الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقوال السادة الشافعية:
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في «مجموعه» (1) و «أذكاره» (2) : «والصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفَعُ صَوتٌ بقراءةٍ ولا ذكرٍ ولا غيرِهما؛ لأنه أَسكنُ للخاطر، وأَجمعُ للفكر فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق ولا تغتر بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض: «الزم طرقَ الهدى ولا يغرَّكَ قلَّة السالكين، وإياك وطرقَ الضلالةِ ولا تغترّ بكثرة الهالكين» (3) ، وقد رَوَيْنا (4)
(1)«المجموع» (5/290-291) ، وسينقل كلامه الرملي في «حواشي المنهاج» ، وسيأتي ذكره قريباً عند المصنف، وانظر ما علقته، والله الموفق.
(2)
«الأذكار» (ص 145) ، والمزبور بحروفه منه.
(3)
ذكره الشاطبي في «الاعتصام» (1/135 - بتحقيقي)، وفيه: «اتبع طرق
…
ولا يضرك قلة
…
» ، وعزاه النووي في «الأذكار» (58 - ط. دار ابن كثير) إلى الحاكم.
(4)
قال عز الدين بن جماعة في «شرح الأربعين النووية» (ق5/ب) :
…
=
=
…
«الأكثر يقولون: رَوَيْنا -بفتح الراء مخففة-، مِن روى: إذا نقل عن غيره؛ مثل:
…
رمى يرمي، والأجود بضم الراء وكسر الواو مشددة؛ أي: روانا مشايخنا؛ أي: نقلوا لنا فسمعنا» .
وقال ابن المعز الحجازي: إنّ المشهور، هو: رَوَيْنا -بفتح الراء والواو مخففة-. وفي الوجهين يقول الناظم:
وقل رَوَيْنا أو رُوِّينا ضما
…
وجهان فيهما فكن مهتما
وهناك في ضبطها قول ثالث ذكر ابن علان عن الكازروني؛ وهو: بضم الراء مبنياً للمفعول مخففة؛ أي: روى لنا إسماعاً أو إقراء أو إجازة أو غيرها. انظر: «الفتوحات الربانية» (1/29) .
وقد أفرد عبد الغني النابلسي (1143هـ) ضبط هذه الكلمة في رسالة مفردة، اسمها:«إيضاح ما لدينا في قول المحدثين: روينا» ، وهي مِن محفوظات المكتبة الأحمدية بحلب، وهي تقع في خمس ورقات، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نَبِيَّ بعده وعلى آله وأصحابه، وأخص بالزيادة أتْبَاعه وأنصاره وجُنده، أمَّا بَعْدُ: فيقول (أ) شيخنا الإمام العلامة العمدة الهُمَام الفَهَّامة جَنَاب الشيخ عبد الغني الشهير نسبه الكريم بابن النابلسي الدمشقي الحنفي -عامله الله تعالى بلطفه الخفي-:
سألني الكامل الفاضل جامع الفضائل والفواضل محمد أفندي الرومي نائب الشرع الشريف في محروسته دمشق الشام، يوم الخميس، تاسع شهر ربيع الثاني من شهور سنة خمس وعشرين ومئة وألف، حين ورد بالنيابة واجتمعنا به -أحسن الله تعالى قدومه وإيابه، وأجزل ثوابه-: عن معنى قول الإمام العالم العلامة القدوة الكامل الفهامة محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي -رحم الله روحه، ونَوَّر ضريحه- في كتابه «الأربعين» ، المشتمل على أحاديث سَيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، في آخر الحديث (السابع والعشرين) من كتابه المذكور، بعد إيراد لفظ الحديث عن وابصة بن معبد رضي الله عنه، قال النووي: «حديث صحيح -وفي نسخة: حسن-، رويناه في
…
«مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» بإسناد جيد -وفي نسخة: حسن-، وصورة السؤال: أنّ قوله: «رويناه» في «مسند الإمامين» يقتضي أنّ الإمام النووي مَذْكور في=
-------------------------
(أ) القائل هنا؛ هو: محمد بن إبراهيم الدكدكجي.
