المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يوضعانك، الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى - الوقت أنفاس لا تعود

[عبد الملك بن قاسم]

الفصل: يوضعانك، الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى

يوضعانك، الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطرا (1) وقالت رابعة العدوية لسفيان .. إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوٌم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكلَّ وأنت تعلم .. فاعمل (2)

ألم تر أن اليوم أسرعُ ذاهب

وأن غداً للناظرين قريب

أخي الشاب:

‌زمن الشباب

زمن الصحة والقوة .. الحركة سريعة والوثبة قوية والحواس مكتملة .. ماذا قدمت في هذا الوقت؟ !

وهي صحة لن تعود ونشاط لن يبقى وحواس تنقص.

كانت صفية بنت سيرين توصي فتقول .. يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب (3)

إن الشَباب حُجَةُ التّصابي

روائح الجنة في الشباب (4)

الشاب يرى أن لديه وقت فراغ .. وساعات لا يحتاج إليها .. ويبرر لنفسه بما يشاء .. لنسمع القاضي شريح وقد خرج على قوم من الحاكة في يوم عيد وهم يلعبون، فقال ما لكم تلعبون؟

(1) الزهد للبيهقي 204.

(2)

صفة الصفوة 4/ 29.

(3)

صفة الصفوة 4/ 24.

(4)

ديوان أبي العتاهية 495.

ص: 23

قالوا: إنا تفرغنا! !

قال .. أو بهذا أمر الفارغ، وتلا قوله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (1)

وأكد ذلك الأمر الشيخ ابن عقيل حيث قال مفتياً .. إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح. (2)

وسأل الفضيل بن عياض رجلاً فقال له: كم أتت عليك؟ قال .. ستون سنة.

قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك ، يوشك أن تبلغ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! !

فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول – إنا لله وإنا إليه راجعون – فمن عرف أنه لله عبد، إليه راجع، فليعلم أنه موقوف ، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعدّ للسؤال جواباً

فقال الرجل: فما الحيلة؟

قال: يسيرة .. قال ما هي؟

قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما

(1) حلية الأولياء 4/ 134.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1/ 146.

ص: 24

بقي أخذت بما مضى وما بقي.

وفي هذا المعنى قال بعضهم:

وإن المرء قد سار ستين حجة

إلى منهل من ورده لقريب (1)

أخي الحبيب:

كلمح البصر سنواتٌ مرت كأضغاث أحلام .. نقترب بمضيها من نهايتنا من الحياة .. نتقدم كل لحظة خطوة إلى المنايا ..

تجري بنا الأيام كسحاب تهب عليه الريح .. تغمض عينك برهة من الوقت فلا تجد السحاب .. ولن تُمسكه .. يُمسك الزمن قلةٌ وهبهم الله عوناً وتوفيقاً، حرصٌ ومثابرة .. لم يتركوا لحظة تمر دون عمل ..

يحدثنا عن أحد هؤلاء موسى بن إسماعيل يقول .. لو قلتُ أني ما رأيت حماد بن مسلمة ضاحكاً لصدقت، كان يُحَدَّث أو يسبح أو يقرأ أو يصلي، قد قسم النهار على ذلك (2)

وعندما سئل المعافى بن عمران .. ما ترى في الرجل يقرض الشعر ويقوله؟

قال .. هو عمرك فأفنه بما شئت (3)

ومن عجب الأيام أنك جالسٌ

على الأرض في الدنيا وأنت تسير

(1) جامع العلوم والحكم 464.

(2)

شذرات الذهب 1/ 262.

(3)

صفة الصفوة 4/ 180.

