الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيما لا يعنيه خذلاناً من الله عز وجل (1)
فإنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تُقدّم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك (2)
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
…
والليالى متجر الإنسان والأيام سوق (3)
أخي الحبيب
…
كان شميط بن عجلان يقول ..
الناس رجلان
، فمتزود من الدنيا ومتنعم فيها، فانظر أي الرجلين أنت؟
إني أراك تحب طول البقاء في الدنيا فلأي شيء تحبه؟ إن تطع الله عز وجل وتحسن عبادته وتتقرب إليه بالأعمال الصالحة .. ؟ فطوبى لك.
أم لتأكل وتشرب وتلهو وتلعب وتجمع الدنيا وتثمرها وتنعم زوجتك وولدك .. ؟ فلبئس ما أردت له البقاء (4)
فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا
(1) جامع العلوم والحكم 139.
(2)
جامع العلوم والحكم 463.
(3)
الزهد للبيهقي 298.
(4)
صفة الصفوة 3/ 343.
يقدر عليها ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت أو غير ذلك من العلل والآفات.
قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل ولم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية (1)
ولنر الإمام الشافعي كيف استفاد من وقته فقد جزأ-رحمه الله الليل إلى ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب والثلث الثاني يصلي والثلث الثالث ينام (2)
وكان الحسن يقول: ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم، إني يوم جديد، وعلى ما تعمل فيَّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك (3)
تؤمل في الدنيا طويلاً ولا تدري
…
إذا جن ليل هل تعيشُ إلى الفجر
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ
…
وكم من مريض عاش دهرًا إلى دهر (4)
كثير باتوا ولم يروا ضوء الفجر التالي وكثير أشرقت عليهم
(1) جامع العلوم والحكم 468.
(2)
صفة الصفوة 2/ 255.
(3)
الحسن البصري 140.
(4)
موارد الظمآن 2/ 245.
الشمس ولم يدركوا مغيبها .. وهل الإنسان إلا هكذا ميت بليل أو نهار، ينتظر الموت من أين يُقبل! !
إن توقفت أنفاسه نهاراً لم ير الليل وإن سكنت أطرافه بالليل أصبح محمولاً إلى القبر ..
ألا إنها أوقاتٌ محسوبة ولحظاتٌ مقسومة وأنفاس معدودة .. تمر مر السحاب، طوبى لمن عمل بها واستزاد من الخير وقدم ليوم المعاد.
* كان أبو مسلم الخولاني يقول .. لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد (1)
وهذه المحافظة على الأوقات من علامات النفوس الكبيرة والهمم القوية ..
قال أبو النصر أباذي .. مراعاة الأوقات من علامات التيقظ (2)
ومن أضاع أوقاته فيما لا فائدة منه فيرسم لنا حاله مورق العجلي بقوله .. يا ابن آدم تودى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك، وعندك ما يكفيك
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره
…
وموت وقبر ضيق يُولجُ (3)
(1) صفة الصفوة 4/ 213، والسير 4/ 9.
(2)
الزهد للبيهقي 197.
(3)
إرشاد العباد 48.
قال الحسن .. لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثموداً وقرونًا بين ذلك كثيراً، فأصبحوا قد أقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم ، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرّا به، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصاب به من مضى .. (1)
نهارٌ طويل ماذا كان يعمل فيه؟ وماذا يستفاد منه؟ قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً .. إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضأ أو عائداً مريضًا، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل (2)
أخي الحبيب: ينبغي للمؤمن أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرة لنفسه، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار كما قال الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
…
كرُّ الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلة أهرمت يوَمَها
…
أتى بعد ذلك يومٌ فتي
إن مضي الزمن واختلاف الليل والنهار لا يجوز أن يمر بالمؤمن
(1) جامع العلوم والحكم 464.
(2)
حلية الأولياء 2/ 82.
وهو في ذهول عن الاعتبار به، والتفكير فيه، ففي كل يوم يمر، بل في كل ساعة تمضي، بل في كل لحظة تنقضي، تقع في الكون والحياة أحداث شتى، منها ما يُرى وما لا يُرى، ومنها ما يُعلم ومنها ما لا يُعلم ..
