي العقير لما قال صاحبه: شأنكم به .. أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق.
قال: (وفي قول اثنان) كالمقومين والحكمين في جزاء الصيد، وادعي القاضي أنه المنصوص، وأن الأول مخرج ومأخذهما أنه حاكم أو شاهد، والراجح الأول، لأنه قسمته تلزم بنفس قوله، ولأنه يستوفي الحقوق لأهلها.
وفي معني التقويم: ما إذا كان فيها خرص، لكن قال المصنف في (تصحيحه): الأصح: الاكتفاء بواحد، وهو نظير ما صححاه في (الزكاة)، ويؤيده ما صح:(أنه صلي الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة خارصًا).
وقال الإمام: القياس أنه لا بد من اثنين، ولا يتجه بين الخرص التقويم فرق، فإن كل واحد منهما مبني قوله علي التخمين والحدس، وفرق الإمام بأن الخارص يعمل بإجتهاده فكان كالحاكم، والمقوم يخبر بقيمة الشيء فهو كالشاهد.
قال: (وللإمام جعل القاسم حاكمًا في التقويم فيعمل فيه بعدلين، ويقسم) هذا كالمستثنى من اشتراط العدد.
وصورة المسأله: أن يفوض إليه سماع البينة فيه، وأن يحكم به، وحينئذ فله اعتماد قوله وحده، فلو فوض إليه أن يحكم باجتهاده في التقويم .. لم يجز كما قاله الإمام والغزالي وإن قلنا إن القاضي يقضي بعلمه، لأنه لا معني له.
فلو لم تكن القسمة بإذن الحاكم بل المفوض لها الشركاء
…
ففي (الحاوي).
وَيَجَعَلُ الإِمَامَ رِزْقَ مَنْصُوِبِه مِنْ بَيْتِ المَالِ، فَإَنْ لَمْ يَكُنْ .. فَأُجرَتُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ، فَإَنِ اسَتَاجَرُوُهُ وَسَمَّى كُلُّ قَدْرًا .. لَزِمَهُ،
ــ
و (البحر) أنهم يحملونه في العدد على ما اتفقوا عليه من واحد أو أكثر، ولا يقبل الحاكم قول هذا القاسم، لأنه ليس نائبًا عنه، ولا تسمع شهادته، لأنه يشهد على فعل نفسه.
قال: (ويجعل الإمام رزق منصوبه من بيت المال) ، لأنه من المصالح العامة، وكان علي رضي الله عنه يرزق قاسمه عبد الله بن نجي من بيت المال، ولكن ما يرزقه قدر كفايته وكفاية عائلته وغلمانه على ما يليق به من النفقة والكسوة وغيرهما.
وقيل: لا يرزقه من بيت المال، ولأنه لا يحتاج إلى تفريغ النفس لهذا العمل، بخلاف القاضي.
قال: (فإن لم يكن .. فأجرته علي الشركاء) سواء طلب القسمة جميعهم أم بعضهم، لأن العمل لهم، وقيل: علي الطالب وحده.
وخالف القاضي حيث امتنع عليه أن يعتاض علي الحكم، لأن القضاء حق الله تعالى، والقسمة محض حق الآدمي، وأيضًا فللقاسم عمل يباشره فالأجرة في مقابلته، والحاكم مقصور علي الأمر والنهي، ولا ينصب حينئذ قاسمًا معينًا، بل يدع الناس يستأجرون من شاؤوا.
قال: (فإن استأجروا وسمَّى كل قدرًا .. لزمه) قل أوجل، تساووا فيه أو تفاضلوا، ومحل الجزم به إذا استأجروه جميعًا بأن قالوا: استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار علي فلان ودينار علي فلان مثلًا، أو وكلوا كيلًا عقد لهم كذلك.
فإن استأجروه في عقود مرتبة فعقد واحد لإفراز نصيبه ثم الثاني كذلك ثم الثالث .. جاز عند القاضي حسين، وأنكره الإمام وقال: لا سبيل إلى استقلال بعضهم بالاستئجار لإفراز نصيبه، لأن فيه تصرفًا في نصيب غيره بالتردد والتقدير، قال: فإن انفراد أحدهم برضاهم .. كان أصلًا ووكيلًا ، ولا حاجة إلى عقد الباقين.
وَإِلَّا .. فَالأٌجْرَةُ مُوَزَّعَةُ عَلَى الْحِصَصِ، وَفِي قَوْلِ: عَلَى الُّرٌّؤُوسِ. ثُمَّ مَا عَظُمَ الضُّرًرُ فِي قِسْمَتِهِ كَجَوْهَرَةِ وَثَوْبِ نَفِسَيْنِ وَزَوَجَي خُفّ؛ إِنْ طَلَبَ الُشَرَكَاءُ كُلُّهُمْ قِسْمَتَهٌ .. لَمْ يُجِبُهمُ الْقَاضِي، ......
