الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَدِيثٌ آخَرُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: أخ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ح الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، قَالَ: ح الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ هِشَامٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ، عز وجل، قَالَ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي فِي الْمُحَارَبَةِ، مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ
⦗ص: 378⦘
أَنَا فَاعِلُهُ مَا تَرَدَّدْتُ فِي مَسَاءَةِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ، إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَصْرِفُهُ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ، إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنَ الْغَنِيِّ مَنْ لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفَسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، لَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، لَوْ أسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ، لَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رحمه الله: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ خَصَائِصُهُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ فِي أَزَلِهِ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُمْ، وَأَنْتَجَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَاسْتَخْلَصَهُمْ وَاصَطَنَعَهُمْ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَدِثَهُمْ حِينَ أَوْجَدَهُمْ عَنِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَصَرَفَ الْأَغْيَارَ عَنْهُمْ ضَنًّا بِهِمْ وَغَيْرَةً عَلَيْهِمْ، زَيَّنَهُمْ بِأَوْصَافِهِ، وَحَلَّاهُمْ بِنُعُوتِهِمْ، فَهُمْ عُلَمَاءُ صُلَحَاءُ كِرَامٌ صَادِقُونَ، رُحَمَاءُ حُكَمَاءُ عُدُولٌ مُؤْمِنُونَ، فَهُمْ بِكَثِيرِ أَوْصَافِهِ مَوْصُوفُونَ، وَبِأَسْمَائِهِ وَنُعُوتِهِ مَوْسُومُونَ، قَلَبَ بِصِفَاتِهِ أَحْوَالَهُمْ، وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ أَفْعَالَهُمْ، فَقَالَ عز وجل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، قَاتَلَ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ، وَانْتَصَرَ بِهِمْ مِمَّنْ عَادَاهُ، فَهُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8] ، وَقَالَ {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] ، فَلَمَّا كَانُوا أَنْصَارَهُ يُقَاتِلُونَ مَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ، وَيُنَاصِبُونَ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ، وَيَذُبُّونَ عَنْ دِينِهِ، وَيُقَاتِلُونَ مَعَ رُسُلِهِ، جَعَلَ آذَاهُمْ مُبَارَزَتَهُ، وَإِهَانَتَهُمْ مُنَاصَبَتَهُ، فَقَالَ جل جلاله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ، سَمَّاهُمْ مُحَارِبِينَ لَهُ لَمَّا آذَوْا أَوْلِيَاءَهُ فِي سَلْبِ أَمْوَالِهِمْ، وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَإِخَافَةِ سُبُلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا خَصَائِصَهُ فَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ بَارَزَهُ، أَيْ أَظْهَرَ مُخَالَفَةَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِهِمْ خِلَافَ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ، وَأَرَادَهُمْ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِهِ، أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَهَانَهُمُ الْمُؤْذِي لَهُمْ، وَوَالَهُمُ اللَّهُ عز وجل، فَعَادَاهُمُ الْمُهِينُ لَهُمْ، فَصَارُوا لِلَّهِ مُحَارِبِينَ، وَلَهُ بِالْعَدَوَاةِ بَارِزِينَ، وَلِحُكْمِهِ فِيهِمْ مُخَالِفِينَ
⦗ص: 379⦘
. وَقَوْلُهُ: «مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ» أَيْ مَا رَدَدْتُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فِي مَا فَعَلْتُهُ بِخَلْقِي، كَمَا رَدَدْتُ مُخْتَلَفَ الْأَحْوَالِ عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي إِزَالَةِ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنْهُ بِلَطَائِفَ يُحْدِثُهَا لَهُ وَيُظْهِرُهَا عَلَيْهِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَوْتَ، وَيَسْأَمَ الْحَيَاةَ