= «المسند» الذي للإمامين، مع أنَّ الإمام النووي متأخر عنهما بيقين، والإمامان متقدمان ولم يجتمع بهما ولا بأحدهما، فإنَّ الإمام أحمد بن حنبل وُلد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة، ومات في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين عن سبع وسبعين سنة، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارِمي التميمي السَّمَرْقَنْدي الحافظ من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، ولد سنة إحدى وثمانين ومئة، ومات يوم التروية سنة خمس وخمسين ومئتين.
وأمَّا الإمام النووي، فإنه ولد في محرم سنة إحدى وثلاثين وست مئة، وتوفي في رجب سنة ست وسبعين وست مئة عن خمس وأربعين سنة، فقلت في الجواب عن ذلك -بعون القدير المالك-: أما قوله: رويناه في «مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» مثل قوله في أول كتابه «الأربعين» قبل الشروع فيه: «فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم» ، وهم صحابة متقدمون، وهو متأخر عنهم جداً؛ فإنه على معنى روت لنا مشايخنا؛ أي: نقلوا لنا فسمعنا؛ كما صرح بهذا شارح «الأربعين» الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر المكي الهَيْتَمي، وذكر الشارح -أيضاً- في شرح قوله:«رويناه في «مسند الإمامين» » يعني: رويناه بسندنا المتصل حالة كونه في «مسند الإمامين» ، وقال الشارح -أيضاً-: «وقوله رَوَيناه بفتح أوله مع تخفيف الواو عند الأكثر، من رَوَى إذا نقل عن غيره. وقال جمع: الأجود ضم الراء وكسر الواو المشددة؛ أي: روت لنا مشايخنا، فسمعنا عن علي بن أبي طالب
…
» إلى آخره.
وذكر الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الهمداني الفَيُّومي ثم الحموي المشهور بابن خطيب الدهشة في كتابه «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير» ، وهو شرح «الوجيز» ، تصنيف الإمام الغزَّالي في فقه الشافعية، وشرحه للإمام الرافعي -رحمهم الله تعالى-، قال:«رَوَى البعير الماء، يَرْويه مِن باب: رَمَى فهو رَاوِيَة، الهاء فيه للمبالغة، ثم أطلقت الرَّاوِيَة على كل دابَّة يُسْتَقى الماء عليها، ومنه قيل: رَوَيْتُ الحديث: إذا حَمَلْتَه ونقلتَه، ويُعَدَّى بالتضعيف، فيقال: رَوَّيْت زيداً الحديث، ويُبْنى للمفعول، فيقال: رُوِّينَا الحديث» . انتهى كلامه.
وعلى هذا؛ فإذا حمل قول النووي -رحمه الله تعالى-: فقد روينا عن علي بن أبي طالب
…
إلى آخره، بتشديد الواو مبنياً للمفعول؛ يعني: رَوَّانا مشايخنا ذلك -بتشديد الواو-= =بأن كان الشيخ الأول رَوَّى -بتشديد الواو- مَنْ بَعْده، والذي بعده رَوَّى -بتشديد الواو- مَنْ بعده إلى آخر شيخ هو روَّانا -بتشديد الواو-، فعلى هذا؛ يُقْرأ قوله: فقد رُوِّينَا بضم الراء وتشديد الواو مكسورة وضم الهاء مبنياً للمفعول، ولا يختلف رسم الكتابة في ذلك.
