الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تنبيه)
قد يقال كثيراً جداً: إننا إذا نفذنا حكم الله -تعالى- الذي في هذا المقال، فجميع حفظة القرآن الحكيم الذين يعيشون من الجنائز لا يستطيعون سوى هذه العيشة، فيضَرون؛ إذ ليس لهم كسب غير ذلك، فيقال: أمّا بالنسبة للمبصرين منهم، فيجب عليهم السّعي لغير تلك المهنة بالبداهة، وأما غيرهم فيجب على رؤوس الأمة أن يطالبوا لهم بحقوقهم الجمَّة الموقوفة عليهم، وكذا الوصايا التي يوصي بها الأغنياء من المسلمين لهم ولغيرهم من الفقراء، وليس للمبصرين من أولئك الحفظة أن يأخذوا شيئاً من هذه الحقوق، فإنَّ أخذَهم منها من أكبر الدواعي لهم إلى الكسل وما إليه، فيجب على الرؤساء والأغنياء شرعاً أن يغنوا هؤلاء وأولئك كما قلنا، وإلا كان ذَنْبُ الفريقين مضافاً إلى ذنوبهم، ونرجو أن لا يكونوا كذلك، هذا وليس في كتب أئمة الحديث دليل واحد على قراءة القرآن للموتى بعد خروج روحهم منهم، فما كتبه كثير من مُؤلِّفي المتأخِّرين من ضد ذلك ليس بحق، وإنما الذي في «صحيح ابن حبان» حديث:«اقرؤوا على موتاكم» (1) ،
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/237) ، وأحمد (5/26، 27) ، وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (252-253 - ط. دار ابن كثير) -ومن طريقه علم الدين السخاوي في «جمال القراء» (1/233) -، وابن ماجه (1448) وأبو داود (3121) ، والطبراني (20 رقم 510) ، والحاكم (1/565) ، والبيهقي (3/383) من طريق ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان -غير النّهدي-، عن أبيه، عن معقل رفعه.
وقال الحاكم: وقفه يحيى بن سعيد وغيره عن سليمان التيمي، والقول فيه قول ابن المبارك، إذ الزيادة من الثقة مقبولة.
قال أبو عبيدة: الحديث إسناده ضعيف؛ لجهالة أبي عثمان، واضطرابه، فقد أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (1074) ، وابن حبان (3002) ، والبغوي (1464) من طريق ابن المبارك، عن التيمي، عن أبي عثمان، عن معقل، دون (عن أبيه) .
وأخرجه الطيالسي (931) ، والنسائي (1075) ، والطبراني (20 رقم 511، 541) من طريق سليمان التيمي، عن رجل، عن أبيه، عن معقل.
وأعله ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/49-50 رقم 2288) بالاضطراب والوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه. وانظر:«التلخيص الحبير» (2/104) ، و «الميزان» (4/550)، و «الأذكار» (132) -وفيه:«إسناده ضعيف، فيه مجهولان» -، و «الفتوحات الربانية» (4/118) ، و «لمحات الأنوار» للغافقي (2 رقم 1174، 1177) ، و «فيض القدير» (2/67) ، و «الكنز الثمين» (76) ، و «الإرواء» (3/150-151 رقم 688) ، و «فضائل سورة ياسين في ميزان النقد» (ص 11-15) ، و «القول المبين في ضعف حديثي التلقين واقرؤوا على موتاكم ياسين» (13-22) .
والموتى هنا المحتضرون، كما بيَّن ابنُ حبان نفسه سبب هذا الحديث (1)، وسبب الحديث الآخر الذي في «صحيحه» (2) -أيضاً- وهو:«لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله» (3) ، وهذا يوضِّح معنى (الموتى) الذي قاله، وعليه جرى أمثال العلامة القدوري (4)
(1) إذ ذكره في (فصل في المحتضر)، وقال عقبه:«أراد به من حضرته المنيّة، لا أنّ الميت يُقرأ عليه» . انظر: «الإحسان» (7/269، 271) .
(2)
رقم (3003 - الإحسان) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
وأخرجه من حديث أبي سعيد -أيضاً-: أحمد (3/3) ، وابن أبي شيبة (3/238) ، ومسلم (1916) ، والنسائي (4/5) ، والترمذي (976) ، وأبو داود (3117) ، وابن ماجه (1445) ، والبغوي (1465) ، والبيهقي (3/383) ، وأبو نعيم (9/224) ، وغيرهم.
(فائدة) : بوّب النووي في «صحيح مسلم» على الحديث (باب تلقين الموتى لا إله إلا الله)، وتبويب الترمذي:(باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده)، وتبويب ابن حبان:(ذكر الأمر بتلقين الشهادة مَنْ حَضَرَتْه المنيّة) .
(4)
هو أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين القدوري البغدادي، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق (ت 428هـ) ، له «مختصر» في الفقه، يعرف بـ «الكتاب» أو «مختصر القدوري» ، وهو مختصر مشهور متداول عند الحنفية، وهو أحد المتون المعتمدة في نقل المذهب عند المتأخرين، وهو مطبوع مع شرحه «اللباب» لعبد الغني الميداني، انظر:«تاج التراجم» (ص 7/رقم 13) ، «الفوائد البهية» (30) ، «المدخل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة» (183) .
(فائدة) : جاء في «مختصر القدوري» (1/125 - مع «اللباب» ) : «إذا احتُضِر الرجلُ وجِّه إلى القبلة على شقّه الأيمن، ولقّن الشهادتين» . قلت: ولا دليل على توجيهه للقبلة، انظر «أحكام الجنائز» (20)، وانظر في (التلقين) المشروع:«دار البرزخ» (ص 23) للمجيول، «الأحكام الشرعية في حق المنتقلين إلى رب البرية» (56) لعبد الستار المشهداني.
الحنفي، إذ التلقين لا يكون ما يفعله الناس عقب الدفن، بل هو كلام من حيٍّ لحي؛ ليقوله الحيُّ المخاطب، ومن الباطل قياس قراءة القرآن للموتى على الصِّيام والحج عن الميت، إذ هذان من الحقوق الثابتة في ذمة الميت، وليست القراءة منها، وإهداء ثواب القراءة لروح الموتى باطل (1) ؛ لأنَّ ثواب العبادة غير متيقَّن لصاحبها، بل هو مرجوٌّ عنده، والإهداء لا يصح إلا بالملْك المتيقَّن، والحقُّ من وراء القصد.
في 13 المحرم الحرام سنة 1344
وكتبه الفقير
…
راغب القَبَّاني الحسيني البيروتي
خريج الأزهر الشريف (2)
4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السّبيل، والصَّلاةُ والسَّلامُ على المبعوث بأقوم قيل، مِن أكرم قبيل، وعلى آله وصحبه ما قامت دعوى بحجّةٍ قاطعةٍ لكل تضليل، وقادت فتوى ساطعة للعمل بواضح الدّليل، وبعد:
(1) بينت ذلك -بتطويل وتأصيل- في تعليقي على «التذكرة» للقرطبي، ولله الحمد، يسر الله إتمام تحقيقها بخير وعافية.
…
=
(2)
=
…
ومِن بديع كلام العلاّمة السَّلفِي ابن كثير في «تفسيره» (4/276) لقوله -تعالى-: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} [النجم: 39] قوله:
فقد اطَّلعتُ على الرِّسالة الموسومة «النقد والبيان في دفع أوهام خزيران» لمؤلِّفيها الشيخين: محمد كامل القصَّاب، ومحمد عزّ الدين القسام، كما اطَّلعتُ قبل ذلك على رسالة الشيخ محمد صبحي خزيران الموسومة بـ «فصل الخطاب في الرد على الزنكلوني والقسام والقصاب، في مسألة رفع الصَّوت والصياح بالتَّهليل والتكبير وغيرهما في تشييع الجنائز، وهل هو من قبيل البدع المذمومة أو من قبيل المستحسن الجائز» ، ورددتُ النَّظر في الردِّ وردِّ الردِّ من حيث الدَّليل والمدلول، وأمعنتُ الفِكرَ فيهما من حيث النَّقل والمنقول، والفروع والأصول، فكان الذي ظهر لي في الجواب وإنه -إن شاء الله- الحقُّ الذي لا يعدل عنه، والصَّواب: ما اعتمده القسَّامُ والقصَّاب، فهو المنهج الرابح، والمهيع النّاجح، والعمل الراجح، ألا وهو هدي السَّلف الصالح، فما شرعه الشارع (1) S، واستقرَّ عليه عمل صحبه والتَّابعِ، وتابع التابع، هو الذي ينبغي المسير عليه، والمصير إليه، والتَّمحلات في الأدلة، والمحاولات بالمقابلات بين المعلول والعلة، من غير ضرورة أكيدة داعية إليه، وحاجة شديدة حاملة عليه، مقاومة ومصادمة بالهدم لصروح صريح وصحيح النَّص، ومجاراة لتشييد وتأييد هوى النَّفس، فإنَّ العدول عن قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وخلفائه الراشدين، والأئمة المجتهدين، إزراء بالشَّارع والشَّرع وإخلال، فماذا بعد الحق إلا الضَّلال؟!
(1) انظر ما علقناه (ص 14 وما بعد) .
وفي «القواعد الأصولية الزّرقوية» (1)(قاعدة (42)) (1) : «لا متَّبع إلا المعصوم؛ لانتفاء الخطأ عنه، أو من شهد له بالفضل؛ لأنَّ مزكِّي العدل عدل، وقد شهد عليه السلام بأنّ «خير القرون قرنه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (2) ، فصحَّ فضلُهم على التَّرتيب، والاقتداء بهم كذلك» .
وبهذا يُعلم أنَّ كل قضية موجودة في زمنه عليه الصلاة والسلام، وفي زمن خلفائه، وأئمة الأمة، واستمرَّ العملُ فيها عملاً، أو تركاً، قولاً أو فعلاً، كان ذلك حُجةً وأساساً وأصلاً، فلا يجوز تجاوزه إلا لضرورة تبيح المحظور، فكلُّ خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، وهم بالخير أعرف، ولله أخوف، وعلى الأجر أحرص، وبالورع أسعد، وعن البدع أبعد، وما ينقل عمن بعدهم من الأقاويل ينظر فيه إلى المستند والدَّليل، ففي «القواعد» (3) المذكورة قاعدة (38) :«العلماء مصدَّقون فيما ينقلون، لأنه موكولٌ إلى أمانتهم (4) ، مبحوث معهم فيما يقولون؛ لأنه نتيجةُ عقولهم، والعصمة غير ثابتة لهم، فلزم التَّبَصُّرُ؛ طلباً للحقِّ والتَّحقيق، لا اعتراضاً على القائل والناقل» .
(1) نسبة للشيخ أبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد زرُّوق، واسم كتابه «قواعد التصوف» ، ولعل هذه الحيدة عن تسميته الكتاب مقصودة، وللشيخ زروق تأثر بالمصلحين على منهج السلف في الاستدلال، ولا سيما الشاطبي في «الاعتصام» ، كما بيّنتُه في تقديمي له (1/19-20) ، والكلام المزبور في «قواعد التصوف» (ص 33 - ط. محمد زهري النجار)، وانظر عن حياته بالتفصيل «الشيخ أحمد زروق: آراؤه الإصلاحية» إعداد إدريس عزوزي، طبع بالمغرب عن وزارة الأوقاف.
(2)
مضى تخريجه (ص 117) .
(3)
(ص 31 - ط. محمد زهري النجار) .
(4)
في مطبوع «القواعد» : «موكول لأمانتهم» .
وأي بدعة حدثت في الإسلام، ولو كانت خفيةً في المبادئ، فلا تلبث أن يتسع خرْقُها، ويعظم فتْقُها، ألا ترى هؤلاء المنشدين أمام الجنائز، فعلاوة عن كونهم خالفوا السُّنّة السَّنيَّة، وحالفوا البدعة السَّيّئة الدنيَّة، في مجرد وجودهم بهيئتهم، مع التَّصنُّع، والتَّنطُّع، والتَّكلُّف، والتَّعسُّف، فقد اتَّخذوها بضاعةً: تجارةً وإجارة، وتعهدوها احتكاراً، ولا تَسَلْ عن المشاركة، والمشاكسة، والمماكسة، والمعاكسة، والمناقصة، الأمر الذي انقلبتْ به الحقيقة، ودخلت به في قسم المعاصي، وخلتْ من روح الإخلاص، وتخلَّت من الخلاص، وإذا زجروا نفروا، وإذا أُمروا أَنِفُوا وعنَّفوا، وكم تعبنا لما عبنا! وعانينا لما عاينَّا! وقد جرى العملُ به بين العموم والخصوص، والمنكر له مكابر منكر للمحسوس، وذلك كلُّه بفضل المنشدين الجاهلين، والمرشدين المتساهلين.
فإذا كان الإمام النَّووي (1) رحمه الله شنَّع في ذلك، وذمّ الحال في أمده، فهل شهد بما لم يعلم، أو تحسن الأمر من بعده، والذي ينبغي اعتقاده في هذا المقام، واعتماده بين علماء الإسلام؛ هو: التَّخلِّي مع الجنازة من الجهر بكل شيء، والتحلِّي بحلية الحزن والصَّمْت، وحُلِّة السَّمت، اقتداءً بالمشرِّع (2) الأعظم -عليه وعلى آله الصَّلاة والسَّلام-، وقد استوفى أدلّة المذاهب الأربعة في ذلك أصلاً وفرعاً، بما في بعضه كفاية، لمن وقف عند حدود كلام ربِّ الأرباب بقوله -عز اسمه-:{فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 17-18] .
بدمشق الشَّام
(1) انظر: «المجموع» (4/56) ، و «الفتاوى» (ص 40 - جمع تلميذه ابن العطار) له، ونقله عنه ابن همات في «التنكيت» (ص 96) ، وغيره.
(2)
النبي صلى الله عليه وسلم مبلِّغ لا مشرع، انظر التعليق على (ص 115) .
في 15 المحرم الحرام سنة 1344
كتبه بقلمه: صالح نجم الدين التُّونسي (1)
(1) له ترجمة في «ذكريات علي الطنطاوي» (1/71، 73، 81، 83 و2/234 و3/233 و8/157، 158)، ومما قال عنه في الموطن الأخير:
«كانت حلقة الشيخ صالح كالمدرسة الجامعة؛ فيها حديث، وفيها قواعد في المصطلح وفي الأصول، وفيها تاريخ وشعر وأدب، وكان الشيخ فصيح العبارة، طلق اللسان، كثير السجع، يأتي معه عفواً بلا تكلف، بلهجته التونسية الجميلة.
وفي هذه الحلقة، عرفت أول مرة الأستاذ سعيد الأفغاني 1338هـ، واستمرت صحبتنا العمر كله، ثم صار عديلي (جد زوجتينا والد أمّيهما الشيخ بدر الدين) .
وقدمت القول بأن الشيخ صالحاً كان شديداً، فما كنا نحبه ونحن صغار، فلما كبرنا وأدركنا مبلغ ما استفدنا منه من علم ومن أدب، بل ومن دين ومن خلق، أحببناه، ثم ودعنا وهاجر إلى المدينة المنورة، فكان مدرس المسجد النبوي، وكان ذلك في الأربعينيات من هذا القرن الهجري، لأنني لما جئت المدينة في رحلتنا تلك، من أربع وخمسين سنة، كان قد مر عليه زمان، وهو فيها.
وفي المدينة تزوج -كما أظن- وولد له الفقيد الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله، ومن قبله الأستاذ الطيب الذي بلغ أعلى السلم في الرتب العسكرية على علم وفضل وسعة اطلاع، أطال الله عمره، وله إخوة ما عرفتهم، وفهمت أن عم أمهم هو شيخنا وأستاذنا في المدرسة السلطانية الثانية في دمشق سنة 1337هـ، وهو الشيخ زين العابدين التونسي، الأخ الأصغر لشيخ مشايخنا، السيد الخضر الحسين، الذي ولي مشيخة الأزهر، وأسس جمعية الهداية الإسلامية في مصر يوم أسست جمعية الشبان، وكنت ألقاه في المطبعة السلفية عند صديقه خالي محب الدين وهو صديقه، كما ألقى العالم النبيل المؤرخ المحقق أحمد تيمور باشا، وكانا متشابهين في سعة العلم، وشدة الحياء، وكثرة التواضع، ولين الجانب.
وعندي عن الشيخ صالح رحمه الله الكثير الكثير، ولو جمعت ذهني يوماً لكتبت له ترجمة كاملة، أسأل الله أن يوفقني إليها» .
الإمام المالكي والمدرس بالجامع الأموي
5
بسم الله الرحمن الرحيم
اطَّلعنا على هذا الكتاب، وعلمنا ما فيه، ونقول: كلٌّ من المتناظرين قد أطال الكلام في غير محلِّ الحاجة، والذي يظهر: أنَّ كلاًّ من المتناظرين لا يقصد بما يقول، إلا أن يغلب مناظرَه، فكان الدُّخولُ بينهم غيرَ جائز، لما أنّ شرط المناظرة: أن يكون القصدُ إحقاقَ الحقِّ، وأن يكون كلٌّ من المتناظرين يحب ظاهراً وباطناً أن يكون الحقُّ في جانب مناظره، كما كان عليه السَّلفُ الصّالح (1) ، ولذلك نقول -بياناً للحقِّ في ذاته، بقطع النَّظر عن الانتصار بعده لأحد منهما-:
(1) في آخر «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 326) تحت عنوان (ثلاث كلمات للشافعيِّ: لم يُسبَقْ إليها، وانفرد بها)، ومن بينها: قوله: «ما ناظرتُ أحداً، فأَحْبَبْتُ أنْ يُخْطِئ» .
قال أبو عبيدة: وقد وقعت بينه وبين الإمام أبي عبيد القاسم بن سَلاّم ما يترجم ذلك عملياً، فكان الشافعي يقول: إنّ القرء هو الحيض، وكان أبو عبيد يقول: إنه الطهر، فلم يزل كل منهما يقرر قوله، حتى تفرّقا، وقد انتحل كل منهما مذهب صاحبه، وتأثّر بما أورده من الحجج والشواهد، انظر:«طبقات الشافعية الكبرى» (1/273) ، مقدمتي لـ «الطهور» لأبي عبيد (ص 34-35) .
رفع الصَّوت من المشيِّعين للجنازة بنحو قرآن، أو ذكر قصيدة بردة (1) ، أو يمانية، أو غير ذلك بدعة مكروهة مذمومة شرعاً بلا شبهة، لا سيّما على الوجه الذي يفعله النّاسُ في هذا الزَّمان، مما يمجُّه الذَّوقُ السَّليمُ، ويستقبحه الطَّبعُ المستقيم، ولم يكن شيء منه موجوداً في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الصَّحابة، والتَّابعين، وتابعيهم، وغيرهم من السَّلف الصَّالح، بل هو مما تركه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مع قيام المقتضى لفعله (2) ، فإنه كان يعلِّمهم كلَّ ما يتعلَّق بالميت، من غُسلٍ، وصلاةٍ عليه، وتشييعِه، ودَفْنِهِ، فلو كان رفعُ الصَّوت من المشيِّعين مطلوباً شرعاً لفعله، أو أمر بفعله، وما تَرَكَه صلى الله عليه وسلم في مقام التَّعليم يكون ترْكُه سُنَّةً، وفعلُه بدعةً مذمومةً شرعاً، كما هو الحكم في كلِّ ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضى لفعله.
على أنَّ رفع الصَّوت ينافي الحكمة المقصودة من المشي مع الجنازة، من التَّفكّر في الموت، وما بعده، مع أنّه قد ورد النَّهي عن ذلك بخصوصه، فقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» (3) .
(1) انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 20) .
(2)
هذا القيد في الترك مهم جداً، كما نبّه عليه ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/598-599) ، و «بيان الدليل» (1/181، 480) ، و «مجموع الفتاوى» (26/172 و27/442) ، و «الشاطبي» في «الاعتصام» (2/267، 273-274 - بتحقيقي) ، و «الموافقات» (3/159، 163، 283-284) مع تعليقي عليهما.
(3)
تقدم تخريجه.
