المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أحكام البيع بالتقسيط - بحوث في قضايا فقهية معاصرة

[محمد تقي العثماني]

الفصل: ‌أحكام البيع بالتقسيط

(1)

‌أحكام البيع بالتقسيط

بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من (17) إلى (23) شعبان (1410) الموافق (14) إلى (20) مارس عام (1990) م.

ص: 9

..

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

أحكام البيع بالتقسيط

وسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فإن البيع بالتقسيط من البيوع التي قد شاع تداولها في عصرنا الحاضر في جميع البلدان الإسلامية، وهو البيع الذي يلجأ إليه كثير من الناس لشراء حاجاتهم، وتأثيث منازلهم، والتمتع بالآلات الحديثة الغالية التي لا يمكن لهم شراؤها بثمن حال.

فمست الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لهذا البيع، وما يتفرع عليه من مسائل مختلفة، وإن هذا البحث الموجز يهدف إلى إنجاز هذه الحاجة، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يوفقني فيه للسداد والصواب، ويشرح صدري لما فيه رضاه عز وجل.

حقيقة البيع بالتقسيط:

البيع بالتقسيط بيع بثمن مؤجل يدفع إلى البائع في أقساط متفق عليها، فيدفع البائع البضاعة المبيعة إلى المشتري حالّة، ويدفع المشتري الثمن في أقساط مؤجلة، وإن اسم (البيع بالتقسيط) يشمل كل بيع بهذه الصفة سواء كان الثمن المتفق عليه مساويا لسعر السوق، أو أكثر منه، أو أقل، ولكن المعمول به في الغالب أن الثمن في (البيع بالتقسيط) يكون أكثر من سعر تلك البضاعة في السوق، فلو أراد رجل أن يشتريها نقدا، أمكن له أن يجدها في السوق بسعر أقل ولكنه حينما يشتريها بثمن مؤجل

ص: 11

بالتقسيط، فإن البائع لا يرضى بذلك إلا أن يكون ثمنه أكثر من ثمن النقد، فلا ينعقد البيع بالتقسيط عادة إلا بأكثر من سعر السوق في بيع الحال.

زيادة الثمن من أجل التأجيل:

ومن هنا ينشأ السؤال: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحال؟ وقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة قديما وحديثا، فذهب بعض العلماء إلى عدم جوازه، لكون الزيادة عوضا من الأجل، وهو الربا، أو فيه مشابهة للربا، وهذا مذهب مروي عن زين العابدين علي بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، كما نقل عنهم الشوكاني رحمه الله (1)

أما الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء والمحدثون، فقد أجازوا البيع المؤجل بأكثر من سعر النقد، بشرط أن يبت العاقدان بأنه بيع مؤجل بأجل معلوم، وبثمن متفق عيه عند العقد، فأما إذا قال البائع: أبيعك نقدا بكذا ونسيئة بكذا، وافتراقا على ذلك، دون أن يتفقا على تحديد واحد من السعرين، فإن مثل هذا البيع لا يجوز، ولكن إذا عين العاقدان أحد الشقين في مجلس العقد، فالبيع جائز. يقول الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه: تحت حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: (أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإن فارقه على أحدهما، فلا بأس، إذا كانت العقدة على أحد منهما)(2) .

(1) نيل الأوطار: 5/129.

(2)

جامع الترمذي، كتاب البيوع، باب 18، حديث 1331: 3/533، طبع بيروت.

ص: 12

وحاصل قول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: أن علة النهي عن هذا البيع إنما هو تردد الثمن بين الحالتين، دون أن تتعين إحداهما عند العقد، وهذا يوجب الجهالة في الثمن، وليس سبب النهي زيادة الثمن من أجل التأجيل، فلو زالت مفسدة الجهالة بتعيين إحدى الحالتين فلا بأس بهذا البيع شرعا.

وإن ما ذكره الإمام الترمذي رحمه الله، هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء (1) ، وهو الراجح بالدليل، لأنه ليس في القرآن والسنة ما يمنع جواز مثل هذا البيع، وإن تعريف الربا لا ينطبق على هذه الزيادة في الثمن، لأنه ليس قرضا، ولا بيعا للأموال الربوية بمثلها، وإنما هو بيع محض، وللبائع أن يبيع بضاعته بما شاء من ثمن، ولا يجب عليه أن يبيعها بسعر السوق دائما، وللتجار ملاحظ مختلفة في تعيين الأثمان وتقديرها فربما

تختلف أثمان البضاعة الواحدة باختلاف الأحوال، ولا يمنع الشرع من أن يبيع المرء سلعته بثمن في حالة، وبثمن آخر في حالة أخرى.

وبالتالي: فإن من يبيع البضاعة بثمانية نقدا، وبعشرة نسيئة، يجوز له الإجماع أن يبيعها بعشرة نقدا، ما لم يكن فيه غش أو خداع، فلم لا يجوز له أم يبيعها بالعشرة نسيئة؟ وبما أن هذه المسألة متفق عليها فيما بين المذاهب الأربعة المتداولة، وبين أكثر الفقهاء والمحدثين، فلا نريد الإطالة في بيان دلائلها من الكتاب والسنة، بل نريد أن ننطلق في هذا البحث على أساس جواز هذا البيع، ونذكر بعض التفاصيل والمسائل المتفرعة على هذا الجواز.1- الجزم بأحد الثمنين شرط للجواز:

قد تبين فيما سبق أنه لا بأس

(1) . راجع المغني، لابن قدامة:4/290؛والمبسوط، للسرخسي:13/8؛والدسوقي على الشرح الكبير:3/58؛ومغني المحتاج للشربيني: 2/31.

ص: 13

للبائع أن يذكر الأثمان المختلفة عند المساومة، فيقول: أبيعه نقدا بثمانية، ونسيئة بعشرة، وهل يجوز أن يذكر أثمانا مختلفة باختلاف الآجال، مثل أن يقول: أبيعه إلى شهر بعشرة، وإلى شهرين باثني عشر مثلا؟ لم أر في ذلك تصريحا من الفقهاء، وقياس قولهم السابق أن يجوز ذلك أيضا؛ لأنه إذا جاز اختلاف الأثمان على أساس كونها نقدا أو نسيئة، جاز اختلافها على أساس آجال مختلفة، لأنه لا فارق بين الصورتين.

ولكن اختلاف الأثمان هذا إنما يجيز ذكرها عند المساومة، وأما عقد البيع فلا يصح، إلا إذا اتفق الفريقان على أجل معلوم وثمن معلوم، فلا بد من الجزم بأحد الشقوق المذكورة في المساومة.

فلو قال البائع مثلا: إن أديت الثمن بعد شهر، فالبضاعة بعشرة، وإن أديته بعد شهرين، فهو باثني عشر، وإن أديته بعد ثلاثة أشهر، فهو بأربعة عشر، وافترقا على ذلك بدون تعيين أحد هذه الشقوق، زعما من المشتري أنه سوف يختار منها ما يلائمه في المستقبل، فإن هذا البيع حرام بالإجماع. ويجب على العاقدين أن يعقداه من جديد بتعيين أحد الشقوق واضحا.

2 -

إنما الجائز زيادة في الثمن، لا تقاضي الفائدة:

ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن ما ذكر من جواز هذا البيع إنما هو منصرف إلى زيادة في الثمن نفسه، أما ما يفعله بعض الناس من تحديد ثمن البضاعة على أساس سعر النقد، وذكر القدر الزائد على أساس أنه جزء من فوائد التأخير في الأداء، فإنه ربا صراح، وهذا مثل أن يقول البائع: بعتك هذه البضاعة بثماني ربيات نقدا، فإن تأخرت في الأداء إلى مدة شهر، فعليك ربيتان علاوة على الثمانية، سواء سماها "فائدة "(Interest) أو لا، فإنه لا شك في كونه معاملة ربوية، لأن ثمن البضاعة إنما تقرر كونه ثمانية، وصارت هذه الثمانية دينا في ذمة المشتري، فما يتقاضى عليه البائع من الزيادة فإنه ربا لا غير.

ص: 14

والفرق العملي بين الصورتين، أن ما تصور كونه ثمنا في الصورة الأولى، صار ثمنا باتا بعد جزم الفريقين بأحد الشقوق، ولا يزيد هذا الثمن بعد تمام البيع ولا ينقص باختلاف أحوال المشتري في الأداء فلو كان المشتري اشترى البضاعة بعشرة على أنه سيؤدي الثمن بعد شهر، ولكنه لم يتمكن من الأداء إلا بعد شهرين، فإن الثمن يبقى عشرة كما هو، ولا يزيد بزيادة مدة الأداء الفعلي، وأما في الصورة الثانية، فالثمن ثمانية، وما يزيد عليه فائدة تطالب من أجل التأخير في الأداء، فلا تزال تزيد الفائدة كلما يطول التأخير، فتصير ربيتين في شهر، وأربع ربيات في شهرين، وهكذا، فالصورة الأولى نوع من أنواع البيع الحلال، والصورة الثانية داخلة في الربا المحرم شرعا.

