الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
(هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أبو الحسن والحسين ويكنى بأبي تراب وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته فاطمة الزهراء وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ويقال إنها أول هاشمية ولدت هاشمياً وكان له من الأخوة طالب وعقيل وجعفر وكانوا أكبر منه ، وله أختان ، وهما أم هاني وجمانة وكلهم من فاطمة بنت أسد. وكان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وكان ممن توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم. أسلم علي قديماً وهو ابن سبع سنين وقيل أكثر من ذلك، وهو أول من أسلم من الغُلمان وهاجر علي بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه ثم يلحق بهم فامتثل ما أمر به ، ثم هاجر وآخى الرسول بينه وبين سهيل بن حنيف ، وقد شهد علي بدراً وكانت له اليد البيضاء فيها،بارز يومئذٍ فغلب وظهر فيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيد بن الحارث وخصومهم الثلاثة عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. نزل قوله تعالى
{هذان خصمان اختصموا في ربهم} الحج الآية 19. وشهد علي أُحداً وكان على الميمنة ومعه الراية بعد مصعب بن عمير وقاتل قتالاً شديداً وقتل خلقاً كثيراً من المشركين. وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب وأحد شجعانهم المشاهير عمرو بن عبد ود العامري. وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وشهد خيبر وكانت له بها مواقف هائلة ومشاهد طائلة ، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم -قال:" لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله "(1) وفتح الله على يده وقتل مرحباً اليهودي. وشهد عمرة القضاء وفيها قال لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت مني وأنا منك "(2)، ولما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -إلى تبوك استخلفه على المدينة قال له: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي "(3) . ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان علي من جملة من غسله وكفنه.
(1) -متفق علية رواة البخاري في المغازي 4209-ومسلم في فضائل الصحابة 2405 نقلاً عن حاشية بيومي على البداية 7-222
(2)
- رواه البخاري في المغازي 4251. نقلاً عن حاشية محمد بيومي على البداية والنهاية 7-223
(3)
- رواه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة. نقلاً عن حاشية محمد بيومي على البداية والنهاية - 7/223
وولي دفنه ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضاً عليه وأحب الأشياء إليه. ولما توفيت فاطمة بعد ستة أشهر-وكانت تغضب بعض الشيء على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالأنبياء وأنهم لا يورثون، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظراً على الصدقة فأبي ذلك عليها، فبقي في نفسها شيء على أبي بكر، واحتاج علي أن يداريها بعض المدارة، فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق رضي الله عنهم، ولما توفي أبو بكر وقام عمر رضي الله عنه -في الخلافة كان علي من جملة من بايعه ولم طُعِن عمر وجعل الشورى في ستة أحدهم علي رضي الله عنه ثم قُدِم عثمان بن عفان للخلافة فسمع له علي وأطاع. ولما قتل عثمان عدل الناس إلى علي فبايعوه ، وقد امتنع علي من إجابته إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبدول وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا وجاءوا معهم بطلحة والزبير فقالوا له: إن الأمر لا يمكن بقاءه بلا أمير ، ولم يزالوا به حتى أجاب) (1) .
نواب الأمصار في هذه الفترة
(1) البداية والنهاية (7- 221 - 224) بتصرف
(لما تولى علي بن أبي طالب الخلافة كان على الكوفة أبو موسى الأشعر ي على الصلاة وعلى الحرب القعقاع بن عمرو وعلى الخراج جابر بن فلان المزني ، وعلى البصرة عبد الله بن عامر ، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد تغلب على محمد بن أبي حذيفة ، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان ، وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد بن وليد. وعلى قنسرين حبيب بن سلمة ، وعلى الأردن أبو الأعور ، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة ، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس ، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس ، وعلى قيسارية مالك بن حبيب ، وعلى همذان حبُيش وكان على بيت المال عقبة بن عمرو وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان متضمخ بدمه ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت عنه بيدها ، فقطعت مع بعض الكف فورد على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس ، وعلق الأصابع في كم القميص وندب الناس للأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه فتباكى الناس حول المنبر وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة والناس يتباكون حوله سنة وحث بعضهم البعض على الأخذ بثأره واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان ممن قتله من أولئك الخوارج: منهم عبادة بن الصامت وأبو الدر داء وأبو أمامه وعمرو بن عنسبة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني وعبد الرحمن بن غنم وغيرهم من التابعين ، ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة رضي الله عنهم وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا)(1) .