وأمّا قوله: بإسناد جيد أو حسن، بعد قوله: رويناه في «مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» فالجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال من الهاء في قوله: رويناه، كما أنّ قوله: في «مسند الإمامين» ، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال -أيضاً- من الهاء في قوله: رويناه، كما أشار إليه الشارح فيما قدمناه، فيكون الحالان من الهاء الضمير المنصوب بالمفعولية الثانية لرَوَّى -مشدد الواو-، والمفعول الأول: نا، التي هي ضمير المُعَظِّم نفسه بشرف الرواية، أو هو ومعه غيره من أصحابه، وهذه الحال متداخلة، وتقدير ذلك: رُوِّيناه حال كونه في «مسند الإمامين» ، وحال كونه وهو من «مسند الإمامين» حاصلاً بإسناد جيد. ويصح أن يكون الجار والمجرور الثاني وهو قوله:«بإسناد جيد» متعلقاً بقوله: حديث صحيح، إمَّا بحديث، وإما بصحيح، وليس هذا الجار والمجرور الأول متعلقاً برويناه؛ لأنّ إسناده هو لم يُرِد الإخبار عنه بأنه جيد، ولم يرد ذكره، وإنما أراد بالإسناد الجيد: إسناد الإمام أحمد والدارمي، يدل عليه قول الشارح المذكور: فإنْ قلتَ: ما حِكْمة قول المصنف أولاً: حديث صحيح، وقوله هنا: بإسناد جيد؟ قلت: حكمته: أنه لا يلزم من كون الحديث في «المسندين» المذكورين أن يكون صحيحاً، فبين أولاً بأنه صحيح، وثانياً: أنّ سبب صحته أن إسناد هذين الإمامين الذين أخرجاه صحيح أيضاً، وله حكمة أخرى حديثية؛ وهي: ما صرحوا به أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، فقد يصح فيه السند أو يحسن؛ لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن؛ لشذوذ فيه أو علة، فنص المصنف أولاً: على صحة المتن بقوله: «هذا حديث صحيح» ، وثانياً: على صحة السند بقوله: «بإسناد جيد» إلى آخر ما بسطه من الكلام في هذا المقام.
والحاصل: أنّ قول الإمام النووي رحمه الله هنا: روَيناه -بفتح الواو وتخفيفها- مبنياً للفاعل؛ يعني: روينا عن مشايخنا أو بإسنادنا هذا الحديث الكائن في «مسند الإمامين» المذكور ثمة بإسناد جيد، أو معناه: رُوِّيناه -بتشديد الواو- مبنياً للمفعول؛ أي: رَوَّى -بتشديد الواو- هذا الحديث لنا مشايخنا الكائن ذلك الحديث في «مسند الإمامين» ، كما أن قوله: فقد رَوَيْنا -بتخفيف الواو مفتوحة- والبناء للفاعل؛ أي: روت لنا مشايخنا بإسناد متصل عن علي بن أبي طالب
…
إلى آخره، أو معناه: رُوِّينا -بتشديد الواو مكسورة- مبنياً= =للمفعول؛ أي: رَوَّتْنا -بتشديد الواو مفتوحة- مشايخنا عن علي بن أبي طالب
…
إلى آخره، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة في الخامس عشر من ربيع الثاني سنة خمس وعشرين ومئة وألف على يد العبد الفقير محمد بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن الدكدكجي الدمشقي الحنفي -لطف الله به والمسلمين-، وذلك في مجلس واحد، ونقلتها مِن خط مؤلفها شيخنا الإمام الهمام العلامة -نفعنا الله تعالى والمسلمين ببركاته، وأمدنا بصالح دعواته-.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين» .
قال أبو عبيدة: انتهت الرسالة النافعة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
في «سنن البيهقي» (1)
(1) يشير إلى ما أخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 211) -وعنه ابن أبي شيبة (4/99)، ومن طريق وكيع: البيهقي في «السنن الكبرى» (4/74) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/91) - وابن المنذر في «الأوسط» (5/389 رقم 3056) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، كلاهما قال: حدثنا هشام صاحب الدستوائي، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز، وعند القتال، وعند الذكر.
وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (83 رقم 247) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/58) من طريق هشام، به. ومن طريقه عند أبي داود (3/114) ، والحاكم (2/116) مختصراً مقتصراً على ذكر القتال، ورجاله ثقات، وهذا أصح ما ورد في الباب.