3-

توثيق الدين وأنواعه:

وبما أن الثمن في البيع المؤجل يصير دينا على المشتري فور تمام العقد، فإنه يجوز للبائع أن يطالبه بتوثيق لهذا الدين، أو بضمان للتسديد عند حلول الأجل.

الرهن:

أما ضمان التسديد، فيمكن بطريق الرهن، أو بكفالة من الطرف الثالث، وفى الصورة الأولى يرهن المشتري شيئا من ممتلكاته لدى البائع، ويحق للبائع أن يمسكه كضمان للتسديد، بدون أن ينتفع به في صورة من الصور، لأن الانتفاع بالمرهون شعبة من شعب الربا، ولكن يبقى الشىء المرهون بيد البائع لضغط المشتري على الاهتمام بأداء الأقساط في موعدها، وليحق له إذا قصر المشتري في الأداء عند حلول الأجل، أن يبيع الشيء المرهون ويسدد دينه بذلك، ولكن لا يجوز له أن يتجاوز عن الثمن المتفق عليه في العقد، فإن فضل من قيمة الشيء المرهون شيء بعد تسديد الدين رده إلى المشتري الراهن، وكما يجوز رهن الأعيان المملوكة للمشتري كذلك يجوز رهن مستندات الملكية لتلك الأعيان.

ص: 15

إمساك البائع المبيع لضمان التسديد:

وقد اطلعت على صورة من المعاملات المعاصرة الجارية بين الناس، وهي أن البائع في البيع المؤجل يمسك المبيع عنده إلى أن يتم التسديد من قبل المشتري، أو إلى أن يتم تسديد بعض الأقساط.

وإن إمساك المبيع بيد البائع في هذه الصورة يمكن أن يتصور بطريقتين:

الأول: أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن.

والثانى: أن يكون بطريق الرهن، والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، لا بالقيمة، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده، ينفسخ البيع، ولا يكون مضمونا عليه بقيمته السوقية، أما في الرهن، لو هلك عند البائع بغير تعد منه، لا ينفسخ البيع، بل يضمنه المرتهن بأقل من قيمته ومن الدين عند الحنفية (1) وإذا هلك بتعد منه، يضمنه المرتهن بقيمته السوقية، لا بالثمن.

فأما الطريق الأول، وهو حبس البائع المبيع لاستيفاء الثمن، فإنه لا يجوز في البيع بالتقسيط، لأن البيع بالتقسيط بيع مؤجل، وإن حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثمن إنما يثبت في البيوع الحالة، وليس له ذلك في البيوع المؤجلة، جاء في الفتاوى الهندية:

(قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان حالا، كذا في المحيط، وإن كان مؤجلا فليس للبائع أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل ولا بعده، كذا في المبسوط)(1) .

(1) بدائع الصنائع:6/160.

(2)

الفتاوى الهندية: 3/15، باب 4، من كتاب البيوع.

ص: 16

وأما الطريق الثاني، وهو أن يمسك البائع المبيع عنده بصفة كونه رهنا من المشتري بالثمن الواجب في ذمته، فإنه يمكن بطريقين أيضا:

الأول: أن يرهنه المشتري قبل أن يقبضه من البائع، فهذا لا يجوز أيضا، لأنه في معنى حبس المبيع عند البائع لاستيفاء الثمن، وذلك لا يجوز في البيوع المؤجلة، كما ذكرنا.

والثاني: أن يقبضه المشتري من البائع أولا، ثم يرده إليه بصفة كونه رهنا، فهذا جائز عند أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، قال الإمام محمد في الجامع الصغير:(ومن اشترى ثوبا بدراهم، فقال للبائع: أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن، فالثوب رهن) . ونقله المرغيناني في الهداية، وقال شارحها في الكفاية:(لأن الثوب لما اشتراه وقبضه، كان هو وسائر الأعيان المملوكة سواء في صحة الرهن)(1) .

وذكر الحصكفي هذه المسألة في الدر المختار، وأوضحها بقوله:(ولو كان ذلك الشيء الذي قال له المشتري: أمسكه، هو المبيع الذي اشتراه بعينه، لو بعد قبضه، لأنه حينئذ يصلح أن يكون رهنا بثمنه، ولو قبله لا يكون رهنا، لأنه محبوس بالثمن) . وقال ابن عابدين تحته: (قوله: " لأنه حينئذ يصلح

إلخ "، أي لتعيين ملكه فيه، حتى لو هلك يهلك على المشتري، ولا ينفسخ العقد، قوله: " لأنه

(1) الكفاية شرح الهداية بهامش فتح القدير: 9/99.

ص: 17

محبوس بالثمن "، أى وضمانه يخالف ضمان الرهن، فلا يكون مضمونا بضمانين مختلفين، لاستحالة اجتماعهما، حتى لو قال: أمسك المبيع حتى أعطيك الثمن قبل القبض، فهلك، انفسخ البيع، زيلعي) (1) .

والذي يظهر أن جواز مثل هذا الرهن ليس فيه خلاف بين الفقهاء المتبوعين إذا لم يكن هذا الرهن مشروطا في صلب عقد البيع، أما إذا كان مشروطا في صلب العقد فقد حكى ابن قدامة رحمه الله: (وإذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه، لم يصح، قال ابن حامد رحمه الله، وهو قول الشافعي، لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له، وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه، أو شرط رهنه قبل قبضه

وظاهر الرواية صحة رهنه

فأما إن لم يشترط ذلك في البيع، لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع، فالأولى صحته، لأنه يصح رهنه عند غيره، فصح عنده كغيره، ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع، ففي كل موضع جاز التصرف فيه وجاز رهنه، ومالا فلا، لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه) (1) .

الرهن السائل: وهناك نوع آخر من الرهن يوجد في قوانين كثير من البلاد الإسلامية، لا يقبض فيه المرتهن على الشيء المرهون، وإنما يبقى

(1) . رد المحتار مع الدرالمختار، كتاب الرهن: 6/497، طبع كراتشي.

(2)

. المغني، لابن قدامة: 4/427 و 428، كتاب الرهن، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ.

ص: 18

بيد الراهن، ولكن يحق للدائن إذا قصر المدين في الأداء أن يطالب ببيعه وتسديد دينه من حصيلة بيعه، وهذا النوع من الرهن يسمى أحيانا (الرهن الساذج) (SIMPLE MORTGAGE) وأحيانا:(الذمة السائلة)(FLOTING CHARGE) وهذا مثل أن يرهن المدين سيارته لدي الدائن، ولكن تبقى السيارة بيد المدين الراهن يستعملها لصالحه كيف يشاء، ولكن لا يجوز له نقل ملكيته إلى شخص ثالث حتى يفتك الرهن السائل بتسديد الدين، ويثبت للدائن المرتهن حق في بيعها إذا قصر صاحبها في أداء دينه، وإن هذا الحق يسمى (الذمة السائلة)(FLORTING CHARGE) فهل يجوز شرعا توثيق الدين بهذا النوع من الرهن؟ وربما يقع الإشكال في جوازه من الناحية الفقهية، أن معظم الفقهاء قد اشترطوا قبض المرتهن لصحة عقد الرهن أو لتمامه على أساس قوله تعالى:{فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] . وفي (الرهن السائل) لا يقبض المرتهن على الشيء المرهون، فينبغي أن لا يصح هذا الرهن.

والواقع أن الفقهاء، وإن اشترطوا قبض المرتهن للشيء المرهون، ولكنهم في الوقت نفسه أجازوا بعد ذلك للراهن أن يستعير ذلك الشيء منه، وينتفع به لصالحه، ولا يفسد بذلك الرهن، بل يحق للمرتهن أن يسترده متى شاء، ولئن هلك الشيء المرهون عند الراهن، فإنما يهلك على مكة، ويحق للمرتهن أن يبيعه لتسديد دينه عند حلول الأجل، ولا يكون فيه أسوة لسائر الغرماء عند إفلاس الراهن أو موته. وقد جاء في الهداية للمرغيناني: (وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو ليعمل له عملا، فقبضه، خرج من ضمان المرتهن، لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن، فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء، لفوات القبض المضمون، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، لأن عقد

ص: 19

الراهن باق، لا في حكم الضمان في الحال، ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على المرتهن، كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وهذا لأن يد العارية ليست بلازمة، والضمان ليس من لوازم الرهن على كل حال) (1) .

ولكن هذا إذا تم عقد الراهن بقبض المرتهن مرة، أعارة المرتهن للراهن، أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن أصلا، فهل يثبت حكم الإعارة في تلك الصورة أيضا؟ الظاهر من عبارات الفقهاء أنه لا يثبت ذلك في تلك الصورة بناء على اشتراط القبض لصحة الرهن، ولكن هاهنا ملاحظ أذكرها لتأمل الفقهاء المعاصرين، وهي:

1 -

إن المرتهن في (الرهن السائل) وإن كان لا يقبض الشيء المرهون، ولكنه في عموم الأحوال يقبض على مستندات ملكيته، فيحتمل أن يقال: إن الرهن قد تم بقبض المستندات، ثم صار الشيء المرهون كالعارية في يد الراهن.

