الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنَّ من البدع الدينيَّة التي فشتْ، ولم يكن لها أثر في صدر الإسلام: صياح الصَّائحين أمام الجنائز بالأذكار والأناشيد، وتشويشهم بذلك على متَّبِعيها إيماناً واحتساباً، حتى يشغل قلب السامع وعقله بما يرى وبما يسمع، ويذهل عن عبادة التّفكّر والسَّعي للآخرة، والاستعداد للقاء الله -تعالى-، {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 19] .
ألّف العالمان العاملان الجليلان: الشَّيخُ كامل القصَّاب، والشَّيخُ عز الدين القسَّام -نزيلا حيفا- هذه الرسالة النّفيسة «النقد والبيان» ، في بيان الحقِّ في هذه المسألة وغيرها من المسائل، التي دعاهما الفاضل (خزيران) العكِّي إلى البحث فيها، وكشف النقاب عن وجه حقيقتها، وقد أوردا من نصوص الكتاب والسُّنَّة، وكلام بعض الفقهاء الأجلَاّء مِن علماء المذاهب الأربعة، ما يؤيِّد ما ذهبا إليه، وأضافا إلى ذلك فتويين للعلامتين (الزَّنكلوني والسبكي) ، فكان قولهم سديداً، وجوابهم صحيحاً، فجزى الله المؤلِّفَيْن الفاضلين عن دينهما خيراً، وأكثر في الأمة من أمثالهما من العلماء المنصفين المصلحين.
[دفع شبهة أو تتمة]
سألني وطنيٌّ غيور ممن يعرف الأستاذ القصَّاب، ويقدره في التمسك بالدين وخدمة الوطن قدره: ما معنى قوله وقول صديقه الأستاذ القسام في آخر الرسالة: «وأهم شيء يجب انتباه علماء العصر إليه: أشباه تلك الواقعات، وتوضيح أحكام الشريعة فيها، ليعود للدِّين مجده، وللإسلام زهرته» ؟
فقلت له: اعلم -يا أخي- أنَّ مَنْ سَبَر غورَ الإسلامِ، ودرس حكمةَ التَّشريع؛ علم أنَّ جميع التَّكاليف الشَّرعيَّة: من روحيّة، وبدنيّة، ومالية، مبنيَّة على درء المفاسد وجلب المصالح (1) .
(فالصَّلاة) الروحيّة البدنيَّة، التي هي فرض عام على كل مكلَّف، تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأشد الفواحش والمنكرات فتكاً وهتكاً، هي: تلك الجيوش المعنويَّة التي مهدت بها أوروبا السَّبيلَ لفتح بلاد الشرق -كالخمر، والقمار، والزنا، والربا، والانتحار-، فكثير ممن أضاع الصَّلاة، واتّبع الشَّهوات (2) وقع في هذا التيار، الذي أسلمه إلى الجنون أو المنون، فكان ذلك من أشد المصائب على الوطن.
(والصِّيام) الذي يدعو إلى إمساك المعدة عن الطَّعام، وسائر الأعضاء عن الآثام، وصرف جميع القوى والمواهب فيما أعدَّتْ له، يعلِّم الثباتَ على خلق (مبدأ) قويم لا محيد عنه، فالصَّائم الذي يغلب عقلُه شهوتَه، ولا يخون دينه بالأكل نهاراً -سراً أو علانية- لا يمكن أن يخون وطنه، أو يخدع في أمره، فيبيعه بثمن بخس من غير أهله.
(والحجّ) لا تخفى حكمته على ذي بصيرة؛ وأهمّها: التَّعاون على توفير أسباب الخير للأُمَّة، ودفع عوادي الشَّر عنها.
(1) الشرع قواعد، جاء ليحقق مصلحة الإنسان في المعاش والمعاد، والحال والمآل، ولم يثبت منه شيء على خلاف القياس -على ما حققه ابن القيم في «الإعلام» بما يُرْحَل إليه، ويُكتب بماء العيون، لا بماء الذهب-، ومن ظن أن له مصلحة في الدنيا بالخروج عن أمر مولاه والاستجابة لداعي هواه؛ فهو واهم، والواجب إعمال (الألفاظ) و (المباني) ، دون إهمال (الحقائق) و (المعاني) ، ومن (الشقاء) تجاوز (النص) ، ومن (الغباء) عدم النظر في المعنى، والواجب إلحاق الشبيه بالشبيه، والنظير بالنّظير.
(2)
سبب هلاك الأفراد والمجتمعات الإفراط في تناول الشهوات.
(والزَّكاة) إعطاء نصيب معلوم من المال للفقراء والمساكين، الذين أقعدهم العجز عن الكسب، وتوزيع الزّكاة على الأصناف الثمانية التي ذكرها الكتاب الحكيم بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] صرف الزكاة في مصارفها الشَّرعيَّة يقينا شرور الشيوعية والبُلْشُفِيّة (1) ، اللتين أصابتا الأمم والشعوب الغربية التي هضمت حقوق الضعفاء، فعمّتها الفوضى، وفدحتها المصائب، ولا يزال سيل الشيوعية يمتدّ (2) ، ولا يعلم عاقبتها إلا الله.
(1) مذهب يرى أنّ من المستحيل على الهيئة الاجتماعية أن تنتقل طفرةً من النظام الرأسمالي إلى النظام الشيوعي، وأنه لا بد من دور انتقاليّ يُطَبَّقُ فيه مذهبُ الجماعيّة، من «المعجم الوسيط» (1/69) ، وانظر تفصيلاً في «القاموس السياسي» (84) لعبد الرزاق الصافي.
