الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأين الحال من الحال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فيجب على من له عقل أن لا ينظر إلى أفعال أكثر أهل الوقت، ولا لعوائدهم، فالسعيد من نبذ هذه العوائد المبتدعة، وشد يده على أتباع السلف؛ فهم القوم لا يشقى من اتبعهم، ولا من أحبهم، (إن المحب لمن يحب مطيع) ، ولقد أطال رحمه الله في التشنيع على ما يقع من بعض الناس، من رفع الصوت بالذكر ونحوه أمام الجنائز ا. هـ» (1) .
أقوال السادة الحنابلة:
قال في «دليل الطالب» (2) و «شرحه» (3) : «ويكره رفع الصوت، والصيحة معها، وعند رفعها [-يعني: الجنازة-] (4) ، ولو بالذِّكر والقرآن، [بل يسنُّ الذِّكر والقرآن سراً] (5) ، ويسنُّ لمتَّبعها أن يكون متخشِّعاً متفكِّراً في مآله، متَّعظاً بالموت وبما يصير إليه الميت، وقول القائل مع الجنازة: (استغفروا [الله] (6) له) ونحوه، بدعة عند الإمام أحمد، وكرهه وحرمه أبو حفص، ويحرم أن يتبعها مع منكر وهو عاجز عن إزالته» ا. هـ.
(1) وممن نص على كراهية ذلك -أيضاً-: الشيخ الدردير في «الشرح الكبير» (4/423)، فذكر من المخالفات:«وقول -أي: متبعي الجنازة-: استغفروا لها» ، قال الدسوقي:«وذلك كما يقع بمصر، يمشي رجل قدام الجنازة، ويقول: هذه جنازة فلان استغفروا له» ، وفي «تقريرات عليش» تعليل لذلك، فقال:«لمخالفة السلف» .
(2)
(ص 62 - ط. الأولى عن المكتب الإسلامي) وعليه «حاشية العلامة الشيخ محمد بن مانع» .
(3)
المسمى «نيل المآرب» (1/229-230) .
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة توضيحية من المصنِّفَيْن.
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، وأثبته من «نيل المآرب» .
(6)
ما بين المعقوفتين زيادة من المصنِّفَيْن.
وقال في «الإقناع» (1) و «شرحه» (2) للشيخ منصور الحنبلي: (ويكره رفع الصوت والضجة عند رفعها) ؛ لأنه محدث، (وكذا) رفع الصوت (معها) -أي: مع الجنازة- (ولو بقراءة أو ذكر) ؛ لنهي (3) النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع الجنازة بصوت أو نار. رواه أبو داود (4) ، (بل يسنُّ) القراءة والذِّكر (سرّاً) ، وإلا الصمت. ا. هـ.
(1)(1/405)(منهما) .
(2)
المسمى «كشاف القناع» (2/130) .
(3)
في المطبوع: «لقول» ، والمثبت من «كشاف القناع» .
(4)
أخرجه أبو داود (3171) ، وأحمد (2/427، 528، 532) ، والبيهقي (3/394-395) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (1504) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُتْبع الجنازة بنار ولا صوت» . وإسناده ضعيف. والحديث حسن لغيره؛ لشواهده. وصح ذلك موقوفاً، وهذا البيان:
أخرج مالك (1/226) بسند صحيح عن أبي هريرة، أنه نهى أن يُتْبع بعد موته بنار.
وأخرج مسلم (121) عن عبد الله بن عمرو قوله: «فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار» .
وفي الباب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يتبع الميت صوتٌ أو نارٌ.
أخرجه أبو يعلى (2627) . وفيه عبد الله بن المحرّر، منكر الحديث، وتحرف اسمه= =على الهيثمي في «المجمع» (3/29) فلم يعرفه!!
وفي الباب عن ابن عمر، أخرج أحمد (2/92) ، وابن ماجه (1583) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/484) ، والطبراني (13484، 13498) عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُتْبع جنازة معها رَنَّة. وإسناده ضعيف.
قال السندي: « (رَنَّة) بفتح راء وتشديد نون: صوت مع بكاء، فيه ترجيع، كالقلقلة واللقلقة» .
وورد بلفظ: «فيها صارخة» عند ابن حبان في «المجروحين» (1/254) ، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/225) . ونحوه في «الحلية» (6/66) من طريق آخر عنه، ولكن الأسانيد الواردة في ذلك ضعيفة جداً.
وقال في «المنتهى» (1) و «شرحه» (2) : (و) كره (رفع الصوت معها) -أي: الجنازة- (ولو بقراءة) أو تهليل؛ لأنه بدعة، وقول القائل مع الجنازة: استغفروا له ونحوه بدعة. وروى سعيد بن عمر (3) وسعيد بن جبير، قالا لقائل ذلك: لا غفر الله لك (4) ا. هـ.
هذا ما أردنا نقله باختصار من كتب المذاهب الأربعة.
وقد اطّلعنا على رسالة «تحفة الأبصار والبصائر في بيان كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر» ، و «رسالة فتاوى أئمة المسلمين بقطع لسان المبتدعين» الموافقتين لما أتينا به في هذا الموضوع، مِن منع رفع الصوت مع الجنائز، لمؤلِّفهما العلامة المفضال الشيخ محمود محمد خطاب السُّبكي (5)
(1)(1/422 - على هامش «شرح الإقناع» )(منهما) .
قلت: وانظره (1/164 - تحقيق عبد الغني عبد الخالق) .
(2)
انظر: «إرشاد أولي النهى لدقائق المنتهى» (1/366) ، «غاية المنتهى» (1/264) ، «حاشية ابن قائد على المنتهى» (1/421) .
وانظر عن (شروح «المنتهى» ) : «المدخل المفصل» (2/780-784) للشيخ العلاّمة بكر أبو زيد -حفظه الله وعافاه-.
(3)
كذا في المطبوع! وصوابه: «ابن منصور» .
(4)
مضى تخريجه في التعليق على (ص 14، 15، 16) .
(5)
ولد في (سبك الأحد) من قرى (أشمون) ، بالمنوفية، وتعلّم بالأزهر، كبيراً، ودرّس فيه، وأسس الجمعيّة الشرعية، وترأسها من سنة (1331هـ) إلى (1352هـ) ، وتوفي بالقاهرة، له كتب عديدة؛ أشهرها:«الدين الخالص» ويسمى «إرشاد الخلق إلى دين الحق» ، «أعذب المسالك المحمودية» ، «هداية الأمة المحمودية» (خطب منبرية) ، «المنهل العذب المورود» .
انظر ترجمته في: «الأعلام الشرقية» (1/406-408 ترجمة 504) ، «مجلة الفتح» (20/ربيع الأول/سنة 1352هـ) ، «مجلة الإسلام» العدد (12) ، السنة الثانية، «الأعلام» (7/186) ، «الدين الخالص» (7/434-439) له، «معجم المطبوعات العربية» (1005) .
المدرس بالقسم العالي بالجامع الأزهر، وفيهما تقاريظ وفتاوى جمع غفير مِن كبار علماء الأزهر وشيوخه؛ منهم: شيخ الإسلام الشيخ سُليم البِشْري (1) المالكي، وشيخ الإسلام الشيخ حَسُّونَة النَّواوي (2)
(1) هو الشيخ سليم البِشْري ابن السيد أبي فراج سليم، المالكي المذهب، شيخ الجامع الأزهر (وهو الشيخ الرابع والعشرون) ، وشيخ المالكية، ولد سنة 1248هـ - 1832م في محلة (بشر) بمديرية البحيرة، ونشأ بها، وتلقى العلم على كبار علماء عصره، كالشيخ عُلَيش، والباجوري، وغيرهما، وكان واسع الاطلاع في علوم السنة، توفي في شهر ذي الحجة سنة 1335هـ - 1917م، له «تحفة الطلاب بشرح رسالة الآداب» ، «شرح نهج البردة لشوقي» ، «حاشية على رسالة الشيخ عليش في التوحيد» ، «المقامات السنية في الرد على القادح في البعثة النبوية» .
انظر ترجمته في «الأعلام الشرقية» (1/313-314) ، «الكنز الثمين» (1/106) ، «مرآة العصر» (2/465) ، «الأعلام» (3/119) .
(2)
هو الشيخ حَسُّونة بن عبد الله النّواوي الحنفي، شيخ الجامع الأزهر (وهو الشيخ الثاني والعشرون من شيوخ الأزهر) ، ولد في (نواي) من قرى (أسيوط) مصر، وتعلم في الأزهر، وفي عهده وضع للجامع الأزهر نظامات ولوائح، ورتب شؤون رواتبه، وأدخل بعض العلوم؛ كالحساب، والهندسة، والجبر، وتقويم البلدان، توفي سنة 1343هـ - 1924م، وله كتاب «سلم المسترشدين لأحكام الشريعة والدين» في ثلاثة أجزاء.
…
=
=
…
انظر ترجمته في: «الأعلام الشرقية» (1/301 رقم 402) ، «مرآة العصر» (190) ، «تاريخ الأزهر» (156) ، «مجلة الزهراء» (2/485) ، «الأعلام» (2/229) .
الحنفي، وشيخ الإسلام الشيخ محمد أبو الفضل الجِيزَاوي (1) المالكي، وشيخ شيوخ السادة الشافعية الشيخ محمد البحيري، ومفتي الديار المصرية سابقاً الشيخ محمد بَخِيت المطيعي (2) ،
(1) ولد سنة 1264هـ - 1487م في بلدة وراق الحضر التابعة للجيزة، ونشأ بها، وتلقى العلم على كبار علماء عصره، (وهو الشيخ السابع والعشرون في شيوخ جامع الأزهر) ، وكان واسع االاطلاع في العلوم العقلية والنقلية والفلسفية، توفي سنة 1346هـ - 1927م، له «رسالة في البسملة وحديثها المشهور» ، «تقرير على كتاب ابن الحاجب في الأصول» ، «الطراز الحديث في مصطلح الحديث» .
انظر ترجمته في: «الأعلام الشرقية» (1/355-356 رقم 463) ، مجلة «كل شيء والعالم» (رقم 206) ، وجريدة «الأهرام» ، سنة 1927م، مجلة «الفتح» (22/محرم/سنة 1346) ، «الكنر الثمين» (112) ، «الأعلام» (6/330) .
(2)
هو الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي الحنفي، مفتي الديار المصرية، ومن كبار فقهائها، ولد سنة 1271هـ - 1854م في بلدة (المطيعة) من أعمال أسيوط، وتعلم في الأزهر، واشتغل بالتدريس فيه، توفي بالقاهرة سنة 1354هـ - 1935م، له كتب كثيرة؛ منها:«أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام» ، «الكلمات الحسان في الأحرف السبعة وجمع القرآن» ، «الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية» .
انظر ترجمته في: «الأعلام الشرقية» (2/497-499 رقم 416) ، «مجلة الرسالة» (3/1757) ، «مرآة العصر» (2/467) ، «تاريخ الأزهر» (172) ، «قطرة من مداد الأعلام المعاصرين والأنداد» لمحمد لطفي جمعة (275-280) ، «الفتح المبين في طبقات الأصوليين» (3/181) ، «الفكر السامي» (4/38) ، «الكنز الثمين» (118) ، «الأعلام» (6/50) .
وشيخ السادة الحنبلية الشيخ يوسف النابلسي (1) ، فهل بعد هذه النصوص، وبعد اتفاق علماء المذاهب الأربعة في الديار المصرية يبقى ريب لمستريب؟ وهل يصح مِن عاقل أن يقول بجواز رفع الصوت مع الجنازة؟ وهل يلتفت لقول مَن قال: إنّ ترك التهليل بالجهر مع الجنازة يعدُّ إزراءً بالميت وتعريضاً للتكلم فيه وفي ورثته؟ وهل يليق بمؤمن أن يتوهم أنّ الفعل الموافق لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح يكون فيه إزراء بالميت وورثته؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، ولسنا ندري ما الّذِي حمل الأُستاذ الجزار وتلميذه خزيران على مخالفة مذهبهما ومذاهب بقية الأئمة، فهل هو الجهل؟ لا نعتقد ذلك؛ لأنّ مَن مضى عليه عشراتٌ مِن السنين في مقام الإفتاء لا تخفى عليه مسألة بسيطة (2)
(1) هو المترجم في «أعيان دمشق» (ص 301-302) للشيخ محمد جميل الشّطي.
(2)
استخدام (البساطة) و (التبسيط) بمعنى (التسهيل) من الأخطاء الشنيعة، وقولهم: مسألة بسيطة، هذا شيء بسيط، تكلم ببساطة، وهذا لا يعتقده إلا البسطاء، خطأ، قال صاحب «اللسان» :«ورجل بسيط: منبسط بلسانه، وقد بسطه بساطة. الليث: البسيط: المنبسط اللسان، والمرأة بسيط، ورجل بسيط اليدين: منبسط بالمعروف، وبسيط الوجه: متهلل، وجمعها: بسط» .
قلت: فقد رأيت أن (البساطة) لا تدل على ما يريد المؤلفان بها، وذلك بعيد عن استعمال العرب، بل هو ضده؛ لأنَّ البسيط في اللغة، هو الواسع، ومن أجل ذلك سميت الأرض (البسيطة) ؛ لسعتها.
وأصل هذا الخطأ، آت من اصطلاح الأطباء في تسميتهم الدواء الذي هو من مادة واحدة (بسيطاً) ، ويقابله (المركب) الذي يتألف من أجزاء، كل جزء من مادة، وقد استعمله الفلاسفة -أيضاً-، فقسموا الجهل إلى قسمين:(جهل بسيط) ، و (جهل مركب)، والأول: أن يكون الشخص جاهلاً، ويعلم أنه جاهل. وقولهم:(بسيط)، و (بساطة) ترجمة للكلمة الأجنبية (Simple) ؛ يراد به: شيء سهل غير مركب، غير معقد، وأخذ منه كثير من الناس (بسّطه) -بتشديد السين-: جعله بسيطاً؛ أي: سهلاً غير معقد، أو قليلاً، أو حقيراً، وكل ذلك خطأ شهير، وضلال مبين.
انظر «تقويم اللسانين» (ص 32-34، 125-126) للدكتور محمد تقي الدين الهلالي.
مذكورة في «مراقي الفلاح» (1) و «حواشيه» (2) ، وهو أول كتاب يقرأ في فقه السادة الحنفية، والذي يغلب على الظنّ أنّ الحامل لهما على ذلك، هو بغية المحافظة على مكانتهما الوهمية بين العامة؛ حذراً مِن أنْ ينفر منهما رعاعُ الناس، الذين اتخذوا الدين متجراً، لو أفتيا بالحق الذي يصادم منفعة أولئك المبتدعين، فليتقوا الله، وليقولوا قولاً سديداً، وهنا نبدأ برد ما قال.
قال في رده حكم العلامة الزنكلوني ما معناه: إنه يجب على المفتي أن يكون جوابه في المسألة بعد تأمله في الحجج التي أدلى بها كل مِن الأستاذين؛ لأنه بمثابة الطبيب.
نقول: يظهر للمتأمِّل في جواب العلامة الزنكلوني «الذي قطع قول كل خطيب» ، أنه نظر في الجوابين نظر تدقيق وتحقيق وإمعان، ثم أيد بفتواه فتوى المستدل بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الفقهاء، وزيف قول من أخذ من غير فهم بقول الشعراني عن شيخه الخواص (3) .
وقال: ولو دقق -أي: العلامة الزنكلوني- بجواب الفاضل القصَّاب؛ لتبيَّن له أنّ ما أتى في صدره مِن الآية والحديث إثباتاً لدعواه التي صدر بها جوابه لا يفيده، بل ولا تعلق لهما بموضوع السؤال أصلاً، لما أن معنى الآية هو:(اطلبوا حوائجكم مِمّن قام بأمر تربيتكم مِن بداية أمركم إلى نهايته، حال كونكم خاضعين متذلّلين له، متأدِّبين بخفض أصواتكم غير متجاوزين مكانتكم، وما تستعد إليه ذواتكم) ، ولم يذهب أحد مِنَ المفسرين إلى أنَّ المراد مِن الدّعاء فيها هو الذِّكر.
(1) تقدم النقل عنه (ص 7) .
(2)
انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 7) .
(3)
انظر «فصل الخطاب» (ص 36) للزَّنكلوني.
وبعدها في صلب الكتاب: «راجع (ص 10) » ! ثم صوبت في آخر الكتاب في (جدول تصحيح الخطأ) إلى (ص 36) .
نقول: إنَّ هذا الاعتراض غير وارد ألبتة؛ لأنَّ السؤالَ الذي وجه إلى أحدنا هذا نَصُّه: «ما قول أهل العلم الحق في الصياح في التهليل والتكبير وغيره أمام الجنائز، أفتونا أثابكم الله؟» ، ومِن المعلوم أنّ لفظة (وغيره) تشمل الدعاء والاستغاثة وكل ما يرفع به الصوت مع الجنازة، فتكون الآية الشريفة على هذا دليلاً واضحاً في الموضوع، على أنّ الدعاء ذكر أيضاً «لا كما ادعاه حضرة المعترض» ، بدليل قوله -تعالى- حكاية عن سيدنا يونس في دعائه:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . روى الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1) من حديث مصعب بن سعد، [عن سعد](2)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن دعا بدعاء يونس استجيب له» (3) ،
(1)(5/363 - ط. دار الشعب) .
(2)
سقطت من المطبوع، وأثبتها من «تفسير ابن كثير» .
(3)
أخرجه البزار في «البحر الزخار» (ق 197 أو رقم 69 - مسند سعد/ط. الحويني، أو 3/363 رقم 1163 - ط. محفوظ رحمه الله) ، والدورقي في «مسند سعد» (رقم 36) ، وأبو يعلى في «المسند» (2/65 رقم 707) -ومن طريقه الضياء في «المختارة» (2/351) - وابن عدي في «الكامل» (6/2088) ، والحاكم في «المستدرك» (2/584) ، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/2465 رقم 13713) ؛ جميعهم من طريق أبي خالد الأحمر، عن كثير بن زيد بن المطَّلب بن عبد الله بن حنطب، عن مصعب بن سعد، به.
وتفرد به أبو خالد الأحمر عن كثير، أفاده البزار، وقاله الدارقطني في «الغرائب والأفراد» (ق57/أأو 1/326 رقم 496 - المطبوع) .
وإسناده صالح، والحديث صحيح بالشاهد الذي يليه.
وفي «فتح البيان» (1) : «
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم -وصححه- والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص، قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت
…
إلخ، لم يدع بها مسلمٌ ربَّه في شيء قط، إلا استجاب له» (2) ،
(1)(4/432) لصديق حسن خان، ومثله في «فتح القدير» (3/100 - ط. الرشد) للشوكاني، و «الدر المنثور» (5/668) للسيوطي. وزاد عزوه إلى الحكيم في «نوادر الأصول» وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار وابن مردويه والبيهقي في «الشعب» .
(2)
أخرجه أحمد (1/170) ، والترمذي (3500) ، والنسائي في «عمل اليوم= =والليلة» (رقم 655، 656) ، والبزار في «مسنده» (ق200 أو رقم 117 - مسند سعد/ط. الحويني، أو رقم 1163 - ط. محفوظ رحمه الله) ، وأبو يعلى (2/110-111 رقم 772) ، والحاكم في «المستدرك» (1/505 و2/382-383) ، والطبراني في «الدعاء» (رقم 124) ، وابن أبي الدنيا في «الفرج بعد الشدة» (ص 25-26) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (8/2465 رقم 13712) -وإسناده في «تفسير ابن كثير» (5/363) -، والبيهقي في «الشعب» (1/432 رقم 620) و «الدعوات الكبير» (رقم 166، 167) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (343) ، من طريق محمد بن سعد عن أبيه، به.
وإسناده صحيح.
وأخرجه ابن جرير (17/65) ، والحاكم (1/505-506) من طريق سعيد بن المسيب عن سعد، وفيه عمرو بن بكر السكسكي، متروك، فإسناده ضعيف جداً.
وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (345) ، وابن عدي في «الكامل» (5/1799) من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعد، وإسناده ضعيف جداً أيضاً، فيه عمرو بن الحصين العُقيلي، متروك.
وقال العلامة الصاوي في «حاشيته على الجلالين» (1) : «وهذا الدعاء (أي: قول يونس: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت مِنَ الظالمين) عظيم جدّاً؛ لاشتماله على التهليل والتسبيح والإقرار بالذنب، ولذا ورد في الحديث: «ما مِن مكروب يدعو بهذا الدعاء، إلا استجيب له» (2)، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عرفة:«أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» (3) .
(1)(3/88)، وانظر عن دعاء يونس عليه السلام:«المجالسة» للدينوري (رقم 123، 124 - بتحقيقي) .
(2)
غير محفوظ بهذا اللفظ، وما ورد آنفاً يغني عنه، والله الموفق.
(3)
أخرجه مالك في «الموطأ» (2/38) -ومن طريقه عبد الرزاق في «المصنف» (4/378) ، والفاكهي في «أخبار مكة» (5/25 رقم 2760) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/284 و5/117) وفي «فضائل الأوقات» (ص 367) وفي «الدعوات الكبير» (رقم 468) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/157) -، عن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش، = =عن طلحة بن عبيد الله مرفوعاً.
قال البيهقي عقبه في «السنن» : «هذا مرسل» ، وزاد في الموطن الثاني:«وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصولاً، وَوَصْلُه ضعيف» .
وقال في «الفضائل» : «مرسل حسن» .
وقال في «الدعوات» : «وهذا منقطع، وقد روي من حديث مالك بإسناد آخر موصولاً، وهو ضعيف، والمرسل هو المحفوظ» .
قلت: وصله ابن عدي في «الكامل» (4/1599-1600) ، والبيهقي في «الشعب» (3/462)، عن عبد الرحمن بن يحيى المدني: حدثنا مالك، عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً.
قال ابن عدي: «وهذا منكر عن مالك عن سُمَيّ عن أبي صالح عن أبي هريرة، لا يرويه عنه غير عبد الرحمن بن يحيى هذا، وعبد الرحمن غير معروف» .
وقال البيهقي عقبه: «هكذا رواه عبد الرحمن بن يحيى، وغلط فيه، إنما رواه مالك في «الموطأ» مرسلاً» .
وترجم العقيليُّ في «الضعفاء الكبير» (2/351) لابن يحيى هذا، وقال عنه:«مجهول، لا يقيم الحديث من جهته» ، وقال عنه أبو أحمد الحاكم:«لا يُعتمد على روايته» ، وقال الدارقطني:«ليس بالقوي» ، و «ضعيف» ، وقال الأزدي:«متروك، لا يحتج بحديثه» . انظر: «اللسان» (3/443) .
وروي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
أخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم 3585) -ومن طريقه ابن الجوزي في «مثير العزم الساكن» (1/54 رقم 136) -، والفاكهي في «أخبار مكة» (5/24-25 رقم 2759) ، والبيهقي في «فضائل الأوقات» (ص 368-369) وفي «الشعب» (3/358 رقم 3767) ، وابن الجوزي في «التبصرة» (2/137) و «مثير العزم الساكن» (1/254 رقم 137) ، عن حماد بن أبي حميد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري، وليس بالقوي عند أهل الحديث» .
وأشار ابن عبد البر في «التمهيد» (6/39) إلى ضعفه، بقوله:«وليس دون عمرو من= =يحتج به فيه» .
وروي عن علي مرفوعاً.
أخرجه الطبراني في «الدعاء» (رقم 874) وفي «فضائل عشر ذي الحجة» (13/2) -كما في «السلسلة الصحيحة» (رقم 1503) - عن قيس بن الربيع، عن الأغرّ بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن علي رفعه بلفظ:«أفضل ما قلتُ أنا والنبيون قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» .
هكذا قال عفان بن مسلم عن قيس، واختلف عليه.
أخرجه البيهقي في «الشعب» (2/ق139/أ) عن إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا عفان، به، ولكن بلفظ وافقه عليه ثلاثة، وسيأتي قريباً.
فأخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم 3520) عن علي بن ثابت، وابن خزيمة في «صحيحه» (رقم 2841) ، والمحاملي في «الدعاء» (رقم 62) ، والبيهقي في «الشعب» (2/ق165/أ) عن عبيد الله بن موسى العبسي، وأبو نعيم في «ذكر تاريخ أصبهان» (1/221) عن الحسن بن عطية، عن قيس بن الربيع، به، ولفظه: «أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في الموقف: اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي
…
» لفط الترمذي.
فهذا اللفظ ليس فيه ما يصلح شاهداً لما عندنا، وهو على أي حال ضعيف، قيس متكلم فيه، قال ابن حجر عنه في «التقريب» :«صدوق، تغيَّر لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فَحَدَّث به» .
وقال عنه الترمذي: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي» .
وله طريق آخر عن علي مرفوعاً، وفيه نحو ما في رواية الطبراني السابقة.
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (10/373 رقم 9705 وص 443 - القسم المفقود) -ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (6/40-41) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/40) ، وابن الجوزي في «مثير العزم الساكن» (2/255) - عن وكيع، عن موسى بن عُبَيدة، عن أخيه -وهو: عبد الله بن عُبَيدة الرَّبَذِيّ-، عن علي رفعه.
وتابع وكيعاً: عُبيدالله بن موسى.
أخرجه من طريقه: البيهقي في «السنن الكبرى» (5/117) وفي «الدعوات الكبير» = = (رقم 469) وفي «فضائل الأوقات» (ص 374-375) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ق152/أ) ، والخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/33) .
وإسناده ضعيف جداً، وهو منقطع.
قال البيهقي في «السنن» عقبه: «تفرد به موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، ولم يدرك أخوه علياً رضي الله عنه» .
وفي الباب عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين -وهو من صغار التابعين- رفعه.
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (6/40) -ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (6/40) - عن وكيع، عن نضر بن عربي، عنه مرفوعاً.
وإسناده ضعيف، وهو معضل.
وأخرجه التيمي في «الترغيب» (2/1010 رقم 2482 - ط. زغلول، أو 3/271 رقم 2509 - ط. دار الحديث) عن أبي مروان، عن عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب مرفوعاً بلفظ:«أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وإن أفضل ما أقول أنا وما قال النبيون من قبلي: لا إله إلا الله» .
وهذا مرسل، وأبو مروان، هو محمد بن عثمان بن خالد الأموي، صدوق يخطئ. قال شيخنا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (رقم 1503) بعد ذكره بعض هذه الطرق:«وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم» .
قال ابن الأثير في «النهاية» (1) : «إنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء؛ لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله وجزائه؛ كالحديث الآخر: «إذا شغل عبدي ثناؤه عليَّ مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السائلين» (2)
(1)(2/122) .
(2)
أخرج الخطابي في «شأن الدعاء» (ص 206-207) وفي «غريب الحديث» (2/709) ، والبيهقي في «الشعب» (1/414 رقم 575)، والدينوري في «المجالسة» (رقم 48 - بتحقيقي) -ومن طريقهم الثلاثة: ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (9/273، 273-274، 274، 274-275) -، والخليلي في «الإرشاد» (3/978-979) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (6/43-44) عن سفيان بن عيينة، قال: حدثنا منصور، عن مالك بن الحارث، = =قال: قال الله تبارك وتعالى: «من أشغله الثناء عليّ عن مسألتي، أعطيتُه أفضل ما أعطي السائلين» وهذا مرسل.
ثم استدل سفيان على ذلك بأبيات من الشعر، انظرها مع تتمة التخريج في تعليقي على «المجالسة» (1/343-344) ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وأخرجه الترمذي (2926) ، والدارمي (2/317) ، وعبد الله بن أحمد في «السنة» (128) ، وأبو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (285، 339) ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (3/ق103/ب) ، وابن نصر في «قيام الليل» (ص 122) ، وابن حبان في «المجروحين» (2/272) ، وغيرهم من طرق عن محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله -تعالى-: من شغله قراءة القرآن عن دعائي، أعطيته أفضل ثواب الشاكرين» .
ومحمد بن حسن متروك، وقال أبو حاتم في «العلل» (1738) لابنه:«منكر» ، ولكنه توبع، فالعلة فيه عطية العوفي.
وللحديث شواهد عن عمر وحذيفة وجابر وحكيم بن حزام، ومن مرسل عمرو بن مرة. والحديث حسن بمجموع طرقه.
ا. هـ. وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الذِّكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله» (1) . قال المناوي (2) في تفسير «أفضل الدعاء: الحمد لله» : الدعاء عبارة عن ذكر الله.
وأما قوله: لا تعلق للآية والحديث بموضوع السؤال؛ فإنه واهم فيه؛ لأنّ للآية الكريمة تعلقاً تاماً بالمسئول عنه، وهو الصياح في التهليل والتكبير وغيرهما، ولو أنعم النظر في تفسيره الذي ذكره وهو قوله:«متأدبين بخفض أصواتكم» ، لعلم أنّ تفسيره دليل لنا وحجة عليه.
ثم قال: ولأنّ المراد بالحديث (3) :
(1) أخرجه الترمذي (3383) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (رقم 831) ، وابن ماجه (3800) ، وابن حبان (2326 - الإحسان) ، والخرائطي في «فضيلة الشكر» (رقم 7) ، والحاكم (1/498) ، والطبراني في «الدعاء» (رقم 1483) ، والبيهقي في «الشعب» (رقم 4371) ، وابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/58) من حديث جابر بن عبد الله.
قال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/59) : «هذا حديث حسن» .
والحديث في «السلسلة الصحيحة» (1497) ، وفاته العزو للنسائي والترمذي وابن ماجه.
(2)
في «فيض القدير» (2/34) ، ونحوه في «التيسير بشرح الجامع الصغير» (1/182) له.
(3)
قال أبو عبيدة: أخرجه البخاري (2992، 4205، 6384، 6409، 6610، 7386) ومسلم (2704) في «صحيحيهما» ، عن أبي موسى الأشعري رفعه.
ارفقوا على أنفسكم في المبالغة بالجهر بالتكبير، بدليل ما ورد في «سنن الترمذي» من خبر:«أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي ومَن معي أن يرفعوا أصواتَهم بالتلبية والتكبير» (1) ،
(1) أخرجه الترمذي (829) ، والنسائي (5/162) ، وابن ماجه (2922) ، وأحمد (4/56) ، والدارمي (1/365) ، والحميدي (853) -ومن طريقه ابن قانع في «معجم الصحابة» (6/2215 رقم 646) -، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2153) ، وابن خزيمة (2625، 2627) ، وابن الجارود في «المنتقى» (434) ، والروياني في «مسنده» (رقم 1488) ، والدارقطني في «سننه» (2/238 أو رقم 2474 - بتحقيقي) ، والطبراني في «الكبير» (7/142، 143 رقم 6627، 6628) ، وأبو عمرو عثمان السمرقندي في «الفوائد المنتقاة الحسان العوالي» (ص 28-29 رقم 3) ، وعلي بن محمد الحميري في «جزئه» (120 رقم 56) ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (ق136/أأو 3/182 رقم 1101 - المطبوع) ، والحاكم (1/450) ، والبيهقي (5/42) من طرق عن ابن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خلاد بن السائب، عن أبيه رفعه.
ومن الرواة عن سفيان من أسقط (عبد الله بن أبي بكر) .
وتابع ابن عيينة: مالك في «الموطأ» (1/334 رقم 34) فرواه عن عبد الله بن أبي بكر بسنده سواء، وأخرجه من طريق مالك: أبو داود (1814) ، وأحمد (4/56) ، والشافعيُّ في «المسند» (1/306) ، والدارميُّ (1/365) ، والطبرانيُّ في «الكبير» (7/142 رقم 6626) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (6/221 رقم 645) ، ومحمد بن الحسن= =الشيباني في «موطئه» (رقم 392) ، والبيهقي (5/41، 42) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/53 رقم 1867) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/1373 رقم 3465) .
وتابعهما ابن جريج، قال: كتب إليَّ عبد الله بن أبي بكر بسنده سواء.
أخرجه الطبرانيُّ (6629)، قال: حدثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، ثنا سعيد ابن سالم، عن ابن جريج.
ولم يسمع ابن جريج هذا الحديث من عبد الله بن أبي بكر، ولذلك قصة طريفة، فروى الفسويُّ في «المعرفة» (2/707) ، والطبرانيُّ في «الكبير» (6627) عن الحميدي -وهو في «مسنده» (853) - عن سفيان بن عيينة، قال:«وكان ابن جريج كتمني حديثاً، فلما قدم علينا عبد الله بن أبي بكر لم أخبره به، فلما خرج إلى المدينة حدثته به، فقال لي: يا أعور أتخفى عنا الأحاديث، فإذا ذهب أهلها خبرتنا بها، لا أرويه عنك، أو تريد أن أرويه عنك؟! فكتب إلى عبد الله بن أبي بكر، فكتب إليه به عبد الله بن أبي بكر، وكان ابن جريج يحدث به: كتب إليَّ عبد الله بن أبي بكر» ا. هـ.
وله شاهد بطرق متعددة عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد الجهني بنحوه، أخرجه أحمد (5/192) ، وابن ماجه (2/975) ، وابن خزيمة (4/174 رقم 2628) ، والطبراني في «الكبير» (6/229 رقم 5170) و (6/228 رقم 5168) ، والحاكم (1/450) ، وابن حبان (9/113 رقم 3803) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/1374 رقم 3468، 3469) ، وقال الترمذي بعد تخريجه لحديث خلاد عن أبيه، قال:«وروى بعضهم هذا الحديث عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد، عن النبي S، ولا يصح. والصحيح هو عن خلاد بن السائب، عن أبيه -وهو: خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد الأنصاري-، عن أبيه» .
وقال ابن عبد البر في «الاستيعاب» (2/571) : «حديثه -أي: السائب- في رفع الصوت بالإهلال مختلف على خلاد فيه» ، قال:«وقد جوّده مالك وابن عيينة وابن جريج ومعمر» . وانظر -غير مأمور-: «معرفة الصحابة» لأبي نعيم (3/1374-1375) .
فيكون المراد بالرفع هنا رفعاً لا مبالغة فيه؛ دفعاً للمعارضة بين الحديثين، كما ذكر شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «شرح البخاري» (1)، وذكر العلامة منلا علي القاري في «شرحه على مشكاة المصابيح» (2) مفسراً قوله:«أربعوا على أنفسكم» بأرفقوا بها، وأمسكوا عن الجهر الذي يضر بكم (3) ، على أنه لو سلمت إرادة أصل الجهر، فإنه يحتمل أنه لم يكن هناك مصلحة في الرَّفع؛ لما روي أنه كان في غزاة (4) ، ورفع الصوت حينئذ في بلاد العدو يجرُّ بلاءً، والحرب خدعة.
(1) شرحه هذا هو «تحفة الباري على صحيح البخاري» ، وقد طبع في اثني عشر مجلداً بالقاهرة، سنة 1326هـ، وسبق أن طبع -أيضاً- فيها سنة 1300هـ، وكذا سنة= =1318هـ، وانظر عنه «إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري» (ص 125-127) .
(2)
المسمى «مرقاة المفاتيح» ، والمنقول فيه (3/50) .
(3)
في «المرقاة» : «يضركم» .
(4)
ولذا أخرجه البخاري في (مواطن) ؛ منها (برقم 4205) تحت (كتاب المغازي) وبوّب عليه بـ (باب غزوة خيبر)، ولفظه هناك عن أبي موسى: «لما غزا رسولُ الله S خيبر، أو قال: لما توجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الناس على وادٍ، فرفعوا أصواتهم بالتكبير
…
» إلخ.
