الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8)
الطرق المشروعة للتمويل العقاري
بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره
السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من (17) إلى (23) شعبان
(1410)
الموافق (14) إلى (20) آذار مارس عام (1990) م.
..
الطرق المشروعة للتمويل العقاري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن السكن من الحاجات الأصلية التي لا يمكن المرء أن يعيش بدونها. قال الله سبحانه وتعالى: {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً}
وروي عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ((ثلاث من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) (1) .
وإن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشاكل التي يجابها المرء في حياته، ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان، وغلاء الأسعار، والذين يستطيعون أن يشتروا أو يبنوا لأنفسهم مسكنا يفي بحاجاتهم قلة قليلة بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون ذلك.
ونظرا إلى هذا، ظهرت في معظم البلاد مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أو بنائها، ولكن أكثرها إنما تعمل في إطار النظام
(1) أخرجه أحمد والبزاز والطبراني في الكبير والأوسط. وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح راجع مجمع الزوائد: 4/272، وكشف الأسرار عن زوائد البزاز: 2/156، رقم (1412) .
الربوي، فتقدم إلى عملائها قروضا، وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها في عقد التمويل، وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا، وهو من أكبر المحرمات التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، فأنه لا يجدر بأي مسلم أن يدخل في عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد.
وحينئذ، يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقا للتمويل العقاري لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتي يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذي يقوم على أساس الربا المحرم شرعا.
ونريد في هذه العجالة أن نذكر طرقا شرعية للتمويل العقاري، مع ذكر أدلة إباحتها، وبيان الثمرات الناتجة عنها، والله سبحانه هو الموفق للصواب.
إن الأصل في الدولة الإسلامية أن تقوم بواجبها في توفير الحاجات الأساسية لشعبها، وتهيئ لهم هذه الحاجات، دون أن تطالبهم على ذلك بربح. وبما أن السكن من الحاجات الأساسية لكل إنسان، فمن حقه أن يحصل عليه في حدود إمكانياته المالية، ومن كانت إمكانياته ضيقة لا يستطيع بها أن يشتري مسكنا أو يبنيه من جيبه، فعلى الدولة أن تقوم بقضاء حاجته إما بأن تساعده من صندوق الزكاة، إن كان مستحقا لها، وإما بأن تبيع إليه المسكن على أساس التكلفة الفعلية، دون أن تطالبه على ذلك بربح، وإما بأن توفر له قرضا حسنا لا تتقاضى عليه أية فائدة. وإن هذه الطرق الثلاثة هي الأصل في التمويل العقاري، وهي التي توافق الروح الإسلامية، وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة، والمساعدة على الخير، والتعاون على البر، والتألم بألم الآخرين، والارتياح براحتهم، والأخذ بأيدي الضعفاء ليرتفعوا إلى مستوى معيشة مقتصدة هنيئة.
ولكن العمل بهذه الطرق الثلاثة، أو بواحدة منها، إنما يمكن لدولة
تكون لديها موارد ضخمة ووسائل جمة، فإن كلا من هذه الطرق يتطلب أموالا غزيرة، ولاسيما في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه عدد السكان، وغلت فيه الأسعار، ولا شك أن إمكانيات الدولة يمكن-وينبغي -أن تزداد بالتقليل في مصاريف غير منتجة، والتحرز عن النفقات الباهظة التي لا يقصد منها إلا الرياء أو الترف، ولكن معظم الدول اليوم لا تستطيع أن توفر السكن لجميع سكانها بهذه الطرق، ولو بتخفيف مثل هذه النفقات. فحينئذ، لا بد من اختيار بعض الطرق التي لا تكلف الدول بالتبرع المحض لتوفير المساكن، ولا بتحمل النفقات التي لا تطاق، وتكون في الوقت نفسه سالمة من الربا، أو المحظورات الشرعية الأخرى، وهي كالتالي:
1-
البيع المؤجل:
فالطريق الأول هو أن يتملك الممول (1) بيتا، ثم يبيعه إلى العميل بربح بيعا مؤجلا ويستلم منه الثمن بأقساط معلومة في عقد البيع، يمكن أن يعفيه هذا البيع المؤجل مطلقا إننا في هذه
عن بيان نسبة الربح، وحينئذ يكون تعيين تلك النسبة بيد الممول. ويمكن أيضا أن يعقد البيع عن طريق المرابحة، وذلك بأن يصرح في العقد بنسبة الربح الذي يتقاضاه الممول زائدا على تكاليفه الفعلية. فإن كان البيت موجودا عند التمويل، ولا يحتاج إلى بناء، فللممول أن يشتريه، ويبيعه إلى العميل بالطريق المذكور، وإن لم يكن هناك بيت مبني، ويريد العميل أن يبنيه، فحينئذ يستطيع الممول أن يوكل العميل ببناء البيت، ويكون بناؤه على ملك الممول، وإنما يشرف عليه العميل كوكيل له، وحينما يتم البناء يبيعه الممول إلى العميل بيعا مؤجلا.