(2)
ثم انهارت الشيوعية -والحمد لله- هذه الأيام في بلادها ومنشأها، كشأن سائر الباطل، على وفق سنة الله القدرية (الكونية) والشرعية.
ثم لا يخفى أنَّ كثيراً من هؤلاء الصائحين أمام الجنائز، وعلى القبور، قادرون على العمل والأكل من كسب يدهم، ومنهم مَن يملك الأموالَ والأملاك، وقد أكلوا حقوقَ الضُّعفاء من الرِّجال والنِّساء والولدان، الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا يستطيعون حيلةً، ولا يهتدون سبيلاً، أولئك المساكين، هم الذين ذكرهم الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، موصوفين بأوصاف خمسة، لا يشاركهم فيها أحد ممن لهم قدرةٌ على العمل، أو عندهم ما يكفيهم ويغنيهم عن السؤال، قال -صلوات الله عليه وعلى آله-:«ليس المسكين الذي تردُّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين: المتعفِّف، واقرؤوا إن شئتم قوله -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273] » (1) .
(1) أخرجه البخاري (1479) ، ومسلم (2348) في «صحيح يهما» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر «الدر المنثور» (2/90) .
إذا اضطررنا هؤلاء الأقوياء إلى العمل؛ كثرت الأيدي العاملة في الزِّراعة والصِّناعة والتِّجارة التي هي مواد الثروة الأصلية، وحفظت الزّكوات والصَّدقات والوصايا لمستحقّيها. ولما كان التَّمييزُ بين المستحقِّين وغيرهم على وجه الاستقصاء عَسِراً في هذا الزَّمن، تعيَّن تأليف جمعيات خيرية (1) للقيام بهذا الغرض وتحقيقه؛ كجمعية الإسعاف الخيري في دمشق، وجمعية المقاصد الخيرية في بيروت، وكالجمعية الخيرية في حيفا، وغيرها، وهذه أفضل طريقة تجمع بها الأموال من المحسنين وتنفق على الفقراء والمساكين؛ لإطعامهم وإيوائهم، وتعليم أبنائهم.
قال بعض الأئمة المحقِّقين (2) في تفسير قوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة: 2] : «أما الأمر بالتعاون على البرِّ والتَّقوى، فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن؛ لأنه يوجب على الناس إيجاباً دينيّاً أن يُعين بعضُهم بعضاً في كلِّ عمل من أعمال البر، التي تنفع الناسَ: أفراداً وأقواماً، في دينهم ودنياهم، وكلُّ عملٍ من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم» ، ثم قال:
(1) يصلح أن يمثل على قيامها بالمصالح المرسلة، وتحتاج أحكامها إلى جمع وتأصيل، والدراسات فيها على وجه الاستقلال -في حدود علمي- قليلة، ولمصطفى الغلاييني البيروتي رسالة مستقلّة مطبوعة بعنوان «التعاون الاجتماعي» ، ولأخينا الشيخ فتحي بن عبد الله الموصلي -وفقه الله تعالى- دراسة أرسلها إليّ فرغ منها في هذا الموضوع، أتى فيها على أصول المسألة دون فروعها، جمعها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ السِّعدي -رحمهما الله تعالى-.
(2)
هو السيد محمد رشيد رضا، والمذكور كلامه في تفسيره «المنار» (6/131) بحروفه.
«كان المسلمون في الصَّدر الأول جماعة واحدة، يتعاونون على البر والتّقوى، من غير ارتباط بعهد ونظام بشريٍّ (1) ،
(1) أخرج أبو نعيم في «الحلية» (2/204) -ومن طريقه الذهبي في «السير» (4/192) - بإسناد صحيح إلى مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، قال: «كنا نأتي زيد بن صُوحان، وكان يقول: يا عباد الله! أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع، فأتيتُه ذات يوم وقد كتبوا كتاباً، فنسقوا كلاماً من هذا النحو: إن الله ربُّنا، ومحمداً نبيّنا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا
…
وكنا له
…
، ومن خالفنا كانت يدنا عليه، وكنّا وكنّا، قال:
فجعل يعْرِضُ الكتاب عليهم رجلاً رجلاً، فيقولون: أقررتَ يا فلان؟ حتى انتهوا إليَّ، فقالوا: أقررتَ يا غلام؟ قلت: لا.
=
…
قال -يعني: زيداً-: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟
قلت: إنَّ الله قد أخذ عليَّ عهداً في كتابه، فلن أُحدث عهداً سوى العهد الذي أخذه علي.
فرجع القوم من عند آخرهم، ما أقرَّ منهم أحد، وكانوا زُهاء ثلاثين نفساً» انتهى.
وانظر في تقرير هذا المعنى: «الحاوي للفتاوى» (1/253) للسيوطي، «تنقيح الفتاوى الحامدية» (2/334) لابن عابدين، «الدين الخالص» (6/290) لمحمود خطاب السبكي.
كما هو شأن الجمعيات اليوم، فإنَّ عهد الله وميثاقَه كان مُغنياً لهم عن غيره، وقد شهد الله -تعالى- لهم بقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، ولما انتثر بأيدي الخلف ذلك العقد، ونكث ذلك العهد، صرنا محتاجين إلى تأليف جمعيات خاصّةٍ بنظام خاص؛ لأجل جَمع طوائف من المسلمين، وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى) في أي ركن من أركانه، أو عمل من أعماله، وقلما ترى أحداً في هذا العصر، يعينك على عملٍ [من](1) البر، ما لم يكن مُرتبطاً معك في جمعية أُلِّفَتْ لعمل معين، بل لا يفي لك بهذا كلُّ مَنْ يعاهدك (2)
(1) سقط من الأصل، وأثبته من تفسير «المنار» .