ــ
قال: (وإلا) أي: وإن لم يسموا له أجرة وأطلقوا التسميةه (. فالأجرة موزعة علي الحصص)
لأنها من مؤن الملك فكانت كنفقة المشترك.
قال: (وفي قول: علي الرؤوس)؛ لأن العمل في النصيب القليل كهو في الكثير، بل قد يكون في الجزء القليل أغمض، هذه طريقة المراوزه، وتابعهم المصنف تبعًا ل (المحرر) وجزم العراقيون بالأول، وصححها في (الروضة)، وقال في (الكفاية): إنها أصح باتفاق الأصحاب، وهي الصواب.
هذا في غير قسمة التعديل، أما فيها .. فإنها توزع بحسب الحصص على الأصح؛ لأن العمل في الكثير أكثر.
ولو استأجروه لكتابة صك .. كانت الأجره علي قدر الحصص كما قطع به الرافعي في (كتاب الشفعة)
قال: (ثم ما أعظم الضرر في قسمته كجوهرة وثوب نفيسين وزوجي خف؛ إن طلب الشركاء كلهم قسمته .. لم يجبهم القاضي)؛ لأنه سفه، وهذا يفهم المنع إذا طلبها بعضهم من باب أولى.
ومحل الجزم بعدم الإجابه إذا عظم الضرر، وهو أن تبطل المنفعة بالكلية، أما إذا نقصت كسيف يكسر .. فالأصح أنه لا يجيبهم أيضًا.
وقوله: (زوجي خف) يريد به فردتين، يقال: عندي زوجا خف وزوجا نعل، وزوجا حمام الذكرو الأنثى وكذا كل فردين لا يصلح أحدهما إلا بالآخر، والزوج اسم للفرد منهما.
وَلَا يَمْنَعُهُمْ إِنْ قَسَمُوا بِأنْفُسِهِمْ إِنْ لَم تَبطُلْ مَنْفَعٌتُهُ كَسَيْفٍ يُكسَرُ، وَمَا يَبْطُلُ نَفًعُهُ اَلمَقْصُودُ كَحَمَّامٍ وَطَاَحُونِةٍ صَغِيرَينَ .. لَا يُجَابُ طَاِلبُ قِسْمَتِهِ فِي الأَصَحَّ، فَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ حَمَّامَيَنِ. ِ. أُجِيبَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عُشرُ دَارٍ لَا َيصلُحُ لِلسُّكْنَى وَالبَاقِي لِآخَرَ .. فَالأَصحُّ: إِجْبَاُر صَاحِبَ العُشرِ بِطَلَب صَاحِبِهِ
ــ
قال: (ولا يمنعهم إن قسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعه كسيف يكسر)؛ لإضاعه المال.
قال: (ومال يبطل نفعه المقصود كحمام وطاحونة صغيرين .. لا يجاب طالب قسمته) أي: جبرًا (في الأصح)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) رواه مالك [2/ 745] وغيره، وفي رواية:(نهي عن قسمة الضرار).
وقيل: ما لا ينتفع به بعد القسمة بوجه ما.
وقيل: ما ينقص القيمة نقصًا فاحشًا، وعلى هذين الوجهين يخرج مقابل الأصح في كلام المصنف، فيخرج بقوله:(مقصود) الوجه الثاني، وبقوله:(نفعه) الوجه الثالث الناظر للقيمة، والأصح للمنفعة، ونقصان القيمة بتبعها.
ولفظ (الحمام) تقدم أنه مذكر بلا خلاف.
و (الطاحونة): الرحى، فغلب المصنف المذكر في قوله:(صغيرين)، ولم يقل: صغيرتين.
قال: (فإن أمكن جعله حمامين) أو طاحونين (.. أجيب) أي: الطالب؛ لانتفاء الضرر.
ولو اجتاج إلى إحداث بئر ومستوقد .. أجبر أيضًا علي الأصح؛ لتيسر التدارك، وهذا يشبه الخلاف في بيع دار لا ممر لها مع إمكان تحصيله ببيع أوإجازة، لكن الصحيح هناك المنع؛ لأن شرط المبيع أن يكون منتفعًا به في الحال ولم يكن.
قال: (ولو كان له عشر دار لا يصلح للسكنى والباقين لآخر .. فالأصح: إجبار صاحب العشر بطلب صاحبه)؛ لأن الطالب ينتفع بالقسمة، وضرر صاحب العشر
دُونَ عَكسِهِ. وَمَا لَا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ فُقِسْمَتُهُ أَنَواعٌ: أَحَدُهَا: بِالأَجْزَاءِ كَمِثْليَّ، وَدَارٍ مُتَّفِقِه أَبَنِيةٍ، وَأَرْضِ مُشْتَبِهَةِ الأَجْزَاءِ، فَجُبْرُ الْمُمْتَنِعُ، .....
ــ
لا ينشأ من مجردها، بل سببه قلة نصيبه.
والثاني: المنع؛ للضرر الذي يلحقه.
قال: (دون عكسه)؛ لأنه متعنت مضيع لماله.