(1) إننا في هذه المقالة نستعمل لفظ (الممول) لمن يريد أن يقدم التمويل العقاري ولفظ (العميل) لمن يريد أن يستفيد بذلك التمويل.
هذا إذا كان العميل لا يمكن له أن يستخدم شيئا من ماله نقدا في شراء البيت أو بنائه.
أما إذا كان العميل يستطيع أن يقدم حصة من تكاليف البيت نقدا، غير أن السيولة الموجودة عنده لا تفي بجميع النفقات اللازمة للشراء أو البناء، فيريد أن يطلب من الممول الحصة الباقية فقط، كما هو الحال في أكثر التمويلات العقارية اليوم، فيمكن له أن يتملك جزءا من البيت بمال نفسه، بأن يقع شراء البيت مشتركا من الممول والعميل، فيقدم الممول نصف ثمن البيت مثلا، ويقدم العميل نصفا أخر، ويكون البيت بينهما مشاعا بالنصف، ثم يبيع الممول نصفه إلى العميل بيعا مؤجلا بثمن أكثر من الثمن الذي دفعه إلى بائع البيت.
أما إذا كان المقصود بناء البيت على أرض خالية، فيمكن استخدام نفس الطريق في شراء الأرض، بأن يقع شراؤها على سبيل الاشتراك من الممول والعميل، ثم يبيع الممول حصته في الأرض إلى العميل مؤجلا بثمن أكثر. فإن كانت الأرض مملوكة للعميل، أو صارت ملكا له بهذا الطريق وأراد العميل التمويل للبناء عليها، فإنه يمكن للممول والعميل أن يبنيا البيت على أساس المشاركة، فيدفع هذا نصف نفقة البناء، ويدفع ذلك النصف الآخر، فيقع البناء مشاعا بينهما بالنصف، وحينما يتم البناء يمكن للممول أن يبيع حصته من البناء إلى شريكة العميل مؤجلا بربح، وبيع الرجل حصته من البناء إلى شريكه مما لا نزاع في جوازه، وإن كان هناك خلاف في بيعها إلى الأجنبي، يقول ابن عابدين في رد المحتار:(ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي، لا يجوز، ولشريكه جاز)(1) .
(1) . رد المحتار: 4/300- كتاب الشركة.
ولضمان أداء الثمن المؤجل يجوز أن يطلب الممول رهنا من العميل، وبالإمكان أن يمسك مستندات ملك البيت كرهن عنده، وإن هذا الطريق لا غبار عليه شرعا، غير أن الممول لا يستطيع أن يقدم مثل هذه
التمويلات إلا إذا كان على ثقة كاملة بأن العميل سوف يشتري منه ما سيتملكه الممول من البيت أو البناء، لأنه إن امتنع العميل من الشراء بعدما أنفق عليه الممول نفقات باهظة، فإن ذلك لا يحدث ضررا بالممول فحسب، بل سوف يخيب هذا النظام بأسره، وبما أن البيع لا يجوز أن يضاف إلى زمن مستقبل، فلا بد لنجاح هذا الطريق أن يتعهد العميل مسبقا، بأنه يلتزم بشراء حصة الممول بعدما يمتلكها، وإن هذا التعهد من العميل، وإن كان وعدا محضا، والوعد عند أكثر الفقهاء لا يكون ملزما في القضاء، ولكن هناك عددا من الفقهاء جعلوا الوعد ملزما في الديانة والقضاء جميعا، وهو المذهب المشهور عند مالك رحمه الله، فإنه يجعل الوعد ملزما، لاسيما إذا دخل الموعود له بسببه في مؤنة، يقول الشيخ محمد عليش المالكي رحمه الله تعالى: (فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف. واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد. فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج
…
فأسلفني كذا
…
والرابع: يقضى بها إن كانت على سبب،
ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال) (1) . وقال القرافي رحمه الله تعالى: (قال سحنون: الذي يلزم من الوعد: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد، فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق (2) . وقال ابن الشاط في حاشيته: " الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك. . . إلخ "(3) . وكذلك اختار المتأخرون من الحنفية لزوم الوعد قضاء في عدة من المسائل، كما في مسألة البيع بالوفاء، قال قاضي خان رحمه الله في البيع بالوفاء:" وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس "(4)
وقال ابن عابدين رحمه الله: "وفي جامع الفصولين أيضا: لو ذكرا البيع بلا شرط، ثم
(1) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 1/254و355، مسائل الالتزام.