ولكن جوَّز بعضُ المتأخِّرين رفعَ الصَّوت بالذِّكر ممن يمشي مع الجنازة، إذا كان ذكراً شرعياً، بناءً على أنَّ علَّة كراهة رفع الصَّوت، هي: موافقة أهل الكتاب في رفع أصواتهم أمام الجنائز، وقد زالتْ تلك العلّة؛ لأنَّ أهل الكتاب صاروا يمشون ساكتين مع جنائزهم، لا يرفعون أصواتهم، فكانت مخالفتُهم في رفع الصَّوت بالذِّكر المشروع فلا يكره حينئذ، وتغير الحكم لتغيِّر العلَّة! ولا يخفى ما فيه، أما أولاً: فإنَّ المشاهدة في زماننا الآن بالديار المصريَّة، أنّ كثيراً من أهل الكتاب يرفعون أصواتهم مع جنائزهم بأناشيد يرتّلونا، فكانت مخالفتُهم في عدم رفع الصَّوت كما هو السنة.
أما ثانياً: فلأنَّ العلَّة ليست هي ما ذكر، بل علَّة السُّكوت هي التَّفكُّر في الموت وما بعده.
وأما ثالثاً: فلأنَّ المعوَّل عليه في الأحكام الشرعية هو النّصّ [في](1) المنصوص عليه، وإنْ زالتْ العلةُ لأنّ (2) النَّصَّ هو الذي أثبت الحكم فيما نص عليه فيه، والعلة حكمة فقط، لا يشترط بقاؤها في المنصوص عليه [لبقاء الحكم](3) ، وليس هذا الحكم من الأحكام التي بناها الشَّارع على العرف، وأناطها به (4) ، حتى يختلف باختلاف عرف الناس وعوائدهم.
ولو كان الأمر كما يقول ذلك البعض، وأن الحكم تغير بتغيّر العلة لكان عدم رفع الصوت مكروهاً مع الجنازة، ولا قائل به، بل الكلام في جواز رفع الصّوت، وعدم جوازه فقط، وقد علمتَ أنَّ الحقَّ عدم الجواز.
(1) سقط من الأصل، وأثبته من «أحسن الكلام» (28) لمحمد بخيت المطيعي.
(2)
في الأصل: «فإن» ، والمثبت من «أحسن الكلام» (ص 28) .
(3)
سقط من الأصل، وأثبته من «أحسن الكلام» (28) .
(4)
هذا قيد مهم عليه يدور (تغير الأحكام بتغير الزمان) ، وانظر بسط ذلك في «إعلام الموقعين» (3/337) وتعليقي عليه، ولحسن العلمي بحث بعنوان «الاجتهاد وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان» ، منشور في «الاجتهاد الفقهي: أي دور وأي جديد؟!» (ص 107-118) ، ولصديقنا الشيخ محمد بن عمر بازمول «تغيّر الفتوى» ، مطبوع عن دار الهجرة، الدمام، وللشيخ إسماعيل كوكسال التركي دراسة جيدة، منشورة بعنوان:«تغيّر الأحكام في الشريعة الإسلامية» ، وللعقلانيين وأصحاب (الفكر المستنير) -زعموا- توسّع غير مرضٍ في إعمال هذه القاعدة، ليس هذا موطن بسطه، والله الموفق. وفي الأصل:«وناطها» ، والمثبت من «أحسن الكلام» .
وأما ما يفعل في زماننا أمام الجنائز، من الأغاني، والأناشيد، ورفع الصَّوت، بنحو البردة واليمانية وغيرهما، مع تغيير في الصَّوت، وتمطيط الكلمات وتغيير (1) للحروف، وغير ذلك مما يُفعل في هذا الزَّمان، فهذا مما لم يقل بجوازه أحدٌ من العلماء، بل هو منكر قطعاً، وكذا ما يفعل من المشي بالمباخر، ومشي العساكر رجالاً وفرساناً، وحمل الجنائز على غير أعناق الرِّجال (2) ، كل ذلك من البِدَع التي لا يقول أحدٌ من العلماء بجوازها، وعلى كلِّ حال؛ فالصَّواب الاحتياط (3) ، والعمل بالسُّنَّة، وما عليه السَّلف الصَّالح، ويكفي في ذلك أنّه اقتداءٌ بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(1) في الأصل: «بتغيير» ! والمثبت من «أحسن الكلام» (28) .
(2)
من البدع: التزام حمل الجنازة على السيارة، وتشييعُها على السيارات، انظر تفصيل ذلك في «أحكام الجنائز» (ص 99-100 رقم 54، 315 رقم 69، 70) .
(3)
العمل بالاحتياط من المسائل التي أعيت العلماء، وراسل فيها الشاطبي أهل المشرق والمغرب مستشكلاً أشياء منها، فلم يفز بمقنع، ورأيت رسالة علمية جيدة في هذا الموضوع، ليست الآن تحت يدي. وانظر -غير مأمور-:«الموافقات» (1/161 و5/106-109، 188-192) ، «إيضاح السالك» للونشريسي (160) ، «المنثور في القواعد» (2/127-134) ، «تهذيب السنن» (1/60) ، «بدائع الفوائد» (3/257-259) .
ثم ظفرتُ في «فهرس مخطوطات مكتبات المدن الإيرانية» (3/1571) بهذا العنوان: «سويّ الصراط، البرزخ بين التفريط والإفراط، في مسألة الاحتياط» ، وأن منها نسخة في مدرسة آخوند، بطهران، تحت رقم [4816/2] ، ومؤلفها علي بن محمد الإخباري.
وأما العُرف الحادثُ من النَّاس فلا عبرة به، في مثل هذا، إذا خالف النَّصَّ، بل بعض العلماء لم يعتبرْه أصلاً حتى فيما يتغيَّر بتغيِّر العرف إذا خالف النَّص (1) ؛ لأنَّ التَّعارف إنما يصحّ (2) دليلاً على الجواز إذا كان عاماً من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجتهدين؛ لأنه حينئذ يلحق بالإجماع؛ فيكون حُجَّةً كما صرَّحوا به، وما تعارفه الناس من الرَّفع للصوت مع الجنازة ليس كذلك، فلا يصلح تعارفُهم له دليلاً على جوازه، وقد بيَّنا كلَّ ذلك في كتابنا «أحسن الكلام فيما يتعلَّق بالسُّنَّة والبدعة من الأحكام» (3) ،
(1) انظر ما علقناه على (ص 188) .
(2)
في الأصل: «يصلح» ، والمثبت من «أحسن الكلام» (29) .
(3)
ذكر فيه (ص 28-29) من كلامه السابق هنا: «رفع الصوت
…
» إلى قوله القريب: «دليلاً على جوازه» ، وزاد:«وكذا ما تعارفوه من التغني ورفع الأصوات بالترضي عن الأصحاب رضي الله عنهم، وغير ذلك مما ترفع به الأصوات وقت الخطبة، فإن ذلك ممنوع، وبدعة مذمومة شرعاً اتفاقاً يثاب من منعه أو أمر بمنعه، وإذا كانت قراءة القرآن والذكر وما شاكل ذلك ممنوعاً وقت الخطبة، فكيف بغير ذلك مما اعتاده الناس اليوم» انتهى.
قال أبو عبيدة: ويشمل النهي -أيضاً-: الجهر بقراءة «دلائل الخيرات» ، أو الأسماء الحسنى، أو القول خلفها: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن الله يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، سبحان من تعزّز بالقُدرة والبقاء، وقهر العباد بالموت والفناء، أو الصياح خلفها: الفاتحة، أو استغفروا لأخيكم، أو سامحوه، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ترك الإنصات، وتحدث الناس بعضهم مع بعض، أو المناداة على الميت، أو رثاءه بقصائد، أو الضرب بالطبل والأبواق والمزامير، وقولهم: محمد، أو أبو بكر، أو علي، أو قراءة الأدعية. انظر تقرير ذلك في:«المدخل» لابن الحاج (3/245، 279، 4/246) ، «الحوادث والبدع» (144، 153) ، «الباعث» (270، 274-276) ، «الأمر بالاتباع» (251، 253-254) ، «تلبيس إبليس» (400) ، «اللمع» (1/232) ، «السنن والمبتدعات» (67، 108) ، «الإبداع» (53، 59، 225، 242) ، «إصلاح المساجد» (162) ، «البدعة» شلتوت (31) ، «السلسلة الضعيفة» (1/418) ، «أحكام الجنائز» (ص 314) .
ولمحسن بن محمد بن القاسم (كان حياً 1125هـ) : «الرد على رسالة الجهر بالذكر» ، منها نسخة ضمن مجاميع [83] ، في (7) ورقات في الجامع الكبير بصنعاء، كما في «فهارسها» (3/1053) .
والله -تعالى- أعلم.
في 23 المحرم سنة 1344هـ
الموافق 13 أغسطوس سنة 1925م
مفتي الديار المصرية سابقاً
محمد بخيت المطيعي الحسني (1)
غفر الله له ولسائر المسلمين آمين
6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مؤيِّد الحقّ بالبرهان القاطع، موفِّق أهل اليقين إلى الصَّواب، وهادي الموفقين إلى الحكمة وفصل الخطاب، عاضد حماة الحقيقة بالوقاية الصّمدانية، مؤيِّد دُعاة الشَّريعة الغراء بالتّأييدات الرَّبانية، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد النور الشامل، والسيِّد الكامل، وعلى آله الكرام، وأصحابه العظام.
أما بعد؛ فقد اطّلعتُ على الرسالة التي ألَّفها الهمامان الفاضلان: الشَّيخُ كامل القصَّاب، والشَّيخُ عزّ الدين القسَّام، لازال كلٌّ منهما مزيلاً للشُّبهات، مظهراً للصَّواب، بعناية الملك الوهاب، قصدا بها إزالةَ البدعة الفاشية بين الناس، من رفع الأصوات خلف الجنائز وأمامها بالذِّكر والتّشويش، الشَّاغل للمصاحبين لها عن الاتِّعاظ بالموت، ومفاجأة سكراته، فرأيتُ مباحثَها الجليلة، وعباراتها الجميلة، في غاية الحُسن والإتقان، وكلُّها توافق المعقول والمنقول، كما حرّره الأئمة الفحول، من كلام علماء المذاهب الأربعة، وكلّها تدلُّ دلالةً واضحةً على المنع من الجهر بالذِّكر وغيره مع الجنائز، وأنَّ على متَّبعيها الصَّمت والتّفكر والاعتبار، وفيما نقله صاحبا الرسالة من كتب المذاهب الأربعة غنيةٌ وكفايةٌ لمن أنصف، ولم يسلك سبيل من مجمج وتعسَّف، وإلى إباحة البدع حاول وتكلَّف، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2) ، وقال
(1) مضت ترجمته في التعليق على (ص 25) .
(2)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 49) من حديث أبي سعيد الخدري.
- صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة» (1)، وقال صلى الله عليه وسلم:«من تمسَّك بسُنَّتي عند فساد أمتي فله أجر مئة شهيد» (2) كما رواه البيهقي مرفوعاً، وقال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3)، وقد ترتب على ارتكاب أمثال هذه البدع: وقوع الجهّال، وكثير من طلبة العلم، فيما نهى الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه، من فعل المحرَّم أو المكروه (4) ، وإذا نهاهم عارفٌ عن ارتكابها، وأمرهم باتِّباع السُّنَّة، قالوا: قد وجدنا علماءَنا لها يفعلون، وفعلناها بحضرتهم وهم ساكتون، وهم قدوتنا فنحن لهم متَّبعون، فبدّلت السُّنن بالبدع، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فلو أنَّ علماء الزَّمان عملوا بما علموا، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، كما أمروا، لما أخلُّوا بوظيفتهم، ولا عباد الله أضلّوا، وقد تصفّحتُ الرسالةَ من أوَّلها إلى آخرها؛ فوجدتُها مستحقَّةً لأن ترفع على هامة القبول، وكل ما سطَّراه وحرَّراه وبيّناه وقرّراه هو لب الحقيقة، وعين الشَّريعة، لا يشوبه شائب، ولا يخشى عليه من كلمة عاتب، أو عائب، فجزاهما الله بالحسنى، وزيادة، على ما أورده كلٌّ منهما بهذه الرسالة وأجاده، آمين.
في 10 صفر سنة 1344
كتبه الفقير إليه -تعالى-
(1) مضى تخريجه.
(2)
مضى تخريجه (ص 1) .
(3)
مضى تخريجه (ص 56) .
(4)
ينظر هل توصف البدعة بالكراهة؟ راجع تأصيل ذلك في «الاعتصام» (1/316 - بتحقيقي) للشاطبي.
صالح الحمصي (1)
7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بارئ الخلق، والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد النَّاصر الحقّ بالحقِّ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعترته وأحبابه.
أما بعد: فإنَّ نصوص جميع مذهبنا -نحن معاشر الشَّافعية- ناطقة بكراهة اللغط أمام الجنازة، للأدلّة الصَّحيحة الدالَّة على ذلك، نقلاً وعقلاً، وما قاله بعضُ متأخِّري السَّادة الشافعية (2) مما يخالف ذلك، فليس لهم فيه سند، فما ذكره الأستاذان الفاضلان، والمحققان الكاملان، والعالمان العاملان، مؤلفا هذه الرسالة، هو الذي يعوَّل عليه، ويركن إليه، فجزاهما الله خير الجزاء، إنه سميع قريب مجيب الدعاء، آمين.
في 13 صفر سنة 1344
كتبه الفقير إليه -عزَّ شأنه-
عبد المعطي السّقا الشافعي
المدرس بالأزهر
8
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) هو صالح بن أسعد بن محمد الحمصي، ولد في دمشق 21 ربيع الثاني سنة 1285هـ - 1868م، قرأ على الشيخ بكري العطار، وتفقه على الشيخ أحمد الحلبي، = =وغيرهما، كان حجة في الفرائض والفقه الحنفي، توفي بدمشق 21 ربيع الثاني سنة 1362هـ - 1943م، من مؤلفاته:«شذرات من رشحات الأقلام على منظومة كفاية الغلام» .
انظر ترجمته في: «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر» (2/571) ، «معجم المؤلفين السوريين» (150) ، «الأعلام الشرقية» (2/562 رقم 685) ، «معجم المؤلفين» (5/4) ، «ذكريات علي الطنطاوي» (4/246) ، مجلة «التمدن الإسلامي» السنة 9/الجزء (8) و (9) /ص 73، مقدمة «رشحات الأقلام» (16) .
(2)
انظر: «حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج» (3/187، 188) ، و «حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج» (3/23) .
تصفَّحتُ هذه الرِّسالة من تصنيف الأستاذين الفاضلين: الشيخ كامل القصَّاب، والشّيخ عزّ الدين القسام، فوجدتُها تضمَّنت مسائلَ جمّة، تتعلَّق بآداب الذِّكر، والدُّعاء، وقراءة القرآن، والمواطن التي يحسن فيها جميع ذلك أو لا يحسن، وقد أجاد الأستاذان -حفظهما الله- في تمحيص الحقِّ، وتحرير الصَّواب في تلك المسائل، مما يؤدِّي تدبّره إلى إحياء سنن، وإماتة بدع -إن شاء الله تعالى-.
أما كلمتي التي أقولها هنا، فلستُ أراها بالتي تتّسع لبيان ما أعتقده الحقّ في مسائل المناظرة كلِّها، وبذلك أكتفي برفع الصَّوت بالذكر وراء الجنائز التي هي أم الباب، والأصل الذي تفرَّع عنه السؤال والجواب، فأقول:
لا نزاعَ بين علمائنا في أنَّ الصَّمت وراء الجنائز هو السُّنَّة، لما أن في السُّكوت وراءها ما يبعث على الخشوع والإخبات، وتذكر الموت والآخرة، لكننا نرى المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية، قد خالفوا هذه السُّنَّة، واعتادوا رفع أصواتهم بقراءة القرآن، أو بأذكار أخرى مرتّلة وملحّنة، كما هي في الطّوائف الأخرى غير المسلمة، وعذر بعض العلماء المتأخّرين في قبول ذلك: أنهم لو لم يرفعوا أصواتهم بالذِّكر لاشتغل مشيِّعو الجنازة بالتهامس والخوض في مختلف الأحاديث، وقد رأيت الأستاذ الكبير السيِّد محمد الكتاني (1) -نزيل دمشق- يميل إلى الجهر بالذِّكر أمام الجنائز مع اعترافه بأن السنة هي السكوت، قال (2) :
(1) هو محمد المكي بن محمد بن جعفر الكتاني الحسني، ولد بمدينة فاس بالمغرب سنة 1312هـ، ونشأ بها، وانصرف منذ صغره إلى حياة الرجولة بإشارة من والده، فأتقن السباحة والرماية وركوب الخيل والصيد والضرب بالسيف، درس في جامعة القرويين بفاس، ثم غادر بلاده مع والده وأخيه سنة 1325هـ كراهية الاستعمار الفرنسي، وتوجهوا إلى الحجاز، وتنقل بين مكة والمدينة، وبقي فيها سنوات طويلة يقرأ على علمائها، ثم انتقل مع أبيه وأخيه إلى دمشق، فنزلوا بحارة الشالة في حي سوقسا روجة، وبعد مدة عاد إلى المغرب مع أسرته واشترك مع والده في الجهاد ضد الفرنسيين، ثم لما توفي والده في مدينة فاس سنة 1345هـ، رجع إلى دمشق فاستقر بها. وانظر:«تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري» (2/909) ، ومقدمة «نصيحة أهل الإسلام» (79-81) لابنه إدريس، وفيها ذكر المصادر التي ترجمت له على وجه جيد فيه استقصاء.
(2)
من كتبه التي تذكر في ترجمته: «نصرة ذوي العرفان فيما أحدثوه لذكر الهيللة من الطبوع والألحان» ، فلعل هذا النقل فيها، والله أعلم.
وهذا رأي أحمد بن الصديق في «در الغمام الرقيق» (ص 139) .
وللمهدي بن محمد بن الخضر الوزاني الفاسي (ت 1342هـ - 1923م) : «تقييد في جواز الذكر على الجنائز» ردّ فيه على العلامة الرهوني، انظر:«معلمة الفقه المالكي» (186) ، و «المطبوعات الحجرية في المغرب» (78) .
قلت: وهذا رأيه في «النوازل الجديدة الكبرى» (2/ 39) ، و «المنح السامية في النوازل الفقهية» وهو «النوازل الصغرى» (1/163-166) ، ولعل «التقييد» السابق هو كلامه هنا، والله أعلم.
ولأحمد بن أحمد الطيبي الشافعي (979هـ) : «رأي في الماشي -كذا- مع الجنازة» ، منه نسخة في مكتبة الجامعة الأمريكية، بيروت، ضمن مجموع كما في «فهارسها» (323) .
وإنَّ الناس في بلادنا -يعني: فاس- يلغطون كثيراً وراء الجنازة، ويتناجون، ويتحدَّثون عن الميت وسيرته في حياته، وما سيكون في حالة ورثته، وماذا عساه يقع بينهم من تنافس وخصام، ونزاع بشأن الإرث.
قال: وربما تخطوا ذلك إلى الطّعن في الميت، أو في ورثته، فكان رفعُ الصَّوت بالذكر شاغلاً للمشيعين عن الحديث والخوض في الباطل، لكن السيِّد الكتَّاني -حفظه الله- لا يتردّد أصلاً في أنَّ الرُّجوع إلى العمل بالسُّنَّة هو الأفضل، وأنه إذا أمكن حمل الناس على السُّكوت المطلق وراء الجنائز، كان ذلك أمثل، ولا يكون ثمة حاجة إلى رفع الصَّوت بالذِّكر وراءها، فالخلاف إذن يشبه أن يكون لفظياً كما يقولون، أو أنَّ الحكم فيه مما يختلف باختلاف الأمصار الإسلامية، وحالة سكَّانها الروحيَّة والأخلاقية (1) .
وأن من يقول بالسُّكوت وراء الجنائز عملاً بالسُّنَّة، ومن يستحسن في هذه الأيام رفع الصوت وراءها، كلاهما يرمي إلى غرضٍ واحد، وهو الحيلولة بين المشيّعين، وبين الخوض في الباطل من حيث يؤدِّي ذلك إلى التَّفكّر والخشوع، لذلك كنا نحبُّ أن لا ترتفع أصوات المتناظرين في مسألة هي أهون من جميع المسائل التي تهمُّ المسلمين اليوم، وأخفها ضرراً، وكان غيرُها لعمري! أحقّ بالاهتمام بها، وعقد مجالس المناظرات من أجلها، فتتمحص ويتحرّر وجهُ الحقِّ منها.
