الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(13)
أَحْكَامُ الْذَّبَاْئِحْ وَالْلَّحُوْمُ الْمُسْتَوْرِدَةْ
بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة
مؤتمره العاشر بمدينة جدة من المملكة العربية السعودية
المنعقدة في شهر صفر 1418هـ.
..
أَحْكَامُ الْذَّبَاْئِحْ وَالْلَّحُوْمُ الْمُسْتَوْرِدَةْ
مُقَدَّمَةُ الْبَحْثْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أحل للمسلمين أن يأكلوا من لحوم الحيوانات الطيبة، وينتفعوا بأجزائها الأخرى، ولكن جعل هذا الحل خاضعا لأحكام شرعها في الكتاب والسنة، وإن هذه الأحكام ترجع إلى التنويه بأن الحيوان في أصله مثل الإنسان من حيث يوجد فيه الروح والإدراك، والحواس التي تبعث فيه الراحة والألم. ومن هذه الجهة، كان الأصل أن لا يباح للإنسان ذبحه وأكل لحمه، والانتفاع بأجزائه، ولكن الله سبحانه جعل الإنسان أشرف المخلوقات ومخدوما للكون، وخلق لصالحه جميع ما خلق، قال تعالى:{هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيْعًا} [البقرة: 29] .
وبما أن أكل الحيوانات إنما أبيح على خلاف الأصل بمحض فضل من الله سبحانه وتعالى، فقد جعله الله تعالى خاضعا لبعض الأحكام التعبدية، ينبئ الامتثال بها عن اعتراف العبد بأن حل الحيوان له نعمة من الله سبحانه وتعالى وفضل منه، وأنه لا يستحق الاستمتاع بمثله من الحيوان، والالتذاذ بأكله إلا بعد الاعتراف بهذه النعمة والشكر عليها، والالتزام بالطرق التي شرعها الله لإزهاق روح الحيوان.
ومن هنا، امتازت الشريعة الإسلامية عن الشرائع الأخرى في تحديد طرق الذبح، ووضع مبادئها وشرع أحكامها. فليست قضية ذبح الحيوان من الأمور العادية التي يتصرف فيها الإنسان كيفما يشاء حسب حاجته، أو مصلحته، أو حسبما يتيسر له دون أن يتقيد في ذلك بأصول وأحكام، وإنما هي من الأمور التعبدية التي يجب على المسلم الالتزام بأحكامها المبينة في الكتاب والسنة. فما ذهب إليه المفتي محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا من كون ذبح الحيوان من الأمور العادية التي يجوز أن يتصرف فيها الإنسان بكل حرية (1) ، خطأ صريح، وقول مصادم للنصوص الصريحة، ولقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله)) . وأصرح من ذلك رواية أخرى، ولفظها:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)) (2) . وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح الذبيحة في هذا الحديث بالصلاة واستقبال القبلة، وجعله من ميزات الشريعة الإسلامية التي يمتاز بها المسلم عن غيره، ومن العلامات والشعائر التي تنبئ عن كون الرجل مسلما، والتي يعصم بها دمه وماله. وأية شهادة أكبر من شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذبح الحيوان بالطريق المشروع من الأمور التعبدية،
(1) راجع تفسير المنار
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، باب فضل استقبال القبلة، رقم: 391 و 392، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ومن شعائر الدين التي تدل على إسلام من يمارسه؟ ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك)(1) . ولولا أن ذبح الحيوان خاضع لأحكام خاصة، لجاز كل حيوان قتله وثني أو مجوسي أو دهري، ولما اقتصر الحل على ذبيحة مسلم أو كتابي. ومن الواضح أن الأغذية غير الحيوانية المصنوعة من النباتات وغيرها لا يشترط فيها أن يكون صانعها مسلما أو كتابيا، بل يجوز تناول هذه الأغذية بقطع النظر عن ديانة صانعها، فلو كان الذبح من الأمور العادية التي لا تتقيد بأحكام تعبدية، لجاز أكل لحم الحيوان بقطع النظر عن ديانة الذابح، وهذا دليل على أن الأغذية الحيوانية لها وضع خاص في الشريعة الإسلامية، ولا بد لحلة تناولها أن تكون موافقة لأحكام الذبح المشروعة في الكتاب والسنة. ومن هنا أصبحت أحكام الصيد والذبائح من أهم أبواب الفقه الإسلامي، وقد بسط الفقهاء هذه الأحكام مستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وآثار الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بحيث لا يخلو كتاب من كتب الفقه، إلا وهو مشتمل على "كتاب الصيد والذبائح". ولا نريد في هذا البحث استقصاء هذه الأحكام، ولكن الغرض بيان مبادئها الأساسية، وتطبيقها على الأوضاع المعاصرة.