(2)
الفروق، للقرافي 4: 25، الفرق الرابع عشر بعد المائتين.
(3)
حاشية الفروق لابن الشاط: 4/24 و25
(4)
الفتاوى الخانية: 2/165، فصل في الشروط المفسدة في البيع.
ذكر الشرط على وجه العقد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذا المواعيد قد تكون لازمة، فيجعل لازما لحاجة الناس (1) . فبناء على هذه النصوص الفقهية، يجوز أن تجعل مثل هذه المواعيد لازمة في القضاء، فإذا تعهد العميل في الاتفاقية الموقع عليها من قبل الفريقين أنه سوف يشتري حصة الممول من البناء أو العقار، فإنه يكون ملزما بوفاء هذا الوعد قضاء وديانة. ولكن يجب أن لا يقع البيع إلا بعدما يمتلك الممول حصته 'فإن البيع لا يضاف إلى المستقبل، وعلى هذا يجب أن يقع عند ذلك عقد البيع بالإيجاب والقبول.
2-
الشركة المتناقصة:
والطريق الثاني للتمويل العقاري يبتنى على أساس الشركة المتناقصة. وإن هذا الطريق يتلخص في نقاط تالية: إن الممول والعميل يشتريان البيت على أساس شركة الملك، فيكون البيت مشاعا بينهما بنسبة حصة الثمن التي دفعها كل واحد منهما، فإن دفع كل منهما نصف الثمن، يكون البيت مشاعا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين، كان البيت بينهما أثلاثا، وهكذا. ثم يؤجر الممول حصته من البيت إلى العميل بأجرة شهرية أو سنوية معلومة بينهما.
ج- وتقسم حصة الممول على سهام متعددة معلومة، كالعشرة مثلا.
د- وبعد كل فترة دورية متفق عليها بين الفريقين (كستة أشهر مثلا) يشتري العميل
سهما من هذه السهام بحصة من الثمن، فإن كانت حصة الممول مثلا تساوي ستة أشهر يشتري العميل سهما بعشرين ألف ربية.
(1) رد المحتار: 5/84 - باب البيع الفاسد، مطلب في الشرط الفاسد إذا ذكر بعد العقد.
هـ - وبعد شراء سهم من حصة الممول تنتقص ملكيته في البيت، وتزداد ملكية العميل.
ووبعد شراء كل سهم من حصة الممول تنتقص الأجرة بحساب ذلك السهم، فإن كانت أجرة حصة الممول بكاملها ألف ربية مثلا، فإنها تنتقص بعد شراء كل سهم بقدر مائة ربية، فتصير الأجرة بعد شراء السهم الأول تسعمائة ربية، وبعد شراء السهم الثاني ثمانمائة ربية، وهكذا.
ز- حتى إذا اشترى العميل سهام الممول كلها صار البيت كله مملوكا للعميل، وانتهت الشركة والإجارة معا.
وإن هذا الطريق من التمويل العقاري، يشتمل على عقود ثلاثة:
العقد الأول: لإحداث شركة الملك.
والثاني: إجارة حصة الممول.
والثالث: بيع السهام المتعددة من حصة الممول إلى العميل. فلنتكلم أولا على كل عقد على حدة، ثم لنبحث عن مدى شرعية هذا الطريق بمجموعه.
أما شراء البيت بمالهما المشترك، فلا مانع منه شرعا، ويحدث بذلك شركة الملك بينهما، فإن شركة الملك عرفها الفقهاء كالتالي:" شركة الملك هي أن يملك متعدد عينا أو دينا بإرث أو بيع أو غيرهما "(1) .
فهذه الشركة في البيت قد حدثت بالشراء بمالهما المشترك.
وأما إجارة حصة الممول من العميل، فهذه إجارة جائزة أيضا. لأن إجارة المشاع من غير الشريك وإن كان في جوازه خلاف بين الفقهاء، فلا خلاف في
(1) تنوير الأبصار، مع رد المحتار: 4/399 و300.
