المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ تعويد الأبناء

أتاك حديث لا يُمل سماعه

شهيٌ إلينا نثره ونظامه

إذا ذكرته النفس زال عناؤها

وزال عن القلب المعنَّى ظلامه

إن صحبة الأخيار ومجالسة الصالحين وسماع أخبارهم تغرس في النفس حب الخير والرغبة في مجاراتهم والوصول إلى ما وصلوا إليه من الطاعة والعبادة.

فإن النفس تحتاج إلى تذكير وترغيب خاصة في زمن طول الأمل واللهث وراء الدنيا .. لنعتبر ونتأمل في قصة معروف الكرخي عندما أقام الصلاة فقال لرجل: تقدم فصل بنا، فقال الرجل: إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها.

فقال له معروف: وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى، نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل (1)

أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟

إن الأمل باب التسويف ومدعاةٌ لضياع الوقت.

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضيعُ

ومن حسن التربية‌

‌ تعويد الأبناء

على الاستفادة من الأوقات وعمارها بما هو مفيد حتى يتعودوا على ذلك من الصغر قال عبد الله بن عبد الملك رحمه الله: كنا مع أبينا في موكبه فقال: سبحوا حتى تلك الشجرة، فُنسبح حتى نأتيها، فإذا رفعت لنا شجرة أخرى قال:

(1) جامع العلوم والحكم 246، وحلية الأولياء 8/ 362.

ص: 39

كبروا حتى تلك الشجرة، فكان يصنع بنا ذلك ..

أما معشر الشباب وما يراد منهم فإن الحسن قد سأل ذات يوم جلساءه: يا معشر الشيوخ ماذا ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد.

قال: يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ. (1)

واجتهد أبو موسى الأشعري قبل موته اجتهاداً شديداً فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك.

وما المرء إلا راكبٌ ظهر عمره

على سفرٍ يطويه باليوم والشهر

يبيت ويضحى كل يوم وليلة

بعيداً عن الدنيا قريباًمن القبر

عن أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً يوم القيامة .. ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة. (2)

وقيل لحامد اللفاف: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت اشتهي عافية يومٍ إلى الليل، فقيل له: ألست في عافية في كل الأيام؟ فقال:

(1) الزهد للبيهقي 201.

(2)

السير 5/ 366.

ص: 40

العافية يومٌ لا أعصي الله تعالى فيه (1)

أخي المسلم ..

إن وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهومادة حياته الإبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. (2)

قال رجل من أهل داود الطائي قلت له يوماً يا أبا سليمان قد عرفت الرحم بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه، ثم قال لي: يا أخي إنما الليل والنهار مراحل تنزل بالناس مرحلة مرحلة، حتى تنتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تُقدم في كل ليل يوم مرحلة زاداً لما بين يديه فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول ذلك وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك، ثم قام (3)

هاذي منازل أقوام عهدتهم

في رغد عيش رغيب ماله خطر

(1) الإحياء 2/ 251.

(2)

الجواب الكافي 184.

(3)

حلية الأولياء 7/ 345، وصفة الصفوة 3/ 138.

ص: 41

إلى القبور فلا عينٌ ولا أثر (1)

صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا

قال يحي بن معاذ: لست أبكي على نفسي إن ماتت، إنما أبكي على حاجتي إن فاتت (2)

وكيف لا تفوت حاجته والأيام والليالي مطايا تسير به، وإن لم يسر وتطوى به مراحل العمر وإن لم يترك مكانه ..

وما هذه الأيام إلا مراحل

يحثّ بها داع إلى الموت قاصد

وأعجب شيءٍ لو تأملت أنها

منازل تطوى والمسافر قاعد (3)

قال بلال بن سعد .. عباد الله، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مُقام، وفي دار نصبٍ وحزن لدار نعيمٍ وخُلد (4)

لعمرك ما الأيام إلا مُعارةٌ

فما استطعت من معروفها فتزود (5)

ولأن أيام التزود قليلة ورحلة الدنيا قصيرة فإن المغبون من أضحى يومه في نقصان ومر عمره في خسران

كما قال أبو سليمان الداراني .. من كان يومه مثل أمسه فهو

(1) الزهد للبيهقي 257.

(2)

السير 13/ 15.

(3)

جامع العلوم والحكم 464.

(4)

صفة الصفوة 4/ 219.

(5)

مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا 11.

ص: 42

في نقصان (1). لأن كل يوم يزول يدني من الموت .. فيجب أن يحرص المسلم على يومه ويسرع الخطى فيما بقي من أجله.

فيا أخي .. فقدنا من هم في أعمارنا منذ أعوام .. أُمهلنا هذه السنوات .. ماذا قدمنا فيها وماذا جمعنا فيها؟ .. إنها أعمار تجري ولحظات تسير .. وسنتوقف لحظة عن الدنيا ونبدأ بمغادرتها والرحيل منها .. يبقى السؤال ماذا قدمنا لدارنا الأخرة؟ وكيف استفدنا من أيامنا؟ وهي أيام ثلاثة كما قال عنها ..

السري بن المفلس .. أمس أجل واليوم عمل وغداً أمل (2) من كانت أيامه ثلاثة: أمس لا يدري ما رفع من عمله .. ما تقبل منه وما رُّد .. ويومٌ هو سارحٌ فيه لايعلم هل يتمه أم يوسد قبره في آخره .. أما غداً فأمل ربما لا يرى شعاع شمسه ولا ضوء نهاره ..

كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه .. ويحك يا يزيد .. من ذا الذى يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يصوم عنك بعدالموت؟ من ذا الذي يُرضي ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ . ويامن الموت موعده والقبر بيته، والثرى فراشه والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف تكون حاله؟ (3)

(1) صفة الصفوة 4/ 230.

(2)

صفة الصفوة 2/ 383.

(3)

العاقبة 40.

ص: 43

أخي الحبيب ..

نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ

وأيامنا تطوى وهنَّ مراحل

ولم أر مثل الموت حقًّا كأنه

إذا ما تخطته الأماني باطل

وما أقبح التفريط في زمن الصبا

فكيف به والشيب للرأس شاعل

أخي ..

ترحل من الدنيا بزاد من التقى

فعمرك أيام وهنَّ قلائل (1)

لنر حال عامر بن عبد قيس وهو ينادي .. من أُقرئ، فيأتيه ناس، فيقرئهم القرآن، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاء، ثم ينصرف إلى منزله، فيأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة.

ثم يقوم لصلاته ثم يتسحر رغيفاً ويخرج .. (2)

أما أوقاتنا الضائعة وأيامنا التائهة التى تمر دون فائدة ..

تتواني عن العمل الصالح فيها ونقصر عن الاستفادة منها .. بل ولا نتأسف على ضياعها ولا نغتم بمضيها وزوالها ..

بل ربما نفرح بانقضائها ونبحث عما نقطع به أوقاتنا ونسلي به ساعاتنا .. حالنا كحال من لا يعرف ثمن وقته ولا جوهر زمنه .. أما من سبقنا فقد وضعوا للأمر موازينه وللرحيل عدته ..

هذا إبراهيم بن أدهم يأخذنا إلى بعض إخوانه عندما عاده في مرضه .. فجعل يتنفس ويتأسف، فقال له إبراهيم بن أدهم .. على

(1) جامع العلوم والحكم 464.

(2)

السير 4/ 15.

ص: 44

ماذا تتنفس وتتأسف؟ فقال: ما تأسفي على البقاء في الدنيا، ولكن تأسفي على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعةٌ غفلت فيها عن ذكر الله تعالى، وقيل لأبي مسلم الخولاني حين كبر ورق .. لو قصرت عن بعض ما تصنع، فقال: أرأيتم لو أرسلتم الخيل في الحلبة، ألستم تقولون لفارسها .. دعها وارفق بها حتى إذا رأيتم الغاية لم تستبقوا منها شيئًا؟ وغاية كل ساعة الموت فسابق ومسبوق (1).

ما أكثر الذين يأخذون من التسويف شعاراً، يمكنونه من قلوبهم، حتى تقطعت آمال وانقطعت آجال .. فإن يوم العاجزين غَدٌ، وصاحب الهمة لايعرف يوم العاجزين، لأن الحقوق مرتبطة بزمانها، والواجبات أكثر من الأوقات، والتسويف تفويت لحق لزمه، وتضييع لواجب غده.

اعلم أن من له أخوان غائبان، وينتظر قدوم أحدهما في غدٍ ، وينتظر قدوم الآخر بعد شهر أو سنة فلا يستعد للذي يقدم إلى شهر أو سنة، وإنما يستعد للذى ينتظر قدومه غدًا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل بالمدة ونسي ماوراء المدة. ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها لاينقص منها اليوم الذي مضى ، وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبداً فإنه أبداً يرى لنفسه متسعاً في تلك السنة فيؤخر العمل (2)

(1) صفة الصفوة 4/ 209.