والثاني: يجبر؛ ليتميز ملكه.
فرع:
لأربعه أرض، لواحد نصفها ولكل من الباقين السدس، ولا ضرر في قسمتها نصفين، وفي قسمتها أسداسًا ضرر بصاحب السدس، فطلب صاحب النصف القسمة .. فالثلاثة إن شاؤوا أخذوا النصف مشاعًا، أو يأخذ كل واحد السدس، فإن شاؤؤا اخذ النصف ثم أراد بعضهم إفراز نصيبه .. لم يجب إليه، ولو طلب الثلاثة القسمة ليأخذوا النصف .. أجبر صاحب النصف النصف، قاله الإمام والروياني.
قال: (وما لا يعظم ضرره فقسمته أنواع: أحدها: بالأجزاء كمثلي) وقد فسره في (كتاب الغصب) ، ويشترط في الحبوب كونها سليمة، والنقد كونه خالصًا؛ فإن الحبوب المعيبة معدودة من المتقومات، وكذلك النقد المغشوش، ويظهر أثر ذلك فيما إذا جعلنا القسمة بيعًا.
وفي حكم المثلي: الثوب الغليظ الذي لا تنقص قيمته بقطعه، وكذا كل متساوي الأجزاء حتى اللبن المشترك في قالب واحد الأشكال، وأما المتفاوت القوالب .. ففيه الخلاف الآتي في قسمة التعديل.
قال: (ودار متفقة أبنية، وأرض مشتبهة الأجزاء، فيجبر الممتنع) ، سواء كانت الأنصباء متساوية أو متفاوتة؛ لينتفع الطالب بماله على الكمال، ويتلخص من سوء المشاركة مع أنه لا ضرر فيها علي الشريك كما لو اختلط له درهم بعشر.
والمذهب: أنه لا فرق بين أن يكون الشركاء اثنين أو أكثر فلو كانوا سته مستوين فامتنع خمسة .. أفراد للطالب السدس، والباقي مشترك بين الباقين.
فَتُعَدَّلُ السِّهَامُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا ًاوْ ذَرَعًا بِعَدَدِ الأَنْصِبَاءِ إِنِ اسَتوَت، وَيَكْتُبُ فِي كُلَّ رُقْعَةٍ اسْمَ شَرَيكٍ أَو جُزءٍ مُمَيَّزٍ بِحَدٍّ أَو جِهَةٍ، وَتُدْرَجُ فِي بَنَادِقَ مُستَوِيَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُ مَنْ لمْ يَحضُرْهَا رُقعَةً عَلَى الجُزْءِ الأوَّلِ إِنْ كَتَب الأَسمَاءَ، فَيُعطِي مَنْ خَرَجَ اسْمُهُ، أَوْ عَلَى اسْمِ زَيْدٍ إِنْ كَتَبَ الأَجْزَاءَ، .....
ــ
ولو طلبها اثنان .. قسمت أثلاثًا، لطالبي القسمة مشتركًا بينهما، والباقي مشترك بين الباقين.
ولوطلبها ثلاثة .. قسمت نصفين، وهذه تسمي: قسمة المتشابهات.
قال: (فتعدل السهام كيلًا) أي: في المكيل (أو وزنًا) أي: في الموزونات (أو ذرعًا) أي: في المذروعات كالأرض المتساوية الأجزاء.
قال: (ويكتب في كل رقعة اسم شريك أو جزء مميز بحد أو جهة، وتدرج في بنادق مستوية، ثم يخرج من لم يحضرها) ، كذا هو في النسخ بضمير مفرد، وعبارة (الروضة) و (الشرح): من لم يحضر الكتابة والإدراج، فكان ينبغي أن يقول: من لم يحضرهما، أو لم يحضر كما عبر به في (المحرر) ، والصبي والأعجمي أولى.
وقوله: (اسم شريك أو جزء) أي: إن شاء .. كتب أسماء الشركاء؛ لاخرج على السهام، وإن شاء .. كتب السهام؛ لتخرج على أسماء الشركاء.
وقوله: (مستوية) أي: وزنًا وشكلًا من الطين مجفف أو شمع، وكما تقسم بالرقاع المذكورة .. تقسم بالحصى والعصي والبعر ونحوها.
قال: (رقعة على الجزء الأول إن كتب الأسماء، فيعطي من خرج اسمه) ثم يؤمر بإخراج أخرى على الجزء الذي يليه، فمن خرج اسمه من الآخرين .. أخذه، وتعين الباقي للثالث.
قال: (أو على اسم زيد إن كتب الأجزاء) إذا كتب الرقاع أسماء الأجزاء .. أخرجت رقعة باسم زيد، ثم أخرى باسم عمرو، ويتعين الثالث للثالث، وتعيين من
فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الَانْصِبَاءُ كَنِصْفِ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ .. جُزِّئَتِ الأَرضُ عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ وَقُسِّمَت كَمَا سَبَقَ، وَيَحتَرِزُ عَنْ تَفْرِيِق
ِ حِصَّةِ وَاحِدٍ ..