2 -

إن علة اشتراط القبض في الرهن، كما ذكر الفقهاء، هو تمكن المرتهن من تسديد دينه ببيع ذلك الشيء عند الحاجة، وإن هذا المقصود حاصل في " الرهن السائل " على أساس شروط الاتفاقية المعترف بها قانونا، فيحتمل أن يكون القبض الحسي غير لازم في الصورة المذكورة، لحصول المقصود بهذه الشروط المقررة.

3 -

المقصود من الرهن هو توثيق الدين، وقد أجازت الشريعة لحصول هذا المقصود أن يحبس الدائن ملك المديون ويمنعه عن التصرف فيه إلى أن يتم تسديد الدين، فإن رضي الدائن بحصول مقصوده بأقل من ذلك، وهو أن يبقي العين المرهون بيد الراهن، ويبقى للمرتهن حق

(1) الهداية مع فتح القدير: 9/116؛ وراجع أيضا: رد المحتار: 6/510 و 511.

ص: 20

التسديد فقط، فلا يرى في ذلك أي محظور شرعي.

4 -

إن " الرهن السائل " فيه مصلحة للجانبين، أما مصلحة الراهن فظاهرة، من حيث إنه لا يحرم من الانتفاع بملكه، وأما مصلحة المرتهن، فمن حيث إنه يحتفظ بحق

التسديد دون أن يضمن الشيء المرهون عند الهلاك، غاية الأمر أنه ربما بتضرر به

الغرماء الآخرون عند إفلاس الراهن، فإن المرتهن يكون أحق بذلك الشيء ممن سواه من الغرماء، ولكن ضررهم هذا لم يعتبر شرعا فيما إذا كان الرهن مقبضا للمرتهن، وفيما إذا قبضه المرتهن، ثم استعاره الراهن منه، كما تقدم، فتبين أن مجرد هذا الضرر لا يفسد الرهن.

5 -

إن القبض على الشيء المرهون ربما يكون متعذرا في التجارة الدولية، التي يكون البائع فيه ببلد، والمشتري ببلد آخر، والشيء المرهون يتطلب مؤونة كبيرة ونفقات باهظة لتحويله من محل إلى آخر، ولا سبيل لتوثيق الدين في مثل هذه الصورة إلا " بالرهن السائل ".

وإن هذه الملاحظات الخمس قد تجعلني أميل إلى جواز " الرهن السائل "، والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها، والله سبحانه أعلم.

الكفالة من طرف ثالث:

ومن طرق ضمان التسديد أن يكفل طرف ثالث بمبلغ الدين ويلتزم على نفسه تسديد الدين من عنده إذا قصر المدين الأصيل، وهذا النوع من الضمان يسمى " كفالة " وللكفالة أحكام مبسوطة في كتب الفقه، لا نقصد ذكرها في هذا البحث. ولكن نريد هاهنا أن نلم بجزئية واحدة من أحكام الكفالة، وهي تقاضي الأجرة أو الجعل على الكفالة، فإن البنوك التقليدية في عصرنا لا تضمن لأحد بأداء الدين إلا إذا رضي المكفول به ببذل أجرة معلومة على ذلك، وربما تكون لهذه الأجرة نسبة مرتبطة بمبلغ الدين، مثل الثلاث في المائة، أو الأربع في المئة.

ص: 21

ومن المعروف في الفقه الإسلامي أن الكفالة عقد تبرع كالقرض، فلا يجوز تقاضي الأجرة عليها. ولكن ربما استدل بعض المعاصرين على جواز أخذ الأجرة على الكفالة، بأن الكفالة أصبحت اليوم عنصرا قويا من عناصر التجارة المعاصرة، وقد أنشئت من أجل ذلك مؤسسات مستقلة تقدم خدمات الكفالة وتنفق على هذه الخدمات نفقات باهظة، فلم تعد الكفالة عقد تبرع محض، وإنما أصبحت معاملة مالية يحتاج إليها التجار، وخاصة في التجارات الدولية، وليس من الميسور الحصول على المتبرعين بالكفالة بالعدد المطلوب، فينبغي أن يجوز إعطاء الأجرة عليها.

ولكن هذا الدليل غير صحيح، لأنه لو كان صحيحا لجاز تقاضي الفائدة على القرض أيضا، لأن نفس هذا الكلام ينطبق على عقد القرض سواء بسواء، فإن القرض، وإن كان عقد تبرع في الأصل، غير أنه قد أصبح اليوم من الحاجات الأساسية للتجارة، وقد أنشئت لتقديم القروض مؤسسات مستقلة، وهي البنوك، ولا يمكن الحصول على المتبرعين بالقرض بالعدد المطلوب، ومع ذلك لا يقول أحد بجواز تقاضي الفائدة على القروض.

والواقع أن الكفالة والقرض لا يختلفان في كونهما عقدي تبرع، وكما لا يجوز أخذ الفائدة على القرض، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، بل إن أجرة الكفالة أولى بالتحريم من فائدة القرض، وذلك لأن الكفالة التزام محض لأداء الدين عن المكفول له، بحيث إذا وقع الأداء فعلا، فإنه يصير قرضا للكفيل على الأصيل، فكأنه التزام بالإقراض، في حين أن الإقراض هو الدفع فعلا، فإذا كان أخذ الأجرة على الإقراض - وهي الفائدة - ممنوعا، فإن أخذ الأجرة على الالتزام به أولى بالمنع.

ويتضح هذا بمثال: هب أن زيدا استدان من عمرو مائة دولار، وطالبه عمرو بكفيل. فجاء خالد يقول لزيد: أنا أؤدي عنك دينك الآن، على أن تعطيني بعد ذلك مائة وعشرة، والعشرة أجرة على ما قدمته من

ص: 22

خدمة الأداء. وجاء بكر يقول لزيد: أنا أكفل عنك دينك، على أن تعطيني عشرة دولارات أجرة الكفالة، وتكون المائة قرضا عليك إذا اضطررت إلى الأداء فعلا.

ويلزم القائلين بجواز أجرة الكفالة أن تكون الأجرة التي يتقاضاها بكر جائزة، والأجرة التي تقضاها خالد حراما، مع أن خالدا قد بذل ماله فعلا، وإن بكرا لم يفعل شيئا إلا الالتزام بالبذل عند الأداء، فلو كانت الأجرة المطلوب من قبل الباذل حراما، فالأجرة المطلوبة من قبل الملتزم أولى بالتحريم.

وبعبارة أخرى، فإن الكفيل نفسه، لو اضطر إلى أداء الدين من قبل الأصيل، فإنه لا يجوز له أن يطالب الأصيل إلا بما دفع فعلا، ولا يجوز له الزيادة على ذلك، لكونها ربا محرما، فكيف يجوز له أن يطالب الأصيل بشيء فيما إذا لم يدفع شيئا، وإنما التزم بالدفع فقط؟

وبهذا تبين أنه لا سبيل إلى القول بجواز أجرة الكفالة (1) ، فما هو البديل الشرعي الذي يمكن أن تتخذه البنوك الإسلامية، لا سيما في عمليات التجارة الدولية، وفي إصدار خطاب الضمان (etter of Credit) ؟ والجواب أنه يجوز للبنك أن يتقاضى من العميل شيئين: الأول: النفقات الفعلية التي تحملها في عملية إصدار خطاب الضمان.

الثاني: الأجر على جميع الأعمال التي يباشرها بصفة الوكيل، أو السمسار، أو الوسيط بين المورد والمصدر. ولكن لا يجوز له أن يطالب بالأجرة على نفس الكفالة والضمان.

(1) هذا ما أراه حتى الآن ولكن المسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

ص: 23

توثيق الدين بالكمبيالة:

وربما يقع توثيق الدين بتوقيع المشتري على وثيقة مكتوبة يعترف بها بكونه مديونا للبائع بمبلغ مسمى إلى أجل مسمى. ويلتزم بأداء مبلغها في تاريخ معين، وتسمى هذه الوثيقة المكتوبة في العرف المعاصر " كمبيالة "(Bill of Exchange) وإن التاريخ الذي يلزم فيه الأداء يسمى " تاريخ نضج الكمبيالة "(Maturity date) .

وإن توثيق الدين بالكمبيالة جائز شرعا، بل هو مندوب بمقتضى قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282] .

ولكن المشكلة إنما تحدث من جهة أن الكمبيالة قد أصبحت اليوم آلة قابلة للتداول (Negotiable Instrument) وإن حامل الكمبيالة، وهو الدائن الأصيل ربما يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من المبلغ المكتوب عليها، طمعا في استعجال الحصول على المبلغ قبل حلول الأجل. وإن هذا البيع يسمى " خصم الكمبيالة "(Discounting of the Bill) فكلما أراد حامل الكمبيالة أن يتعجل في قبض مبلغها، ذهب إلى شخص ثالث، وهو البنك في عموم الأحوال، وعرض عليه الكمبيالة، والبنك يقبلها بعد التظهير (1)(Endorsement) من الحامل، ويعطى مبلغ الكمبيالة نقدا بخصم نسبة مئوية منها.