جواز إجارة المشاع من الشريك. قال ابن قدامة رحمه الله: " ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة وزفر، لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته. . . واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك، وقد أومأ إليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، لأنه معلوم يجوز بيعه، فجازت إجارته كالمفروز، ولأنه عقد في ملكه يجوز مع شريكه، فجاز مع غيره "(1) وجاء في الدر المختار للحصكفي: (وتفسد-أي الإجارة-أيضا بالشيوع
…
إلا إذا آجر كل نصيبه أو بعضه من شريكه، فيجوز، وجوازه بكل حال " (2)
وبما أن إجارة الحصة المشاعة تقع في الطريق المذكور من الشريك، فإنها جائزة بإجماع الفقهاء.
أما بيع الحصة الشائعة من الدار، فإنه يجوز أيضا، فإن كان المبيع حصة في العرضة والبناء كليهما، فلا خلاف في جواز البيع، وأما إذا كان المبيع الحصة الشائعة في البناء فقط، فيجوز البيع مع شريكه بالإجماع، وفي جواز البيع من الأجنبي خلاف، وقدمنا ما ذكره ابن عابدين في رد المحتار من قوله " ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي لا يجوز، ولشريكه جاز "(3) وبما أن البيع ههنا لا يقع إلا من الشريك، فلا خلاف في جوازه.
(1) المغني، لابن قدامة رحمه الله: 6/137.
(2)
الدر المختار، مع رد المحتار: 6/47 و48.
(3)
رد المحتار: 4/300، كتاب الشركة.
فظهر بهذا أن هذه العقود الثلاثة من المشاركة في الملك، والإجارة، والبيع، كل واحد منها صحيح في حد ذاته، فإن وقعت هذه العقود من غير أن يشترط أحدها في الآخر، بل يعقد كل منها مستقلا، فلا غبار على جوازها.
وأما إذا وقعت هذه العقود باتفاق سابق بين الفريقين، فربما يبدو أن ذلك لا يجوز، لكونه صفقة في صفقة، أو لكون العقد الواحد شرطا زائدا في العقد الآخر، وإن الصفقة في الصفقة لا تجوز، حتى عند من يجوز بعض الشروط في البيع، كالحنابلة، قال ابن قدامة رحمه الله: " الثاني - أي النوع الثاني من الشرط - فاسد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط على صاحبه عقدا آخر، كسلف أو قرض، أو بيع أو إجارة، أو صرف الثمن أو غيره، فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، المشهور في المذهب أن هذا الشرط فاسد يبطل به البيع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يحل بيع وسلف، ولا شرطان في بيع)) .
قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ((ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) حديث صحيح وهذا منه، قال أحمد:" وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: على أن تزوجني بابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي. فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا "(1) .
ولكن هذا المحظور إنما يلزم إذا كان العقد الواحد مشروطا بالعقد
(1) الشرح الكبير على المقنع لشمس الدين ابن قدامة: 4/53، وبمثله ذكر الموفق بن قدامة في المغني: 4/290.
الآخر في صلب العقد، أما إذا وقعت هناك مواعدة بين الفريقين، بأنهما يعقدان الإجارة في الوقت الفلاني، والبيع في الوقت الفلاني، وانعقد كل عقد في وقته مطلقا عن أي شرط، فالظاهر أنه لا يلزم منه الصفقة في الصفقة وقد صرح به الفقهاء في عدة مسائل ولا سيما في مسألة البيع بالوفاء وقدمنا عن الفتاوى الخانية:
(وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون فتجعل لازمة لحاجة الناس) .
وبمثله صرح علماء المالكية في مسألة البيع بالوفاء الذي يسمى عندهم " بيع الثنايا "، فإنه لا يجوز عندهم في الأصل. قال الحطاب:" لا يجوز بيع الثنايا، وهو أن يقول: أبيعك هذا الملك، أو هذه السلعة على أن آتيك بالثمن إلى مدة كذا، أو متى آتيك به فالبيع مصروف عنى "(1) ولكن إذا وقع البيع مطلقا عن هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إن جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم على البائع، قال الحطاب رحمه الله:(قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا، فالمبيع له ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع، ورد إليه)(2)
(1) . تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص 233.
(2)
. المصدر السابق: ص 239.
هذا إذا انعقد البيع مطلقا من غير شرط ووقعت المواعدة بعد انعقاد البيع، وقد صرح عدة من الفقهاء بأن الحكم كذلك لو وقعت المواعدة قبل انعقاد البيع، ثم انعقد البيع مطلقا من غير شرط. قال القاضي ابن سماوة الحنفي رحمه الله: " لو شرطا فاسدا قبل العقد، ثم عقدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تقارنا) (1) .