ــ
يبدأ به من الشركاء والأجزاء منوط بنظر القاسم، فيقف أولًاعلى أي طرف شاء، ويسمي أي شريك شاء.
ثم إخراج الرقاع على الوجه المذكور لا يختص بقسمة المتشابهات، بل يأتي في قسمة التعديل إذا عدلت الأجزاء بالقيمة.
قال: (فإن اختلفت الأنصباء كنصف وثلث وسدس .. جزئت الأرض على أقل السهام) وهي ستة في مثالنا.
قال: (وقسمت كما سبق) هذا صريح في أنه يكتب اسم الشريك أو الجزء كما سبق، وهو خلاف ما صحح في (الروضة)؛ فإنه حكى في المسألة طريقين:
أحداهما: قولان: في قول: يثبت أسماء الشركاء والعبيد في العتق.
وفي قول: يثبت الأجزاء هنا، والرق والحرية هناك.
والطريق الثاني_ وهو المذهب، وبه قطع الجمهور_: الفرق، ففي العتق يسلك ما شاء من الطريقين، وهنا لا يثبت الأجزاء على الرقاع؛ لأنه لو أثبتها وأخرج الرقاع على الأسماء .. ربما خرج لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس، فيفرق ملك من له النصف أو الثلث. اھ
فصحح أنه لا يكتب في هذه الحالة الأجزاء على الرقاع، والجواب: أنه لا منافاة بين العبارتين؛ لأن الأصح: أن الخلاف في الأولوية، فيجوز سلوك كل من الطريقين.
قال: (ويحترز عن تفريق حصة واحد) فيكتب أسماء الشركاء في ست رقاع، لصاحب السدس رقعة، ولصاحب الثلث رقعتان، ولصاحب النصف ثلاثة، وتخرج على السهام، فإن خرج اسم صاحب السدس .. أعطي السهم الأول، ثم يقرع بين الآخرين، فإن خرج اسم صاحب الثلث .. أعطي السهم الثاني والثالث بلا قرعة، والباقي لصاحب النصف.
وإن خرج اسم صاحب النصف أولًا .. أعطي ثلاثة أسهم الأول وتالييه، ثم يقرع
الثَّانِي: بِالتَّعْدِيلِ كَأَرْضٍ تَخْتَلِفُ قِيمَةُ أَجْزَائِهَا بِحَسَبِ قُوَّةِ إِنْبَاتٍ وَقُرْبِ مَاءٍ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي الأَظْهَرِ، وَلَوِ اسْتَوَتْ قِيمَةُ دَارَيْنِ أَوْ حَانُوتَيْنِ
ــ
بين الآخرين كما تقدم، ولا تخرج السهام على الأجزاء في هذا القسم.
وقيل: يقتصر على ثلاث رقاع.
وفي (الروضة) و (أصلها): قيل: يكتب أسماءهم في ثلاث، وقيل: في ست.
قال: وليس فيه إلا أن اسم صاحب الأكثر أسرع خروجًا، وذلك لا حيف فيه؛ لتساوي السهام، فالوجه تجويز كل من الطريقين.
قال: (الثاني: بالتعديل كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة إنبات وقرب ماء)، وكذلك اختلاف الجنس كبستان بعضه نخل وبعضه عنب، ودار بعضها حجر وبعضها لبن، فإذا ساوى ثلثها لجودته ثلثيها مثلاً .. جعل الثلث سهمًا والثلثان سهمًا إن كانت بينهما نصفين، فإن اختلفت كنصف وثلث وسدس .. جعلت ستة أسهم بالقيمة لا بالمساحة.
قال: (ويجبر عليها في الأظهر)؛ لأنه لا تمكن قسمتها بلا ضرر إلا كذلك.
والثاني: لا إجبار؛ لاختلاف الأغراض والمنافع، وهذا صححه القاضي حسين والبغوي، فعلى الأول أجرة القسام توزع بحسب المأخوذ قلة وكثرة، لا بحسب الشركة على الأصح كما تقدم؛ لأن العمل في الكثير أكثر.
قال: (ولو استوت قيمة دارين) أشار بهذا إلى ثاني قسمي قسمة التعديل، فإنها تقسم إلى ما يعد شيئًا واحدًا وهو ما سبق، وإلى ما يعد شيئين فصاعدًا وهو هذا، ثم هو ينقسم إلى عقار وغيره.
قال: (أو حانوتين) أي: كبيرين، أما إذا اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة وتسمى العضائد، فطلب أحدهما أن يقسم أعيانًا .. فقيل: لا يجبر الممتنع، والأصح: يجبر للحاجة، قال مجلي: ومحلهما إذا لم تنقص بالقسمة، وإلا .. لم يجبر جزمًا.
وَطَلَبَ جَعْلَ كُلٍّ لِوَاحِدٍ .. فَلَا إِجْبَارَ، أَوْ عَبِيدٍ أَوْ ثِيَابٍ مِنْ نَوْعٍ .. أُجْبِرَ، ..