(1) الأمر ليس كذلك، إذ هذه المسألة وارد فيها نصوص وآثار، وهي لا تتغير بتغيُّر الأزمان، فضلاً عن الديار، راجع (ص 188) .
وملخَّص ما أريد أن أقوله بالنسبة إلى دمشق -حيث أنا نزيل (1) اليوم، وإلى طرابلس الشَّام حيث عشتُ ونشأت- أن الناس فيها -حتى العامة- أصبحوا يشعرون بأنَّ السكوت وراء الجنازة أفضل من رفع الصوت بالأذكار، وأعون على الخشوع والخشية، ويشعرون -أيضاً- بأنه كلما كان الحفل وراء الجنازة كبيراً، والسكوت عاماً، كانت الجنازة والخشوع فيها أعظم، وأنَّ السكوتَ التَّامَّ على هذه الصورة لا يفسح مجالاً للهمس والنجوى، بل الأمر على العكس يضطر الناس إلى الصَّمت والإطراق، إذ لا يكاد أحدٌ من الناس يناجي رفيقَه الذي بجانبه في الجنازة، التي لا رفع صوت بالأذكار فيها، حتى يلتفت إليه المطيفون به، ويحدجونه بأبصارهم، فيقطع النَّجوى، ويسكت، ولعلَّ رفع الصَّوت بالأذكار وراء الجنائز الصغيرة الشَّأن، القليلة المشيِّعين يساعد على شيوع أمرها، وانتباه الناس إليها، فيهرعون إلى تشييعها والخروج معها إلى الجبَّانة، فرفع الصَّوت بالذِّكر يكون في بعض الأحايين وسيلةً إلى تكثير المشيعين، لا سيما في جنائز الفقراء، ومَنْ لا يؤبه لهم من الناس (2) .
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب:«نزيلها» .
(2)
هذا التفريق لم يقل به أحد! وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم.
ومع هذا؛ فإنَّ الأفضل العمل بالسنة، وتعويد الناس السكوت وراء الجنائز، كما يقع الآن في كثير من بلاد الإسلام، التي ارتقت فيها الأخلاق، وانتشت العلوم والآداب، أما البلاد الأخرى التي ما زالت مقصِّرة في هذه الحلبة، وقد تعسَّر فيها العملُ بالسُّنَّة، فينبغي لعلمائها أن يجتهدوا في تنبيه أهاليها إلى وجوب السكوت وراء الجنائز، ويسلكوا إلى هذا الغرض مختلفَ الطُّرق، وربما كانت أقرب تلك الطرق: أن يوصي العلماءُ وأشرافُ الناس بالعمل بالسُّنَّة في جنائزهم، فيقتدي بهم الآخرون، ومن ثم ينتبه عامّة الناس ودهماؤهم إلى ما في السنة الشريفة من الحسن والأدب الصحيح، فيألفوها، ويسلكوا سبيلها، كما هو الحال في بلادنا السُّوريَّة، أو معظم أمصارها.
ولا أعلم الحال في مدينة عكا بلد الأستاذ الجليل الشيخ عبد الله الجزار (1) ، ولم أطَّلع على فتواه في هذه القضية، لأعلم إنْ كنت باعدت عنه فيما قلتُه، أو قاربته؛ لذلك أرجو أن تقع كلمتي هذه موقع القبول من نفسه.
في20صفرسنة1344
…
المغربي (2)
(1) مضت ترجمته.
(2)
هو عبد القادر المغربي، ولد باللاذقية 24 رمضان سنة 1284هـ، اتصل ببعض العلماء المجدديين والمصلحين؛ كالشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ونهج منهجهما في التعليم والإرشاد والإصلاح، اشترك مع الأمير شكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش في تأسيس كلية دار الفنون في المدينة المنورة، عهد إليه تحرير جريدة الشرق بدمشق، ثم آلت إليه رئاسة مجمع دمشق من عام 1943م إلى أن توقفت أعماله بسبب قلة الاعتمادات في موازنة المجمع.
من مؤلفاته: كتاب «الاشتقاق والتبويب» ، «السفور والحجاب» ، «البينات» ، «الأخلاق والواجبات» ، وغيرها. توفي صباح 27 شوال سنة 1375هـ.
وانظر ترجمته في: «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (2/668) ، «مصادر الدراسات الأدبية» (3/1264-1265) ، «ذكريات علي الطنطاوي» (2/85، 199 و3/29 و4/168 و5/266، 267 و6/285 و7/23، 251 و8/235) ، ولعدنان الخطيب كتاب مفرد عن حياته.
9
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهَّار، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد نور الأنوار، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان في كلِّ زمان ومكان، والسّلام عليهم أجمعين، أما بعد:
فقد عمَّت البلوى، وزادت الشَّكوى، في مسائل حدثتْ في الدِّين، ونسبت إليه، وقد كثرت في أزمنتنا، وانتشرت بين عامتنا، وأقرّ عليها بعضُ خاصتنا، بل أفتوا بها، وحرضوا عليها -كحادثة هذه الرسالة: الصياح في الجنائز، زاعمين أنها من الدِّين وشعائره، بتأويلات تكلّفوها، واستنتاجات لفَّقوها، والدِّين بين أيديهم بآياته، وأحاديثه، وأقوال أئمته وعلمائه، على اختلاف المذاهب والمشارب، فألبسوه بذلك ثوباً جديداً، نراه رثاً، ويرونه قشيباً، حتى غلبت الفروعُ على الأصل، وضاع اللب في القشور (1) .
(1) لا يوجد في الدين لباب وقشور، وللعز بن عبد السلام فتوى في ذلك، هذا نصُّها (ص 71 - ط. المعرفة) :«لا يجوز التعبير على الشريعة بأنها قشر، مع كثرة ما فيها من المنافع والخيور، وكيف يكون الأمر بالطاعة والإيمان قشر؟! وأن العلم الملقّب بعلم الحقيقة جزء، ومن أجزاء علم الشريعة، ولا يُطلق مثل هذه الألقاب إلا غبيٌّ شقيٌّ قليل الأدب، ولو قيل لأحدهم: إنّ كلام شيخك قشور؛ لأنكر ذلك غاية الإنكار، ويطلق لفظ القشور على الشريعة!! وليست الشريعة إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيُعزَّر هذا الجاهل تعزيراً يليق بمثل هذا الذنب» .
فكان ذلك بلاء على الدِّين، ومنكراً فيه يسأل الله عنه مَن يقدرون على إزالته مِنَ العلماء، الّذِين هم ورثة الأنبياء، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -ومن ذلك التَّغنّي في المساجد-كجامعنا الأموي-بأنواع الشعر والقصائد من فنون الأنغام المطربة، مما لا يسمع لفظه، ولا يفهم معناه، ومن ذلك حفلات المولد الشريف النَّبوي، التي كثيراً ما يجري فيها المنكرات والبدع المذمومة، على اسم المولد الذي هو ليس من السُّنَّة في شيء -وإن كان في نفسه حسناً-، ثم إنهم حرَّموا وأنكروا أموراً أخرى، لا شأن لها؛ لأنها معروفة الحكم، مفروغ منها، وجعلوها ديدَنهم وشعارَهم، غافلين مع شدتهم هذه عن محرَّمات ومكروهات، يُجاهَر بها، وبدع فاشية شوهت الدِّين في نظر غير المسلمين.
والمصيبة كل المصيبة، أنه متى قام نابغة من علمائنا، يخالف مثل هؤلاء، داعياً إلى الدِّين الصحيح، مثل صاحبي هذه الرسالة الأستاذين: الشيخ كامل القصاب، والشيخ عز الدين القسام -حفظهما الله تعالى- جافوه، وناوؤوه، ووصموه باسم الوهابية (1) ، وهذا لا شك أنه من علائم الجهل والحسد.
لم يوصم الأستاذ القصاب قبل الآن بهذه الوصمة، ولكن سيلقَّب بهذا اللقب منذ الآن، حيث تكلَّم في بدع المساجد، والموالد، والجنائز، وسوف لا يضره ذلك في دينه شيئاً، بل يزيد الثقة بعلمه وغيرته -إن شاء الله-.
وفي الختام، نقول: إن ما جاء في هذه الرسالة كلِّها هو الحقّ بلا رياء (2) ، والصواب بشهادة العلم والعلماء.
وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ
…
إذا احتاج النَّهارُ إلى دليل
جزى الله المؤلِّفَيْن خير الجزاء، وكفاهما شرَّ الجهلاء، آمين.
في 25 صفر سنة 1344
كتبه
(1) انظر بشأنها ما علقناه على (ص 6-7) .
(2)
كذا في الأصل، ولعل الصواب:(مراء) .
محمد جميل الشَّطي (1)
النائب الحنبلي بدمشق
عفي عنه
10
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله الذي لا يقبل من الأعمال إلا ما شَرَعه، ولا يرضى عمن ابتدع في دينه شيئاً، حتى يترك بدعتَه، ودينه هو ما كان عليه مَنْ علا الخلقَ فضله، وتمسك به السَّلف الصالح الذين يبغضون المبتدعة.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل: «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» (2) ،
(1) هو محمد جميل بن عمر بن محمد بن حسن الشطي، ولد في دمشق 18 صفر سنة (1300هـ) ، ونشأ في حجر والده، قرأ مبادئ العلوم على عمه الشيخ مراد، ثم على الشيخ أبي الفتح الخطيب، وأخذ الفقه الحنبلي والفرائض عن والده، ثم عن عمه الآخر الشيخ أحمد الشطي، ولع بالأدب والتاريخ، عرف بأخلاقه الفاضلة، حلو المعاشرة لطيف الحديث، لازم المحاكم الشرعية بدمشق صغيراً منذ سنة 1313هـ مقيداً في محكمة البزورية، من مؤلفاته:«رسالة الضياء الموفور في تراجم بني فرفور» ، «ديوانه» ، «رسالة في علم الفرائض» ، «قانون الصلح وبعض القوانين التركية المعمول بها» (وترجمه عن التركية) ، «مختصر طبقات الحنابلة» ، «الوسيط في الإفراط والتفريط» ، «السيف الرباني» (رسالة في الرد على القاديانية)، وغيرها. انظر ترجمته في:«تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (2/704) ، «النعت الأكمل» (431) ، «معجم المؤلفين» (9/161) ، مجلة «التمدن الإسلامي» (م 26/1/22) .
(2)
أخرجه ابن وضاح في «البدع» (رقم 156) ، وإسناده ضعيف جداً، فيه محمد بن عبد الرحمن القشيري، قال الأردي: كذاب متروك الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: منكر الحديث. وانظر «اللسان» (5/250) .
وروي بلفظ آخر: «إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة» .
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5/113 رقم 214) ، وأبو محمد الضراب في «زياداته على المجالسة» (6/398-399 رقم 2816/م - بتحقيقي) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 37) ، وابن عدي في «الكامل» (6/2261) ، وابن فيل في «جزئه» -كما في «الكنز» (رقم 1105) ، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (6/72 رقم 2054) -، وأبو الشيخ في «طبقات أصبهان» (3/609-610) ، وابن وضاح في «البدع» (رقم 157) ، والبيهقي في «الشعب» (7/59، 59-60) ، والضياء في «المختارة» (6/73 رقم 2055) ، والهروي في «ذم الكلام» (ص 223 - ط. دار الفكر اللبناني) ، وأبو بكر الملحمي في «مجلسين من الأمالي» (ق148/1-2) ، ويوسف بن عبد الهادي في «جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر» (ق333/1) -كما في «السلسلة الصحيحة» (رقم 1620) - وأبو يعلى -وليس موجوداً في رواية ابن حمدان المطبوعة-، وأبو نصر السجزي، وابن عساكر، وابن النجار -كما في «كنز العمال» (رقم 1105، 1116) - من طرق عن حميد الطويل، عن أنس رفعه.
قال الهيثمي في «المجمع» (10/189) : «ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة» .
وفصّلتُ في طرقه، والخلاف فيه في تعليقي على «المجالسة» ، والحمد لله. وانظر:«الاعتصام» (1/112 - بتحقيقي) .
والقائل: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1)، وفي رواية:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ؛ يعني: لكونه من المبتدعة، القائل في حقِّهم:«أصحاب البدع كلاب النار» (3) ،
(1) مضى تخريجه.
(2)
مضى تخريجه.
(3)
يريد حديث أبي أمامة، قال أبو غالب -واسمه: حَزوَّر-: «كنت بالشام، فبعث المهلَّب سبعين رأساً من الخوارج، فنُصِبوا على درج دمشق، وكنت على ظهر بيت لي، فمرَّ أبو أمامة، فنزلت فاتَّبعته، فلما وقف عليهم، دمعت عيناه، وقال: سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم -قالها ثلاثاً-، كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء
…
-ثلاث مرات-، خير قتلى مَن قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه.
ثم التفت إليَّ، فقال: يا أبا غالب! إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم.
قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم؟
قال: بكيتُ رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام! هل تقرأ سورة آل عمران؟
قلت: نعم.
فقرأ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
…
} حتى بلغ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغٌ، فزيغ بهم.
ثم قرأ: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
…
} إلى قوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105-107] .
قلتُ: هم هؤلاء يا أبا أمامة؟
=
…
قال: نعم.
قلتُ: من قِبَلِك تقول أو شيءٌ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال: إني إذن لجريء، بل سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مرة، ولا مرتين
…
حتى عد سبعاً.
ثم قال: إنَّ بني إسرائيل تفرَّقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة، كلها في النار؛ إلا السواد الأعظم.
قلت: يا أبا أمامة! ألا ترى ما يفعلون؟
قال: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} الآية [النور: 54] » .
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/307-308) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (18663) ، والحميدي في «المسند» (908) ، والطيالسي في «المسند» (رقم 1136) ، وأحمد في «المسند» (5/253، 256) ، والترمذي في «الجامع» (رقم 3000) ، وابن ماجه في «السنن» (رقم 176) ، والطبراني في «الكبير» (15/327-328، 328 رقم 8033-8036، 8049، 8056) ، و «الأوسط» ، و «الصغير» (2/117) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6/338-339 رقم 2519) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 68) ، وابن نصر في «السنة» (ص 16-17) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (5/1429 رقم 8150) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/188) ، واللالكائي في «السنة» (151، 152) ، والآجري في «الشريعة» (ص 35، 36) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (1/163 رقم 262) ، وابن المنذر في «التفسير» -كما في «الدر المنثور» (2/291) - من طرق عن أبي غالب به، بألفاظ متقاربة، وبعضهم اختصره.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن» .
قلت: أبو غالب البصري حزوّر البصري، صاحب أبي أمامة، ضعيف، يعتبر به في الشواهد والمتابعات، وقد تابعه:
* صفوان بن سُلَيم -وهو ثقة-، عند أحمد في «المسند» (5/269) ، وابنه عبد الله في «السنة» (رقم 1546) ، وسنده صحيح
* سيار الأموي -وثقه ابن حبان (4/335)(في التابعين) وأعاده! (6/423) في (أتباع التابعين)، وفي «التقريب» :«صدوق» -، ومن منهجه في مثله قوله: مقبول -عند أحمد في «المسند» (5/250) -أيضاً-. ولقوله: «شر قتلى
…
» ، «كلاب أهل النار» شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى. انظر:«مسند عبد الله بن أبي أوفى» لابن صاعد (رقم 39، 40) ، و «الحنائيات» (رقم 225) وتعليقي عليه، ففيه التخريج مطولاً.
ويا لها من عار ومذمَّة! وعلى آله وأصحابه الذين قال لهم: «اتبعوا ولا تبتدعوا، فإنما هلك من كان قبلكم بما ابتدعوا، وتركوا سنن أنبيائهم، وقالوا بآرائهم، فضلّوا وأضلّوا» (1)، والقائل لهم:«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به» (2) ؛ يعني: فالذين اتَّبعوا أهواءهم، قد ضلّوا وأضلوا، وعلى من تبعهم بإحسان، وعن سنن السلف لم يعدلوا، بل ساروا متمسكين بأذيالهم، لم يغيِّروا ولم يبدِّلوا.
أما بعد؛ فيقول أسيرُ ذنبه عبد ربه الكافي محمد بن يوسف بن محمد المعروف بالكافي (3) :
(1) ليس هذا بحديث، وإنما هو قول للشعبي عند ابن عبد البر في «الجامع» (2/1050 رقم 2026) ، وانظر «الاعتصام» (1/172 - بتحقيقي) .
(2)
مضى تخريجه.
(3)
هو محمد بن يوسف بن محمد بن سعد الحيدري التونسي الشهير بالكافي، يتصل نسبه بعلي رضي الله عنه، ولد بمدينة الكاف في تونس سنة 1278هـ، طلب العلم صغيراً، وتنقل بين البلدان، فسافر إلى بلد الوردانين على الساحل التونسي، ثم غادر من صفاقس إلى طرابلس، ثم إلى بني غازي، ثم إلى بيروت، ثم دمشق، ثم النبك، فحمص، ثم طرابلس الشام، ثم بيروت، فيافا، فالرملة، ثم بيت المقدس، ثم رجع إلى يافا، ومنها إلى بور سعيد، فالإسماعيلية، فالقاهرة ووافى الأزهر في 24 شوال سنة 1307هـ، وبقي في الأزهر عشر سنين، ثم سافر إلى صفاقس وتجول في بلاد المغرب، ثم اشتغل بالتدريس في الجامع الأموي للفقه الحنبلي، توفي سنة 1380هـ.
من مؤلفاته: «الحصن والجنة على عقيدة أهل السنة» لأبي حامد الغزَّالي، «نصرة= =الفقيه السالك» ، «التوضيحات الوافية»
…
وغيرها. انظر: «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري» (2/743) ، «رجال من التاريخ» (ص 421) لعلي الطنطاوي، «معجم المؤلفين» (12/136) ، «إتحاف ذوي العناية» (12/136) .
إنّ الله سبحانه وتعالى ابتلى آخر هذه الأمة المشرَّفة بأناس يستحسنون أشياء بآرائهم، أو يستندون فيها إلى آثار منسوخة، كاستنادهم في رفع الأصوات في المساجد إلى ما كان يناضلُ به سيِّدُنا حسان بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ،
(1) يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم لحسان: «اهجهم وجبريل معك» .
أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 3213) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 2486) .
وهذا -والذي يليه- محكم وليس بمنسوخ، وراجع ما أحلنا إليه بشأن قول الشعر في المسجد في تعليقنا على (ص 137) ، وكذا أتينا عليه في كتابنا عن أحكام الشعر العلمية، يسر الله نشره.
وإنشاد سيدنا كعب بن زهير قصيدته المشهورة رضي الله عنه (1) ،
(1) أخرجها مطولة ومختصرة جمع؛ منهم: ابن ديزيل في «جزئه» (ص 53) ، وأبو العباس ثعلب في «مجالسه» (2/340) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (5/118) ، والحاكم (3/578) ، وأبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» (15/142) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/153) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/243) ، و «دلائل النبوة» (5/207) ، وابن خير الإشبيلي في «فهرسة شيوخه» (400-401) ، وابن سيد الناس في «منح المدح» (ص 254) ، وابن جابر الوادي آشي في «برنامجه» (ص 220) ، والسبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (1/122) من طرق ضعيفة موصولة، أو مرسلة، أو موقوفة، والعلماء فيها بين ردّ وأخذ، وتصحيح وتضعيف، ولهم فيها -مذ زمان- تصانيف مفردة، وللدكتور عبد العزيز المانع في مجلة «المجمع العلمي العراقي» (م33 رجب سنة 1402) نقد لهذه القصيدة، ومشكك بإسلام كعب، وكذلك للأستاذ سعدي أبو حبيب مقالة في هذا الموضوع منشورة في مجلة «الأديب» البيروتية، عدد إبريل، سنة 1971م، وللشيخ إسماعيل الأنصاري دراسة مفردة مطبوعة قديماً وحديثاً في صحتها والعمل بها، وللدكتور سعود الفنيسان «توثيق قصيدة بانت سعاد في المتن والإسناد» وهو من منشورات مكتبة الرشد، ولأحمد الشرقاوي «بانت سعاد في إلمامات شتى» منشور عن دار الغرب، ولابن حجة الحموي «شرح قصيدة بانت سعاد» من منشورات مكتبة المعارف - الرياض، وللدكتور السيد إبراهيم محمد «قصيدة بانت سعاد وأثرها في التراث العربي» من منشورات مكتبة المعارف - الرياض، وللدكتور السيد إبراهيم محمد «قصيدة بانت سعاد وأثرها في التراث العربي» من منشورات المكتب الإسلامي، وألف حولها كتب أخرى، انظر -مثلاً- كتابنا «الإشارات» (رقم 1054، 1055، 1063) ..