ومما جاء في ألفاظ حديث البراء الطويل: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فانتهينا إلى القبر، فجلس وجلسنا، كأنَّ على رؤوسنا الطير» أخرجه ابن ماجه (1549) بسند حسن، وتتمة تخريجه في غير هذا الموطن، وتكلمت عليه بإسهاب في تعليقي على «التذكرة» للقرطبي، يسر الله إتمامه وإخراجه.
وفي الباب عن ابن عباس، قال:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد جنازة رُئِيَتْ عليه كآبة، وأكثر حديث النفس» أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/106 رقم 11189) ، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، كما في «المجمع» (3/29) .
=
…
وفي الباب عن عبد العزيز بن أبي رواد رفعه، عند ابن المبارك في «الزهد» (رقم 244) ، وعن عمران بن الحصين، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شيع جنازة علاه كرب، وأقلّ الكلام، وأكثر حديث النفس. أخرجه الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (1/203) ، وتفرد به المعلى ابن تُركة، وليس بالقوي، أفاده الدارقطني.
وعن زيد بن أرقم رفعه: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث:
…
وعند الجنازة» . أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/213 رقم 5130) ، وفي إسناده رجل لم يسم، قاله الهيثمي في «المجمع» (3/29) .
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم 26 - بتحقيقي) من طريق أبي النضر، وأبو داود في «المراسيل» (ص 308) من طريق مسكين بن بكير، كلاهما عن المسعودي، عن عون بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع جنازة، عَلَتْهُ كآبة، وأكثر حديث النفس، وأقلّ الكلام.
إسناده ضعيف؛ لإرساله. ورجاله ثقات، أبو النضر هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي، ثقة فقيه، لقبه قيصر، وسماعه وسماع مسكين من المسعودي بعد اختلاطه، والمسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، ترجمته في «تهذيب الكمال» (17/219) ، وعون بن عبد الله هو ابن عتبة بن مسعود الهُذلي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة عابد، تابعي، مات قبل سنة عشرين ومئة.
وأخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 206) ، وعنه ابن أبي شيبة (4/98) ، وعبد الرزاق (3/453 رقم 6282) ، كلاهما في «المصنف» عن ابن جريج، قال: حُدِّثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تبع الجنازة أكثر السُّكات، وأكثر حديث نفسه. لفظ عبد الرزاق.
ولفظ ابن أبي شيبة: «أكثر السكوت، وحدث نفسه» .
وهذا معضل.
ووصله أبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (1/166) من طريق الثوري وابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تبع جنازة، أكثر السكات، والتفكر حتى يعرف ذلك فيه» ، ورجاله ثقات، إلا أن فيه أبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، مدلس، وقد عنعن.
ما يقتضي
ما قلتُه، وأما ما يفعله الجهلةُ من القراءة بالتَّمطيط، وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحتُ قُبحَه، وغِلَظَ تحريمه، وفسقَ من تمكن من إنكاره فلم ينكرْه في كتابي «آداب القراء» (1)
(1) يريد كتابه «التبيان في آداب حملة القرآن» ، ويشير إلى ما جاء فيه (ص 56 - ط. دار ابن كثير) ، وسيأتي الكلام برمته (ص 110-111) .
ونقله شيخنا الألباني في «أحكام الجنائز» (ص 92)، وقال قبله مؤكداً بدعة رفع الصوت بالذكر أمام الجنازة: «ولأنَّ فيه تشبُّهاً بالنصارى، فإنَّهم يَرْفَعُون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين.
وأقبح من ذلك تشييعُها بالعزف على الآلات الموسيقية أمامها عزفاً حزيناً، كما يُفعل في بعض البلاد الإسلامية تقليداً للكفار، والله المستعان» .
