الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسافر بالراكب الأيام وتسير به الليالي .. في وضح النهار وفي غسق الدُجى .. آناء الليل وأطراف النهار .. رحلة متواصلة .. وسيرٌ حثيث .. حتى تحط به الركاب.
فالناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في جنة أو نار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يُطلَب فيه نعيم ولذة وراحة. إنما ذلك بعد انتهاء السفر، ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كلّ آن من آنات السفر غير واقفة، ولا المكَّلف واقف ، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير (1)
إن الليالي للأنام مناهل
…
تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة
…
وطوالهن مع السرور قصار
(2)
أن
الساعات ثلاث:
ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا؟ ولا يدري ما يقضي الله فيها،
(1) الفوائد لابن القيم 245.
(2)
مكاشفة القلوب 221.
وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه، فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى. ويطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها، بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري، وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة. وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر رضي الله عنه من قوله عليه السلام "لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم" (1)
أخي الحبيب
…
إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب الذي تلج منها الشهوات المستحكمة، ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبه، وقد صدق من قال: من الفراغ تكون الصبوة.
وقد تميز المؤمن عن ذلك كله فهو كما قال قتادة بن خليد
…
المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال .. مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة من أمر دنياه لا بأس بها (2)
فإن العاقل الموفق من أدرك حقيقة ذلك، فاغتنم عمره في علم نافع يحفظه ويحفظ الأمة من نفسها ومن عدوها، ويجعلها أمة يدها
(1) الإحياء 4/ 427.
(2)
صفة الصفوة 3/ 231.
هي العليا وليست هي السفلى، في جهاد مبارك .. قلماً ولساناً وسناناً، في أمر بمعروف ونهي عن منكر، في تربية لعقول وأفئدة وأحاسيس تنفع الناس وتمكث في الأرض لتؤتى أكُلها كل حين بإذن ربها.
إن أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أدّاه، أو مجد أثله، أو حمد حصَّله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه وظلمه.
هذا يتحسسه أشد ما يكون عند ساعة احتضاره، عندما يراه قد أودى به إلى الخسران المبين، فيتمنى على الله أن يؤخره حتى يُصلح ما أفسده، ويتدارك ما فات، وأنى له أن يُمْهلَ وقد تحتم الأجل ونزل الموت في ساحته.
ولهذا حرص الموفقون على الاستفادة من كل دقيقه وثانية بالعمل الصالح وعدوا ذلك مغنما .. وعلموا أن ضياعها بدون فائدة
(1) سوانح وتأملات 22.
مغرما.
قال عمر بن ذر .. قرأت كتاب سعيد بن جبير .. إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة (1)
وهذا المغنم إنما هو حصيلة أعمال صالحة قُدمت .. صلاةٌ وصيام وتسبيح وغيرها.
فالأوقات والأزمنة عمرٌ قصير وأجل محدود كما قال عنها طيفور البطامي .. إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحها الجنة، وخسرانها النار (2)
فإن السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل (3)
ومن جهلنا بقيمة الوقت .. نفرح بمغيب شمس كل يوم ونحن لا ندرك أن هذا نهاية يومٍ من أعمارنا لن يعود أبداً .. صحائف طويت وأعمالٌ أحصيت وأنفاسٌ توقفت.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
…
وكل يوم مضى يُدني من الأجل (4)
قال الحسن .. من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله
(1) الإحياء 4/ 276.
(2)
الزهد للبيهقي 297.
(3)
الفوائد لابن القيم 214.
(4)
صفة الصفوة 3/ 390.