وقد قسمنا هذا الموضوع على فصول آتية:
1-
التذكية الشرعية وشروطها:
أ- طريق إزهاق الروح
ب- ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.
(1) فتح الباري:1/497.
ج- كون الذابح مسلما أو كتابيا.
2-
طرق الذبح المستخدمة في المسالخ الحديثة.
3-
حكم ما جهل ذابحه.
4-
حكم اللحوم المستوردة.
التذكية الشرعية وشروطها:
التذكية والذكاة في أصل اللغة بمعنى الإتمام، ومن ذلك الذكاء في السن والفهم وهو
التمام (1) . وسمي الطريق المشروع للذبح ذكاة، لأنه يتم الشروط التي يباح بها أكل الحيوان. وفسر القرطبي رحمه الله، قول الله سبحانه في سورة المائدة:{إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} بقوله: (أي أدركتم ذكاته على التمام)(2) . وذهب بعض العلماء إلى أن التذكية الشرعية مأخوذة من التذكية بمعنى التطييب، وهو من قولهم:(رائحة ذكية) ، والحيوان إذا أسيل دمه فقد طابت رائحته. هذا بالنسبة لمعناها اللغوي، أما معناها الاصطلاحي، فقد ذكره القرطبي: أنه عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور عليه؛ مقرونا بنية القصد لله تعالى وذكره عليه (3) . وبما أن بعض الشروط التي ذكرها القرطبي في هذا التعريف مختلف فيها، فالأحسن في تعريف الذكاة أن يقال: (إزهاق روح الحيوان
(1) راجع لسان العرب، لابن منظور: 14/ 288 تحت مادة ذكا.
(2)
تفسير القرطبي: 6/ 51.
(3)
تفسير القرطبي: 6/ 52 و 53.
بالطريق المشروع الذي يجعل لحمه حلالا للمسلم) . أما الشروط التي ذكرها الفقهاء للذكاة الشرعية، فإنها ترجع إلى ثلاثة عناصر، الأول: طريق إزهاق الروح، والثاني: ذكر اسم الله، والثالث: أهلية الذابح. فلنتكلم على هذه العناصر الثلاثة بشيء من التفصيل، والله المستعان.
أ- طريقة إزهاق الروح:
إن طريق إزهاق الروح الذي اعتبرته الشريعة الإسلامية كافيا لحصول الذكاة الشرعية يختلف باختلاف أنواع الحيوان، فالحيوان الذي هو غير مقدور عليه، إما لكونه وحشيا، وإما لكونه شاردا من الحيوانات الأليفة، يكفي فيه أن يجرح بأية آلة جارحة تنهر الدم حتى يموت، ولا يشترط له أن يذبح أو ينحر. وهذا النوع من الذكاة يسمى: ذكاة اضطرارية، وهي مشروعة في حالة الصيد، ولسنا بصدد بيان أحكامها في هذا البحث. أما الحيوانات المقدور عليها، إما لكونها أليفة، أو لكونها سيطر عليها الإنسان من الحيوانات الوحشية، فالواجب فيها إنهار الدم عن طريق فري الأوداج، والعمدة في ذلك النصوص الآتية:
(1)
- عن رافع بن خديج، رضي الله عنه، في حديث طويل، أن جده ((سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) (1) . وكان السؤال عن الذبح، والذبح قطع الأوداج كما فسره عطاء فيما علق عنه البخاري (2) ، فدل مجموع السؤال والجواب على أن الذكاة الشرعية تحصل بقطع الأوداج بما يسبب إنهار الدم.
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب التسمية على الذبيحة، رقم 5498.
(2)
باب النحر والذبح (رقم الباب: 24) من الذبائح والصيد.
(2)
- عن ابن عباس وأبي هريرة، رضي الله عنهما، قالا:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح، فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج، تترك حتى تموت)) (1) . وقال ابن الأثير رحمه الله: "الشريطة: الناقة ونحوها التي شرطت، أي أثر في حلقها أثر يسير كشرطة الحجام، من غير قطع الأوداج، ولا إجراء الدم، وكان هذا من فعل الجاهلية، يقطعون شيئا يسيرا من حلقها، فيكون ذلك تذكيتها عندهم. وإنما أضافها إلى الشيطان، كأن الشيطان حملهم على ذلك". (2)
(3)
- عن عدي بن حاتم الطائي رضي عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، إن أحدنا أصاب صيدا، وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: "أمرر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عز وجل)(1) ، وأخرجه النسائي، ولفظه: إني أرسل كلبي فآخذ الصيد، فلا أجد ما أذكيه به، فأذبحه بالمروة والعصا، قال:"أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عز وجل "(2)
(4)
- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ما فرى الأوداج فكله"(3)
(1) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب المبالغة في الذبح، وسكت عليه. وفي إسناده عمرو بن عبد الله الأسوار، يقال له: عمرو بن برق؛ وذكر الحافظ في التقريب أنه صدوق فيه لين.