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة
(1) البداية والنهاية (7/ 226) بتصرف
(استهلت هذه السنة وقد ولى علي بن أبي طالب نواباً على الأمصار ، فولى عبد الله بن عباس على اليمن وولى سمرة بن جندب على البصرة وعمارة بن شهاب على الكوفة وقيس بن سعد بن عبادة على مصر وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية، فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير فقالوا: على أي شئ؟ قال على الشام فقالوا إن كان الذي بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان غيره فارجع ، وأما قيس بن عبادة فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان وكذلك أهل البصرة وانتشرت الفتنة وتفاقم الأمر وبعث علي إلى معاوية كتباً كثيرة فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان ثم عزم علي رضي الله عنه -على قتال أهل الشام وكتب إلى مصر والكوفة يستنفرهم للقتال وخرج من المدينة واستخلف عليها قثم بن العباس وجاء إليه الحسن بن علي فنهاه فلم يقبل منه ولم يبق شئ إلا خرج من المدينة قاصداً إلى الشام حتى جاءه ما شغله عن ذلك كله وهو ما سنورده)(1)
يوم النحيب وابتداء وقعة الجمل
(1) - البداية والنهاية 7/227-228 بتصرف
يقول ابن كثير: (لما وقع قتل عثمان رضي الله عنه بعد أيام التشريق وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين قد خرجن للحج في هذا العام فرارا من الفتنة وفرّ أصحابة من بني أمية وغيرهم إلى مكة ، واستأذن طلحة والزبير علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهم خلق كثير وجم غفير وقدم إلى مكة يعلى بن أمية من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة درهم. وقدم أيضاً عبد الله بن عامر من البصرة فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين فقامت عائشة رضي الله عنه تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان وجهز الناس يعلى بن أمية ، وكانت حفصة أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة فمنعها أخوها عبد الله من ذلك وسار الناس في صحبة عائشة في ثلاثة آلاف وأم المؤمنين تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر اشتراه يعلى بن أمية بمائتي دينار. وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع وتباكى الناس وكان ذلك اليوم يسمى بيوم النحيب وسار الناس قاصدين البصرة وكان الذي يصلي بالناس عبد الله بن الزبير والمؤذن مروان بن الحكم ومروا في مسير هم ليلاً بماء يقال له الحوأب فنبحتهم كلاب عنده فلما سمعت ذلك عائشة قالت ما اسم هذا المكان؟ قالوا الحوأب فضربت بإحدى يديها على الأخرى وقالت إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظنني إلا راجعة قالوا: ولم؟ قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه (ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب؟) ثم ضربت عضد بعيرها وأناخته وقالت ردوني ، ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب فأناخ الناس حولها يوماً وليلة وقال لها عبد الله بن الزبير إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب ، ولما اقتربت من البصرة كتبت إلى الأخنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس وذكرت لهم أنها جاءت للقيام بطلب دم عثمان لأنه قتل مظلوماً ونزلت أم المؤمنين قريباً من البصرة والتحق
بها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة ثم تحاجر الناس وجاء حارثة بن قدامه السعدي فقال: يا أم المؤمنين، والله لقتل عثمان أهون علي من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح، وأقبل حكيم بن جبلة. وكان على خيل عثمان بن حنيف فانشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وحجز الليل بينهم فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال فاقتتلوا قتالا شديداً إلى أن زال النهار وقتل خلق كثير من أصحاب عثمان بن حنيف وكثرت الجراح في الفريقين وبعد شئ من الهدنة المؤقتة بعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب فقتل منهم نحو أربعين رجلاً ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير ، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها ثم قام طلحة والزبير بتولية بيت المال لعبد الرحمن بن أبي بكر وقسموا أموال بيت المال في الناس وفضلوا أهل الطاعة فحمى لذلك جماعة من قوم عثمان وأنصارهم ، فركبوا في جيش قريب من ثلاثمائة ومقدمهم حكيم بن جبلة وهو أحد من باشر قتل عثمان رضي الله عنه ، فبارزوا وقاتلوا ، فضرب رجلٌ رِجلُ حكيم بن جبلة فقطعها ثم مات حكيم قتيلاً ومعهُ نحو من سبعين من قتلة عثمان وأنصارهم أهل المدينة. وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليالي بقين من الربيع الأخر سنة ست وثلاثين) (1) .