وإن خصم الكمبيالة بهذا الشكل غير جائز شرعا، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة ومؤجلة، وحرمته منصوصة في أحاديث ربا الفضل.

ولكن هذه المعاملة يمكن تصحيحها بتغيير طريقها وذلك أن يوكل

ــ

(1)

التظهير: هو التوقيع على ظهر الوثيقة، ويعتبر دليلا على أن صاحبها قد تنازل عن مبلغها لغيره.

ص: 24

صاحب الكمبيالة البنك باستيفاء دينه من المشتري (وهو مصدر الكمبيالة) ويدفع إليه أجرة على ذلك، ثم يستقرض منه مبلغ الكمبيالة، ويأذن له أن يستوفي هذا القرض مما يقبض من المشتري بعد نضج الكمبيالة، فتكون هناك معاملتان مستقلتان: الأولى معاملة التوكيل باستيفاء الدين بالأجرة المعينة، والثانية: معاملة الاستقراض من البنك، والإذن باستيفاء القرض من الدين المرجو حصوله بعد نضج الكمبيالة، فتصح كلتا المعاملتين على أسس شرعية، أما الأولى، فلكونها توكيلا بالأجرة، وذلك جائز، وأما الثانية، فلكونها استقراضا من غير شرط زيادة، وهو جائز أيضا.

إسقاط بعض الدين مقابل التعجيل:

ومما يتعامل به بعض التجار في الدين المؤجلة أنهم يسقطون حصة من الدين بشرط أن يعجل المدين الباقي، مثل أن يكون لزيد على عمرو ألف، فيقول زيد: عجل لي تسعمائة، وأنا أضع عنك مائة، وإن هذه المعاملة معروفة في الفقه الإسلامي باسم " ضع وتعجل ".

وقد اختلف الفقهاء في حكمها، فذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنه من الصحابة وإبراهيم النخعي من التابعين وزفر بن الهذيل من الحنفية، وأبو ثور من الشافعية إلى جوازه، وروي عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت من الصحابة رضي الله عنهم وعن محمد بن سيرين والحسن البصري، وابن المسيب، والحكم بن عتيبة، والشعبي رحمهم الله من

ص: 25

التابعين عدم جواز ذلك (1) ، وهو المروي عن الأئمة الأربعة. وهناك حديثان مرفوعان متعارضان، وفي إسناد كل واحد منهما ضعف: أما الحديث الأول، فقد أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:" لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاء ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله، إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا "(2) .وهذا الحديث يدل على الجواز، ويعارضه ما أخرجه البيهقي في الباب اللاحق عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال:" أسلفت رجلا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين دينارا، وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا يا مقداد وأطعمته"(3) .وقد صرح البيهقي رحمه الله تعالى، بأن كل واحد من الحديثين ضعيف من جهة الإسناد، فلا تقوم بأي منهما حجة. ورجع جمهور الفقهاء جانب الحرمة، لأن زيادة الدين في مقابلة التأجيل ربا صراح، فكذلك الحط من الدين بإزاء التعجيل في معناه. أما قصة بني النضير، فليس فيها حجة، أما أولا: فلأن إسنادها ضعيف، وأما ثانيا، فلأنه لو ثبتت هذه القصة من جهة الإسناد، فيمكن أن يقال: إن قصة إجلاء بني النضير وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل نزول حرمة الربا.

(1) راجع آثارهم في موطأ الإمام مالك: 1/606؛ ومصنف عبد الرازق: 8/74_71.

(2)

السنن الكبري للبيهقي: 6/28، كتاب البيوع، باب من عجل له أدنى من حقه.

(3)

السنن الكبرى، للبيهقي: 6/28.

ص: 26

وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه القصة واستدل بها على أنه لا ربا بين المسلم والحربي، قال رحمه الله تعالى: (ولما أجلي بين النضير قالوا: إن لنا ديونا على الناس، فقال: ضعوا وتعجلوا، ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لا يجوز بين لمسلمين، فإن من كان له على غيره دين إلى أجل،

فوضع عنه بعضه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز، كره ذلك عمر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنهم (ذ) .

وحاصل هذا الجواب أن المسلمين كانوا في حالة الحرب مع بني النضير، فكان يجوز لهم أن يقبضوا على جميع أموالهم في تلك الحالة فلو استوضعوا عنهم بعض الديون، جاز من باب أولى. والوجه الرابع في الاعتذار عن قصة بني النضير أن اليهود كانوا يداينون الناس على أساس الربا، والذي أمر رسول الله عليه وسلم بوضعه، هو الربا الزائد على رأس المال، ولم يأمرهم بالوضع في رأس المال نفسه، ويؤيده أن الواقدي ذكر هذه القصة في سيره، فقال:(فأجلاهم -أي بني النضير - رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وولي إخراجهم محمد بن مسلمة، فقالوا: إن لنا ديونا على الناس إلى آجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعجلوا وضعوا)) ، فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا، وأبطل ما فضل) (2)

(1) شرح السير الكبير، للسرخسي:4/1412، فقرة 2738، وذكر هذه المسألة مرة ثانية في:4/4194، فقرة2921، بتحقيق صلاح الدين المنجد، طبع باكستان 1415 هـ.

(2)

مغازي الواقدي:1/374؛ وذكر الواقدي أن مثل هذه القصة وقعت عند إجلاء بني قينقاع أيضا، يراجع: 1/179.

ص: 27

فهذه الرواية صريحة في أن الموضوع كان هو الربا، لا حصة من رأس المال، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى القول بتحريم " ضع وتعجل " فقال الإمام مالك رحمه الله بعد رواية آثار زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم:

(قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب، ويعجله المطلوب، قال مالك: وذلك عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب في حقه، قال: هذا الربا بعينه لا شك فيه)(1) .

وقال الإمام محمد في موطئه بعد رواية أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه: (قال محمد: وبهذا نأخذ، من وجب له دين على إنسان إلى أجل، فسأل أن يضع عنه، ويعجل له ما بقي، لم ينبغ ذلك، لأنه يعجل قليلا بكثير دينا، فكأن يبيع قليلا نقدا، بكثير دينا وهو قول عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر. وهو قول أبي حنيفة (1) .

وقال ابن قدامة في المغني: (إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته، لم يجز. كرهه زيد بن ثابت وابن عمر،

(1) الموطأ، للإمام مالك، بيوع، ما جاء في الربا في الدين: 1/606، طبع كراتشي.

(2)

الموطأ، للإمام محمد: 1/334، باب الرجل يبيع المتاع أو غيره نسيئة، ثم يقول: أنقدني وأضع عنك.

ص: 28

والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة، وقال مقداد لرجلين فعلا ذلك: كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس أنه لم ير به بأسا، وروي ذلك عن النخغي وأبي ثور، لأنه آخذ ببعض حقه، تارك لبعضه، فجاز، كما لو كان الدين حالا، الخرقي: لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته، ولنا أنه بيع الحلول فيم يجز، كما لو زاده الذي له الدين فقال: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك، فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده، وهو يبيع بعض ماله ببعض، فدخلت المساهمة فيه، ولأنه سبب العتق، فسومح فيه، بخلاف غيره) (1) .

وبناء على هذه النصوص الفقهية، فالراجح حرمة إسقاط بعض الدين في مقابل إسقاط بعض الأجل.

(ضع وتعجل) في الديون الحالة:

ولكن الذي يبدو أن حكم المنع هذا يختص بالديون المؤجلة. أما في الديون الحالة التي لا يكون الأجل فيها مشروطا في العقد، وإنما يتأخر المدين في الأداء لسبب أو لآخر، فالظاهر أنه لا بأس بالصلح على إسقاط بعض الدين بشرط أن يؤدي المدين الدين المتبقي معجلا، وهذا قد صرح به علماء المالكية، جاء في المدونة الكبرى: (قلت: أريت: لو أن لي على رجل ألف درهم قد حلت، فقلت: اشهدوا: إن أعطاني مائة درهم عند رأس الشهر،

(1) المغني، لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/174 و175.

ص: 29

فتسعمائة درهم له، وإن لم يعطني فالألف كلها عليه. قال مالك: لا بأس بهذا، وإن أعطاه رأس الهلال فهو كما قال: وتوضع عنه التسعمائة، فإن لم يعطه رأس الهلال، فالمال كله عليه)

ثم ذكر مسألة أخرى من هذا النوع، فقال:(قلت: أرأيت لو أن لي على رجل مائة دينار ومائة درهم حالة فصالحته من ذلك الربا. على مائة دينار ودرهم نقدا، قال: لا بأس بذلك)(2) . وقال الحطاب رحمه الله تعالى: (وما ذكره عن عيسى هو في نوازله من كتاب المديان والتفليس ونصه: وسئل عن الرجل يقول لغريمه وقد حل حقه: أم عجلت لي كذا وكذا من حقي فبقيته عنك موضع إن عجلته لي نقدا الساعة، أو إلى أجل يسميه، فعجل له نقدا، أو إلى الأجل، إلا الدرهم أو النصف أو أكثر من ذلك: هل تكون الوضيعة لازمة؟ فقال: ما أرى الوضيعة تلزمه إذا لم يعجل له جميع ذلك، وأرى الذي له الحق على شرطه. قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية، وهو قول أصبغ في الواضحة. ومثله في آخر كتاب الصلح من المدونة أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن يعجل له جميع ما شرط إلى الأجل الذي سمي، وهو أصح الأقوال)(2) .