ا. هـ» ، ونحوه لشيخ الإسلام في «شرح الروض» (1)، وقال الرملي وغيره في «حواشي المنهاج» (2) :«المختار والصواب (3) ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير [مع الجنازة] (4) ، فلا يُرفعُ صوتٌ بقراءة، ولا ذكر، ولا غيرهما، بل يُشتَغَلُ بالتفكر في الموت وما بعده، وفَناءِ الدنيا وأن هذا آخرُها، ومن أراد الاشتغال بالقراءة والذكر فليكن سرّاً (5) ، وما يفعله جهلةُ القرَّاء من القراءة بالتمطيط، وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام، يجب إنكارُه (6) والمنعُ منه، ومن تمكَّن من منعه، ولم يمنعه فسق» ، وقال ابن حجر في «شرح المنهاج» (7) : «ويكره اللغط -وهو: رفع الصوت- ولو بالذكر أو القراءة في المشي مع الجنازة؛ لأنّ الصحابة رضي الله عنهم كرهوه حينئذ، رواه البيهقي (8) ،
(1) نقل الشيخ زكريا الأنصاري في «شرح روض الطالب» (1/312) كلام النووي السابق إلى قوله: «وهو المطلوب في هذا الحال» .
(2)
(3/23) من «نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج» ، وفي المطبوع:«حواشي المنهج» ! وللرملي «حواشٍ» على مطبوع «شرح روض الطالب» ! والكلام المذكور ليس فيه، وإنما هو في «النهاية» .
(3)
بعدها في «النهاية» : «كما في «المجموع» » .
(4)
لا وجود لها في «نهاية المحتاج» .
(5)
في «نهاية المحتاج» : «ويسنّ الاشتغال
…
سراً» .
(6)
أي: وليس ذلك خاصاً بكونه عند الميت، بل هو حرام مطلقاً؛ أي: عند غسله وتكفينه ووضعه في النعش، وبعد الوصول إلى المقبرة إلى دفنه، ومنه ما جرت به العادة الآن من قراءة الرؤساء ونحوهم، أفاده الشبراملسي في «حاشيته على نهاية المحتاج» (3/23) ، = =وعبد الحميد الشرواني وأحمد بن القاسم العبادي في «حاشيتيهما على تحفة المحتاج» (3/187، 188) .
(7)
(3/187-188 - مع «حواشي الشرواني والعبادي» ) .
(8)
يشير إلى ما خرجناه بالتفصيل قريباً من قول قيس بن عُباد، فانظره -غير مأمور- (ص 11) ..
وكره الحسن وغيره: استغفروا لأخيكم (1) ،
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/274) .
ونقل مذهب الحسن: البيهقي في «سننه» (4/74) ، وابن قدامة في «المغني» (2/476) ، وابن المنذر في «الأوسط» (5/389) ، والنووي في «المجموع» (5/291) ، وشيخه أبو شامة المقدسي في «الباعث» (ص 275) ، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (ص 254) .
وانظر «موسوعة فقه الحسن البصري» (2/858-859) .
وأسند البيهقي في «السنن الكبرى» (4/74) و «الشعب» (رقم 9277) إلى الأسود ابن شيبان، قال: كان الحسن في جنازة النضر بن أنس، فقال الأشعث بن سليم العجلي: يا أبا سعيد! إنه ليعجبني أن لا أسمع في الجنازة صوتاً، فقال: إن للخير أهلين.
وأخرج عبد الرزاق (3/439 رقم 6241، 6242) وابن أبي شيبة (3/274) في «مصنفيهما» ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (5/141) بسندٍ صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه قال في مرضه:«إياك وحاديهم، هذا الذي يحدو لهم، يقول: استغفروا الله، غفر لكم» .
وذكره عنه: البيهقي في «سننه» (4/74) ، والذهبي في «السير» (4/244) ، وأبو شامة في «الباعث» (275) ، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (253) .
وقال ابن المنذر في «الأوسط» (5/389-390) : «وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له، = =قال عطاء: محدثة، وقال الأوزاعي: بدعة، وقال النخعي: كانوا إذا شهدوا جنازة، عرف ذلك فيهم ثلاثاً» .