مسير علي بن أبي طالب إلى البصرة بدلاً من الشام ووقعة الجمل
(1) - البداية والنهاية (7/ 228 - 231) بتصرف
(خرج علي رضي الله عنه من المدينة في نحو تسعمائة مقاتل ، وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق وقال لقد نهيتك فعصيتني تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك، فلما عزم على المسير قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين أي شئ تريد؟ وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه ، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم قال: فنعم إذاً، ولما اقترب علي من الكوفة وجاءهُ الخبر بما وقع من الأمر على جليته من قتل ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة وأخذهم أموال بيت المال ، ولما بلغ ذي قار أتاه عثمان بن حنيف ماشياً وليس في وجهه شعرة فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني إلى البصرة وأنا ذو لحية وقد جئتك أمرداً فقال أصبت خيراً وأجراً، ويقال إن علياً بعث الأشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة واستجاب الناس للنفير فخرج مع الحسن تسعة آلاف ويقال اثنا عشر ألف رجل ورجل واحد فاجتمعوا عند علي بذي قار وكان من المشهورين من رؤساء من انضاف إلى علي القعقاع بن عمر وسعيد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب وزيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وحجر بن عدي وأمثالهم ثم بعث علي بن أبي طالب القعقاع بن عمرو إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال: أي أماه! ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضر عندها. فحضروا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إنما جاءت للإصلاح بين الناس فقالا ونحن كذلك ، قال: فاخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ قالا: قتلة عثمان. فإن هذا إن تُرِك كان تركاً للقرآن فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة وهم ستمائة رجل فغضب لهم
ستة آلاف فاعتزلوكم. وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعهُ ستة آلاف ،فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنهُ يترتب عليه مفسدة هي أربي منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله فعلي بن أبي طالب أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم فقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين وأشرف القوم على الصلح ففرح هؤلاء وهؤلاء وقام علي في الناس خطيبا فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة إلى أن قال إني مرتحل غداً فارتحلوا معي ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي وشريح بن أوفى وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء وسالم بن ثعلبة وغلاب بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد ثم قال ابن السوداء قبحه الله: يا قوم إن عيركم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون وبهذا التفاهم اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجاد وبات الناس بخير ليلة وبات قتلة عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلاً ، وبيتونا وغدروا بنا وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان وجالت الشجعان وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً. والتف على عائشة ومن معها
نحواً من ثلاثين ألفاً ، فإنا لله وإنا إليه راجعون وأصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي: ألا كفوا ، ألا كفوا فلا يسمع أحد. وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر ، وقد قتل مع هذا خلق كثير جداً ، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن: يا بنيّ ليت أباك مات قبل هذا بعشرين عاماً فقال له: يا أبتي لقد كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا.ثم تقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفاً وقالت: دعهم إليه وذلك أنه حين أشتد الحرب وحمي القتال ورجع الزبير وقتل طلحة رضي الله عنهم. وكان عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد فلما رأوا كعب بن سوار رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجعلت الحرب تأخذ وتعطي فتارةً لأهل البصرة وتارةً لأهل الكوفة وقتل خلق كثير وقطع يد سبعين رجلاً وهى آخذة بخطام الجمل وجعل أولئك يقصدون الجمل وقالوا: لا يزال الحرب قائماً مادام هذا الجمل واقفاً وأخذ زمام الجمل بني ضبة فكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل يقوم غيره حتى قتل منهم أربعون رجلاً قالت عائشة: مازال جملي واقفاً معتدلاً حتى فقدت أصوات بني ضبة ثم أخذ الخطام سبعون رجلاً من قريش وكل واحد يقتل بعد صاحبه فكان منهم محمد بن طلحة المعروف بالسجاد وأخذ الخطام عمرو بن الشرف فجعل لا يدنو منه أحد إلا حطه بالسيف فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي ، واختلفا ضربتين فقتل كل واحد صاحبه ، وأحدق أهل النخبة والشجاعة بعائشة فكان لا يأخذ الراية ولا خطام الجمل إلا شجاع معروف فيقتل من قصده ثم يُقتل بعد ذلك وفقئت عين عدي بن حاتم الطائي ذلك اليوم، ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وجرح في رأسه جرحاً