(2)
يتوسع بعض الحركيين، فيطلقون على ذلك (البيعة) ، ثم ينسون -أو يتناسون- مع مرور الزمن، فتجري على ألسنتهم التحذير من مخالفتها، ولا بد من ضبط (البدايات) حتى تسلم (النهايات) ، ولا بد من تحقيق مناط الأشياء (بالعدل) ، وإطلاق ما ورد عليها في الشرع من ألفاظٍ (بالحق) ، ولذا؛ اقترح إمام هذا العصر فضيلة الشيخ ابن باز رحمه الله أن يسمى نحو هذا التعاون (عقداً) لا (بيعة)، فقال في رسالة له بتأريخ 11/4/1408هـ لفضيلة الشيخ سعد الحصين -حفظه الله- عن جماعة (التبليغ) التي تأخذ -في شبه القارة الهندية- (البيعة) لأمرائها:«فقد اقترحت على قادتهم لما اجتمعت بهم في موسم الحج الماضي بمكة -وحصل بيني وبينهم من التفاهم ما نرجو فيه الفائدة- أن يكون (عهداً) بدل (بيعة) ، فقبلوا ذلك، ولعلهم تعلقوا بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجزء (28) ص (21) من «الفتاوى» ، من عدم إنكار ذلك» انتهى.
=
…
وانظر استخدام «البيعة» و «العهد» و «العقد» عند الفقهاء، وما يترتب على عدم الوفاء به:«التاريخ الكبير» (5/12 و6/39) للبخاري، «تفسير القرطبي» (6/33) ، «المستصفى في علم الأصول» (2/242 و251) ، و «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» (1/70) و (2/927) ، و «الإصابة» (1/454) ، و «بهجة النفوس» (1/927) ، و «فتح الباري» (1/64) ، و «المعرفة والتاريخ» (3/315) ، و «مشكل الآثار» (1/80 - ط. الهندية) ، وانظر خلاف أهل العلم فيمن أخذ على نفسه عهداً، ثم لم يف به، هل عليه كفارة أم لا؟ في:«فتح الباري» (11/474) ، و «الهداية» (2/74) ، و «المغني» (11/197) ، و «فقه الإمام الأوزاعي» (1/481-482) .
على الوفاء، فهل ترجو أن يُعينك على غير ما عاهدك عليه؟» (1) .
(1) تفسير المنار (6/131) .
(2)
انظر في تقرير هذه القاعدة: «قواعد ابن اللحام» (92) ، «تسهيل الوصول» (292) للحملاوي، «القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير» (493) ، «الاعتصام» (1/319، 331 و2/184 - بتحقيقي) ، «مذكرة في أصول الفقه» للشنقيطي (13-15)(وفيه تفصيل بديع) ، «الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية» (344) .
(3)
كذا في الأصل، وفي مطبوع «تفسير المنار» :«أهل الغيرة والنجدة من المسلمين» .
(4)
تفسير المنار (6/131) .
وفي هذا تأصيل لمشروعية قيام (جمعيات الأمر بالمعروف) و (الهيئات الاجتماعية) و (المراكز العلمية)، ومنوط ذلك بأمور؛ من أهمها: ارتباطهم بالعلماء الربانيين، و (العمل من ورائهم) لا (أمامهم) ، ووجود نصيب وافر من (العلم الشرعي) عند القائمين على هذه الأعمال، يفوِّت وقوعهم في المخالفات، ووجود مُكنة في الإرادة من الترفع عن حب الرئاسة والمصالح الشخصية، والمطامع الدنيوية، مع الدوران في الحركات والأقوال= =والأفعال في عقد سلطان (الولاء) و (البراء) و (الحب) و (البغض) على ذات الدين، لا على هذه (المسمّيات) ، التي هي وسائل فحسب، وهي بمثابة أسماء (العاملين) ، أو عشائرهم، أو جنسياتهم، وإلا؛ رجع الأمر إلى حال (الحزبيين) العاملين باسم (الدين) ، الآخذين منه ما يلزمهم، دون العمل على (خدمته) ، وتشخيص (واجب الوقت) ، والعمل على إحيائه، والله الموفّق والعاصم.
قلتُ لمخاطبي: أفرأيتَ أيها الأخ الكريم هذه المسائل الفرعية التي ذكرتُها، وما تضمَّنتْ من الحِكَم والأحكام، وإصلاح حال المجتمع الإسلامي بجمع شتات الخير له، ودفع عوادي الشَّرِّ عنه، فكيف إذا عمل بأصول الإسلام وقواعده كلِّها؟ ألا يكون ذلك سبباً لإعادة مجد الدِّين وزهرة الإسلام، كما قال ذانك المؤلِّفان الكريمان؟ بل ألا يكون مثل ذلك سبباً لإعادة حضارة العرب، وسعادة البشر على أيديهم مرّة أخرى؟ قال: بلى، ورغب إليَّ أن أثبتَ ذلك في رسالة «النقد والبيان» ، ففعلت.
فنحن ندعو كرام الوطنيين المسلمين إلى إقامة الدين على الوجه الصَّحيح، واتِّباع السُّنن النَّافعة، ونبذ البدع الضَّارة، فإن في ذلك سعادتهم وسعادة أوطانهم، وبالله المستعان.