(1) المدونة الكبرى: 11/27، آخر كتاب الصلح.

(2)

تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص231، وراجع أيضا: فتح العلي المالك: 1/289 و 290.

ص: 30

فهذا تصريح من علماء المالكية في جواز " ضع وتعجل " في الديون الحالة، ويبدو أن مذهب غيرهم من الفقهاء موافق لهم في ذلك، فإنهم حيث ذكروا حرمة " ضع وتعجل" قيدوا ذلك بالديون المؤجلة، كما هو ظاهر من عبارة الإمام محمد بن حسن في موطئه ومن ترجمة الباب التي عقدها، كذلك قيد ابن قدامة هذه المسألة بالدين المؤجل، (وقد مرت نصوصهما آنفا) ومن المعلوم أن مفاهيم كتب الفقه فيها حجة، فدل على جواز " ضع وتعجل " في الديون الحالة، وقال الشيخ ولي الدهلوي رحمه الله تعالى بعد ذكر قصة كعب وابن أبي حدود في وضع نصف الدين (1) : (فقال أهل العلم في التطبيق بينه وبين هذه الآثار أن الآثار في المؤجل، وهذا في الحال، وفي كتاب الرحمة: اتفقوا على من كان له دين على إنسان إلى أجل، فلا يحل له أن يضع عنه بعض الدين قبل الأجل ليعجل له الباقي

على أنه لا بأس إذا حل الأجل أن يأخذ البعض ويسقط البعض) . والفرق بين الديون المؤجلة والديون الحالة ظاهر من جهة أن الدين الحال لا يشترط فيه الأجل، ولا يكون التأجيل فيه حقا من حقوق المدين، وبما أن الأجل منتف، فلا يمكن أن يقال إن الحصة الموضوعة من الدين عوض عن الأجل، فلا يكون في معنى ومما يجدر بالذكر هنا: أن عقد القرض الحسن لا يتأجل بالتأجيل عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ويتأجل عند المالكية فقط. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن أجل القرض لم يتأجل، وكان حالا. وكل دين حلّ

ــ

(1)

المسوى مع المصفى: 2/382.

ص: 31

أجله لم يصر مؤجلا بتأجيله، وبهذا قال الحارث العكلي والأوزاعي وابن المنذر والشافعي. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل. وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف كقولنا) (1) . وقال العيني رحمه الله تعالى: (اختلف العلماء في تأخير الدين إلى أجل، فقال

أبو حنيفة وأصحابه: سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل، له أن يأخذ متى أحب، وكذلك العارية وغيرها، لأنه عندهم من باب العدة والهبة غير مقبوضة، وهو قول الحارث العكلي وأصحابه وإبراهيم النخعي. وقال ابن أبي شيبة: وبه نأخذ. وقال مالك وأصحابه إذا أقرضه إلى أجل، ثم أراد أن يأخذ قبل الأجل، لم يكن له ذلك) (2) . فعلى قول من يقول: إن القرض لا يتأجل بالتأجيل، يجوز " ضع وتعجل " في القروض، لأنها من الديون الحالة التي يجوز فيها " ضع وتعجل ". والأصل فيه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه:(أنه كان له على عبد الله بن حدرد الأسلمي دين، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت الأصوات، فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب: وأشار بيده كأنه يقول: النصف. فأخذ نصف ما عليه وترك نصفا)(3) .

ــ

(1)

المغني، لابن قدامة مع الشرح الكبير: 4/354.

(2)

عمدة القاري، للعيني:6/60و61، وكتاب الاستقراض، باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى. وراجع أيضا أحكام القرآن، للجصاص1/483، تحت آية المداينة، وفتح الباري: 5/ 66، والمسوى مع المصفى: 1/382، وتنقيح الفتاوى الحامدية: 1/277 و 278، وشرح المجلة للأتاسي: 1/439.

(3)

أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، وهذا لفظه في الخصومات، باب في الملازمة بحديث 2424.

ص: 32

الوضع عند التعجيل من غير شرط:

وكذلك المنع من الوضع بالتعجيل في الديون المؤجلة إنما يكون إذا كان الوضع شرطا للتعجيل. أما إذا عجل المدين من غير شرط، جاز للدائن أن يضع عنه بعض دينه تبرعا. وعليه حمل الجصاص رحمه الله الآثار التي تدل على جواز "ضع وتعجل" قال رحمه الله تعالى:(ومن أجاز من السلف إذا قال: عجل لي وأضع عنك، فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط، ويعجل الآخر الباقي بغير شرط)(1) .

(ضع وتعجل) في المرابحة المؤجلة:

ثم إن وضع بعض الدين المؤجل بشرط التعجيل ممنوع في بيوع المساومة، يعني في البيوع المطلقة التي لا يعقدها البائع بطريق المرابحة، فيعقد البيع بدون ذكر قدر الربح الذي يريد أن يرابحه عليه. أما إذا كان البيع بطريق المرابحة، وقد صرح فيه البائع بزيادة في الثمن من أجل الأجل، فقد أفتى المتأخرون من الحنفية بأنه إذا قضى المدين الدين قبل حلول الأجل، أو مات قبله، فإن البائع لا يأخذ من الثمن إلا بمقدار ما مضى من الأيام، ويحط من دينه ما كان بإزاء المدة الباقية. قال الحصكفي في الدر المختار:(قضى المدين الدين المؤجل قبل الحلول أو مات، فحل بموته، فأخذ من تركته لا يأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين، قنية، وبه أفتى المرحوم أبو السعود أفندي مفتي الروم، وعلله بالرفق للجانبين) .

(1) أحكام القرآن للجصاص:1/467 تحت آية الربا.

ص: 33

وقال ابن عابدين تحته: (قوله: لا يأخذ المرابحة) صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدا، وباعه بآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، وإذا قضاه بعد تمام خمسة (أشهر) أو مات بعدها يأخذ خمسة، ويترك خمسة) (1) . وقد ذكرت هذه المسألة بعينها في تنقيح الفتاوى الحامدية، وفيها من الزيادة ما يلي:(سئل فيما إذا كان لزيد بذمة عمرو مبلغ دين معلوم، فرابحه عليه إلى سنة، ثم بعد ذلك بعشرين يوما مات عمرو المديون، فحل الدين، ودفعه الورثة لزيد، فهل يؤخذ من المرابحة شيء أو لا؟ الجواب: جواب المتأخرين أنه لا يؤخذ من المرابحة التي جرت مبايعة عليها إلا بقدر ما مضى من الأيام. قيل: (للعلامة نجم الدين: أتفتي به؟ قال: نعم. كذا في الأنقروي والتنوير. وأفتى به علامة الروم مولانا أبو السعود)(2) . وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفية تفرق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل، فلا يجوز " ضع وتعجل " في بيوع المساومة كما أسلفنا، ويجوز في بيوع المرابحة.

(1) رد المحتار، لابن عابدين:6/757، آخر الحظر والإباحة، قبيل كتاب الفرائض. وقد ذكرت هذه المسألة في البيوع قبيل فصل في القرض أيضا، وذكر فيه أنه قد أفتى به الحانوتي ونجم الدين وأبو السعود وغيرهم:5/160، والمسألة مذكورة في حاشية الطحاوي على الدر:3/104و4/363 أيضا.

(2)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 1/278، والمسألة مذكورة في شرح المجلة للأتاسي: 2/455.

ص: 34

ولعلهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحا للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال، ولكن يجوز أن يقع بإزائه شيء من الثمن ضمنا وتبعا، كما أنه لا يجوز بيع الحمل في بطن البقرة، ولكن يجوز أن يزاد من أجله في قيمة البقرة، فما لا يجوز بيعه مستقلا قد يجوز الاعتياض عنه تبعا. ولما كان أساس المرابحة على بيان قدر من الربح، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل. فصار الأجل كأنه وصف في المبيع، فلما انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول، أو بسبب حلوله بموت المدين، انتقص الثمن بقدره وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسألة، فقال:(وجه بأن الربح في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالا، ولا يقابله شيء من الثمن، ولكن اعتبروه مالا في المرابحة إذا ذكر الأجل بمقابلة زيادة الثمن، فلو أخذ كل الثمن قبل الحلول، كان أخذه بلا عوض)(1) . وهذا التوجيه، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع (ضع وتعجل) فإنها وردت في كل دين مؤجل، دون فرق بين المساومة والمرابحة، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الربوية، التي يتردد فيها القدر الواجب في الذمة ما بين القليل والكثير مرتبطا بالآجال المختلفة للأداء. فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط، ولا في المرابحات التي تجريها المصارف الإسلامية. والله سبحانه وتعالى أعلم.