شديداً، وجرح مروان بن الحكم أيضاً ثم جاء رجل فضرب الجمل على قوائمه فعقره وسقط إلى الأرض فسمع له عجيج ما سمع أشد منه ولا أنفذ منه ، ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وحمل هودج عائشة وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج من بين القتلى وجاء إليها أخوها محمد فسألها هل وصل إليك شئ من الجراح؟ فقالت: لا وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين وكان مجموع القتلى يوم الجمل من الفريقين عشرة آلف. خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم. وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم فطعن فيه السبئية وقالوا كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟ فبلغ ذلك علياً فقال أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟ فسكت القوم. ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد وسار معها علي مودعاً ومشيعاً أميالاً وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنه) (1)
وقعة صفين
(1) -البداية والنهاية (7- 232- 244) بتصرف
(روى الإمام أحمد عن ابن سيرين أنه قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف لم يحضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين ، وقال الإمام أحمد حدثنا أمية بن خلد قال لشعبة إن أبا شيبة روى عن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلاً ، فقال: كذب أبو شيبة والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت ، وقد قيل أنه شهدها من أهل بدر سبأ بن حنيف وكذا أبو أيوب الأنصاري قاله شيخنا العلامة ابن تيميه في كتاب الرد على الرافضة (1)
(1) - قلت (إن سبب تسميتهم بهذا الاسم لأنهم طلبوا من زيد بن علي بن الحسين بن علي البراءة من أبى بكر وعمر فأبى فقالوا: إذًا نرفضك. فمن ذلك الوقت سُموا الرافضة. وسميت شيعته الزيدية) . انظر العبر في خبر من غبر ج1/ 114
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة سار من البصرة إلى الكوفة فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير ونهاهم عن الشر ، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله وكان على همذان من زمن عثمان وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من زمن عثمان رضي الله عنه أن يأخذ البيعة على من هنالك من الرعايا ثم يقبلا إليه ففعلا ذلك. فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته قال جرير بن عبد الله أنا اذهب إليه يا أمير المؤمنين فإن بيني وبينه وداً ، فآخذ لك البيعة منه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته. فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان أو يسلم إليهم قتلة عثمان فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا ، وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الكوفة عازماً على الدخول إلى الشام واستخلف على الكوفة أبا مسعود ، وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضاً بنفسك وتهيأ أهل الشام وتأهبوا وخرجوا إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون َمقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتلقاهم أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي في مقدمة أهل الشام فتوافقوا ، ودعاهم زياد بن النضر أمير مقدمة أهل العراق إلى البيعة فلم يجيبوه بشيء فكتب إلى علي بذلك فبعث إليهم علي الأشتر النخعي أميراً وعلى ميمنته زياد وعلى ميسرته شريح ، وأمره أن لا يتقدم إليهم بقتال حتى يبدءوه بالقتال ولكن ليدعُهم إلى البيعة مرة بعد مرة ، فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوه ولا يقرب منهم قرب من يريد الحرب ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال
فلما كان صباح اليوم الثالث وبعد المناوشات التي حصلت في اليومين أقبل علي رضي الله عنه -في جيوشه وجاء معاوية- رضي الله عنه في جنوده فتواجه الفريقان وتقابلت الطائفتان فبالله المستعان.فتواقفوا طويلاً وذلك بمكان يقال له صفين وذلك في أوائل ذي الحجة ثم عدل علي رضي الله عنه فارتاد لجيشه منزلاً ، وقد كان معاوية سبق بجيشه فنزلوا على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفسحه فلما نزل علي نزل بعيداً من الماء وجاء سرعان أهل العراق ليردوا من الماء فمنعهم أهل الشام ، فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك. فعطش أصحاب علي عطشاً شديداً فبعث علي الأشعث بن قيس الكندي في جماعة ليصلوا إلى الماء فمنعهم أولئك وقالوا: موتوا عطشاً كما منعتم عثمان من الماء فتراموا بالنبل ساعة. ثم تطاعنوا بالرماح أخرى ثم تقاتلوا بالسيوف بعد ذلك كله، وأمد كل طائفة أهلها حتى جاء الأشتر النخعي من ناحية العراقيين وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين، واشتدت الحرب بينهم أكثر مما كانت ، ثم مازال أهل العراق يكشفون الشاميين عن الماء حتى أزاحوهم عنه وخلوا بينهم وبينه ثم اصطلحوا على الورود حتى صاروا يزدحمون لا يكلم أحد أحداً ولا يؤذي إنسان إنساناً وكان من أمراء علي على الحرب الأشتر النخعي وحجر بن عدي وشبيب بن ربعي وخالد بن المعتمر وزياد بن النضر وزياد بن حفصة وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس وقيس بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميراً فمن أمرائه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والأعور السلمي وحبيب بن مسلم وذي الكلاع الحمير ي وعبيد الله بن عمر بن الخطاب،وشرحبيل بن السمط وحمزة بن مالك الهمداني وربما اقتتل الناس في اليوم مرتين وذلك في شهر ذي الحجة بكامله. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عباس عن أمر علي له بذلك. فلما انسلخ ذي الحجة ودخل المحرم تداعى الناس للمتاركة لعل الله يصلح بينهم على أمر يكون فيه حقن دمائهم قال ابن جرير رحمه
الله: ثم لم تزل الرسل تتردد بين علي ومعاوية والناس كافون عن القتال حتى انسلخ عن المحرم من هذه السنة ولم يقع بينهم صلح فأمر علي بن أبي طالب يزيد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا ، وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فاعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي فنهض عند ذلك معاوية وعمرو بن العاص فعبيا الجيش ميمنة وميسرة وبات علي يعبي جيشه من ليلته فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي وعلى رجالاتهم عمار بن ياسر وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف وعلى رجالاتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة وعلى قرائهم سعد بن فدكي التميمي وتقدم علي إلى الناس وأمرهم أن لا يبدءوا واحداً بالقتال حتى يبدأ أهل الشام وأنه لا يذفف جريح ولا يتبع مدبر ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم، وبرز معاوية صبح تلك الليلة وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة الفهري وعلى المقدمة أبو الأعور السلمي وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجالاتهم الضحاك بن قيس والتقى الجيشان أول يوم صفر وكان ذلك يوم الأربعاء فاقتتلوا ذلك اليوم قتالاً شديداً ثم رجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض وتكافئوا في القتال ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق هاشم بن عتبة وأمير الشاميين يومئذ أبو الأعور السلمي فاقتتلوا قتالاً شديداً تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافئوا ثم خرج في اليوم الثالث وهو يوم الجمعة عمار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج إليه عمرو بن العاص في الشاميين فاقتتل الناس قتالاً شديداً وحمل عمار على عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن النضر الحارثي وكان
على الخيالة رجلاً فلما تواقفا تعارفا فإذا هما أخوان من أم فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه،وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه وخرج في اليوم الرابع وهو يوم السبت محمد بن علي وهو ابن الحنفية، ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر فاقتتل الناس قتالاً شديداً وبرز عبيد الله بن عمر فطلب من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه فلما كادا أن يقتربا قال علي:من المبارز؟ قالوا محمد ابنك وعبيد الله ، فيقال أن علياً حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله فقال له:تقدم إلي قال لهُ: لا حاجة لي في مبارزتك، فقال: بلى، فقال: لا! فرجع عنه علي وتحاجز الناس يومهم ذلك ثم خرج في اليوم الخامس وهو يوم الأحد في العراقيين عبد الله بن عباس وفي الشاميين الوليد بن عقبة واقتتل الناس قتالاً شديداً ويقال إن ابن العباس قاتل يومئذ قتالاً شديداً بنفسه رضي الله عنه ثم خرج في اليوم السادس ، وهو يوم الاثنين. وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالاً شديداً أيضاً وتصابروا ثم تراجعوا ثم خرج الأشتر النخعي في اليوم السابع وهو يوم الثلاثاء وخرج إليه قرنُهُ حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالاً شديداً أيضاً ولم يغلب أحد أحداً في هذه الأيام كلها وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم أن علياً رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقاً حق ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة فمن ذلك أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز؟ فبرز إليه علي فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي هل من مبارز فبرز إليه الحارث ابن وداعة الحميري فقتله، ثم برز إليه داود بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله ، فتلا علي قوله تعالى "والحرمات قصاصٌ ". البقرة (194)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال: إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو: يا أبتي أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول لعمار " ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا؟ فقال معاوية: يزال يأتينا بهنة بعد هنة أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به) (1) .