وفي رواية ابن جرير (12/486 رقم 14778 - ط. شاكر) الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة
…
» .
نقول: إنّ أصل المشروع هو الذكر الخفي أخذاً من قوله -تعالى-: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، قال الإمام النسفي في «تفسيره» (1) :«هو عام في الأذكار؛ من قراءة القرآن، والدعاء، والتسبيح، والتهليل، وغير ذلك، وأخذاً مما أخرجه ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ، عن الحسن رضي الله عنه: «إنّ الله يعلم القلب التّقي، والدعاء الخفي، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جارُه، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض مِن عمل يقدرون على أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله -تعالى- يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] » (2) ،
(1) المسمى «مدارك التنزيل» (1/599) .
(2)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (رقم 140) ، وابن جرير في «التفسير» (12/485 رقم 14777 - ط. شاكر) ، وأبو الشيخ -كما في «الدر المنثور» (3/476) -، ورجاله ثقات.
وأخرجه مختصراً مقتصراً على بعض ما فيه بأسانيد وقطع متغايرات: وكيع في «الزهد» (372، 373) ، وأحمد في «الزهد» (262) ، وأبو محمد الضراب في «ذم الرياء» (رقم 84، 93، 167) ، وابن أبي الدنيا في «الرقة والبكاء» (رقم 166) .
وقد أثنى اللهُ على زكريا، فقال:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم: 2] ، وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ا. هـ نقلاً عن «تفسير ابن كثير» (1) و «الكشاف» (2) و «روح المعاني» (3) .
قال الإمام النووي (4) في شرح الحديث نفسه: «معنى «أربْعوا على أنفسكم» : ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبُعد مَنْ يخاطبُه، ليسمَعَه، وأنتم تدعون الله -تعالى- وليس هو بأصمّ ولا غائب، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة، ففيه النَّدبُ إلى خفض الصوت بالذكر، إذا لم تدعُ حاجةٌ إلى رفعه، فإذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإنْ دعتْ الحاجة إلى الرَّفع رفع كما جاءت به أحاديث» .
(1) المسمى «تفسير القرآن العظيم» (2/111) .
(2)
(2/111) . وانظر ما كتبناه عنه في مجلتنا «الأصالة» ، وتعليقنا على «الثقافة الإسلامية» لشيخ شيوخنا العلامة محمد راغب الطباخ رحمه الله.
(3)
(9/154-155) .
(4)
في شرحه «المنهاج على صحيح مسلم بن الحجاج» (17/41-43 - ط. قرطبة) .
من هذا يفهم: أنّ الحديث وارد في النهي عن أصل الجهر، وما ذهب إليه شيخ الإسلام (1) ومنلا علي القاري من التوفيق بين الحديثين دفعاً للمعارضة -إن صح-، فلا يرجح على ما ذهب إليه الإمام النووي؛ لأنّ ما ورد فيه إباحة الجهر أو الأمر بالجهر فيه، كالتلبية في الحج، والتكبير في العيدين، هو خاص بمورد النَّص، كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أمرني جبريل برفع الصوت بالإهلال، وقال: إنه من شعائر (2) الحج» (3) .
وقوله: على أنه لو سلمت إرادة أصل الجهر، فإنه يحتمل
…
إلخ.
(1) يريد: الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله.
(2)
كذا في المطبوع، ومطبوع «المسند» ، وفي ط. مؤسسة الرسالة منه (14/65) :«شِعَار» .
(3)
أخرجه أحمد (2/325) ، وابن خزيمة (2630) ، والحاكم (1/450)، والبيهقي (5/42) من طريق أسامة بن زيد: حدثني عبد الله بن أبي لبيد، عن المطّلب بن عبد الله بن حَنْطب، قال: سمعت أبا هريرة رفعه.
والمتن صحيح، ولكنه من حديث السائب بن خلاد، كما تقدم تخريجه قريباً، وروي عن زيد بن خالد، ولم يصح، قال ابن حجر في «إتحاف المهرة» (15/602 رقم 19973) في (مسند أبي هريرة) على إثر هذا الطريق:«رواه سفيان الثوري عن عبد الله بن أبي لبيد، عن المطلب، عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد، وقد مضى [5/15 رقم 4880] ، وهو الصواب» ، والخطأ فيه من أسامة بن زيد، فخالفه سفيان الثوري وشعبة، فروياه عن ابن أبي لبيد، به، وجعلاه من مسند (زيد بن خالد) ، وسبق أن مالكاً وابن عيينة ومعمراً جوّدوه، وجعلوه من مسند (السائب) ، والله الموفق والهادي.
نقول: إن اليقين لا يرفع بالاحتمال، كما هو مقرر عند علماء الأُصول (1) .
وقوله: روي إنه كان في غزاة
…
إلخ.
(1) انظر في تقرير قاعدة (إن اليقين لا يرفع بالاحتمال) وأهميتها واستخدامها في: «قواعد الحصني» (القسم الأول/ص 165) ، «الأشباه والنظائر» (ص 56) ، «الحاوي» للماوردي (1/207) ، «شرح الكوكب المنير» (4/439) ، «المنثور» (2/284، 285) ، = = «البحر المحيط» (1/81) كلاهما للزركشي، «المجموع» للنووي (1/168) ، «فتح القدير» (1/36) ، «الإقناع» (1/132) ، «أصول الكرخي» (161) ، «تأسيس النظر» (ص 17) ، «القواعد والضوابط المستخلصة من شرح الجامع الكبير» (ص 482) ، «موسوعة القواعد الفقهية» (2/293) .
(فائدة) : ذكر السيوطي في «الأشباه» (ص 56) أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، وأن ما خرّج عليها من المسائل الفقهية يبلغ ثلاثة أرباع الفقه، أو أكثر، ونقل عن القاضي حسين (من أئمة الشافعية) ان الفقه قد بني على أربعة أمور، منها هذه القاعدة.
نقول: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ وغيرهم، في سبب نزول قوله -تعالى-:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] الآية، أن أعرابيّاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه، فأنزل الله الآية (1) .
(1) أخرجه ابن جرير في «التفسير» (3/480 رقم 2904 - ط. شاكر) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (1/314 رقم 1667) ، والدارقطني في «المؤتلف» (3/1435) ، وأبو سعيد النقاش في «فوائد العراقيين» (رقم 17) ، وابن أبي خيثمة في «جزء من روى عن أبيه عن جده» -كما في «لسان الميزان» (3/195) ، و «من روى عن أبيه عن جده» لابن قطلوبغا (ص 288) -، وابن مردويه -كما في «اللباب» (ص 33) ، و «الدر المنثور» (1/469) ، و «الفتح السماوي» (1/224) -، والخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/462، 463) ، وأبو الشيخ -كما في «العجاب» (1/433) ، و «تفسير ابن كثير» (1/218) ، و «الدر المنثور» (1/469) -، ثم وجدته في «العظمة» له (2/536 رقم 188) من طريق الصُّلْب بن حُكَيم، عن أبيه، عن جده أن أعرابياً
…
به. ونقله السيوطي هكذا: «الصلت بن حكيم، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده» .
قال الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على تفسير ابن جرير» (3/481) : «أخطأ فيه» ، قال:«وقد تكون زيادة عن رجل من الأنصار، خطأ من الناسخين، لا من السيوطي» !!
قال أبو عبيدة: ليس كذلك، فهو عند الدارقطني من طريق المحاملي، والخطيب (1/463) من طريق أبي بكر بن أبي داود، كلاهما قال: ثنا يوسف -وهو: ابن موسى= =القطان-، حدثنا جرير، عن عَبدة السِّجستاني، عن الصُّلب بن حُكيم، قال القاضي: كذا قال: «عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده» .
فهذا الخطأ من شاكر رحمه الله وتابعه عليه محقق «الفتح السماوي» (1/244-225) ، ونبّه ابن ماكولا في «الإكمال» (5/196) على أن ذلك رواية فيه، ولهذا السبب قال ابن ناصر الدين في «التوضيح» (2/233) عن هذا الإسناد:«فيه اضطراب» !
وخطّأ شاكر -أيضاً- ابن كثير، قال:«وقد وهم الحافظ ابن كثير، حين ذكره (1/94) وجعله من حديث (معاوية بن حيدة القشيري) ، وكذا خطأ بقوة من جعل راويه (صلت بن حكيم) ! ورجّح أنه (صلب) ، وأنه وأبوه وجده مجاهيل، ولذا قال: «وهذا الحديث ضعيف جداً، منهار الإسناد بكل حال» » .
قلت: صرح ابن حجر في «العجاب» (1/433) أن صلب -كذا ضبطه- هو ابن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، قال:«وهو أخو بهز بن حكيم» ! وكذا صنع ابن كثير في «تفسيره» كما تقدم.
ولم أره في كتب الرواية منسوباً (ابن معاوية بن حيدة) ! وإن جعله منسوباً هكذا ابن حجر في «لسان الميزان» (3/195) -أيضاً-، وبالتأمل في كلامه، نجده يعتمد في ذلك على ابن أبي خيثمة! وأن لـ (الصلت) -بالتاء المثناة، هكذا- ترجمه الذهبي في «الميزان» ! وهي ليست في مطبوعه، وفيه:«أخرجه العلائي في كتاب «الوشي» عن إبراهيم بن محمد» ، وقال:«لم أر للصلت -كذا- ذكراً في كتب الرجال» ، ثم عقب ابن حجر على ذلك بقوله:«قلت: ذكره الدارقطني في «المؤتلف» وحكى الاختلاف: هل آخره بالموحدة، أو بالمثناة» .
قال أبو عبيدة: لي هنا ملاحظات:
الأولى: ما نقله ابن حجر عن الدارقطني! ليس موجوداً عنده، بل فرق بين (الصلت) و (الصُّلب) . انظر:«المؤتلف» له (3/1435-1436) .
الثانية: فرق جمع بين (الصُّلْب) و (الصَّلْت) ؛ منهم: الخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/94، 462)، وقال عن (الصلب) هذا:«وليس له غير حديث واحد» ، قال:«وقيل: إنه أخ لبهز بن حكيم بن معاوية القُشيري، ولا يصح ذلك» .
الثالثة: ذكر ابن قطلوبغا في كتابه «من روى عن أبيه عن جده» (ص 289) نَقْلَ ابن حجر عن الدارقطني السابق، وقال:«قال العلائي: إن جده لم يسم، وتبعه على ذلك العلامة -يريد: ابن حجر-» ، وتعقبهما بقوله:«وهذا عجب عظيم منهما، فإن جده هو معاوية بن= =حيدة، كما وقع ذلك في «تفسير محمد بن جرير الطبري» ، و «تفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم» ، وكتاب «المؤتلف والمختلف» للحافظ أبي الحسن الدارقطني، فتجرد لنا بذلك أن (الصلت) أخو (بهز) ، وحكيم أبوه
…
فلله الحمد والمنة» .
قال أبو عبيدة: عجبي لا ينتهي من عجب ابن قطلوبغا، فإن (الصلب) لم يقع منسوباً في الكتب التي أحال إليها، وإنما قال ذلك تقليداً لغيره، وإلا فالدارقطني -مثلاً- فرق بين (الصلت) و (الصُّلْب) .
الرابعة: فرق بين (الصُّلب) -وهو بضم وموحدة- ابن (حُكَيم) -بالضم- و (الصَّلْت) -وهو بفتح ومثناة فوق آخره- ابن (حَكيم) -بالفتح- أيضاً: ابن ماكولا في «الإكمال» (5/196)، وقال:«وقيل: إن (الصلب) بن حكيم أخو بهز بن حَكيم، ولا يصح، ليس له غير حديث واحد» ، وكذلك فعل عبد الغني بن سعيد الأزدي في «المؤتلف والمختلف» (ص 79) ، والذهبي في «المشتبه» (ص 316) ، وابن ناصر الدين في «توضيح المشتبه» (3/280 و5/436) ، واعتنى بضبط اسميهما، كما أومأنا إليه، والله الموفق.
الخامسة: ثم وجدتُ ابن حجر نفسه في «تبصير المنتبه» (3/839) يفرق بينهما، وينقل مقولة ابن ماكولا السابقة:«ولا يصح» ، ويقره، وهذا هو الصواب الذي لا مرية فيه.
فالحديث إسناده مظلم، وصلب وأبوه وجده مجاهيل، وألان ابن حجر في «العجاب» (1/434) الكلام عليه، لما قال:«وفي سنده ضعيف» !
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن، قال: سأل أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أين ربُّنا؟ فنزلت (1) .
ويروى في نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله -تعالى- في غزوة خيبر، فقال لهم:«أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً» (2) .
(1) أخرجه ابن جرير في «التفسير» (3/481 رقم 2905) عن عبد الرزاق، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن، به، ولم أجده في «تفسير عبد الرزاق» المنشور بطبعتَيْه، وقال الشيخ أحمد شاكر:«الإسناد صحيح إلى الحسن، ولكن الحديث ضعيف؛ لأنه مرسل، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة» . وقال السيوطي في «اللباب» (ص 33) : «مرسل، وله طرق أخرى» .
وانظر: «العجاب» (1/433) .
(2)
حديث «أربعوا على أنفسكم
…
» متفق عليه، ومضى تخريجه، وأما سبب النزول المذكور فغير محفوظ، ولم يعرج عليه ابن حجر في كتابه الذي له من اسمه أكبر نصيب:«العجاب في بيان الأسباب» (1/433-435) .
(1) ألّف غير واحد من العلماء في الجهر بالذكر، ووقفت قبل نحو عشرين سنة على مصنف فيه حافل بالأردية، أكثر فيه النقولات ودفع الاعتراضات، ولم أدر أين هو الآن؟! وللكنوي «سباحة الفكر في الجهر بالذكر» ، وللسيوطي قبله «نتيجة الفكر بالجهر بالذكر» مطبوع ضمن «الحاوي» (2/31) وفي مكتبة البلدية في الإسكندرية ضمن مجموع (5227/ج 13) :«تحريم الذكر جهراً» لمحمد بن مراد الأرمنكي (ت القرن العاشر)، وفي مكتبة إسحاق الحسيني في القدس (م39/23) :«الجهر بالذكر وما يتعلّق به» ، وفي خزانة القرويين بفاس [1530] :«جواز الذكر بالجهر» لأحمد بن يوسف الفاسي (ت 1028هـ)، وفي الخزانة العامة بالرباط [3433 (1854/د) ] :«جواب في الاحتجاج للاجتماع للذكر» لعبد السلام بناني.
ثم قال: وإلا فأحاديث الرفع كثيرة، وأما حديث:«خير الذكر الخفي» (1) ،
(1) أخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 118، 339) ، وأحمد في «المسند» (1/172، 180، 187) و «الزهد» (10) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/375 و13/240) و «المسند» (ق65/أ) ، والحربي في «غريب الحديث» (2/845) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (رقم 137) ، وأبو يعلى في «المسند» (2/81-82 رقم 731) ، والدورقي في «مسند سعد» (رقم 74) ، وأبو عوانة في «مسنده» -كما في «إتحاف المهرة» (5/267، 268 رقم 5038، 5039) -، والشاشي في «مسنده» (183) ، وابن حبان في «صحيحه» (809 - الإحسان) ، = =وابن السني في «القناعة» (ص 26) ، والطبراني في «الدعاء» (رقم 883، 1883) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1219، 1220) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/22) ، والبيهقي في «الشعب» (552، 553، 554) من طريق أسامة بن زيد، عن محمد ابن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عن سعد بن مالك رفعه، وجعل بعضهم بين (أسامة) و (محمد) :(محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان) .
قال الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على المسند» (3/44 رقم 1478) : «الظاهر أن أسامة سمعه منهما، فتارة يذكره بالواسطة، وتارة يذكره بحذفها» .
وإسناده ضعيف، محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة ضعيف، وهو لم يدرك سعداً.
انظر: «المراسيل» (184) لابن أبي حاتم، «جامع التحصيل» (266) ، «التهذيب» (9/301) .
قال الناجي في «عجالة الإملاء المتيسرة» (4/648-649) : «وفي إسناده أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، وهو ضعيف كثير الإرسال» .
وقال النووي في «فتاويه» (290) : «ليس بثابت» ، ونقله عنه الزركشي في «التذكرة» (202) ، وعنه العجلوني في «كشف الخفاء» (1/471) .
وعزاه ابن حجر في «المطالب العالية» (3/207 - ط. الأعظمي) إلى إسحاق بن راهويه في «مسنده» ، وزاد البوصيري في «إتحاف الخيرة» (8/324 رقم 8143) عزوه
…
-أيضاً- لمسدد، وزاد السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 206) عزوه للعسكري في «الأمثال» .
وانظر: «مجمع الزوائد» (1/81) ، «تخريج العراقي لأحاديث الإحياء» (1/279) ، «إتحاف السادة المتقين» (4/493) ، «الترغيب والترهيب» (2/537، 4/160) ، «كشف الخفاء» (1/471) ، «الدرر المنتثرة» (79) ، «ضعيف الترغيب والترهيب» (رقم 1060، 1873) .
(تنبيه) : للحديث تتمة، هي «وخير الرزق ما يكفي» ، وهي صحيحة بشواهدها كما في «السلسلة الصحيحة» (1834)، والحكم في «ضعيف الترغيب» و «ضعيف الجامع» (رقم 2887) بالضعف عليها غير دقيق! فتنبه! وفي «صحيح الجامع» (3275) :«خير الرزق الكفاف» .
فمحمول على حال خشية الرياء أو تأذّي الغير به؛ توفيقاً بين أحاديث الباب.
نقول: كنا نتمنى أن يذكر من أحاديث الرفع العامة ولو حديثاً واحداً، حتى نحمل حديث «خير الذكر الخفي» (1) على حال خشية الرياء أو تأذِّي الغير (2) .
(1) مضى تخريجه.
(2)
قال أبو عبيدة: في سبب إيراد سعد للحديث يدلُّ عليه، فورد عند أبي عوانة والدورقي وابن السني وغيرهم: عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، قال: خرج عمرُ بن سعد إلى سعد، فقال -وهو بالعقيق-: إنك اليوم بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهدتَ بدراً ولم يبق فيهم أحدٌ غيرك، وإنَّما هو معاوية، فلو أنك أبديتَ للناس نفسكَ، ودعوتهم إلى الحق لم يتخلف عنك أحدٌ، فقال سعد: أقعد، حتى إذا لم يبق مِنْ عُمُري إلا ظمأ الدابة اضرب الناس بعضهم ببعض، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خَيْرُ الرِّزقِ ما يكفي، وخُيرُ الذِّكر ما خَفِيَ.
قال أبو إسحاق الحربي في «غريب الحديث» (2/845-456) : «ذهب قوم إلى أنّ الذكر الدعاء، وقالوا: خيره ما أخفاه الرجل، والذي عندي أنه الشهرة، وانتشار خير الرجل، فقال: خيره ما كان خفياً ليس بظاهر؛ لأنَّ سعداً أجاب ابنه على نحو ما أراده عليه، ودعاه إليه من الظهور وطلب الخلافة، فحدَّثه بما سمع» ا. هـ. وانظر شرح الحديث -أيضاً- في «المقاصد الحسنة» للسخاوي (ص 207) .
وأما قوله: «إلا ظمأ الدابة» ، فقد قال ابن منظور في «لسان العرب» (1/116) :«يقال: ما بقي من عمره إلا قدر ظمء الحمار؛ أي: لم يبق من عمره إلا اليسير؛ لأنه يقال: أنه ليس شيء من الدواب أقصر ظمأ من الحمار، وهو أقل الدواب صبراً على العطش» ا. هـ.
(تنبيه) : قد يقال هذه الرواية، قد وصلها (عمر بن سعد) ، ولكن رواية ابن أبي لبيبة أصح، قاله أبو زرعة، كما في «العلل» (2/143) لابن أبي حاتم.
(فائدة) : أخرج ابن المبارك في «الزهد» بسندٍ ضعيف، فيه أبو بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الله ذكراً خاملاً، فقيل: وما الذكر الخامل؟ قال: الذكر الخامد» . وهو مرسل، ولو صحّ لشوّش على التفسير السابق، ولكان فيه ما يؤيد ما قرره الشارحان، والله الموفق.
ثم إنّ كل هذه الأقوال لا علاقة لها بالجنائز، فرفع الصوت بالتكبير والتهليل والدعاء مع الجنازة لم يرد فيه نص، بل إنَّ الوارد فيه طلب الصمت والتفكر والاعتبار (1) ، فالأحاديث الكثيرة التي يدعي ورودها بالرفع، لا نعتقد أنّ شيئاً منها قيل في الذكر مع الجنازة، وإن كان؛ فلْيثْبتْه.
على أن حمل حديث «أربعوا
…
» (2) على المبالغة بالجهر، لا ينفي مناسبته للمسألة المجاب به عنها؛ لأنها سؤال عن الصياح بالتهليل وغيره، وهو يصدق بأصل الجهر وبالمبالغة فيه، ولا يخفى أن على المفتي حسن الإحاطة بالحوادث التي يسأل عنها، ويكون جوابه على حسبها، كما أشار لذلك خزيران نفسه في تنديده على العلَاّمة الزنكلوني.
قال ما معناه: إنّ الاستدلال بحديث: «إذا ظهرتْ البدعُ، وشتم أصحابي، فليظهر العالِمُ علمَه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (3)
(1) ورد في ذلك أحاديث وآثار، انظرها في تعليقنا على (ص 11-14) .
(2)
مضى تخريجه، وهو في «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري.
(3)
أخرجه الآجري في «الشريعة» (5/2562 رقم 2075) من طريق عبد الله بن الحسن الساحلي، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (54/80 - ط. دار الفكر) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن زمل، وابن رزقويه في «جزء من حديثه» (ق2/ب) من طريق محمد ابن عبد المجيد المفلوج؛ ثلاثتهم عن الوليد بن مسلم -وزاد الساحلي معه: بقية بن الوليد-، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان -وزاد محمد بن عبد الرحمن: عن جبير بن نفير-، عن معاذ رفعه، بألفاظ:
لفظ الساحلي: «إذا حدث في أمتي البدع، وشتم أصحابي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل منهم؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، قال الساحلي:«فقلت للوليد بن مسلم: ما إظهار العلم؟ قال: إظهار السنة، إظهار السنة» .
ولفظ ابن زمل: «إذا ظهرت البدع، ولعن آخرُ هذه الأمة أوّلَها، فمن كان عنده علم فلينشره، فإنّ كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم» .
=
…
وهذا حديث ضعيف، طرقه كلها لا تسلم من مقال وضعف، فابن زمل ترجمه ابن عساكر ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم يذكر راوياً عنه غير عبد العظيم بن إبراهيم المصيصي، وأما عبد الله بن الحسن الساحلي، فلم أظفر له بترجمة، وكذلك ما بين المصنف (شيخه وشيخ شيخه) وبينه، فإسناده مظلم.
وأما المفلوج، فقد ضعفه تمتام، قاله الذهبي في «الميزان» وأورد هذا الحديث من مناكيره.
وأورده الديلمي في «الفردوس» (1/321 رقم 1271) عن أبي هريرة رفعه: «إذا ظهرت البدع في أمتي، فليُظهر العالم علمه، فإن لم يفعل؛ فعليه لعنة الله» ، وأسنده ابنه (1/ق66) من طريق علي بن الحسن بن بُندار، حدثنا محمد بن إسحاق الرملي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، وساقه بالإسناد السابق من حديث معاذ!
وابن بُندار متَّهم عند ابن الطاهر، وضعّفه غيرُه، ولينظر حال الرملي هذا، فلم أظفر له بترجمة.
ولم يعزه في «الكنز» (903، 29140) إلا لابن عساكر من حديث معاذ رضي الله عنه، وعزاه الشاطبي في «الاعتصام» (1/119 - بتحقيقي) للآجري، وهو في «السلسلة الضعيفة» (رقم 1501) وحكم عليه بأنه منكر.
وفي الباب ما قد يشهد لبعض معناه من حديث جابر بن عبد الله رفعه: «إذا لعن آخرُ هذه الأمة أوّلَها، فمن كتم حديثاً، فقد كتم ما أنزل الله» .
أخرجه ابن ماجه (263) -والمذكور لفظه-، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/197) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/481 رقم 994 - ط. شيخنا الألباني أو رقم 1028 - ط. الجوابرة) ، وابن عدي في «الكامل» (4/1528) ، والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/264، 265) ، والداني في «الفتن» (رقم 287) ، وابن بطة في «الإبانة» (1/206 رقم 46، 49، 50) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (9/471، 472) ، وعبد الغني المقدسي في «العلم» (ق28/ب) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (5/ق331) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (15/16) من طريق خلف بن تميم، عن عبد الله بن السري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رفعه بألفاظ، منها ما عند الداني:«إذا ظهرت البدع، وشتم أصحابي، فمن كان= =عنده علم فليظهره، فإنّ كاتم العلم حينئذ ككاتم ما أنزل الله» ، وهذا قريب من لفظ المصنف.
وإسناده ضعيف جداً، قال العقيلي:«عبد الله بن السري لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، وقد رواه غيره خلق، فأدخل بين ابن السري وابن المنكدر رجلين مشهورين بالضعف» .
قلت: بيّن ذلك ابن عدي بكلام طويل، وانظر -غير مأمور-:«مصباح الزجاجة» للبوصيري (1/85 رقم 106) ، و «السلسلة الضعيفة» (رقم 1507) .
لا يناسب الموضوع -أيضاً- لما أن المراد من البدع فيه هي المحرمة المحضة المناسبة لشتم الأصحاب؛ لاندراجهما في شرط واحد.
نقول: دعواه هذه باطلة، بدليل قول الإمام البِرْكِوي (1) في «الطريقة المحمدية» وشارحها العارف بالله عبد الغني النابلسي (2) :«والبدعة في العبادة وإن كانت دون البدعة في الاعتقاد، لكنها منكر في دين الله -تعالى- وضلالة، يجب تركها والاجتناب عنها أكثر من جميع المعاصي، لاسيما إذا صادمت سنة مؤكدة» .
فظهر من هذا أنَّ الحديث الذي استدللنا به يناسب الموضوع؛ لأنّ كل بدعة في الدين معمولٌ بها بصفتها عبادة، كالتهليل والتكبير مع الجنازة برفع الصوت، منكر وضلالة.
وأما قوله: المراد من البدع فيه، هي: المحرَّمة المحضة، المناسبة لشتم الأصحاب، فلا يصلح مخصصاً؛ لأنَّ شتم الصحابة إنما يكون حين ظهور البدع التي يرجع إلى الصحابة إنكارها فيسبّهم الناس لذلك، كما هو حاصل اليوم من شتم المبتدعين لكل من ينهى عن بدعة، ومن المعلوم: أن الله -تعالى- أخذ العهد على العلماء أن يبيِّنوا الدين للناس بقوله: {وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، وذلك يشمل التنبيه على البدع المحرَّمة والمكروهة، فلا وجه لتخصيص الحديث المذكور بالبدع المحرمة، مع العهد العام في البيان.
(1) في رسالة «السنوحات المكية» (ص 20) : «البِرْكِوي -بكسر الباء والكاف-» ، ويقال فيه:«البِيرِكلي والبِيرْكِلي» ، كما في «معجم المطبوعات» (610)، ويقال -أيضاً-: البِرْكِلي، عرف به الشيخ عبد الغني في «شرح الطريقة المحمدية» (1/3)، وقال:«توفي في جمادى الأولى، سنة إحدى وثمانين وتسع مئة» .
(2)
اسم شرحه: «الحديقة النبوية» ، طبع في تركيا سنة 1290هـ، والنقل فيه (1/141) من كلام البركوي دون شرح الشيخ عبد الغني -رحمهما الله تعالى-.
ثم قال بعد هذا مندداً بإيراد الحديث، دليلاً على مؤاخذة العلماء لسكوتهم عن البدع مطلقاً، حسب دعواه التخصيص بإنكار المحرم فقط، فقال:«سبحانك! إن هذا إلا خلط، أو مغالطة أو مغالاة في دينك» .
نقول: إنَّ الخلط والمغالطة هي الجرأة على تخصيص العام من النصوص من غير مخصص، إلا مناسبة ذكر شيء مع غيره لأدنى ملابسة لا تقتضي ذلك التخصيص، مع نفيه صراحة بنص عام، وهو آية أخذ العهد على العلماء بالتبيين للناس، وعدم الكتمان بدون تخصيص بشيء، فمن هو المغالط والخالط؟ {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة: 32] .
قال: فإن قيل: لعل غرضه «أي: أحدنا» بذلك الغلوّ محافظة على حمى حرم أحكام دين الله، وذوداً عن حوضها، من أن تعكَّر.
فالجواب: إنّ ذلك غير جائز، إذ لو جاز لكان من مشرّعها أولى إرهاباً للمكلَّف الذي علم سبحانه من الأزل بأنه سيخرق أسوار الحدود ويهدم بنيان الأحكام ومصلحة به، ولذلك نهانا عن الغلو بقوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الحَقَّ} [المائدة: 77] .
نقول: إنّ ما أسنده إلينا من الغلو، نحن براء منه؛ لأنّ الغلوَّ في الدين هو التشدد فيه، ومجاوزة الحد، واستدلالنا بحديث الرسول S الذي أثبتنا صحة الاستدلال له بالطرق الصحيحة، وبأقوال العلماء ليس بغلوّ، ولا نريد أن نتتبع بقية كلامه في هذا المحل؛ لأننا لم نقم له وزناً ولم نفهم له معنى، ولا يمكن أن يدخل في ميزان من موازين المنطق والعقل، ولكنا نلفتُ نظر أهل العلم الصحيح إلى خبط ذلك الرجل في الأحكام الشرعية.
ثم قال: فإن قيل: يا ترى، أيدخل فاعل ذلك في عداد سواد آية {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلَامِ} الآية [الصف: 7] ، وفي ما صدقات كلية قضية (1) قوله S:«من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار» (2) ، فالجواب أنه لا يبعد ذلك.
نقول: لم يفترِ أحدٌ منا على الله الكذبَ، فقد قلنا ما قاله الأئمة من علماء المذاهب الأربعة، ولم نكذب على الرسول S حتى ندخل في هذا أو تلك، وإنما يدخل فيهما من حاول أن يؤيِّد البدعَ بتأويل الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة على حسب هواه.
على أنا نكِلُ الحُكْمَ في جرأة هذا الرَّجُلِ على الله وعلى رسوله وعلى الناس إلى ذوي الدِّراية من أهل العلم، الذين لا تأخذهم في نصرة الدِّين لومة لائم.
(1) كذا في الأصل!
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 107) من حديث الزبير، وخرجته بتفصيل طويل في «جزء الجويباري» (2/223-224 - ضمن «مجموعة أجزاء حديثية» ) ، وبيّنت أنه اختلف في ألفاظه على شعبة، وفي بعض طرقه «متعمداً» ، وفي بعضها دونه، وهي رواية البخاري، قال المنذري:«والمحفوظ من حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمداً) » . انظر: «فتح الباري» (1/200-201) ، و «عون المعبود» (10/84) ، وانظر «العلل» للدارقطني (4/233-234 رقم 530) ، واللفظة هذه ثابتة في غير حديث، وخرجتُها في الجزء المشار إليه بتطويل وتفصيل، والله الموفق للخيرات، والهادي للصالحات.
قال: وللفاضل القصاب أن يقول: إنَّ الجهر بالذكر مع الجنازة بدعة؛ لعدم ورودها عن الصَّدر الأول، والسلف الصالح، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ فالجهر بالذكر مع الجنازة ضلالة، موجبة للدخول في النار، فتمَّ الكلامُ، وثبتت الدّعوةُ، واندفع الاعتراضُ عن عدم مناسبة الحديث الأخير للموضوع، كما اشتهر نقل ذلك عنه، ولا يخفى على أولي الفضل هذه النَّزعة، ومن تُنْسَبُ إليه -ثبَّتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة- ومناقضتها لما اتفق عليه عمومُ أهل السُّنَّة والجماعة -مكّن الله عقيدتهم في قلوبنا، وأماتنا وحشرنا عليها-، حيث إنهم قسموا البدعة إلى واجب، ومندوب، ومباح، وحرام، ومكروه، كما اتفق عليه الفقهاء والمحدِّثون، الذين لا يتَّفقون على ضلالة، وقالوا في حديث:«كل بدعة ضلالة» (1)
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» : كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة (رقم 767) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه..
عام مخصوص بالمحرَّمة لا غير، ويؤيِّد مذهبهم أدلةٌ كثيرة؛ منها: ما وقع لأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت -رضوان الله تعالى عليهم- في جمع القرآن، لما أشار به عمر على أبي بكر حين استحرَّ القتلُ بالقُرَّاء يوم اليمامة، وتوقَّف في ذلك لعدم فعل النبي S له، ثم لم يزل يراجعه، حتى شرح الله صدره لفعله؛ لما رأى من المصلحة ورجوعه إلى الدِّين، ثم دعا زيداً وأمره بالجمع، فقال له: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله S؟ فقال: والله إنه حق، ولم يزل يراجعه، حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدرهما (1) .
(1) أخرجه البخاري (4986) في (فضائل القرآن) : باب جمع القرآن، عن زيد بن ثابت، قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال عمر: هذا والله خير، = =فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتَّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجْمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
وأخرج -أيضاً- (4987) بسنده أن أنس بن مالك قال: إنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينِيَة وأذْرَبِيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد ابن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو صحف أن يحرق.
وانظر «إعلام الموقعين» (1/370-371 - بتحقيقي) .
وقال العلماء: البدعة المذمومة: هي التي لم يشهد لها شيء من قواعد الدين وأدلته العامة، وما ذكره حسن صديق خان في شرح (1)«فتح العلام على بلوغ المرام» » (2)
(1) كذا في الأصل، وصوابه:«شرحه» .
(2)
قال فيه (1/200 - ط. صادر) : «البدعة لغة: ما عمل على غير مثال سابق، والمراد بها هنا: ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة، وقد قسَّم العلماءُ البدعة خمسة أقسام واجبة؛ كحفظ العلوم بالتدوين، والردّ على الملاحدة بإقامة الأدلة، = =ومندوبة؛ كبناء المدارس، ومباحة؛ كالتوسع في ألوان الأطعمة وفاخر الثياب، ومحرمة، ومكروهة، وهما ظاهران، فقوله: «كل بدعة ضلالة» عام مخصوص، كذا والقيل، والحق أنَّ لفظة الكل في هذا الحديث، وكل حديث ورد بمعناه على حقيقتها من العموم، وقسمة البدعة إلى الأقسام المذكورة، وإلى الحسنة والسيئة ليس عليها أثارة علم؛ لأنه لم يرد دليل دال عليها، ولم يرح حديث ورد في هذا الباب رائحة القسمة قط، والأمثلة المشار إليها ليست من البدعة على الإطلاق، فإنَّ تدوين العلم دل عليه جمع القرآن في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهد خلفائه الراشدين، ودل عليه حديث:«اكتبوا لأبي شاة» ، والكتابة هي التدوين بعينها، والرد على الملاحدة يرشد إليه القرآن الكريم، فإن فيه الرد على أهل الكتاب، وعلى المشركين، وبناء المدارس ونحوها مسكوت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، ولم يرد نهي عن ذلك، وأما التوسع في الأطعمة والملابس، فيستفاد من حديث:«إنَّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ، ودل عليه الكتاب:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]، {حِلْيَة تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] ، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] ، وأما المحرمة والمكروهة فهما محرمة ومكروهة، كغيرها من الأشياء التي دلّت الأدلة على تحريمها وكراهتها، فهما محرمة ومكروهة، وليستا من البدعة في شيء، ومن ثم أنكر الراسخون في علم الكتاب والسنة تقسيم البدعة إلى أقسام، وردوا على القاسمين، ونصّوا على أنَّ كل محدث بدعة على الإطلاق، كائناً ما كان، ومن كان، وأينما كان، و «كل بدعة ضلالة» على إطلاقها، ويالله العجب! من قوم فقهاء رووا هذا الحديث، وما في معناه من أحاديث فيها لفظة كل رواية صحيحة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موصولة إليه، ثم صرفوه عن ظاهر معناه وواضح مبناه، إلى ما دعت إليه أهواؤهم من غير دليل، لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قياس جلي، لا يعتريه شُبهة.