في 7 المحرم الحرام سنة 1344
عضو المجمع العلمي وخطيب جامع
الدقاق ومدرِّسه بدمشق الشام
محمد بهجة البيطار (1)
2
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) هو محمد بهجة بن محمد بهاء الدين البيطار، ولد في دمشق سنة 1311هـ - 1896م، من أسرة دمشقية عريقة، هاجر جده الأعلى من بليدة من أعمال الجزائر، واستوطن فيها منذ أكثر من مئتي عام، كان والده عالماً أديباً، فنشأ في حجره، وتلقى عليه مبادئ علوم الدين واللغة، وعلى أعلام عصره؛ مثل: جمال الدين القاسمي، وآخرين، درس في المدارس الابتدائية منذ عام 1921م، وعين مديراً للمعهد العلمي السعودي في مكة، = =وأسندت إليه وظيفة مفتش التدريس في مكة 1926-1931م، وفي عام 1936م عين أستاذاً في مدرسة التجهيز، ثم أستاذاً محاضراً في كلية الآداب السورية عام 1948م، من مؤلفاته:«حياة شيخ الإسلام ابن تيمية» ، «الثقافتان البيضاء والصفراء» ، «الإسلام والصحابة الكرام بين السنة والشيعة» ، «السنة والشيعة» ، «نقد عين الميزان» ، «حلية البشر في أعيان القرن الثالث عشر» ، «أسرار العربية» (تحقيق) ، «شرح قواعد مصطلح الحديث» ، «محاضرات في المجمع العلمي بدمشق» ، «مسائل أحمد لتلميذه أبي داود» (تحقيق) ، «تخريج أحاديث كتاب البخلاء» للجاحظ، «الموفي في النحو الكوفي» (شرح وتعليق) ،
…
وغيرها.
وانظر: «معجم المؤلفين السوريين» (75-76) ، «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (2/918) ، «تتمة الأعلام» (2/322) ، «رجال من التاريخ» (412) ، «ذكريات علي الطنطاوي» (1/20، 30، 77، 91، 133، 137، 204، 263، 266، 2/22، 86، 104، 136، 187، 202، 235، 249، 259، 3/35، 128، 136، 137، 261، 272، 4/64، 79، 80، 147، 284، 297، 298، 5/136، 226، 259، 272، 306، 6/268، 7/66، 77، 256، 8/78، 126، 209، 219، 238، 271، 272، 307) لعلي الطنطاوي.
الدِّين الإسلامي يكفل للبشر السَّعادة في كلِّ زمانٍ ومكان، ويفي بحاجيَّاته في كل عصر ومصر؛ لانطباقه على نواميس العمران، وابتناء أحكامه على قواعد محكمة، لا تكاد تزعزعها الأعاصيرُ والعواصفُ، كما يشهد بذلك فلاسفة الاجتماع، وعلماء العمران.
وقد نال الصَّدر الأولُ مِن السَّعادة التَّامة، والملك الكبير، والسُّلطانِ العظيم، ما لا يقوم بوصفه البيان، ولا يمتري فيه إنسان، ذلك بما نفخه هذا الدِّين فيهم مِن روح العلم والعمل، والتّواصي بالحقِّ، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، حتى إذا دار الزَّمانُ دورته - دسَّ أناسٌ من أعداء الدِّين أنفسَهم فيه، وتزيّوا بزيِّ أهله، وصاروا يعملون على هدمه بما يضعون من أحاديث، ويدسُّون مِن روايات ليس لها أقل حظّ مِنَ الصِّحَّة والصِّدق، فَفَشَتْ بذلك البدعُ والأهواءُ، وثارت أعاصيرُ القلاقل والفتن بين المسلمين، وكثر بينهم الشِّقاق، وزاد النِّفاق، حتى انشقَّتْ عصا وحدتِهم، وانقسموا إلى فِرَق وأحزاب، كل حزب فرح بما لديه، وكلُّ فرقة تكفِّر الأخرى؛ لمخالفتها لها في المشرب، ومباينتها إِيّاها في المذهب!
ظلَّ أهل الإسلام على هذه الحالة حيناً من الدَّهر، والعدو يتربَّص بهم الدَّوائر، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] ، لا يكادون يشعرون بحالتهم، ولا يعلمون أيان مصيرهم، حتى قيَّض الله في هذا العصر فئةً من عقلاء الأمة وحكمائها، أحسَّتْ بالخطر المحدق، فأهابت بالأمة، وأخذت تسعى لمحو الخرافات (1) المتغلغلة في أعماق النفوس، وإعفاء آثار البدع والمحدثات التي غصَّ بها العالم الإسلامي، وصارت شارةَ عارٍ في جبين الإسلام، هذا إلى أعمال أخرى عظيمة لها مقام غير هذا المقام.
(1) لصاحب هذه السطور (العبد الضعيف) كتاب مفرد عن الخرافة، يسر الله إتمامه ونشره بخير وعافية.
نجحت هذه الفئةُ بعضَ النَّجاح فيما دعت إليه من تنقية الدِّين من الشَّوائب، وأيقظت أذهانَ كثيرٍ من الناس، وصار لها أتباع ومريدون، ينشرون دعوتَها، ويعزِّزون كلمتها، ويدعون إلى اطراح ما لم يرد به الدِّين، مما عليه عامَّة المسلمين، على ما لاقت من المقاومة والمناهضة من فريق المبتدعة: أولئك الذي مني الإسلام بهم ومنوا به!