وقال في مسألة البيع بالوفاء:
" وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع، ثم عقدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة "(2) .
وحكاه ابن عابدين في رد المحتار، واعترض عليه، قال:" في جامع الفصولين أيضا: لو شرطا فاسدا قبل العقد ثم عقدا، لم يبطل العقد. اهـ. قلت: وينبغي الفساد لو اتفقا على بناء العقد عليه كما صرحوا به في بيع الهزل كما سيأتي آخر البيوع "(3) .
ولكن تعقبه العلامة محمد خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بقوله: " أقول: هذا بحث مصادم للمنقول (أي ما هو منقول في جامع الفصولين) كما علمت، وقياسه على بيع الهزل قياس مع الفراق، فإن الهزل، كما في المنار، هو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح له اللفظ استعارة، ونظره بيع التلجئة، وهو كما في الدر المختار، أن يظهرا عقدا وهما
(1) . جامع الفصولين: 1/237
(2)
. المرجع السابق.
(3)
. رد المحتار: 5/84
لا يريدانه. وهو ليس ببيع في الحقيقة، فإذا اتفقا على بناء العقد عليه فقد اعترفا بأنهما لم يريدا إنشاء بيع أصلا، وأين هذا من مسألتنا؟
…
وعلى كل حال، فاتباع المنقول أولى (1) .
ولهذا أفتى جماعة من متأخري الحنفية بأن المواعدة المنفصلة عن عقد البيع، سواء كانت قبل العقد أو بعده، لا يلتحق بأصل العقد، ولا يلزم عليه البيع بشرط، أو صفقة في صفقة، فلا مانع حينئذ من جواز العقد (2)
وربما يقع هاهنا إشكال، وربما يقع هاهنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد
، فالظاهر أنها ملحوظة عند العقد لدى الفريقين ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وأنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق، فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين، وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة، وينبغي أن يكون الحكم دائرا على حقيقة المعاملة دون صورته، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز.
والجواب عن هذا الإشكال على ما ظهر لي - والله سبحانه أعلم - أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضا وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة، لا يكون عقدا باتا، وإنما يتوقف على عقد آخر بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد
(1) . شرح المجلة للأتاسي: 2/61.
(2)
. راجع عطر الهداية ص:109، للعلامة فتح محمد اللكنوي، رحمه الله.
المضاف إلى زمن مستقبل، فإذا قال البائع للمشتري بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا، فمعناه: أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق، خرج من حيز كونه باتا، وصار عقدا معلقا، والتعليق في عقود المعاوضة لا يجوز، ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد، وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيا، لأنه كان مشروطا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط.
فالعقد إذا شرط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال:(إن اجرتني الدار الفلانية بكذا فداري بيع عليك بكذا) . وهذا مما لا يجيزه أحد، لأن البيع لا يقبل التعليق.
وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقا عن شرط، فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعا باتا ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجارة بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع البات شيئا، فيبقى البيع تاما على حاله. وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده على القول بلزوم الوعد. لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية. وهذا شيء لا أثر له على البيع البات الذي حصل بدون أي شرط، فإنه يبقى تاما، ولو لم يف المشتري بوعده.
وبهذا تبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر مترددا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه لا تردد في تمام البيع، فإنه يتم في كل حال، وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازما على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد.
فالطريق المشروع للشركة المتناقصة الذي لا غبار عليه أن تقع هذه العقود الثلاثية في أوقاتها مستقلة بحيث يكون كل عقد منفصلا عن الآخر، ولا يشترط عقد في عقد، نعم، يجوز أن تحدث بينهما اتفاقية يتواعدان فيها بالدخول في هذه العقود، فيتفقان على أنهما يشتريان الدار الفلانية بمالهما المشترك، ثم يؤجر الممول حصته إلى العميل بأجرة معلومة، ثم يشتري العميل حصة الممول بأقساط متعددة إلى أن يتملك الدار كلها. ولكن هذه الاتفاقية لا تكون إلا وعدا من الفريقين بإنشاء هذه العقود، ولا ينشأ أحد من هذه العقود إلا في وقته الموعود بإيجاب وقبول، ويقع العقد حينئذ مطلقا من أي شرط فلا يشترط الإجارة في البيع، ولا البيع في الإجارة.
..