ص: 25

بقومٍ جلوسٍ والقلوع تطير (1)

فسيرك يا هذا كسير سفينةٍ

قيل لمحمد بن واسع .. كيف أصبحت؟ قال .. ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة. (2)

لو تأملنا بقليل من التفكر هذه الحقيقة لنظرنا إلى ما بقي من أعمارنا نظرة عيسى بن الهزيل حين قال ابن آدم ليس لما بقي من عمرك ثمن. وأي ثمن أخي الحبيب لأعمارنا؟ لننظر إلى اللحظات الأخيرة والبقية الباقية من عمر أبي يوسف يعقوب الأنصاري .. كما يرويها إبراهيم بن الجراح الكوفي بقوله ..

مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال لي:

يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحالة؟ ! قال: ولا بأس بذلك ، ندرس لعله ينجو به ناج

ثم قال: يا إبراهيم، أيما أفضل في رمي الجمار – أي في مناسك الحج – أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ قلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً قال: أخطأت، قلت: قل فيها، يرضى الله عنك.

قال: أما كان يوقف عنده للدعاء ، فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً. ثم قمت من

(1) البداية والنهاية 13/ 166.

(2)

جامع العلوم والحكم 462.

ص: 26

عنده، فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمة الله عليه. (1)

لقد بارك الله في أيامهم وأوقاتهم وأعمالهم لأنهم يرون أيامهم كما قال القائل:

إذا مر بى يومٌ ولم أقتبس هدى

ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري (2)

وانظر أخي إلى يومك الذي تعيش فيه الآن ماذا قدمت فيه؟

وأنت تعلم أن الدنيا ثلاثة أيام: ها هي الدنيا يقول عنها الحسن: إنها ثلاثة أيام، أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلك لا تدركه، فاليوم لك فاعمل فيه (3).

وقال داود الطائي .. يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك، سوَّفت بعملك كأن منفعته لغيرك (4).

وما هذا التحسر والندم على أيام ذهبت إلا كما ذكر أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على لذة ما فاته من الطاعة فما مضى كان ينبغي له أن يبكيه حتى يموت (5).

أخي الحبيب:

(1) سوانح وتأملات نقلا عن الجواهر المضيئة لأبي محمد القرشي.

(2)

إرشاد العباد 37.

(3)

الزهد للبيهقي 196.

(4)

صفة الصفوة 3/ 140.

(5)

حلية الأولياء 9/ 275.

ص: 27

أسرع ما تؤديه الواجبات ولا نحسب لها حساب بل نؤديها كيفما اتفق .. وهي دقائق معدودة .. ثم ترانا نضيع ساعات طوال في مجالس بدون فائدة أو في لهو ولعب .. سبحان الله ..

إنا لنفرح بالأيام نقطعها

وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا

فإنما الربح والخسران في العمل

مضى يومنا هذا بضوئه ورحل بعمله .. إن حملت صحائفه طاعة وعبادة فطوبى الغنيمة التي قال عنها سعيد بن جبير .. إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره (1)

والمحافظة على الأوقات نرى أثرها في الدنيا قبل الآخرة وهل العابد مثل اللاهي .. والعاصي مثل المطيع! !

قال إبراهيم بن شيبان .. من حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيعها بما لا رضا لله فيه، حفظ الله عليه دينه ودنياه. (2)

فإن الليل والنهار كما وصف داود الطائى مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود

(1) شرح الصدور للسيوطي 7.

(2)

الزهد للبيهقي 298.

ص: 28

لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك (1)

أذان المرء حين الطفل يأتي

وتأخير الصلاة إلى الممات

دليل أن محياه يسير كما

بين الأذان إلى الصلاة

يا أخي .. يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق سوقاً حثيثاً، الموت متوجه إليك والدنيا تطوى من ورائك وما مضى من عمرك فليس بعائد إليك.

فكيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقود عمره إلى موته؟ ! إنها رحلة سفر .. وإنها والله ظل زائل.

سبيلك في الدنيا سبيل مسافر

ولابدّ من زادٍ لكل مسافر

ولابدّ للإنسان من حمل عدة

ولا سيما إن خاف صولة قاهر (2)

قال أبو ضمرة يتحدث عن صفوان بن سليم .. رأيته ولو قيل الساعة غداً ما كان عنده مزيد عمل (3).