وحديث الباب حجة نَيِّرة على كل قائل بالتقسيم والأنواع، ومن كان عنده دليل من الكتاب، أو برهان من السنة دال على القسمة فليتفضَّل علينا بإبانته، وأما آراء الفقهاء وأمثالهم فلا حجَّة فيها على منكري القسمة، وقد اتّفق أهل المعرفة بالقرآن والحديث، على أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، صغيرة كانت أو كبيرة، بارزة كانت أو كامنة، لها تعلق بالعقيدة أو بالعمل، ولم يختلف منهم اثنان في ذلك، والمراد بأهل الحديث هنا: من علمه مقصور على السنة المطهرة، دون من هو من زمرة الفقهاء، وإنْ عرف من السنة بعضها! فقد عرف بالتجربة أن من خلط الفقه المصطلح، والرأي المزخرف، والتقليد= =الشؤم، والقياس المجرد في أدلة الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فقد أبعد النَّجعة، وإنما الفقه المعوَّلُ عليه، والحكم المرجوع إليه، ما أدى إليه هدي السلف الصالح، وعمل به الصَّدرُ الأول؛ فإنهم كانوا على هدى مستقيم، وصراط قويم، ثم خلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
وهذا الحقّ ليس به خفاء
…
فدعني من بنيات الطريق»
انتهى.
قال أبو عبيدة: قارن كلامه بما سيأتي عن الشاطبي (ص 101-103)، وذهب إلى أنه عام مخصوص: اللكنوي في «إقامة الحجة» (ص 22 وما بعد) !!
-مخالفاً للسَّواد الأعظم- مردود ومنبوذ.
ومنها: ما أخرجه الإمام البخاري في كتاب (صلاة التراويح) من «صحيحه» (1) عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاع متفرِّقون، يصلِّي الرجلُ لنفسه، ويصلِّي الرجل فيصلِّي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد؛ لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه
…
الحديث.
نقول: قدمنا النَّقلَ عن «الطَّريقة المحمدية» (2) بما يصرِّح أنَّ البدعة في العبادة منكر وضلالة، يجب تركها والاجتناب عنها أكثر من جميع المعاصي، وبذلك أثبتنا مناسبة الحديث الأخير للموضوع، وبما أنَّ خُزيران توسَّع في البحث؛ حتى وقع بإقامة الحجة على نفسه بالقياس المنطقي الذي استنتج منه أن الجهر بالذكر مع الجنازة ضلالة، وإن كان يقصد بذلك عكس النتيجة؛ فإننا نعود لبيان معنى البدعة شرعاً ولغة، على وجه التفصيل؛ لنثبتَ وقوعَه في خطإ أفحش، وهو عدم اعتباره ما ورد عن الصحابة ديناً، مع إجماع العلماء عليه، واعتباره -أيضاً- البدعة ديناً، وإن كانت خلاف الوارد عن الصحابة، وخلاف إجماع أئمة المسلمين، فنقول: قال في «الطريقة المحمدية» (3) لإثبات أن (كل بدعة في الدين ضلالة ومحرمة) :
(1) برقم (2010) .
(2)
انظره (1/141 - مع «الحديقة النبوية» ) .
(3)
انظره (1/135-138 - مع «الحديقة النبوية» ) .
«فإنْ قيل: كيف التَّطبيق بين قوله عليه الصلاة والسلام: «كلّ بدعة ضلالة» (1) وبين قول الفقهاء: إنَّ البدعة قد تكون مباحةً؛ كاستعمال المُنْخُل، والمواظبةِ على أكل لُبِّ الحنطة، والشَّبَع منه، وقد تكون مُستَحبَّةً؛ كبناء المنارة (!!) والمدارس، وتصنيف الكتب، بل قد تكون واجبةً؛ كنَظْم الدَّلائل لردِّ شُبَهِ الملاحدة ونحوِهم.
قلنا: للبدعة معنيان: معنىً لغويٌّ عامٌّ؛ هو: المحْدَث مطلقاً، عادةً كان أو عبادةً؛ لأنَّها اسمٌ من الابتداع؛ بمعنى: الإحداث؛ كالرِّفْعَةِ من الارتفاع، والخلفَة من الاختلاف، وهذه هي المقْسم في عبارة الفقهاء؛ يعنون (2) بها: ما أُحْدِث بعد الصَّدر الأوَّل مطلقاً.
ومعنىً شرعيٌّ خاصٌّ؛ هو: الزّيادةُ في الدِّين أو النُّقصانُ منه، الحادثان بعد الصحابة بغير إذن الشَّارع، لا قولاً ولا فعلاً، ولا صريحاً، ولا إشارةً،
…
فلا يتناول (3) العادات أصلاً، بل يقتصر على بعضِ الاعتقادات، وبعضِ
…
صُوَر العبادات، فهذه (4)
(1) مضى تخريجه، وهو في «صحيح مسلم» عن جابر.
(2)
في الأصل: «ويعنون» بزيادة واو! والمثبت من «الطريقة المحمدية» .
(3)
ورد في الأصل: «تتناول
…
تقتصر» ، والمثبت من «الطريقة المحمدية» ، وهو الذي يقتضيه السياق.
(4)
في الأصل: «هذه» ، والمثبت من «الطريقة المحمدية» ، ثم وجدتها على الجادة في= = «جدول تصحيح الخطأ» المثبت آخر الأصل (ص 139) ..
هي مراده عليه الصلاة والسلام، بدليل قوله
…
عليه الصلاة والسلام: «فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاء الرّاشدين المهديين
…
مِن بعدي» (1) ،
(1) أخرجه أحمد في «المسند» (4/126، 127) ، وأبو داود في «السنن» (كتاب السنة، باب لزوم السنة: 4/200-201 رقم 4607) ، والترمذي في «الجامع» (أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: 5/44 رقم 2676) ، وابن ماجه في «السنن» (المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: 1/15-16، 16، 17 رقم 42-44) ، وابن جرير في «جامع البيان» (10/212) ، والدارمي في «السنن» (1/44) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/205 رقم 102) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (1/17، 18، 19، 20، 29، 30) ، ومحمد بن نصر في «السنة» (ص 21، 22) ، والحارث بن أبي أسامة في «المسند» (ق19 - مع بغية الباحث) ، والآجري في «الشريعة» (ص 46، 47) ، وابن حبان في «الصحيح» (1/104 رقم 45 - مع الإحسان) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (18/245، 246، 247، 248، 249، 257) و «المعجم الأوسط» (رقم 66) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/222-224) ، والحاكم في «المستدرك» (1/95-96، 96، 97) و «المدخل إلى الصحيح» (1/1) ، والخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (2/423) ، و «الفقيه والمتفقه» (1/176-177) ، والبيهقي في «مناقب الشافعي» (1/10-11) ، و «الاعتقاد» (ص 113) ، و «دلائل النبوة» (6/541، 541-542) ، و «المدخل إلى السنن الكبرى» (ص 115، 115-116 رقم 50 و51) ، و «السنن الكبرى» (10/114) ، وابن وضاح في «البدع» (ص 23، 24) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (5/220، 221 و10/114، 115) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/69) ، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1/74، 75) ، والهروي في «ذم الكلام» (ق 69/1-2) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (11/265/1) ، وأحمد بن منيع في «المسند» -كما في «المطالب العالية» (3/89) - من طرق كثيرة عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» ، وقال الهروي:«وهذا من أجود حديث في أهل الشام» ، وقال البزار:«حديث ثابت صحيح» ، وقال البغوي:«حديث حسن» ، وقال ابن عبد البر:«حديث ثابت» ، وقال الحاكم:«صحيح ليس له علة» ، ووافقه الذهبي، وقال أبو نعيم:«هذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين» ، وصححه الضياء المقدسي في «جزء= =في اتباع السنن واجتناب البدع» (رقم 2)، وقال ابن كثير في «تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب» (رقم 36) :«صححه الحاكم، وقال: ولا أعلم له علة، وصححه -أيضاً- الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه» .
قلت: وقد احتج بهذا الحديث الإمام أحمد، لما سئل عن فعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أكان سنة؟ «قال: نعم» ، قال أبو داود:«وقال مرة: لحديث رسول الله S: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» ، فسماها سنة
…
» . انظر: «مسائل أبي داود» (ص 277) . وانظر: «إرواء الغليل» (8/107 رقم 2455) ، و «جامع العلوم والحكم» (ص 187) ، و «إعلام الموقعين» (2/478-479 - بتحقيقنا) .
وقوله -عليه
الصلاة والسلام-: «أنتم أعلم بأمر
…
دُنياكم» (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام:«مَن أَحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ» (2) . ا. هـ.
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» : كتاب الفضائل: باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا، على سبيل الرأي (رقم 2363) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما.
وسبب هذا الحديث: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم، يُلقِّحون (أي: النخل) ، فقال: لو لم تفعلوا لصلح (فتركوه)، فخرج شيصاً (أي: تمراً رديئاً) ، فمرَّ بهم، فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت لنا كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.
(2)
أخرجه البخاري في «الصحيح» (كتاب الصلح) : باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (5/301 رقم 2697) ومسلم في «صحيحه» (كتاب الأقضية) : باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (3/1343 رقم 1718) باللفظ الذي أورده المصنفان، وورد بلفظ:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، علقه البخاري في «صحيحه» (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) : باب إذا اجتهد العامل (13/317)، ووصله مسلم في «صحيحه» (كتاب الأقضية) : باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/1343-1344) .
وانظر: «فتح الباري» (5/302) ، و «تغليق التعليق» (3/396 و5/326) ، و «إعلام الموقعين» (2/92 - بتحقيقنا) .
وهنا نقول لخزيران: بماذا يفسّر البدعة الواردة في الحديث الأخير، الذي ادَّعى عدم مناسبته للموضوع؟ هل بالمعنى اللّغوي أو بالمعنى الشَّرعي؟ فإن فسَّرها بالمعنى اللُّغوي كما يظهر من ردِّه، نتيجة القياس الذي أتى به؛ لأجل إثبات عدم مناسبة الحديث للموضوع، والذي بيَّنا خطأه في قياسه فيه قبلاً، يكون مكذِّباً لقول الرسول المعصوم عن الكذب؛ لأنه S لا يمكن أن يقول إنّ كل بدعة في العادة ضلالة!! وإنْ فسَّرها بالمعنى الشَّرعي كما اتَّفق العلماءُ على إرادة الرسول له من قوله:«وكلُّ بدعة ضلالة» (1) كما وضّحه من صاحب «الطريقة» في الجملة التي نقلناها في أوَّل كلامنا (2) ، يكون الدّليلُ الذي استنتج منه، أنّ كلَّ بدعة ضلالة صحيحاً، غير معكوس النتيجة كما ظنه، ويكون حُجَّةً عليه من نفسه على مناسبة الحديث للموضوع، ومنه يثبت خطأه من الوجهتين اللتين نبّهنا لهما، وفي إحداهما احتمال الكفر -والعياذ بالله- {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50] ، ودعواه اتفاق الفقهاء والمحدثين على تقسيم البدعة إلى واجب ومندوب ومباح وحرام ومكروه من غير تفصيل، غير صحيحة؛ لأنَّ مُقَسِّمَ ذلك هو البدعة اللغوية، كما أشار إلى ذلك صاحب «الطريقة» في كلامه الذي أسلفناه (3)
(1) مضى تخريجه.
(2)
انظر ما تقدم (ص 47) .
(3)
(ص 54) ، وهو في «الطريقة المحمدية» (1/136 - مع «الحديقة الندية» ) ..
بقوله: «هذه هي المقسّم في عبارة الفقهاء» ؛ يعنون بها: ما حدث بعد الصَّدر الأول (1)
(1) قال عبد الغني المقدسي في «الحديقة الندية شرح الطريقة المحمديّة» (1/136) عند قول صاحب «الطريقة المحمدية» : «بعد الصَّدْر الأول» : «وهم السَّلفُ المتقدِّمون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم أجمعين-؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» ؛ وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، فما حدث في زمانهم فليس ببدعة، والبدعة ما حدث بعد زمان= =التابعين وتابعيهم» .
وفي «حواشي الطريقة المحمدية» لخواجه زاده: «قوله: «بعد الصحابة
…
» ، أما الحادث في زمن الخلفاء الراشدين فليس ببدعة؛ لأنَّ سنّتَهم كسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل الأمر بالتمسك بسنّتهم» .
ذكر هذين النقلين اللكنوي في «إقامة الحجة» (ص 23-24)، وعلق عليهما بقوله:«فهذه أقوال العلماء كلُّها ناصةٌ على أنّ ما حدث في زمان الصحابة، بل والتابعين، بل ومن تبعهم -من غير نكير- ليس بداخل في بدعة، والارتكابُ به -أي: والعمل به- ليس بضلالة» .
مطلقاً، فمن أين جاءه الاتفاق الذي ادعاه، مع أنه لا عموم ولا خصوص في حديث «كل بدعة ضلالة» (1) كما يقول، بل كلُّ بدعةٍ في الشَّرع ضلالةٌ، بلا تخصيص؛ لأنَّ العلماء الراسخين ذكروا أنَّ الأحاديث الصِّحاح الواردة في ذم البدع مطلقة عامة، لم تقيَّد، ولم تتخصَّص بشيء في رواية ولا طريق، وليس لأحد أن يُخصّصَ ويُقيِّد مُطْلقاتِ الشَّرْعِ وعمومات الأدلَّة الصَّحيحة برأي يراه، واجتهاد يجتهده، والذَّمُّ لها يقتضي أن لا يكون شيء منها مستحسناً أبداً، ولهذا لم يقل جماعةٌ من السَّلَفِ والخَلَف والمُحْدَثين بتقسيم البدعة في الدِّين إلى خمسة أنواع، أو ما يزيد عليها، أو ينقص منها، بل صرَّحوا صراحةً لا مزيد عليها، بأنَّ كلَّ بدعة ضلالة، يدل لذلك ما أخرجه الدَّارميُّ في «مسنده» عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:«كلُّ بدعة ضلالة، وإنْ رآها الناسُ حسنة» (2) ،
(1) مضى تخريجه.
(2)
أخرجه محمد بن نصر في «السنة» (ص 24) ، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (رقم 191) ، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1/92) من طرق عن هشام بن الغاز، عن نافع عنه، وسنده صحيح.
وانظر: «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 75) ، و «الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع» (ص 64) كلاهما بتحقيقي.
(فائدة) : عزاه المصنف للدارمي، وهو ليس فيه في جميع طبعاته التي ظهرت، وهو= =ليس موجود تحت (هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر) في «إتحاف المهرة» (9/365-367) ، والدارمي من الكتب المطرَّفة فيه!
وما أخرجه أبو داود في «سننه» عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: «كل عبادة لا يتعبّدها أصحابُ رسول الله
…
صلى الله عليه وسلم فلا تعبَّدوها، فإنَّ الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتَّقوا الله يا معشر القُرَّاء! وخذوا طريق من كان قبلكم» (1) ، وقد بيَّن ذلك الإمام المحدِّث (2) الأُصوليُّ أبو إسحاق الشَّاطبي الغرناطي في كتابه «الاعتصام» (3) في (الباب الثالث) من (الجزء الأول)، فقال: «إنّ ذمَّ البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها، وذلك من وجوه:
(1) أخرجه البخاري مختصراً (7281) ، وابن المبارك في «الزهد» (رقم 47) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (4/ق155) -، وابن نصر في «السنة» (رقم 89، 90) ، وابن وضاح في «البدع» (رقم 10، 11، 13) ، وابن بطة في «الإبانة» (196) ، والهروي في «ذم الكلام» (رقم 473 - مكتبة الغرباء) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/280) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (3/446) ، وابن عبد البر في «الجامع» (رقم 1809 - ط. دار ابن الجوزي) من طريقين عن حذيفة، وهو صحيح بهما.
وعزاه أبو شامة في «الباعث» (70 - بتحقيقي) لـ «سنن أبي داود» ! وقلّده المؤلِّفان، ولم أجده فيه، ولم يعزه في «تحفة الأشراف» (3/55) إلا للبخاري بنحوه. والمراد بـ (القُرَّاء) : العلماء بالقرآن والسنة العُبّاد، وانظر «فتح الباري» (13/257) .
(2)
الشاطبي إمام مُجَدِّد مُصْلح، كما بيّنته في تقديمي لـ «الاعتصام» و «الموافقات» له، ونشرتُ ست حلقات بعنوان (الإصلاح ومجالاته عند الشاطبي) في مجلتنا الغراء «الأصالة» (الأعداد 28، 29، 31-34) ، وأما كونه محدثاً، فليس كذلك، تبرهن لي ذلك بيقين، انظر تعليقي على «الموافقات» (1/76، 78) ، و «الاعتصام» (1/179) .
(3)
(1/242-243 - بتحقيقي) .
أحدها: أنَّها جاءت مطلقة عامَّة على كثرتها، لم يَقَعْ فيها استثناء ألبتَّة، ولم يأت فيها ما يقتضي أنَّ منها ما هو هدىً، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة؛ إلا كذا وكذا
…
، ولا شيء من هذه المعاني.
فلو كان هنالك محدَثَة يقتضي النَّظر الشَّرعيُّ فيها الاستحسان، أو أنَّها لاحقةٌ بالمشروعات؛ لذكر ذلك في آيةٍ أو حديثٍ، لكنّه لا يوجد، فدلَّ على أنَّ تلك الأدلَّة بأسرها على حقيقة ظاهرها مِن الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فردٌ من الأفراد.
والثاني: أنَّه قد ثبت في الأصول العلميَّة، أنَّ كُلَّ قاعدة كلية أو دليل شرعي كلِّي، إذا تكرَّرت في مواضع كثيرة، وأُتي بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكررها وإعادة تقررها (1)، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم؛ كقوله -تعالى-:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وما أشبه ذلك، (وبسط الاستدلال على ذلك هنالك) .
فما نحن بصدده من هذا القبيل إذا جاء في الأحاديث المتعدِّدة والمتكررة في أوقات شتَّى، وبحسب الأحوال المختلفة، أنَّ كُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وأنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة
…
وما كان نحو ذلك من العبارات الدالَّة على أنَّ البدعَ مذمومة، ولم يأت في آية ولا حديث تقييدٌ ولا تخصيص، ولا ما يُفهَم منه خلاف ظاهر الكليَّة فيها، فدلَّ ذلك دلالةً واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
الثالث: إجماع السّلف الصَّالح مِن الصَّحابة والتَّابعين، ومَن يليهم على ذمِّها كذلك، وتقبيحها، والهروبِ عنها، وعمَّن اتَّسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقُّف ولا مثنوية، فهو بحسب الاستقراء إجماعٌ ثابت، فدلَّ على أنَّ كلَّ بدعة ليست بِحَقٍّ، بل هي من الباطل.
(1) الصواب: «تقريرها» ، كما في «الاعتصام» .
والرابع: أنَّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادَّة الشارع واطِّراح الشَّرْع، وكلُّ ما كان بهذه المثابة فمحالٌ أن ينقسم إلى حُسْنٍ وقبيحٍ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذمّ، [فإذا](1) ثَبَتَ ذَمُّ البدعة ثَبَتَ ذَمُّ صاحبِها؛ لأنّها ليست مذمومة مِن حيث تصوُّرها فقط، بل من حيث اتّصف بها المتَّصف، فهو إذن المذموم على الحقيقة، والذَّمُّ خاصَّةُ التأثيم، فالمبتدع مذمومٌ آثمٌ، وذلك على الإطلاق والعموم» (2) .
ولقد أطال -رحمه الله تعالى- في البحث إلى أن قال: «وحاصل ما ذُكِر هنا، أَنّ كلَّ مبتدع آثمٌ، ولو فُرضَ عاملاً بالبدعة المكروهة إن ثبت فيها كراهة التنزيه؛ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غيرُ جائزٍ، وإمّا نائبٌ عن صاحبها مناضلٌ عنه فيها، بما قدر عليه، وذلك يجري مجرى المستنبطِ الأَوَّلِ لها، فهو آثم على كلِّ تقدير» (3) . انتهى باختصار.
(1) بدل ما بين المعقوفتين في «الاعتصام» (1/242-243 - بتحقيقي) ما نصه: «إذ لا يصحُّ في معقول ولا منقول استحسان مشاقَّة الشَّارع، وقد تقدَّم بسطُ هذا في أول الباب الثاني. وأيضاً؛ فلو فرض أنه جاء في النَّقْل استحسانُ البِدَعِ أو استثناءُ بعضِها عن الذَّمِّ؛ لم يتصوَّر؛ لأنَّ البدعة طريقةٌ تضاهي المشروعة، من غير أن تكون كذلك.
وكون الشارع يستحسنُها؛ دليلٌ على مشروعيتها، إذ لو قال الشَّارع: المحدثة الفلانية حسنةٌ؛ لصارت مشروعةً، كما أشاروا إليه في الاستحسان حسبما يأتي -إن شاء الله تعالى-، ولما» .
(2)
«الاعتصام» (1/242-243 - بتحقيقي) .
(3)
«الاعتصام» (1/246-247 - بتحقيقي) .
وكُنّا نودُّ أن نرشدَ الأستاذ الجزَّار وتلميذَه إلى الاستفادة من هذا الكتاب الذي لا ندّ له في بابه، ولكنا خشينا أن يرميا مؤلِّفَه بالنَّزْعة (الوهابيَّة)(1)
(1) دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة سلفية خالصة، أُلصقت بها تُهَمٌ وبواطيل، وافتراءات وأكاذيب، وأصبح الخصوم والأعداء من القبوريين والطرقيين ينعتون الدعاة إلى التوحيد والكتاب والسنة بـ (الوهابيين) ؛ حنقاً وحقداً على التوحيد وأهله وأئمته! ولا قوة إلا بالله.
=
…
وكلمة (وهّابي) تسمية غريبة، لم تُنقَل عن أحد من أئمة الدعوة الأُوَل، وإنما نقلت عن خصومهم، وإلا؛ فنعم الانتسابُ إلى (الوهَّاب) جل جلاله:
إنْ كان توحيدُ الإلهِ تَوَهُّباً
…
يا رَبِّ! فاشهَدْ أنَّنِي وَهَّابي
وهاك نصَّيْن من كلام الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان معتقده ومنهجه:
الأول: ففي «مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب» -القسم الخامس (الرسائل الشخصية)(ص 252) - ما نصه:
«لست -ولله الحمد- أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم؛ مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه: إن أتانا منكم كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربنّ الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله S فإنه لا يقول إلا الحق
…
» .
والآخر: جاء في رسالته لعبد الرحمن بن عبد الله السويدي أحد علماء العراق يذكر الإمام رحمه الله حقيقة دعوته، ومن ذلك قوله -كما في «مؤلفات الشيخ الإمام» (الرسائل الشخصية) (5/36) -:
وهنالك نقولات عديدة عن الإمام المجدد، وغيره من أئمة الدعوة المباركة في الاتباع، والاقتصار على الدليل، ونبذ ما يخالفه. تراها في رسالة «الإقناع بما جاء عن أئمة الدعوة من الأقوال في الاتباع» .
وأما عن الشُّبه التي تثار في وجه هذه الدعوة، فقد تصدى لها بالدراسة والرد على وجهٍ حسن غايةً: الأخ الباحث الشيخ عبد العزيز العبد اللطيف في كتابه «دعاوى المناوئين= =لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عرض ونقد» .
وأما عن المؤلفات التي طبعت وفيها سموم وبواطيل حول هذه الدعوة، فقد كدتُ استيعابها والتحذير منها في كتابي «كتب حذر منها العلماء» (المجموعة الأولى)(1/250-287) ، فانظره، فإنه مفيد -إن شاء الله تعالى-.
وكتب -حديثاً- بعض إخواننا ومحبّينا الشيخ مالك شعبان في مجلتنا (الأصالة) ثلاث حلقات عن أسوأ كتاب ظهر عن حياة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وفنّد أباطيله، وهو «مذكرات همفر» ، انظر الأعداد (31، 32، 33) ، وللمحدث الشيخ مقبل بن هادي رحمه الله مقالة بعنوان «حول كلمة وهابي» نشرناها في «الأصالة» -أيضاً- (العدد 34/ص 28-33) .
-التي هي حجة العاجز لترويج الباطل، وإضاعة الدين- التي رميانا بها، وإنْ تقدَّمَ زمنِ ذلك الإمام الشاطبي العظيم على زمن محمد بن عبد الوهاب ما يقرب من (500 سنة) !! لأنه لا يبعد أن يعلّلا ذلك بأنه من باب أخذ المتقدِّم عن المتأخِّر!!
وقول سيدنا عمر رضي الله عنه في جمعه الناس بصلاة التراويح على قارئ واحد: «نعم البدعة هذه» (1) هو مجاز، كما ذكره الشاطبي -أيضاً- في كتابه «الاعتصام» (2) ؛ لأنّ الاجتماع في صلاة التراويح سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أول مَن صلاّها بالجماعة كما هو معلوم.
(1) مضى تخريجه، وهو في «صحيح البخاري» .
(2)
انظره -لزاماً- (1/45 - بتحقيقي) .
وقال العلاّمة الزَّبيدي في «شرحه على الإحياء» (1) في قول سيدنا عمر: «إنها نعم البدعة» : «وكذا عدَّها العزُّ بنُ عبد السلام (2) في البدع المستحبة، قال التَّقيّ السُّبكي: هو باعتبار المعنى اللغوي، فإنَّ البدعة في اللغة؛ هو: الشيء الحادث، وأما في الشرع، فإذا أطلق إنما يراد الحادث الذي لا أصل له في الشرع، وقد يطلق مقيداً، فيقال: بدعة هدى، وبدعة ضلالة، فالتراويح على هذا من بدعة الهدى، وكيف يريد عمر خلاف ذلك ويأمر به (3) ، معاذ الله أن يأمر ببدعة (4) .
(1) المسمى «إتحاف السادة المتقين» ، والنقل فيه (3/421) .
(2)
في كتابه «قواعد الأحكام» (2/172-174) ، وفي «الفتاوى» له (ص
…
116) ، وتبعه تلميذه القرافي في كتابه «الفروق» (الفرق الثاني والخمسون والمئتان) =
…
= (4/202-205) ، وذلك ضمن كلام فيه أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة، انظر مناقشتهم بما لا مزيد عليه في «الاعتصام» (1/313 وما بعده) ، وتعليقي عليه.
(3)
في مطبوع «الإتحاف» : «بها» .
(4)
كلام السبكي هذا في كتابه الكبير في التراويح، وهو بعنوان «ضوء المصابيح في صلاة التراويح» ، وهو أكبر تصانيفه في هذه المسألة، وله فيها:«تقييد التراجيح في صلاة التراويح» ، و «إشراق المصابيح في صلاة التراويح» وهو مطبوع بمصر قديماً، وضمن «الفتاوى» (1/155 وما بعد) له، وله فيها:«نور المصابيح في صلاة التراويح» ، و «ضياء المصابيح» ، ومصنَّفَان آخران في ذلك تكملة سبعة، قاله ابنه التاج في «طبقات الشافعية الكبرى» (10/309) .
قال الزّبيدي في «شرح الإحياء» (3/415) : «وقد ألف قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله فيما يتعلق بتأكيد سنية صلاة التراويح ثلاث رسائل، أولاها: «ضوء المصابيح في صلاة التراويح» ، وهي في ثمان كراريس، والثانية:«تقييد التراجيح في تأكيد التراويح» كراسة واحدة، والثالثة:«إشراق المصابيح في صلاة التراويح» كراسة واحدة، وقد اطلعت على الأخيرين بخطه» .
قال أبو عبيدة: مما قال في «الإشراق» (ق3، 4) بعد كلام -ومن خطّه أنقل، وهذه الرسالة ضمن مجموع في المكتبة الأحمدية بحلب (رقم 202) له بخطه، جاء على طرته:«هذا المجموع بخط مؤلّفه ولي الله -تعالى- المجتهد شيخ الإسلام السّبكي الكبير، فهو من عجائب الكتب المتبرَّك (!) فيها» -: «فلما علم عمر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أنَّ الفرائض لا يزاد فيها، ولا ينقص منها بعد موته صلى الله عليه وسلم، أقامها للناس، وأحياها، وأمر بها، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة، وذلك شيء دخره الله له، وفضّله به، ولم يُلهم إليه أبا بكر، وإنْ= =كان أفضلَ من عمر، وأشدَّ سبقاً إلى كل خير بالجملة، ولكل واحدٍ منهم فضائل خُصّ بها، ليست لصاحبه، وكان عليّ يستحسن ما فعل عمر من ذلك ويفضّله، ويقول: «نوّر شهر الصوم»
…
» .
قلت: أثر عليّ، أخرجه الأثرم -كما في «المغني» (1/457) -، وابن عبد البر في «التمهيد» (8/119) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ق96) عن إسماعيل بن زياد وإسماعيل ضعيف، ولذا ذكره ابن تيمية في «منهاج السنة» (4/224) بصيغة التمريض.
وأخرجه ابن خزيمة -كما في «مسند الفاروق» (1/187) وأورد إسناده-، وابن شاهين، والأثرم -كما في «المغني» (1/457) - من طريق أبي إسحاق الهمذاني عن علي، قال ابن كثير:«هذا منقطع بين أبي إسحاق وعلي» ، وقال:«وقد رواه بشر بن موسى، عن عبد الرحمن بن واقد، عن عمرو بن جميع، عن ليث، عن مجاهد، عن علي مثله، وهذا منقطع» . وانظر -أيضاً- لتأييد ما مضى: «شعب الإيمان» للبيهقي (3/337) .
وانظر لفتة رائعة عند البخاري في «الصحيح» في محل وضع أثر عمر، وماذا سبقه عند ابن كثير في «مسند الفاروق» (1/187) .
وهكذا مراد العز بن عبد السلام (1) ، فليس هذا من البدعة المقابلة للسنة في شيء، على أني أقول: إنَّ عمر رضي الله عنه لم يشر إلى أصل التراويح، وإنما أشار إلى ذلك الاجتماع الخاصّ، الذي حدث في زمانه بأمره، فهو بدعة باعتبار اللغة، وبدعة هدى، وأما أصل التراويح فلا يطلق عليها بدعة بشيء من الاعتبارين، ولا في كلام عمر ما يدل على ذلك، وابن عبد السلام إن أراد ما أراد عمر وافقناه [عليه](2) ، وإلا خالفناه فيه، متمسكين بإطلاق العلماء من المذاهب الأربعة، أنَّ التراويح سنة النبي S لا سنة عمر» (3) . انتهىكلام الزَّبيدي.
(1) من الأمور المهمَّة التي ينبغي التنبُّه لها: توسُّع القرافي في متابعة شيخه العز في تقسيم البدع، وقرر الشاطبي في «الاعتصام» (1/322-323) أن القرافي اتّبع شيخه من غير تأمّل، وأنه لا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه، ومن هنا توسّع المتأخِّرون في تحسين البدع، وحمّلوا كلام القرافي زيادةً عليه، والمتأمل في التطبيقات العملية الفقهية عند (العز) ولا سيما في (الفتاوى) له، يظهر صدق وحق ما قال الشاطبي، انظر كلامه بتأمل وإنعام نظر، فإنه حقيق وجدير بذلك، والله الهادي والواقي.
(2)
سقط في المطبوع، وأثبتُّه من «الإتحاف» للزَّبيدي.
(3)
انظر في هذا: «اقتضاء الصراط المستقيم» (ص 276) ، «الباعث» (93-95 - بتحقيقي) لأبي شامة، «الكافي» (1/255) لابن عبد البر، «الأمر بالاتباع» (87-91 - بتحقيقي) ، «عارضة الأحوذي» (4/18-19) ، «إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبُّد ليس ببدعة» (ص 33) ، «الطريقة المحمدية» (1/128 - شرح الخادمي) و (1/136 - شرح عبد الغني النابلسي) ، «جامع العلوم والحكم» (233) ، وغيرها.
وقول خزيران: ويؤيِّد مذهبهم أدلة كثيرة؛ منها: ما وقع لأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت
…
إلخ ليس بدليل؛ لأنّ ما طلبه عمر، وتردَّد فيه أبو بكر، ثم قَبِلَه، وتردد فيه زيد، ثم قبله (1) ، ليس ببدعة، وإن يكن حدث من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
نقول: ليس ببدعة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة» (2) . فسمى صلى الله عليه وسلم ما يأتي به الخلفاءُ الراشدون من بعده سُنَّةً، ولم يسمِّه بدعةً، ويفهم مِن قوله صلى الله عليه وسلم:«وإياكم ومُحْدَثات الأُمور؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة» (3) أن ما يحدث بعد زمان الخلفاء الراشدين هو الذي يسمى بدعةً.
ثم قال: وقد سار من ذلك الوقت الصَّحابةُ والتَّابعون والأئمة المجتهدون، في كلِّ عصر على ذلك، ولم يسمع عن أحد منهم مخالفة فيه، فكان إجماعاً (4) ،
(1) يشير إلى ما عند البخاري في «صحيحه» ، وسبق أن نقلناه عنه في التعليق على (ص 50) .
(2)
تقدم تخريجه (ص 55) ، وهو حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(3)
سبق تخريجه، وهو حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(4)
وهذا قاله السبكي رحمه الله في «إشراق المصابيح» (ق5) ، وغيره.
=
…
وحكى الإجماع على مشروعية صلاة قيام رمضان في جماعةٍ، جماعةٌ؛ منهم: ابن عبد البر في «الكافي» (1/255) ، والكاساني في «بدائع الصنائع» (2/748) ، وابن رشد في «بداية المجتهد» (4/184) ، والنووي في «شرح صحيح مسلم» (5/138 و6/39) ، والقرافي في «الذخيرة» (2/403) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (23/19) .
وانظر في حكاية إجماع الصحابة عليها: «المغني» (2/604، 605) ، «شرح الزركشي على الخرقي» (2/79) ، «الشرح الكبير» (1/362) ، «كشاف القناع» (1/425) ، «تبيين الحقائق» (1/178، 179) ، «طرح التثريب» (3/98) .