ــ
قال: (وطلب جعل كل لواحد .. فلا إجبار) سواء تجاور الداران والحانوتان أو تباعدا؛ لشدة اختلاف الأغراض بذلك، وقال مالك: يجبر عند التجاور، وقال أبو حنيفة: يجبر إن كان إحدى الدارين حجرة الأخرى.
ولو كان بينهما رية ذات مساكن، فطلب أحدهما أن يقسم جميع القرية، وطلب الآخر أن يقسم كل مسكن منها .. قسمت القرية بينهما نصفين، لكل منهما نصفها بما اشتمل عليه من مساكنه؛ لأن القرية حاوية لمساكنها كالدار الجامعة لبيوتها.
ولو كان بينهما دار لها علو وسفل، فطلب أحدهما قسمتها علوًا وسفلاً .. أجبر الآخر عند الإمكان، وإن طلب جعل العلو لواحد والسفل لآخر .. لم يجبر عليه؛ لأن العلو تابع والسفل متبوع، ولأن العلو مع السفل كدارين متلاصقين؛ لأن كلاً منهما يصلح اتخاذه مسكنًا.
قال: (أو عبيد أو ثياب من نوع .. أجبر)؛ لقلة الأغراض فيها وانتفاء الضرر، بخلاف الدور، وقيل: هي كالدور.
وقيل: يجبر في العبيد قطعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرضه ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، وأجيب عنه بأنه إنما فعل ذلك لمزية الحرية، ولا حرية هاهنا.
وعن أبي حنيفة: لا إجبار في العبيد، ولا في الخيل والإبل.
وصورة ما ذكره المصنف: إذا أمكن التسوية عددًا أو قيمة، كما صورها به في (المحرر) و (الروضة) وغيرهما كعبدين متساويي القيمة لاثنين أو ثلاثة، فإن لم تمكن التسوية كثلاثة أعبد لاثنين بالسوية وقيمة أحدهم كقيمة الآخرين، فإن أجبرنا ثّمَّ فهاهنا قولان كقول الأرض المختلفة، وإن لم ترتفع الشركة إلا عن البعض، كما في طلب أحدهما القسمة في مثالنا؛ لتخصيص من خرج له الخسيس به، ويبقى شريكًا
اَوْ نَوْعَيْنِ .. فَلَا. الثَّالِثُ: بِالرَّدِّ؛ بِأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ لَا تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، فَيَرُدُّ مَنْ يَاخُذُهُ قِسْطَ قِيمَتِهِ، وَلَا إِجْبَارَ فِيهِ، وَهِيَ بَيْعٌ،
ــ
بربع النفيس .. فالمذهب هنا عدم الإجبار.
قال: (أو نوعين) أي: وأكثر (.. فلا) كما إذا كان أحدهما هنديًا والآخر تركيًا؛ لاختلاف الغرض بذلك، وإن امتنع ذلك في النوعين .. ففي الجنسين كعبد وثوب وحنطة وشعير أولى، فينتفي الإجبار، ويقسم ذلك بالتراضي، والذي ذكره المصنف هو المذهب.
وطرد السرخسي الخلاف مع اختلاف النوع، والإمام والغزالي مع اختلاف الجنس أيضًا، وليس بشيء.
قال: (الثالث: بالرد؛ بأن يكون في أحد الجانبين بئر أو شجر لا تمكن قسمته، فيرد من يأخذه قسط قيمته) أي: قيمة البئر فتنضبط قيمة ما اختص به ذلك الطرف، ويردها من يأخذ الطرف المختص به.
مثاله: قيمة كل جانب ألف، وقيمة البئر أو الشجر ألف، فاقتسما ليرد أحدهما ما فيه البئر أو الشجر خمس مئة.
وعبارة المصنف هاهنا صواب، بخلاف عبارة (المحرر) و (الشرحين) و (الروضة)؛ ففيها أنه يضبط قيمة ما اختص به ذلك الطرف، ثم تقسم الأرض على أن يرد من يأخذ ذلك الجانب تلك القيمة، وهي عبارة ظاهرة الخطأ.
قال: (ولا إجبار فيه) أي: في هذا النوع؛ لأن فيه تمليكًا جديدًا فيما ليس مشتركًا بينهما، فكانا كغير الشريكين، ومنهم من طرد فيها خلاف قسمة التعديل.
قال: (وهي بيع) أي: قسمة الرد؛ لوجود حقيقته، وهي مقابلة المال بالمال.
وقيل: بيع في القدر المقابل للمردود فيما سواه، الخلاف في قسمة التعديل، وحيث قلنا: بيع .. تثبت فيها أحكامه من الخيارين والشفعة وغيرهما، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ البيع أو التمليك على الصحيح؛ بل يقوم الرضا مقامهما.