هؤلاء المخرّقون أو أولئك الجامدون على المحدثات، العاضّون عليها بالنَّواجذ: قوم عالة، نشؤوا على المسكنة، فاتّخذوا الدِّين أحبولةً يصطادون بها طائرَ الرِّزقِ، وآنسوا من أهله الغافلين ميلاً لهم، وتعلُّقاً بأذيالهم -وما أشد تعلّق العامة بمن يُظْهِرُ لهم التقوى! - فاتَّخذوا لهم منهم جُنَّة، تقيهم من سلاح أهل الإصلاح الماضي، وتحفظ لهم منزلتهم الموهومة، فهم أبداً، ينزلون على إرادة الرّعاع، ولا يخالفون لهم أمراً خشية من نفورهم، ومحافظة على مكانتهم عندهم، فهؤلاء القوم عقبة في سبيل المصلحين كؤود، ولو تسنَّى لرجال الإصلاح القضاء عليهم؛ لرأيت النساء يدخلون في دين الله أفواجاً، ولا بدَّ أنْ يأتي يوم يظهر الله فيه -على أيدي المصلحين- دينه الذي ارتضاه، ويتمّ نوره.
على أنّ هؤلاء المبتدعين، فضلاً عن حرصهم على حفظ مكانتهم عند الرّعاع، قوم استأنسوا بظلام الجهل، وأخلدوا إلى المسكنة والذُّلّ، حتى طبع الله على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم يتأذّى بصرهم من نور العلم، ويعزّ عليهم الخروج من غيابة الجب إلى استنشاق الهواء الطلق في هذا الفضاء الواسع المترامي الأطراف، وهم -مع ذلك كلِّه- لا يخجلون من دعوى أنهم رجال الإصلاح والصَّلاح، وأن سعادة البشر لا تتم إلا باتِّباع مناهجهم وسُبُلِهم! ويعلم الله أنهم ليسوا إلا حشرات سامة، تحارب السَّعادة والبُلَهْنِيَّة (1) ، وتمزِّق أشلاء الإنسانية بسُمِّها النَّاقع، وشرها المستطير، وأن محدثاتهم لا ضرَّ على الدين من طعنات ألدّ أعدائه، وأجلب للشرور إليه من أشد مناوئيه.
أجل! فإنه لولا محدثاتهم المخزية التي شوَّهوا بها الدِّين، وتفهيمهم الدِّين للناس تفهيماً مقلوباً لما تجرَّأ أحدٌ على الطَّعن فيه، ولما خسر كل يوم عدداً من أبنائه غير قليل.
وليس ما يرتكبه هؤلاء جهاراً، ليلاً ونهاراً، من ضروب الموبقات، ويجرأون عليه من مقاومة المصلحين جهلاً وعداوناً بضروب الوسائل، بخافٍ على أحد، وقد كنتُ إخال أن للعراق النَّصيبَ الأوفر، والحظَّ الأكبر، من هؤلاء المبتدعة، حتى إذا كتبتْ الرِّحلة لي في هذه الأيام إلى بلاد الشام، ووقفت عن كثب على أحوال قادتهم، واطّلعتُ على بعض ما لهم من المؤلفات في الدَّعوة إلى حشوهم، والتَّهويل على المصلحين؛ دهشتُ مما رأيت، وعجبتُ لانقياد العامَّة لهم وتألُّبهم على كل مَنْ يحضّونهم على مناهضته من رجال الإصلاح الدِّيني والعلمي، إنْ حقاً، وإنْ باطلاً، حتى كأنَّ الشاعر (2) العربي قد قصدهم بقوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النَّائبات على ما قال برهانا!
ومن جملة الأمور التي وقفتُ عليها:
(1) الرَّخاء وسَعَة العيش.
(2)
وهو من شعراء الحماسة.
أنَّ عالماً من رجال الإصلاح سُئل عن (حكم الصّياح في التَّهليل والتكبير، وغيرهما أمام الجنائز) ، فأفتى بأنه «مكروه تحريماً، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلاً بآية قرآنية، وحديث صحيح، وأقوال الفقهاء» ، وسأل هذا المستفتي عن السؤال نفسه رجلاً آخر ينتمي في الظَّاهر إلى العلم، فأجاب بالسَّلب، ونفى ما قرره الأولُ نفياً رجماً بالغيب، وتهجُّماً على الحقِّ بقول الزور، ولم يكتفِ بذلك وحده، بل تجاوز حدودَ الأدب والإنصاف، ورمى الرَّجلَ بالزَّيغ والضَّلال، وأسند إليه ما لم يقل به، ولم يجر به قلمه، شأن أصحاب الهوى والإفك، وأن في قصة الإفك (1) لعبرة لقوم يعقلون.
إنّ هذه المسألة، وكذا مسألة المولد النبوي، ونظائرها؛ لمن الأمور البديهية، التي لا يحسن بمنتمٍ إلى العلم، وشادٍ شيئاً من الفقه، أن يُنازع أو يختلف فيها، ومن نازع فقد أعرب عن جهلٍ عريقٍ، وفَهَاهَة باقلية (2) ، وجهالة غبشانية!
فقد أجمعتْ كلمةُ المحقِّقين من السَّلفِ والخلفِ على إنكار هذه البدع، التي لم يُنَزِّل الله بها من سلطان، ولم يختلف منهم قط اثنان.
(1) انظرها مع تخريج طويل لها في «الحنائيات» (رقم 243) مع تعليقي عليه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(2)
الفَهَاهة: العِيّ، ومن أمثلة العرب:(أعْيا من باقل) ؛ و (باقل) : رجل من إياد.
قال أبو عبيدة: باقل رجل من ربيعة، بلغ من عَيِّه أنه اشترى ظبياً بأحَدَ عشر درهماً، فمرّ بقوم، فقالوا له: بكم اشتريتَ الظبي؟ فمدَ يديه، ودَلَع لسانه؛ يريد: أحد عشر. وانظر «مجمع الأمثال» (2/388-389) .