أخي الحبيب:

نندم على التفريط عندما نسمع مثل هذه الهمة وهذا التوفيق .. محافظة تامة واستجابة كاملة .. ونتحسر على أيامٍ أضعناها وأوقات تركناها .. ذهبت بما حملت ..

(1) جامع العلوم والحكم 463.

(2)

جامع العلوم والحكم 463.

(3)

تذكرة الحفاظ 1/ 135.

ص: 29

نقترب من قول أبي سليمان الداراني .. لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الطاعة، لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله (1)

هذا مالك بن دينار المعروف بزهده وورعه وعبادته يحدثنا عنه سلام بن مطيع ، يقول .. دخلت على مالك بن دينار ليلاً وهو في بيت بغير سراج، وفي يده رغيف يكدمه، فقلت له: يا أبا يحيى ألا سراج؟

ألا شيء تضع عليه خبزك؟ فقال: دعوني فوالله إني لنادم على ما مضى (2)

أراني في انتقاص كل يوم

ولا يبقى مع النقصان شيء

طوى العصران ما نشراه مني

فأخَلقَ جدَّتي نشرٌ وطَيُّ (3)

مواعظ تتسابق وأحداثٌ تتكرر .. وصورٌ من المحافظة على الوقت نراها بين السطور وعلى رسم الحروف ولعله يكون لنا نصيبٌ من قول عمرو بن قيس الملائي: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله. (4)

(1) الإحياء 4/ 13.

(2)

حلية الأولياء 6/ 189.

(3)

السير 14/ 186.

(4)

صفة الصفوة 3/ 124.

ص: 30

فإذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته، عَرَضَت له الخوادع والقواطع ، فينخدع أولاً بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح والملابس، فإن وقف معها انقطع وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابُتلي بوطء عقبه (1) وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته، ونحو ذلك.

فإن وقف معه انقطع به عن الله وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات والكشوفات، فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظَّه، وإن لم يقف معها ابتلي بالكرامات والكشوفات، فإن وقف معها انقطع بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الوحدة والفراغ من الدنيا، فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود، وإن لم يقف معه وسار ناظراً إلى مراد الله منه وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابَّه ومراضيه أين كانت وكيف كانت؟ تعب بها أو استراح، تنعَّم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم، لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليّه وسيّده، واقف مع أمره ينفذه بحسب الإمكان ، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره، فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيء ألبته (2)

ولقد منَّ الله على الكثير بالمحافظة على الأوقات والاستفادة

(1) أي بالسير خلفه.

(2)

الفوائد لابن القيم 223.

ص: 31

منها في القيام بالطاعات هذا سفيان يحدثنا عن عمرو بن قيس فيقول ..

عمرو بن قيس هو الذي أدبني، علمّني قراءة القرآن وعلمني الفرائض وكنت أطلبه في سوقه فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته إما يصلي وإما يقرأ في المصحف، كأنه يبادر أمورًا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعداً يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبره قاعداً ينوح على نفسه

(1)

ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ

إلى غدٍ إن يوم العاجزين غدُ (2)

كان عمرو بن دينار قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، ثلثاً ينام، وثلثاً يدرس الحديث، وثلثاً يصلي (3)

الحال اليوم تبدلت والأمور تغيرت .. هناك عزم وهمة ولكن وراء الدنيا .. خوفٌ على فواتها وسعي لإدراكها وهلع على نقصانها .. أما الآخرة فلا ينظر إليها بعين .. ولا يرمى لها بسهم كأن محمد بن المبارك يرى حالنا وهو يقول .. تخاف أن يفوتك عند البقال من قطعتك، تبادر إليه وتبكر عليه، ولا تخاف أن يفوتك من

(1) صفة الصفوة 3/ 125.

(2)

الوقت للقرضاوي 13.

(3)

السير 5/ 302.

ص: 32