ولا يعزب عن دراية ذوي العلم ما ذكره شراحه (أي: شراح حديث صلاة التراويح الآنف الذكر) ، من أن تصرفات سيدنا عمر بصلاة التراويح المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة الاجتماع عليها، وجعلها في أول الليل، وكونها في كل ليلة، وكونها بالعدد الذي يصليه الآن المسلمون في مساجدهم، ماعدا من أزاغ الله قلوبهم من الاقتصار على أصل المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإحدى عشرة ركعة مع الوتر، حتى بلغنا عن الفاضل القصَّاب أنه يفعل ذلك في بيته مع جماعة من صلحاء عوام المسلمين، الذين تسلّط على أفكارهم الساذجة، ألم يطرق سمعه قوله صلى الله عليه وسلم:«اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر» (1) ،
(1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (4/310) ، وابن ماجه في «السنن» (1/37 رقم 97) ، والحميدي في «المسند» (رقم 249) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/11 رقم 11991 و14/569 رقم 18895) ، وأحمد في «المسند» (5/299، 382، 402) و «فضائل الصحابة» (رقم 478، 479) ، وابنه عبد الله في «زوائده على الفضائل» (1/186 رقم 198) و «السنة» (رقم 1367-1369) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (9/50 - «الكنى» ) ، والطحاوي في «المشكل» (2/83، 84، 85) ، والحاكم في «المستدرك» (3/75) ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (2/334) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/480) ، والخلال في «السنة» (رقم 336) ، والبزار في «المسند» (1/248-251 رقم 2827، 2828، 2829) ، وابن أبي حاتم في «العلل» (2/381) ، والطبراني في «أحاديث منتقاة» (رقم 5 -= = «انتقاء ابن مردويه» ) ، وأبو الشيخ في «ذكر الأقران» (رقم 428) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (2/208 و10/57) ، وابن حبان في «صحيحه» (رقم 2193 - موارد) ، وابن شاهين في «السنة» (رقم 147) ، وابن عدي في «الكامل» (2/250) ، والقطيعي في «جزء الألف دينار» (رقم 162) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/150) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/545-546 رقم 1148، 1149) ، وأبو نعيم في «فضائل الخلفاء» (رقم 93) و «تثبيت الإمامة» (رقم 49، 50) و «الحلية» (9/109) ، والبيهقي في «المدخل» (رقم 61، 62، 63) وفي «السنن الكبرى» (5/212 و8/153) وفي «مناقب الشافعي» (1/362) ، والبغوي في «شرح السنة» (14/101 رقم 3895) ، والتيمي في «الترغيب» (1/170 رقم 334 - ط. زغلول) و «سير السلف» (ق17/ب) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (9/ق644 و13/ق70-71) ، والخليلي في «الإرشاد» (1/378 و2/664-665) ، والآجرِّي في «الشريعة» (3/84-85 رقم 1402، 1403، 1404) ، واللالكائي في «شرح السنة» (7/1315-1316 رقم 2498، 2499) ، والروياني في «مسنده» (3/103 رقم 79 - «المستدرك» ) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ق72 وص 63، 64 - جزء ابن مسعود) -، وابن حزم في «الإحكام» (8/809) ، والذهبي في «السير» (1/481 و10/88) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (30/356) ، وابن بلبان في «تحفة الصديق» (ص 64) ، وابن عبد البر في «الجامع» (2/223، 224) ، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/177) و «التاريخ» (7/403 و12/20 و14/366) ، وبيبي الهرثمية في «جزئها» (رقم 84) عن حذيفة مرفوعاً.
والحديث -كما قال الخليلي في «الإرشاد» (1/378) - «صحيح معلول» ؛ أي: بعلَّةٍ غير قادحة.
وقال العقيلي في «الضعفاء» (4/95) بعد كلام: «يروى عن حذيفة عن النبي S بإسناد جيد ثابت» . وحسنه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/257) . وانظر: «تحفة الأشراف» (30/28) . وتفصيل طرقه وسائر شواهده أمر يطول جداً، وخرجت منها حديث ابن مسعود في تعليقي على «المجالسة» (8/258-263 رقم 3528) ، وأكتفي بما قدمت، والله الموفق. وانظر:«السلسلة الصحيحة» (رقم 1233) .
ألم يصل إليه خبر: «عليكم بسُنّتي وسُنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنَّواجذ» (1) ؟ ألم يفهم أهمية هذا الطلب؟ أم غفل عن ذلك؟ ألم يعلم أنَّ صلاة التراويح بالكيفية التي يصليها الآن أهلُ السنة والجماعة في مساجدهم هي مركبة من سُنَّتَين: سُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسُنّةِ عمرَ رضي الله عنه؟ وكلتاهما مطلوب منا فعلهما شرعاً، مع إثبات الفرق فيما بينهما بنسبة ما بين درجتي مشرعيهما.
نقول: إنا لنعجَب! ويحقُّ لنا أن نعجبَ مِن جرأة هذا الرجل على الدين الحنيف، بنقله أموراً لا صحة لها، حيث يصرِّح كلامه بأن الأمة الإسلامية من عهد سيدنا عمر إلى يومنا هذا متَّفقة على كيفية صلاة التراويح المعمول بها الآن، وهو أنها بالاجتماع عليها وأنها في أول الليل، وأنها في العدد الذي يصليه المسلمون الآن في مساجدهم، مع أنه لم يقل بهذا الاتفاق أحد، وأن حديث البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري (2) صريح في أنَّ عمر نفسه لم يكن يصلِّي التراويح بالاجتماع في المسجد أول الليل عشرين ركعة، والحديث هو أن عبد الرحمن بن عبد القاري قال:
خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاع متفرِّقون، يصلِّي الرجلُ لنفسه، ويصلِّي الرجلُ فيصلِّي بصلاته الرَّهطُ، فقال عمر: إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد؛ لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبَيِّ بن كَعْب، ثم خرجتُ معه ليلةً أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد: آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله (3) .
(1) مضى تخريجه، وهو قطعة من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
مضى تخريجه.
لأنَّ قول الراوي: خرجتُ معه والناس يصلّون بصلاة قارئهم، ينصُّ أنهم كانوا يصلّون، وليس معهم عمر، وقد أشار العلاّمةُ القسطلاني إلى هذا عند شرح هذه الفقرة من الحديث بقوله:«فيه إشعار بأنّ عمرَ كان لا يواظب على الصلاة معهم، ولعله كان يرى أن فعلها في بيته، ولا سيما في آخر الليل أفضل» (1)(انتهى كلام القسطلاني) .
وقال الإمام الغَزَّالِيُّ في كتابه «إحياء علوم الدين» (2) : «واختلفوا في أنَّ الجماعة فيها (أي: صلاة التراويح) أفضل أم الانفراد؟ (3) فقيل: إنَّ الجماعةَ أفضل لفعل عمر رضي الله عنه، ولأنّ الاجتماع بركة، وله فضيلة، بدليل الفرائض، ولأنه ربما يكسل في الانفراد، وينشط عند مشاهدة الجمع، وقيل: الانفراد أفضل؛ لأنَّ هذه سنة ليست من الشعائر كالعيدين، فإلحاقها بصلاة الضحى، وتحية المسجد أولى، ولم تشرع فيها جماعة، وقد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمع معاً، ثم لم يصلوا التحية بالجماعة، ولقوله S: «فضل صلاة التطوع في بيته على صلاته في المسجد، كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في البيت» (4)
…
(1)«إرشاد الساري» (3/426) .
(2)
«الإحياء» (1/202) .
(3)
بعدها في «الإحياء» : «وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليلتين أو ثلاثاً للجماعة، ثم لم يخرج، وقال: «أخاف أن توجب عليكم» ، وجمع عمر رضي الله عنه الناس عليها في الجماعة، حيث أمن من الوجوب بانقطاع الوحي» .
(4)
قال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/202) : «رواه آدم بن أبي إياس في كتاب «الثواب» من حديث ضمرة بن حبيب مرسلاً. ورواه ابن أبي شيبة في «المصنف» ، فجعله عن ضمرة بن حبيب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موقوفاً. وفي «سنن أبي داود» بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت:«صلاة المرءفي بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا؛ إلا المكتوبة» » .
قال أبو عبيدة: أخرج الطبراني في «الكبير» (8/53 رقم 7322)، وعنه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/1497 رقم 3809) عن صهيب بن النعمان رفعه:«فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس، كفضل المكتوبة على النافلة» .
ورواه أبو الشيخ في «الثواب» ، بلفظ:«صلاة التطوّع حيث لا يراه من الناس أحد، = =مثل خمسة وعشرين صلاة حيث يراه الناس» .
قال الذهبي في «التجريد» (1/268) : «صهيب بن النعمان له حديث، رواه عنه هلال بن يساف في «معجم الطبراني» تفرد به قيس بن الربيع» .
وعزاه ابن حجر في «الإصابة» (3/452) للمعمري في «اليوم والليلة» ، وقال الهيثمي في «المجمع» (2/247) :«وفيه محمد بن مصعب القرقساني، ضعّفه ابن معين وغيره، ووثقه أحمد» .
وأما أثر ضمرة؛ فمضطرب، روي على وجوه وألوان، تراه عند الزَّبيدي في «تخريج الإحياء» (1/511 - استخراج الحداد) .
وصحح شيخنا الألباني رحمه الله في «السلسلة الصحيحة» (1910) حديث أنس رفعه: «صلُّوا في بيوتكم، ولا تتركوا النوافل فيها» ، وهو بعمومه يشمل هذه المسألة، فتأمل!
إلى أنْ قال: «والمختار أنَّ الجماعة أفضل كما رآه عمر» (1) .
وقال الإمام الشوكاني في كتابه «نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار» (2) : «وقال الإمام النووي (3) : اتفق العلماء على استحبابها، قال (4) : واختلفوا في أنَّ الأفضل صلاتها في بيته منفرداً أم في جماعة في المسجد؟ فقال الشافعي (5) وجمهور أصحابه (6) وأبو حنيفة (7)
(1) الإحياء (1/202) ، وكذا قال زكريا الأنصاري في «تحفة الباري» (2/ق323 - المحمودية) .
(2)
(3/60) .
(3)
في «شرح صحيح مسلم» المسمى «المنهاج» (6/58 - ط. قرطبة و6/41 - ط. التراث) .
(4)
أي: النووي أيضاً رحمه الله.
(5)
قال الترمذي في «جامعه» (3/170) : «واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئاً» ، ونقل البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (4/5395) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (5/159 رقم 6304) عن الشافعي أن الصلاة في المسجد أفضل مع رسول الله في مسجده على ما في ذلك من الفضل. ثم صرح البيهقي أن تفضيل صلاة الرجل وحده هو مذهبه القديم، ثم نقل عنه (4/5398) :«وإنْ صلاها في جماعة؛ فحسن» . وانظر: «الحاوي الكبير» (2/291) ، «تحفة الأحوذي» (3/448 - ط. دار الكتب العلمية) .
(6)
نقله ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/161) عن المزني وابن عبد الحكم من أصحاب الشافعي، وقال النووي في «المجموع» (1/486) :«وهو المنصوص في البويطي، وبه أكثر أصحابنا المتقدمين» . وانظر «مدارك المرام في مسالك الصيام» (114) للقطب القسطلاني، و «إرشاد الساري» (3/427) .
(7)
انظر «البناية» (2/586) للعيني. وحكاه ابن عبد البر (5/161) عن عيسى بن أبان، وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران، والطحاوي من الحنفية. وانظر -لزاماً- «شرح معاني الآثار» (1/350) ..
وأحمد (1) وبعض المالكية (2) وغيرهم (3) : الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب (4) ، وقال مالك (5)
(1) قال الترمذي في «الجامع» (3/170) : «اختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق الصلاة مع الإمام في شهر رمضان» ، وقال أبو داود في «مسائل أحمد» (64) :«سمعت أحمد يقول: يصلي مع الناس» ، وسمعته -أيضاً- يقول:«يعجبني أن يصلي مع الإمام، ويوتر معه» ، وقال الأثرم -كما في «الاستذكار» (5/162) -:«كان ابن حنبل يصلي مع الناس التراويح كلها؛ يعني: الأشفاع عندنا، إلى آخرها، ويوتر معهم» . وكذلك نقل عنه أبو داود السجستاني في «مسائله» (62) ، وعنه عبد الحق الإشبيلي في «التهجد» (ص 176) ، وابن نصر في «قيام رمضان» (91)، قال أحمد: كان جابر يصليها في جماعة، وروي عن علي وابن مسعود مثل ذلك.
(2)
انظر «فتح الباري» (4/252) ، و «إرشاد الساري» (3/427) ، والمصادر الآتية للمالكية.
(3)
كإسحاق وابن المبارك، أفاده الترمذي، وتقدم كلامه قريباً، وهذا اختيار الشاطبي في «الاعتصام» (1/325) -وعزاه للسلف- شيخنا الألباني في «صلاة التراويح» (17-18) ، والشيخ ابن عثيمين في «مجالس شهر رمضان» (19) رحمهم الله وسائر علماء المسلمين-.
(4)
بعدها في «شرح صحيح مسلم» (6/58) للنووي -ونقله عنه أيضاً الشوكاني في «النيل» (3/60) -: «والصحابة رضي الله عنهم، واستمرَّ عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد» .
(5)
ونقل عبد الحق الإشبيلي في «التهجد» (ص 176) عن مالك قوله: «لا أشك= =أن الصلاة في البيت أفضل» ، وقيّده غير واحد لمن قوي عليه، كالقرطبي. وقال عبد الحق:«ويروى عنه -أيضاً-: أفضله أكثره، في البيت أو في المسجد»
…
وانظر: «المدونة» (1/189) ، «البيان والتحصيل» (17/40) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/187) ، «تفسير القرطبي» (8/372-373) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (1/359 رقم 275 - بتحقيقي) ، «الذخيرة» (2/403) ، «التمهيد» (8/119) ، «الاستذكار» (5/158، 164) .
وأبو يوسف (1) وبعض الشافعية (2) وغيرهم (3) : الأفضل فُرادى في البيت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصلاة: صلاةُ المرءِ في بيته إلا المكتوبة» متفق عليه» (4) .
(1) نقله القرطبي في «تفسيره» (8/372) ، والقطب القسطلاني في «مدارك المرام» (114-115) ، وابن حجر في «الفتح» (4/252) ، والقسطلاني في «إرشاد الساري» (3/427) ، وصديق حسن خان في «عون الباري» (2/860) .
(2)
المصادر السابقة.
(3)
قال عبد الحق الإشبيلي في «التهجد» (ص 176) : «وكان ابن هرمز يصلي في بيته، ويصلي بأهله، وكذلك ربيعة وغيره من علماء المدينة يختارون الصلاة في البيت، وكذلك مجاهد وابن القاسم، ويروى هذا عن عبد الله بن عمر أنه اختار للرجل أن يصلي في بيته إذا كان يحفظ» ، ونقله ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/158-159) عن ربيعة وعمر وابنه وعلي وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع، وهذا اختيار المعلمي اليماني في «قيام رمضان» (ص 27، 30، 34، 37) .
قال أبو عبيدة: أما مذهب عمر، فسبق، وأما مذهب ابنه، فقد أخرجه أبو داود (485) ، وعبد الرزاق (7742، 7743) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/351-352) ، وابن نصر في «قيام رمضان» (91) .
وينظر لمذهب علي: «مصنف ابن أبي شيبة» (1/287 و2/396) ، و «السنن الكبرى» (2/494) ، و «مصنف عبد الرزاق» (7722) .
ويؤثر هذا عن ابن عباس -أيضاً-. انظر «مصنف ابن أبي شيبة» (2/396) .
(4)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (731) ، ومسلم في «صحيحه» (781) .
وهنا ثلاثة أمور أنبّه عليها لأهميّتها:
الأول: انتهى هنا نقل المصنِّفَيْن عن الشوكاني! والكلام برمّته للنووي، وهو -كما= =تقدم- في «شرح صحيح مسلم» ، فلو عزي إليه، لكان أعلى وأحسن.
الثاني: هنالك مذاهب أخرى في المسألة المذكورة، من أجودها ما نقله عبد الحق الإشبيلي في «التهجد» (176) :«وقال رجل للحسن البصري: أصلّي قيام رمضان في البيت أو في المسجد؟ فقال له الحسن: الموضع الذي ترى فيه عينَيْك أدمع، وقلبك أرق وأخشع، فالزمه» .
وقال الليث بن سعد -كما في «الاستذكار» (5/159-160) -: «لو أنَّ الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم وأهليهم حتى يُترك المسجدُ، لا يقوم فيه، لكان ينبغي أن يخرجوا إلى المسجد حتى يقوموا فيه في رمضان؛ لأنَّ قيام رمضان من الأمر الذي لا ينبغي للناس تركه، وهو مما سنّ عمرُ للمسلمين، وجمعهم عليه، وأما إذا كانت الجماعةُ قد قامت في المسجد، فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في بيته، وأهل بيته» .
ولخص القرطبي في «تفسيره» (8/372-373) مذهبه بقوله: «لو قام الناس في بيوتهم، ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه» !! وهو مخلّ، فتنبَّه!
ونقله القطب في «مدارك المرام» (ص 115) عن بعض الشافعية، وقال:«ومنهم من قال: إن كان يحفظ القرآن، ويأمن من التكاسل عن القيام به، فهو في البيت أفضل، وإن كان بالعكس، ففي المسجد أفضل» .
الثالث: الذي أراه راجحاً، ما قاله ابن عبد البر في «التمهيد» (8/119-120) -وذكر الخلاف، والمذاهب والأقوال-:«كل من اختار التفرد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد، فلا» ، وقال:«القيام في رمضان تطوع، وكذلك قيام الليل كله، وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرض على أمته، فمن أوجبه فرضاً، أوقع ما خشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخافه، وكرهه على أمته، وإذا صح أنه تطوع، فقد علمنا (بالسنة الثابتة) أن التطوع في البيوت أفضل، إلا أن قيام رمضان (لا بد أن يقام) اتباعاً لعمر، واستدلالاً بسنة رسول الله في ذلك، فإذا قامت الصلاة في المساجد فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلي نيته وخشوعه وإخباته، وتدبر ما يتلوه في صلاته، فحيث كان ذلك مع قيام سنة عمر، فهو أفضل -إن شاء الله-، وبالله التوفيق» .
وانظر مذاهب الصحابة المؤيدة لإقامتها في المسجد مع تخريجها في «صلاة التراويح» لشيخنا الألباني رحمه الله (ص 9-15) . وانظر تأصيلاً قوياً يؤيّد ضرورة إظهار
…
هذه الشعيرة في: «الموافقات» للشاطبي (3/262-264) ، «اقتضاء الصراط المستقيم» = = (275-277) ، «فتح الباري» (3/14) .
وفي «الموطأ» (1)
(1)(1/115 - رواية يحيى) .
وأخرجه من طريق مالك به: الفريابي في «الصيام» (رقم 174) ، وأبو بكر النيسابوري في «فوائده» (ق135/أ) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/293) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/496) و «معرفة السنن والآثار» (4/42 رقم 5413، 5414، 5415، 5416) ، وسنده صحيح غاية.
قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/154 رقم 6272، 6273) : «هكذا قال مالك في هذا الحديث (إحدى عشرة ركعة)، وغير مالك يخالفه فيقول في موضع: إحدى عشرة ركعة (إحدى وعشرين)، ولا أعلم أحداً قال في هذا الحديث: إحدى عشرة ركعة غير مالك، والله أعلم.
إلا أنه يحتملُ أنْ يكون القيامُ في أول ما عمل به عمر بإحدى عشرة ركعة، ثم خفَّفَ عليهم طول القيام، ونقلهم إلى إحدى وعشرين ركعة، يُخَفِّفُون فيها القراءة، ويزيدون في الركوع والسجود، إلا أنَّ الأغلبَ عندي في إحدى عشرة ركعة الوَهْم، والله أعلم» .
قال أبو عبيدة: ليس كذلك، فقد تابع مالكاً على «إحدى عشرة ركعة» جمعٌ؛ منهم:
* يحيى بن سعيد القطان، عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/284 رقم 1 - ط. دار الفكر) .
* إسماعيل بن أمية.
* أسامة بن زيد.
أخرجه من طريقهما عن محمد بن يوسف به: أبو بكر النيسابوري في «فوائده» (ق135/أ) .
* إسماعيل بن جعفر المدني عن محمد بن يوسف:
أخرجه علي بن حُجر السعدي في «حديثه» (رقم 440) .
فهؤلاء أربعة رووه عن محمد بن يوسف، وتابعوا مالكاً على لفظة «إحدى عشرة ركعة» .
ولذا تعقَّب العلماء ابن عبد البر في كلامه السابق، قال الزرقاني في «شرح موطأ= =مالك» (1/25) راداً عليه:«ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال: إحدى عشرة ركعة، كما قال مالك» .
وسنده في غاية الصحة، قاله السيوطي في «المصابيح» (1/350 - ضمن «الحاوي» ) .
نعم، خولف مالك، خالفه محمد بن إسحاق وغيره! انظر الهامش الآتي.
(فائدة) : وقع في مطبوع «إتحاف المهرة» (12/158 رقم 15299) أن مالكاً حدثه، عن ابن شهاب!! وهذا خطأ، صوابه:(محمد بن يوسف) ، وهو ثقة.
عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد: إنها إحدى عشرة ركعة.
وروى محمد بن نصر عن محمد بن يوسف إنها إحدى وعشرون ركعة (1) .
(1) تصرف المؤلِّفان في النقل عن ابن حجر في «الفتح» (4/253) ، فوقعوا في هذا الخطأ، وهذا نص كلام ابن حجر بعد أن نقل عن مالك ما سبق:
«ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن يوسف، فقال: «ثلاث عشرة» ، ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال:«إحدى وعشرين» » .
فرواية: «إحدى وعشرين» ، أخرجها عبد الرزاق في «المصنف» (4/260 رقم 7730) عن داود بن قيس وغيره، عن محمد بن يوسف، به.
وأما رواية ابن نصر، فهي في «قيام رمضان» (ص 91)، وفيها:«ثلاث عشرة ركعة» -ومن طريقه عند أبي بكر النيسابوري في «فوائده» (ق135/أ) -، وزاد في «القيام» :«قال ابن إسحاق: وما سمعت في ذلك -يعني: في عدد ركعات قيام رمضان- هو أثبت عندي، ولا أحرى من حديث السائب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له من الليل ثلاث عشرة ركعة» .
قلت: رواية الجماعة عن محمد بن يوسف: «إحدى عشرة» هي المحفوظة، وأما رواية ابن إسحاق فهي مرجوحة، لمخالفته من أهم أوثق منه، وأكثر منه عدداً، ويمكن أن يجمع بينها وبين رواية الإمام مالك ومن تابعه، كالجمع المذكور بين حديث عائشة في «الصحيحين» ، وفيه صلاته صلى الله عليه وسلم قيام رمضان إحدى عشرة ركعة، وما ثبت في «صحيح مسلم» عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. فقد وقع تفصيل عند أبي داود (1/215) ، وأبي عوانة (2/318) ضمن حديث طويل، فيه: = = «فصلّى ركعتين خفيفتين، قد قرأ فيهما بأم القرآن في كل ركعة، ثم سلّم، ثم صلّى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام، فأتاه بلال، فقال: الصلاة يا رسول الله! فركع ركعتين، ثم صلى بالناس» ، فالركعتان الزائدتان ليستا من الإحدى عشر، واختلف فيهما، قال ابن القيم في «الهدي» (1/327) :«فقد حصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعة، واختُلف في الركعتين الأخيرتين: هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما؟» .
وما يقال عن هذين الحديثين -أعني: حديثي عائشة وابن عباس رضي الله عنهم يقال في رواية مالك وابن إسحاق، وإلا؛ فالذي تقتضيه الصنعة الحديثية: ترجيح رواية مالك ومن وافقه.
وأما رواية داود بن قيس التي عند عبد الرزاق: فداود هو الفَرّاء الدّبّاغ، أبو سليمان القُرشي مولاهم، المدني، ثقة، وتفرد عبد الرزاق في الرواية عنه (إحدى وعشرين) ، ولم يتبيَّن لنا (غيره) ، وإنما أبهمه، ولا نترك (المبيَّن) لـ (المجمل) ، ولا نترك رواية الجماعة، وفيهم ثقات رفعاء لمثل هذه الرواية!
وقد حمل شيخنا الألباني في كتابه «صلاة التراويح» (ص 48-49) الخطأ في ذكر العدد لعبد الرزاق، لأنه قد اختلط!
قال أبو عبيدة: ثم رأيته في «الصيام» للفريابي (رقم 175) : حدثنا قتيبة، حدثنا وكيع، عن داود بن قيس، عن محمد بن يوسف، وذكره مثل خبر عبد الرزاق، إلا أنه سكت عن عدد الركعات، وهذا أصح، والله أعلم.
والخلاصة: أن رواية الجماعة عن محمد بن يوسف (إحدى عشرة) ، وهو الراجح على ما تقتضيه الصنعة الحديثية، وفي تحقيق صواب رواية (ابن يوسف) -عندي- يظهر الصواب في فعل عمر؛ لأنه روي عن السائب على ألوان وضروب، وانظر الهامش الآتي، والله الهادي.
وفي «الموطأ» (1)
(1) كذا قال المؤلِّفان! وهو خطأ! وفي «فتح الباري» (4/253) -وينقل المصنِّفان منه بواسطة «النيل» -: «وروى مالك من طريق يزيد بن خصيفة
…
» ! قال شيخنا الألباني في «صلاة التراويح» (49 - الهامش) : «وعزاه الحافظ في «الفتح» لمالك؛ فوهم» .
قلت: إنما أخرجه الفريابي في «الصيام» (رقم 176) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (رقم 2825) -ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/496) - من= =طريق ابن أبي ذئب، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كانوا يقومون على عهد عمر في شهر رمضان بعشرين ركعة.
وأخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (4/42 رقم 5409) من طريق محمد بن جعفر، قال: حدثني يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر، وعزاه محققه لـ «الموطأ» !! وهو خطأ، فليكن ذلك على بالك، والله الموفق.
وهذا الطريق معتمد القائلين بالعشرين في صلاة التراويح! وقد ذهب جماهير الفقهاء، وغير واحد من المحدّثين إلى الجمع بين ما رواه محمد بن يوسف ويزيد بن خصيفة عن يزيد، قال البيهقي في «الكبرى» (2/496) -مثلاً-:«ويمكن الجمع بين الروايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث» .
قلت: نعم، وقع التصريح -أيضاً- بثلاث وعشرين.
قال ابن عبد البر في «التمهيد» (8/114) و «الاستذكار» (5/154-155 رقم 6276) : «وروى الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، عن السائب بن يزيد، قال: كنا ننصرف من القيام على عهد عمر، وقد دنا فُروع -أي: بزوغ- الفجر، وكان القيامُ على عهد عمر بثلاث وعشرين ركعة» ، وهو في «مصنف عبد الرزاق» (4/261-262 رقم 7733) عن الأسلمي، عن الحارث، به.
وبهذا يجمع بين روايتي (إحدى وعشرين) و (ثلاث وعشرين) على حسب عدد ركعات الوتر.
قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/155) : «وهذا محمول على أن الثلاث للوتر، والحديث الأول على الواحدة للوتر» ، قال:«كل ذلك معروف معمول به في المدينة» .
وقال البيهقي في «المعرفة» (4/42) : «قال الشافعي: وليس في شيء من هذا ضيق، ولا حد ينتهي إليه، لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام وأقلّوا السجود؛ فحسن، وهو أحب إليّ، وإنْ أكثروا الركوع والسجود، فحسن» .
وهذا صنيع ابن حجر في «الفتح» ، كما سيأتي في كتابنا هذا، والله الموفق.
قال أبو عبيدة: الواجب (الإعمال لا الإهمال) ، ولكن بعد التأكد من الصِّحة والثبوت، و (الجمع) مقدَّم على (الترجيح) ، والثابت عن عمر أنه صلى (إحدى عشرة) دون زيادة، يتأكّد هذا بأمور:
=
…
الأول: أن هذه رواية محمد بن يوسف عن السائب، وابن يوسف هو ابن أخت السائب، وهو أعرف برواية خاله، وأحفظ لروايته من ابن خصيفة، إذ هذا الأخير يروي عن السائب تارة مباشرة، وتارة بواسطة.
الثاني: حمل فعل عمر على موافقة سنته صلى الله عليه وسلم خير وأولى من حمله على مخالفتها، وهذا بيّن لا يخفى -إن شاء الله تعالى-. أفاده شيخنا الألباني رحمه الله في «صلاة التراويح» (ص 51) .
الثالث: رواية ابن خصيفة فيها: إن الناس فعلوا ذلك في زمن عمر، بخلاف الرواية الصحيحة، ففيها أنه أمر بإحدى عشرة ركعة، أفاده شيخنا الألباني رحمه الله أيضاً في «قيام رمضان» (ص 4) .
الرابع: وقد ضعّف رواية يزيد بالشذوذ جمع من المحدِّثين؛ منهم: شيخنا الألباني في «صلاة التراويح» (ص 49-51) ، والشيخ بديع الدين السندي في مقالة له في مجلة «الجامعة الإسلامية» (م 9)(العدد 1)(سنة 1397هـ) ، والدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، كما في مجلة «الجامعة الإسلامية» (م 15/594/1403هـ) .
من طريق يزيد بن خَصِيفة، عن السائب بن
…
يزيد (1) أنها عشرون ركعة.
وروى محمد بن نصر (2) من طريق عطاء، قال: أدركتهم في رمضان يصلُّون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر.
قال الحافظ (3) : «والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أنّ ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث تطول القراءة تقلل (4) الركعات، وبالعكس، وبه (5) جزم الداودي وغيره» ، وقد روى محمد بن نصر (6) من طريق داود بن قيس، قال: أدركتُ الناسَ في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز -يعني: بالمدينة- يقومون بستٍّ وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وقال مالك: الأمر [القديم عندنا (7) .
(1) في الأصل: «زيد» ، وهو خطأ، والتصويب من كتب التخريج.
(2)
في «قيام رمضان» (ص 95 - مختصره)، وذكره ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/157 رقم 6290) . وانظر:«النيل» (3/63) .
(3)
ابن حجر في «فتح الباري» (4/253) .
(4)
في مطبوع «الفتح» : «تقل» .
(5)
في مطبوع «الفتح» : «وبذلك» .
(6)
النقل من «الفتح» (4/453) بحروفه، والخبر عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/393) ، وابن نصر في «قيام رمضان» (95-96 - مختصره) بنحوه.
وانظر: «الاستذكار» (5/157 رقم 6294) ، «شرح الزرقاني» (1/239) ، «بداية المجتهد» (1/210) ، «إرشاد الساري» (3/426) ، «نيل الأوطار» (3/63) .
(7)
وفي «العتبية» (2/309 - مع شرحها «البيان والتحصيل» ) من سماع ابن القاسم: «وسمعت مالكاً وذكر أن جعفر بن سليمان أرسل إليه يسأله أن ينقص من قيام رمضان، قال: فنهيته عن ذلك، فقيل له: أفتكره ذلك؟ قال: نعم، وقد قام الناس هذا القيام، فقيل له: فكم القيام عندكم؟ قال: تسع وثلاثون ركعة بالوتر» .
وقد صرّح محمّد بن رشد (2/309-310) باستناد هذا التوقيت -في عدد ركعات التراويح- إلى عمل أهل المدينة، فقال:«وكان للجمع فيه أصل السنّة، وكان العمل قد استمر فيه على هذا العدد من يوم الحرّة إلى زمنه» . وكذا في «قيام رمضان» (96 - مختصره) لابن نصر.
وفضّل الباجي في «المنتقى» (1/208-209) هذا العدد لعمل أهل المدينة، فقال:«وهو الذي مضى عليه عمل الأئمة، واتفق عليه رأي الجماعة، فكان هو الأفضل» .
وانظر: «التمهيد» (8/113) ، «شرح الزرقاني» (1/239) ، «عارضة الأحوذي» (4/19) ، «المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة» (1/317) .
بقي بعد هذا، أنه نُسب للإمام مالك اختياره إحدى عشرة ركعة توقيتاً للقيام، ففي «التاج والإكليل» (1/71 - بهامش «مواهب الجليل» ) و «ميسر الجليل الكبير» (1/258) عن مالك قوله:«الذي آخذ به لنفسي، ما جمع عليه عمر الناس إحدى عشرة ركعة» .
…
=
=
…
وفي «النوادر والزيادات» (1/521-522) عن ابن حبيب، أنها كانت أولاً إحدى عشرة ركعة، إلا أنهم كانوا يطيلون القراءة، فثقل عليهم ذلك، فزادوا في أعداد الركعات، وخففوا القراءة، وكانوا يصلون عشرين ركعة غير الشفع، والوتر بقراءة متوسطة، ثم خففوا القراءة، وجعلوا عدد ركعاتها ستاً وثلاثين، غير الشفع والوتر، قال: ومضى الأمر على ذلك، ونقله عنه القسطلاني في «إرشاد الساري» (3/426) ، ونحوه في «مجموع فتاوى ابن تيمية» (23/120) و «الفتاوى الكبرى» (1/163 - ط. المعرفة) من كلامه رحمه الله، وكذا في «الاختيارات العلمية» (ص 64) للبعلي.
وعن الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة] (1) بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق (2) .
قال الترمذي: «أكثر ما قيل أنه يصلي إحدى وأربعين ركعة
…
بركعة الوتر» (3)[كذا قال](4) ، ونقل ابن عبد البر (5) عن الأسود بن
…
يزيد: أربعين يوتر بسبع، وقيل: ثمان وثلاثين. ذكره محمد بن نصر (6) عن ابن أيمن (7) عن مالك.
قال الحافظ (8) : «وهذا يمكن ردُّه إلى الأول، بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرَّح في روايته بأنه يوتر بواحدة، فتكون أربعين إلا واحدة.
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وبدله فيه «عندنا» ، وهكذا -أيضاً- في «نيل الأوطار» (6/64) ، والمثبت من «فتح الباري» (4/253) ، ويدل هذا على أن النقل منه بواسطة «النيل» ، وسيصرح بذلك المصنف، إذ لم يكن «فتح الباري» قد طبع زمن تأليف هذه الرسالة، والله الموفق للخيرات، والهادي إلى الصالحات.
(2)
في «الأم» (1/142) : «رأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين» ، ونقله بنحوه البيهقي في «المعرفة» (4/40، 42 رقم 5404، 5412)، وفيه:«وأحبُّ إليّ: عشرون» .
وانظر: «قيام رمضان» (ص 96) لابن نصر المروزي، «إرشاد الساري» (3/427) .
(3)
«جامع الترمذي» (2/160 - ط. بشار) ، ونقله عنه ابن حجر في «الفتح» (4/253) بحروفه، والذي عند الترمذي مأخوذ بالاستنباط، إذ ذكر أقوالاً أكثرها المذكور.
(4)
المثبت من «الفتح» (4/253) ، وسقط من الأصل، ومن أصله «النيل» !
(5)
في «الاستذكار» (5/157 رقم 6291)، ولفظه:«وكان الأسود بن يزيد يصلّي أربعين ركعة ويوتر بسبع» ، ونقله في «الفتح» (4/253) عنه هكذا:«تصلى أربعين ويوتر بسبع» !
(6)
في «قيام رمضان» (ص 96 - مختصره) ، وعنه في «الفتح» (4/253) ، وانظر= = «التمهيد» (8/113) .