وإنَّ فيما ساقه الأستاذان الجليلان: الشَّيخُ كامل القصاب، والشَّيخُ عزُّ الدين القسام، من الأدلة الشَّافية، والنُّقول الوافية، عن فطاحل علماء المذاهب الأربعة في رسالتهما «النقد والبيان في الردّ على خزيران» -الذي أعرب عن مبلغ علمه، وفهمه للدين- لغُنْيَة عن سرد ما نعرفه من أقوال المحققين في هذه المسائل، وعسى أن يتروَّى خزيران وشيخُه في رسالة الفاضلين، فيستعينا بها على الرُّجوع إلى الحقِّ، ويعلنا للناس خطأهما المطلق؛ لئلا يزلَّ معهما من يزلّ ممن يحسِّنُ الظَّنَّ بهما، ويرجع في فهم أمور الدين إليهما
…
!
على أنَّ الجدال في مثل هذه المسائل البسيطة (1) ، أصبح في هذا العصر
…
-عصر المسابقة والمباراة، عصر الصِّناعات والمخترعات-، ضرباً من المضحكات، التي يخجل أن يفوه بها عاقلٌ. وإنني لأعتقد أنَّ الأستاذين الهمامين: القصاب والقسام -وهما هما- ما كانا ليبحثا في هذه المسألة، ويؤلِّفا لها رسالةً، لولا وجوب نصرة الحقّ، ودحر شُبه المضلِّين في الدِّين.
سدَّد الله خطوات الجميع، ووفَّقنا إلى ما فيه خير الأمة، والسلام على من اتَّبع الهدى.
(1) نبّهنا في التعليق على (ص 26) خطأ استخدام هذه الكلمة.
في10 المحرم سنة 1344هـ
…
نزيل دمشق: محمد بهجة الأثري (1)
(1) هو محمد بهجة بن محمود بن عبد القادر المعروف بالأثري، ولد عام 1904م في بغداد، وتعلم مبادئ القرآن والكتابة على امرأة كانت تعلم الصبيان في حيه، ثم قرأ القرآن في كتّاب آخر، فأتم قراءته وهو ابن ست سنوات، لقبه الإمام الآلوسي بالأثري؛ لشدّة ولعه بالآثار (الحديث الشريف) ، تنقّل في عدة مناصب، آخرها: انتخابه عضواً في المجلس الأعلى الاستشاري بالجامعة الإسلامية في المدينة النبويّة، ونال عدة أوسمة، وله عدة مؤلفات؛ منها:«أعلام العراق» ، «تاريخ مساجد بغداد» (تهذيب) ، «المجمل في تاريخ الأدب العربي» ، «المدخل في تاريخ الأدب العربي» ، وغيرها. ترجمته في:«موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين» (1/182-183) وفيه ترجمته بخطه، مجلة «المورد» (المجلد الرابع والعشرون/العدد الثاني/1417هـ - 1996م/عدد خاص عنه) -وفي أوله (ص 4-16) :(سيرة العلامة الأثري بقلمه) -، وللباحث محمود المشهداني رسالة ماجستير بعنوان:«محمد بهجة الأثري: حياته وشعره» ، نالها من جامعة القاهرة، ولحميد المطبعي «العلامة محمد بهجة الأثري» ، طبع عن وزارة الثقافة بالعراق، سنة 1988م، وللمجمع العلمي العراقي كتاب «محمد بهجة الأثري» ، فيه:
1-
الأثري المتربي والمربي/لعبد العزيز البسام (ص 23-115) .
2-
الأثري
…
الإنسان والشاعر/لأحمد مطلوب (ص 116-152) .
3-
الأثري والبحث اللغوي/لحسام النعيمي (ص 153-187) .
4-
الأستاذ الأثري والتاريخ/لصالح العلي (ص 188-198) .
5-
الوحدة الروحية في شعر الأثري/لمحمود الجادر (199-241) .
6-
الأثري ملامح من سيرته ومشاركاته في المجامع والجامعات العربية/ لعدنان الدوري (ص 241-425) .
7-
ثبت مؤلفات الأثري/لعبد الزهراء غياض (ص 426 إلى آخر الكتاب) .
وللشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في «ذكرياته» (3/118، 257، 271، 272، 280، 287، 288، 299 و4/35، 36، 62، 64، 117 و5/306) شذرات حسنة عن حياته -رحمه الله تعالى-.
3
بسم الله الرحمن الرحيم
الصِّياح بالذِّكر أمام الجنائز، والمولد، والتراويح
ليست مسألة الذِّكر والجنائز والتَّراويح مما ينبغي فيه الاجتهاد فيختلف فيه، أو يكون اجتهاد المجتهدين فيه موافقاً بعضه لبعض، وإنما هي من العبادات التي أكملها الله -تعالى- بالنُّصوص في كتابه، وعلى لسان خاتم أنبيائه ورسله، فلا اجتهاد فيها إلا ما يتعلّق بالإيقاع على الوجه المشروع، وهو ما سماه الأصوليون بتحقيق المناط؛ كالاجتهاد في القبلة، على أن الله تبارك وتعالى أكمل الدِّين الإسلاميَّ كلَّه، حتى قواعد الأمور الاجتهادية، وهي أكثر القضاء (1) والسياسية والحرب، لذا قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز:«تحدث للنَّاس أقضية، بحسب ما يحدث لهم من الفجور» (2) .
(1) كذا في الأصل!