كَمَا فَعَلَ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَبَكَى إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ مَلَكُ الْمَوْتِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ وَمَاءُ الْعِنَبِ يَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ كَمْ أَتَى لَكَ؟ فَذَكَرَ مِثْلَ سِنِّ إِبْرَاهِيمَ، فَاشْتَهَى إِبْرَاهِيمُ الْمَوْتَ فَقَبَضَ رُوحَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، رحمه الله. فَهَذِهِ لَطِيفَةٌ أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ فِي إِزَالَةِ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهَا نَظَائِرَ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ:«وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمُؤْمِنَ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ لَهُ، فَقَالَ {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، فَأَرَادَ عز وجل أَنْ يُحِلَّ الْمُؤْمِنَ فِي جِوَارِهِ، وَيُنْزِلَهُ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَيَهَبَ لَهُ مِنْ مُلْكِهِ، وَيَجْعَلَهُ بَاقِيًا بِبَقَائِهِ مَلِكًا لَا يَفْنَى مُلْكُهُ، حَيًّا لَا يَمُوتُ أَبَدًا لَا يَزُولُ، يُحِلُّ عَلَيْهِ كَرَامَتَهُ، وَيُلَذِّذُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَيُكْرِمُهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَحَكَمَ عز وجل بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَهُوَ عز وجل لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْمَوْتِ لِيَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ الْجَلِيلَةِ، وَالرُّتْبَةِ السَّنِيَّةِ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كَرِهَ اللَّهُ مَسَاءَتَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَزَالَهَا عَنْهُ بِلَطَائِفَ يُحْدِثُهَا لَهُ وَفِيهِ، سُبْحَانَ اللَّطِيفِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ:«مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» ، لَيْسَ مِنْ قَدْرِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ، وَسِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ، وَنَقْصُ الْحَدَثِ فِيهِ بَيِّنٌ، وَحَقَارَةُ الْبِنْيَةِ لَهُ لَازِمَةٌ، فَبِأَيِّ صِفَةٍ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إِلَى غَنِيٍّ مُحْتَاجٌ ، وَمَلِكٍ لَا يُطَاقُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنَّمَا يُقَرِّبُهُ اللَّهُ مِنْهُ، يَتَقَرَّبُ بِلُطْفِهِ إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُ بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهَا عَلَامَتَهُ لِمَنْ لَهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ، فَمَنْ أَقَامَ أَوَامِرَهُ، وَأَدَّى فَرَائِضَهُ فَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَصَارَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ تَقَرُّبًا مِنْهُ، وَإِقَامَةُ أَوَامِرِهِ تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، وَأُخْرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ تَوَقَّى فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَدَنَّسَ بِالْخَطَايَا، وَيَتَلَطَّخَ بِالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ عز وجل قُدُّوسٌ طَاهِرٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْقُدُّوسَ الْأَعْلَى لَا يَقْرَبُهُ إِلَّا قِدِّيسٌ طَاهِرٌ» ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ مَا
افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ لِيَطَّهْرُوا بِهَا مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ، وَيَتَنَظَّفُوا مِنْ أَرْجَاسِ الْعُيُوبِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وَقَدْ قَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ تَطَهَّرُوا فَصُلُحُوا لِدَارِ الطَّهَارَةِ وَقُرْبَةِ الْقُدُّوسِ. وَقَوْلُهُ «وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» لَمَّا عَلِمَ الْمُؤْمِنُ الْوَجْهَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِطَهَارَتِهِ، وَالْعَمَلَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ مَنْ قَرَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَهُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، أَدَّى فَرَائِضَهُ بَاذِلًا فِيهَا مَجْهُودَهُ، وَكَانَتِ الْفَرَائِضُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْدُودَةٍ تُسَارِعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ طَلَبًا