من أرض تحيا، وحبة تنبُت، ونبات يُزهر، وزهر يثُمر، وثمر يقطف وزرع يصبح هشيماً تذروه الرياح، أو من جنين يتكون، وطفل يولد، ووليد يشب، وشاب يتكهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت .. (1)
إذا كنت في الأمس اقترفت إساءة
…
فثنَّ بإحسانٍ وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غدٍ
…
لعل غداً يأتي وأنت فقيد
ويومك إن عاتبته عاد نفعاً
…
إليك وما ضُحى الأمس ليس يعود (2)
دخل رجلٌ على داود الطائي يوماً فقال: إن في سقف بيتك جذعاً مكسوراً .. فقال: يا ابن أخي .. إن لي في البيت منذ عشرين سنة ما نظرت إلى السقف (3)
رحمه الله .. ماذا عن واقع حياة عامة الناس اليوم .. حديث بدون فائدة وأسئلة بلا نهاية .. متى كُسر هذا .. ؟ ومتى فُتح هذا .. ؟ ومتى أخذ هذا .. ؟ ثم تفصيل طويل لا يُفيد مستمع ولا ينفع
(1) الوقت للقرضاوي 18.
(2)
ديوان الإمام الشافعي 73.
(3)
الإحياء 4/ 434.
متحدث ..
وبالإمكان الغُنية عن هذا كله لو تحررنا في أحاديثنا وأمسكنا بزمام ألسنتنا .. مجالس طويلة تمتد الساعات الطوال بدون فائدة ..
أعد أخي إن استطعت خمس ساعات من عمرك لتسبح تسبيحة واحدة! ؟
أرأيت الغبن وضياع رأس المال دون فائدة؟ ! . أما إذا امتد الحديث لغيبة ونميمة فتلك شر المجالس وبئس الأُنس .. في مقابل ما يضيع من أعمارنا دون فائدة لنرى كيف كانوا يستثمرون اللحظات ويستفيدون منها .. إنهم أهل الطاعة والعبادة ..
قالت داية لداود الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز .. ؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية (1) وقال ابن مهدي .. كنا مع الثوري جلوساً بمكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله (2)
أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟
وهذا صباح اليوم ينعاك ضوءه وليلته تنعاك إن كنت تشعر (3)
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون ، فكونوا
(1) صفة الصفوة 3/ 140، والزهد للبيهقي 199.
(2)
السير 7/ 243.
(3)
موارد الظمآن 2/ 39.
من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل. (1)
وحال الكثير اليوم كما تعجب منها أحد الحكماء بقوله .. عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مُقبلة إليه يشغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة. (2)
أخي الحبيب ..
تمر الخواطر وتتتابع الأسئلة ولكن .. هل سألت نفسك يوماً لماذا تعيش؟
بالجواب يتحدد الهدف ويتضح الطريق ويسهل الوصول ..
لنسمع جواب أبي الدرداء رضي الله عنه حين قال .. لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً .. الظمأ لله بالهواجر والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب التمر.
وهذه الدنيا كما وصفها عمر بن عبد العزيز بقوله .. إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
(1) جامع العلوم والحكم 460.
(2)
جامع العلوم والحكم 460.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن من دار إقامة ولا وطن فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين ..
إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة (1).
فإن من تيقن ذلك ونظر إليه بعين المتأمل كان مثل عبدالرحمن بن أبي نعم عندما قال عنه بكير بن عبدالله .. كان لو قيل له قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل (2) قال الحسن .. يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرّك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه رحم الله رجلاً كسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلا ليوم فقره وفاقته. هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحال بالها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، أنتم تسوقون الناس، والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون (3).
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر
…
ولابد من زاد لكل مسافر
(1) جامع العلوم والحكم 460.
(2)
السير 5/ 62.
(3)
صفة الصفوة 3/ 235.