وثبت في الصحيحين عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: " يأيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا فإنا لا نسد منه خصما إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له"(2)
ليلة الهر ير
(1) - البداية والنهاية 7- 250 -267 بتصرف
(2)
-رواه البخاري في الجزية والمودعة 3181 ومسلم في الجهاد والسير 1785 نقلا عن حاشية بيومي 7- 264
يقول ابن كثير: (قال ابن جرير الطبري: وقد ذكر أن عماراً لما قتل قال علي لربيعه وهمدان: أنتم درعي ورمحي فانتدب له نحو اثنا عشر ألفاً وتقدمهم علي ببغلته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية إلى أن قال ثم قدم على ابنه محمداً في عصابة كثيرة من الناس فقاتلوه قتالاً شديداً ثم تبعه في عصابة أخرى فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله وقتل من العراقيين خلق كثير أيضاً وطارت أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها. رحمهم الله ، ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها وهي من أعظم الليالي شراً بين المسلمين وتسمى هذه الليلة ليلة الهر ير وكانت ليلة الجمعة، تقصفت الرماح ونفذت النبال وصار الناس إلى السيوف وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل ويتقدم إليهم يأمر بالصبر والثبات وهو أمام الناس في قلب الجيش وعلى الميمنة الأشتر تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة. وعلى المسيرة ابن عباس والناس يقتتلون من كل جانب فذكر غير واحد من علمائنا علماء السير أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت وبالنبال حتى فنيت وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهم يهمر على الأخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه راجعون ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحي النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار)(1)
رفع أهل الشام المصاحف
(1) - البداية والنهاية (7/ 269) بتصرف
(فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه. ويروى أن علياً قال: عباد الله أمضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهم من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا علي أجب كتاب الله إذ دعُيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان فقال علي، فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم ، قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك ويكف عن القتال فبعث إليه علي ليكف عن القتال، فأقبل الأشتر إلى علي وترك القتال فقال: يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وضنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، وسنة من أنزلت عليه. فلا تجيبوهم أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح ، قالوا: لا قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر، قالوا إذاً ندخل معك خطيئتك. ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حقاً فاستمروا عليه ، وإن كان باطلاً فاشهدوا لقتلاكم بالنار فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبداً ، ونحن قاتلنا هؤلاء في الله، وتركنا قتلهم لله، فقال لهم الأشتر:خُدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم. يا أصحاب السوء كنا نضن صلاتكم زهادة الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله. فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم بربانيين بعدها، فابعدوا كما بعدوا القوم الظالمون، فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم وجرت بينهم أمور طويلة ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين فإن الناس تفانوا في هذه المدة ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة إلى آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة
الهر ير. كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم يفر أحد عن أحد ، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفاً. خمسة وأربعون من أهل الشام وخمسة وعشرون من أهل العراق ، واختلفا في مدة المقام بصفين فقال سيف بن عمر سبعة أشهر أو تسعة أشهر وقيل أقل من ذلك والله أعلم وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفساً، ويقول ابن كثير هذا كلهُ ملخص من كلام ابن جرير، وابن الجوزي في المنتظم وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. وذكر أهل صفين فقال: كانوا عرباً يعرف بعضهم بعضاً في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام فتصابروا واستحيوا من الفرار وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم. وقال الشعبي: هم أهل الجنة. لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد) (1)
قصة التحكيم
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: قاصمة التحكيم (وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله وإذا لاحظتموه بعين المروءة دون الديانة. رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدمُ الدين وفي الأقل جهلٌ متين. والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط (2)
(1) - البداية والنهاية (7/ 270-275) بتصرف
(2)
-هو الإمام أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري، أحد أوعية العلم، ومن شيوخ الإمام البخاري. قال عنه ابن عدي: هو صدوق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة توفي سنة 240هـ. نقلاً عن حاشية محب الدين
والدار ُقطني أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين ألفاً أو تسعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفين واقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء فغلب أهل العراق عليه. ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ورفعت المصاحف من أهل الشام ودعوا إلى الصلح وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق فكان من جهة علي أبو موسى الأشعري، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً حسبما بيناه في كتاب " سراج المريدين " أرسله النبي صلى الله عليه وسلم -إلى اليمن مع مُعاذ وقدمه عمر وأثنى عليه بالفهم وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد.اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات، وغيره من الصحابة وكان أحذق منه وأدهى، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر.وقالوا. [يقصد الطائفة التاريخية الركيكة}
:إنهما لما اجتمعا بأذرُح من دومه الجندل وتفاوضا اتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرتُ فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من - عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده. فأنكر أبو موسى فقال عمرو ، كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف..