(7)
في الأصل: «يونس» ! وكذا في «النيل» ! وهو خطأ، صوابه المثبت، كما في المصدرَين السابقَين. وانظر:«الاستذكار» (5/157) .
(8)
في «الفتح» (4/253) .
قال مالك: وعلى هذا العمل منذ بضع ومئة سنة (1) . وروي عن مالك: ست وأربعون، وثلاث الوتر، قال في «الفتح» (2) :«هذا هو المشهور عنه (3) ، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع، قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعاً وثلاثين، ويوترون منها بثلاث (4) . وعن زرارة بن أبي أوفى: أنه كان يصلِّي بهم بالبصرة أربعاً وثلاثين ويوتر (5) . وعن سعيد بن جبير: أربعاً وعشرين (6) ، وقيل: ست عشرة غير الوتر» (7) .
هذا حاصل ما ذكره في «الفتح» (8) من الاختلاف في ذلك، وأما العدد الثابت عنه S في صلاته في رمضان، فأخرج البخاري (9) وغيره (10)
(1) كذا في «الفتح» (4/253-254) ، وانظر ما تقدم قريباً.
(2)
(4/254) ، وعنه صاحب «عون الباري» (2/863) .
(3)
انظر: «الكافي» (1/256) ، «بداية المجتهد» (1/210) ، «حاشية الدسوقي» (1/315-317) ، «أسهل المدارك» (1/299) ، «الخرشي» (2/8-9) ، «الشرح الصغير» (1/404) ، «ميسّر الجليل الكبير» (1/258) .
(4)
أخرجه محمد بن نصر في «قيام رمضان» (ص 96 - مختصره) .
وذكره الباجي في «المنتقى» (1/208-209) .
(5)
أخرجه محمد بن نصر في «قيام رمضان» (ص 96 - مختصره) .
وانظر «عون الباري» (2/863) .
(6)
أخرجه محمد بن نصر في «قيام رمضان» (ص 96 - مختصره) .
(7)
انظر «المجموع» (4/32) ، «عمدة القاري» (11/127) ، «عون الباري» (2/863) .
(8)
(4/253-254) ، وعنه «نيل الأوطار» (3/64) ، و «عون الباري» (2/863) .
(9)
في «صحيحه» (رقم 1147، 2013) .
(10)
مثل: مسلم في «صحيحه» (125) ، وأبو داود في «سننه» (1341) ، والترمذي في «جامعه» (439) ، والنسائي في «المجتبى» (3/234) ، ومالك في «الموطأ» (94) ، وأحمد (6/36، 73، 104) ، وإسحاق بن راهويه في «المسند» (رقم 1130) ، وعبد الرزاق (1/47) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (1166) ، وأبو عوانة في «المسند» (2/ 356) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/282) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/495) وفي «المعرفة» (5379) .
وفي الباب عن جابر بنحوه، قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات، وأوتر،
…
» ، عند الطبراني في «الصغير» (1/190) ، وابن خزيمة (1070) ، وابن حبان (920 - موارد) ، وابن نصر (90) ، وفيه ضعف يسير، يجبر بالشاهد قبله، وقال الذهبي في «الميزان» عنه:«إسناده وسط» . وانظر «تحفة الأحوذي» (2/74 - ط. الهندية) .
قال العلامة عبد الحق الدهلوي في «لمعات التنقيح» (4/111) عن عدد ركعات التراويح: «ولا يذهب عليك أن تقدير الأعداد من غير سندٍ من جانب الشارع، لا يجوز» ، وقال -قبله- ابن العربي المالكي في «عارضة الأحوذي» (4/19) :«والصحيح أن يُصلَّى إحدى عشرة ركعة، صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقيامه، فأما غير ذلك من الأعداد، فلا أصل له، ولا حدَّ فيه، فإذا لم يكن بدٌّ من الحد، فما كان النبي عليه السلام يصلّي، وما زاد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وهذه الصلاة هي قيام الليل، فوجب أن يقتدى فيها بالنبي عليه السلام» ، وقارنه -لزاماً- بما في «القبس» له (1/284) .
عن عائشة، أنها قالت: «ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
وأما مقدار القراءة (1) في كل ركعة فلم يرد به دليل. انتهى كلام الإمام الشوكاني (2) .
وقال العلامة القسطلاني في «شرحه على البخاري» (3) : «وروى البيهقي في «المعرفة» (4) عن الشافعي: «وليس في شيء من هذا -أي: من الاختلاف في عدد صلاة التراويح- ضيقٌ، ولا حد ينتهي إليه؛ لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام، وأقلّوا السجود فَحَسَنٌ، وهذا (5) أحبُّ إليّ، وإنْ أكثروا الركوعَ والسجود فحسن»
…
وعن الشافعي -أيضاً- فيما رواه عنه الزعفراني: «رأيتُ الناسَ يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق» (6) انتهى.
وقال الحنابلة: والتراويح عشرون ركعة، ولا بأس بالزِّيادة نصّاً [أي:] (7) عن الإمام أحمد» (8) .
(1) قال ابن العربي في «العارضة» (4/19) : «وأما قدر القرآن، فليس فيه حد، إلا ما قد روي عن أُبيّ بن كعب، أنه كان يقوم باليمن، ويصلي بالبقرة في ثمان ركعات، وهي= =مئتا آية، ويصليها في اثنتي عشرة ركعة» ، قال:«وذلك على الإمام بحسب ما يعلم من حال المصلي معه، وصبرهم أو حجرهم» .
قلت: كذا في مطبوع «العارضة» : «باليمن» ، وصوابه:«بالمئين» .
ووقع ذلك في خبر محمد بن يوسف عن السائب في «الموطأ» وغيره، وقد سبق في التعليق على (ص 75-76) .
(2)
في «نيل الأوطار» (6/63/64) ، ووقع سقط في نقله عن «الفتح» ، أثبتناه منه بين معقوفتين، وسبقت الإشارة إليه، والله الموفق، وانظر «السيل الجرار» له -أيضاً- (1/330) .
(3)
المسمى «إرشاد الساري» (3/427) .
(4)
(4/42 رقم 5412 - ط. قلعجي) .
(5)
كذا في «إرشاد الساري» ، وفي «المعرفة» :«وهو» .
(6)
سبق توثيقه قريباً.
(7)
سقطت من الأصل، وأثبتها من «إرشاد الساري» .
(8)
قال عبد الله بن أحمد: «رأيت أبي يصلي في رمضان ما لا أحصي» .
=
…
انظر: «الإنصاف» (2/18) ، «الإقناع» (1/147) ، «مطالب أولي النهى» (1/563) ، «منتهى الإرادات» (1/100) ، «المبدع» (2/17) ، «كشاف القناع» (1/425) ، «المغني» (1/798-799 - مع «الشرح الكبير» ) .
انتهى كلام القسطلاني (1) .
وقال شيخ الإسلام ابنُ القيم (2) رحمه الله في بعض «فتاويه» : «أنَّ نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيّناً، بل [هو](3) كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة (4) ، كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أُبَيّ بن كعب كان يصلِّي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث (5) ،
(1) ونحوه في «عون الباري» (2/863) . وانظر «صلاة التراويح» (ص 35) لشيخنا الألباني رحمه الله.
(2)
النقل عنه بواسطة «عون الباري» (2/864) ، وسيصرح المصنّف بذلك.
والكلام هذا لابن تيمية، شيخ ابن القيم في «الفتاوى الكبرى» (1/163) ، و «مجموع الفتاوى» (23/120) ، والمنقول عن ابن القيم في «الزاد» (1/325-327) أن هديه S في القيام بالليل إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، على الوجه الذي ذكرناه في التعليق على (ص 76) ، ولم يرد له ذكر في «تقريب فقه ابن القيم» ، ولا في «جامع فقهه» (2/226) إلا على هذا الوجه.
ثم وجدتُ ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» رد على ابن المطهِّر الشيعي بقوله: «وزعم أن علياً كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة! ولم يصحّ ذلك، ونبيّنا S كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة، ولا يُستحب قيام كل الليل، بل يكره» ، ثم قال:«وعليّ كان أعلمَ الناس وأتبع لهديه من أن يخالف هذه المخالفة» .
انظر: «المنتقى» للذهبي (169-170) .
(3)
سقط من الأصل، وأثبته من «العون» .
(4)
انظر التعليق على (ص 76) ، فهناك التخريج.
(5)
ورد ذلك في رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد! وهي رواية= =مرجوحة، والأرجح منها رواية محمد بن يوسف عن السائب؛ لوجوه ذكرناها في التعليق على (ص 77-79) ، ومضى تخريج ذلك مسهباً.
وأخرج مالك (1/115) ، وابن نصر في «قيام رمضان» (95 - مختصره) ، والفريابي في «الصيام» (رقم 179، 180) ، والبيهقي في «المعرفة» (4/42 رقم 5410، 5411) ، و «السنن الكبرى» (2/496) عن يزيد بن رُومان، أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة.
قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/156 رقم 6283) بعدها وبعد رواية يزيد بن خصيفة: «وهذا كله يشهد بأنّ الرواية بإحدى عشرة ركعة وَهْمٌ وغلط، وأن الصحيح ثلاث وعشرون، وإحدى وعشرون ركعة، والله أعلم» !!
ثم قال: «وقد روى أبو شيبة -واسمه: إبراهيم ابن عُلَيَّة بن عثمان- عن الحكم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي في رمضان عشرين ركعة والوتر» ، قال:«وليس أبو شيبة بالقوي عندهم، وذكره ابن أبي شيبة (2/286 رقم 13 - ط. دار الفكر) عن يزيد ابن رومان، عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان» .
قال أبو عبيدة: وأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/496) ، وأبو شيبة الكوفي ضعيف، بل قال النسائي والدولابي: متروك، وقال الجوزجاني: ساقط، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، سكتوا عنه، وتركوا حديثه، وقال الترمذي: منكر الحديث، وضعّفه جماعة.
وانظر -غير مأمور-: «التاريخ الكبير» (2/31) ، «تاريخ ابن معين» (2/11) ، «الجرح والتعديل» (1/115) ، «ضعفاء العقيلي» (1/59) ، «المجروحين» (1/104) ، «تاريخ بغداد» (6/113) ، «تاريخ واسط» (105) .
والحكم هو ابن عُتيبة، لم يسمع من ابن عباس، كما في «إتحاف المهرة» (7/49) وغيره، وهو ثقة ثبت، إلا أنه ربما دلس، كما في «التقريب» ، والثابت من المرفوع من هديه S الإحدى عشرة دون غيرها، وقد قدمنا ذلك من حديثي عائشة وجابر رضي الله عنهما. وأما الثابت عن عمر، فالصحيح عنه ما يوافق هديه صلى الله عليه وسلم، كما قدمناه -أيضاً-.
وأما الرواية السابقة هنا: رواية يزيد بن رومان فلم تصح، ولا يجوز أن تعارض رواية محمد بن يوسف الصحيحة، ولا تصح أن تشد بها رواية خصيفة المرجوحة، خلافاً لصنيع ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، لأنها مرسلة، قال النووي في «المجموع» (3/526) :«رواه البيهقي، لكنه مرسل، فإن يزيد بن رومان، لم يدرك عمر» ، وأقره الزيلعي في «نصب= =الراية» (2/154)، وقال العيني في «عمدة القاري» (5/357) :«سنده منقطع» ، وهو معنى الإرسال عند الأقدمين، كما هو مصرح به في كتب المصطلح.
وهنا لفتة مهمة يجب التنبه لها، وهي: أن الإمام البخاري ذكر في «صحيحه» (كتاب صلاة التراويح) : باب فضل مَنْ قام رمضان (4/250-251 - مع «الفتح» ) أثر عمر وجمعهم على أُبي، ولم يذكر عدد الركعات، ثم أردفه بحديث عائشة: «كان لا يزيد في رمضان،
…
» ، وهذا ظاهر أنه يرجّح هذا، وليتأمّل!
وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات، ولأنَّ ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا شائع، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن»
…
إلى أن قال: «ومن ظنَّ أنَّ قيام رمضان فيه عدد مؤقتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فقد أخطأ» . انتهى من «عون الباري لشرح أدلة البخاري» (1) .
فهل بعد هذه النُّقول والاختلافات الكثيرة يلتفت إلى دعوى الرَّجُلِ: أنَّ الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين اتفقوا على أنَّ صلاة التراويح عشرون ركعة بالجماعة أول الليل، وفي المسجد؟ وأنه لم يسمع عن أحد منهم مخالفة في ذلك.
وأيّ ضير علينا إذا جمعنا بالناس بالتراويح في البيت بالعدد الذي صلى به الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكما كان يصلِّي، بالخشوع والترتيل، وتعديل الأركان، وتخلُّصاً من أدائها على الوجه المعلوم الذي تؤدَّى به اليوم في أكثر المساجد من العجلة، وتضييع الأركان والواجبات، فضلاً عن السُّنن والمستحبات، وفراراً من كثرة البدع؛ (كالتوحيش (2)
(1)(2/864) ، واسم الكتاب المطبوع «عون الباري لحل أدلة البخاري» ، ومؤلفه صديق حسن خان -رحمه الله تعالى-.
(2)
بدعة التوحيش؛ يراد بها: نشيد توديع رمضان، فإنه إذا بقي في رمضان خمس ليال، أو ثلاث ليال، يجتمع المؤذّنون والمتطوعون من أصحابهم، فإذا فرغ الإمام من سلام= =وتر رمضان، أخذوا يتناوبون مقاطيع منظومة في التأسُّف على انسلاخ رمضان، من مثل قولهم:
لا أوحش الله منك يا رمضان
…
يا شهر الهدى والقرآن
قد كان شهراً طيّباً ومباركا
…
ومُبشّراً بالخير من مولانا
فمتى فرغ أحدهم من نشيد مقطوعة بصوته الجهوري، أخذ رفقاؤه بمقطوعة دورية، باذلين قصارى جهدهم في الصيحة والصراخ بضجيج يصم الآذان، ويسمع الصم، ويساعدهم على ذلك جمهور المصلين.
ولعلم الناس بأن تلك الليالي هي ليالي الوداع، ترى الناس في أطراف المساجد وعلى سدده وأبوابه، وداخل صحنه، النساء والرجال والشبان والولدان، بحالة تقشعر لقبحها الأبدان، وقد اشتملت هذه البدعة على عدة منكرات؛ منها:
1-
رفع الأصوات بالمسجد، وهو مكروه كراهة شديدة.
2-
التغني والتطرب في بيوت الله، التي لم تشيد إلا للذكر والعبادة.
3-
كون هذه البدعة مجلبة للنساء والأولاد والرعاع، الذين لا يحضرون إلا بعد انقضاء الصلاة للتفرج والسماع.
4-
اختلاط النساء بالرجال.
5-
هتك حرمة المسجد؛ لاتساخه وتبذله بهؤلاء المتفرجين، وكثرة الضوضاء والصياح من أطرافه، إلى غير ذلك، مما لو رآه السلف الصالح لضربوا على أيدي مبتدعيه -وهذا هو الواجب على كل قادر على ذلك-، وقاوموا بكل قواهم من أحدث فيه، نسأل الله -تعالى- العون على تغيير هذا الحال بمنه وكرمه.
ومن الأمور المحدثة المتعلقة بوداع رمضان، ما يفعله بعض الخطباء في آخر جمعة من رمضان، من ندب فراقه كل عام، والحزن على مضيه، وقولهم: لا أوحش الله منك يا شهر كذا وكذا، ويكرر هذه الوحشيات مسجعات مرات عديدة، ومن ذلك قوله: لا أوحش الله منك يا شهر المصابيح، لا أوحش الله منك يا شهر المفاتيح، فتأمل -هدانا الله وإياك- ما آلت إليه الخطب، لا سيما خطبة آخر هذا الشهر الجليل، الناس فيه بحاجة ماسة إلى آداب يتعلمونها لما يستقبلهم من صدقة الفطر، ومواساة الفقراء، والاستمرار على ما ينتجه الصوم من الأمور الفاضلة، والآثار الحميدة، وتجنب البدع وغير ذلك مما يقتضيه المقام.
…
=
=
…
وانظر في تقرير بدعية ذلك: «ردع الإخوان عن محدثات آخر جمعة رمضان» للكنوي (66-77)(مهم جداً) ، «السنن والمبتدعات» (ص 165) ، «إصلاح المساجد» (ص 145، 146) ، «بدع القراء» (41) ، «فتح الغفور في تعجيل الفطور وتأخير السحور» (41) كلاهما لأخينا الشيخ محمد موسى نصر، «البدع الحولية» (337-338) ، مجلتنا «الأصالة» (العدد الثالث/15 شعبان/1413هـ/ص 73-74) .
-أي: الوداع وغيره-) ، التي لا نَقْدر على إزالتها، ولا يسعنا (1) السُّكوت عليها، ولا نجد -أيضاً- من يساعدنا ممن يعدّون أنفسهم من أهل العلم، على منع مرتكبيها.
نقل العلامة الزَّبيدي الشَّهير بمرتضى في «شرح الإحياء» (2)، قال:
«قال الشيخ الأكبر (3) -قدس الله سره- في كتاب «الشريعة والحقيقة» (4) : الصفة التي يقوم بها المصلِّي في صلاته في رمضان أشرف الصِّفات؛ لشرف الاسم بشرف الزَّمان، فأقام الحق قيامه بالليل مقام صيامه بالنَّهار، إلا في الفريضة؛ رحمةً بعبيده وتخفيفاً.
ولهذا امتنع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقومه بأصحابه؛ لئلا يفترض عليهم فلا يطوقونه، ولو فرض عليهم لم يثابروا عليه هذه المثابرة، ولا استعدوا له هذا الاستعداد، ثم الذين ثابروا عليه في العامة أشأم أداءً، لا يتمُّون ركوعَه ولا سجودَه، ولا يذكرون اللهَ فيه إلا قليلاً، وما سنَّهُ مَن سنَّه على ما هم عليه إلا (5) المتميزون من الخطباء والفقهاء، وأئمة المساجد، وفي مثل صلاتهم فيه قال النبي صلى الله عليه وسلم للرَّجل:«ارجع فصلِّ، فإنَّك لم تصل» (6) ، فمن عزم على قيام رمضان المسنون المرغَّب فيه، فليتمَّ كما شرع الشَّارعُ الصلاةَ، من الطمأنينة، والوقار، والتَّدبُّر، والتسبيح، وإلا فتركُه أولى» انتهى كلام الزَّبيدي.
(1) جاءت في الأصل «ولا يسعنا» مكررة مرتين!
(2)
المسمى «إتحاف السادة المتقين» (3/422)(الفائدة التاسعة) .
(3)
يريد: ابن عربي الحاتمي الصوفي، انظر عنه كتابي «كتب حذر منها العلماء» (1/36، 37، 38، 127، 139، 142، 143، 234، 241، 2/170) .
(4)
انظر عنه «مؤلفات ابن عربي، تاريخها وتصنيفها» (ص 393 رقم 559) لعثمان يحيى.
(5)
سقطت من مطبوع «الإتحاف» .
(6)
قطعة من حديث المسيء صلاته، أخرجه البخاري (757) ، ومسلم (397) في «صحيحيهما» .
ومن تأمَّل في قول خزيران: «ما عدا مَن أزاغ اللهُ قلوبَهم من الاقتصار على أصل المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإحدى عشرة ركعة» ، يعلم أنَّ ذلك الدَّعي في العلم يعدُّ العملَ بسنُّة الرسول صلى الله عليه وسلم زيغاً -والعياذ بالله تعالى- {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
ونجيب على قوله: ألم يطرق سمعه قوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي
…
(1) إلخ» بأننا -ولله الحمد- طرق سمْعَنا، ووصل إلينا خطابُ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام هذا الذي رواه، ونحن من أشد الناس تمسّكاً به، فصلاتُنا في البيت لا تخالف سنَّة عمرَ، إذ سنّته جمع الناس على قارئ واحد، سواء كان في الجامع أو في غيره، وكان من يجتمع عندنا في البيت يفوق عددهم في بعض الأحيان عدد من يجتمعون في المسجد، أما عدد الركعات؛ فالاختلاف فيه كثير كما تقدَّم. ولم يرد بتحديده سُنَّة، وأكبر دليل على تمسّكنا بسنَّة نبيِّنا، وسنة الشَّيخين من بعده: نهينا الناس عن مخالفة سنَّة الخلفاء الراشدين في تشييع الجنازة برفع الصَّوت (2) ، وفتوى أحدنا بأنَّ ذلك بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، ولكن نقول لخزيران -مادام يذكِّرنا بأهمية طلب الرسول الأكرم بخصوص التَّمسّك بسنَّة الخلفاء الراشدين-: ما باله شمَّر عن ساعديه، وأخذ يحرِّف الكلم عن مواضعه، لأجل إماتة سنَّة الخلفاء الراشدين التي دعونا الناس إليها، وإحياء البدعة التي تخالفها على خط مستقيم، فهّمنا اللهُ حقيقة دينه. ولا يسعنا هنا إلا أن نلفت نظر مَن شمَّ رائحةَ العلم -دع الراسخين فيه- إلى قول ذلك الرجل:«تصرفات سيِّدنا عمر في صلاة التراويح» ، وقوله: «وكلتاهما (أي: سنة النبي S وسنة عمر رضي الله عنه) مطلوب منا فعلُهما شرعاً، مع إثبات الفرق فيما بينهما بنسبة ما بين درجتي مُشَرِّعيّهما، ليعلم الناس مبلغ جهل ذلك الرجل.
(1) مضى تخريجه مفصلاً في التعليق على (ص 67) .
(2)
انظر ما قدمناه من آثار في التعليق على (ص 11-14) .
ثم قال في الدفاع عن أستاذه الجزَّار: ولو أمعنَ العلامة الزَّنكلوني الفكر بجواب فضيلة أستاذنا المومأ إليه؛ لظهر له أنه لم يختلق كلمةً واحدةً من عنده، بل كل ما نقله فيه معزوٌ إلى محالِّه، ولو راجع الكتبَ المعزوَّ إليها، لوجد تمامَ الموافقة بينها وبين المنقول فيه، اللهم إلا أن يكون هناك تصرّف بسيط (1) في العبارة، فإنه -حفظه الله تعالى- بعد أن نقل حُكم المسألة على مذهبه، مع التَّحرير الدَّقيق، ذكر ما نقله العارف الشَّعراني عن شيخه الخواص (2) في كتابه «العهود المحمدية» (3) من جواز تشييع الجنازة بكلمة التَّوحيد، لورود الإذن العام عن الشَّارع بقولها في جميع الأحوال والأزمان، وأيَّده بما نقله عن بعض أئمة الشافعية (4)، ثم قال: لا بأس من العمل بقول هذا العارف، للعلَّة التي ذكرها، ومن هنا: يُعلم أنَّ جميعَ ما أورده الفاضل الزَّنكلوني عليه في غير محلّه، وما نقل عن العارف الخواص لجدير بالقبول عند أهل الاختصاص، الذين قد أنار الله بصائرهم، وأماط حجابَ الغَفْلة عن قلوبهم، وخصوصاً في هذا الزَّمان الذي قد استحكمتْ فيه الغفلةُ على الجميع، وعمَّت البلوى فيه للرَّفيع والوضيع.
(1) هذا التعبير دخيل على العربية، انظر -لزاماً- ما علقناه على (ص 26) .
(2)
راجع فتوى الأستاذ الجزار في آخر الرسالة (منهما) .
قال أبو عبيدة: للشعراني (عبد الوهاب بن أحمد، ت 973هـ) كتاب مطبوع في مصر، سنة 1227هـ-1860م، بعنوان «درر الخواص على فتاوى سيدي علي الخواص» ، لم أظفر به.
(3)
(601-مع شرحه «لواقح الأنوار القدسية» له أيضاً) ، وسيأتي كلامه بالحرف قريباً.
(4)
انظر: «حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج» (3/187-188) ، «حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج» (3/23) .
نقول: إنَّ من يتأمل في جواب العلامة الزنكلوني (1) يَرَ أنه -حفظه الله تعالى- لم يتعرَّض للجزَّار بشيء، ولم يُرِد أن يبَيّن خطأه، أدباً منه، بل بيَّنَ حكمَ الشَّريعة الإسلامية في المسألة، بياناً لا يترك قولاً لقائل، ولمح تلميحاً بضعف استدلال الجزَّار، وهذا لا بدَّ منه لمن أراد أن يبَيّن أحكام الله، أما وقد قام تلميذُ الجزَّار الخاصّ يؤيد الباطل على الحقّ. ويستعمل المغالطةَ في استنتاجه، فقد وجب علينا أن نظهرَ خطأه وخطأ أستاذه صراحةً في فهم قول الخواص، الذي نقله العارفُ الشعراني، وهو:«إذا علم من الماشين مع الجنازة أنهم لا يتركون اللغوَ [في الجنازة] ويشتغلون بأحوال الدنيا، [فـ] ينبغي أن نأمرهم بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله» (2) ، وهذا القول لا يفهم منه أن نأمر الناسَ بالذّكر، إذا علم أنهم لا يتركون اللغو، ويراد بالذّكر طبعاً الذكر الخفيّ، كما ذكر ذلك أئمة المذاهب الأربعة، بقولهم: وإذا ذكر الله فلْيذكره سرّاً في نفسه، وبدليل كلام الشعراني نفسه قبل كلام الخواص بأسطر، وهذا نصه:«وينبغي لعالم الحارة، أو شيخ الفقراء في الحارة، أن يعلِّم من يريد المشيَ مع الجنازة آداب المشي معها من عدم اللغو فيها»
…
إلى أن قال: «وأخطأ من لغا في طريق الجنازة في حق نفسه، وفي حق الميت، وقد كان السَّلف الصَّالح لا يتكلّمون في الجنازة (3) ، وكان الغريب لا يعرف من هو قريب الميت حتى يعزِّيه (4) ؛ لغلبة الحزن على الحاضرين كلِّهم، وكان سيِّدي علي الخواص
…
» (5) إلى آخر ما نقله الجزَّار في فتواه.
(1) راجع فتواه في آخر الرسالة (منهما) .
(2)
«العهود المحمدية» (601) .
(3)
انظر ما قدمناه عنهم في التعليق على (ص 17) .
(4)
انظر ما قدمناه عنهم في التعليق على (ص 18) .
(5)
«العهود المحمدية» (600-601) .
هذا ما يفهم من قول الخواص، ولو كان الشَّعرانيُّ حيّاً لما رضي بتفسير الجزار، وباستنتاجه (1) ، وهل يعقل من الإمام الشّعراني بعد أمره بالتَّمسُّك بالآداب المشروعة مع الجنازة، أن يبيح البدعةَ القبيحةَ التي هي خلاف تلك الآداب؟ معاذ الله!
ومَنْ حَمل كلام الشَّعراني على الجهر بالذكر وراء الجنازة، فقد أوقعه في الخطأ الصّريح، وتكذيب نفسه لنفسه، ومعارضته نصوص أئمة الدين وإجماعهم، ومخالفة أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا ما نُجلّه عنه.
ومما تقدَّم يُعلم: خبطُ الفاضل الجزَّار، وخلطُه في هذه المسألة، ونرجو اللهَ -تعالى- أن لا تكون جميع فتاويه وأحكامه كذلك، مبنيَّة على مجرد انتقال ذهنه لأمر يتوهمه من النصوص التي يطلع عليها من غير تدقيق، ولو كان تلميذُه خزيران يفهم ما يقرأه، لما وقع فيما وقع فيه من تأييد أستاذه فيما ظهر بطلانُه.
(1) رضي أم لم يرض، فلا أثر ذلك على الحكم الشرعي، وتفريعات المصنِّفَيْن الآتية لا داعي لها، والله الموفق.
وأما استدلال الجزار بقول الخواص: «فإن مع المسلمين الإذن العامّ من الشارع بقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) كلّ وقت شاؤوا» فإن مراد الخوَّاص الإذن في جميع الأحوال والأزمان، هو عموم الأحوال والأزمان التي لم يثبت النهي عن ذكر الله -تعالى- فيها، سراً وجهراً، وإلا لأجزنا لمن يسمع الخطبة يوم الجمعة ولمن يسمع تلاوة القرآن، أن يذكر الله -تعالى- عند الخطبة والتلاوة، مع أنه لم يقل بجواز ذلك أحد، كما أنه لم يقل بجواز رفع الصوت مع الجنازة أحد، ولو انتبه خزيران إلى قول أستاذه:«ولا بأس من العمل بقول هذا العارف للعلّة التي ذكرها» -أي: أن لا يترك اللغو والاشتغال بأحوال الدنيا من يمشي مع الجنازة- لتحقّق أنَّ أستاذه يثبت بقوله: «لا بأس» أن قول لا إله إلا الله مع الجنازة خلاف الأولى، ولو وجد ما يقتضيه من خوف وقوع الناس باللغو، فكيف والحالة أن اللغو إنما يقع عند الصِّياح، ورفع الأصوات التي يتستّر اللاغي بجلبتها؟ ويفعل عما يراد من ذلك، والناس عنه مشغولون بصياحهم المعلوم الذي لا ينكره إلا كلُّ مكابر، فما لاحظه العارفُ الخواَّصُ من الأسباب التي سوَّغت له جواز الأمر بقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ أي: سرّاً، مفقودة في زماننا، مع السكوت خلف الجنازة محققة عند رفع الأصوات بذكر أو غيره، فيكون الخواص بتلك الأسباب مانعاً عن قولها في زماننا؛ لفقدان العلة كما أفتى أحدُنا. وقد توقفنا -ولله الحمد- للسَّير بالمسلمين على سنَّة السُّكوت مع الجنازة، بدون أن يقع منهم لغوٌ أو غيبة، إلى أن قام من أخذتهم حميةُ الجاهلية، فأحيوا بدعةً أمتناها، وأماتوا سنةً أحييناها، وحسبهم قوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (1) .
(1) أخرجه البخاري (رقم 2697) ، ومسلم (رقم 1718) في «صحيحيهما» عن عائشة.
وقول خزيران: «وما نقل عن العارف الخواص لجدير بالقبول عند أهل الاختصاص، الذين قد أنار اللهُ بصائرَهم
…
» إلخ، غريب؛ لأنّ الخواص لم يرد الجهر بالذِّكر قطعاً، على أننا لو سايرنا خزيران في فهمه، وقلنا: إنَّ الخواص أراد بالذِّكر الذكر جهراً، فهل يرضى أهلُ الاختصاص أن يتركوا سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتركوا ما كان عليه الصحابة والأئمة المجتهدون، وما كان عليه السلفُ الصالح، ثم يتبعوا بدعةً قال بها الخواص -على ما فهمه خزيران- لأمرٍ جرى في زمنه واقتضى ذلك؟ اللهم، إلا إذا أراد بأهل الاختصاص: نفسه وأستاذه والمنشدين أمام الجنازة {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .
قال: ودعوى الأستاذ الزنكلوني من أنَّ العمل به -أي: بما نقل عن الشَّعراني- خاصٌّ في حالة لا يتعدّاها، لا برهان له عليها، كما وإنَّ حُجَّتَه التي ردّدها في جوابه لا تفيدنا، كذلك دعواه كراهة الذِّكر بها، استناداً على ما كان عليه الصَّدرُ الأول غير صحيحة، لما أنَّ الكراهةَ حكم من أحكام الدِّين، فلا بدَّ لها من دليل ينتجها، ولا تثبت إلا بإيراد نصٍّ صريح صحيح، يفيد النَّهيَ عن الذِّكر بها جهراً في هذا الموطن، حتى يتخصص عمومُ الإذن المذكور، وأنّى له ذلك؟!
نقول: إنَّ البرهان على دعوى الأستاذ العلامة الزنكلوني، بتخصيص العمل بقول الشعراني، بجواز الذِّكر بكلمة التوحيد مع الجنازة في حالة لا يتعدّاها، وعلى قوله بكراهة الذِّكر بها في ذلك الموطن، هو ما اعترف به خزيران نفسه، من عمل الصَّدر الأول، الذي هو المشروع في تلك الحالة، وهو الصَّمتُ، والمعمول به في كل مذهب من المذاهب المعتبرة (1) ، فهو أصل الحكم بكراهة الذّكر بها حينئذ، والسُّنَّة العملية التي درج عليها الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، أكبر دليل على ذلك؛ لأنَّ الفعل في باب التأسي والامتثال، أبلغ من القول المجرد، كما ذكره الأصوليون (2) ، وكل ذلك منطوٍ في جواب العلامة الزنكلوني، يفهمه من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .
قال: وبعد التأمل الصحيح؛ يتبيَّن أنه لا منافاة بين ما كان عليه الصّدر الأول، وبين قول العارف المومأ إليه، بل هناك موافقة كلّية بينهما، وكلاهما طريق موصل للغرض الذي يرمي إليه الدِّين الإسلامي عند تشييع الجنازة من العظة، والتفّكر بالموت، إذ أن ذكر كلمة التوحيد مع ملاحظة معناها كما هو المطلوب شرعاً، أقوى باعث، وأكبر مساعد، لتناول تلك الحكمة لما هو محسوس من حصول الخشوع، وحضور القلب، ومراقبة الحقّ، للذّاكر، ولا أخال مسلماً ينكر ذلك، بل لكل مؤمن حاسةٌ ذوقية، يُدرك بها ذلك عند التلاوة، ولذا كان الإذن بها عن الشارع عاماً بكل حالٍ وآنٍ.
(1) تقدم بيان ذلك، ولله الحمد.
(2)
انظر لطائف وفوائد في هذا عند ابن القيم في «مدارج السالكين» (1/446 وما بعدها - ط. الفقي) ، و «الموافقات» (4/79 وما بعدها - بتحقيقي) ، «أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم» (1/105) للأستاذ الشيخ محمد الأشقر.
نقول: إنَّ احتجاجه على صحة فتوى أستاذه بوجود الموافقة بين ما كان عليه الصدر الأول وبين قول الشعراني، موافقة تامة من حضرته على صحة حكم العلامة الزّنكلوني بخطأ أستاذه الجزَّار في جوابه بضد ما كان عليه الصدر الأول، ورجوعه على نفسه بالنقض في جميع ما أتعب نفسه فيه، من المحاولات الفارغة لإثبات صحة ما أجاب به أستاذه، وكان الأجدر والأليق به: أن يسكت على ما حصل في القضيّة، وعلى جواب أستاذه في الجملة؛ تخلصاً من هذه المغالطات الزَّائدة، التي فضحته، وبيّنت درجتَه ودرجةَ أستاذه العلميَّة، لدى الخاصِّ والعام، إذ لا أمير في العلم إلا العلم (1) .
وأما قوله: «إنّ ذكر كلمة التّوحيد مع ملاحظة معناها كما هو المطلوب
…
» إلى آخر ما جاء في كلامه.
(1) ما أجمل هذه الكلمة، وإن من أحسن حسنات العلم -وكله حسن- أنه فضَّاح للأدعياء، وأن العبرة فيه الحجة والبرهان، لا الشهادة، ولا السنّ، ولا السبق، ولا تشقيق العبارات، واجترار الباطل، وتنميق الكلام، فالعلم -على قواعده المعمول بها- هو (السلطان) و (الأمير) و (الحاكم) .
فالجواب عنه: إن كلمة التوحيد بالشرط الذي ذكره، من ملاحظة معناها، لا ريب أنه أقوى باعث، وأكبر مساعد على حصول الخشوع وحضور القلب للذَّاكر بها، ولا شكَّ أنَّ كلَّ مسلم يدركُ ذلك عند التلاوة، ولكن من أين يجيء ملاحظة المعنى، والذَّاكرون قد شغلهم الصِّياحُ والضَّجيجُ، واكتناف الناس أهل الميت لتخفيف آلامهم، والنساء من خلفهم ينادين بالويل والثُّبور، والمؤذِّنون المأجورون أمامهم يصيحون، وإلى ذوي الجنازة ينظرون، كي يجزلوا لهم العطاءَ، ويقدِّروا لهم التَّعَبَ والشَّقاء! فلكلٍّ من المشيعين شاغلٌ يشغله، عن ملاحظة معنى الذِّكر بالاتفاق بيننا وبين المعترض، اللهم إلا إذا كان من أهل الاختصاص، الذي لهم حاسة ذوقيّة لا يشغلهم شاغلٌ عن ذكر الله، وهم من عناهم بقوله فيما سبق: بل إنه يوافق معنا على أنَّ أكثر الناس لا يخرجون لتشييع الجنائز، إلا مراعاة لخاطر قربى الميت، ولذلك تجد خروجهم مع جنازة الفقير قليلاً، وتزاحمهم للخروج مع جنازة الغنيِّ كثيراً، فمن قصد في خروجه مع الجنازة مرضاة العباد، كيف يتيسَّر له ملاحظة معنى الذكر الذي يقوله تبعاً لا قصداً، بل إذا ذكر في مثل تلك الحال؛ فإنما يكون موافقةً للناس في اللَّفظ دون القصد.
ثم قال: ولا يبعد أن يقال في هذا الموضوع: إنَّ العرف العام وتعامل المسلمين في البلاد المصريَّةِ والشَّاميةِ وغيرِهما من بلاد المسلمين قديماً وحديثاً، واتفاقهم على تشييع جنائزهم بالجهر بالتَّهليل والتكبير من غير خروج عن الحدّ الشّرعي، حتى صار ذلك شعاراً لميِّتهم، يتميَّز به عن ميت غيرهم، يصلح مخصصاً لسنَّة الصّمت، لما تقرر في الأصول أنَّ العرفَ العام يصلح مخصصاً للنص الشرعي، لا ناسخاً (1) .
(1) إذا توارد العرف والنص معاً على موضوع واحد، وتصادما في حكمهما، فَيُطَّرح العرف، لفساده وبطلانه، ويعمل بالنص الخاص؛ لأنّ إرادة المشرِّع فيه مفسَّرة، وقد ناقضها العرف رأساً، بل هدمها كليةً، إذ القصد غير الشرعي -كما يقول الشاطبي- هادم= =للقصد الشرعي، ولا يجوز ذلك عقلاً وشرعاً بالبداهة.
وهذا في الحقيقة من باب تصادم العرف العام مع النص الخاص الآمر، وليس من باب تعارض العرف مع النص العام الذي يكون موضوع العرف فيه بعض أفراده.
وانظر بسط المسألة في: «العرف والعادة» (ص 94 وما بعدها) للأستاذ أحمد فهمي أبي سنة، و «إتحاف الأنام بتخصيص العام» (ص 263 وما بعد) لمحمد إبراهيم الحفناوي، و «العقد المنظوم في الخصوص والعموم» (2/454-457) للقرافي (المسألة الرابعة) من (الباب الثالث والعشرين: فيما ظن أنه من مخصوصات العموم مع أنه ليس كذلك) (مهم جداً، وقرر فيه بتحقيق وتأصيل ما أومأنا إليه، وقال: «فتأمله، فهو من المواضع النفيسة، عظيم النفع في الأصول والفروع الفقهية، فكثيراً ما يغالط الفقهاء في الفتيا به، وكذلك في التدريس والتخريج، بما ليس بمنصوص على المنصوص» ) ، «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي» (ص 579 وما بعد) لأستاذنا فتحي الدّريني -عافاه الله وشفاه-.
وانظر -أيضاً-: «الفروق» (1/171-178) ، «شرح التنقيح» (211) ، «المستصفى» (2/111) ، «الإحكام» (1/534) ، «المعتمد» (1/301) ، «نهاية السول» (2/128) ، «نظرية العرف» (66) للخياط، «العرف والعمل في المذهب المالكي» لعمر الجيدي (167 وما بعد) .
واختلف في الخاصّ (1) ، فقيل.. وقيل..، والصحيح: لا، وذلك بأن تكون سنة الصمت في وقت عدم غفلة المشيعين عن الحكمة، كما هو شأن الصَّدرِ الأول، والسلف الصالح المنقول ذلك عنهم، والجهر بالذكر حال استيطان الغفلة في القلوب، أو خوف الوقوع في محرَّم، كما هو حال أهل هذا الزّمان، كما خصص العلماء عمومَ حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (2) الشامل للاستصناع، بتعامل المسلمين عليه بينهم (3) .
(1) أي: في العرف الخاص، وانظر الهامش السابق.
(2)
يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك» .
أخرجه أحمد (3/204، 403، 434) ، وعبد الرزاق (14214) ، وابن أبي شيبة (6/129) ، والشافعي (2/143) ، والطيالسي (1318)، وأبو داود (3503) (كتاب الإجارة) : باب الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي (1232) (كتاب البيوع) : باب كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (4613) (كتاب البيوع) : باب بيع ما ليس عند البائع، وابن= =ماجه (2187) (كتاب التجارات) : باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، وابن الجارود (602) ، والطبراني في «الكبير» (3097-3105) ، و «الأوسط» (5139) ، و «الصغير» (770) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/41) ، وابن حبان (4983) ، والدارقطني (2/8-9) ، والبيهقي (5/267، 313)، كلهم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعاً- به. قال الترمذي:«حديث حسن» .
والحديث صحيح، له شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، خرجته في تعليقي على «الموافقات» (1/469) ، ولله الحمد.
(3)
هذا على تخريج جماهير العلماء! انظر: «البناية» للعيني (6/623) ، «المنتقى» للباجي (4/297) ، «إحكام الأحكام» (3/156) لابن دقيق العيد.
فهؤلاء جعلوا (السَّلَم) وما ورد في مشروعيته من باب تخصيص عموم حديث حكيم بن حزام السابق، وهذا صنيع المؤلِّفَيْن -رحمهما الله تعالى-، وصرح العلامة ابن القيم في كتابه الفذّ البديع «إعلام الموقعين» (2/192-193 - بتحقيقي) إلى أن المراد من الحديث: النهي عن بيع العين المعيّنة، وهي لم تزل في ملك الغير، أو بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان في الذّمة، وصرح بأنّ جَعْلَ السَّلَم داخلاً في الحديث من قبيل التّوهم.
والفرق بين طريقة الجمهور وهذه الطريقة: أنّ ابن القيم يجعل الحديث من قبيل العام الذي أُريد به الخصوص، والجمهور يجعلونه من العام المخصوص، ويقولون مع هذا أن بين السلم وبين بقية الصور الممنوعة وجه من الفرق يستدعي الاختلاف في الحكم؛ فكلام ابن القيم إنما يطعن في قول من صرح بأن السلم مخالف للقياس، وبقي أن يكون هناك فارق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له، وبين المضمون في الذمة المقدور على تسليمه، وعليه؛ فلا يصح تخريج المثال على تخصيص العموم بالعرف.
نقول: إنَّ العرف العام لا يكون حُجَّةً إلا إذا كان من المسلمين كافة في البلدان كلها، وذلك ما لا يمكن إثباته؛ لأنَّ المسلمين في معظم البلاد الإسلامية؛ كمكة، والمدينة، والأناضول، والرومللي (1) ، والهند، وأفغانستان، وبخارى، وجاوا، وغيرها سائرون على العمل بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، أئمة الدِّين، من تشييع الجنازة بالصَّمت (2) .
يَعلمُ ذلك كلُّ مَن زار تلك البلاد، ووقف بالمشاهدة على أحوال أهلها، لا كما ادّعاه حضرة خُزيران رجماً بالغيب؛ لأنّ أحدنا شاهد ذلك في معظم البلدان التي ذكرناها شهادة عين، وبهذا نكتفي عن إطالة البحث مع حضرة الرجل في خطبه بنهاية كلامه هنا في مسائل كان فيها كحاطب ليل، ولا علاقة لها بالموضوع، وإنّما فعل ذلك حُبّاً للظُّهور (3) ، واتِّباعاً للهوى، ومخالفةً للحقِّ المشهور، وإيهام الناس بنقل ألفاظ الخاص والعام، والاستصناع بأنه من أهل الاطِّلاع، ومن ذلك الخبطِ: تصرُّفه في حكم الشَّريعةِ المصونةِ بتخصيصه سُنَّةَ الصَّمت في وقت عدم غفلة المشيعين عن الحكمة، وإباحة الجهر بالذِّكر حال استيطان الغفلة في القلوب، أو خوف الوقوع في محرَّم، على أنَّ التَّعرض لذلك اعتراف منه بأن السُّنَّة هي الصَّمت، فما كان أهنأ له! لو أراح نفسَه من تلك الجهود التي كانت نتيجتُها الاعتراف بما قاله العلامة الزّنكلوني في المسألة، موافقة لفتوى أحدنا.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهمِ السقيمِ (4)
(1) كذا في الأصل! ولم يرد له ذكر في «جدول تصحيح الخطأ» في آخر الكتاب.
(2)
انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 11-14) .
(3)
في الأصل: «بالظهور» ، ولم يرد له ذكر في «جدول تصحيح الخطأ» في آخر الكتاب، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(4)
البيت من الوافر، وهو بلا نسبة في «تاج العروس» (14/51)، وانظر:«المعجم المفصّل في شواهد اللّغة العربية» (7/444) .
وهنا نختم المقال مع خزيران بخصوص تمسّكه في جواز التّهليل والتَّكبير مع الجنازة بورود الإذن العام (1) بها في جميع الأحوال والأزمان من النقل الذي استدل به أستاذُه الجزَّار من كلام الشَّعراني، ونثبت له خطأه وخطأ أستاذِه في وجهة الاستدلال، وذلك بنقل ما ذكره الحافظ الإمام الأصولي أبو إسحاق الشَّهير بالشاطبي في بحث البدع من كتابه «الاعتصام» (2)، قال: «إنَّ الدَّليلَ الشَّرعيَّ إذا اقْتَضَى أمراً في الجملة مما يتعلَّق بالعبادات مثلاً، فأتى به المكلَّف في الجملة -أيضاً-؛ كذكر الله، والدُّعاءِ، والنَّوافلِ، والمستحبَّاتِ، وما أشبَهَها مما يُعلَم من الشَّارع فيها (3) التوسعة، كان الدّليل عاضداً لعمله (4) من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به.
فإنْ أتى المكلَّفُ في ذلك الأمر بكيفيةٍ مخصوصةٍ أو زمانٍ مخصوصٍ، أو مكان مخصوص، أو مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً (5) أن الكيفية أو الزَّمان أو المكان مقصودُه شرعاً، من غير أن يَدُلَّ الدَّليلُ عليه، كان الدليلُ بمعزل عن ذلك المعنى المُستَدَلّ عليه.
(1) من سمات المبتدعة -على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم- الاحتجاج بالعمومات، وترك الأدلة الخاصة، انظر «الاعتصام» للشاطبي (2/52 - بتحقيقي) .
(2)
(2/59-62 - بتحقيقي) .
(3)
في الأصل: «فيه» ، والمثبت من «الاعتصام» .
(4)
في الأصل: «لعلمه» ، والمثبت من «الاعتصام» .
(5)
كذا في الأصل، وبعض نسخ «الاعتصام» ، وفي نشرتنا:«مخيَّلاً» .
فإذا نَدَبَ الشَّرعُ -مثلاً- إلى ذكر الله، فالتزم قومٌ الاجتماع عليه على لسان واحد، وبصوت (1) واحد، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشَّرع ما يدلُّ على هذا التخصيص المُلتزَم، بل فيه ما يدلُّ على خلافه؛ لأنَّ التزام الأمور غير اللازمة شَرعاً شأنها أنْ تُفْهِمَ التَّشريع، وخصوصاً مع من يقتدى به في (2) مجامع الناس كالمساجد، فإنّها إذا أُظْهِرَت هذا الإظهارَ، ووُضِعت في المساجد كسائر الشَّعائر التي وضعها رسولُ الله S في المساجد وما أشبَهَها -كالأذان، وصلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف- فُهِمَ مِنها بلا شك أنَّها سُنَنٌ إنْ (3) لم يُفهم منها الفريضة (4) ، فأحرى أنْ لا يتناولها الدَّليل المُستَدَلُّ به، فصارت من هذه الجهة بِدَعاً مُحْدثة.
(1) كذا في الأصل، وبعض نسخ «الاعتصام» ، وفي نشرتنا:«وصوت» .
(2)
كذا في الأصل، وبعض نسخ «الاعتصام» ، وفي نشرتنا:«وفي» .
(3)
في الأصل: «إذ» ، والمثبت من «الاعتصام» .
(4)
في الأصل: «الفرضيّة» ، والمثبت من «الاعتصام» .
يَدُلُّكَ (1) على ذلك تركُ التزامِ السَّلفِ الصالحِ لتلك الأشياء، أو عَدَمُ العمل بها، وهم كانوا أحقَّ بها وأهلَها لو كانت مشروعةً على مقتضى القواعد؛ لأنَّ الذِّكر قد نَدَب إليه الشَّرعُ ندباً في مواضعَ كثيرةٍ، حتى إنّه يُطْلب فيه تكثيرٌ من عبادة (2) من العبادات ما طُلِب من التكثير مِنَ الذِّكر؛ كقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
…
} الآية [الأحزاب: 41]، وقوله:{وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، [وقوله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} ] (3)[الأنفال: 45] ، بخلاف سائر العبادات.
(1) جاءت في الأصل تبعاً لمطبوعة رضا لـ «الاعتصام» هكذا: «محدثة بذلك وعلى» ! وهو خطأ، صوابه ما أثبتناه، اعتماداً على نسختين خطيتين جيدتين منه، والله الموفق والهادي.
(2)
في الأصل: «في تكثير عبادة» ، وكذا في نسخة من «الاعتصام» ، والمثبت من نشرتنا.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من «الاعتصام» .
ومثل هذا الدُّعاء؛ فإنه ذِكر الله، ومع ذلك؛ فلم يلتزموا فيه كيفيّات، ولا قيَّدوه بأوقات مخصوصةٍ -بحيث يُشعر باختصاص التَّعَبُّد بتلك الأوقات- إلا ما عيَّنه الدّليل؛ كالغَداة والعَشيِّ، ولا أظهروا منه إلا ما نص (1) الشَّارعُ على إظهاره؛ كالذِّكر في العيدين وشبهه، وما سِوى ذلك، فكانوا مثابرين على إخفائه وسَتْره (2) ؛ ولذلك قال لهم حين رَفَعوا أصواتهم:«أرْبِعُوا على أنفسكم؛ إنكم لا تدْ عون أصمَّ ولا غائباً» (3) وأشباهه، ولم (4) يُظهروه في الجماعات.
(1) في الأصل: «حث» ، وسقط من طبعة رضا من «الاعتصام» ، وقدره في الهامش:«نص» ، أو «حث» ، وما أثبتناه من نسختين خطيتين جيدتين من «الاعتصام» ، وهو كذلك في نشرتنا.
(2)
في الأصل ونسخة من «الاعتصام» : «وسره» ، وما أثبتناه أجود، وهو الموافق لنسخة قديمة جيدة منه، وكذا في نشرتنا.
(3)
سبق تخريجه، وهو في «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
كذا في الأصل، وفي نشرتنا:«فلم» .
فكلُّ مَن خالف هذا الأصل، فقد خالف إطلاقَ الدَّليل أَوَّلاً؛ لأنَّه قُيّد فيه بالرَّأي، وخالف مَنْ كان أعرفَ منه بالشَّريعة -وهم السَّلفُ الصَّالحُ رضي الله عنهم، بل [قد](1) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو [عليه السلام] يحبُّ أنْ يعمل به؛ [خشية](2) أن يعمل به الناسُ فيفرض عليهم» (3) انتهى كلام الإمام الشاطبي (4) .
ومما نقلناه ههنا عن ذلك الإمام العظيم، يتبيَّن حكم المسائل التي حاول خزيران إثبات جوازها ومشروعيتها بأدلة لا تثبت، بينها وبين المدلول بعد السماء عن الأرض، وهي التزام الناس قراءة سورة الكهف يوم الجمعة على وجه المواظبة في المساجد، بقصد التَّعبد، وطلبِ الثَّواب، واجتماعهم مساء ليلة النصف من شهر شعبان كل سنة بقصد التقرب إلى الله -تعالى- بقراءة سورة (يس) ووردها الخاص، وما شاكل ذلك. وكل ذلك في وقت مخصوص، وحال مخصوص، انتحله الناسُ من عند أنفسهم، واعتقدوا أنه من الدِّين، مع أنه لم يرد في الشَّرع شيء يفيد طلب هذه التخصيصات والالتزامات، بصور وأحوال تلك الأعمال، مما يساعد عليه دليل أصل مشروعية قراءة القرآن، والذِّكر، والدعاء، ولذلك التزم السَّلفُ الصَّالحُ تَركَ تلك الأعمال، وعدم العمل بها، مع أنهم كانوا أحقَّ بها وأهلها.
(1) سقط من الأصل، وطبعة رضا، وهو مثبت في نسختين خطيتين جيدتين منه، وهو كذلك في نشرتنا.
(2)
كذا في طبعة رضا، وعنه الأصل، وفي نسخة منه بياض بدله، وفي هامشها:«لعل هنا سقطاً، وهو: خوف أن يعمل به» ، وما أثبته من نسخة أجود وأقدم، وهو كذلك في نشرتنا.
(3)
يشير إلى قصة صلاته صلى الله عليه وسلم بأصحابه قيام رمضان، ثم امتناعه من المواظبة عليها، وسبق تخريجها، وفي المطبوع:«فيفترض» ، والمثبت من نسختين خطيتين جيدتين من «الاعتصام» ، وكذا في نشرتنا.
(4)
ومَنْ تأمّل في كلام الإمام الشاطبي؛ يظهر له قدر علم الأستاذ الجزّار وتلميذه خزيران (منهما) .
وقد ذكر الإمام الشاطبي في الكتاب نفسه من (الباب الرابع) في مأخذ أهل البدع بالاستدلال ما نصه: «أنَّ العملَ المتكلَّم فيه -يعني: العملَ المستدلَّ على ثبوته بالأحاديث الضعيفة للتَّرغيب- إمَّا أنْ يكون منصوصاً على أصله جُملة وتفصيلاً، أو لايكون منصوصاً عليه لا جُملة ولا تفصيلاً، أو يكون منصوصاً عليه جُملة لا تفصيلاً» (1) .
إلى أن قال: «والثالث -أي: المنصوص عليه جملة لا تفصيلاً-: رُبَّما يُتَوهَّم أنَّه كالأوَّل من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة فيُسْتَسْهَل (2) في التَّفصيل نقله من طريق غير مُشترط الصِّحَّة، فمُطلق التَّنَفُّل بالصلاة مشروعٌ، فإذا جاء ترغيبٌ في صلاة -كليلة النِّصفِ من شعبان- فقد عضدَه أصلُ التَّرغيب في صلاة النافلة، وكذلك إذا ثبت أصل صيام [النافلة](3) ثبت صيام السابع والعشرين من رجب
…
وما أشبه ذلك.
وليس كما توهموا؛ لأنَّ الأصل إذا ثبتَ في الجُملة لا يلزم إثباته في التَّفصيل، فإذا ثبت مطلقُ الصلاة لا يلزم منه إثباتُ الظهر، أو العصر (4) ، أو الوتر، أو غيرها، حتى يُنَصَّ عليها على الخصوص، وكذلك إذا ثبت مطلق الصِّيام؛ لا يلزمُ منه إثباتُ صوم (5) رمضان، أو عاشوراء، أو شعبان، أو غير ذلك، حتَّى يَثْبُت التَّفصيل بدليلٍ صحيحٍ، ثم يُنظر بعد في أحاديث التَّرغيب والتَّرهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثَّابت بالدليل الصحيح» (6) انتهى.
(1)«الاعتصام» (2/19 - بتحقيقي) .
(2)
في الأصل: «فيسهل» ، وكذا في طبعة رضا من «الاعتصام» ، وما أثبتناه من نسختين خطيتين جيدتين، وكذا في نشرتنا.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وطبعة رضا، وهو في نشرتنا عن=
…
=نسخة خطية مجوَّدة.
(4)
في الأصل: «والعصر» .
(5)
في الأصل: «صيام» .
(6)
«الاعتصام» (2/20-21 - بتحقيقي) .
وبهذا يتأكَّد صدق ما أشرنا إليه: من عدم مشروعية تخصيص قراءة سورة الكهف يوم الجمعة في المساجد، وتخصيص قراءة الدُّعاء الخاص مساء ليلة النصف من شعبان، وعدم مشروعية التَّعبُّد بذلك على الوجه المخصوص المعروف عند الناس، وأنّ ما دخل به خزيرانُ من وجوه الاستدلال بالنُّصوص الإجمالية؛ لإثبات تلك الأعمال التَّفصيلية غلطٌ فاحشٌ.
والأغرب: اعتقادُه ذهولنا عن الدَّلائل الإجمالية التي ذكرها؛ بقصد إثبات تلك الأحكام التَّفصيليَّة، وسنأتي على بيان مفردات أدلته التي ذكرها بهذا الشَّأن، بعد تفنيد ما أسنده إلينا، فمن ذلك:
ومن ذلك -أيضاً- قوله: «ومن جملة ما نقل عنهما: تواتر الإنكار على ما اعتاده عامة المسلمين وخاصتهم في مشارق الأرض ومغاربها، واستحسنوه من الاجتماع في الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول الموافقة -على قول (1)
(1) زعم ابن دحية في كتابه «التنوير في مولد السراج المنير» -بعد أن ذكر أقوالاً متعددة- أن الذي لا يصح غيره، وعليه أجمع أهل التاريخ، أن مولده عليه الصلاة والسلام لثمان مضت من ربيع الأول!! وفي هذا الإجماع نظر! كيف، وقد قال أبو شامة في «الذيل على الروضتين» (ص 229) (أحداث سنة 662هـ) :«وكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإثنين ثاني عشر، ربيع الأول، على قول الأكثرين» . وحقق العلامة محمود باشا الفلكي في كتابه «نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام» (ص 28-35) أن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان يوم التاسع من ربيع الأول، الموافق 20/إبريل/سنة 571م، قال (ص 35) :«فاحرص على هذا التحقيق، ولا تكن أسير التقليد» .
وسبب اختياره (التاسع) لا (الثامن) قوله: «وقد اتفقوا جميعاً على أن الولادة كانت في يوم الإثنين، وحيث إنه لا يوجد بين الثامن والثاني عشر من هذا الشهر يوم إثنين، سوى اليوم التاسع منه، فلا يمكن قط أن نعتبر يوم الولادة خلاف هذا اليوم» ، واعتمد فيما ذهب إليه على الحسابات الفلكية.
وفيه أقوال كثيرة، ليس هذا موطن ذكرها وبسطها، وفيما ذكرناه كفاية وغنية -إن شاء الله تعالى-.
- لليلة ولادته صلى الله عليه وسلم في المساجد، ومن قراءة لأحدهم قصة مولده صلى الله عليه وسلم» .
نقول: إنّ نسبة هذه الأقوال إلينا لا ظل لها من الحقيقة، ودعواه التَّواتر في نقل تلك الأقوال عنّا لا صحة لها، إلا أن يكون إخبار قوم يصدِّق العقل تواطؤهم على الكذب، ولو جاوز عددُهم التَّواتر؛ لأنَّ العقل يكذب أن يقول مسلم -فضلاً عن طالب علم- بمنع قراءة القرآن في المساجد على الإطلاق، بعد أن يسمع قوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ} [فاطر: 29] .
وبعد أن يسمع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (1) .
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 7529) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 815) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
أو يقول بالإنكار على قراءة قصة المولد النَّبوي الشَّريف، المشتملة على بيان شمائل الرسول وفضائله، التي يكون للمسلمين بها أسوةٌ حسنة، أو يقول بالنَّهي عن إحياء ليلة النصف من شعبان وصوم يومها، ولو تنبَّه خزيرانُ إلى خطر وعظم ما وقع فيه من الإثم بنسبته هذه الأمور إلينا؛ لما خطَّ قلمُه حرفاً واحداً في ذلك؛ لأنه لا يخلو: إمَّا أنْ يكون غيرَ صادق في دعوى النَّقل عنا، فيدخل تحت قوله -تعالى-:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] ، وإما أن يكون صادقاً، فيكون مخالفاً لقوله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيببُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، ويدخل -أيضاً- تحت قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه:«كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما يسمع» (1) .
(1) أخرجه مسلم في «مقدمة صحيحه» (1/10 رقم 5) عن معاذ بن معاذ وعبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
(وذكره) .
ووقع في مطبوع «مسلم» (1/10 ط. محمد فؤاد عبد الباقي) : «عن حفص بن= =عاصم، عن أبي هريرة» ، وكذا في طبعة الحلبي، وزيادة:«عن أبي هريرة» خطأ، وهي مثبتة في «شرح النووي» (1/72-73) في المتن، وأفاد النووي في «الشرح» ، أن «عن أبي هريرة» ساقطة، ثم رأيته ينصص على ذلك (1/74) ، ووقع في «المفهم» (1/53-54) ، وأثبتت على الجادة في «فتح الملهم» (1/125 ط. الأولى) ، و «إكمال المعلم» (1/18) ، و «المعلم» (1/184 رقم 5) .
وأفاد المازري وأبو العباس القرطبي في «المفهم» (1/54) ، و «تلخيص صحيح مسلم» (1/40) ، أن أبا العباس الرازي أسنده في نسخته من «الصحيح» ، قال القرطبي:«وهو ثقة» ، كذا في «التلخيص» ، وفي «الشرح» : ولم يذكر أبا هريرة، هكذا وقع عند كافة رواة مسلم، وقال المازري في صنيع الرازي:«ولا يثبت هذا» .
قلت: وهو الصواب، وكذا نقله عن مسلم الحفاظ؛ منهم: ابن كثير في «تفسيره» (1/542) ، وغيره.
وقد رواه هكذا مرسلاً: غُنْدر، عند القضاعي في «الشهاب» (2/305 رقم 1416) ، وحفص بن عمر، عند: أبي داود في «السنن» (رقم 4992) ، والحاكم في «المستدرك» (1/112) ، و «المدخل» (1/108-109)، وقال عقبه:«ولم يذكر حفص أبا هريرة» ، وفي مطبوعه «ابن عمرو» ، وهو خطأ.
إلا أن مسلماً رحمه الله أردفه في «مقدمة صحيحه» (1/10) -ومن طريقه ابن نقطة في «التقييد» (2/256) - عن ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/595) بطريق آخر متصل من حديث علي بن حفص المدائني، عن شعبة، عن خبيب، عن حفص، عن أبي هريرة رفعه.
وأخرجه من هذا الطريق: أبو داود في «السنن» (رقم 4992) ، والحاكم في «المستدرك» (1/112) -وتصحف فيه (ابن حفص) إلى (ابن جعفر) !! فليصحح-، و «المدخل إلى الصحيح» (1/107-108) ، وابن حبان في «الصحيح» (30 - الإحسان) ، و «مقدمة المجروحين» (1/8-9) ، والخطيب في «الجامع» (1/108 رقم 1319)، وقال أبو داود عقبه:«ولم يسنده إلا هذا الشيخ» ، وقد أخطأ المعلق على «الإحسان» ، فعدّ خمسة وصلوه!! وصحح الطريق الموصولة عن شعبة: ابن عبد البر في «الجامع» (رقم 1928) .
قلت: وهم: غندر بن معاذ العنبري؛ كما عند مسلم، وحفص بن عمر؛ كما عند أبي داود، وآدم بن إياس، وسليمان بن حرب؛ كما عند الحاكم في «المستدرك» (1/112) .
…
=
=
…
قال رشيد الدين العطار في «غرر الفوائد المجموعة» (ص 741 - آخر كتابي «الإمام مسلم» ) بعد هذه الطريق: «فاتصل ذلك المرسل من هذا الوجه الثاني، لكن رواية ابن مهدي ومن تابعه على إرساله أرجح؛ لأنهم أحفظ وأثبت من المدائني الذي وصله، وإن كان قد وثقه يحيى بن معين، [كما في «سؤالات ابن الجنيد» (23) ، و «تاريخ الدارمي» (642) ، و «سؤالات ابن محرز» (419) ] ، والزيادة من الثقة مقبولة عند أهل العلم، ولهذا أورده مسلم من الطريقين ليبيّن الاختلاف الواقع في اتّصاله، وقدم رواية من أرسله؛ لأنهم أحفظ وأثبت كما بيناه.
وقد سئل أبو حاتم الرازي عن علي بن حفص هذا، فقال في «الجرح والتعديل» (6 رقم 998) :«يكتب حديثه ولا يحتج به» ، ولهذا قال أبو الحسن الدارقطني [في «التتبع» (رقم 8) ] :«الصواب في هذا الحديث المرسل» ، والله عز وجل أعلم» انتهى كلام العطار.
قال أبو عبيدة: وقطع النووي في «شرحه» (1/74) بصحته، قال بعد كلام الدارقطني السابق:«وإذا ثبت أنه روي متصلاً ومرسلاً؛ فالعمل على أنه متصل، هذا هو الصحيح الذي قاله الفقهاء، وأصحاب الأصول، وجماعة من أهل الحديث، ولا يضرّ كون الأكثرين رووه مرسلاً، فإنَّ الوصل زيادة من ثقة، وهي مقبولة» .
وللحديث طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعاً، أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (رقم 686) ، ومن طريقه البغوي في «شرح السنة» (14/319) ، وفي سنده يحيى بن عبيد الله، وهو متروك.
ويحسن بنا هنا أن نبيِّن ما نعتقده في المسائل التي نسبها إلينا:
أما قراءة القرآن في المساجد، فإنا لم نمنعها مطلقاً، بل كنّا نرغِّبُ المسلمين فيها أشدَّ التَّرغيب، ونذكر لهم أنه يجب عليهم قراءةُ القرآن، وسماعُه بالسَّكينة، والتَّدبُّر، والإنصات، لتصلَ معانيه لأعماق قلوبهم، وطالما نبَّهناهم -أيضاً- إلى أنَّ الصلاة إنما كانت تنهى عن الفحشاء والمنكر، بسبب ما فرض فيها من قراءة القرآن، التي تذكِّر المصلي بما له، وما عليه، وترشِدُهُ إلى ما خلق لأجله، ولكن الذي منعناه ونمنعه -أيضاً-: تلاوةُ القرآن المقرونة بالتَّشويش على المصلِّين (1) ،
(1) لبعض المالكية رسالة خطية محفوظة بموريتانيا في (9 ورقات) في مركز أحمد بابا، تحت رقم (298) ، بعنوان «جواب في شأن قراءة القرآن بصوت عالٍ قرب الذين= =يصلون» ، منسوخة سنة 1300هـ.
وانظر: «مختصر تنزيه المسجد الحرام عن بدع الجهلة العوام» (ص 18) لأبي البقاء أحمد القرشي (ت 854هـ) .
مع إخراج القراءة عن حدِّها المشروع؛ كالتَّمطيط، والتَّلحين، والخطأالفاحش في أحكام التجويد، على أنَّ القارئ يقرأ وأكثر الناس لا يستمعون ولا ينصتون؛ لأنَّ منهم من يكون حينئذ مشغولاً بالصَّلاة، ومنهم من يكون متأهباً للوضوء، ومنهم من يتلو القرآن، ومنهم من يشتغل بإخراج الدَّراهم من كيسه للقارئ، الذي اتَّخذ تلاوةَ القرآن للاسترزاق، ومنهم من يكون منهمكاً بجمع النقود له، فمثل هذه التِّلاوة التي ضيَّعتْ شرفالقرآن والدِّين، وكانت سبباً في قسوة قلوبِ المسلمين، هي التي نمنعهاكما منعها خزيران نفسه، ويؤيِّدنا في ذلك: ما ذكره الإمام النووي في «كتابه التبيان» (1) نقلاً عن أقضى القضاة (2) الماوردي (3)
(1)(ص 111-112 ط. الحجار، أو ص 56 - ط. دار ابن كثير) .
(2)
في هذا الاصطلاح نظر، انظر في إنكاره:«معجم الأدباء» (8/52-53) ، «طبقات الشافعية الكبرى» (7/228) ، «تيسير العزيز الحميد» (ص 547) ، «فتح الباري» (10/590)، وانظر عن تاريخه ومعناه ومقارنته بمصطلحات اليوم:«النظم الإسلامية» للدوري (1/57) ، «دراسات في حضارة الإسلام» (200) لهاملتون كب، «العراق في عهد المغول» (71) لجعفر خصباك، «مبادئ نظام الحكم في الإسلام» (ص 637) لمتولي، «منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية منذ نشأته حتى نهاية العصر السلجوقي» لعبد الرزاق الأنباري.
(3)
نعم، كان الماوردي يلقب (أقضى القضاة) ، وأطلق بعضهم عليه خطأ، لقب (قاضي القاضي) ! في الوقت الذي كان فيه أبو عبد الله الدامغاني يتولى منصب (قاضي القضاة) آنذاك، فذكر ابن الجوزي في «المنتظم» (8/169 - ط. العراقية) في معرض حديثه عن عقد الخليفة القائم بأمر الله على بنت السلطان طغرلبك، فذكر أنه حضر قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني وأقضى القضاة الماوردي.
…
=
=
…
وانظر في الفرق بينهما وإزاحة لبس كان في أذهان كثير من الناس عند ابن السبكي في «طبقات الشافعية» (7/228) ، وفي كلامه لبس ذكره مصطفى جواد في تعليقه على كتاب ابن الساعي «الجامع المختصر» (9/2)
في كتابه «الحاوي» (1) إذ قال: «القراءة بالألحان الموضوعة، إن أخرجت لفظَ القرآن عن صيغته، بإدخال حركات فيه، أو إخراج حركات منه، أو قَصْرِ ممدود، أو مدِّ مقصور، أو تمطيط يخفي به بعضَ اللفظ ويلتبس، فهو حرام يفسق به القارئ، ويأثم به المستمع؛ لأنه عَدَل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج، والله -تعالى- يقول: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] » انتهى كلام الماوردي.
ثم قال الإمامُ النَّوويُّ: «وهذا القسم الأول من القراءة بالألحان المحرمة مصيبة (2) ، ابتلي بها بعضُ الجهلة الطِّغام الغَشمة، الذين يقرؤون على الجنائز، وفي بعض المحافل، وهذه بدعةٌ محرَّمة ظاهرةٌ، يأثم كلُّ مستمع لها، كما قاله أقضى القضاة الماوردي. ويأثم كلُّ قادرٍ على إزالتها، أو على النهي عنها، إذا لم يفعل ذلك. وقد بذلتُ فيها بعضَ قُدرتي، وأرجو من فضل الله الكريم، أن يوفِّق لإزالتها من هو أهل لذلك، وأن يجعله في عافية» انتهى كلام النووي.