(2)
نقله ابن رشد في «فتاويه» (2/761) ، وابن حزم في «الإحكام» (6/109) أو (6/831 - ط. الأخرى) ، والقرافي في «الفروق» (4/251) في (الفرق التاسع والستون والمئتين) عن العز بن عبد السلام، وعنه الشاطبي في «الاعتصام» (1/49، 301، 2/277 - بتحقيقي) ، وشكك في صحة نسبتها إليه في (1/312 - بتحقيقي) ، وكذا طعن ابن حزم في «الإحكام» (6/831) بهذا الأثر وصحته، قال عقبه:«هذا من توليد من لا دين له، ولو قال عمر ذلك لكان مرتداً (!!) عن الإسلام، وقد أعاذه الله من ذلك، وبرأه منه، فإنه لا يجيز تبديل أحكام الدين إلا كافر» ، وتعقبه العلامة أحمد شاكر بقوله:«هذه كلمة حكيمة جليلة، لا كما فهم ابن حزم، فإن معناها أن الناس إذا اخترعوا ألواناً من الإثم والفجور والعدوان استحدث لهم حكامهم أنواعاً من العقوبات والأقضية والتعزير -مما جعل الله من سلطان الإمام- بقدر ما ابتدعوا من المفاسد، ليكون زجراً لهم ونكالاً» . انظر -لزاماً-: «شرح ابن ناجي على الرسالة» (2/276) ، و «فتاوى محمد بن إبراهيم» (3/72-73) .
هذا كتاب الله -تعالى-، وهذه دواوين سنة خاتم رسله؛ من الوضوح بمكان في مثل مسألة الذِّكر والجنائز والتّراويح وغيرها، فليس في هذين الوحيين الثقلين هذه الطرق الصوفية بالبداهة، سواء منها عهد الشيخ لمريده أم الاجتماع، وكذا الصياح، ولفظ الجلالة وحده فضلاً عن لفظ «آه» والرقص، وغير ذلك مما هو معروف مشهور. وقد كانت مشيخة الأزهر الشريف الجليلة سئلت عن لفظ:«آه» ، فأفتت بمنعه، والإجماع العلمي من أهله المجتهدين قائم على منعه، ومنع إفراد لفظ الجلالة، إذ العبادات كلها لا تصح إلا بالكلام المفيد.
وكذا الجنائز مما لم تزل كتب الفقه واضحة كالشمس في رابعة النهار في بيان حكمه الشرعي، فضلاً عن نطق كتاب الله -تعالى- وسنة رسول الناس كافة صلى الله عليه وآله وسلم بحكمه الشرعي، ومن أحكام الجنازة الصَّريحة: أن لا يعجِّل السَّائرون بها في سيرهم، ولا يتأنوا فيحاكوا بعض الملل، بل يكونوا فيها وسطاً، كسائر الأمور الشرعية (1)، كما هو نصُّ القرآن الحكيم الذي يستفاد منه جداً في قوله -تعالى-:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] .
إنَّ الأمة الإسلامية ليست هي دنيوية مادية، وليست هي -أيضاً- زاهدة في الدنيا كلَّ الزهد، بل هي وسط بين الدنيا والآخرة، إذ الإنسان روح وجسد، فمصالح الدُّنيا للثاني، ومصالح الآخرة للأول، لذا لا يمكن في العالم الإنساني لأحدٍ أن يقوم بالحقوق الإنسانيَّة -شخصيَّة كانت أم عموميَّة- حقَّ القيام سوى المسلم.
(1) الأدلة والنقول كثيرة شهيرة فيما استنكره صاحب هذه السطور رحمه الله، وفي عباراته غيرة محمودة، وإجمال حسن، إذ المقام التأييد والتعليق بما لا يتحمل الإطالة، وانظر الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية في تأييد (الوسطية) في رسالة السخاوي
…
رحمه الله: «الجواب الذي انضبط في لا تكن حلواً فتسترط» ، وهي مطبوعة بتحقيقي، ولله الحمد والمنّة.
وأمَّا التراويح فالاختلاف في عدد ركعاتها إنما هو اختلاف في روايات أحاديثها بالبداهة (1) ، ولا تنبغي المشادَّة فيها ألبتة، بل أرى أنها من الأمور الثانوية (2) ، وليصلِّها من شاء على أيّ كمية منها (3) ، وما أهلك المسلمين إلا أهواؤهم، حتى تناول اختلاف العلماء منهم أموراً كان اختلافهم فيها لفظياً، وأموراً وضح أنَّ اختلافهم فيها كان من أمرين هما من الدَّاء الشديد بمكان؛ وهما:
الفلسفة التي نقلت بما لها وما عليها من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية.
والأمر الآخر: هو النَّعرة المذهبية، وهذه الأمور هي كخلق الأفعال مما هو معروف.
(1) وقد حققنا ذلك في التعليق على الصفحات (75-79، 83-87) ، فانظرها غير مأمور.
(2)
لو قال: الخلافية، لكان أجود، والخلاف الذي يمتد بين المحققين على اختلاف الأمصار والأعصار من أمارات الخلاف السائغ والمعتبر، وأقوى دليل للمتوسعين: العمل الموروث، على ما بيَّن الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله في كتابه «التراويح، أكثر من ألف عام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم» ، والله الموفق.
(3)
لعبد الرحمن بن عبد الكريم الزبيدي الشافعي (ت 975هـ) رسالة محفوظة في دار الكتب المصرية [354 مجاميع] بعنوان «إقامة البرهان على كمية التراويح في رمضان» . انظر «فهرس دار الكتب» (1/498) .