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهلُ المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع وإنما الذي روى الأئمة الثقاة الإثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر في عُصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه ، وعزل عمرو معاوية ، وذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر لما عزل عمرو معاوية جاء [ابن حضين بن المنذر] فضرب فسطا طه قريباً من فسطاط معاوية فبلغ نبؤه معاوية فأرسل إليه فقال إنه بلغني عن هذا [أي عمرو] كذا وكذا (1) فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه ، فأتيته فقلت اخبرني عن هذا الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا ،ووالله ما كان الأمر على ما قالوا (2) ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُستعن بكما ففيكما معُونة وإن يُستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما.....إلى أن قال ابن العربي: فهذا كان بدءُ الحديث ومنتهاه: فاعرضوا عن الغاوين، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين، وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين، وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد هلك من كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه. ودعوا ما مضى، فقد قضى الله ما قضى، وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعنيكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملاً، فإن الله لا يضيعُ أجر من أحسن عملاً. ورحم الله الربيع بن خثيم ت 64 هـ. فإنه
(1) - أي عزله علياً ومعاوية وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة
(2)
-- أي أنهما لم يعزلا ولم يوليا ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة
لما قيل له: قتل الحُسين قال اقتلوه؟ قالوا: نعم فقال " اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " الزمر الآية 46 ولم يزد على هذا أبداً. فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين والتسليم لرب العالمين) (1)
خروج الخوارج
(وذلك أن الأشعث بن قيس مر على ملأ من بني تميم فقام إليه عروة بن جرير فقال: أتحكمون في دين الله الرجال؟ وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل طوائف من أصحاب على من القراء وقالوا: لا حكم إلا لله فسموا المحكمية، وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه ورجع علي إلى الكوفة ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل من جيشه قريب من - اثنى عشر ألفاً - وهم الخوارج وأبوا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا بمكان يقال له حر وراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها فبعث إليهم علي رضي الله عنه -عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرهم وبقي بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه والمقصود أن هؤلاء الخوارج هم المشار إليهم في الحديث الصحيح عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) رواه مسلم برقم 1065 والحديث لهُ عدة طرق ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية. وهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام وفيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام، من تكفيرهم أهل الشام وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله) (2)
خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم علياً
(1) - العواصم من القواصم ص 172-180 بتصرف
(2)
-البداية والنهاية 7-275-276 بتصرف
(لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومه الجندل أشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، وتعرضوا لعلي في خطبه واسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن ، وذلك أن علياً قام خطيباً في بعض الجُمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه. فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله.
وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول: " ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر65- وروي أن علياً لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة. ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل،وإن الفراق لها وشيك،فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم مُحسنون " النحل 128/ فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم وإن الحق ما ذكرتم فولوا أمركم رجلاً منكم فإنه لابد لكم من عماد وسناد ومن راية تحفون بها وترجعون إليها فبعثوا إلى عبد الله بن وهب الراسبي وعرضوا عليه الإمارة فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت، واجتمعوا أيضاً في بيت زيد بن حصن الطائي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى " ياداودُ إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " ص.26
وقوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " المائدة 44- ثم بكى رجل منهم يقال لهُ عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس،وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين لهُ العاملين بأمره.وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟ ثم يعلق ابن كثير على هذه الرواية فيقول " قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم، وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين..واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك. فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان "ثم بلغ علياً أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فساداً وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسروه وامرأته معه وهي حامل فاقتادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم
وديارهم بهذا الصنع، فأرسل علي إلى الخوارج رسولاً من جهته وهو الحرب بن مرة العبدي فقال: أخبرلي خبرهم، واعلم لي أمرهم واكتب إلى به على الجلية فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه فلما بلغ ذلك علياً عزم على الذهاب إليهم أولاً قبل أهل الشام) (1) .
مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج
(بعث علي إلى الخوارج: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب يعني أهل الشام فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءكم فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوا من الأمر العظيم والخطب الجسيم فلم ينفع فيهم.
وكذلك أبو أيوب الأنصاري وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيؤا للقاء الرب عز وجل والرواح الرواح إلى الجنة وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية الأمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن فانصرف منهم طوائف كثيرون.
وكانوا أربعة آلاف فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي فزحفوا إلى علي فقدم علي بين يديه الخيل وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم ، وأقبلت الخوارج يقولون لا حكم إلا لله، والرواح الرواح إلى الجنة فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة وأخرى إلى الميسرة فاستغلبهم الرماة بالنبل ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول وقتل أمراؤهم عبد الله بن وهب ، وحرقوص بن زهير ، وشريح بن أوفي ، وعبد الله بن سخبرة السلمي قبحهم الله.
(1) -البداية والنهاية 7 /281- 285 بتصرف
ولما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم فقال علي: كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، وقال الهيثم بن عدي عن علقمة بن عامر قال: سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا قيل أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً فقيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا فهذا ما أورده ابن جرير الطبري وغيره في هذا المقام) (1) .
بعض الأحاديث النبوية الواردة في الخوارج
الأحاديث الواردة في صفات الخوارج وذمهم كثيرة جداً كما ذكرها ابن كثير في تاريخه ونظراً لأن المجال لا يتسع لذكرها اقتصر على ذكر ثلاثة أحاديث منها وهي: (1 - قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش وعبد الرحمن عن سفيان عن الأعمش بن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: قال علي: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلئن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يقول: "يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم " قال عبد الرحمن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قاتلهم عند الله يوم القيامة " وأخرجاه في الصحيحين من طرق عن الأعمش.