حلول الدين بالتقصير في أداء بعض الأقساط:

وقد تنص بعض اتفاقيات البيع التقسيط على أن المشتري إذا لم يؤد

ــ

(1)

. رد المحتار: 6/757، قبيل كتاب الفرائض.

ص: 35

قسطا من الثمن في موعده المحدد، فإن بقية الأقساط تصير حالة ويجوز للبائع أن يطالب بها في الحال مجموعة. فهل يجوز هذا الشرط؟ وقد ذكرت هذه المسألة في بعض كتب الحنفية، فجاء في خلاصة الفتاوى:(ولو قال: كلما دخل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، ويصير المال حالا)(1) . وقد ذكرت هذه المسألة في الفتاوى البزازية محرفة لا يستقيم بها المعنى، ونبه على ذلك الرملي في حاشيته على جامع الفصولين، فقال:(في البزازية: وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد بأن قال: كلما حل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، وصار حالا. اهـ. وعبارة الخلاصة: وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد. ولو قال: كلما دخل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، والمال يصير حالا. اهـ. فجعلها مسألتين، وهو الصواب. والله أعلم. ذكره الغزي)(2) . وإن هذه النصوص الفقهية تدل على جواز مثل هذا الشرط. وحينئذ إذا قصر المشتري في أداء بعض الأقساط عند حلول موعدها جاز للبائع أن يطالبه ببقية الأقساط حالة. ولكن مقتضى ما ذكرناه عن بعض المتأخرين من الحنفية في مسألة المرابحة السابقة أن لا يطالبه من ربح المرابحة إلا بقدر ما مضى من الأيام. فمن أخذ بتلك الفتوى، فليأخذ بها في هذه المسألة أيضا، ومن لم يأخذ بها، كما هو المناسب في رأينا، فإنما يفتي بحلول الثمن بكامله عند التقصير في أداء بعض الأقساط، والله سبحانه أعلم.

ــ

(1)

خلاصة الفتاوى: 3/54، طبع لاهور، كتاب البيوع.

(2)

الفوائد الخيرية على جامع الفصولين: 2/4، طبع الأزهرية، مصر 1300هـ.

ص: 36

مسألة التعويض عن ضرر المطل:

وهناك مسألة أخرى تتعلق بالبيع المؤجل، وهي أن المشتري المدين ربما يقصر في أداء دينه عند حلول الأجل، أو في أداء بعض الأقساط في موعدها. فإن كان هذا التقصير من أجل إعساره، فقد بين القرآن الكريم حكمه واضحا، وهو قوله تعالى:{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] .

يعني: يجب على الدائن في هذه الحال أن يمهله إلى أن يزول إعساره، ويتمكن من أداء دينه، ولا يجوز للدائن أن يضيف إلى دينه شيئا، فإنه ربا صراح، لا شبهة فيه.

ولكن التقصير في أداء الدين ربما يكون على وجه المماطلة بدون عذر الإعسار، ولقد نشاهد اليوم أن الناس قد انتقص فيهم الوازع الديني والخلقي، وقد انخفض فيهم مستوى الديانة والأمانة، فلا يحتفل كثير منهم بمسؤوليتهم عن أداء الدين في موعده، فيتضرر الدائن بمماطلته ضررا بينا. وإن مشكلة المماطلة يواجهها اليوم كل دائن، ولكن ما تعانيه المصارف الإسلامية من الأضرار بسبب المماطلة أكثر وأبشع. وذلك لأن النظام الربوي يلعب فيه سعر الفائدة دورا فعالا في الضغط على المدين بأداء دينه في موعده، لأنه إذا قصر فيه لسبب أو آخر تضاعفت الفائدة عليه بصورة تلقائية. وبما أن الدين لا يمكن الزيادة فيه شرعا بسبب التقصير أو المماطلة، فإن الدائن ربما يستغل هذا الوضع، ويستمر في مماطلته إلى ما يشاء. ومعلوم أن لعنصر الوقت أهمية بالغة في النظام التجاري اليوم، وخاصة في النظام المصرفي المعاصر، فهل هناك من سبيل لدفع ضرر المماطلة من الدائنين، وخاصة عن المصارف الإسلامية؟ والذي أعتقد أن هذه المسألة لا تحدث مشكلة كبيرة إن كانت جميع المصارف في البلاد تتبع طريقة شرعية موحدة، وذلك لأن مثل هذا المماطل يجوز أن يعاقب بحرمانه عن الانتفاع بالتسهيلات المصرفية في

ص: 37

المستقبل، فيحمل اسمه في قائمة سوداء، ولا يتعامل معه أي مصرف في الدولة. وإن مثل هذا التهديد يؤثر في الضغط عليه بالوفاء أكثر مما يؤثر سعر الفائدة. وكذلك يجوز شرعا أن يعزر هذا المماطل بعقوبات شرعية أخرى، لقوله صلى الله عليه وسلم:(مطل الغني ظلم)(1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عقوبته عرضه)(2) .

واللّيّ معناها: المطل، والواجد بمعنى الغني.

ولكن الطريقة الأولى (وهي إدراج اسم المماطل في قائمة سوداء) إنما تؤثر إذا كانت المصارف كلها تتبع طريقة واحدة، والطريقة الثانية (وهي التعزير والعقوبة) تحتاج إلى محاكم سريعة تحكم بصفة عاجلة.

وحيث إن كلا الأمرين مفقود في كافة البلاد الإسلامية، فإن هذا الحل الأساسي لمشكلة المماطلة ليس بيد المصارف الإسلامية اليوم.

ومن أجل هذا، قد اقترح بعض العلماء المعاصرين أن يلزم مثل هذا المماطل بأدائه إلى الدائن عوضا ماليا عن الضرر الفعلي الذي لحقه بسبب مماطلته. وقدرت بعض المصارف الإسلامية هذا الضرر الفعلي على أساس نسبة الربح التي أدتها تلك المصارف فعلا خلال مدة المماطلة إلى مودعيها في حساب الاستثمار. فإن لم يكن في حساب الاستثمار في تلك المدة ربح، لم يطالب المدين بأي تعويض، فإن كان هناك ربح فإنه يطالب بنسبة ذلك الربح الفعلي الذي حصل في تلك المدة.

وقد فرق هؤلاء العلماء بين التعويض وبين الفائدة الربوية بالفوارق التالية:

ــ

(1)

. صحيح البخاري، كتاب الاستقراض، رقم 2400.

(2)

ذكره البخاري في الاستقراض تعليقا، وأخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وإسحاق في مسنديهما عن عمرو بن شريد رضي الله عنه، وإسناده حسن كما صرح به الحافظ ابن حجر في فتح الباري:5/62.

ص: 38

1-

إن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، سواء كان معسرا أو موسرا. أما التعويض فلا يلزمه إلا إذا ثبت كونه موسرا مماطلا. ولئن ثبت كونه معسرا، فلا يلزم بأداء أي تعويض.

2-

إن الفائدة الربوية تلزم المدين فور تأخيره في الأداء، حتى لو كان التأخير لمدة يوم واحد. أما التعويض: فلا يلزمه إلا إذا ثبت كونه مماطلا، والمعمول به في بعض المصارف الإسلامية أن المصرف يرسل إلى المدين أربع إخطارات أسبوعية، بعد حلول الأجل قبل أن يكلفه بأداء التعويض، فلا يلزمه التعويض إلا بعد انتظار شهر من حلول الأجل.

3-

إن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، وإن التعويض المقترح لا يجب على المدين إلا إذا تحققت في مدة مماطلته أرباح في حساب الاستثمار عند المصرف، فإن لم تتحقق هناك أرباح، فإن المدين لا يطالب بأي تعويض.

4-

إن الفائدة الربوية نسبتها معلومة للجانبين منذ أول يوم من الدخول في اتفاقية الدين. أما التعويض، فلا يمكن معرفة نسبته عند الدخول في اتفاقية المرابحة أو الإجارة، وإنما تتعين هذه النسبة على أساس نسبة الأرباح الفعلية التي سوف تتحقق خلال مدة المماطلة.

وعلى أساس هذه الفوارق الأربعة يقول هؤلاء العلماء المعاصرون: إن هذا التعويض لا علاقة له بالفوائد الربوية، ويستدلون على جواز مثل هذا التعويض بقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عقوبته وعرضه) قائلين بأن هذا التعويض

(1) الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني بطريق فيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى منه، والدارقطني من وجه ثالث، وراجع المقاصد الحسنة للسخاوي ص 468، وحسنه النووي، والمناوي في فيض القدير 6/432، لتعدد طرقه.

ص: 39

عقوبة مالية يعاقب بها المماطل. وإن هذا الرأي المعاصر في جواز التعويض فيه نظر من وجوه مختلفة، بعضها نظرية وبعضها عملية.