وغير ذلك مما لا تقوم به حُجّة، خصوصاً من المقلِّد الممنوع من أخذ الأحكام من الأدلّة إجماعاً، كما نقله ابن خَيْرَان (1) ؛ لقصوره عن ذلك، وكاستنادهم في رفع الأصوات خلف الجنائز المخالف لما كان عليه عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، إلى أنَّ رفع الأصوات يشغل الناس عن الغيبة والوقوع في أعراض الناس، وبعضهم يقول: إنه صار عادة وتركها يزري بالميت، وغير ذلك من العبارات التي أصلها وحي الشياطين؛ لأنَّ به تموت السُّنَّة، التي يحبّها الله -تعالى-، ودَرَج عليها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، والسلفُ الصالح: أهل القرون المشهود لهم بالخيرية، وكاستنادهم في القيام في المولد الشريف إلى أنه تعظيم له صلى الله عليه وسلم، وكل ما كان تعظيماً له فهو واجب، ورتّبوا على هاتين المقدِّمتين: أن من لم يَقُم عند ذكر الولادة يعدُّ مستخفاً بمقامه صلى الله عليه وسلم؛ فيكفر، وإلى قول الصَّرْصَري (2) :
(1) هو أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي الشافعي، أحد أركان المذهب، كان إماماً زاهداً ورعاً، تقياً، متقشّفاً، توفي سنة عشرين وثلاث مئة، ترجمته في:«طبقات الشافعية الكبرى» (3/271-274) ، «تاريخ بغداد» (8/53) ، «وفيات الأعيان» (1/400) ، «شذرات الذهب» (2/287) .
(2)
هو يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري، أبو زكريا، جمال الدين الصَّرْصَري، له «المنتقى من مدائح الرسول» ولعله المسمى «المختار من مدائح المختار» ، توفي سنة 656هـ - 1258م، ترجمته في:«البداية والنهاية» (13/211) ، «ذيل مرآة الزمان» (1/257-332)، وفيه:«امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشعار كثيرة، قيل: إن مدائحه فيه -صلوات الله عليه وسلامه- تقارب عشرين مجلداً» ، ثم قال:«وسأذكر من مديحه لرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التبرك وتشريف هذا الكتاب ما تيسر -إن شاء الله-» ، وأطال في ذلك رحمه الله..
«فحقٌّ على الأشراف عند ذكره أن تنهض الأشراف قياماً، أو جثياً على الركب» ، أو عبارة تقرب من هذه، وإلى قيام العلامة ابن السبكي (1) عند سماع قول الصَّرْصَري، وغير ذا من المستندات الواهية (2) ،
(1) قال التاج في ترجمة أبيه علي بن عبد الكافي في «الطبقات» (10/220) : «وأما محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه له، وكونه أبداً بين عينيه: فأمر عُجاب» . وانظر كتاب التَّقيِّ: «السيف المسلول» (ص 524) .
(2)
قال صديق حسن خان -رحمه الله تعالى- في «الدين الخالص» (4/451-452) : «وقد سمعنا أن المحتفلين بمولده صلى الله عليه وسلم إذا بلغوا إلى ذكر ولادته عليه السلام، قاموا قياماً واسعاً لتعظيم روحه صلى الله عليه وسلم، زعماً منهم أنه حاضر في هذا الوقت، نعوذ بالله من الجنون والخبط، وهذا القيام منهم -مع هذا القيام التعظيمي- يشبه الشرك عند من يعرف الأدلة وهو عالم بكيفية الاستدلال بها.
وأما من خَبَطَهم الشيطان بالمس؛ فهذا عندهم غايةُ التبجيل وكمالُ العقيدةِ الحسنة به صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنّ هؤلاء أعظمُ حمر الكون في خِفَّةِ العُقول والنّهى، وأشدّها جهلاً في تقليد الأهواء، أعاذنا اللهُ مِنَ الحمق والطيش، ورزقنا في نعيمه رغد العيش» ا. هـ.
وانظر في تقرير هذه البدعة: «المدخل» (1/256-257)(وفيه التنبيه على بدعة القيام للمصحف، وتجدها -أيضاً- في «شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور» (29) لمحمد بن عبد اللطيف) ، «الرد على الكاتب المفتون» (159، 165) ، «الرد القوي» (164، 209، 211-212، 227) كلاهما للشيخ حمود التو يجري رحمه الله.
ويأتي بطلان الاستدلال بما ذكر -إن شاء الله تعالى-، وكاستنادهم في القيام لبعضهم للتَّعظيم لآثار وردت لغير التَّعظيم، بل السُّنَّة عدم القيام، كما يأتي، وبعضهم فَصَلَ بين العلماء والوالدين وغيرهم، فجعل القيامَ للعلماء والوالدين للتَّعظيم مطلوباً شرعاً، دون غيرهم، وهو تحكّم (1) محض، بل السُّنَّة لم تفرِّق بين العلماء والوالدين وغيرهم، والذي يقول: تعتريه الأحكام الخمسة، قول متأخِّر، لا يعارض السنة فهو من توليد الكلام المنهي عنه، بل العارض له حكم وقته، ويزول بزوال وقته، ويبقى الحكمُ الأصليُّ كالضَّرورة، لإباحة أكل الميتة المحرمة، وبزوال الضَّرورة يرجع الحكم الأصلي، وهذا أمر مقرَّر عند من له أدنى إلمام بالعلم، ثم أولئك الناس المبتلى بهم آخر هذه الأُمَّة لم يسكت عنهم رجال العلم، بل لا يزالون يحاربونهم، ويشنُّون عليهم الغارة، إلا أنَّ هؤلاء المبتدعين اشتدّ عضدُهم بالعامّة، الذين لا يفرِّقون بين سنة وبدعة، وممن حارب أهلَ البدع: العالمان العلاّمتان، والأستاذان الكاملان: محمد كامل القصّاب، ومحمد عزّ الدين القسام، وعضدهما جلةٌ أنجاب، فعارضهم من تطمئنُّ نفسه بالبدعة، ولربما تشمئزُّ من الجري على السُّنَّة، ومن الضلَاّل من يجادل عن البدعة، ويحاول علُوّها على السُّنَّة، ويأبى الله ذلك، والحقُّ يعلو، ولا يُعْلى عليه.
ولْنرجع إلى بيان ما تقدّم، وإن كانت البدعُ الملصقة بالدِّين كثيرة، كإيقاد الضَّوء نهاراً في العيدين (2) ،
(1) أي: قول بالتشهي، لا دليل عليه.
(2)
انظر بدعية زيادة تنوير المساجد في الأعياد، كتاب «المسجد في الإسلام» (349)، وقارن بـ «تفسير القرطبي» (12/275) (آخر المسألة الثانية عشرة من تفسير سورة النور: آية 36) .
قلت: ومثله إيقاد الأضواء في ليلة عيد الميلاد، وجعل ذلك على هيئة هلال لا صليب مجاراة للنصارى، ولا قوة إلا بالله.
والمولد (1) بنية التَّعظيم، ولا عبرة بالنيَّة المخالفة للشَّرع، وكجعل الصَّباحية في المساجد المتنزّهة عن ذلك، وكالذِّكر المحرَّف عما جاء في الشَّرع (2) ، وكالرَّقص في حال تخبُّطهم بالشَّياطين (3) ، وضربهم للآلات المحرَّمة شرعاً، يوجد بعض من ينتسب للعلم يزين حالهم الخبيث، ويستند في تزيينه إلى أفراد صدر منهم ذلك، ولا ندري أهم من المجاذيب الذين لا يؤخذ منهم حكم أم الممكور بهم؟! وكيف يسوغ لعالم متديّنٍ أن يترك أقوال من ثبتت مكانتهم فقهاً وتصوّفًا (!) ، ويتَّبع الأقوالَ الضَّعيفة والشَّاذَّة، وقد نص عالم العلماء سيدي علي الصَّعيدي العَدَوي في «حاشيته على الخرشي» (4)
(1) انظر ما قدمناه (ص 20) .
(2)
انظر: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (10/226، 229، 231، 232، 558) ، «الإبداع» (253، 264، 312، 317، 320) ، «السنن والمبتدعات» (83، 86) ، «البدعة» شلتوت (41) ، «سهم الألحاظ» (رقم 32) ، «معجم المناهي اللفظية» (18، 328، 354) ، «القول البليغ» (119) للتو يجري.
(3)
انظر في تقرير بدعية ذلك: «تلبيس إبليس» (160، 222، 252، 258، 259، = =373) ، «فتاوى العز بن عبد السلام» (163) ، «تفسير القرطبي» (6/258 و7/366 و9/109 و10/366 و11/237-238 و12/59 و14/54 و15/215، 249-250) ، و «كشف القناع» لأبي العباس القرطبي، «الشرح والإبانة» (364) ، «الاعتصام» للشاطبي (2/85، 115، 387) ، «الفرقان» لابن تيمية (150) ، «المدخل» (3/93، 99-100، 117 و4/246) ، «الأمر بالاتباع» (99-106، 274-275) ، «الكلام على مسألة السماع» لابن القيم، «أدب الطلب» للشوكاني (161) ، «السنن والمبتدعات» (191) ، «اللمع» (1/90، 100) ، «الإبداع» (322) ، رسالتي «القرطبي والتصوف» (9-22) ، وفي التعليق عليها مصادر الآثار السلفية الناهية عن ذلك، والله الموفق.
(4)
(1/36، 43) ..
على أنه يحرم الحكم والفتوى والعمل في خاصة النَّفس بالقول الضعيف، ونصوا على أنَّ من يتَّبع الأقوال الضعيفة يكون في دينه ضعف (1)، وحملوا عليه: لا تعلِّموا أولاد السّفلة العلم؛ أي: الزائد على العلم العيني.
(1) صنّف أبو عبد الله محمد بن قاسم القادري الحسني الفاسي (ت 1331هـ - 1913م) : «رفع العتاب والملام عمن قال: العمل بالضعيف اختياراً حرام» ، بسط فيه هذه المسألة، ونقل فيه كلام المالكية بتفصيل وتأصيل.
ولعبد الله الغزي رسالة محفوظة بالأزهرية [178 مجاميع - 4213] في (452 ورقة) بعنوان: «الإقناع الجامع المانع البارع اللطيف في الرد على من أفتى في الكفر بالضعيف» ، ولمحمد بن البوصير كتاب مطبوع، سنة 1973م بموريتانيا بعنوان:«أسنى المتاجر في أنّ من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك» ، وهو في (344) صفحة من القطع الكبير.
وللشيخ أحمد بن الحناط مخطوط بعنوان «فتوى بالحلف بالطلاق والخروج عن المذهب للضرورة» .
وانظر في تقرير هذا: «الفروق» للقوافي (1/107، القاعدة الثانية والسبعون) ، = = «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/404) ، «الموافقات» (5/89-90) للشاطبي، «حاشية الدسوقي» (1/20) ، «مواهب الجليل» (1/33) ، «الفكر السامي» (4/421) ، «نشر البنود» (2/272) ، «أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي» (546) .
فنقول: أمّا رفع الأصوات في المساجد، فقد كان في الصَّدر الأول، ثُمَّ نسخ (1) ، وبالناسخ أخذ أئمة المذاهب الحقَّة، قال في «شرح العقيلة» (2) للحافظ السخاوي ما نصه:«قد كان لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم بخفض أصواتهم؛ لئلا يغلط بعضهم بعضاً» ا. هـ.
ومصداق قول الحافظ: ما رواه الإمام أبو داود عن أبي سعيد الخدري، حيث قال:«اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السِّتر، وقال: ألا إنَّ كلكم مناج لربِّه، فلا يؤذ بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض بالقراءة» (3) ا. هـ.
وورد: «يا علي! لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك، حيث يصلِّي الناس، فإنَّ ذلك يفسد عليهم صلاتهم» (4)، وما خرجه القرطبي (5) عند قوله -تعالى-:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] ؛ ورفعها بما قاله صلى الله عليه وسلم: «جنِّبوا مساجدَكم صبيانَكم، ومجانينَكم، وسلَّ سيوفِكم، وإقامةَ حدودكم، ورفعَ أصواتكم، وخصوماتكم، وجمِّروها في الجمع، واجعلوا على أبوابها المطاهر» (6) ا. هـ من «حاشية الجمل» ، وقريب منه ما في ابن ماجه (7) ، وكون مالك يوجد له قول بجواز رفع الأصوات في المساجد في حيز المنع؛ لأنه رضي الله عنه من أشدِّ الناس اتباعاً للسُّنَّة المصطفوية.
(1) هذا يحتاج إلى نقل! ولم أر من قال بذلك.
(2)
اسمه «الوسيلة إلى كشف العقيلة» لعلم الدين علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي (ت 643هـ) ، والعقيلة هي «عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد» ، وهي نظم «المقنع» للداني، منظومة رائية في رسم المصحف. انظر «كشف الظنون» (2/1159) .
(3)
مضى تخريجه في التعليق على (ص 133) .
(4)
ليس هذا بحديث!
(5)
(12/270) .
(6)
مضى تخريجه في التعليق على (ص 135) .
(7)
مضى تخريجه في التعليق على (ص 136) .
إذا تقرر لديك ما تقدم، فلم يبقَ لمجوِّز رفع الأصوات في المساجد، إلا قول بعض المتأخِّرين، العاري عن المستند؛ لكونه خلافَ السُّنَّة.
وأما استنادهم في رفع الأصوات خلف الجنائز، فأمر مُحْدَث ينافي السُّنَّة التي يحبها الله، واستمرَّ عليها العمل في زمنه صلى الله عليه وسلم، وفي زمن السلف الصالح، وهو الصمت مع الجنازة (1)، أما محبَّة الله -تعالى-؛ فلما روي كما في «الجامع الصغير» (2) :«إنّ الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة» (3) .
قال المناوي (4) : «أي: في المشي معها والصلاة عليها، وقال الحنفي: أي: من تغسيل الميت، والصَّلاة عليه، والمشي أمامه إلى أن يأتي به القبر، فقراءة القصائد، والقرآن أمام الجنازة بدعة مخالفة للسُّنَّة» ا. هـ محل الحاجة.
(1) انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 17) .
(2)
(1/75 أو 1/288 رقم 1868 - مع «الفيض» ) .
(3)
مضى تخريجه مسهباً في التعليق على (ص 12) .
(4)
في «فيض القدير» (1/288 رقم 1868) .
وأما استمرار السَّلف عليها، فلإنكار سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على من رفع صوته، بقوله:«استغفروا لأخيكم» ، فقال له سيدنا عبد الله:«لا غفر الله لك» (1) ، وما قال له ذلك؛ إلا لكونه أحدث حدثاً في الدِّين، لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم، وعليه فنقول: رفع الأصوات خلف الجنائز لا يحبّه الله، ولا هو من العمل الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكلُّ ما كان كذلك فهو ردٌّ على صاحبه، فَرَفْعُ الأصوات خلف الجنائز رَدٌّ على صاحبه؛ لنصِّ الحديث المحكم، قال مالك -رحمه الله تعالى-:«ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً، لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدِّين؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً» (2) .
وقال سيدنا حذيفة بن اليمان (3) رضي الله عنه: «كلُّ عبادة لم يتعبَّدها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها، فإنّ الأولَ لم يدع للآخر مقالاً، فاتَّقوا الله يا معشر القُرَّاء، وخذوا بطريق مَن كان قبلكم (4) » ونحوه لابن مسعود رضي الله عنه (5) ا. هـ.
والخير كله في اتباع من سلف
…
والشر كله في ابتداع من خلف
(1) مضى تخريجه.
(2)
ذكره الشاطبي في «الاعتصام» (1/62 و2/368 - بتحقيقي) ، وصاحب «تهذيب الفروق» (4/225) ، وهو في «الإمام مالك مفسراً» (ص 168) .
(3)
في الأصل: «اليماني» !
(4)
تقدم تخريجه في التعليق على (ص 59) .
(5)
ورد عنه بألفاظ عديدة، انظرها مع تخريجها في «الاعتصام» (1/125، 126، 127 - بتحقيقي) .
وأما استنادهم في القيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم إلى أنه تعظيم له صلى الله عليه وسلم تاركه يكفر لاستخفافه بمقامه صلى الله عليه وسلم، وينتظم من كلامهم قياس من الشَّكل الأول، وصورته هكذا: القيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم تعظيم له، وكل ما كان تعظيماً له فهو واجب، يعدُّ تاركه مستخفّاً؛ فيكفر، فتكون النتيجةُ -بعد حذف الحد الوسط-: القيامَ عند ذِكْر ولادته واجب، يكفر تاركُه للاستخفاف!!
أقول -ومن الله تعالى أطلب الحول والقوة-:
إنَّ استنادهم باطل؛ لمنع المقدِّمتين: أما منع الكبرى؛ فظاهر؛ لعدم لزوم الاستخفاف لعدم القيام، لاحتمال أنَّ من ترك القيامَ تركه كسلاً، مع اعتقاد احترامه، وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، أو أنّه تركه جاهلاً، بكونه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، أو أنه تركه لاعتقاده التَّعظيم في عدم القيام، امتثالاً لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واتِّباعاً للسلف الصالح، الذين كانوا لا يقومون له مع محبَّتهم له صلى الله عليه وسلم؛ لكونهم يعلمون كراهيته لذلك؛ لأنه من شعار غير المسلمين. وأمَّا منع الصغرى فهو أظهر من منع الكبرى؛ لأنَّ القيام لم يكن مشروعاً للتَّعظيم، ولم يشرع إلا في القيام للصَّلاة، ومن المعلوم عند العلماء: أنَّ تعظيمَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قربةٌ إلى الله -تعالى-، ولا يتقرَّب إليه -تعالى- إلا بما شرعه.
قال العلاّمة الحفار كما في (نوازل الأحباس) من «المعيار» (1) للعلامة الونشريسي ما نصُّه: «إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يعظم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القُرَب إلى الله -تعالى-، لكن يتقرَّب إلى الله-سبحانه- بما شرعه، وقد ورد النَّهيُ منه صلى الله عليه وسلم عن القيام له، وبيَّن علَّةَ
…
النَّهي؛ لكونه -أي: القيام- مِن زيِّ الأعاجم (2) ، وكان صلى الله عليه وسلم يكره التَّشبه
…
بهم (3) ؛
(1)«المعيار المعرب» (7/100) .
(2)
يشهد لهذا ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 413) بسنده إلى جابر، قال:«اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءَه، وهو قاعد، وأبو بكر يُسمِعُ الناسَ تكبيرَه، فالتفت إلينا، فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قُعوداً، فلما سلّم، قال: إنْ كدتم لتفعلون فِعْلَ فارس والرُّوم، يقومون على ملوكهم، وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمَّتكم، إن صلَّى قائماً، فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً، فصلوا قعوداً» .
وفي رواية عند ابن خزيمة (1615)، وابن حبان (2112) :«لا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائهم» . وانظر في توجيه الحديث على منع القيام في: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (27/93-95) ، «الآداب الشرعية» (1/432-433) .
(3)
قال ابن القيم في كتابه القيم «الفروسية» (ص 122 - بتحقيقي) : «جاءت الشريعة بالمنع في التّشبه بالكفار والحيوانات، والشياطين، والنساء، والأعراب، وكل ناقص» ، وفصَّل في ذلك، فانظر كلامه، فإنه مهم غاية.
وللعلماء مصنّفات كثيرة في حرمة التشبه بالمشركين، من أهمها على الإطلاق «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية، و «حسن التنبّه لما ورد في التشبّه» لمحمد بن محمد الغزي، وهو مستوعب ومهم، و «الإيضاح والتبيين» للشيخ حمود التو يجري، وهو مهم في الأمور العصرية الشائعة، و «التشبيه المنهي عنه في الفقه الإسلامي» لجميل اللويحق.