وَكَذَا التَّعْدِيلُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِسْمَةُ الأَجْزَاءِ إِفْرَازٌ فِي الأَظْهَرِ
ــ
قال: (وكذا التعديل على المذهب)؛ لأنها تقطع النزاع، وإنما دخلها الإجبار للحاجة كما يبيع الحاكم مال المديون.
والطريق الثاني: طرد القولين في قسمة الأجزاء.
قال: (وقسمة الأجزاء إفراز في الأظهر)؛ لأنها لو كانت بيعًا .. لما دخلها الإجبار، ولما جاز الاعتماد على القرعة.
ومعنى قولنا: (إفراز): أن القسمة تبين أن ما خرج لكل واحد منهما هو الذي ملكه.
والثاني: أنها بيع؛ لأنه ما من جزء من المال إلا وكان مشتركًا بينهما، فإذا اقتسما .. ف: انه باع كل منهما ما كان في حصة صاحبه بحصته.
وصحح الرافعي هذا في بابي (الربا) و (الزكاة)، وتبعه المصنف فيهما، وصحح في (تصحيح التنبيه) و (شرح المهذب) في (زكاة الثمار) الأول، وعبارة (المحرر): وذكر أن الفتوى عليه، وأشار بذلك إلى قول صاحب (العدة): إن الفتوى عليه، ثم قيل: القولان فيما إذا جرت بالإجبار، وإلا .. فبيع قطعًا، وصححه البغوي.
وقيل: هما في الحالتين، ثم القول بأنها بيع لا يطلق على الجميع؛ فإن النصف الذي صار بيده كان نصفه له ونصفه لصاحبه، فهي إفراز فيما كان منه له، وبيع فيما كان لصاحبه، فإذا قلنا: هي بيع .. امتنع في الربوي التفرق قبل التقابض وقسمة المكيل وزنًا وعكسه وقسمة الرطب والعنب، ويجوز جميع ذلك على الإفراز، وإنما يشترط في الإفراز إمكان القسمة.
وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ الرِّضَا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ
ــ
فرع:
الزرع لا تجوز قسمته خرصًا، وكذلك الثمار غير الرطب والعنب؛ فالأصح فيهما الجواز.
واختار لشيخ في قسمة الرطب والعنب على الشجر المنع وفاقًا للبغوي والمحاملي، قال: وإن قلنا بالإفراز؛ لأن الخرص ظن لا يعلم به نصيب كل واحد على الحقيقة.
وفي (الزكاة) جوز؛ للحاجة مع كون شركة المساكين ليست بشركة حقيقة بدليل أنه يجوز أداء حقهم من موضع آخر.
فرع:
قسمة الوقف عن الملك، إن قلنا: إنها بيع .. لا تجوز، وإن قلنا: إفراز .. جازت، واختاره الروياني والمصنف في زوائد (الروضة)، ومستندهما المصلحة، قال الشيخ: وليس هو الصحيح من مذهب الشافعي، ولا عله الفتوى ولا عمل القضاة الشافعية، وهذا حيث رد أو كان رد من أصحاب الوقف، فإن كان من المالك .. لم يجز، وأما قسمة الوقف بين أربابه .. فلا تجوز على القولين؛ لأن فيها تغير شرط الواقف.
وقيل: يجوز على الإفراز إذا قلنا: الملك في الوقف للموقوف عليه؛ ليرغبوا في العمارة ولا يتواكلوا، فإذا انقرض البطن الأول وصار للبطن الثاني .. انتقضت القسمة.
قال: (ويشترط في الرد الرضا بعد خروج القرعة)؛ لأنها بيع، والبيع لا يخرج بالقرعة، فافتقر إلى التراضي بعد خروجها.
وقال الإصطخري: لا يشترط، ويلزم من خرج له الأكثر بدل ما يقابل الزائد قياسًا على قسمة الإجبار، فإن القرعة فيها ملزمة، وضعفه الأصحاب، وفرقوا بأن هذه القسمة يُعتبر التراضي في ابتدائها، بخلاف الإجبار.
وَلَوْ تَرَاضَيَا بِقِسْمَةِ مَا لَا إِجْبَارَ فِيهِ .. اشْتُرِطَ الرِّضَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ فِي الأَصَحِّ، كَقَوْلِهِمَا: رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، أَوْ بِمَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ. وَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ غَلَطٌ أَوْ حَيْفٌ فِي قِسْمَةِ إِجْيَارٍ .. نُقِضَتْ،
ــ
قال: (ولو تراضيا بقسمة ما لا إجبار فيه .. اشترط الرضا بعد القرعة في الأصح) كما لو حكما رجلاً فحكم بينهما، والخلاف هنا كالخلاف هناك.
قال: (كقولهما: رضينا بهذه القسمة، أو بما أخرجته القرعة)، وكذا رضينا بما جرى، ولا يشترط لفظ البيع وإن جعلنا القسمة بيعًا.
وقيل: لا بد من لفظ البيع أو التمليك.
وقيل: لا يكفي قولهما: رضينا بما جرى، أو بهذا، بل لا بد من لفظ القسمة؛ ليؤدي معنى التمليك والتملك.