وقال (5/390) : «ونحن نكره من ذلك ما كرهوا» .
ولذا اقتصر في كتابه القيم «الإقناع» (1/175) على قوله: «ويكره رفع الصوت عند حمل الجنائز» ، وقال النووي في «المجموع» (5/290) :«وقد أفرد ابن المنذر في «الإشراف»
…
باباً في هذه المسألة» . قلت: لا توجد في القسم المطبوع منه، وهو ناقص، ولا قوة إلا بالله.
وأما الكراهية عن سعيد بن جبير، فقد أخرج وكيع في «الزهد» (2/463 رقم 212) ، وعبد الرزاق (3/439-440 رقم 6243) ، وابن أبي شيبة (4/97) عن سعيد بن جبير، أنه كره رفع الصوت عند الجنازة. وإسناده صحيح. وذكرها البيهقي في «سننه» (4/74) .
وأما كراهة الحسن وابن المسيب، فقد تقدم تخريجها عنهما.
وأما كراهة النخعي، فقد أخرجها ابن أبي شيبة (3/273) ، وذكرها البيهقي (4/74) .
وأما قوله: «كانوا إذا شهدوا جنازة
…
» فقد أخرجها وكيع في «الزهد» (رقم 207) -ومن طريقه أحمد في «الزهد» -أيضاً- (365) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/227-228) - وابن أبي شيبة (7/208) ، وعبد الرزاق (3/453 رقم 6283) في «مصنفيهما» ، وابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم 30 - بتحقيقي) ، وابن المبارك (رقم 246) ، وأحمد (365) ، كلاهما في «الزهد» ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/228) ، وهو صحيح عنه.
وحكاه أبو شامة في «الباعث» (253) ، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (275) نحوه عن الفضيل بن عياض قوله.
وأخرج ابن أبي شيبة (3/273) عن عطاء، أنه كره أن يقول: استغفروا له، غفر الله لكم، وذكر مذهبه: النووي في «المجموع» (5/291) ، وابن قدامة في «المغني» (2/479)، وذكر كراهية إسحاق: أبو شامة في «الباعث» (275) ، وتلميذه النووي في «المجموع» (5/291) ، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (254) .
وأما كراهية أحمد، فستأتي -قريباً- عند المصنِّفَيْن، تحت عنوان:(أقوال السادة الحنابلة) .
وأما مذهب الأوزاعي، ففي «المجموع» (5/291) ، و «المغني» (2/479) ، و «فقه= =الإمام الأوزاعي» (1/320) .
وأخرج البيهقي في «الشعب» (7/11-12 رقم 9276) بسنده أن ابن عيينة سئل: ما بال الناس يؤمرون في الجنازة بالسكوت؟ قال: لأنه حشر. ووجدته -بعد- مطولاً عند ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم 58 - بتحقيقي) .
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم 57) عن الأعمش، قال:«أدركت الناس إذا كانت فيهم جنازة، جاؤوا فجلسوا صموتاً لا يتكلمون، فإذا وضعت نظرتُ إلى كل رجل واضعاً حبوته على صدره، كأنه أبوه أو أخوه أو ابنه» .
وأسند -أيضاً- برقم (56) عن أبي قلابة، قال: كانوا يعظّمون الموت بالسكينة.
وأسند برقم (39) إلى سلام بن أبي مطيع، قال: شهدتُ قتادة في جنازة، فلم يتكلم حتى انصرف، وشهدت الجريري في جنازة، فلم يزل يبكي حتى تفرّق القوم، وشهدت محمد ابن واسع في جنازة، فلم يزل واضعاً أصبعه السبابة على نابه، مقنَّع الرأس، مطرقاً ما يلتفت يميناً ولا شمالاً حتى انصرف الناس، وما يشعر بهم.
وأسند برقم (40) -أيضاً- إلى قتادة، قال: شهدتُ خليداً العصري في جنازة، مقنَّع رأسه، لم يتكلم حتى دفن الميت، ورجع إلى أهله.