كحلق اللِّحا، وإعفاء الشَّوارب (1) ، وفي «الشفاء» (2)
(1) أخرج مسلم (رقم 259) بسنده إلى ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالِفُوا المشركين، أَحفُوا الشوارب، وأوفوا اللِّحَى» .
وأخرج -أيضاً- (رقم 260) بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جُزُّوا الشَّوارِبَ، وأرْخوا اللِّحَى، خالفوا المجوس» .
(2)
«الشّفاء» للقاضي عياض (1/130-131) .
(فائدة) : كتاب «الشفا» من أكثر الكتب اشتهاراً، ونسخهُ الخطية أكثرها انتشاراً، وهو كتاب مليح غاية، لولا ما شابه من أحاديث واهية، وقد نبّه العلماء على هذا الضعف في الكتاب، قال الذهبي في ترجمة القاضي عياض في «السير» (20/216) :
«قلت: تواليفُهُ نفيسةٌ، وأجلُّها وأشرفُها كتاب «الشِّفا» ، لولا ما قد حشاهُ بالأحاديث المفتعلة، عَمَل إمامٍ لا نَقْدَ له في فنِّ الحديث ولا ذوق، واللهُ يثيبه على حُسن قصده، وينفعُ بـ «شفائه» ، وقد فَعَلَ، وكذا فيه من التأويلات البعيدةِ ألوان، ونبيُّنا -صلوات الله عليه وسلامه- غنيٌّ بمدحةِ التنزيل عن الأحاديث، وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النَّظيفة الأسانيد عن الواهيات؛ فلماذا يا قوم نتشبَّعُ بالموضوعيات؟! فيتطرق إلينا مقال ذوي الغِلّ والحسد، ولكن مَن لا يعلم معذورٌ؛ فعليك يا أخي بكتاب «دلائل النّبوّة» للبيهقي، فإنه شفاءٌ لما في الصدور، وهدى ونور» .
…
قلت: ويظهر لك صحة ما قاله الذهبي عند النظر في تخريج السيوطي لهذا الكتاب، وهو «مناهل الصَّفا في تخريج أحاديث الشِّفا» ، وقد أورد «مؤلفه رحمه الله تحت تأثير عاطفته الجياشة بعض الأحاديث الضعيفة، ونقل بعض الأقوال الواهية في التفسير ليستدل بها» ، وقد بيَّنتُ شيئاً من ذلك في كتابي «من قصص الماضين» (ص 429) ، وقد قام الأستاذ أحمد جمال العمري بدراسة هذا الكتاب، ونبه على أشياء وقعت للقاضي فيه في كتابه المطبوع بعنوان «السيرة النبوية في مفهوم القاضي عياض» ، انظر منه -على سبيل المثال- (ص 535 وما بعد)، وانظر:«مصادر السنة النبوية وتقويمها» (104) ، «كتب حذر منها العلماء» (2/218-219) .
وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متوكِّئاً على عصا، فقُمنا له، فقال:«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظِّم بعضُهم بعضاً» (1) ا. هـ.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (5/235) ، وأحمد (5/253، 256) ، وأبو داود (5230) ، وابن ماجه (3836) ، والروياني في «مسنده» (2/312-313 رقم 1271) ، وتمام في «فوائده» (3/411 رقم 1186 - الروض البسام) ، والطبراني في «الكبير» (8/278-279 رقم 8072) ، و «الدعاء» (3/1473 رقم 1442 - مختصراً) ، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (ص 64) ، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (ص 377-378 رقم 851، 852) ، والسمعاني في «أدب الإملاء والاستملاء» (ص 34-35) ، وابن حبان في «المجروحين» (3/159-160) ، والطبري في «تهذيب الآثار» (1/282-283، 284 رقم 2594، 2596، 2597) ، والبيهقي في «المدخل» (ص 402 رقم 719) ، و «الشعب» (6/469 رقم 8937) ، والقاضي عياض في «الشفا» (1/130-131) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (1/166-167) ، وإسناده ضعيف، فيه اضطراب شديد، وفي طرقه بعض الرواة متكلم فيهم، وبعضهم مجهول، كأبي العَدَبَّس، وبه أعله العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/188) ، وضعّفه الطبري، وأقره ابن حجر في «الفتح» (11/50)، فلا تغترّ بتحسين المنذري في «الترغيب» (3/269-270) له. وانظر:«السلسلة الضعيفة» (346) ، «تحفة الأشراف» (4/183)، وانظر في توجيه الحديث على المسألة في:«المدخل» (1/192-194) ، ففيه كلام قوي نفيس.
ومعنى ما في «الترمذي» : كانوا يحبُّون القيام له ولا يقومون؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك (1)، ويلزم أصحاب هذا القول -على مقتضى نتيجتهم-: تكفير جميع الصّحابة، الذين في مقدمتهم أبو بكر الصِّدِّيق (2)
(1) أخرجه أحمد (3/132، 134، 151، 250-251) ، وابن أبي شيبة (5/235) ، والترمذي (2754) ، وفي «الشمائل» (رقم 337) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (رقم 946) ، والطحاوي في «المشكل» (3/155-156 رقم 1126) ، وأبو يعلى (6/417-418 رقم 3784) ، والطبري في «تهذيب الآثار» (1/283 رقم 2595) ، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» (1/361-362 رقم 125، 126) ، والبغوي في «شرح السنة» (12/294 رقم 3329) ، والبيهقي في «الشعب» (6/469 رقم 8936) ، و «المدخل» (ص 402 رقم 718) ، والخطيب في «الجامع» (1/279 رقم 307) من حديث أنس، وإسناده صحيح على شرط مسلم، قاله ابن القيم في «تهذيب السنن» (8/82) ، وصححه النووي في «الترخيص في الإكرام» (61) ، والعراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (7/26 - الإتحاف) .
وانظر في توجيه الحديث على حرمة الكراهة: «المدخل» (1/184) ، «جمع الوسائل» (ص 180) ، و «السلسلة الصحيحة» (1/698-699) .
(2)
خص أبا بكر رضي الله عنه، لما في «المدخل» لابن الحاج (1/187) :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يغشانا في كل يوم مرتين غدوةً وعشيةً، فجاء يوماً في وسط القائلة وأبو بكر قاعد على السرير، فقال: ما جاء به في هذا الوقت إلا أمر حدث، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي قاعد على السرير، فوُسَّع له في السرير حتى جلس معه عليه، ثم أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالهجرة، فقال: الصحبة يا رسول الله! قال: الصحبة» .
وأصل الخبر في «صحيح البخاري» (3495)، و «مصنف عبد الرزاق» (9743) دون الشاهد. وفي «تاريخ ابن جرير» (1/569-570 - ط. دار الكتب العلمية) :«فلما دخل صلى الله عليه وسلم تأخّر أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه قياماً» .
وهو كذلك مختصراً في «طبقات ابن سعد» (3/172-173) ، و «تاريخ ابن عساكر» (30/77-78 - ط. دار الفكر) ، وبنحوه في «سيرة ابن إسحاق» كما في «السيرة» لابن كثير (2/233) ، و «سيرة ابن هشام» (2/97-98 - ط. دار الخير) .
-رضي الله عنهم، لأنهم كانوا لا يقومون له، فيعدّون مستخفّين بحقِّه
…
صلى الله عليه وسلم، ولا مسلم يقول بذلك، بل إذا حقَّقنا النَّظرَ، واستعملنا الفكرَ، وأمعنا بعين البصيرة والبصر، وجدنا معارضة قياسهم بقياس نتيجته تنطبق عليهم تمام الانطباق، وصورته: القيامُ للنبي صلى الله عليه وسلم ليس تعظيماً له؛ لكونه يكرهه، وكلُّ ما ليس تعظيماً له، يعدُّ فاعله مستخفّاً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (1) ،
(1) المقدمة غير صحيحة، إذ يعتقد القائم أنه معظِّم، بناء على أعراف مارسها، وتواطأ الناس عليها، وإسقاط الاصطلاحات والعادات على النصوص من الأخطاء المنهجية عند المتأخرين، وقد كشف ابن تيمية ذلك في مسائل مهمة وكثيرة، حقها الإفراد، مع إلحاق ما طرأ بعده بها، والله الموفق.
ولذا من سمات الموفقين: مراعاة حال المخاطبين، وألفاظهم واصطلاحاتهم، ولذا وقعت -أخيراً- شنشنة حول هذا الأصل، يحتاج إلى تأصيل، وإن كانت ثمرته -في تطبيقات فقه جميع الأئمة الفقهاء- موجودة مشهورة، مع عدم العناية بالصحة، كسائر الأحاديث المرفوعة، فضلاً عن عدم جمع الآثار السلفية على وجه يسعف بالحكم عليها، إذ المشكلة قائمة فيها بالجمع، يسر الله المشاركة في ذلك على وجه ينفع صاحب هذه السطور يوم الدين.
وأخيراً، يبقى بعد هذا: قوله: «ما ليس تعظيماً له، يعد فاعله مستخفاً» ، ليس بصحيح، فتأمّل! والتعظيم ينبغي أن يكون شرعيّاً، لا عاطفيّاً، وقد نبّه على هذا: ذهبيُّ العصر المعلّمي اليماني في مسألة مصير أبويه صلى الله عليه وسلم.
فيكفر. النتيجة: القيام إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يعدُّ فاعلُه مستخفاً به؛ لكونه يكرهه صلى الله عليه وسلم. قال العلامة الصوفي (!!) الشيخ محمود محمد خطاب السبكي (1) في كتابه «المقامات العلية في النشأة الفخيمة النبوية» في (صفحة ثلاثة وأربعين) : «ولْيعلم أنَّ القيام عند ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، وقد قال السيِّد المختار: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار» (2) ؛ أي: فاعلها يعذَّب لأجلها في النار، وقد قال الله عز وجل في كتابه الحكيم:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، ولا وجه لمن قال بتحسينها، فإنه ليس من أهل التَّحسين، وعن النَّص الصَّريح قد سها، وتعليله بأنَّ فيه تعظيماً، وإظهار السرور بسيِّد النبيين، تعليلٌ مردود بالبداهة، وليس من المشرِّعين، بل من متأخِّري المقلِّدين، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ الأحكام لا تثبت إلا بالشَّرع الوارد عن رب العالمين، ولو تأمَّل ذلك المعلِّل لعرف أنَّ تعظيمَ النبي صلى الله عليه وسلم والسُّرور به، ورضا القوي المتين إنما هو بالقلوب، والأعمال الظاهرة المشروعة علامة على ذلك
…
»
(1) مضت ترجمته.
(2)
مضى تخريجه.
انظر تمام كلامه، وانظر -أيضاً- «صفاء المورد من عدم القيام عند سماع المولد» للعلامة سيدي محمد الحَجْوي الثَّعالبي (1)
(1) هو محمد بن الحسن الحَجْوي الثعالبي، من رجال العلم والحُكم، من المالكية السلفية في المغرب، له كتب مطبوعة، أجلّها «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» ، توفي سنة (1376هـ - 1956م) ، له ترجمة بقلمه في آخر «الفكر السامي» (4/199-210) ، «تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر وآثارهم الفقهية» (ص 137-215) ، «الأعلام» (6/96) ، «معلمة الفقه المالكي» (166) ، وكتاب «صفاء الموْرد» هو أول ما طُبع من تواليفه، سنة 1337هـ بفاس، وأول كتاب ظهر من نوعه بالمغرب على عهد النهضة الأخيرة، عن فكر استقلالي سلفي، مستند للكتاب والسنة، غير مكترثٍ بأقوال تعتمد على الخيال.
ولمحمد حسين إبراهيم «نقض كتاب الفكر السامي» ، منه نسخة بخط المؤلف في المكتبة المركزية بجدة [2964] في (15) ورقة.
مدرِّس التَّفسير والحديث بجامع القرويين بفاس، و «مسامرة الأعلام، وتنبيه العوام، بكراهة القيام لذكر مولد خير الأنام» لسيدي محمد العابد (1) مفتي فاس، وخطيب الحرم (2) الإدريسي، فإنَّهما سفَّها في كتابيهما، أحلام مدَّعي طلب القيام عند ذِكر مولد إمام كل إمام، عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام.
وأما استنادهم في القيام لبعضهم بعضاً إلى آثار، لم ترد في القيام، للتعظيم، وإنما ورد لمعان أخر غير التَّعظيم، بيَّنها العلماءُ الأعلام (3) ،
(1) هو محمد العابد بن أحمد بن الطالب ابن سُودَة المرِّي، مؤرخ، فقيه، من علماء فاس، له كتب مطبوعة، منها المذكور، ومنها:«إزالة اللبس والشبهات على ثبوت الشرف من قبل الأمهات» ، و «الرد على وديع كرم» ، توفي في شبابه سنة (1359هـ - 1940م) ، = =ترجمته في «دليل مؤرخ المغرب» (1/35، 71-72) لحفيده، «الأعلام» (6/180) ، «إتحاف المطالع» (1/350)، وفيه:«العالم المشارك، النجيب النابغة» .
(2)
إنما الحرم بمكة والمدينة خاصة، وفي وادي وج الذي بالطائف نزاع بين العلماء، ولا يسمى لا جامع الإدريسي ولا غيره حرماً، ومنه تعلم خطأ الخطباء الذين يقولون عن (بيت القدس) :(ثالث الحرمين الشريفين) . انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (434) ، «فتاوى ابن تيمية» (27/14-15) ، «معجم المناهي اللفظية» (130) .
(3)
للشيخ القاضي عز الدين عبد الرحيم بن محمد القاهري الحنفي (ت 851هـ) : «تذكرة الأنام في النهي عن القيام» ، فرغ منه سنة ثلاث عشرة وثمان مئة، كذا في «الضوء اللامع» (4/187) ، و «كشف الظنون» (1/385) .
وللحافظ أبي موسى الأصفهاني جزء صنّفه في إباحة القيام، ذكره النووي في جزء في الموضوع نفسه، اسمه:«الترخيص في الإكرام لذوي الفضل والمزيّة من أهل الإسلام، على جهة البر والتوقير والاحترام، لا على الرياء والإعظام» (ص 45) ، وهو مطبوع في بيروت بتحقيق الأستاذ كيلاني محمد خليفة، واختصره سليمان بن محمد الرقوقي بـ «إتحاف الأنام» ، منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، في (6 ورقات) برقم [23133 ب] ، كما في «فهارسها» (1/8) .
وقد اعتنى ابن الحاج في «مدخله» (1/158-197) بأدلة النووي، وعمل على الرد عليها فقرة فقرة، على وجه قوي، واعتنى بكلامهما علي محفوظ في «الإبداع» ، ولابن القيم في «الزاد» (3/304) كلام جيد على أنواع القيام. وانظر:«الرد على الكاتب المفتون» (ص 159، 165) ، «الرد القوي» (164، 209، 211، 212، 227) ، «المدخل» (1/256، 257) لابن الحاج، «شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور» (29) لمحمد بن عبد اللطيف. وقد جمع ما ورد في الباب على وجه فيه تقصٍّ واستيعاب: أخونا الشيخ تلميذ الأمس وصديق اليوم أبو طلحة عمر بن إبراهيم في رسالته «إحكام الكلام عن مسألةالقيام» ، يسر الله نشرها والنفع بها، إنه جواد كريم.
راجع «مدخل ابن الحاج» (1) وغيره، وأعظم أثر عندهم يستندون إليه، وتلهجُ -حتى العامة- بذكره هو: قوله صلى الله عليه وسلم في حق سيِّدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه حيث قدم راكباً، وكان مجروحاً في أكحله:«قوموا لسيِّدكم» (2) ،
(1)(1/158-197) ، وانظر الهامش السابق.
(2)
أخرجه البخاري (3043)، ومسلم (1768) في «صحيحيهما» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ:«إلى سيدكم» ، ولفظ:«لسيدكم» غير محفوظ، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- قريباً.
قال النووي رحمه الله في «الترخيص في الإكرام» (ص 35-36) : «هذا حديث صحيح متفق على صحته، أخرجه هؤلاء الأئمة الأعلام؛ أعني: البخاري ومسلم وأبا داود والنسائي، في كتبهم بالأسانيد التي ذكرتها، ورويناه بأسانيد كثيرة في غير هذه الكتب» ا. هـ.
وقال: «وقد احتج به العلماءُ من المحدثين والفقهاء وغيرهم على القيام بهذا الحديث، فممن احتج به: أبو داود في «سننه» ، فترجم له:«باب ما جاء في القيام» ، وممن احتج به: الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج، وأبو نصر بشر بن الحارث الحافي الزاهد، وأبو بكر بن أبي عاصم، والإمام أبو سليمان الخطابي، والإمامان الحافظان المجمع على تحرّيهما وإتقانهما أبو بكر البيهقي والخطيب البغدادي، وأبو أحمد البغوي، والحافظ أبو موسى الأصبهاني، وآخرون لا يُحصَونَ» ا. هـ.
قلتُ: احتجّ به عامَّةُ القائلين بإباحة القيام المذكور، بل ويذكرون عن الإمام مسلم رحمه الله صاحب «الصحيح» رحمه الله أنه قال:
«لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثاً أصح من هذا، وقال: وهذا القيام على وجه البِر لا على وجه التعظيم» .
رواه عنه البيهقي في «المدخل» (ص 398 رقم 708) ، والحافظُ الأصبهاني -كما في «الترخيص في الإكرام» (ص 36) -، والسمعاني في «أدب الإملاء» (ص 138) .
وبه احتج الخطيب في «الجامع لآداب الراوي» (1/280) ، وروى فيه عن أبي نصر بشر بن الحارث، أنه قال:«هذا القيام على طريق المودة، فأما على الطريق الكِبر فهومكروه» .
وبوّب عليه البيهقي في «الشعب» (6/466)، فقال:«باب في قيام المرء لصاحبه على وجه الإكرام والبر» ، وبنحوه في «الآداب» (ص 97) ، و «المدخل» (ص 397) .
وبهذا يقول الطحاوي رحمه الله في «المشكل» (3/155-156) ، والسمعاني في «أدب الإملاء» (ص 137) ، والطبري في «تهذيب الآثار» (1/284 -عمر بن الخطاب-) ، والخطابي في «المعالم» (4/144) ، وابن عبد البر في «المجالس» (1/387) ، والبغوي في «شرح السنة» (11/92-93) و (12/295) ، وعياض في «إكمال المعلم» (6/105) ، وابن قدامة في «مختصر منهاج القاصدين» (ص 294) ، والغزّالي في «الإحياء» (7/228 - إتحاف) ، والحافظ في «الفتح» (12/319) و (8/467) ، وابن بطال في «شرح البخاري» (9/47) ، وجماعة كبيرة من أهل العلم والمعرفة، كذا في «إحكام الكلام» (54) .
ولا حجَّةَ لهم في ذلك؛ لاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم: «قوموا لسيدكم، فأنزلوه» أو قوموا له تعظيماً، بقطع النَّظر عن نهيه عن القيام للتَّعظيم، والدَّليل -عند العلماء- إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال (1) ،
(1) تصاغ هذه على أنها قاعدة فقهيّة، ويتوسع فيها الحنفية خاصة، ويذكرونها بألفاظ، منها:«التعارض متى وقع بين الدليلين، يوجب التساقط» . انظر: «القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير» (178) ، والأحسن منها تخصيص التعارض بالبيّنات، ولذا قالوا:«إذا تعارضت البيّنتان تساقطتا» . انظر: «الاعتناء في الفرق والاستثناء» (2/1076) ، «موسوعة القواعد الفقهية» (1/282)، ومن القواعد الفرعية عن قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) :(لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن الدليل)، وهذا صحيح استصحاباً للأصل. انظر:«قواعد الخادمي» (329) ، «مجلة الأحكام العدلية» (مادة 73) ، «شرح المجلة» للأتاسي (1/204-209) ، «شرح علي حيدر» (1/65) ، «المدخل الفقهي» (رقم 583) ، «القواعد الكلية والضوابط الفقهية» (157) لشبير.
وإلا فالتعارض الحقيقي في نصوص الشريعة غير موجود، قال ابن القيم في «الزاد» (3/150) :«وأما حديثان متناقضان من كل وجه، ليس أحدهما ناسخاً للآخر، فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق، الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة في التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم، وحمل كلامه على غير ما عناه به» . وانظر في تقرير هذا
…
«إعلام الموقعين» (2/221) .
وقرر الشافعي بكلام رزين، أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان متضادان، ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير، إلا على وجه النسخ. انظر «الرسالة» (213-217) .
فمحل مثل هذه القاعدة: التضاد بين المتعارضين مما لا يمكن الجمع بينهما، ومن بديع كلام صاحب «المستصفى» (2/139-140) في مثله:«ويقدر تدافع النصين» ، وإلا فالقرائن وإعمال الأصل. انظر تفريقاً بديعاً في «قواعد الأحكام» (2/47 وما بعد) .
وانظر للقاعدة -أيضاً-: «الأشباه والنظائر» (1/38) للسبكي، و (79) للسيوطي، «شرح تنقيح الفصول» (453) ، «أحكام أهل الذمة» (1/252) ، «القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين» (301-302) .
وأيضاً تنقطع حُجَّتهم بالمرة بالحديث الحسن المصرَّح فيه بالإنزال، هو: ما في «فتح الباري» (1) أن ما رواه أحمد من حديث عائشة: «قوموا إلى سيِّدكم، فأنزلوه» (2) بسند حسن. قالوا: وعليه لم يبق وجهٌ على الاحتجاج به على القيام المتعارف (3)
(1)(7/412 و11/51) .
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (14/408-411) ، وأحمد (6/41، 142) ، وابن سعد (3/421-423) ، وابن حبان (6989 - الإحسان) من حديث عائشة، وهو مطول جداً، وفيه قصة، وإسناده حسن. وحسنه ابن حجر في «الفتح» (12/319-320)، وقال الهيثمي في «المجمع» (6/128) :«رواه أحمد، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات» .
(3)
الاحتجاج بحديث «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» لا يصح على جواز القيام للقادم، وهذا التفصيل:
قال شيخنا العلامة الألباني رحمه الله في «السلسلة الصحيحة» (1/746 رقم 67) : «اشتهر رواية هذا الحديث بلفظ: «لسيدكم» ، والرواية في الحديثين كما رأيت:«إلى سيدكم» ، ولا أعلم للفظ الأول أصلاً، وقد نتج منه خطأ فقهي، وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره.
قال الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل في «التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها تصحيف وخطأ في تفسير معانيها، وتحريف في الكتاب الغريبين عن أبي عبيد= =الهروي» (ق17/2) : «ومن ذلك ما ذكره في هذا الباب من ذكر السيد، وقال كقوله لسعد، حين قال: «قوموا لسيدكم» ؛ أراد: أفضلكم رجلاً.
قلت: والمعروف أنه قال: «قوموا إلى سيدكم» ، قاله صلى الله عليه وسلم لجماعة من الأنصار، لما جاء سعد بن معاذ محمولاً على الحمار، المتقدم عليهم، وإن كان غيره أفضل منه» .
ثم قال رحمه الله: «وقد اشتهر الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية القيام للداخل، وأنت إذا تأملت في سياق القصة؛ يتبين لك أنه استدلال ساقط من وجوه كثيرة: أقواها قوله صلى الله عليه وسلم: «فأنزلوه» ؛ فهو نص قاطع على أن الأمر بالقيام إلى سعد إنما كان لإنزاله من أجل كونه مريضاً، ولذلك قال الحافظ: «وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب القيام
…
» ا. هـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في «الفتاوى» (1/374) : «فهذا قيام للقادم من مغيبه تلقياً له» .
أي: أنه ليس في موطن النزاع من قيام الشخص للداخل على صورة القيام لشخصه، وقال ابن الحاج في «المدخل» (1/166-170) : «الحديث لا ينازع في صحته، وهو بين في القيام كما ذكر.
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خص في الحديث الأمر بالقيام للأنصار، والأصل في أفعال القرب العموم، ولا يعرف في الشرع قربة تخص بعض الناس دون البعض؛ إلا أن تكون قرينة تخص بعضهم فتعم، كما هو معلوم مشهور.
فلو كان أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالقيام من طريق البر والإكرام لكان عليه الصلاة والسلام أول من يبادر إليه ما ندب إليه، وهو المخاطب خصوصاً بخفض الجناح وأمته عموماً، فلما لم يقم عليه الصلاة والسلام، ولا أمر بذلك المهاجرين، ولا فعلوه بعد أمره عليه الصلاة والسلام للأنصار بذلك، دل على أنه ليس المراد به القيام للبر والإكرام، إذ لو كان ذلك كذلك، لاشترك الجميع في الأمر به وفي فعله، وإذا كان ذلك كذلك، فيحمل أمره عليه الصلاة والسلام بالقيام على غير ذلك من الضرورات المحوجات لذلك، وذلك بيِّنٌ في قصة الحديث وبساطه، وذلك أن بني قريظة كانوا نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان سعد بن معاذ إذ ذاك خلفه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في المسجد مثقلاً بالجراح، لم يملك نفسه أن يخرج، وترك له النبي صلى الله عليه وسلم عجوزاً تخدمه، فلما= =أن نزلت بنو قريظة على حكمه، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خلفه، فأتي به على دابة وهم يمسكونه يميناً وشمالاً لئلا يقع عن دابته، فلما أن أقبل عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار إذ ذاك:«قوموا إلى خيركم أو إلى سيدكم» ؛ أي: «قوموا فأنزلوه عن الدابة» ، وقد ورد معنى ما ذكر في رواية أخرى، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقيام إليه لينزلوه على دابة لمرض به. انتهى.
لأن عادة العرب جرت أن القبيلة تخدم سيدها، فخصهم النبي صلى الله عليه وسلم بتنزيله وخدمته على عادتهم المستمرة بذلك، فإن قال قائل: لو كان المراد به ما ذكرتم، وهو الإنزال عن الدابة، لأمر عليه الصلاة والسلام بذلك من يقوم بتلك الوظيفة وهم ناس من ناس، فلما أن عمهم، دل على المراد به الجميع، إذ أن ببعضهم تزول الضرورة الداعية إلى تنزيله، فالجواب: أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك على عادته الكريمة، وشمائله اللطيفة المستقيمة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لو خص أحداً منهم بالقول والأمر، لكان في ذلك إظهاراً لخصوصيته على غيره من قبيلته، فيحصل بسبب ذلك لمن لم يأمره انكسار خاطره، في كونه لم يأمر بذلك، وكانت إشارته عليه الصلاة والسلام أو نظره أو أمره عندهم من أكبر الخصوصية، فأمره عليه الصلاة والسلام لهم بذلك عموماً تحفظاً منه عليه الصلاة والسلام أن ينكسر خاطر أحد منهم، أو يتغير، فكان ذلك في حقهم مثل فرض الكفاية، من قام به أجزأ عن الباقين، فهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه الحديث للقرائن التي قارنته وهي هذه، وما تقدم من أن أفعال القرب تعم ولا تخص قبيلة دون أخرى، وقد اختلفت الرواية في أمره -عليه الصلاة السلام- بذلك، هل كان للأنصار خصوصاً -وهو المشهور-، أو للمهاجرين والأنصار؟ وما وقع من الجواب يعم القبيلتين وغيرهما.
الوجه الثاني: أنه غائب قدم، والقيام للغائب مشروع.
الوجه الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بالقيام لتهنئته بما خصه الله به من هذه التولية والكرامة بها دون غيره، والقيام للتهنئة مشروع» ا. هـ.
ثم قال رحمه الله:
«إن كل أمر ندبك الشرع أن تمشي إليه، لأمر حدث عنده مما تقدم ذكره، أو ما أشبه ذلك، فلم تفعل حتى قدم عليك المتصف بذلك، فالقيام إليه إذ ذاك عِوَضٌ عن الشيء الذي فات، والله الموفق للصواب، فقد حصل على القيام لسعد رضي الله عنه من القسم المندوب لتهنئته بما أولاه الله -تعالى- من نعمته بتلك التولية المباركة.
وأما قوله -أي: النووي-: «وقد احتج بهذا الحديث العلماء والفقهاء» ، فقد ذكر= = رحمه الله من احتج به، وهو أبو داود ومسلم، وهذا ليس فيه حجة؛ لأنّ المحدثين دأبهم أبداً في الحديث هذا، وهو أنهم ينظرون إلى فقه الحديث، فيبوبون عليه، ويذكرون فوائد في تراجمهم، جملة من غير تفصيل، كما قالوا في البخاري رحمه الله:«جل فقهه في تراجمه» ، وكذلك غيره من المحدثين، ولا يتعرضون في غالب أمرهم إلى التفصيل بالجواز أو المنع أو الكراهة أو غير ذلك، إنما شأنهم سياق الحديث على ما هو عليه، والفقهاء يتعرضون لذلك كلِّه، ألا ترى أن أبا داود رضي الله عنه قد بوب على غير هذا الحديث، وهو الحديث الذي وقع النهي فيه عن القيام، فقال:«باب كراهة القيام للناس» ، بل يؤخذ من ترجمته وتبويبه على الحديثين، أن فقهه اقتضى منع القيام؛ لأنه لما أن ذكر الحديث الذي يستدل به على القيام، لم يقل:«باب ما جاء في فضل القيام» ، ولا:«استحباب القيام» ، ولا:«جواز القيام» ، بل قال:«باب ما جاء في القيام» ، ولم يزد، ولما أن ذكر الحديث الآخر، قال:«باب كراهة القيام للناس» ، فيلوح من فحوى خطابه أنه يقول بالكراهة، ولا يقول بالجواز، وهذا كله بيِّنٌ واضح، والله أعلم.
وإذا لم نقل بفحوى الخطاب، ولم نأخذ منه الحكم، فلا سبيل إلى أن نحكم بأنه أخذ بأحد الحديثين وترك الآخر إلا بقرينة، والقرينة قد دلت على ما ذكر، والله الموفق» . ا. هـ.
وقال صديق بن حسن رحمه الله في «الدين الخالص» (4/447-449) :
ومما يؤيده تخصيص الأنصار، والتنصيص على السيادة المضافة، وقد تقدم أن أصحابه صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقومون تعظيماً له، مع أنه سيد الخلق؛ لما يعلمون من كراهته لذلك
…
قال العلامة الشوكاني في «الفتح الرباني» :
ليعلم أولاً، أن محل النزاع القيام المقيد بالتعظيم لا المطلق، وقد دل على تحريم الأول حديث أبي أمامة المذكور.
ولا يخفى عليك أن مناط النهي -ها هنا- هو التعظيم المصرح به، وقد شهد لهذا: حديث مسلم، ولهذا أورده المنذري في هذا البحث
…
ويشهد له -أيضاً-: حديث التمثل، فإنه محمول على التعظيم، حمل المطلق على المقيد. =
=
…
ثم اختار رحمه الله عدم جواز القيام الخالي عن التعظيم، سواء كان الباعث عليه المحبة أو الإكرام أو الوفاء بحق القاصد، كالقيام للمصافحة أو غير ذلك، على أنه قيل في حديث سعد أن أمره أصحابه بالقيام كان لإعانته على النزول عن ظهر مركوبه، لضعفه عن النزول بسبب جراحه» ا. هـ.
وانظر كلام علي القاري الآتي، والله الهادي.
ا. هـ.
ومدَّعي أنَّ القيامَ للتَّعظيم مطلوبٌ شرعاً، خصوصاً للعلماء والوالدين، ومَن تُرجَى بركته محجوج بالحديث الصحيح، الذي رواه منلا علي القاري (1)، ونصُّه:
(1) في «المرقاة» (4/583) .
وقوله: «رواه
…
» يذكره المخرجون في حق من أورد حديثاً مسنداً، أما الأحاديث التي تذكر غير مسندة ولا معزوة، فيقال فيها: ذكره، ومنه تعلم خطأ من يقول: أخرجه البخاري تعليقاً، فهذا توسع غير مرضٍ، وفي «أخرجه» و «تعليقاً» تعارض لا يخفى، فتأمل!
(تنبيه) : لعلي القاري في «جمع الوسائل في شرح الشمائل» (2/169 - ط. دار الفكر) كلمة حسنة في توجيه حديث: «قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه» على منع القيام، قال:«الظاهر من إيراد أنس رضي الله عنه للحديث، إرادة أنّ القيام المتعارف غير معروف في أصل السنة وفعل الصحابة، وإن استحسنه بعض المتأخرين، وليس معناه أنهم كانوا يقومون لبعضهم البعض، ولا يقومون له صلى الله عليه وسلم كما يتوهم، فإنه عليه السلام قال: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم بعضهم لبعض» .
وأغرب ابن حجر في قوله: «ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» ؛ أي: سعد بن معاذ سيد الأوس، لما جاء على حمار لإصابة أكحله بسهم في وقعة الخندق، كان فيه موته بعدُ، لأنّ هذا حق للغير، فأعطاه صلى الله عليه وسلم له، وأمرهم بفعله بخلاف قيامهم له صلى الله عليه وسلم، فإنه حق لنفسه، وتركه تواضعاً» . انتهى كلامه [في «فتح الباري» (12/320) ] .
ووجه غرابته: أن الحديث بعينه يرد عليه؛ لأنه يدل على أنَّ القيام لم يكن متعارفاً بينهم، وعلى التنزُّل؛ فلو أراد قيام التعظيم لما خص قومه به، بل كان يعمُّهم وغيرهم.
فالصواب: أن المراد بالقيام الذي أمرهم به، هو: إعانته حتى ينزل عن حماره لكونه مجروحاً مريضاً» . وقارنه بـ «المدخل» (1/167-168) لابن الحاج.
كان ينهاهم عن قيام بعضهم لبعض بقوله: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً» (1) ، وبتصريح الأئمة المجتهدين، وسأذكر بعضهم. ولا عبرة باستحسان المتأخِّر إذا خالف صريحَ الحديث الذي عمل بمقتضاه الأئمة المجتهدون، الذين هم عمدتُنا في الدِّين، قال مالك -رحمه الله تعالى- في «العتبية» (2) :«وبعض هؤلاء الولاة يكون الناسُ جلوساً ينتظرونه، فإذا طلع عليهم قاموا له، حتى يجلس، فلا خيرَ في هذا، ولا أحبُّه، وليس هذا من أمر الإسلام» ا. هـ.
(1) مضى تخريجه.
(2)
للعلماء كلام كثير عن «العتبية» وعيوبها، ولم يأخذوا بكثير من مسائلها، وقد أتيتُ على ذلك في (الجزء السابع) من كتابي «قصص لا تثبت» ، وفاتني هناك نص مهم، ظفرتُ به في «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» (1/496) عن ابن بزيزة، قال في «شرح الإحكام» :«وقعت في «العتبية» رواية منكرة مستهجنة،
…
وهذه رواية لا يحل سماعها، فكيف العمل عليها، وقد كان الواجب أن تطرح «العتبية» كلها لأجل هذه الرواية وأمثالها، مما حوته من شواذ الأقوال، التي لم تكن في غيرها، ولذلك أعرض عنها المحققون من علماء المذهب، حتى قال أبو بكر بن العربي -حيث حكى أن من العلماء من كره كتب الفقه- فإن كان؛ ففي «العتبية» » .
وبيَّنتُ هناك أن شرح ابن رشد «البيان والتحصيل» عليها، أزال كثيراً من سوالبها وعيوبها، وكذلك في تعليقي على «بوطليحة» ، يسر الله إتمامه بخير وعافية.
والنقل المذكور فيها (4/359 - مع «البيان والتحصيل» ) . وانظر: «المدخل» (1/187) لابن الحاج، ففيه نحوه.
في «أحكام القرآن» للجصاص في (الجزء الثالث /صفحة خمس وتسعين) : وحدثنا مكرم بن أحمد بن مكرم، قال: حدثنا أحمد بن عطية الكوفي، قال: سمعت أبا عبيد يقول: كُنَّا مع محمد بن الحسن، إذ أقبل الرَّشيدُ، فقام الناسُ كلُّهم إلا محمد بن الحسن، فإنه لم يقم، وكان الحسن بن زياد معتلَّ القلب على محمد بن الحسن، فقام ودخل الناس من أصحاب الخليفة، فأمهل الرّشيد يسيراً، ثم خرج الإذن، فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابُه له، فأدخل، فأمهل، ثم خرج طيب النفس مسروراً، قال: قال لي: ما لك لم تقم مع الناس؟ قال: كرهتُ أن أخرج عن الطَّبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهتُ أن أخرج إلى طبقة الخدمة، التي أنا خارج منها، وإنَّ ابنَ عمِّك صلى الله عليه وسلم قال:«من أحبَّ أن يتمثَّل له الرجالُ قياماً؛ فليتبوَّأْ مقعده من النار» (1) ،
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (5/235) ، وأحمد (4/91، 93، 100) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (977) ، والترمذي (2755) ، وأبو داود (5229) ، والطبري في «تهذيب الآثار» (1/285 رقم 2599، 2600، 2601، 2602، 2603) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1482 - ط. بيروت أو 1503 - ط
…
الفلاح) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (رقم 413) ، والدولابي في «الكنى» (1/95) ، والطحاوي في «المشكل» (رقم 1125، 1127) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (13/4785 رقم 1834) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (19 رقم 819، 820، 821، 822) ، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (رقم 847، 848، 849، 850) ، والباغندي في «مسند عمر بن عبد العزيز» (رقم 13) ، والسمعاني في «أدب الإملاء والاستملاء» (ص 35) ، والبغوي في «شرح السنة» (12/295 رقم 3330) ، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/219) ، والبيهقي في «المدخل» (رقم 721، 722) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (2/170-171 و13/195) ، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (5/101) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (31/217) ، والنووي في «الترخيص في الإكرام» (ص 61-63) من حديث معاوية، وإسناده صحيح.
قال الترمذي: «حديث حسن» .
وصححه المنذري في «الترغيب» (3/2717 - المعارف) ، و «مختصر سنن أبي داود» (8/86، 93) ، وابن القيم في «تهذيب السنن» (8/84) ، والنووي في «الترخيص» (61-62) .
وحسنه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (7/226 - إتحاف) ، وابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1/433-434) .
واستدل به جمع من العلماء على منع القيام، ووقعت لأحمد بن المعَذَّل المالكي قصة مع المتوكل، وفيها عدم قيامه له لهذا الحديث. انظرها مع تخريجها في «المجالسة» (2/212-213 رقم 342 - بتحقيقي) .
وإنه إنما أراد بذلك العلماء، فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو، ومن قعد اتِّباعاً للسُّنَّة التي عنكم أخذت، فهو زين لكم، قال: صدقتَ يا محمد. ا. هـ محل الحاجة.
[و] في «تحفة المجالس ونزهة المجالس» (1) للعلامة جلال الدين السيوطي -رحمه الله تعالى-: «روي أنَّ المنصور أقبل يوماً، والفرج بن فضالة جالس على بابه، ومعه جماعة، فقام النَّاسُ، وهو لم يقُم، فرآه المنصورُ، فاشتدَّ غضبُه، ودعا به، فقال: ما منعك عن القيام مع الناس؟ قال: خفتُ أن يسألني الله -تعالى-: لم فعلتَ؟ ويسألك: لم رضيت؟ وقد كرهه صلى الله عليه وسلم، فسكن غضب المنصور وانشرح» (2) ، وإذا ظهرت المحجّةُ؛ فلا حجة لمن لم يسلكها، إلا الجهل أو المكابرة -نقانا الله تعالى منها، كما يُنقِّي الثَّوبَ الأبيض من الدَّنس-، والمجال ضيِّق، وإذا سنحت الفرصة في وقت غير هذا لأشرحنَّ حال المنتصرين للبدع، التَّاركين للسُّنن، لأغراضٍ سيئة، وإلا؛ فالنهج واضحٌ، فالحق الذي لا غبار عليه؛ هو: ما سلكه العلاّمة كامل القصاب ورفقاؤه، والباطلُ: ما سلكه معارضُهم، والحقُّ أحقّ أن يتبع {وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلال} [يونس: 32] .
والحمد لله على كل حال، وصلى الله -تعالى- على سيدنا محمد، صادق المقال، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان والآل.