أما من الجهة النظرية، فإن مشكلة المماطلة ليست مشكلة جديدة قد حدثت اليوم، وإنما هي مشكلة لم يزل التجار يواجهونها في كل عصر ومصر، وكانت المشكلة موجودة في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم وفي العصور اللاحقة، ولكنه لا يوجد في شيء من الأحاديث أو الآثار ما يدل على أن هذه المشكلة قد التمس حلها بفرض التعويض على المماطل، ولم أجد في الفقهاء والمحدثين طوال أربعة عشر قرنا من حكم أو أفتى بفرض مثل هذا التعويض، بل وجدت ما يخالفه كما سأذكره إن شاء الله تعالى.

أما الاستدلال بحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) فلا شك أن إضرار الغير حرام بهذا النص، وكذلك يدل هذا النص على إزالة الضرر بطريق مشروع، ولكن لا يجب أن يزال كل ضرر بالتعويض المالي، ولا يدل النص صراحة أو إشارة، على أن إزالة ضرر المطل يكون بالتعويض. ولو كان هذا النص يدل على أن ضرر المماطل يزال بفرض

المال عليه، لكان ذلك واجبا، ولوجب على كل قاض أن يقضي بذلك، وعلى مفت أن يفتي به، ولكنه لا يوجد في التاريخ قاض أو مفت حكم أو أفتى بذلك، مع كثرة قضايا المطل في كل عصر ومصر.

ثم إن ضرر الدائن المعترف به شرعا، هو أنه لم يدفع إليه مبلغ الدين في وقته الموعود، وإزالة هذا الضرر أن يسلم إليه ذلك المبلغ الذي هو حقه، وليس من حقه المشروع ما يزيد على مبلغ الدين، فإنه ربا. ولما ثبت أن الزائد من الدين ليس من حقه، ففوات هذه الزيادة ليس ضررا معتبرا عند الشرع، فلا يزال ضرره إلا بقدر حقه.

ص: 40

أما القول بأن الدائن لو حصل على مبلغ دينه في وقته الموعود، لربح فيه الأرباح، ففوات هذه الأرباح ينبغي أن يزال من قبل من تسبب بهذا الضرر. فإن هذا القول مبني على اعتبار الربح المتوقع من النقود ربحا حقيقيا، وعلى أن النقود مدرة للربح في نفسها بحساب كل يوم. وإن هذا المبدأ إنما أقرته النظريات الربوية، ولا عهد به في الفقه الإسلامي. ولو كان هذا المبدأ معتبرا في الإسلام، لكان الغاصب أو السارق أولى بتطبيقه عليه، ولكن لا يوجد في تاريخ الفقه الإسلامي أحد ذهب إلى فرض التعويض المالي على غاصب النقود أو سارقها، لكونه فوت ربحها على المغصوب منه في مدة الغصب، وقد فرضت الشريعة الإسلامية عقوبة قطع اليد على السارق، ولم تفوض عليه أي تعويض مالي بالإضافة إلى النقود المسروقة. وهذا دليل على أن المبدأ المذكور لا تقره الشريعة الإسلامية.

وإن المدين المماطل لا يتجاوز من أن يكون غاصبا أو سارقا، فغاية ما يتصور في حقه أن تجرى عليه أحكام السرقة والغصب، ولم تفرض الشريعة الإسلامية أي تعويض على السارق أو الغاصب، من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلا من السارق والغاصب، من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلا من السارق والغاصب قد أحدث ضررا على المالك، لا في حرمانه من أصل ماله فقط، بل في فوات الربح المتوقع منه أيضا. ولكن الشريعة الإسلامية قد أمرت بإزالة هذا الضرر برد المال المسروق إلى المالك فقط، وبعقوبة الجاني في جسمه أو عرضه، فتبين أن فوات الربح المتوقع ليس ضررا معوضا عليه في الشرع.

وقد استدل بعض المعاصرين على جواز هذا التعويض بأن المنافع المغصوبة مضمونة على الغاصب عند كثير من الفقهاء، وفيما يعد للاستغلال عند الحنفية أيضا، ولكن هذا الاستدلال لا يصح في النقود المغصوبة، فإن منافع المغصوب إنما تضمن (عند من يقول بالضمان) . في

ص: 41

الأعيان المغصوبة، لا في النقود، حتى لو اتجر بالنقود المغصوبة وربح فيها، فالربح لا يقضى به للمغصوب منه في أصح القولين عند الشافعية.

وهذا في الربح الذي تحقق فعلا، فما بالك في الربح المتوقع فقط؟

ومن أجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المدين المماطل: لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " ولم يقل (يحل ماله) ولا يوجد في الفقهاء المحدثين من فسر العقوبة هنا بعقوبة مالية، على اختلاف بينهم في جواز التعزير بالمال، ولو فسرها أحد بذلك، فإن العقوبة إنما يحكم بها الحاكم لا الدائن نفسه، فكيف تنطبق هذه العقوبة على التعويض الذي يطالب به الدائن نفسه بدون حكم أي حاكم؟ ولو فوض تنفيذ العقوبات الشرعية إلى آحاد الناس بدون حكم الحاكم، لأدى ذلك في فوضوية لا يقبلها شرع ولا عقل.

هذا ما أراه بالنسبة لأصل فكرة التعويض من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية، فإن الفوارق الأربعة التي ذكرناها بين الفوائد الربوية وبين التعويض، فإنها - بالنظر إلى تطبيقها العملي - فوارق نظرية محضة، لا تخرج إلى حيز التطبيق العملي إلا في أحوال نادرة لا تصلح أن يدار عليها الأحكام.

أما الفرق الأول، وهو أن التعويض لا يطالب به من قصر في الأداء من أجل الإعسار، فإن إعسار المدين ويساره من الأمور التي يتعذر على المصرف التثبت فيها في كل قضية منفردة، فإن كل مدين يدعي أنه معسر، ولا سبيل للمصرف إلى أن يقنعه بكونه موسرا على خلاف ما يدعيه، إلا برفع القضية إلى المحكمة. ولذا، فالواقع العلمي الذي تسير عليه المصارف الإسلامية التي تقر بمبدأ التعويض، أنها تصرح في اتفاقياتها بأن المدين يعتبر موسرا إلا في الحالة التي قضي عليه فيها بالإفلاس قانونا.

ــ

(1)

المهذب للشيرازي1/370.

ص: 42

ومن المعلوم أن الإفلاس القانوني حالة نهائية لا توجد إلا نادرا. ومن المتيقن أن هناك كثيرا من الذين لم يحكم عليهم بالإفلاس، ولكنهم معسرون بكل معنى الكلمة.

وحينئذ، كيف يمكن أن يقال: إن المصارف الإسلامية لا تطالب بالتعويض في حالة إعسار المدين؟ ومن المعلوم أيضا أن من أقرض إنسانا بفائدة ربوية، فإنه لا يصح له في حالة إفلاس المقترض إلا أن يأخذ بقدر ما وجد عنده، فلم يبق في هذا المجال فرق يعتد به بين تقاضي الفائدة ومطالبة التعويض. أما الفارق الثاني: وهو محاسبة التعويض بعد شهر من حلول الأجل، فإنه على تقدير كونه معمولا به في المصارف، فرق صحيح، ولكنه لا يعدو من أن يكون فرقا لمدة شهر فحسب. وأما الفارق الثالث والرابع، وهو كون وجوب التعويض متوقفا على حصول الأرباح في مدة المماطلة، وكون نسبة التعويض غير معلومة من جهة كونها مبنية على نسبة الأرباح، فإن هذا الفرق صحيح نظريا، ولكن إذا نظرنا من الناحية العملية، رأينا أن معظم عمليات المصارف الإسلامية تدور حول المرابحة المؤجلة، وإن تحقق الربح ونسبته في هذه العمليات معروفة لدى المصرف ولدى عملائه، فأصبحت نسبة التعويض معروفة لدى الفريقين عملا.

ثم إن معظم المصارف الإسلامية تحاسب أرباحها بعد كل ستة أشهر. فلا تكون الأرباح معلومة بالضبط إلا عند نهاية كل فترة، فلو كانت مدة المماطلة في أثناء هذه الفترة، كيف تعرف الأرباح الحاصلة في هذه الفترة بالضبط؟ وإن أصحاب الودائع الذين يخرجون من المصرف قبل نهاية الفترة، إنما يعطون كدفعة تحت الحساب، وتصير هذه الدفعة تابعة للتصفية الأخيرة عند نهاية الفترة. فهل يكون التعويض المطالب به في أثناء الفترة تابعا للتصفية النهائية

ص: 43

أيضا؟ الظاهر: لا. فكيف يقال: إن التعويض موافق للأرباح الفعلية الحاصلة في خلال مدة المماطلة؟ وهناك جهة أخرى جديرة بالتأمل في هذا الموضوع وهي أن نسبة الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار تكون أقل دائما من نسبة الربح في عقود المرابحة والإجارة، فلو أراد المدين الخيانة، لأمكن له أن يستمر في صرف المبالغ إلى مشروعات تدر ربحا أكثر مما يحصل في المصرف على حساب الاستثمار، فيدفع قليلا من التعويض، ويحصل على ربح أكثر منه فيستمر في مماطلته إلى ما شاء من مدة. فيرجع نفس المحذور الذي لجأت المصارف إلى التعويض من أجله.