وأما قراءة سورة الكهف، فإنما نمنعها؛ لما يقع في قراءتها مما ذكر سابقاً، وزِد على ذلك: وجهَ الالتزام والتخصيص (3) ،
(1)(17/198 - ط. دار الكتب العلمية) أو (21/213-214 - ط. دار الفكر) ، وقد نقل المصنف كلامه من «التبيان» للنووي بحروفه، وتصرف النووي في النقل من «الحاوي» فلينظر.
(2)
لأبي البركات محمد بن أحمد، المعروف بـ (ابن الكيال)(ت 939هـ) رسالة بعنوان «الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر» ، فرغ أخونا مالك شعبان من تحقيقها، وجمع كلام العلماء -على اختلاف أعصارهم وأمصارهم ومشاربهم ومذاهبهم وفنونهم- الوارد في ذم ذلك، ولعلها تنشر قريباً، والله الموفق للخيرات، والهادي إلى الصالحات.
(3)
انظر في بدعية التزام قراءة سورة (الكهف) على المصلين قبل الخطبة بصوت= =مرتفع: «السنن والمبتدعات» (17، 49) ، «الإبداع في مضار الابتداع» (177) ، «بدع القراء» (20) .
وانظر في بدعية التزام قراءة سورة الكهف عصر يوم الجمعة في المسجد: «فتاوى الشاطبي» (197-200) - (وفيه بدعية قراءة السورة بالإدارة) -، «الحوادث والبدع» (152) للطرطوشي، «بدع القراء» (21) للشيخ بكر أبو زيد.
وقد بيّنا ذلك فيما سبق نقلاً عن الإمام الشاطبي.
أمّا دعواه أنَّ الناس اليوم يجتمعون على قراءة القرآن؛ مثل اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم مع عصابة من ضعفاء المهاجرين، وكون الناس اليوم داخلين فيما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم:«وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -تعالى-، يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (1) ، فالمشاهدة تدلُّ على خلافه، كما يشهد بذلك كلُّ مُنصفٍ، كما أنَّ دعواه أنَّ المستمعين ينصتون بخشوع، متفكّرين في معاني ما يتلى على مسامعهم، مترنِّمين بمبشراتها، متَّعظين خائفين من منذراتها، بذرف الدُّموع، وخشية القلب، وقشعريرة الجسم
…
إلى آخر ما جاء في عبارته، فهي غير صحيحة -أيضاً-؛ لأنَّ المستمعين لو وصلوا إلى هذه الدَّرجة من التَّفكّر في معاني ما يتلى على مسامعهم
…
إلى آخر ما ذكره؛ لكانوا في مقدِّمة الأمم، ولسادوا العالم أجمع، ولأعدّوا لأرباب البدع ومؤازريهم الذين شوَّهوا هذا الدين الحنيف، وأوصلوا أهلَه إلى الحضيض، ما يتألم منه حضرة خزيران، وأستاذه الجزَّار، ويشهد -أيضاً- على عدم وصول العوامّ إلى هذه الدرجة قول خزيران نفسه في رسالته «فصل الخطاب» (ص 10) :«خصوصاً في هذا الزَّمان، الذي قد استحكمتْ فيه الغفلةُ للجميع، وعمَّت البلوى فيه للرَّفيع والوضيع» .
ومن هذا يعلم: أنَّ جميع الأدلة التي أوردها من الأحاديث، وأقوال العلماء فيما يتعلَّق بتلاوة القرآن هي حُجّةٌ لنا لا علينا، إذ قد يثبت بها التلاوة المشروعة التي دعونا الناس إليها، أما تطبيق الأدلة على حالة المسلمين اليوم؛ فهو خلاف الواقع، وقلب للحقائق.
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 2699) من حديث أبي هريرة.
وأما قراءة قصة المولد النبوي الشريف المشتملة على بيان شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وفضائله، التي لا يمكن للأُمة الإسلامية أن تصل إلى ما كان عليه أسلافُها من المجد والسؤدد، إلا بالتَّحلي بها، فنحن من أشدِّ الناس دعوةً إليها، وأما الذي أنكرناه -وننكره أيضاً- فهو ما عمَّت به البلوى من قراءة المولد بالغناء والتمطيط البشع، والمبالغة بتوقيعه على أنحاء الموسيقى، والاكتفاء بسيرة الولادة فقط، مع ما أدخل فيها من الأمور التي لم تثبت، وترك المهم المفيد من أحواله وشمائله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما سمعناهم يقولون: حبيبي يا
…
يا مو. حا. حا. مد، وأمثال ذلك، مما يشمئزُّ منه كلُّ مسلم، ويعترفُ بقبحه كلُّ ذي ذوق سليم، فهل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزعمَ مع ثبوت هذه الحقائق، أنَّ أكثر هذه المجتمعات في أيامنا خارجة عن حد البدع المنكرة؟ وأما دعواه أنَّ الاجتماعَ لتلاوة المولد الشريف في بلادنا، هو خالٍ من كل شرٍّ، مشتملٌ على الخير المحض، من أوله إلى آخره، فهي مكابرة محضة (1) .
(1) وهذا حال هذه الاجتماعات غير الشرعية في كل زمان ومكان، وصور أبو البقاء أحمد بن الضياء القرشي العدوي الحنفي (ت 854هـ) في كتابه «مختصر تنزيه المسجد الحرام عن بدع الجهلة العوام» (ص 17-18) كيفية الاحتفال بالمولد -آنذاك-، فقال:
فإنا نرى أنَّ أكثر الموالد التي تقرأ في زماننا، تشتمل على الصُّراخ والغناء، وما شاكل ذلك، هذا ونرى المدعوين يشتغلون بشرب الدُّخان (1) حتى يتمَّ الجمعُ، ويحضر القارئ فتكون عند ذلك الغرفة التي يراد أن يقرأ فيها العشر من القرآن الكريم والمولد مملوءة دخاناً، ذا رائحة كريهة، وفي أثناء القراءة ترى الجمعَ في الغُرف الأخرى، يشربون الدخان -التوتون، والتنباك- ويخوضون في الغيبة والنَّميمة، بل وجدناهم يرتكبون أكبر من ذلك في بعض الأحيان؛ كشرب الخمر.
(1) انظر عنه، وتقرير حرمته، وبيان المصنفات الواردة فيه، مع لمحة قوية عن تاريخه وأضراره في كتابي «التعليقات الحسان» على رسالة الشيخ مرعي الكرمي «تحقيق البرهان في شأن الدخان» ، وهو مطبوع أكثر من مرة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ومما ذكرنا: يُعلم أنَّ فتوى العلامة ابن حَجَر عن حكم قراءة الموالد التي نقلها رداً علينا، هي موافقة لما كنّا ننبِّه الناسَ وندعوهم إليه، فهي حُجة لنا، وردٌّ عليه، وإلى المتأمِّل نصُّ الفتوى: سئل العلامة ابن حجر: عن حكم الموالد، هي سُنَّة، أم فضيلة، أم بدعة؟ مع بيان دليل كلٍّ، وهل الاجتماع للبدعة المباحة! جائز أم لا؟ فأجاب بقوله: الموالد [والأذكار](1) التي تفعل عندنا، أكثرها مشتمل على خير؛ كصدقة، وذكر، وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم[ومدحه](2) ، وعلى [شر، بل](2) شرور، [لو لم يكن منها إلا رؤية](2) النساء للرِّجال الأجانب، وبعضها ليس فيها (3) شر، لكنه قليل نادر، ولا شك أنَّ القسم الأول -أي: المشتمل على خير؛ كصدقة، وذكر، وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى شرور؛ كرؤية النساء للرجال الأجانب- ممنوع؛ للقاعدة المشهورة [المقررة] (4) :
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبته من «الفتاوى الحديثية» لابن حجر الهيتمي.
(2)
بدل ما بين المعقوفتين في الأصل: «كرؤية» ، والمثبت من «الفتاوى الحديثية» .
(3)
في الأصل: «فيه» .
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتّه من «الفتاوى الحديثية» ..
إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، [فمن علم وقوع شيء من الشر فيما يفعله من ذلك، فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيراً، فربما خيره لا يساوي شره](1) ، ألا ترى أنَّ الشارع (1) ا صلى الله عليه وسلم كتفى من الخير بما تيسّر، وفطم عن جميع أنواع الشَّر، حيث قال:«إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه» (2)
…
والقسم الثاني سنة تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار، المخصوصة والعامة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يقعد قوم يذكرون الله -تعالى-، إلا حفَّتهم الملائكةُ، وغشيتهم الرَّحمةُ، ونزلت عليهم السَّكينةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عنده» (3) رواه مسلم
…
إلى آخر ما قال (4) .
(1) هل يجوز إطلاق (الشارع) على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم مُخْبِرٌ عن الله، ولذا قال ابن مسعود:«إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى» ، وقال الله -تعالى-:{شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13]، وانظر للتفصيل:«الموافقات» (5/255-257 - بتحقيقي) ، «الفروق» (4/53-54) ، «نظرات في اللغة» (106) للغلاييني، «المنهاج القرآني في التشريع» (300-302) (فيه تأصيل وإفاضة لمنع إطلاق المشرع على النبي
…
صلى الله عليه وسلم) ، التعليق على «الفتوى في الإسلام» (53) للقاسمي، «تغيّر الفتوى» (57-58) لبازمول.
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 7288) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 5699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
(4)
في «الفتاوى الحديثية» (ص 150) .
فمن تأمل هذه الفتوى المصرِّحة باشتمال أكثر الموالد في زمن ابن حجر منذ (400) سنة على الشرور، وأنها ممنوعة ما دامت لا تخلو من الشرور، عملاً بقاعدة (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح)(1) يعلم عدم صحة دعوى خزيران؛ بأنَّ الموالد في بلادنا هي من القسم الخالي من الشّرور، ليُثبتَ إباحتها على كل حال، وهل يخلو مولد من رؤية النساء للرجال الأجانب في زماننا؟ وذلك زيادة عن الخروج في قراءة الموالد عن الأدب المشروع، مِمّا أشرنا إليه مِن تصرُّفات القُرَّاء والمنشدين، وزِدْ على هذا: ما تشتملُ عليه من البِدَع، التي شوّهت حقيقة الدين الإسلامي، وفسحت مجالاً للذين يكيدون له سوءاً، فالأمر لله العلي الكبير، ويؤيِّدُ ما قلناه -أيضاً- بخصوص المنشدين: نصُّ الفتوى الثانية التي نقلها -أيضاً- عن ابن حجر جواباً عن سؤال رفع إليه، وهو:
(1) انظر حول هذه القاعدة: «إيضاح المسالك» للونشريسي (القاعدة الرابعة والثلاثون) ، «الاعتصام» (2/222 - بتحقيقي) ، «الأشباه والنظائر» (ص 87، 105) للسيوطي و (ص 90) لابن نجيم، «شرح القواعد الفقهية» (ص 151 رقم 39) للزرقاء، «مجلة الأحكام العدلية» (المادة 30) ، «المدخل الفقهي» (رقم 594) ، «الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية» (ص 208) ، «قواعد الخادمي» (ص 319) .
«ما تفعله طوائف باليمن وغيرهم من الاجتماع على إنشاد الأشعار (1) والمدائح [مع ذكر مسجع، هل](2) هو ذكر أم لا؟ وهل يفرق بينه وبين الأشعار الغَزليّة (3)
…
، بما مآله:«إنَّ إنشاد الشعر وسماعَه، إن كان فيه حثٌّ على خير، أو نهي عن شر، أو تشويق إلى التأسي بأحوال الصالحين، والخروج عن النَّفس ورعونتها، وحظوظها، [والدأب] (3) والجد في التحلِّي بمراقبة الحقِّ في كل نَفَس، ثم الانتقال في شهوده في كل ذرة من ذرات الوجود، كما أشار إليه الصَّادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسانُ: أنْ تعبدَ اللهَ كأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه؛ فإنه يراك» (4) ، فكل من الإنشاد والاستماع سنة
…
، والمنشدون والسامعون مأجورون مثابون، إن صلحت نياتهم (5) ، وصَفَتْ سرائرُهم، وأما إن كان بخلاف ذلك
…
مما يناسب (6) أغراضهم الفاسدة، وشهواتهم المحرَّمة، فهم عاصون آثمون» (7) . وأما ادّعاؤه بأنَّ مواضيع القصائد وحال المنشدين والمستمعين في هذه الأيام من قبيل ما ذكر في صدر هذه الفتوى، فإننا نترك الحكمَ فيه لأهل الإنصاف.
(1) في مطبوع «الفتاوى الحديثية» : «وغيرهم من اجتماعهم على إنشاد أشعارهم»
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
(3)
انظر عنها كتابي «شعر خالف الشرع» ، يسّر الله إتمامه بخير وعافية.
(4)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 50) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 8-10) من حديث عمر بن الخطاب.
(5)
صلاح النية لا يكفي، بل لا بد من الاتباع، والمواليد ليست من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سنة خلفائه وأصحابه، بل هي من طريقة الفاطميين العبيديين! وانظر تعليقنا الآتي، والله الهادي.
(6)
كذا في الأصل، وفي مطبوع «الفتاوى الحديثية» :«يليق» .
(7)
«الفتاوى الحديثية» (ص 80) لابن حجر الهيتمي.
على أنّ الاحتفال بقراءة قصة المولد النبوي، ليست سنة الخلفاء الراشدين، فيُعض عليها بالنَّواجذ، ولا فعلها أحدٌ من أهل القرون الثلاثة الفاضلة (1) ،
(1) يشير إلى ما أخرجه البخاري في «صحيحه» (كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد)(5/258-259 رقم 2651) ، ومسلم في «صحيحه» (كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(4/1964 رقم 2535) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، ولفظ البخاري:«خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، ولفظ مسلم: «إن خيركم قرني
…
» ، و «خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيه
…
» .
وأخرجه البخاري في «الصحيح» (كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)(7/3 رقم 3651) ، ومسلم في «الصحيح» (كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(4/1962 رقم 2533) من= =حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «خير الناس
…
» .
التي هي خير القرون الإسلامية، بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أحدثها الملك المظفر التُّركماني الجنس (1) ، صاحب إربل (2) ، ثم صارت عادة متبعة، وسنة مبتدعة، وشعاراً دينياً (3) .
(1) ابن خلكان ج 1 ص (552-553)(منهما) .
(2)
بلد قرب الموصل (منهما) .
(3)
الصحيح أن أول من أحدث بدعة المولد الفاطميون العبيديون من الباطنيين، كما قال المقريزي في «خططه» (1/490) ، والقلقشندي في «صبح الأعشى» (3/498) ، والسندوبي في «تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي» (69) ، ومحمد بخيت المطيعي في «أحسن الكلام» (44-45) ، وعلي فكري في «محاضراته» ، وعلي محفوظ في «الإبداع» (ص 126) ، وحسن إبراهيم حسن وطه أحمد شرف في كتابيهما «المعزّ لدين الله» (ص 284) ، وأحمد المختار العبادي في «تأليفه في التاريخ العباسي والفاطمي» (ص 261-262) ، وإسماعيل الأنصاري في «القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم» (ص 64) ، وعبد الله بن منيع في «حوار مع المالكي» (ص 57) .
وذكر بعضهم أنّ أول مَن أحدثه صاحب إربل الملك المظفر، كما قال المصنِّفان.
انظر: «وفيات الأعيان» (1/437) ، و «الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أحكامهم في المولد النبوي» (ص 89، 95) ، و «الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو وبلا إجحاف» (ص 34-35) .
ولا يبعد أن يكون عمل المولد تسرب إلى صاحب إريل من العبيديين، فإنهم أخذوا الموصل سنة (347هـ) ، كما في «البداية والنهاية» (11/232) ، ومولد الملك المظفر سنة (549هـ) ، كما في «التكملة» (3/354) ، وولي السلطنة بعد وفاة أبيه سنة (563هـ) ، كما في «سير أعلام النبلاء» (22/335) .
قال محمد بخيت المطيعي في «أحسن الكلام» (ص 52) :
«
…
ومن ذلك تعلم أن مظفر الدِّين إنما أحدث المولد النبوي في مدينة إربل على الوجه الذي وصف، فلا ينافي ما ذكرناه من أن أوّل مَن أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون من قبل ذلك، فإن دولة الفاطميين انقرضت بموت العاضد بالله أبي محمد عبد الله بن الحافظ بن المستنصر في يوم الإثنين/عاشر المحرم/سنة سبع وستين وخمس مئة هجرية، وما= =كانت الموالد تعرف في دولة الإسلام من قبل الفاطميين» .
بقي بعد هذا أن نقول: إن المحدثاتِ كلَّها شر وضلالة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ كل عمل ليس له أصل في الشرع: بدعة وضلالة، وإن ارتكبه من يُعدّ من «الصالحين» ويشتهر به!! ولقد بيَّن ياقوت في «معجمه» (1/138) -وهو من معاصري الملك المظفر- شيئاً من أحواله، وقال:
«طباع هذا الأمير متضادّة، فإنه كثير الظلم عسوف بالرَّعيَّة، راغب في أخذ الأموال من غير وجهها» ، وذكر ابن العماد في «شذرات الذهب» (5/140) في ترجمة الملك المظفر:«كانت نفقته على المولد في كل سنة ثلاث مئة ألف دينار» .
ثم وجدت كلمة مطوّلة عنه في «رجال من التاريخ» (267-273) عن (الملك المظفر) ، وجاء فيها (ص 272-273) وصف لإحياء هذه الموالد، وهذا نصه:
وأخيراً
…
انظر في بدعية المولد ومفاسده المترتبة عليه: المصادر المذكورة سابقاً، و «اقتضاء الصراط المستقيم» (ص 295) ، و «الفتاوى الكبرى» (1/321) ، و «المدخل» (2/16-17) ، و «المعيار المعرب» (8/255) و (9/255) و (7/100-101 و114) و (12/48-49) ، و «المواهب اللدنية» (1/140) ، و «تفسير المنار» (9/96) و (2/74-76) ، و «فتاوى رشيد رضا» (5/2112) ، و «مجلة المنار» (20/395-403، 449-451، 21/38-48، 103-104) ، و «كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 96-97 - بتحقيقي) ، و «بداية السول» (ص 9) ، و «مختصر الشمائل المحمدية» (175)(كلاهما فيه= =كلام على بدعية الموالد من كلام شيخنا الألباني رحمه الله، وقد ذكرناه في جمعنا لكلامه على البدع، يسر الله إتمامه) .
وقد صنف الفاكهاني رسالة لطيفة في حكم المولد، أسماها بـ «المورد في عمل المولد» فانظرها فإنها مفيدة، وفي «فهرس المكتبة الغربية بصنعاء» (724) رسالة مفردة لمحمد الغشم (ت 1043هـ) في ذلك، وطبع حديثاً «رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي» في مجلدين لمجموعة من العلماء، وفيها بيان كثير من المفاسد والمحاذير، ونكتفي بهذه الإحالات المجملة؛ لأنّ الكلام على هذه البدعة متّسع الأرجاء، وله ذيول ويطول، والله الموفق.
وأما ليلة النصف من شعبان، فلم يحصل بخصوصها إلا تنبيهُ الناس للمسابقة لصوم نهارها، وقيام ليلها، بالعبادة الخالصة لله -تعالى-، بعد التَّوبة، وأداء الفرائض؛ لأنه لا يفيد العبد إقباله على النوافل ما دام تاركاً للفرائض (1) ، لكن لا على وجه الاجتماع في المساجد، واعتقاد لزوم ذلك، بل على وجه الانفراد والاختيار، وأنَّ الدُّعاء بالصُّورة المعلومة مساء ليلة النِّصف ليس من الأعمال التي تعبَّدنا اللهُ بها، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا الأئمة المجتهدون -رضوان الله عليهم أجمعين-.
(1) هذا الإطلاق خطأ قطعاً، والقاعدة الحادية عشرة في «تقرير القواعد» لابن رجب (1/66 - بتحقيقي) :(من عليه فرض؛ هل له أن يتنفَّل قبل أدائه بجنسه أو لا؟)، قال ابن رجب: «وهذا نوعان؛ أحدهما: العبادات المحضة؛ فإن كانت موسّعة؛ جاز التنفل قبل أدائها؛ كالصلاة اتفاقاً، وقبل قضائها -أيضاً-؛ كقضاء رمضان على الأصح.
والثاني: إن كانت مضيّقة، لم تصح على الصحيح، ولذلك صور
…
» مذكورة بتفصيل فيه، وانظر تعليقي عليه، و «القواعد الفقهية النُّورانية» (ص 49-50) ، وللكلام السابق مستند عن أبي بكر قوله ضمن خطبة طويلة، فيها:«وإن الله لا يقبل نافلةً حتى تؤدّى الفريضة» ، خرجته في تعليقي على «الخطب والمواعظ» لأبي عُبيد القاسم بن سلاّم (رقم 132) ، يسّر الله إتمامه وإظهاره بخير وعافية.
والحديث الذي استدل به في هذا الموضوع وهو: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان؛ فقوموا ليلها، وصوموا نهارَها، فإنَّ الله -تعالى- ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر، فأغفر له! ألا مسترزق فأرزقه! ألا مبتلى فأعافيه! ألا كذا
…
، ألا كذا
…
، حتى يطلع الفجر» (1) .
(1) أخرجه ابن ماجه في «السنن» (1388) ، والفاكهي في «تاريخ مكة» (3/84 رقم 1837) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (رقم 3824) و «فضائل الأوقات» (رقم 24) ، والثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان» (ق58/أ - أول تفسير الدخان) ، والتيمي الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (رقم 1833) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (2/561 رقم 923) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (33/108) ؛ جميعهم من طريق الحسن بن علي الخلاّل، عن عبد الرزاق، عن ابن أبي سبرة، عن إبراهيم بن محمد، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن عليّ رفعه.
قال ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (رقم 923) : «هذا حديث لا يصح، وابن لهيعة ذاهب الحديث» !
قلت: كذا في مطبوعه: «وابن لهيعة» ، ولعلها سبق قلم من المصنف أو الناسخ، والصواب:«ابن أبي سبرة» ؛ وهو: أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، قال الإمام أحمد: يضع الحديث ويكذب، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث، وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات على الأثبات، لا يحل كتابة حديثه، ولا الاحتجاج به بحال. وانظر -غير مأمور-:«تهذيب الكمال» (33/104-106) ، «ميزان الاعتدال» (4/504) ، «الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث» (2/481، 586) والكلام الآتي عند المصنف، والتعليق عليه.
متفق على ضعفه عند جميع المحدِّثين، ومنهم من قال بوضعه (1) .
قال العلامة السندي في «حاشيته على ابن ماجه» (2) مخرِّج هذا الحديث: «في إسناده ضعف؛ لضعف ابن أبي سبرة (3)، واسمه: أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة (2) ، قال فيه أحمد بن حنبل (4)، وابن معين (5) :
(1) هذا حكم شيخنا الألباني رحمه الله على الحديث، فقال في «ضعيف سنن ابن ماجه» (105 رقم 261) :«ضعيف جداً أو موضوع» ، وانظر:«المشكاة» (1308)، وقال:«لكن نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا ثابت» .
وقال في «السلسلة الضعيفة» (5/154 رقم 2132) : «وهذا إسناد مجمعٌ على ضعفه، وهو عندي موضوع؛ لأنَّ ابن أبي سبرة رموه بالوضع، كما في «التقريب» » .
وقال ابن رجب في «لطائف المعارف» (ص 143) : «إسناده ضعيف» ، وضعّفه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1/446 رقم1388) ، والمنذري في «الترغيب» (2/81) .
(2)
(1/421) .
(3)
في الأصل، وفي مطبوع «حاشية السندي» :«بسرة» ، بتقديم الباء الموحدة على السين! وهو خطأ.
(4)
قال عبد الله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (1/510 رقم 1193)، قال أبي:«وليس حديثه بشيء، كان يكذب ويضع الحديث» . وفي «العلل» (139 - رواية المروذي) : «ليس هو بشيء» . وانظر: «بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدحٍ أو ذم» (ص 486 رقم 1207) .
(5)
قال في رواية الدوري (2/695) : «ليس حديثه بشيء» .
وقال ابن المديني والبخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث.
وانظر -غير مأمور-عدا ما تقدم-: «الكنى» للبخاري (9) ، «الجرح والتعديل» (6/306) ، «الكنى» للدولابي (1/121) ، «الكنى» لأبي أحمد الحاكم (2/116-117) ، «ديوان الضعفاء والمتروكين» (278) ، «المغني في الضعفاء» (2/597) ، «التهذيب» (12/27) ، «الكاشف» (3/275) .
يضع الحديث» انتهى. ووافقه الذهبي في «الميزان» (1) في الإمام أحمد، وذكر عن ابن معين (2) أنه قال فيه: وليس حديثه بشيء، وقال النسائي (3) : متروك. وممن قال بوضعه: الإمامُ الفقيهُ الحافظ (4)
أبو حفص عمر بن بدر الموصلي الحنفي إمام المسجد الأقصى (المتوفَّى سنة 622) هـ في كتابه «المغني عن الحفظ» (5) ،
(1) انظره (3/596 و4/503-504) .
(2)
انظر الهامش قبل السابق.
(3)
في «الضعفاء والمتروكين» له (رقم 666) .
(4)
قال السيوطي عنه: «ليس من الحفاظ» ، وقال عن كتابه:«عليه في كثير مما ذكره انتقاد» ، وقال السخاوي:«عليه مؤاخذات كثيرة، وإن كان له في كل باب من أبوابه سلف من الأئمة، خصوصاً المتقدمين» ، انظر «الوضع في الحديث» (3/506) .
…
=
=
…
ووجدتُ في رسائل أحمد بن الصّديق، المسماة «دَرّ الغمام الرقيق» (ص 163) ما نصه:«وكان ابن بدر الموصلي هذا غير محقق في الحديث، كما قال الحافظ في ترجمته من «الدرر الكامنة» » !!
قلت: لا يوجد ترجمة لابن بدر في «الدرر» ؛ لأنه ليس من رجال القرن الثامن، وإنما توفي سنة (622هـ) . انظر:«العبر» (5/91) ، «الجواهر المضيئة» (1/387) ، «منتخب المختار» للفاسي (158-159) ، «تاج التراجم» (64) ، «اللباب» (3/269-270) .
(5)
(ص 297 - مع «جُنّة المرتاب» ) .
وانظر في تقرير ذلك: «المنار المنيف» (ص 98-99) لابن القيم، «تفسير القرطبي» (16/128) ، «الفتاوى الكبرى» (1/174، 177) ، «تنزيه الشريعة» (2/92) ، «اللآلئ المصنوعة» (2/57) ، «سفر السعادة» (150) .
وانظر في بدعية صلاة الرغائب -وهي صلاة تؤدَّى في ليلة أول جمعة من رجب، بين صلاة المغرب والعشاء، يسبقها صيام الخميس، وهي صلاة موضوعة، أحدثت في الإسلام بعد سنة ثمانين وأربع مئة-:«الحوادث والبدع» (122) للطرطوشي، «أداء ما وجب» لابن دحية (ص 54 وما بعد) ، «اقتضاء الصراط المستقيم» (283) ، «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 39 وما بعد) ، «طبقات الشافعية الكبرى» (8/251-255) ، «مساجلة علمية بين الإمامين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب» ، «تبيين العجب بما ورد في فضل رجب» (ص 47) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (2/2) ، «الموضوعات» (2/124) ، «فتاوى النووي» (40) ، «المدخل» لابن الحاج (1/293) ، «مختصر تنزيه المسجد الحرام عن بدع الجهلة العوام» (ص 17) ، «الاعتصام» (2/18، 279، 294 - بتحقيقي) ، «الأمر بالاتباع» (166 وما بعد) ، «السنن والمبتدعات» (140) ، «البدع الحولية» (240 وما بعد) ، «التعقيب الحثيث» (ص 50) ، «إصلاح المساجد» (ص 99) ، «صلاة التراويح» (ص 24، 33، 44) ، «السلسلة الصحيحة» (2/735، 737) .
(فائدة) : لعلي بن محمد بن غانم المقدسي (ت 1004هـ) : «ردع الراغب عن الجمع في صلاة الرغائب» ، منها ثلاث نسخ في الأزهرية، وأخرى في كوبرلي، وخامسة في الحرم المدني، وسادسة في جامعة الملك سعود.
وقال الإمام الحافظ القاضي أبو بكر المعروف بابن العربي في تفسيره «أحكام القرآن» (3) : «وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يُعَوَّلُ عليه (4) ،
(1) انظر «أداء ما وجب» (53-54) .
(2)
كذا في الأصل، و «المغني» للموصلي، و «الاعتصام» (2/18 - بتحقيقي)، ولعلها صوابها:«الأيام» .
(3)
(4/1690) ونحوه في «عارضة الأحوذي» (3/275) له، ونقله القرطبي في «تفسيره» (16/128) ، ومثله في «إصلاح المساجد» (107) للقاسمي، وانظر «الباعث» (124، 138، 174 - بتحقيقي) ، وكتابي «القول المبين» (439-440) .
(4)
هذا صحيح بالجملة، اللهم إلا إذا استثنيت حديث نزول الرب جل جلاله فيها، ومغفرته لكل أحد إلا لمشرك أو مشاحن، فقد ورد عن جمع، وبمجموع طرقه ينهض للاحتجاج، كما تراه مفصّلاً في تعليقي على «المجالسة» للدينوري (رقم 944) ، وفي رسالتي «حسن البيان فيما ورد في ليلة النصف من شعبان» ، وانظر «السلسلة الصحيحة» (1144) .
وستأتي عند المصنف نقول كثيرة جيدة حول بدعية ما أحدث في ليلة النصف من شعبان، وما أحسن ما قاله علي بن إبراهيم -رحمه الله تعالى-:«وقد جعلها -أي: ليلة النصف من شعبان- أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوها شبكة لجمع العوام، طلباً لرئاسة التقدُّم، وملأ بذكرها القصاصُ مجالسهم، وكلٌّ عن الحق بمعزل» .
قلت: وصدق هذا العالم في قولته هذه، وله سلف فيها، نقل الطرطوشي في «الحوادث والبدع» (ص 138 - ط. الطالبي)، عن الأوزاعي قوله:«بلغني أن من ابتدع بدعة خلاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء، لكي يصطاد به» ، ويحقق ما قاله الواقع، كما نُقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم، قاله الشاطبي في «الاعتصام» (1/216 - بتحقيقي) .
وقد أكد كلامه جمع من العلماء المحققين، والفضلاء الربانيين، وأسوق لك -أخي القارئ- جملة من كلامهم، لتتسلّح به، وتسوقه عند الجهلة الطغام من العوام، ممن لا زال= =في قلبه ميل إلى تعظيم هذه المواسم، التي تفعل بها البدع والحوادث.
قال الإمام أبو شامة المقدسي في كتابه «الباعث» (ص 124 - بتحقيقي) : «وأما الألفية؛ فصلاة ليلة النِّصف من شعبان، سمِّيت بذلك لأنها يقرأ فيها ألف مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} لأنها مئة ركعة في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة و (سورة الإخلاص) عشر مرات.
وهي صلاة طويلة مستثقلة، لم يأت فيها خبرٌ ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع، وللعوامِّ بها افتتان عظيم، والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد التي تصلى فيها، ويستمر ذلك الليل كله، ويجري فيه الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال بالنساء، ومن الفتن المختلفة ما شهرتُه تغني عن وصفه، وللمتعبدين من العوام فيها اعتقادٌ متين، وزين لهم الشيطان جعلها من أصل شعائر المسلمين» . وأصلها حكاه الطُّرطُوشي في كتابه «الحوادث والبدع» (ص 121-122)، قال: وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرَّغائب، هذه هي التي تصلى في رجب وشعبان.
وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربع مئة، قدم علينا في بيت المقدس رجلٌ من نابلس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسنَ التلاوة، فقام يصلي في المسجد الأقصى، ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع، فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلقٌ كثير، وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنَّةٌ إلى يومنا هذا، قلت له: فأنا رأيتك تصليها في جماعة، قال: نعم، وأستغفرُ الله منها.
قلت: أبو محمد هذا، أظنه عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن إبراهيم المقدسي، روى عنه مكي بن عبد السلام الرميلي الشهيد، ووصفه بالشيخ الثقة، والله أعلم» .
ونقله عنه أبو شامة في «الباعث» (124 - بتحقيقي) ، والشاطبي في «الاعتصام» (1/283 - بتحقيقي) ، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (ص 176-177 - بتحقيقي) .
قال أبو عبيدة: فيا عباد الله! فهل بعد هذا البيان من بيان؟ وها هو إمام عالم ينبئك بأصل وضع هذه الصلاة، التي أصبحت من سمات أهل البدع، فإن ليلة النصف من شعبان لم يكن في ليلها قيام، ولم يثبت في نهارها صيام، وانظر ما سيأتي عند المصنف، والله الموفق.
لا في فضلها، ولا في نسخ الآجال فيها (1) ، فلا تلتفتوا إليها» .
(1) زعم بعضهم أن ليلة النصف هذه هي ليلة القدر، وقد أبطل ذلك جمع؛ منهم: = =ابن العربي في «عارضة الأحوذي» (3/275-276) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/127) ، والشنقيطي في «أضواء البيان» (7/319) ، وانظر «البدع الحولية» (ص 290-292) .
وذكر أبو شامة في كتابه «الباعث» (1) عن أبي بكر الطُّرْطُوشي (2) قال: «روى ابن وضاح (3) عن زيد بن أسلم، قال: ما أدركنا أحداً من مشيختنا (4) ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النِّصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول (5) ، ولا يرون لها فضلاً على سواها، قال: وقيل لابن أبي مليكة: إنَّ زياداً النُّميري يقول: إنَّ أَجْرَ ليلةِ النِّصف من شعبان كأجر ليلة القدر، فقال: لو سمعتُه وبيدي عصا لضربتُه، قال: وكان زياد قاصّاً (6) . وقال الحافظ أبو الخطاب بن دِحْية (7) : «روى الناسُ الإغفال (8)
(1)(ص 125-127 - بتحقيقي) ، وطبع الكتاب دون مراجعتي، فوقعت فيه أخطاء طبعية كثيرة، ولي زيادات كثيرة عليه، وسيخرج -إن شاء الله- قريباً مع العناية اللائقة به، والله الموفق للخيرات، والهادي للصالحات.
(2)
في كتابه «الحوادث والبدع» (ص 121-122) .
(3)
في كتابه «البدع» (رقم 119) .
(4)
في الأصل: «مشايخنا» ! والمثبت من «البدع» ، والمراجع السابقة.
(5)
وقع عليه فيه اختلاف كثير، بيّنه الدارقطني في «النزول» (رقم 81) ، وفاته وجهاً عند ابن قانع في «المعجم» (3/227) ، وذكرتُه مفصلاً في «حسن البيان» (20-23) ، ولله الحمد.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/317-318 رقم 7928) ، وابن وضاح في «البدع» (رقم 120) .
(7)
في كتابه «أداء ما وجب» ، صرح بذلك الطرطوشي وعنه أبو شامة، والمصنفان ينقلان عن أبي شامة، والنقل غير موجود في مطبوعة «أداء ما وجب» ! ولعله في كتاب ابن دحية:«ما جاء في شهر شعبان» ، وأشار إليه في آخر «أداء ما وجب» (ص 159)، وفيه (ص 24) :«وحديث ليلة النصف من شعبان، والتعريف بمن وضع فيها الزور والبهتان» .