لِازْدِيَادٍ مِنَ السَّبَبِ الْمُقَرِّبِ إِلَيْهِ، وَالسِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَزَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّةً إِلَى تَقْرِيبِهِ مِنْهُ كَمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تعَبُّدًا فِي حَالِ الْحُرِيَّةِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ، فَإِنَّ مَثَلَ الْعَبْدِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مَثْلُ الْمُكَاتَبِ، كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ نُجُومًا، فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ عَتَقَ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فُرُوضًا مَحْدُودَةً، وَأَلْزَمَهُ أُمُورًا مَحْدُودَةً مُؤَقَّتَةً، فَإِذَا أَدَّاهَا خَرَجَ مِنْ رِقِّهَا، فَهُوَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ وَقْتٌ آخَرُ عَتِيقٌ فِي عَمَلِهِ، وَإِلَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَرْضٌ ثَانٍ حُرٌّ، فَمَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ شَوْقًا إِلَى مَوْلَاهُ اسْتَحَقَّ الْمَحَبَّةَ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الرِّقِّ اسْتَوْجَبَ الْقُرْبَةَ. وَقَوْلُهُ:«فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا» إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَحْدَثَ فِيهِ حُبًّا لِلَّهِ، فَيُحَبُّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] ، وَقَالَ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَالْمَحْبُوبُ مُحِبٌّ، وَالْمُحِبُّ مُنْخَلِعٌ مِنْ جَمِيعِ شَهَوَاتِهِ، خَارِجٌ مِنْ جَمِيعِ صِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْمُحِبِّ أَفْنَتْهُ عَنْهُ، وَسَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ، وَاصْطَفَتْهُ مِنْ نُعُوتِهِ فَأَصَمَّهُ وَأَعْمَاهُ، وَعَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِهِ أَبْلَاهُ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُبِّكَ الشَيْءَ مَا يُعْمِي، وَمَا يُصِمُّ» حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
⦗ص: 381⦘
فَالْمُحِبُّ يُصِمُّ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَيُعْمِي عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ الْأَبْصَارَ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْكِبَارِ:
[البحر البسيط]
أَصَمَّنِي الْحُبُّ إِلَّا عَنْ تَسَاوُدِهِ فَمَنْ
…
رَأَى حُبَّ حُبٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا
وَكُفَّ طَرْفِيَ إِلَّا عَنْ وِعَايَتِهِ
…
وَالْحُبُّ يُعْمِي وَفِيهِ الْقَتْلُ إِنْ كُتِمَا
وَقِيلَ لِقَيْسٍ الْمَجْنُونِ: أَتُحِبُّ لَيْلَى؟ فَقَالَ: لَا، قِيلَ: لِمَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ ذَرِيعَةُ الْوَصْلَةِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَصْلَةُ سَقَطَتِ الذَّرِيعَةُ، فَأَنَا لَيْلَى، وَلَيْلَى أَنَا. قَالَ الشَّيْخُ، رحمه الله: وَأَنَا أَحْكِي لَكَ عَنِّي عَجَبًا فِي رُؤْيَا رَأَيْتُهَا، رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ امْرَأَةً رَقِيقَةً مَمْشُوقَةً، عَلَيْهَا مَلَاحَةٌ، وَلَهَا شَعْرٌ مَا رَأَيْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مِثْلَهُ طُولًا وَغِلْظًا وَسَوَادًا، فَخُيِّلَ لِي أَنَّهَا لَيْلَى، وَهِيَ تُنْشِدُ أَشْعَارًا، فَكُنْتُ حَفِظْتُ مِنْهَا أَبْيَاتًا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَقُلْتُ لَهَا وَعَزَمْتُ عَلَيْهَا: أَخْبِرِينِي عَنْ قَيْسٍ، فَقَالَتْ: كَانَ عُنْوَانَ حُبِّي وَكُنْتُ مَعْنَاهُ الَّذِي قَامَ بِهِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ حَالٌ يُوصَفُ، وَلَا كَانَتْ لَهُ صِفَةٌ تُعْرَفُ، فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ حَفِظْتُ مِنْهُ هَذَا. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَحْوَالَ الْمُحِبِّ، فَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَالْمُحْدَثُ لَا يُطِيقُ تَحَمُّلَ أَعْبَاءِ الْمَحَبَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُفْنِيهِ، فَإِذَا أَفْنَتْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ لِمَحَبَّتِهِ لَهُ خَلْقًا جَدِيدًا، فَأَفَادَهُ سَمْعًا بَدَلَ سَمْعِهِ، وَبَصَرًا بَدَلَ بَصَرِهِ، وَيَدًا بَدَلَ يَدِهِ، وَأَيَادِيَ أَقْوَى مِنْ أَيْدِهِ، فَلَا يُبْصِرُ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يَقْوَى إِلَّا فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ:«يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَوْلًى، وَلَا وَلِيًّا إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَرَى فِي الدَّارَيْنِ لَهُ غَيْرَهُ، فَمَنْ يَدْعُو سِوَاهُ وَمَنْ يُجِيبُهُ إِلَّا هُوَ، إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُ مُجِيبًا لَهُ إِلَّا رَبُّهُ، وَلَا مَدْعُوًّا إِلَّا مَحْبُوبُهُ. وَقَوْلُهُ:«يَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ» ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ عَنْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَمَاتَتْ فِيهِ شَهَوَاتُهُ، وَبَطَلَتْ مِنْهُ إِرَادَتُهُ، قَدْ ذُهِلَ عَنْ أَوْصَافِهِ، وَشُغِلَ فِي مَحَبَّةِ مَحْبُوبِهِ عَنْ نُعُوتِهِ، فَهُوَ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي أَحْكَامِ مَوْلَاهُ ، فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اكْلَأْنِي كِلَاءَةَ الْوَلِيدِ» فَهَذَا اسْتِنْصَاحُهُ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى يُصَرِّفُهُ فِي مَشِيئَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ فِي قَبْضَتِهِ، وَيَحُوطُهُ بِعِصْمَتِهِ، وَيُصَرِّفُهُ فِي مَحَابِّهِ، فَهَذَا نُصْحُهُ لَهُ
⦗ص: 382⦘
. وَقَوْلُهُ عز وجل: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لِمَنْ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَصْرِفُهُ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ» هَذَا مَنْ نَصَحْتُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِحُظُوظِهَا، وَإِنَّمَا شُغْلُهُ بِمَوْلَاهُ، وَتَصَرُّفُهُ فِيمَا يَرْضَاهُ، فَهُوَ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الِاشْتِيَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَبِيبُ اللَّهِ وَمَحْبُوبُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِبُّهُ، وَالْمُحِبُّ يَغَارُ عَلَى مَحْبُوبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَضِنُّ بِهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى سِوَاهُ، فَالْعَبْدُ لِغَلَبَةِ الِاشْتِيَاقِ عَلَيْهِ يَقْصِدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا اخْتَارَهُ إِلَى مَا اخْتَارَهُ لَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا نَاظِرًا إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَاجْتِهَادًا فِي عِبَادَتِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الِاسْتِحْسَانِ، وَمَنِ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا شُغِلَ بِهِ وَسَكَنَ إِلَيْهِ، فَهُوَ تَعَالَى يَصْرِفُهُ عَمَّا يَسْكُنُ إِلَيْهِ، وَيَشْغَلُهُ عَنْهُ، لِيَكُونَ شُغُلُهُ بِهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ:«إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ» هَذَا أَيْضًا مِنْ نَصِيحَتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَحَبَّ الْمُؤْمِنَ لِإِيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحَبَّهُ كَتَبَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ، وَحَبَّبَهُ إِلَيْهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، فَهُوَ عز وجل يَصْرِفُهُ عَمَّا يُخِلُّ بِإِيمَانِهِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ فِي حُبِّهِ إِيَّاهُ شَيْءٌ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَوْصَافٍ مَتَفَاوِتَةٍ، فَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ، وَمِنْهُمُ الرَّفِيقُ، وَمِنْهُمُ الْكَثِيفُ، وَمِنْهُمُ الْوَضِيعُ، وَمِنْهُمُ الشَّرِيفُ. فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَلْبِهِ ضَعْفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ أَغْنَاهُ، إِذْ لَوْ أَفْقَرَهُ إِيَّاهُ فَهُوَ عز وجل يُغْنِيهِ، فَيُقِرُّ بِهِ بِذَلِكَ مِنْهُ وَيُدْنِيهِ، فَيَصُونُهُ بِغِنَاهُ مِنْ أَنْ يَنْصَرِفَ بِحَاجَتِهِ إِلَى سِوَاهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ خَمْسًا: غِنًى مُطْغِيًا، وَفَقْرًا مُنْسِيًا، وَهَرَمًا مُفَنِّدًا، وَمَرَضًا مُفْسِدًا ، وَمَوْتًا مُجْهِزًا"، فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ مُنْسِيًا، صَرَفَ الْحَقُّ عَمَّنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ الْفَقْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَنْسَاهُ حَبِيبُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ قَرِيبُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ أَنْ لَا يُصْلِحَ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ أَفْقَرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْغِنَى يُطْغِيهِ، وَأَنَّ الْفَقْرَ لَا يُنْسِيهِ بَلْ يَشْغَلُ لِسَانَهُ بِذِكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَقَلْبَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا صَبَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، وَسَحَّهُ عَلَيْهِ سَحًّا، فَإِذَا دَعَاهُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: يَا رَبِّ عَبْدُكَ فُلَانٌ، اقْضِ لَهُ حَاجَتَهُ، فَيَقُولُ: دَعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا قَالَ
⦗ص: 383⦘
: يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَبَّيْكَ عَبْدِي وَسَعْدَيْكَ، لَا تَدْعُونِي بِشَيْءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَكَ، وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكَ، إِمَّا أَنْ أُعَجِّلَ لَكَ مَا سَأَلْتَ، وَإِمَّا أَنْ أَدَّخِرَ لَكَ عِنْدِي أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أَدْفَعَ عَنْكَ مِنَ الْبَلَاءِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ"، وَالْفَقْرُ أَشَدُّ الْبَلَاءِ، وَأَعْظَمُ الْمِحَنِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ بِعَبْدِهِ الَّذِي أَحَبَّهُ لِيَدْعُوَهُ فَيَسْمَعَ صَوْتَهُ دَاعِيًا لَهُ، وَيَسْأَلَهُ وَيَرَاهُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ السَّقَمُ هُوَ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ، فَيُسْقِمُ اللَّهُ تَعَالَى حَبِيبَهُ لِيَدْعُوَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُجِيبَهُ، وَيَسْأَلُهُ فَيُعْطِيهِ، وَيَشْغَلُهُ بِهِ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنْهُ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ صَبًّا كَمَا سَحَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْبَلَاءَ سَحًّا
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْتَى بِأَهْلِ الصَّلَاةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ، وَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ، وَيُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ فَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا بِغَيْرِ حِسَابٍ حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ أَنَّهُ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ أَجْسَادُهُمْ مِمَّا فِيهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ الْفَضْلِ» حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ قَالَ: ح عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ح إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ قَالَ: ح عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُسْقِمُ عَبْدَهُ الَّذِي يُحِبُّهُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ، مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ ضَعْفًا لَا يَحْتَمِلُ السَّقَمَ صَحَّحَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَابِدًا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا وَيُفَضِّلُ قُوَّتَهُ جَاهِدًا، فَيَكُونُ مَاثِلًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّهُ فَجَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا سَأَلَهُ وَإِنْ كَانَ غَيِنًّا أَقْرَضَهُ وَأَسْقَمَهُ تَضَرَّعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّحَهُ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُصْلِحُ إِيمَانَهُ لِيَصْلُحَ لَهُ، يُدَبِّرُهُ بِعِلْمِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وَعَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، فَهُوَ تَعَالَى يُحِبُّهُ لَهُ يَفْعَلُهُ بِهِ مَا يَصْرِفُ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ وَلِيَكُونَ فِي كُلِّ حَالٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مَاثِلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ مَائِلًا، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَيْهِ نَاظِرًا، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ لَهُ ذَاكِرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى مُحِبٌّ، وَعَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَلَهُ