الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة وأرجم شيطانه بأحجارها فيخْنَس ثم يخسأ ثم يُدبر فاراً منهزما ً فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان وأظن القارئ لم ينسى أني سألته ذلك في المرة الأولى فلم يدعوا لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله فقلت يا رسول الله: أدع الله أن يختم لي بالإيمان فقال لي: أدع أنت وأنا أؤمن على دعائك فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين وكان رافعا يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون والرؤيا تبشر ولا تغُر وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدَّمت ذكرها ولم يدع لي فيها عشرون سنة
وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في المرة الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
سبب خروجي من الطريقة التجانية
لقد كنت في غمرة عظيمة وضلال مبين وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة وكان الشيخ عبد الحي الكتاني عدوا ً للطريقة التجانية لأنه كان شيخا رسميا للطريقة الكتانية وإنما قلت رسميا لأن أهل سلا أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني مؤسس الطريقة الكتانية لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي ويقولون أن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضا ً والذي حدثني بذلك العالم الأديب النبيل الشيخ عبد الله بن سعيد السلاوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ عبد الكبير الكتاني وكان يُعادي أخاه عبد الحي عداوة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مرَّ بنا الشيخ عبد الحي في وَجْدَة وأنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج قاضي القضاة بناحية وجدة معلما لولده الأديب السيد
عبد الكريم وابن أخيه السيد عبد السلام كنت أعلِّمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج فمدحت عبد الحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئا منها ولكنه أعجب بها أيما إعجاب حتى قال لي: عاهدني أنك إذا قدمت " فاسًا" تنزل عندي ضيفا فعاهدته على ذلك ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده، وَوُلِد له في تلك الأيام ولد سماه عبد الأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئا وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا إليها خلقا كثيراً وبعد ما أكلوا وشربوا
قاموا للعمارة التي تقدم ذكرها ودعوني أن أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع أهل طريقة أخرى ذكرهم وان لا يرقص معهم وفي كتاب" البغية " للشيخ العربي بن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق في أورادهم وأذكارهم وحاصلها أن شخصا تجانيا ذهب إلى زاوية أهل طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحي أن يبقى منفردا عنهم وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه شلل في فكَّيْه فبقي فاه مفغورا ولم يستطع سده حتى مات ولكن الجماعة ألوحوا علي وجروني جرا حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواها مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء وبعضها فيها لحية خطها الشيب وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحية فلم يكن موجودا في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جدا من حواشيهم وسمعت أصواتا تنبعث من تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آآ آوبعضها آه آه آه وبعضها أح أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعى أو الفرزدق حين طلَّق نوار فقال:
ندمت ندامة الكسعى لما
…
غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها
…
كآدم حين أخرجه الضرار
وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئا حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقدا أن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف وأنه لا ينبغي لعاقل
أن يتمسك بها فقلت له والطريقة الكتَّانِية التي أنت شيخها فقال لي كل الطرائق باطلة وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتُسَخِّرهم وتَستعبدهم، قال أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقها في مصالح لا ينفقونها فيها ثم قلت له: ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها، قال لي ادعاء كل من الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما وعدم تعظيم منهما للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تُكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع كل هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوبا أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون على الباب ليتلقوه فقلت إذن أنت لا تعتقد صحة طريقتك فقال لا أعتقدها أبدا وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل وأزيدك على ذلك أن اعتماد طريقتكم على كتاب "جواهر المعاني" الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبد الله المدفون بكذا وكذا بفاس وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من جوهر المعاني مسروقا كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته وبعد أيام كنت جالسا عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي هلْ اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت لا، فقال لي هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن
في طريقته فقال لي طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب أن يقلدهم في كل ما يدَّعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به وكان قاضيا في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو (وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد)
…
أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي استجديه أي أطلب وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجديا أي طالبا مالا فلما
خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قراها فقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري أنت تعرف بيتنا، فقال نعم، قال فأت به على الساعة التاسعة صباحا فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشَّرَّاطين وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو يوم عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بنعيسى المكناسي وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب فيضربون طبولهم ومزاميرهم ويترنمون بأناشيدهم إلى إن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون ذكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيِّئا والدم يسيل منه وقد ملئوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمان وحتى في هذا الزمن فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلَاّ بعد مُضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا وقال إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة
العصر فرجعنا وقلت لصاحبي لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير فيما اختاره الله تعالى فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي. ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي إلى أين تذهب أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فأمكث فيه وبت هنا فقبلت دعوته وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه أذكر منهم الشيخ عبد السلام الصرغيني والشيخ المهدي العلوي وهو لا يزال في قيد الحياة أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون
من أهلها وكل منهم يحكي حكاية فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم جاءني شاب كان متمسكا بالطريقة الكتانية تمسكا عظيما فقال لي أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة فقلت وما دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطا بها فقال لي أنه أمس شرب الخمر وزني وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم وكانت بقية سُكر لا تزال مسيطرة عليه فهَمَّ أن يدخل الزاوية ويرقص معهم ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جُنب ولم يصلِّ شيئا من الصلوات في ذلك النهار إلا أن سُكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبد الكبير في صدر الحلقة والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص وكان
أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبلك فاقتديت به قال ولما دعاني خِفت خوفا شديدا وظننت أنه قد انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي ذلك أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعوا إليه وإلَاّ كيف يرضى عنِّي النبي صلى الله عليه وسلم ويُقبِّلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم قال فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتَّبع طريقة الكتاب والسنة. ولما رأيتهم يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت في نفسي هذا الذي كنت أخافه قد وقعت فيه فكيف الخلاص؟
وذكرت قول التجاني بن بابا الشنقيطي في منيته:
ومن يجالس مبغض الشيخ هلك
…
وضل في مهامه وفي حلك
وشدد النهي لنا الرسول
…
في ذلك فلتعمل بما أقول
والشيخ قال هو سم يسري يحل
…
من فعله في خسر
ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال: قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس فقمت فقال لي الشيخ إلى أين فقلت إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج وقال لي هل أَذِن لك الشيخ في