(1) -المصدر السابق ص285-287 بتصرف
2-
الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج قوم في آخر الزمان سفهاء الأحلام ، أحداث أو حدثاء الأسنان يقولون من خير قول الناس يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدوا تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجراً عظيماً عند الله لمن قتلهم ، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
3-
الحديث الثالث روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل قال: فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: " معاذ الله أن يتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا وأصحاباً له يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) (1)
صفة مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(1) - المصدر السابق 7-287-294 بتصرف
(عن ابن جرير الطبري وغير واحد من علماء التاريخ والسير أن ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري، والبرك ابن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم ، وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟ كانوا لا يخافون في الله لومه لائم. فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا؟ فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب وقال البرك وأنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا السبع عشر من رمضان ، فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها ، فبينما هو جالس في قوم من بني تيم الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة منهم يقال لها: قطام بنت الشنجة ، وقد قتل علي يوم النهروان أباها وأخاها وكانت فائقة الجمال مشهورة به وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله وخطبها إلى نفسه فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادماً وقينه وأن يقتل لها علي بن أبي طالب قال: فهو لك ووالله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجل من قومها يقال له وردان واستمال ابن ملجم قبحه الله رجلاً يقال له: شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة وهم ابن ملجم ووردان وشبيب وهم مشتملين على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة ويقول الصلاة الصلاة عباد
الله فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك وجعل يتلو قوله تعالى:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد "[البقرة: 207] ونادى علي: عليكم به وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله وذهب شبيب فنجا بنفسه ومسك ابن ملجم وقدم علي جُعده بن هُبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر وحمل علي إلى منزله وحمل إليه عبد الرحمن ابن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف - قبحه الله - فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى ، ثم قال علي: إن متُ فاقتلوه وإن عشتُ فأنا أعلم كيف أصنع به ، فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن متَ نبايع الحسن؟ فقال: لا أمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ولما احتضر علي جعل يكثر من قول لا إله إلا الله ولا يتلفظ بغيرها. وقد قيل إن آخر ما تكلم به " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"[الزلزلة: 7، 8] .
وأما صاحب معاوية - وهو البرك - فإنه حمل عليه وهو خارج إلى صلاة الفجر في هذا اليوم فضربه بالسيف وقيل بخنجر مسموم فجاءت الضربة في وركه ومسك الخارجي فقتل وجاء الطبيب فقال لمعاوية: إن جرحك مسموم فإما أن أكويك وإما أن أسقيك شربة فيذهب السم ولكن ينقطع نسلك فقال معاوية: أما النار فلا طاقة لي بها ، وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما تقر به عيني فسقاه شربة فبرأ من ألمه وجراحه وانقطع نسله وسلم رضي الله عنه ومن يومئذ عملت المقصورة في المسجد الجامع وجعل الحرس حولها في حال السجود فكان أول من اتخذها معاوية لهذه الحادثة.
وأما صاحب عمرو بن العاص وهو - عمرو بن بكر - فإنه كمن له ليخرج إلى الصلاة فاتفق أن عرض لعمرو بن العاص مغص شديد في ذلك اليوم فلم يخرج إلا نائبه للصلاة وهو خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر ابن لؤي وكان على شرطة عمرو بن العاص فحمل عليه الخارجي فقتله وهو يعتقده عمرو بن العاص ، فلما أخذ الخراجي قال: أردت عمراً وأراد الله خارجة ، فأرسلها مثلاً ، وقتل قبحه الله.
وعن جعفر بن محمد الصادق قال: صُلَّى عَلَى علِيَّ ليلاً ودفن بالكوفة وعمي موضع قبره ، ولكنه عند قصر الإمارة وقال ابن الكلبي (1)
(1) - تنبيه. الكلبي قال: عنه ابن تيميه في منهاج السنة 5/82-83 أثناء رده على أحد الروافض يقول شيخ الإسلام (......يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب الناس وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي ما ظننت أن أحدا يحدث عنه إنما هو صاحب سمر وشبه وقال الدارقطني هو متروك وقال ابن عدي هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ولا أعرف له في المسند شيئا وأبوه أيضا كذاب وقال زائدة والليث وسليمان التيمي هو كذاب وقال يحيى ليس بشيء كذاب ساقط وقال ابن حبان وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه) وما نقلت عنه هذا المقطع القصير الذي جعلتهُ بين قوسين حتى وجدت الخطيب البغدادي يقول " باب التشدد في أحاديث الأحكام والتجاوز في فضائل الأعمال " ثم روى بسنده إلى الإمام احمد بن حنبل -يرحمه الله- أنه قال: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد" ارجع إلى كتاب (الكفاية في علم الرواية ص212-223) .