حرر في 13 ربيع الأول سنة 1344
[كتبه أسير ذنبه عبد ربه الكافي
محمد بن يوسف بن محمد المعروف بالكافي (3) ]
11
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله -سبحانه-، وبعد:
(1)(ص 88) .
(2)
نحو القصة في «نشوار المحاضرة» (7/62) ، «تاريخ بغداد» (12/389-390) ، «الشفا في مواعظ الملوك والخلفاء» (82) لابن الجوزي، «تهذيب الكمال» (15/45) .
ووقعت نحوها لعلي بن الجعد مع المأمون. انظرها في «تاريخ بغداد» (2/170-171) ، «تهذيب الكمال» (13/216-217) .
(3)
سبقت ترجمته (ص 206) ، وما بين المعقوفتين من إضافاتي.
فقد أجلتُ النَّظرَ فيما أورده الأستاذان الفاضلان، مؤلِّفا هذه الرسالة، من الأدلة القاطعة، والبراهين السَّاطعة، على صحَّة فتوى أحدهما بكراهية ما يجري في الجنائز، من الصياح في التهليل، والتكبير، وغيره، فرأيتُ أنني في غُنية عن تعليق كلمات ترجِّح الفتوى المذكورة على غيرها؛ لما أتيا به من الأدلة الكافية الشافية، فأجادوا وأفادوا، أسأل الله -سبحانه- أن يديم عليهما إحسانه، ويوفِّقنا جميعاً والمسلمين لما يحبُّه ويرضاه، بجاه (1) سيِّدنا محمد حبيبه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير:
محمد توفيق الغزي العامري (2)
المفتي الشافعي بدمشق -عفي عنه-
12
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ملهم الصَّواب، الهادي إلى طريق الرَّشاد، صلى الله وسلم على رسوله حبيبه وصفيه، سيِّدِنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعترته.
أما بعد: فإن نصوصَ مذهبنا -نحن معاشر الحنفية- صريحةُ الدّلالة بكراهة اللغط أمام الجنازة للأدلّة الصَّريحة الصَّحيحة في ذلك، فما سطّره الأستاذان الفاضلان، والمدقِّقان الكاملان، والعالمان العاملان، مؤلِّفا هذه الرِّسالة «النقد والبيان» هو الذي يعوَّل عليه في الفهم، ويركن إليه في النَّقل، فجزاهما الله خيرَ الجزاء، وأكثر من أمثالهما النجباء، إنه سميع قريب مجيب الدُّعاء، آمين.
في 18 ربيع الأول 1344
كتبه الفقير
(1) هذا التوسل بدعي، وغير مشروع.
(2)
هو محمد توفيق بن عبد الرحمن بن أبي السعود، ولد بدمشق، وأخذ على علماء زمانه، ثم درس بالأزهر، تولى القضاء في بلدان متعددة، وخاصة في بلدة المعلقة بالبقاع، تولى فتوى الشافعية بعد الشيخ صالح الغزي، ومن مؤلفاته:«فتوى في تكفير القاديانية» وهو مطبوع، توفي بدمشق 16 شوال 1363هـ - 1943م، ودفن بمقبرة الدحداح بالروضة. انظر «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (3/180) .
عبد الكريم الحمزاوي الحسيني (1)
خطيب جامع الشيخ محي الدين بن العربي
الملقب بالشيخ الأكبر -طاب ثراه-
13
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النّبِيّ الأَوّاه، وعلى آله وأصحابِه ومَنْ نصر شرعَه ووالاه، وبعد:
فَمِمَّا لا شكَّ فيه، أنَّ السُّكوتَ وراء الجنازة، والتّفكُّرَ في الموت وفيما بعد الموت؛ هو السُّنَّةُ التي عرفها الصَّحابة (2) رضي الله عنهم، وجرى عليها عملُ السلف الصالح (3) ، لا نعلم خلافاً لأحد في ذلك، وغاية ما عرف للفقهاء رضي الله عنهم في هذه المسألة طريقتان: طريقة القائلين بأنَّ الجهرَ بالذكر ونحوه وراء الجنازة مكروهة كراهة التحريم، وطريقة القائلين بأنه مكروه كراهة التنزيه.
والظاهر أنَّ ما نقله العارف الشعراني في «عهود المشايخ» ، وما نقله
…
-أيضاً- في «العهود المحمدية» عن شيخه العارف الكبير سيدي علي الخوّاص مبني على الطريقة الثانية للفقهاء (4) ، وهو الذي مال إليه في «شرح الرموز» و «شرح الملتقى» ، وهو ظاهر كلام أكثر أرباب المذاهب، ولعل عذرهم في ذلك: عدم ورود نهي صحيح صريح في المسألة، مع ملاحظة العارف الشعراني فيما نقله قاعدة:(ارتكاب أخف الضّررين) .
(1) هو عبد الكريم بن سليم بن نسيب بن حسن بن يحيى بن حسن بن عبد الكريم ابن محمد بن كمال الدين بن محمد، فقيه، زاهد، انظر ترجمة ابنه في «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (3/378) .
(2)
انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 17) .
(3)
انظر ما قدمناه في التعليق على (ص 17) .
(4)
انظر ما تقدم (ص 91-92) .
وتوضيح مختار هذا العارف: أنَّ مُشَيِّعِي الجنازة إذا خالفوا سُنَّةَ الصَّمت والتَّفَكُّر، واشتغلوا باللَّهو، وتشاغلوا باللغو والغيبة ونحوها، بحيث أصبحوا وراء الجنازة كالسّمَّار في السّمر، ولم يفدهم الأمر بالسكوت؛ أمروا حينئذ بقول:«لا إله إلا الله محمد رسول الله» ؛ تباعداً مِمَّا وقعوا به، وتخلُّصاً مِمَّا هم فيه.
لكن؛ لا يخفى أنَّ الورعَ احترامُ رأي الجماهير مِنَ الفقهاء والمُحَدِّثين، وعدُم الوقوع في خلافهم؛ وذلك بإحياء سُنَّةِ السُّكوت الدَّاعيةِ إلى التَّأدُّبِ بأدب الشرع، والتَّفَرُّغِ للخُشوع، والتَّفَكُّرِ بما سَيَؤُول إليه المرءُ -وليس لنا عند ذلك عاذل ولا مخالف؛ إذ ليس ثَمَّ مَنْ يلوم الساكتَ المتفكِّرَ وراء الجنازة على سكوته، فضلاً عن أنْ يأثمه فيه-، مع ما ينضمُّ إلى إحياء سُنَّةِ السُّكوتِ؛ مِنَ القضاء على طريقة الجهر المُحدَثَة التي لا تعرف في العصر الأول، وليت شعري إذا احتج للجهر بقول:«لا إله إلا الله محمد رسول الله» بما اختاره العارف الشعراني ارتكاباً لأخف الضَّررين، لا لأنَّه سُنَّةٌ أو شرع، ولا بقصد إماتة سنة السكوت والصَّمت، فبماذا يحتج لما هو مُحْدَث اليوم في مثل دمشق، مِن رفع الأصوات وراء الجنازة بقصائد وألحان، يضيع في فهمها حذقُ الحاذق، ويَخِيب في إدراكها الرَّأيُ الصائب، دع القول بأنَّها جعلت في أيامنا عنواناً على الغنى، ودليلاً على الرفعة والشرف، فكم رأينا مِنْ أُناس ارتفعت الأصواتُ في جنائزهم، وعلت الضَّوضاءُ والنَّغماتُ حول نَعشِهم، وليس لهم مِن صفة توجب هذه المنزلة -إنْ قلنا بأنَّها رِفعة- سوى أنهم جمعوا المال من حلّه ومن غير حلّه، فاستحقُّوا بذلك التقدم على الناس أحياءً وأمواتاً، وآخرين هم (1) أهل الصلاح والتقدم والدِّين والرفعة والشَّرَف قَلَّتْ ذاتُ أيديهم، فصمتت الأصواتُ حول جنائزهم، ولم تجتمع تلك النَّغمات حول نعشهم، بل تباعد عنها أولئك المدَّاحون المستأجرون، فكانوا ومشيعيهم عنوان الفقر، وأمارة القلَّة والاحتياج، اللهم لا حُجَّة لتحسين هذا العمل، ولا مسوِّغ في الشَّرع فيما نعلم لتصحيح أخذ الأجرة عليه، بل واجب كل ذي مسكة من علم إنكار مثل هذه البدع، وبيان أنها ليستْ طريقة السَّلف، وأنَّ الخير كله في اقتفاء أثر مَن سلف.
(1) في الأصل: «هم هم» ، مكررة!
وهنا لا غنى لي عن أن أطلب من الله سبحانه وتعالى عظيمَ الأجر والثَّواب، للعالمين الفاضلين، مؤلِّفَي هذه الرسالة - «النقد والبيان» - الأستاذ العلامة المفضال الشيخ محمد الكامل القصَّاب، والعلاّمة الشّيخ محمد عز الدين القسّام، وسائر من أجروا أقلامهم في تحقيق هذه المسألة الشرعية، وخدموا فيها الدين -كلٌّ على حسب اجتهاده-، راجياً من الجميع تصغيرَ دائرةِ الخلاف -إن لم يمكن القضاءُ عليها- عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:«من ترك المراء محقّاً، بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة، ومن ترك المراء مبطلاً، بنى الله له بيتاً في ربض الجنة» (1) ، ومراعاة لما يتطلّبه الوقت الحاضر، وأن ينظر كلٌّ إلى مناظره بعين ملؤها الاحترام، فإنا في زمان هم أدرى بما انتاب الجماعة الإسلامية فيه، وأعلم بما طرأ على العلم وحامليه.
دمشق: 1 ربيع الآخر سنة 1344
مدير مدرسة التهذيب الإسلامي
(1) أخرجه الترمذي (1993) ، وابن ماجه (51) ، وابن عدي في «الكامل»
…
(3/1181) ، وابن حبان في «المجروحين» (1/337) ، وأبو بكر الشافعي في «الغيلانيات» (1088) ، والبزار في «مسنده» (2/408 رقم 1976 - زوائده) من طريقين عن أنس، في أحدهما سلمة بن وردان، ضعيف، وحديثه عن أنس منكر، وفي الآخر عبد الواحد بن سليمان، وثقه ابن حبان، وضعّفة جماعة، كما في «المجمع» (8/23) .
والحديث حسن لشواهده، ففي الباب عن أبي أمامة، أخرجه أبو داود (4800) ، والروياني في «مسنده» (1200) ، والدولابي في «الكنى» (2/133) ، والطبراني في «الكبير» (8/219) ، والبيهقي (10/249) ، وعزاه في «الفتح الكبير» (1/272) إلى الضياء في «المختارة» ، وفي الباب عن ابن عباس ومعاذ بن جبل.
انظر «السلسلة الصحيحة» (رقم 273) .
محمود ياسين (1)
14
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) هو محمود بن أحمد بن ياسين، ولد بدمشق سنة 1304هـ، وحفظ القرآن الكريم، أخذ عن مشايخ أجلاء، فقرأ العقائد والتوحيد على الشيخ صالح الشريف التونسي، ودرس الفقه على عدة مشايخ، آخرهم الشيخ أحمد الجوبري، ودرس السنة على المحدث الشيخ بدر الدين الحسني، والعلامة محمد بن جعفر الكتاني، أفنى عمره بالعلم والعمل، فحرص على الوقت لا يضيعه، درس في مساجد دمشق ومدارسها الثانوية، وساهم في تأسيس جمعية النهضة الأدبية، وجمعية العلماء، ورابطة العلماء، وجمعية الهداية الإسلامية التي تولى رئاستها مدة عشرين عاماً تقريباً، أسس مدرسة التهذيب الإسلامي من ماله الخاص، اهتم بالتحقيق، فنشط للعمل في دراسة المخطوطات بالمكتبة الظاهرية، فأخرج ما يقرب من ثلاثين كتاباً في التراث الإسلامي، له «رحلة إلى المدينة المنورة» مطبوعة عن دار الفكر - دمشق، توفي فجأة في 4 ذي الحجة 1367هـ.
انظر ترجمته في: «منتخبات التواريخ لدمشق» (913) ، «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر» (2/615) ، «ذكريات علي الطنطاوي» (1/146 و2/271 و3/280 و5/319 و6/21 و7/66، 90) ، «الرحلة إلى المدينة المنورة» (15-19) .
الحمد لله الذي هدانا بالإسلام، وجعله لنا نوراً، نمشي به في غياهب الظَّلام، فعلَّمنا أنَّ للخالق القادر الحُجَّةَ البالغة، والمحجَّةَ الدَّامغة، والصَّلاةُ والسَّلام على سيِّدنا محمد، المنزَّل عليه، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] ، فهو -صلى الله -تعالى- عليه وسلم- الحجَّة الكبرى على العالم، أوضح عليه الصلاة والسلام لنا سُبلَ الهُدى، فمن اهتدى في التَّمسك بشرعه ربح وظفر بالفوز والاعتصام، ومَنْ حاد عن طريق الصحابة والسلف وإجماع الأئمة خسر وما نال المرام، ورضي الله عن صحابته الذي أسَّسوا لنا قواعدَ الأحكام، متمسِّكين بكلِّ ما به عليه السلام عمل أو أمر، والتَّابعين والأئمة الأربعة المقتفين أثرهم أبد الأبد، أما بعد:
فإنَّ الله -تعالى- جلَّت عظمتُه، وعَلَتْ كلمتُه، قد أقام بالعلم لحراسة الشَّريعة الغرَّاء، من أرباب البصائر والاستبصار، علماء يدافعون عنها في كل أوان وعصر، ويذبون عنها بلسان الشَّارع ذي الفخر، هذا؛ وإني قد سرَّحتُ طرفي في مباحث هذه الرّسالة، فوجدتُ بهجتَها بارزة للعيان، فيها بحر عرفان، وشهاباً ثاقباً لرد أوهام خُزَيران، فالفاضلان: الشَّيخ الكامل، والشَّيخ عزّ الدين، لقد أفتيا فتواهما، وقطعاً هي طبق ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، والأئمة الأربعة، والتَّابعين لهم من الفقهاء أمناء الدِّين، وإنِّي على مذهبهم في اعتقاد النُّصوص الشرعية الواصلة إلينا عن أئمتنا الأعلام، وأمَّا ما جاء في هذه الرِّسالة من الحُجَج والبراهين الواردة عن الفاضل خزيران، فلا تدحض حُجَّة السَّلَف والأئمة الأربعة المجتهدين؛ لأنه -حفظه الله تعالى- قد أفتى ببحث من أبحاث الشَّعراني رحمه الله وكان الألزم عليه أن يفتي بمذهبه، أو بمذهب من المذاهب الأربعة؛ لأنه لا يكون قولُ الشَّعراني ناسخاً للمذاهب الأربعة، أو لمذهب السلف، أو لفعل، أو عمل، أو أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالفاضل الشيخ محمد كامل عزّ الدين -قسماً- (1) تمسَّك -وهو نعمان هذا الزّمان، وناصر مذهب الحق بسيف الحجة القاطعة البرهان-، فنحمد الله -تعالى- على وجود مثل هذا الإمام، كيف لا؟! وقد شارك عزُّ الدين القسام فيهما وضحَ الحق واستبان، فنشكر صنيعهما بما قاما به من فرض الكفاية في نصرة الحق، وردِّ شبه الخلق، فجزاهما الله -تعالى- عن الأمة المحمدية أعظم الجزاء {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت: 33] .
(1) كذا في الأصل.
وإنا لنرجو من حضرة الفاضل خُزَيران أن لا يحكم ببحث كان قد أورده الشَّعراني رحمه الله حكم النّسخ به للمذاهب الأربعة، فهل لك -أيها الفاضل النَّبيل- أن تقنعنا بأنه يمكن نسخ مذاهب الصّحابة والأئمة الأربعة بهذا التَّأويل، فاترك المخالفةَ للإجماع، فذلك لك أولى، وكأنِّي بك وأنتَ لمذهب التَّصوُّف ميَّال، فاعدل يا هذا! وأفتِ إذا سُئلتَ بمذهب عُيّنْتَ به للفتوى، ودع غيرَه واتَّقيه، والله ولي التَّوفيق.
وصلى الله على سيِّدنا محمد أشرف مَنْ نهض بأعباء الرِّسالة، وعلى آله وصَحْبه المتمسّكين بأوامره، والمهتدين بهديه على مدى الأيام.
في 6 ربيع الآخر سنة 1344
كتبه الفقير خادمُ العلم الشَّريف
محمد بن خليل عيد التاجي
الحنفي مذهباً -عفي عنه-
15
بسم الله الرحمن الرحيم
حمداً لك يا من حفظت هذا الدِّين من التغيير والتبديل، وأنزلت كتاباً {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] يهديهم سواء السَّبيل، يدعو إلى التَّوحيد الخالص من تأويل المبتدعين، ماحياً شُبَهَ المضلِّين، وآثارَ المشركين، وأصلِّي على النَّبِيِّ المختار، من أشرف العناصر، وعلى آله وصَحْبه المحرزين قصب السَّبق في المفاخر، أما بعد:
فإنَّ الله أكمل لنا هذا الدِّين، وأتم لنا نعمتَه علينا، وتركنا رسولُه صلى الله عليه وسلم على مثل البيضاء، ليلُها ونهارُها سواء (1) ، وأخبرنا -وهو الصَّادِقُ الأمين- أنَّه لا تزال طائفة من أُمَّتي قوامةً على أمر الله، لا يضرُّها مَنْ خالفها (2) ، وأنَّ الله لا يزال يغرس في هذا الدِّين غرساً، يستعملُهم في طاعته (3) ،
(1) يشير إلى حديث العرباض، وفي بعض ألفاظه:«تركتم على البيضاء، ليلها كنهارها» ، ومضى تخريجه (ص 55) ، وانظر «الاعتصام» (1/60 - بتحقيقي) .
(2)
يشير إلى ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1920) عن ثوبان رفعه، بلفظ:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك» ، والحديث في «الصحيحين» عن المغيرة بن شعبة، ومعاوية، وعند مسلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وعدّه غير واحد من العلماء من الأحاديث المتواترة، وانظر -غير مأمور- تعليقي على «الاعتصام» (3/279) .
(3)
يشير إلى ما أخرجه أحمد (4/200) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (9/61) ، وابن ماجه (رقم 8) ، وابن عدي في «الكامل» (2/583) ، وابن حبان في «الصحيح» (326 - الإحسان) ، و «الثقات» (4/75) ، والدولابي في «الكنى» (1/46) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/445) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2497) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (6/233)، والمزي في «تهذيب الكمال» (34/152) من حديث أبي عِنَبة الخولاني رفعه:«لا يزال الله يغرس في هذا الدين بغرس يستعملهم في طاعته» ، وإسناده حسن..
وقال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ، فكلما نشأت بدعة قيض الله لها مَنْ يُزَلزِل أركانها، ويهدمُ بنيانَها، ويشرِّدها عن أوطانها، ويجيء {بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] ، إلا أن حزب البدع، وزخرفة أهلها {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39] ، يلجأ إلى ما لفّقه الملفقون من القول، وزخرفة الذين اتَّبعوا الهوى، إرضاءً للعوامّ، وتضليلاً لهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] ، وأنصار الحق ينادونهم في كل زمان {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم} [طه: 61] في الأرض، ارجعوا إلى ما كان عليه أصحاب نبيكم الصادق والخلفاء الراشدون.
إنَّ الأنبياء جاؤوا بالبيان الكافي، وقابلوا الأمراضَ بالدَّواء الشَّافي، وتوافقوا على منهاج واحد، لم يختلف، فجاء الشّيطانُ يُحَسِّنُ للناس ما كان عليه أهل الجاهلية، وما كان طريقاً للوصول إليه، «ومن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه» (1) ، كما قال سيد المرسلين.
(1) قطعة من حديث النعمان بن بشير، أوله: «إنّ الحلال بيّن، وإنّ الحرام بيِّن
…
» ، أخرجه البخاري (52، 2051) ، ومسلم (1599) في «صحيحيهما» .