وأما المولد فلا نزاع قط في أن أول من أحدثه صاحب إربل، في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس، كما في «تاريخ ابن خلكان» (1) ، وهذه دواوين السنة النبوية فليس فيها إشارة دالة على ذلك، لأننا -نحن المسلمين- منهيُّون عن تقليد غيرنا إلا في الأمور الدُّنيوية الصَّرفة، بشرط أن نتبيَّن حقائقَها، فلو كان المولد مطلوباً -ولو على جهة الاستحسان- لفعله أهلُ القرون الثَّلاثة الأُول، الذي شهد لهم رسولُ العالمين بالخيرية (2) ، على أنّ المولد صبغ بالصَّبغة الشَّرعية إذ داوم النَّاس على يومه التاريخي، وإن اختلفت رسائله المؤلفة، فضلاً عما في كثير جداً منها (3)
(1)(1/437) ، ومضى الحديث عنه مفصلاً، انظر (ص 113-120) .
(2)
إشارة إلى حديث صحيح، مضى ذكره وتخريجه في التعليق على (ص 117) .
(3)
منها «مولد العروس» المنسوب كذباً لابن الجوزي، وكذا شرحه «فتح الصمد العالم على مولد أبي القاسم» أو «البلوغ الفوزي في بيان ألفاظ مولد ابن الجوزي» المطبوع في بولاق سنة 1292هـ، وقد نسبه الأستاذ العلوجي في «مؤلفات ابن الجوزي» (ص 242) للنووي! قلت: ليس كذلك، فهو دخيل على يحيى بن شرف، وإنما هو لمحمد بن عمر النووي الجاوي، ألفه سنة (1294هـ - 1877م)، وانظر -لزاماً-: كتابي «كتب حذر منها العلماء» (2/303) ، و «كتب ليست من الإسلام» (ص 47-60) للأستاذ محمود مهدي الاستانبولي، وكتابي «الهجر في الكتاب والسنة» (ص 183 - الهامش) ..
من القصر على ذكر الجمال، وأمور أكثرها ليس في كتب الحديث الشريف الصحيحة عند رجال الجرح والتعديل، والقليل من تلك الرَّسائل فيه السِّيرة النبوية الكريمة، ولكن هذه يسيرة جداً، على أنَّ من وازن بين يوم الولادة، ويوم البعثة، حدّثته نفسه أنّ الثاني أفضل من الأول، فتحدو به إلى العناية به، ولكنه إذا أعار وجوده لفتة طيبة إلى كتب الحديث الصحيحة، رأى فيها أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه -رضوان الله عليهم- لم يتخذوا يوم البعثة عيداً ألبتة. ومن الأمور المعلومة بالبداهة في الإسلام أنَّ ذكرى رسول العالمين -عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التَّسليم- هي من القربات المباركة إلى الله -تعالى- وحده، فهي مطلوبةٌ، ولكن في أي وقت كان، بدرس سيرته صلى الله عليه وآله وسلم للاقتداء به (1) .
ثم إنَّ البدعة الدِّينيَّة: إمَّا أن تكون اختراع عبادة، أو شعار ديني لا أصل لهما، وإمَّا أن تكون تخصيصاً لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة، لم يخصِّصها بها الشَّارع، ومن هذا النَّوع عدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب (2)، وصلاة ليلة النصف من شعبان (3) من البدع المذمومة. قال النووي في «المنهاج» (4) : وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان، وقد سمى الشَّاطبيُّ هذا النَّوع بالبدع الإضافيَّة، وسمَّى النَّوعَ الأولَ البدع الحقيقية، ولْيرجع إلى تفصيله هذا في كتابه «الاعتصام» (5) .
(1) الأحسن من هذا -عندي- القول بسنيّة صيام الاثنين؛ لأنّ النبي s ثبت عنه قوله في سبب صيامه: «ذلك يوم ولدت فيه» .
(2)
انظر ما قدمناه عنها (ص 123، 128) .
(3)
انظر ما قدمناه عنها (ص 125) .
(4)
كذا في «فتاويه» (40) جمع تلميذه ابن العطار، و «المجموع» (4/56) ، ونقله عنه ابن همات في «التنكيت» (ص 96) ، ولم أظفر به في «المنهاج» للنووي!
(5)
انظره (1/287-289 - بتحقيقي) .
فما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشَّارع، يؤتَى بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه بين عبادات يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو بعضه مباح، وبعضه محظور. فخلط العبادات الدِّينية باحتفالات الزِّينة واللهو، وجعل ذلك عملاً واحداً عن باعث ديني، هو الذي يجعل مجموع تلك الأعمال من قبيل الشَّعائر الدينية، ويوهم العوامَّ أن تلك العادات -وكذا العبادات المبتدعة في هيئتها وتوقيتها وعددها- من أمور الدين المشروعة بهذه الصفة ندباً أو وجوباً.
وصفوة القول: أنّ الذِّكر نفسه أمام الجنازة، والصِّياح به، والمولد بالكيفية المشهورة ليست من البدع الحسنة قط؛ لأنَّ الله -تعالى- أكمل الدِّين، وأجمعت الأمةُ على أن أهل الصَّدر الأول أكملُ الناس إيماناً وإسلاماً، وأنَّ كلَّ بدعة ليست من هذا القبيل، كالمنافع الدُّنيوية، والوسائل التي يقوى بها أمر الدين والدنيا؛ كالمدارس، والمستشفيات، والملاجئ الخيرية، التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها، فإنها تعد بدعةً حسنة.
والتّحقيق: أنَّ هذه لا تسمَّى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم البدعة لغةً، فليس لأحدٍ كائناً من كان أنْ يخترعَ في الدِّين نفسه شيئاً.
وهذا دين الله الإسلام الأعلى بيَّن أيما بيان في كتاب الله وسنة خاتم رسله، وكامل لا يحتاج إلى زيادة، كما لا يصح النّقص منه. فمصالح الإنسان الروحية والبدنية تامة فيه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] .