(8)
كذا في الأصل، و «الباعث» ! ولعل الصواب:«وقد روي بعض الأغفال من= =الناس» ، ثم تأكد لي هذا لما وجدتُ ابن دحية يقول في «أداء ما وجب» (ص 66) : «وقد روى بعضُ الأغفال الذين لا يعرفون الصحيح من السقيم
…
» فتأمّل..
في صلاة ليلة النِّصف من شعبان، أحاديث موضوعة [وواحداً مقطوعاً](1) ، وكلّفوا عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم، من صلاة مئة ركعة
…
[وقال في كتاب «ما جاء في شهر شعبان» من تأليفه -أيضاً-](1) : «وقال أهل التَّعديل والتجريح: ليس في حديث ليلة النِّصف من شعبان حديث يصحّ، فتحفَّظوا -عبادَ الله- من مفتر يروي لكم حديثاً موضوعاً يسوقه في معرض الخير، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا صحَّ أنه كذب، خرج من المشروعيَّة، وكان مستعمِلُه من خدم الشيطان؛ لاستعماله حديثاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزّل الله به من سلطان» (2) .
(1) سقط من الأصل، وأثبته من عند الطرطوشي وأبي شامة -رحمهما الله-.
(2)
إلى هنا انتهى نقل المصنِّفَيْن من «الباعث» (125-127 - بتحقيقي) لأبي شامة المقدسي.
وقال العراقي (1) : حديث صلاة ليلة النصف من شعبان باطل، وقال التقيُّ السُّبكيُّ في «تقييد التراجيح» (2) : الاجتماع لصلاة ليلة النصف من شعبان ولصلاة الرَّغائب بدعة مذمومة. وقال النووي (3) : هاتان الصَّلاتان -أي: صلاة الرَّغائب، وصلاة ليلة النِّصف من شعبان- بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغترّ بذكرهما في كتاب «القوت» (4) و «الإحياء» (5) ،
(1) في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/203)، وذكر غير واحد من المحدثين أن الأحاديث الواردة في فضل صلاة ليلة النصف من شعبان غير صحيحة؛ منهم: ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/126-129) ، وأقره أبو شامة في «الباعث» (ص 136-137) ، وابن رجب في «لطائف المعارف» (145) ، والفيروز آبادي في خاتمة «سفر السعادة» (ص 150) ، ووافقه ابن همّات الدمشقي في «التنكيت والإفادة في تخريج أحاديث خاتمة سفر السعادة» (ص 96)، والشيخ عبد العزيز بن باز في «التحذير من البدع» (11) . وانظر:«مختصر تنزيه المسجد الحرام» (ص 17) ، «تذكرة الموضوعات» (ص 45) ، «المنار المنيف» (ص 98-99) ، «الفوائد المجموعة» (51) للشوكاني.
(2)
هذا مصنَّف من مصنَّفات عدة للسبكي في التراويح، انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 64) .
(3)
في «المجموع» (4/56) و «الفتاوى» (26) جمع تلميذه ابن العطار عنه، ونقله ابن همات في «التنكيت» (ص 96) عن النووي بحروفه.
(4)
في (الفصل العشرين) منه (في ذكر إحياء الليالي المرجو فيها الفضل المستحب إحياؤها)(1/129 - ط. مؤسسة خلدون) .
وانظر -لزاماً- عن هذا الكتاب: كتابي «كتب حذر منها العلماء» (1/49، 187 و2/349-350) .
(5)
في آخر (القسم الثالث: ما يتكرر بتكرر السنين) من (الربع الأول)(1/203) ، وانظر عنه كتابي «كتب حذر منها العلماء» (1/187 و2/350-351) .
قلت: ولا تغتر -أيضاً- بذكر الثعلبي لها في «تفسيره» ، كذا في «شرح الأوراد» ، قاله علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص 396) .
وليس لأحد أن يستدلَّ على شرعيتهما، بقوله صلى الله عليه وسلم:«الصلاة خير موضوع» (1) ؛ فإن ذلك يختصُّ بصلاة لا تخالف الشَّرع بوجه من الوجوه، وقد صح النَّهيُ عن الصلاة في الأوقات المكروهة (2) ، نقل ذلك كلَّه العلاّمةُ الزَّبيديُّ في «شرح الإحياء» (3) .
(1) ورد بهذا اللفظ ضمن حديث أبي ذر الطويل، الذي أخرجه أحمد (5/178، 179) ، وهو -مطولاً ومختصراً- عند النسائي (8/275) ، وابن سعد (1/32) ، والحاكم (2/282) وإسناده ضعيف جداً، فيه عبيد بن الخشخاش، متروك. وأبو عمر الدمشقي ضعيف، والراوي عنه المسعودي، قال الدارقطني: المسعودي عن أبي عمر الدمشقي متروك.
وأخرجه ابن حبان في «المجروحين» (3/129) ، وابن عدي في «الكامل» (7/2699) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/168) ، والبيهقي (419) من طريق يحيى بن سعيد السعيدي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر، ولم يذكروه بتمامه.
وإسناده ضعيف جداً، يحيى بن سعيد يروي عن ابن جريج المقلوبات، لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد، قاله ابن حبان، وقال ابن عدي: هذا أنكر الروايات.
ويغني عن هذا حديث ثوبان الصحيح: «استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة» ، وقد خرجتُه في تعليقي على «الطهور» (رقم 19) ، وتعليقي على «الباعث» (ص 154-155)، وانظر:«السلسلة الصحيحة» (115) ، و «الإرواء» = = (2/136-137) .
وحديث ثوبان يشهد لحديث أبي ذر، وفي الباب عن أبي هريرة وأبي أمامة، ولذا حكم شيخنا على هذه القطعة من حديث أبي ذر بأنه حسن لغيره، انظر «صحيح الترغيب» (رقم 390) .
(2)
ورد ذلك في أحاديث كثيرة في «الصحيحين» وغيرهما، انظر تخريجي لبعضها في تعليقي على «الموافقات» (2/516) ، وعلى «إعلام الموقعين» (3/353 و4/11) .
(3)
المسمى «إتحاف السادة المتقين» (3/427) .
وأما دعاؤها المشهور (1)
(1) وهو قولهم: «اللهم يا ذا المنّ، ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام،
…
» ، وهو لا أصل له، كذا قال الزّبيدي -وسيأتي كلامه-، وصاحاب «أسنى المطالب» (رقم 838) ، وهو من ترتيب بعض أهل الصلاح من عند نفسه، قيل: هو البوني، صاحب كتاب الخرافة والشعوذة «شمس المعارف الكبرى» ، انظر عنه كتابي «كتب حذر منها العلماء» (1/124، 143) .
وانظر لبدعية هذا الدعاء: «السنن والمبتدعات» (145-146) ، «رسالة ليلة النصف من شعبان» (32، 33) لمحمد حسنين مخلوف، رسالة «روي الظمآن» (ص 9) للأنصاري، «الإبداع» (290) ، مجلة «المنار» (3/667) ، «البدع الحولية» (302-303) ، رسالتي «حسن البيان» (13) .
الذي ذكره خزيران فلم يرد من طريق صحيح، وإنما هو من جمع بعض المشايخ، قال العلامة الزَّبيدي في «شرح الإحياء» (1) :«وقد توارث الخلف عن السّلف في إحياء هذه الليلة -أي: ليلة النصف من شعبان- بصلاة ست ركعات بعد صلاة المغرب، كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة منها بالفاتحة مرة، والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة يس مرة، ويدعو بالدُّعاء المشهور بدعاء ليلة النصف»
…
إلى أن قال: «ولم أر [لصلاة ليلة النصف من شعبان] (2) ، ولا لدعائها مستنداً صحيحاً في السُّنّة، إلا أنه من عمل المشايخ» . ومما تقدم يعلم عدم صحة الأحاديث التي أشار إليها، والتي ذكرها بخصوص ليلة النصف من شعبان، وبطلان قوله في حديث النُّزول (3) :«وإنْ نص بعض العلماء على ضعفه» ، لأنَّ الذي نصَّ على ضعفه -لا بعض العلماء- بل كلُّهم، ومنهم مَن قال بوضعه كما أشرنا، وأما ما ذكره من أن الأحاديث الصحيحة النَّاطقة بفضل الصِّيام في شهر شعبان كثيرة، مستدلاًّ بحديث السيدة عائشة الذي أخرجه الشيخان، قالت:«وما رأيته صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر منه صياماً في شعبان» (4) فلا علاقة له بموضوعنا، وقوله: إنّ الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، ليس على إطلاقه، بدليل ما شرطه المحدِّثون لجواز العمل بالضَّعيف في الترغيب والترهيب. قال الحافظ السخاوي (5) :
(1)(3/427) .
(2)
بدل ما بين المعقوفتين في «الإتحاف» : «لها» .
(3)
انظر ما قدمناه (ص 124) .
(4)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 1969، 1970) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 1156) .
(5)
بحروفه في «القول البديع» (363-364) للسخاوي.
وانظر: «فتاوى الرملي» (4/383 - هامش «الفتاوى الفقهية الكبرى» ) لابن حجر الهيتمي، «تبيين العجب» (ص 21) ، «تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه الصلاة والسلام» للعلامة محمد حياة السندي، «حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال» جمع وإعداد صديقنا فوزي بن محمد العودة، «حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال» لأشرف بن سعيد، «الإعلام بوجوب التثبت في رواية الحديث وحكم العمل بالحديث الضعيف» لسليمان بن ناصر العلوان.
«سمعت شيخنا الحافظ ابن حجر مراراً يقول -وكتبه لي بخطه-: إنَّ شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
الأول: [متفق عليه](1) ، أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذَّابين، والمتَّهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
الثاني: أنْ يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع، بحيث لا يكون له أصل أصلاً.
الثالث: أنْ لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله» . قال: «والأخيران عن ابن عبد السلام، وعن صاحبه ابن دقيق العيد، والأول نقل العلائيُّ الاتفاقَ عليه» انتهى. والحديث الذي استدلَّ به خزيران، هو شديد الضعف لا يجوز العمل به في فضائل الأعمال؛ لأنَّ أحد رواته- وهو: ابن أبي سَبْرة (2) - متروك، يضع الحديث كما تقدم (3) ، على أنَّ القاضي أبا بكر بن العربي (4) لا يجوز العمل بالضعيف مطلقاً.
(1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(2)
في الأصل: «بسرة» ، وهو خطأ.
(3)
(ص 122) .
(4)
انظر «العارضة» له (3/275) .
بل هذا مذهب إمامَيّ الدنيا في الحديث: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، نص عليه في «مقدمة صحيحه» (28) .
وانظر له: «مقالات الكوثري» (41 فما بعد) ، وكتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح» (2/586) .
وهذا الذي كان يدافع عنه شيخنا الألباني بقوة في كثير من المناسبات والجلسات، وقرره بتحرير وتفنيد للشروط المذكورة سابقاً في تقديمه لـ «صحيح الترغيب والترهيب»
…
(1/47-65 - ط. المعارف) .
وتمويه خزيران في آخر كلامه بما يتعلَّق بليلة النِّصف من شعبان بقوله: «أما الاجتماع على قراءته -أي: دعاء ليلة النصف- في الليلة المذكورة، فهو اجتماع على الدُّعاء الذي هو مخ العبادة كما ورد في الحديث (1) ، في ليلة يتجلّى فيها الحقُّ على عباده من غروب الشمس، ويقول: هل من كذا؟ هل من كذا؟
…
فيكون من قبيل البدع المندوبة» ظاهر حيث يقول فهو اجتماع على الدعاء الذي هو مخ العبادة، كما ورد في الحديث، وذلك تصريح منه بأنه اجتماع مخصوص، في زمان مخصوص، على وجه مخصوص، التزم فيه التّعبد بأمر مخصوص، لم يرد في الشَّرع دليلٌ عليه تفصيلاً، وإن كان من حيث جنسه داخلاً في دليل الدعاء الإجمالي، من غير تقييد بهذه الالتزامات والخصوصيات المعلومة، فيكون ابتداعاً وقع الناس فيه من جهة توهّم أنه بهذه الصُّورة مشروعٌ، مع أنه لم يقم عليه دليل تفصيليّ بخصوصه، وقد ثبت ما فيه القناعة بأنَّ ما كان من هذا القبيل فهو بدعة، غير مباحة، فضلاً عن أنها مندوبة كما قال! وأيضاً: فإن ذلك الاجتماع لا يخلو عما يخالف الشّرع، وأقلُّه قراءة سورة (يس) بصوت واحد، بالاستعجال المتناهي الذي بسببه يقطع القارئون كلمات القرآن وآياته، ويسقطون كثيراً من الكلمات والحروف، فيتغيَّر به المعنى تغييراً فاحشاً، وفيه ما علمتَ من الفسق والإثم، كما نقلناه (2)
(1) الحديث بلفظ: «الدعاء هو مخ العبادة» لم يثبت، والثابت:«الدعاء هو العبادة» ، انظر تعليقي على «الموافقات» (4/398) ، وتعليقي على «إعلام الموقعين» (3/102) .
(2)
(ص 110-111) ..
عن الإمام النووي، وبذلك يقعون -أيضاً- في إثم ترك الإنصات، وجهر بعضهم على بعض بالقرآن، ومعلوم أنه منهي عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم:«أيها الناس، كلكلم يناجي ربَّه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة» (1) ، خصوصاً وأنَّ البعض من الذين يشتركون في تلك التلاوة لا يحفظون السورة ولا الدعاء (2) ، فيتلقَّفون الكلمات من غيرهم، وهناك التَّشويش والتشويه الذي لا يرضاه اللهُ ولا رسولُه.
ومن هذا يتّضح فساد قول خزيران: «واجتماع مسلمي هذه البلاد في مساجدهم تلك الليلة، خالٍ مِن كلِّ منكرٍ وشرٍّ، إنه عبارة عن صلاةٍ، وتلاوةِ قرآن، وتضرّعٍ، ودعاء» .
(1) أخرجه عبد الرزاق (4216)، ومن طريقه: أحمد (3/94) ، وعبد بن حميد (883) في «مسنديهما» ، وأبو داود (1332) ، والنسائي في «الكبرى» (8092) ، وابن خزيمة (1162) ، والحاكم (1/310-311) ، والبيهقي (3/11) من حديث أبي سعيد الخدري، قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبَّةٍ له، = =فكشف السُّتورَ، وقال:«ألا إنّ كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يؤذينَّ بعضُكم بعضاً، ولا يرفعنّ بعضكُم على بعض بالقراءة» ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2)
حتى لو حفظوها، فالذكر بصوت واحد بدعة، وللتفصيل مقام آخر، وانظر «المدخل» (1/90 وما بعد) لابن الحاج، و «رياض الصالحين» (تحت الحديث رقم 250 - تعليق شيخنا الألباني) ، و «مجلة المنار» (م 31/ص 8، سنة 1930م-1349هـ) ، و «السلسلة الصحيحة» (5/13-14) ، والله الهادي والواقي.
ولما أثبت حضرتُه -على زعمه- إباحة اجتماع الناس للمولد، والإنشاد فيه، أدمج -أيضاً- مسألة إباحة التوحيش (1) -الذي هو وداع رمضان- فدخل في الموضوع بعد ذكر الفتوى الثَّانية لابن حجر، وقال:«وقد ذكر العلامة الحبر الرملي في أواخر «فتاويه» (2) أنَّ الشَّيخ عزَّ الدين بن عبد السلام (3) سئل عن السَّماع، الذي يفعل في هذا الزمان في مجالس الذِّكر، فأجاب بما صورته:«سماع ما يحرِّكُ الأحوال السَّنيَّة المذكِّرة للآخرة، مندوب إليه» انتهى.
(1) انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 87-89) .
(2)
انظرها بهامش «الفتاوى الكبرى» لابن حجر الهيتمي.
(3)
انظر «كتاب الفتاوى» (ص 163) للعز، ومقدمة كتابي «شعر خالف الشرع» ، فقد استوعبت كلام العلماء على السماع، والله الموفق.
ثم رتَّب عليه ما أراد الاستدلال به من التَّوحيش، ووداع رمضان بالأناشيد، فقال:«ومن يطَّلع على مواضيع القصائد التي تنشد أثناء تلاوة الموالد في هذه البلاد، وعلى حال مستمعيها، يذعن أنّها من هذا القبيل، خصوصاً إذا كان المنشدُ صالحاً، حَسَنَ الصَّوت، ومما تقدَّم يتبيَّنُ حكم الاجتماع المعتاد في البلاد الشَّامية في المساجد بالليلة التي لا تعاد في شهر رمضان تلك السنة، وذكر المؤذنين فرادى ومجتمعين القصائد المرققة للقلوب، المدمعة للعيون، المشتملة على تنبيه الغافل، إلى ما قصَّر فيه خلال الشهر، وندمه على ما جنته فيه يداه، من قبيح الأعمال وسوء الأحوال، وتبشير الصَّائم فيه بالمغفرة والجنة؛ كقولهم: يغفر المولى لمن صلَّى وصام، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الشيخان: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» (1)، وقولهم:«إنَّ في الجنة باباً، اسمه: الريان، لا يدخله إلا صائمُ شهر رمضان» ، استنباطاً مما أخرجه الشَّيخان عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الجنة ثمانية أبواب؛ منها باب يسمَّى: الريَّان، لا يدخله إلا الصائمون» (2) ، وأمثال ذلك من معاني الأحاديث الصَّحيحة، والحِكَم البليغة، من غير تشويش على مُصَلٍّ، ولا إضرار بأحد، ولا تمطيط خارج عن الحدّ، ولا يجلس هذا المجلس إلا كلُّ متشوِّق لسماع ذلك متعطش، وإنَّ ذلك من الاجتماع على الخير، فيكون من البدعة المندوبة، وعلى الأقل فمن المباحة.
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 1901) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 1896) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 1152) .
فكيف ينكر على فاعله؟ على أنه قد شوهد من كثير من العوام الذين يحضرون هذا الاجتماع عند ما يقول المؤذِّنون: لا أوحش الله منك يا شهر رمضان، يا شهر القرآن، يا شهر التَّراويح، يا شهر التسابيح، وأشباه ذلك، البكاء والخشوع» انتهى.
فنقول: يفهم من كلامه هذا، إن إباحة التَّوحيش على رأيه متوقِّفة على خلو أناشيد الوداع عن التَّمطيط، الخارج عن الحدِّ، ومن التَّشويش على مصلٍّ، وهذا أمر لا يمكن إثباته؛ لأنَّ كلَّ الناس يعلم أنَّ المؤذِّنين لا يقصدون بإنشاد تلك القصائد التي ينشدونها إلا إدخال الطَّرب بأصواتهم الفجَّة، على السامعين الغافلين، وأكبر دليل على ذلك: مبالغة المنشدين مبالغةً موحشةً في تمطيط أصواتهم، وبح حناجرهم، واجتماع بعضهم إلى بعض؛ ليعظم الصَّوتُ، وتغلب اللهجة على المستمعين، وأدلُّ منه: عدمُ ملاحظتهم معنى الإنشاد الذي طبقه على الأحاديث التي أوردها؛ لأنَّ جميعَ المؤذِّنين والمنشدين أُمِّيون، لا يحسنون لفظ الأناشيد، ولا ينطقون بها صحيحة المبنى، على أنهم لو أحسنوا لفظَها، فإن لغطَ أصواتهم يضيِّعُ معناها، ففعل هؤلاء المنشدين بدعةٌ منكرةٌ، تنطبق عليه فتوى ابن عبد السلام، التي استدلَّ بها خزيران؛ لأنه ليس في إنشادهم ما يحرِّك الأحوالَ السَّنيَّة المذكِّرةَ للآخرة، وإن كان مواضيع القصائد صحيحاً، على أنا نقول: إنَّ رفع الأصوات بالأناشيد في المسجد، ولو كانت على الوجه الذي ذكره من حصول الخشوع والبكاء بها ممنوع شرعاً؛ لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«جنِّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وخصوماتِكم، وبيعَكم، وشراءكم، وسلَّ سيوفكم، ورفعَ أصواتكم، وإقامة حدودكم، وجمِّروها أيام جمعكم» (1) ،
(1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (8 رقم 7601) ، و «مسند الشاميين» (رقم 3385) ، والبيهقي في «الخلافيات» -كما في «فتح الباري» (13/157) -، وابن عدي في «الكامل» (5/1861) ، والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/347) -ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/402) - من طريق العلاء بن كثير، عن مكحول، عن واثلة وأبي الدرداء وأبي أمامة رفعوه.
وإسناده واهٍ، فيه العلاء بن كثير.
قال أحمد في رواية حنبل -كما في «تهذيب الكمال» (22/535) -: «ليس بشيء» ، وقال البخاري في «ضعفائه الصغير» (رقم 284) :«منكر الحديث» ، وقال ابن حبان في= = «المجروحين» (2/182) :«كان يروي الموضوعات عن الأثبات» .
وله شواهد واهية، لا يفرح بها، وهذا البيان:
أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (1/رقم 1728) ، وابن عدي في «الكامل» (4/1453-1454) من طريق عبد الله بن محرر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رفعه، وضعف عبد الله بن محرر: النسائي والسعدي وابن معين والفلاس وعبد الله بن المبارك وقتادة ووافقهم، وقال:«أحاديثه غير محفوظة» ، قاله الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (1/325) .
وأخرج ابن ماجه في «سننه» (رقم 750) ، والطبراني في «الكبير» (22 رقم 136) ، و «مسند الشاميين» (رقم 3380) من طريق الحارث بن نبهان، عن عتبة بن يقظان، عن أبي سعيد، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً به.
وإسناده واهٍ بمرة، أبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب، قال أحمد:«كان يضع الحديث» ، وقال البخاري:«تركوه» ، وقال النسائي:«كذاب» ، والحارث بن نبهان ضعيف، قاله البوصيري في «زوائده على ابن ماجه» (1/265) ، وضعّفه ابن حجر في «فتح الباري» (3/157) .
وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» (1/441-442 رقم 1729) -ومن طريقه إسحاق بن راهويه في «مسنده» ، كما في «تخريج الزيلعي للكشاف» (1/325) ، و «نصب الراية» (2/492) -، والطبراني في «الكبير» (20 رقم 669) من طريق عبد ربه بن عبد الله الشامي، عن مكحول، عن معاذ مرفوعاً.
ومكحول لم يسمع من معاذ، إلا أن في رواية الطبراني بين مكحول والشامي (يحيى ابن العلاء) ، كذا في «المعجم» ، وفي «مسند الشاميين» :«مكحول عن ابن العلاء عن معاذ» ، وأعله بالانقطاع ابن حجر في «تخريج الكشاف» (44) .
وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1 رقم 1727) من مرسل مكحول.
والحديث ضعيف من طرقه كلها.
انظر: «فوائد حديثية» (153-154 - بتحقيقي) ، و «مجمع الزوائد» (2/25، 26) ، و «تفسير ابن كثير» (6/68) ، و «تفسير القرطبي» (12/270) ، و «الترغيب والترهيب» (1/199) ، و «تذكرة الموضوعات» (37) ، و «الأسرار المرفوعة» (172) ، و «كشف الخفاء» (1/400) ، و «الدرر المشتهرة» (68) ، و «إصلاح المساجد» (110) ، و «الأجوبة الفاضلة» = = (55) ، و «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» (97، 98) ، وكتابي «القول المبين» (ص 286-287) .
هذا، وقد شهدت خطر هذا الحديث الواهي، عندما رأيتُ بعضَ العامة من الجهلة يطردون الناشئة من بيوت الله، محتجّين بهذا الفقه، فينفّرونهم من الدين، على حين تفتح المؤسسات النصرانية صدرها وذراعيها لأبناء المسلمين مع أبنائهم، ولا قوة إلا بالله.
وروى الترمذي والنَّسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد، فقولوا: فضَّ الله فاك ثلاثاً» (1) .
(1) الحديث باللفظ المذكور ليس عند الترمذي ولا النسائي، وإنما أخرجه الطبراني في «الكبير» (1454) -ومن طريقه ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/300) -، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (153) ، والديلمي في «الفردوس» (3/557 رقم 5749) ، وابن منده في «معرفة الصحابة» من طريق عباد بن كثير، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبيه، عن جده، به.
وإسناده ضعيف جداً، عباد بن كثير متروك.
قال ابن حجر: «هذا حديث منكر السند والمتن» .
وعزاه في «كشف الخفاء» (1/401) للطبراني وابن السني وابن منده عن أبي هريرة قوله، ذكره وزاد عليه في آخره:«ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا وجدتها، ثلاثاً» ، وهذا القسم الأخير بنحوه عند الترمذي (1321) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (176) ، والدارمي (1408) ، ابن خزيمة (1305) ، وابن السني (155) ، وابن حبان (313 - موارد) ، وغيرهم عن أبي هريرة رفعه، ولعل هذا سبب وهم المصنِّفَين في عزو الحديث للترمذي والنسائي.
وهنالك أثر في منع قول الشعر في المسجد، وفيه عقوبة زائدة على ما في هذا الحديث.
أخرج مسدد في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (1/176) -، والخطيب في «المتفق والمفترق» (3/2003 رقم 1647) بسندٍ ضعيف عن عبد الله بن مسعود، قال:«إذا رأيتم الشيخ ينشد الشعر في المسجد يوم الجمعة، فاقرعوا رأسه بالعصا» .
والأحاديث الصحيحة في جواز قول الشعر في المسجد أصح، وانظر في المسألة:«الأوسط» لابن المنذر (5/127) ، «شرح معاني الآثار» (4/358) ، «سنن البيهقي» = (2/448) ، «تفسير القرطبي» (12/271) ، «إعلام الساجد» (322-323) للزركشي، = «المجالسة» (2315 - بتحقيقي) ، «فتح الباري» (1/549) ، «نتائج الأفكار» (1/306) ، «رد المحتار» (1/444) ، «عون المعبود» (3/417) ، «بذل المجهود» (17/464) ، «الفتوحات الربانية» (2/67-68) .
وقال الإمام العلاّمةُ ابن الحاج في «المدخل» (1) : «ينبغي أن يمنع من يرفع صوته في المسجد في حال الخُطبة وغيرها؛ لأنَّ رفع الصَّوت في المسجد بدعة» .
(1)(2/222) ، وانظر منه (1/106) في رفع الصوت -أيضاً-.
(2)
(2/66 - بهامش «الكشاف» ) .
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبته من «الانتصاف» .
ومما تقدّم: يفهم أن وداعَ رمضان بدعٌ من الأمر، ولو حاول المحاولون إباحته واستحسانه بدون حُجّة ولا برهان، لاسيّما مع ما يقع بسبب التَّوديع من الأمور الغير (1) المشروعة؛ كالتَّغنِّي والتَّطرّب في بيوت لم تشيَّد إلا للذِّكر والعبادة، وكرفع الأصوات في المساجد، وهو مكروه كراهة شديدة، وتجمّع الأولاد الرَّعاع، الذين لا يحضرون إلا بعد انقضاء الصَّلاة، للتفرّج والسَّماع خاصة،
…
إلى غير ذلك.
وأما ما نسبه إلينا، من أننا أدخلنا في أفكار العامة، أنه لا لزوم لصلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، فنقول: إنَّ هذه المسألة طال فيها الخلافُ بين السَّادة الشافعية (2) أنفسهم، وأُلِّفت فيها الرسائل (3) ،
(1)(غير) إذا أضيفت لا تعرف.
(2)
انظر -على سبيل المثال-: «حاشية الشبراملسي» على «نهاية المحتاج» (2/302-303) ، «حاشية البجيرمي على المنهج» (1/423) وما سيأتي.
(3)
من أجودها رسالة مصطفى الغلاييني (ت 1364هـ - 1945م) ، وهي مطبوعة بعنايتي، آخر كتابي «إعلام العابد بحكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد» ، الطبعة الثالثة منه، سنة 1420هـ - 1999م. وانظر في مدح هذه الرسالة «الأجوبة النافعة» (ص 74) لشيخنا الألباني -رحمة الله عليه-، وسيأتي كلامه قريباً.
وصنّف غير واحد من المتأخرين رسائل خاصة في المسألة؛ من ذلك:
* «الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد» لعلي بن عبد الكافي السبكي (ت 756هـ) ، منها نسخة خطية في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء بخط موسى بن أحمد، وهي مطبوعة ضمن «فتاويه» (1/171-186) .
* «تعدد الجمعة» لعمر بن علي الرفاعي، منها نسخة في دار الكتب المصرية [34 مجاميع] .
* «جواز صلاة الجمعة في موضعين» لابن كمال باشا (ت 940هـ) ، منها نسختان في كوبرلي، وأخرى في دار الكتب. انظر «فهارس كوبرلي» (2/214 و3/338) ، و «فهرس دار الكتب» (1/428) .
* «حكم تعدد صلاة الجمعة في المساجد وما يتعلق بإعادتها ظهراً جماعة» لإبراهيم المأموني، منها نسخة في دار الكتب المصرية [1013] .
=
…
* «الأقوال المجتمعة في منع تعدد الجمعة» منها نسخة خطية في جامعة أم القرى (407/3) في (5 ورقات)(90-95) فرغ الناسخ منها سنة 975هـ، انظر:«فهرس مخطوطات جامعة أم القرى» (1/125) ، «الفهرس الشامل» (1/662) .
* «اللمعة المستفادة في إقامة الجمعة والإعادة» لمحمد بن خاتم المالكي الإحسائي، منها نسخة خطية في جامعة أم القرى (323) في (7 ورقات)، انظر:«فهرس مخطوطات جامعة أم القرى» (1/156) .
* «اللمعة في آخر ظهر الجمعة» لنوح مصطفى الرومي الحنفي، منها نسخة خطية في جامعة أم القرى (1414) في (15 ورقة)، وأخرى في دار الكتب المصرية [83 مجاميع] . انظر:«فهرس مخطوطات جامعة أم القرى» (2/138) ، «فهرس دار الكتب» (1/427) .
* «إعادة صلاة الجمعة بعد الظهر» لإبراهيم بن محمد بن جمعان، نسخة كتبت في القرن (11هـ) ، منها نسخة في جامعة الملك سعود بالرياض [824/3/م] .
* «بلوغ الرفعة لطالبي أحكام ظهر الجمعة» لمؤلف حنفي، منها نسخة في مكتبة أسعد أفندي، استانبول [3779] ، ضمن مجموع.
* «جواب على رسالة القاضي العلامة محمد أحمد العنس في سقوط الظهر في كل جمعة» لفقيه زيدي، منها نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء [مجاميع 118] كما في «فهارسها» (2/1022) .
* وقال محمد أديب آل تقي الدين الحصني في كتابه «منتخبات التواريخ لدمشق» (ص 753) في ترجمة (عيسى بن شمس الدين الكردي)، الشهير (بالملا الدمشقي) (ت 1332هـ) :«له رسالة بمنع صلاة الظهر يوم الجمعة عند الشافعية، وهي مطبوعة» .
فمن أحبَّ فليرجع إلى كُتُبهم، وإلى العلماء الرَّاسخين منهم، فيقف على الحقيقة (1) .
(1) هناك جهود مشكورة مبرورة لمجموعة من العلماء، العاملين في محاربة بدعة صلاة الظهر بعد الجمعة، وهذه جملة من نقول أئمة العصر في ذلك:
* الشيخ العلامة محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-:
ذكر بدعيّتها في «فتاويه» (3/942 و4/1550-1551 و5/1965-1966) ، ومجلة «المنار» (23/259، 497 و34/120) ، وله جهود مشكورة في محاربتها.
* الشيخ العلامة جمال الدين القاسمي -رحمه الله تعالى-:
=
…
ذكر بدعيّتها في كتابه «إصلاح المساجد» (ص 49-52) .
* الشيخ العلامة الشقيري:
ذكر بدعيّتها في كتابه «السنن والمبتدعات» (ص 10، 123) .
* الشيخ العلامة محمود محمد خطاب السبكي:
أطال في بدعيّتها في كتابه «الدين الخالص» أو «إرشاد الخلق إلى دين الحق» (4/175-178) .
* الشيخ حامد محيسن الشافعي:
أطال في بيان بدعيّتها في مقالة له، نشرت في مجلة «نور الإسلام» الصادرة في جمادى الثانية، سنة 1356هـ، العدد السابع من السنة الثالثة.
* الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني:
ذكر بدعيّتها في (بدع الجمعة) في آخر كتابه «الأجوبة النافعة» (ص 74)، وقال:(وللشيخ مصطفى الغلاييني رسالة نافعة في هذه المسألة، اسمها: «البدعة في صلاة بعد الجمعة» ، نشرت في مجلة «المنار» على دفعات، فانظر (7/941-948، 8/24-29)، ولعلها أفردت في رسالة مستقلّة) . قلت: انظر الهامش السابق، وانظر -غير مأمور- كلامي في «القول المبين» (384-388) ، «وبل الغمام» (1/344) ، «فتاوى علماء الإحساء» (1/359-360) .
ومَنْ تأمَّل في رسالة خزيران: يرَ أنَّ ذلك الشَّيخ جمع مزيجاً من المسائل العلمية، كان فيها حاطبَ ليل، وحشرها إلى ذهنه، ثم نشرها قلمه كما شاء عقله وهواه، ليدهشَ بها العامة، ويساعد بها من اتَّخذ دينه متجراً، وجعل ذكر الله آلة لسلب الأموال، فالأحاديث التي استدلَّ بها منها ما هو صحيح، فكان دليلاً لنا، وحجةً عليه؛ لأنه أوَّلها كما أحب، واستنتج منها ما أراد، حتى صار نموذجاً لقول الشاعر:
سارتْ مشرّقةً وسرتُ مغرِّباً
…
شَتَّانَ بين مشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ (1)
ومنها ما هو ضعيف، أو واهٍ، أو موضوع، وقد أشرنا إلى ذلك بما فيه الكفاية. هذا وقد تطرَّف الرَّجلُ في الإيهام، وترويج ما أتى به إلى حدٍّ أظهر فيه خطراً محسوساً على الدِّين من نور تعاليمنا المخالفة لنزعته ورغبته التي أراد أن يحمل الناس عليها ظلماً وعلواً، وهكذا جعل خاتمة رسالته الاستنجاد بالعلماء من أهل مصر والشام، وبرجال المجلس الإسلامي، في القدس الشريف، أملاً بأن يتمَّ له ما تمنَّاه، وأجهد نفسه للوصول إليه، وهيهات! فإنَّ العلماء علماء لا يميلون مع الهوى، ولا ينظرون إلى السِّوى، وإن الحقَّ رائدُهم، ونصرة الحق بغيتهم، ولو أنه كلما خطر لإنسان خاطر يؤيدونه فيه ويجارونه على ما يرتضيه، لما بقي للحق أثر، ولعمَّت الفوضى، وزاد الخطر، كيف والعلماء ورثة الأنبياء؟ يحيون ما أمات الجاهلون من سنن الهدى، ويكشف الله بهم عن الأمة غياهب الرَّدى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويا حبذا لو يحكم العلماءُ في مسألة الجنازة، وبقية المسائل التي نازع فيها الخصم العنيد؛ ليظهر الحقُّ، ويزهق الباطل.
(1) ذكره في «تاج العروس» (25/501) مادة (شرق) بلا نسبة، وهو في «المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية» (1/416) ، و «الإعلام» (3/15 - بتحقيقي) .