هذا؛ وقد تصفَّحتُ هذه الرسالة، وأنعمتُ النَّظرَ فيها، فوجدتُها مؤيَّدة بالبراهين الجليّة، والأدلة السُّنِّيَّة، وإنَّ الخصم يحومُ حولَ إرضاء العوام لأمر ما، أو ليقال على أنَّ الحقَّ أحق أن يتّبع، ولقد تذكرتُ ما رواه محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس، قال:«والله ما أظنُّ على ظهر الأرض اليوم أحداً أحبُّ إلى الشيطان هلاكاً مني، فقيل: كيف؟ فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها الرجل إليّ، فإذا انتهت إليّ قمعتها بالسُّنَّة فترد عليه كما أخرجها» (1)، وقال ابن مسعود:«الاقتصاد في السُّنّة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة» (2) ،
(1) أخرجه اللالكائي في «السنة» (رقم 12) -ومن طريقه ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 13) - من طريق ابن إسحاق، عن الحسن -أو الحسين- بن عبيد الله، عن عكرمة، عنه، وإسناده فيه ضعف، وذكره السيوطي في «مفتاح الجنة»
…
(ص 137-138 رقم 295 - ط. بدر البدر) .
(2)
أخرجه الدارمي في «السنن» (1/72) ، ومسدد في «المسند» -كما في «المطالب العالية» (3/90 رقم 2963) أو (3/287-288 - ط. دار الوطن) -، والطبراني في «الكبير» (10/275 رقم 10488) ، ومحمد بن نصر في «السنة» (25) ، والحاكم في «المستدرك» (1/103) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/19) ، واللالكائي في «السنة» (1/55، 88 رقم 13، 14، 114) ، وابن عبد البر في «الجامع» (2/1179 رقم 2334) ، وابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 8) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي..
فهنيئاً لصاحبي الرسالة، لقد اقتفيا أثرَ ابنِ عباس، وفاها بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، نصرةً للسُّنَّة، لم يصانعا عواماً، ولم يخشيا في دين الله ملاماً، ولم يغترا بضخامة قول فلان وفلان، ولا بما أوّله المؤوّلون، أو أسَّسه على غير منهاج السلف المتطرِّفون، بل أتيا بها على منهاج الكتاب والسنة، وإنْ كرههما المبتدعون، ونفر عن مسالكها الجامدون، صاحا بالحقِّ في قوم يعتقدون أنَّ ما عليه قومهم في زيِّهم وعاداتهم هو السُّنَّة، وأنَّ مَنْ هو على غير سيرتهم هو المبتدع، يقلبون الحقَّ باطلاً، والباطل حقّاً، ومنتهى حُجّتهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، والحقّ في كل زمان لا يعدم ناصراً، وللباطل جولة، ثم يضمحل، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17] ، فجزى الله مؤلِّفَي هذه الرسالة خيراً وأقرَّ عيون أهل الحقِّ بهما، آمين.
15 ربيع الآخر سنة 1344
المتشرِّف بخدمة الكتاب والسنة
عبد القادر بدران (1)
(1) هو عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد بن بدران، ولد في دوما قرب دمشق سنة 1265، وسكن دمشق، وتلقى العلم على مشاهير علماء عصره، عمل مصححاً مدة بمطبعة الولاية ومحرراً في جريدتها، ثم اشتغل بالتدريس والتأليف، له تصانيف كثيرة، منها:«المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل» ، «شرح روضة الناضر» لابن قدامة، «تهذيب تاريخ مدينة دمشق» ، وغيرها، توفي بداء الفالج سنة 1346.
انظر: «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر» (1/422) ، تقديم الأخ البحاثة محمد ناصر العجمي -حفظه الله- لـ «أخصر المختصرات بحاشية ابن بدران» (ص 17-62) ، وتقديم الأستاذ الشيخ عبد الستار أبو غدة لـ «العقود الياقوتية» لابن بدران (ص 7-14) ، «منتخبات التواريخ لدمشق» (2/72) ، «الأعلام الشرقية» (2/128) ، «الأعلام» (4/162) ، «معجم المؤلفين» (5/283) ، «تراجم أعيان دمشق» (122) ، «ذكريات علي الطنطاوي» (1/78 و2/235 و8/209) ، «أعلام الأدب والفن» (1/224) لأدهم الجندي.
16
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد، الهادي إلى أقوم سُنَّة، والدَّاعي إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى آله الذادة عن الحقيقة، والقادة إلى الحب طريقة، ما لمع بارق، وذرّ شارق، وبعد:
فقد اطَّلعتُ على هذه الرسالة المفيدة، وأعجبت بما أتى به الأستاذ الكامل ورفيقاه الفضلاء، من النُّصوص البيِّنة، والأدلّة الجمَّة، لتأييد ما ذهبوا إليه من إنكار رفع الصوت، ومطّه، خلف الجنائز على الوجه المألوف، والنَّمط المعروف، مما برح به الخفاء، وحصحص الحق.
ومَنْ وقف على هذه النُّصوص، وكان على شيء من النصفة، وعلم ما يجب أن يكون عليه الذَّاكر من الأدب والخضوع، ورأى ما جرت به العادة، في الأزمنة المتأخِّرة مِن رَفْع الأصوات ومطِّها، بصورة منكرة لا يرضى أن يذكر بمثلها الرّعاع والغوغاء، لا شك في أنَّ هذه المسألة بدعة منكرة، لم تكن في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، من رجالات الدِّين، الذين يعتدُّ بأقوالهم فيه، ويحتجُّ بأفعالهم، ولولا انقطاع الوحي لنزل في تحريمها قرآن محكم، أو جاءت سُنَّة بيِّنة.
وإنَّ العاقلَ ليأسف -جد الأسف- مما آل إليه أمر المسلمين، من التّضارب والاختلاف في كثير من الأحكام، والتماس كل فريق وسيلة لتأييد قوله، ونصرة نفسه، بعد أن كان الصحابة رضي الله عنهم لا يعولون في أمور الدِّين إلا على آية منزَّلة، أو سُنَّة مأثورة، ولا يقيمون وزناً لغير ذلك، واحتذى على مثالهم من بعدهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، ولم يكن أحدُهم إذا رأى الحقَّ في غير ما ذهب إليه ليكبر أن يرجع إلى الحق، وإن لديه من اللسن واللحن في الحُجَّة ما لا يعجزه عن التماس وجه يؤيِّد به قوله، ذلك لأنهم كانوا يتوخّون الحقَّ الصُّراح، ويربأون بأنفسهم عن التَّشبُّث بالأدلة الموهونة، والشُّبَهِ الواهية، ثم خَلَفَ من بعدهم خَلَفٌ اعتقد كلٌّ منهم أنه يصيب سواءَ المفصل، في كل ما يقول، وزعم لنفسه من الرُّسوخ في العلم، والسَّداد في الرَّأي ما شاء، وشاء له الهوى، فأصبح الدين في ذلك ميداناً للجدل، وحلية للخصام والتَّماحك، وبات من العُسر أن يرى الإنسانُ مسألةً يأمن فيها من خلاف، أو حكماً يخلو مما يناقضه، ثم تفاقم الأمر، فأفردت كل مسألة في كتاب مستقل، أو بكتب، كما يتمثَّل ذلك جلياً في شرب الدخان (1) ، والتَّقليد، والتلفيق، وسماع الآلات، وصلاة ركعتين قبل المغرب، ورفع الصَّوت خلف الجنازة، والتَّهاليل، إلى غير هذا مما يتعذَّر الإحاطة به. ولو أنعمنا النَّظرَ في الأسباب، وبحثنا عن العلل؛ لاتَّضح لنا -بأجلى وجه- أنَّ علّةَ العلل في ذلك: حبُّ الظُّهور، والسَّعيُ وراء السُّمعة.
(1) ذكرتُ في الطبعة الثانية من «التعليقات الحسان» على «تحقيق البرهان في شأن الدخان» للشيخ مرعي الكرمي (ت 1033هـ - 1623م) تسعة وثمانين عنواناً لرسائل تراثية صنِّفت في الدخان، ثم استدركتُ -بعد- نحو نصفها، ولعلي أخصُّها في مصنَّف مفرد، والله المستعان.
ولو أنَّ الغايةَ تمحيصُ الحق، وإظهارُ الحقيقة فحسب، ما حُفِظ خلاف في غلاف، ولا اتَّسعت رقعةُ الفقه إلى درجة يتعذَّر على الإنسان أن يكون معها فقيهاً (1) .
وبعد هذا:
فإنَّ فيما أتى به الأستاذ الكامل ورفيقاه الفضلاء، من الحجج البالغة، والبرهانات الدّامغة، مقنعاً للمرتاب، وبلاغاً لأولي الألباب، فجزاهم الله خير ما جزى ذابّاً عن الحق، وقامعاً للبدع المنكرة، وأكثر في الأمة أمثالهم من الغير على إماطة كل أذىً عن الدِّين، وإماتة كلِّ بدعةٍ أُلصِقت به، وأرشد المسلمين إلى الاعتصام بحبل الدِّين المتين، والتَّمَسُّكِ بالعروة الوثقى، فما ذلك عليه بعزيز.
3 جمادى الأولى سنة 1344
كتبه
(1) هذا كلام فيه دقة، ويدل على نور البصيرة عند كاتبه، فأفقه الصحابة -على الإطلاق- أبو بكر وعمر، على الرغم من قلة ما ينقل عنهما رضي الله عنهما من آراء في بطون الكتب: المسندة وغير المسندة، ومن أقوى الأدلة على اتساع فقههما، ودقته، وصدقه، وكونه حقاً: إبقاء نظم الحياة -في الجملة- في عصريهما على هدي النبوة، وكان هذا شعاراً لأبي بكر في إنفاذ بعث أسامة، فتدبّر!
محمد سليم الجندي (1)
17
بسم الله الرحمن الرحيم
حمداً للملك الرحمن، مَن خَلَقَ الإنسان، وعلمه البيان، وحفظ هذا الدِّين بأهل العلم والإتقان، وبعد:
(1) هو محمد سليم بن محمد تقي الدين بن محمد سليم الجندي، ولد بمعرة النعمان في 28 رمضان عام 1298هـ، نشأ في حجر والده، وتعلم القرآن على شيوخ المعرة فأتمه عليهم، ثم دخل المكتب الرشدي فاجتاز سنوات الدراسة الأربع بسنتين فقط، هاجر عام 1319 مع والده إلى دمشق، وفي عهد الحكومة العربية عين منشئاً أول في ديوان الحاكم العسكري، وتنقل في وظائف آخرها جعله أستاذاً للأدب العربي في مدرسة تجهيز الذكور بدمشق، وبقي حتى عام 1359هـ فأحيل على التقاعد لبلوغه الستين، منحته الحكومة السورية عام 1360هـ وسام الاستحقاق تقديراً للجهود التي بذلها طوال ثلاثين عاماً في تعليم اللغة العربية، من كتبه:«المنهل الصافي في العروض والقوافي» ، كتاب «مُرفد المعلِّم ومرشد المتعلِّم» ، وغيرها، توفي بدمشق يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 1375.
انظر ترجمته في: مجلة «المجمع العلمي العربي» (8/317، 724 و31/143) ، «أعلام الأدب والفن» (1/53) ، «تاريخ معرة النعمان» (1/1-16) بقلمه، «الأعلام» للزركلي (6/148) .
فقد أجلْتُ طرف الطرف في هذه الرسالة المؤلَّفة، التي صاغها بنان الفاضل الشَّهير، والعالم العامل النِّحرير، الشيخ كامل القصَّاب، ذي الشأن، والقدر المهاب، فوجدت من جملة فضائله وإرشاده ونصحه للأمة، نشر هذه العجالة، المؤيَّد موضوعها بالأدلة الصَّحيحة، وفي تأييد موضوعها صريحة لا يرتاب فيها فاضل، وكم ترك للأواخر الأوائل؟! فاتِّباع ما صح في الشرع هو الأولى والأحرى، والاستعداد للدار الأخرى هو مرمى المحقق، لا الأمور الأخرى، فجزى الله -تعالى- جامعَها خيرَ الجزاء، ووفقنا وإياه للاشتغال بكل خير، وحفظه من كل سوء وضير، وجعله من الطَّائفة المباركة الظَّاهرين على الحقّ، لا يضرهم مَنْ خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، والشكر لله على ذلك.
5 جمادى الأولى سنة 1344
مفتي دوما
مصطفى الشَّطي (1)
18
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه، النَّاصرين للسُّنَّة والدِّين، الخاذلين لبدع المبتدعين، أما بعد:
فهذا كتاب جليل في بابه، عديم المثيل، موافق لأصل الشرع الحنيف، الخالي من البدع والتَّحريف، كيف لا؟ وقد شهدت له الأفاضل، وأذعنت جميعاً بأنه الفاضل، وناهيك بهذه الشَّهادة، فهي خاتمة الحُسنى وزيادة.
15 جمادى الأولى سنة 1344
(1) هو مصطفى بن أحمد بن حسن بن عمر بن معروف الشطي، ولد سنة 1272هـ، ونشأ في رعاية والده وعمه، ولازم دروسهما، أخذ علم التصوف عن الشيخ محمد الدندزاوي لما اجتمع به سنة 1305هـ، تولى الخطابة والتدريس في المدرسة الباذرائية، = وفي = سنة 1300هـ صار كاتباً في محكمة البزورية، وفي سنة 1327هـ تولى التدريس في قضاء دوما، ثم في سنة 1331هـ وجهت عليه الفتوى فيها، فاستقر هناك حتى أواخر حياته، توفي سنة 1348هـ.
انظر: «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (1/445) ، «مختصر طبقات الحنابلة» (176-177) ، «معجم المؤلفين» (12/237) .
الفقير إليه -سبحانه-
خالد النقشبندي الأزهري (1)
19
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم من البيان، وأرشدنا بفضل هديه إلى معالم السُّنَّة السَّنيَّة وآي القرآن، وهدانا بهذين الطَّريقين الواضحين سُبُلَ السَّلام، صلّى الله على سيِّدنا محمد القائل:«من عمل عملاً، ليس عليه أمرنا؛ فهو رد» (2) ، وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب النوآن، وتناوب الجديدان، وعلى آله وصحبه الأخيار، والمقتفين أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
(1) هو حفيد الشيخ خالد النقشبندي الصوفي، الذي جلب الطريقة النقشبندية إلى دمشق، وكان حفيده سلفياً، مدرساً في الجامع الأموي، انظر «ذكريات علي الطنطاوي» (1/77-78)، وانظر عن جده:«تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (3/334) ، «منتخبات التواريخ لدمشق» (650، 672) .
(2)
مضى تخريجه.
فقد أجلتُ إنسان الطرف في هذه الرسالة «النَّقد والبيان في الرد على أوهام الفاضل خزيران» ، فوجدتها قد حوتْ نصوصَ مذاهب المسلمين، ووافقت عمل السَّلف الصالح والتابعين، لذلك حُقَّ لها أن تكون كلمتها العليا، كما يكون لمستقبلها من المآثر الحسنى، فجزى الله المؤلِّفَين الفاضلين المرشدين، على ما أودعا في نقدهما من روح هذا الدِّين الحنيف، وتوخَّيا في بيانهما راجح الأقوال من كل صحيح، فكان من كلا النَّقد والبيان، أعلام واضحة، وسبل نيرة، يظهر منها لكل ذي بصيرة ذاك النُّورُ المقتبس، من آي الله في قرآنه:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ، فما أجدرنا أن نهتدي بهدي القرآن الكريم، وعمل سيِّد المرسلين، أفليس من هدي الله قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، فكان الصّحابة والتابعون (1) مع علوِّ مكانتهم، وعظيم فضائلهم، لا يعظّمون جنائزهم بالضَّجيج والعَجيج، ولا بذاك المفرد المصطلح عليه اليوم، مما أدّى الأمر إلى إحياء بدع، وإماتة سنن، وحاشا لله أن ينسب من يحذو حذو السُّنَّة المطهرة إلى الإزراء أو الامتهان! إنَّ والدي المرحوم (2) قد خلت جنازته (3)
(1) انظر ما علقناه على (ص 14) .
(2)
تذكر على التّرجّي، ولا حرج حينئذ في استخدامها.
(3)
وخَلَتْ من ذلك -أيضاً- جنازة المترجَم، كما سيأتي قريباً..
من مثل هذه البدع؛ فلم تزل سيرتُها الحسنة تتناقلها الألسن في عداد المآثر، وإلى ما شاء الله أن تذكر، فما أفضل التَّمسُّك بالمنهج القويم! وما أوجب الحثّ عليه من ذوي العلم وقادة الأمة! فالتَّساهل في كل شيء قد أودى بنا إلى هذا الانحطاط، الذي أثقل كاهلنا، أليس من هديه عليه الصلاة والسلام قوله:«لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليسلطنَّ اللهُ عليكم شراركم، فيدعو خيارُكم، فلا يستجاب لهم» (1) .
(1) أخرجه الترمذي (2169) ، وأحمد (5/388، 390، 391) ، وفي «الزهد» (2/136) ، وابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف» (رقم 12) -ومن طريقه عبد الغني المقدسي في «الأمر بالمعروف» (48) -، والبيهقي (10/93) ، والخطيب في «تالي تلخيص المتشابه» (2/528-529 رقم 322 - بتحقيقي) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/279) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (4/407 و15/234) ، والذهبي في «السير» (18/298) من حديث حذيفة، وبعضهم وقفه عليه. وحسنه الترمذي. وفي الباب عن جمع.
فالاقتصار في درء تلك المفاسد على ترتيل التَّضرُّعات والابتهالات، مع الاعتراض (1) عن كل مخرِّف أو مُحدَث في الدين ما ليس منه، لا يرفع وجوب الأمر بالعرف (2) والنهي عن المنكر، كفانا ما أسند أهل الزَّيغ من الوصمات إلى أصل الدِّين، بسبب هكذا أعمال خالفت أصله المؤصل، وركنه الموطّد، هذا ما أدمى القلوب، إننا بين ظهراني طوائف متنوّعة، تعلم معالمنا القويمة، وتستخفّ من انتباذها، وبين أمم زائغة، ديدنها النَّقد والهزء، مع ما هي عليه من الجهل المركَّب، فما أوجب أن نتحصَّن بأصول هذا الملجأ الممنع، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ، وما أليق أن نتكمل بقول عز من قائل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، فضلاً عما وراء ذلك من نتائج حسنة، تعزّز روح حياتنا الاجتماعية من كل وجه، هذا رفع الصّوت بالذِّكر أمام الجنائز -فضلاً عن غيره من التَّمطيط والتَّشدُّق- لهو جزئية من جزئيات بدع شوهت أصل الدين، بنظر كل جاهل فيه، ولكن كم من بدعة صغيرة لم تلبث حتى اتّسع خرقها، وعظم وزرُها، وكم من محرمات ومستنكرات هكذا كان بدؤها؟
فاربأوا أهل الإسلام بدينكم عن طعن الطَّاعنين، واستثمروا نتائجه التي ترقى بنا إلى أوج السَّعادة والفلاح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28] .
فنسألك اللهم غفراناً على ما اقترفناه، ومعونةً على كل عمل ترضاه، والحمد لله رب العالمين.
20 جمادى الأولى سنة 1344
كتبه
سعيد الحمزاوي (3)
(1) كذا في الأصل! ولعل الصواب: «الإعراض» .
(2)
كذا في الأصل! ولعل الصواب: «المعروف» .
(3)
هو محمد بن سعيد بن درويش آل حمزة، الشهير بالحمزاوي، ولد بدمشق سنة 1313هـ، وتعلم فيها متلقياً عن كبار علمائها، كالمحدث بدر الدين الحسني، وحصل على إجازات كثيرة منهم، كما حصل من دمشق على الشهادة الثانوية، تولى نقابة الأشراف في شعبان سنة 1361هـ، وظل يشغلها حتى وفاته، توفي بحي المهاجرين في دمشق صباح الثلاثاء 27 ربيع الأول 1398، وجاء في ورقة نعيه:«اعتذار عن عدم قبول أكاليل= =الزهور، بناء على وصيته، التي أوصى فيها -أيضاً- أن يمشي المشيعون بهدوء وسكينة، مع عدم رفع الأصوات» ، وهكذا أوصى أبوه، كما تقدم في كلمته.
ترجمته في: «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (2/940) ، «إتحاف ذوي العناية» (65) ، «ذكريات علي الطنطاوي» (1/204 و5/109 و3/280 و4/149) .
وفرغت من التعليق عليه: ضحى يوم الخميس 20/جمادى الأولى/سنة 1422هـ، والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.