مهمة:
في كلام المصنف نظر من وجوه:
منها: أن الخلاف في (الشرحين) قولان.
ومنها: أنه انعكست عليه المسألة فجعل الخلاف فيما لا إجبار فيه، وهو قسمة الرد فقط، والخلاف إنما هو فيما فيه الإجبار، والظاهر أن المصنف أراد أن يكتب ما فيه إجبار فكتب: ما لا إجبار فيه، ويجوز أن تكون عبارة المصنف ما الإجبار فيه بالألف واللام، ثم تصحفت الألف واللام ألفًا.
ومنها: أنه ذكر المسألة بعينها قبل هذا من غير فصل فقال: (ويشترط في الرد الرضا بعد خروج القرعة).
ومنها: أنه مع تكراره غاير في الجواب، فجزم به أولاً، وحكى فيه الخلاف ثانيًا وجعله قويًا، وهو عكس ما في (الروضة)؛ فإنه عبر فيها بالصحيح، والمذكور في (الشرح) و (الروضة) هو الصواب، وهذا نبه عليه الشيخ برهان الدين الفزاري في اعتراضاته على الكتاب.
قال: (ولو ثبت ببينة غلط أو حيف في قسمة إجبار .. نقضت) كغيرها من
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ وَادَّعَاهُ وَاجِدٌ .. فَلَهُ تَحْلِيفُ شَرِيكِهِ،
ــ
الخصومات، فإن المدعي على الحاكم الجور في الحكم إن أقام بينة على ظلمه .. نقض.
قال الشيخ أبو حامد وغيره: وطريقه أن يحضر قاسمين حاذقين؛ لينظرا ويمسحا فيعرفا الحال ويشهدا به.
وأفهم إطلاقه (الغلط) أنه لا فرق بين الفاحض وغيره، أما إذا لم تقم بينة بذلك .. فليس له تحليف القاسم كما لا يحلف القاضي، ويغني عن البينة – كما قال أبو الفرج – ما إذا علم أنه يستحق ألف ذراع وبيده سبع مئة مثلاً.
قال: (فإن لم تكن بينة وادعاه واجد .. فله تحليف شريكه)؛ لأن له فيه غرضًا ظاهرًا، فإن نكل وحلف المدعي .. نقضت القسمة كما لو أقر، وإن حلف .. مضت على الصحة.
فرع:
في (فتاوى القفال): لو كان بين الصبي ووليه حنطة مشتركة .. لم يصح أن يقاسمه بنفسه، سواء قلنا القسمة بيع أو إفراز؛ لأنه لا يجوز أن يبيع من نفسه ولا أن يقبض من نفسه.
حادثة:
سئل ابن الصلاح عن بستان بين اثنين، أجر أحدهما حصته مشاعًا، ثم أرادا قسمته، هل تصح؟ وإذا صحت .. فكيف حكم المستأجر في انتفاعه؟ أجاب: تصح القسمة على الصحيح، ويبقى حق المستأجر على الإشاعة ولا ينحصر في حصة المؤجر. اهـ.
والذي قاله صحيح، وقضيته: أنه لا يمكن أحدهما من إحداث فواصل بين القسمين قبل انقضاء مدة الإجارة، بل يفضل بعلامة لا ينقص بها انتفاع المستأجر بجزء من الأرض.
وَلَوِ ادَّعَاهُ فِي قِسْمَةِ تَرَاضٍ وَقُلْنَا: هِيَ بَيْعٌ .. فَالأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْغَلَطِ، فَلَا فَائِدَةَ لِهذِهِ الدَّعْوَى. قُلْتُ: وَإِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ .. نُقِضَتْ إِنْ ثَبَتَ، وَإِلَاّ .. فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَلَوِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَقْسُومِ شَائِعًا .. بَطَلَتْ فِيهِ، وَفِي الْبَاقِي خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ،
ــ
قال: (ولو ادعاه) أي: الغلط وعين قدره (في قسمة تراض وقلنا: هي بيع .. فالأصح: أنه لا أثر للغلط، فلا فائدة لهذه الدعوى) كما لا أثر للغبن في البيع والشراء.
والثاني: أنها تنقض؛ لأنهما تراضيا لاعتقادهما أنها قسمة تعديل.
وقوله: (قسمة تراض) تشمل قسمة الرد وغيرها من الأنواع الثلاثة.
وقوله: (لا أثر للغلط فلا فائدة لهذه الدعوى) يجب أن يكون في غير قسمة الربوي.
قال: (قلت: وإن قلنا: إفراز .. نقضت إن ثبت)؛ لأن الإفراز لا يتحقق مع التفاوت.
وإذا نصبا قاسمًا وقلنا: لا يعتبر الرضا .. فهو الحاكم؛ لوقوع الجبر.
قال: (وإلا) أي: وإن لم يثبت (.. فيحلف شريكه والله أعلم) هذا كله إذا اعتبرنا الرضا بعد خروج القرعة، فإن لم نعتبره .. فالحكم كما إذا ادعى الغلط في قسمة الإجبار، لكن يستثنى من إطلاقه ما إذا كان المقسوم ربويًا وتحقق الغلط في كيل أو وزن .. فإن القسمة باطلة لا محالة؛ للربا، فإطلاقه محمول على غير الربوي.
قال: (ولو استحق بعض المقسوم شائعًا .. بطلت فيه، وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة) فيبطل في قول ويصح في آخر ويثبت الخيار، وهذا هو الأصح.
وقال أبو إسحاق: تبطل القسمة قولاً واحدًا؛ لأن المقصود القسمة تميز الحقوق، وبالاستحقاق يصير المستحق شريك كل واحد، قال في (المهمات): الأصحاب في هذه المسألة على ثلاثة أقسام:
أَوْ مِنَ النَّصِيبَيْنِ مُعَيَّنٌ سَوَاءً بَقِيَتْ، وَإِلَاّ .. بَطَلَتْ
ــ
منهم: طائفة لم يتعرضوا لها.
وآخرون: صححوا فيها ما صححه المصنف.
والأكثرون: ذهبوا إلى البطلان، وهو المفتى به في المذهب؛ لأن ما قاله الرافعي والمصنف في تفريق الصفقة.
قال: (أو من النصيبين معين سواء بقيت، وإلا .. بطلت) المراد: إذا استحق شيء معين فينظر: إن اختص المستحق بنصيب أحدهما أو كان المستحق من نصيب أحدهما أكثر .. بطلت القسمة؛ لأن ما يبقى لكل أحد لا يكون قدر حقه، بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعود الإشاعة.
وإن كان المستحقان من نصيبهما سواء .. ثبتت القسمة في الباقي كما جزم به المصنف، وفيه وجه آخر: أنها تبطل لمعنى التفريق.
والمراد: بطلانها في الظاهر، وإلا .. فبالاستحقاق يتبين أن لا قسمة.
لكن يستثنى من الإبطال ما قاله الشيخ عز الدين فيما إذا وقع في الغنيمة عين لمسلم أخذها منه الكفار، ولم يعلم بها إلا بعد القسمة .. فإنها ترد على صاحبها، ويعوض عنها من وقعت في نصيبه من خمس الخمس، ولا تنقض القسمة.
قال: هذا إذا كثر الجند، فإن كانوا قليلاً كعشرة مثلاً .. فينبغي أن تنقض؛ إذ لا عسر في إعادتها.
تتمة:
تنازعا بيتًا في دار اقتسماها، فكل يدعي أنه وقع في سهمه، ولا بينة .. تحالفا، ونقضت القسمة كالمتبايعين.
وقال الشيخ أبو حامد: إن اختص أحدما باليد على ما فيه النزاع .. صدق بيمينه، وهذا حكاه الماوردي عن مالك.
وإذا ادعى أحدهما القسمة وأنكرها الباقون، فإن لم تكن متعلقة بقاسم من جهة الحاكم .. فالقول قول الباقي، وإن تعلقت بقاسم القاضي .. فالرجوع إليه؛ لأنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حاكم أو شاهد، ولو قسم إجبارًا وهو على ولايته .. قبل قوله: قسمت، كقول الحاكم في حال ولايته: حكمت، وإلا .. لم يسمع قوله ولا شهادته لأحدهما على الأصح.
*
…
*
…
*
خاتمة
تقدم جماعة في أيديهم دار أو أرض أو منقول إلى القاضي، وطلبوا القسمة بغير إقامة بينة .. فالأصح عند الإمام والغزالي: أنه يجيبهم، وعند الشيخ أبي حامد وطبقته: أنه لا يجيبهم، وهذا صححه المصنف في زوائده.
قال في (المهمات): محل هذا الخلاف إذا لم يكن لهم منازع، فإن كان .. لم يجبهم قطعًا، والمسألة مخرجة على أن تصرفات الحاكم حكم أم لا؟ وقد تقدمت في (النكاح).
وإذا رهنا شيئًا وانفك نصيب أحدهما فأراد القسمة .. فهذه تقدمت في (الرهن) قبيل (فصل اختلفا في الرهن).
والمنافع تقسم بالمهايأة مياومة أو مشاهرة أو مساناة ونحو ذلك؛ لأن المنافع كالأعيان، وقد رضي المتأخر منهما بالتأخير، ويخالف المهايأة في لبن البقرة المشتركة؛ فإنه لا يجوز، لأنه ربوي مجهول، وكذلك الشجرة المثمرة لتكون ثمرتها لهذا عامًا ولهذا عامًا؛ لما فيه من الزيادة والنقصان، وطريقهما: أن يبيح كل واحد لصاحبه مدة، ونفقة العين المعتادة على ذي النوبة، وكذا المؤن النادرة كالفطرة والفصد في الأصح، وقيل: عليهما.
*
…
*
…
*
كتاب الشهادات