(2)

سوانح وتأملات 46.

ص: 45

أخي الحبيب .. صوت ينادي ..

هذا أبو كريمة العبدي يقول: ابن آدم ليس لما بقي من عُمرك ثَمن (1)

وأي ثمن لعمر الإنسان .. لو أنفق جميع ما يملك من أموال الدنيا بثمن لحظة واحدة لما أُجيب إلى ذلك .. أكد على ذلك السري السقطي بقوله .. فإذا فاتنى جزء من وردي لايمكنني أن أقضيه أبداً. (2)

إضاعة الوقت كما يراها الإمام ابن الجوزي بقوله ..

رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً .. إن طال الليل فبحديث لاينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر، وإن طال النهار فبالنوم ، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق .. فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة .. وهي تجري بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود ، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل .. إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم بما ينفق في بلد الإقامة، فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الإخبار بالنافع هناك ، فيستكثرون منه، فيزيد ربحهم .. والغافلون منهم يحملون ما اتفق .. وربما خرجوا لامع خفير ..

فكم ممن قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً، فالله العلم في

(1) صفة الصفوة 4/ 235.

(2)

صفة الصفوة 2/ 378.

ص: 46

مواسم العمل والبدار البدار قبل الفوات ..

واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من واقع الندم (1)

ليكن شعارنا العمل وعدونا التسويف .. لنكن مثل قول القائل ..

بقية العُمر عندي مالها ثمنٌ

وإن غداً ليس محسوباً من الزمن

يستدرك المرء فيها كل فائتة

من الزمان ويمحو السوء بالحسن

ونحن قد توسدنا الغفلة والتحفنا التسويف .. لنَهُبَّ من تلك الغفوة ونستيقظ من ذلك السبات ..

لنستمع لوصية محمد بن يوسف ونطبقها ولو ليوم واحد في حياتنا! ! بل لساعات من أيامنا! !

أوصى بقوله: إن استطعت أن لا يكون شِيء أهم إليك من ساعتك فاعمل ..

أخي الحبيب ..

لا تغرك الصحة والقوة والشباب .. ولا تسير في ركب الحياه لاهياً ساهيا ..

وتنسى وقفة الموت! ! كم من صحيح سليم معافى سمعنا نعيه .. وكم من مريض سقيم طال أجله .. كم في القبور من

(1) صيد الخاطر 198.

ص: 47

الشباب والأطفال والرضع ..

لا تغتر بشباب ناعم خظل

فكم تقدم قبل الشيب شُبان (1)

نتشبث بهذه الدنيا ونتمسك بها .. لا نغادرها إلا مكلومين ولا نتركها إلا مُجبرين ..

وقد دخل أناس على بعض الصالحين فقلبوا بصرهم في بيته فقالوا: إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل، فقال: لا أرتحل ولكن أطرد طرداً (2)

ودخل رجل على أبي ذرّ فقال: يا أبا ذرّ أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه، فقال: إنه لابد لك من متاع مادمت هاهنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا (3) ..

في زمن تكالبت فيه المادة .. وتوسع الناس في المليهات .. إضاعة للأوقات وتهاون عن الطاعات .. فرطنا في الكثير .. وما أبقينا إلا القليل ..

كل امرئ يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله وتنطوي عليها صحيفة عمله، فخذ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك، وزد في حسناتك قبل أن تستوي مدة الأجل وتقصر عن الزيادة في السعي والعمل (4)

(1) موارد الظمآن 2/ 21.

(2)

جامع العلوم 460.

(3)

جامع العلوم والحكم 460.

(4)

أدب الدنيا والدين 123.

ص: 48

لنسمع الثوري وهو يحدثنا قال: رأيت شيخاً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي، ولو أتاني ما أمرته بشيء ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحد شيء ولا لأحدٍ عليَّ شيء ..

إذا كنت أعلم علماً يقينا

بأن جميع حياتي كساعة

فلم لا أكون ضنيناً بها

وأجعلها في صلاحٍ وطاعة (1)

قال رجل لحاتم الأصم .. ما تشتهي؟ قال: أشتهي عافية يوم إلى الليل، فقيل له: أليست الأيام كلها عافية؟ قال: إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه (2)

وهذا من صلاح قلوبهم فإن من عرف الله لقيه سالماً، والويل كل الويل لمن ذهب عمره في الدنيا باطلاً.

أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟

لنتوقف لحظات معدودة ونقلب صفحة يوم أمس .. كيف أمضيناه؟ ماذا عملنا فيه؟

هذه أعمارنا .. وتلك أيامنا ..

إن كانت الأوقات ضائعة والنفوس ضعيفة .. فالعودة من قريب ..

وإن كانت الأيام مرصعة بتاج الطاعة والأعمال الصالحة ..

(1) البداية والنهاية 11/ 132.

(2)

صفة الصفوة 4/ 162.

ص: 49

فطوبى ثم طوبى .. رزقنا الله مما رزقك وأعاننا على طاعته ..

تمر الليالي والحوادث تنقضي

كأضغاث أحلام ونحن رقود

وأعجب من ذا أنها كل ساعة

تجد بنا سيراً ونحن قعود (1)

عن ابن مسعود أنه كان يقول .. إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يزرع ندامة، ولكل زارع ما زرع (2)

أخي الحبيب: ماذا تزرع اليوم .. فهنا بذرك وغداً حصادك! ! فانظر ما تزرع وما تحصد! !

قيل للحسن: ها هنا رجل لم نره جالساً إلى أحد، إنما هو أبداً خلف سارية وحده، فقال الحسن .. إذا رأيتموه فأخبروني به، قال فمر به ذات يوم ومعهم الحسن، فأشاروا إليه فقالوا: ذاك الرجل الذي أخبرناك، فقال: امضوا حتى آتيه، فلما جاءوه، قال: يا عبدالله: أراك قد حُببت إليك العزلة. فما يمنعك من مخالطة الناس؟

قال: ما أشغلني عن الناس، قال: فيأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه، قال: ما أشغلني عن الحسن وعن الناس، قال له الحسن: فما الذي شغلك يرحمك الله عن الناس وعن الحسن؟ قال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي

(1) شذرات الذهب 8/ 137.

(2)

صفة الصفوة 1/ 409، والفوائد 409.

ص: 50

عن الناس بالاستغفار للذنب والشكر لله على النعمة، فقال له الحسن: أنت يا عبدالله أفقه عندي من الحسن، الزم ما أنت عليه. (1)

وندم يحي بن معاذ فقال .. لست أبكي على نفسي إن ماتت إنما أبكي على حاجتي إن فاتت (2)

وما هي حاجته؟ .. طاعة وعبادة

ونحن نبكي على أنفسنا وعلى حاجاتنا .. لا تزال

نروح ونغدو لحاجاتنا

وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته

وتبقى له حاجة مابقي (3)

تمر بنا ساعات طويلة لا نذكر الله فيها ولا نسبحه ولا نكبره ولا نستغفره .. لننظر إلى العابد معروف الكرخي .. فقد قص إنسانٌ شارب معروف الكرخي .. فلم يفتر من الذكر فقال: كيف أقص؟ قال: أنت تعمل وأنا أعمل (4)

من أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يُشغلها بما ينفعها، شغلته بما يضره ولابد. (5)

(1) صفة الصفوة 4/ 14.

(2)

السير 13/ 15.

(3)

أدب الدنيا والدين 53.

(4)

السير 9/ 141.

(5)

طريق الهجرتين 270.

ص: 51

وأسباب البلاء من الفراغ

لقد هاج الفراغ عليك شغلاً

قال أبو بكر الكتاني .. كان رجل يحاسب نفسه، فحسب يوماً سنيه فوجدها ستين سنة، فحسب أيامها فوجدها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ صرخةً وخر مغشياً عليه، فلما أفاق ، قال ياويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟ !

يقول هذا لو كان ذنب واحد في كل يوم؟ فكيف بذنوب كثيرة لا تحصى. ثم قال: آه عليَّ ، عمرت دنياي وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب؟ وكيف أشتهى النقلة إلى دار الكتاب والحساب والعتاب والعذاب بلا عمل ولا ثواب .. وأنشد:

منازل دنياك شيدتها

وخربت دارك في الآخرة

أصبحت تكرهها للخراب

وترغب في دارك العامرة (1)

أخي .. أين نحن من هؤلاء .. ؟ !

قال ابن السماك: أوصاني أخى داود الطائي بوصية: انظر لا يراك الله حيث نهاك وأن لا يفقدك من حيث أمرك، واستحيه في قربه وقدرته عليك (2)

(1) العاقبة 31.

(2)

صفة الصفوة 3/ 142.

ص: 52