فاقتراح فرض التعويض على المماطلين اقتراح لا أعتقد أنه يحل مشكلة المماطلة، لا من جهة الشرع، ولا من الناحية العملية. فما هو الحل إذن؟ والحل الحقيقي لهذه المشكلة ما قدمناه في أول كلامنا في هذا الموضوع، ولكن ذلك إنما يفيد إذا أصبحت المصارف كلها تعمل على أسس شرعية. أما في الظروف الحاضرة التي لا توجد فيها المصارف الإسلامية إلا بعدد قليل، بالنسبة إلى المصارف الربوية التقليدية التي هي مبثوثة في أنحاء العالم كله، فيمكن أن تلجأ المصارف الإسلامية إلى حل مؤقت آخر، وهو أن يلتزم المدين عند توقيعه على اتفاقية المرابحة أو الإجارة بأنه إذا قصر في أداء واجبه المالي، فإنه سوف يتبرع بمبلغ معلوم النسبة من الدين إلى بعض الجهات الخيرية.

ص: 44

ويسلم ذلك المبلغ إلى المصرف، ليصرفه بالنيابة عنه إلى تلك الجهات. فإن قصر المدين في الأداء لزمه أداء هذه المبالغ إلى المصرف، ولكن هذه المبالغ لا تكون مملوكة للمصرف، ولا تكون جزءا من دخله أو ربحه، وإنما تكون أمانة عنده للصرف إلى الجهات الخيرية. وإن هذا الاقتراح إنما يفيد للضغط على المدين في أداء الدين في وقته، ومن المرجو أن هذا الضغط يؤثر في سد باب المماطلة أكثر مما يؤثر فيه اقتراح التعويض، لأن مقدار هذا التبرع الملتزم به لا يجب أن يكون بمقدار الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار في مدة المماطلة، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك، ولا بأس بتعيين مقداره على أساس نسبة معينة من مبلغ الدين، بما يجعل المدين يحتفظ بمواعيد الأداء. وفي الوقت نفسه لا يعتبر هذا التبرع ربا، لأنه لا يدخل في ملك المصرف شيئا، بل يصرف إلى الجهات الخيرية، ويمكن أن ينشأ لذلك صندوق خاص لا يكون مملوكا للمصرف، بل يكون وقفا على بعض المقاصد الخيرية يتولاه أصحاب المصرف، ويكون من مقاصده أن يقدم منه قروض حسنة لأصحاب الحاجة.

وأما المستند الشرعي لهذا الالتزام، فإن الالتزام بالتبرع جائز، عند جميع الفقهاء، وإن مثل هذا التبرع يلزم في القضاء أيضا عند بعض المالكية. والأصل عند المالكية أن الالتزام إن كان على وجه القربة، فإنه يلزم الملتزم في القضاء باتفاق علمائهم. أما إذا كان الالتزام على وجه اليمين، بمعنى أن يكون معلقا على أمر يريد الملتزم الامتناع عنه، ففي لزومه في القضاء خلاف. فذهب بعضهم إلى أنه لا يقضي به في الحكم، وخالفهم آخرون، فجعلوه لازما في القضاء، وقد تكلم الحطاب رحمه الله على هذه المسألة ببسط في كتابه (تحرير الكلام في مسائل الالتزام) وقال فيه: (أما إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه، لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وسواء كان الشيء معينا أو منفعة

ص: 45

وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف المعقود له هذا الباب، فالمشهور أنه لا يقضي به كما تقدم، وقال ابن دينار: يقضي به) (1) . وقال قبل ذلك: (وحكاية الباجي الاتفاق على عدم اللزوم فيما إذا كان على وجه اليمين غير مسلمة لوجود الخلاف في ذلك كما تقدم، وكما سيأتي)(2) . وإن الحطاب رحمه الله وإن رجح عدم اللزوم، ولكنه قال في آخر الباب:(إذا قلنا إن الالتزام المعلق على فعل الملتزم الذي على وجه اليمين لا يقضي به على المشهور، فاعلم أن هذا ما لم يحكم بصحة الالتزام المذكور حاكم. وأما إذا حكم حاكم بصحته أو بلزومه، فقد تعين الحكم به، لأن الحاكم إذا حكم بقول لزم العمل به وارتفع الخلاف)(3) . هذا على قول بعض المالكية. أما على أصل الحنفية، فإن الوعد غير لازم في القضاء، لكن صرح فقهاء الحنفية بأن (بعض المواعيد قد تجعل لازمة لحاجة الناس) . (4) فعلى هذا الأساس أرجو أن يكون هناك مجال للقول بلزوم هذا التبرع المقترح، سدا لباب المماطلة،

وصيانة لحقوق الناس عن اعتداء المعتدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ــ

(1)

تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب رحمه الله: ص176.

(2)

المرجع السابق ، ص169.

(3)

المرجع السابق ، ص185من طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت 1404 هـ.

(4)

رد المحتار مبحث البيع بالوفاء: 5/277.

ص: 46

أثر موت المديون في حلول الدين:

والمسألة الأخيرة التي نريد أن نثبتها في هذه العجالة، هي مسألة خراب ذمة المدين بموته، وهل يبقى الدين بعد موته مؤجلا كما كان، أو يصير حالا، فيطالب الدائن الورثة بأدائه من تركة الميت فورا؟ وقد اختلفت في هذه المسألة أقوال الفقهاء. فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين، وهو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل أيضا ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين، فإنه لا يحل بموت المدين، وإنما يبقى مؤجلا كما كان. قال ابن قدامة رحمه الله:(فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان: إحداهما، لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد. وقال طاوس وأبو بكر بن محمد والزهري وسعيد بن إبراهيم: الدين إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن. والرواية الأخرى: أنه يحل بالموت، وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة، أو يتعلق بالمال. ولا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة، لأنهم لم يلتزموها، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة. ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله، لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما الميت، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه))

ص: 47

وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه. وأما الورثة، فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها.

وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم) (1) . ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلا، إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن، وذكر دلائله. وأما الحنفية، فإنهم وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين على قول جمهور الفقهاء المتبوعين، ولكن المتأخرين منهم لم يفتهم النظر إلى أن في المرابحة المؤجلة تكون حصة من الثمن مقابلة لأجل، كما أسلفنا، فلو ألزمنا على تركة المشتري أن يؤخذ منها الثمن كاملا في الحال قبل حلول الأجل، لصارت الحصة المقابلة للمدة الباقية بدون عوض، وفيه ضرر للمشتري الذي لم يرض بهذا القدر من الثمن إلا إذا كان مؤجلا بأجل متفق عليه. ولذلك أفتوا بأن المشتري لا يؤدي من ثمن المرابحة في هذه الصورة إلا بقدر ما مضى من الأيام. ونعيد هنا ما قدمناه عن الدر المختار، فقال:(قضى المديون الدين المؤجل قبل الحلول أو مات فحل بموته، فأخذ من تركته لا يأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين قنية، وبه أفتى المرحوم أبو السعود أفندي مفتي الروم، وعلله بالرفق للجانبين) . وقال ابن عابدين تحته:

(1) المغني، لابن قدامة:4/486؛كتاب المفلس، وراجع أيضا الشرح الكبير:4/502، وراجع لمذهب الحنفية في حلول الدين بموت المدين، خلاصة الفتاوى: 3/95.

ص: 48

(صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أو مات بعدها يأخذ خمسة، ويترك خمسة)(1) . والحاصل عندي في هذه المسألة أن جمهور الفقهاء المتبوعين، وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين، ولكن في عمليات البيع بالتقسيط والمرابحة المؤجلة التي يكون حصة من الثمن فيها مقابلة للأجل، لو أخذنا بمبدأ حلول الدين بكامله، لتضرر به ورثة المدين. فينبغي فيها الأخذ بأحد القولين: إما بقول المتأخرين من الحنفية بسقوط تلك الحصة من الدين التي تقابل المدة الباقية من الأجل المتفق عليه، فلا يؤخذ من التركة إلا بقدر ما مضى من الأيام. أو يؤخذ بقول الحنابلة من بقاء الدين مؤجلا كما كان، بشرط أن يوثقه ورثة المدين بوثيقة معتمدة. ولعل الصورة الأخيرة أولى للبعد عن تذبذب الثمن بآجال مختلفة، الذي فيه مشابهة صورية للمعاملات الربوية.

والله سبحانه وتعالى أعلم. وله الحمد في الأولى والآخرة.

وصلى الله تعالى على نبيه وعلى آله وصحبه وتابعيهم ومن والاهم.

* * *

ــ

(1)

رد المحتار على الدر المختار: 6/757.

ص: 49

..

ص: 50