ومن ثَمَّ قال ابن عمر رضي الله عنهما لقائله: «لا غفر الله لك» (1) : بل يسكت متفكراً في الموت وما يتعلق به وفناءِ الدنيا، ذاكراً بلسانه سراً لا جهراً؛ لأنه بدعة قبيحة» .
وفي «المجموع» (2) عن جمع من الصحابة (3) ،
(1) ذكره أبو شامة في «الباعث» (276 - بتحقيقي) عن ابن عمر، وعلق عليه بقوله:«وإنما كره ذلك: لما فيه من التشويش على المشيّعين، الموَفَّقين المفَكِّرين في أحوالهم ومعادهم» .
قال أبو عبيدة: فإباية ابن عمر وإنكارُه عليه ليس من جهة أصل الدعاء، ولكن من جهة أخرى؛ وهي التشويش والجهر، أو أن يُعتقد أنه سنة تُلزم، أو تجري في الناس في مجرى السنن اللازمة، أو أن يُعتقد في الداعين أمر زائد، أو أنه وسيلة إلى أن يُعتقد فيهم أنهم مجابوا الدعوة، ولذا أنكر جمع من السلف من الصحابة ومَنْ بعدهم على من طلب وألح في الدعاء لهم، كما تراه في «الاعتصام» للشاطبي (2/315-319) ، و «تالي التلخيص» للخطيب (رقم 115) ، و «المجالسة» (4/71-72) وتعليقي عليها، وانظر:«تفسير القرطبي» (9/287)(الرعد: 8) ، «الحكم الجديرة بالإذاعة» (ص 54-55) لابن رجب، «قاعدة جليلة» (ص 71 - ط. الشيخ ربيع) ، «إعلام الموقعين» (5/8 - بتحقيقي)«معجم المناهي اللفظية» = = (ص 38 - ط. الأولى) و «تصحيح الدعاء» (226) كلاهما للشيخ بكر أبو زيد.
وأما أثر ابن عمر، فسيأتي معزواً لـ «سنن سعيد بن منصور» ، وهو ليس في القسم المطبوع منه، إذ هو ناقص.
(2)
(5/291) ، والمذكور عند المصنف بفحواه ومعناه، دون نصِّه ومبناه.
(3)
أورد النووي أثر قيس بن عُباد، المتقدم ذكره وتخريجه (ص 11) .
وأثر الحسن البصري: قال: «وذكر الحسن البصري عن أصحاب رسول الله S أنهم يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند قراءة القرآن، وعند القتال» .
قلت: أخرجه عبد الرزاق (3/453 رقم 6281) -ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (5/389 رقم 3057) - عن معمر، عن الحسن بنحوه. وفي رواية عند ابن أبي شيبة (3/272) من طريق علي بن زيد -وهو ضعيف- عن الحسن مرسلاً، وإسناده ضعيف.
ومما يساعد عليه: ما أخرجه ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم 31 - بتحقيقي) ، والبيهقي في «الشعب» (7/11 رقم 2973) عن ثابت البناني، قال: إن كنا لنتبع الجنازة، فما نرى إلا متقنعاً باكياً، أو متقنعاً مفكراً. وثابت أدرك أنساً وغيره.
ويشوش على هذا: ما أخرجه عبد الرزاق (3/440 رقم 6244) -ومن طريقه ابن المنذر (5/390 رقم 3058) - بسنده إلى عكرمة مولى ابن عباس، قال: توفي ابن لأبي بكر، كان يشرب الشراب، قال أبو هريرة: استغفروا له، فإنما يستغفر لمسيء عمله.
والجواب عليه من وجهين:
الأول: في سنده الحكم بن أبان فيه كلام، وهو من رجال «الميزان» (1/569) .
والثاني: قال ابن المنذر: «قد يجوز أن يكون معنى قول أبي هريرة صياحهم: استغفروا له، فيما بينكم وبين أنفسكم، خلاف البدعة التي أحدثها الناس من رفع الصوت بالاستغفار» !