(2)
جامع الأصول، لابن الأثير: 4/ 482، رقم:2574.
(3)
أخرجه أبو داود، باب الذبيحة بالمروة، وسكت عليه هو والمنذري
(4)
سنن النسائي، الأضاحي، باب إباحة الذبح بالعود: 7/ 225، رقم 4401، وفي إسناده مرى بن قطري الكوفي؟ ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: لا يعرف (تهذيب التهذيب: 10/ 99) .
(5)
أخرجه مالك بلاغا في الموطأ: 2/ 489، في الذبائح، باب ما يجوز من الذكاة في حال الضرورة.
وعلى أساس هذه الأحاديث وأمثالها اشترط الفقهاء لشرعية الذبح أن تقطع الأوداج. والأوداج جمع الودج- بفتحتين- وهو عرق في العنق، وهما في الأصل ودجان، قال ابن منظور ناقلا عن ابن سيده:(الودجان: عرقان متصلان من الرأس إلى السحر، والجمع أوداج)(1) ولكن توسع بعض الفقهاء في استعمال هذه الكلمة بما يشمل الحلقوم والمريء. قال الكاساني: (ثم الأوداج أربعة؛ الحلقوم والمريء، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء)(2) والحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام. ولا خلاف في أن الأكمل قطع هذه الأربعة جميعا؟ الحلقوم، والمريء، والودجين (3) ولكن اختلف الفقهاء فيما إذا قطع بعضها دون بعض على أقوال: فقال الشافعي رحمه الله: يجب قطع الحلقوم والمريء، وإن ذلك يكفي للذكاة ولو لم يقطع من الودجين شيئا (4) . واختلفت الروايات عن مالك، والراجح عندهم فيما هو مذكور في كتبهم أنه يجب قطع الحلقوم والودجين، ولا يجب قطع المريء (5)
واختلفت الروايات كذلك عن أحمد بن حنبل، رحمه الله، فعنه رواية موافقة لقول الشافعي، ورواية أخرى أنه يجب قطع الودجين مع الحلقوم والمريء، فكأنه اشترط قطع الأربعة جميعا (6) وقال الإمام أبو حنيفة، رحمه الله: إذا قطع الثلاثة- أية ثلاثة كانت-وترك واحدا يحل الحيوان. وقال أبو يوسف: لا يحل حتى يقطع الحلقوم
(1) لسان العرب: 2/ 397 تحت المادة.
(2)
بدائع الصنائع: 5/ 41.
(3)
المغني لابن قدامة: 11/ 45، دار الكتب العلمية، بيروت.
(4)
فتح الباري: 9/ 641، والأم: 2/ 259.
(5)
الذخيرة للقرافي: 4/ 133.
(6)
المغني لابن قدامة: 11/ 44 و45.
والمريء وأحد العرقين. وقال محمد: لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره (1)
وبالرغم من اختلاف الفقهاء في هذه التفاصيل الجزئية، فإنهم اتفقوا
على أن محل الذكاة الاختيارية هو الحلق واللبة، ولا بد من قطع أكثر من واحد من هذه الأربعة. والظاهر أن من اشترط قطع أحد الودجين على الأقل، فإن قوله هو الراجح، لأن إنهار الدم بكامله إنما يتحقق بقطع الودج الذي هو مجرى الدم.
قال القرافي رحمه الله تعالى: "ويؤكده قوله عليه السلام: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) . وإنهار الدم إنما يكون من الأوداج، وأصل الإنهار: السعة، ومنه النهر، لاتساعه للماء، والنهار، لاتساع الضوء فيه"(2) . ووجه قول الإمام أبي حنيفة أن قطع الثلاثة من العروق الأربعة يقوم مقام الكل، على أن للأكثر حكم الكل فيما بني على التوسعة في أصول الشرع، والذكاة بنيت على التوسعة، حيث يكتفي فيها بالبعض بلا خلاف بين الفقهاء، وإنما اختلفوا في الكيفية، فيقام الأكثر فيها مقام الجميع (3)
آلة الذبح:
واتفق الفقهاء على أنه يجب للذكاة الشرعية أن تكون آلة الذبح محددة، تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها، ولا يجب أن تكون سكينا، بل يجوز الذبح بكل ما له حد، سواء كان من الحديد أم من الحجر أم الخشب. والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه: ((قلت: يا رسول الله! إنا ملاقو العدو غدا وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه
(1) بدائع الصنائع: 5/ 41.
(2)
الذخيرة للقرافي: 4/ 133.
(3)
بدائع الصنائع: 5/ 42.
فكلوه، ليس السن والظفر)) (1) وقد مر حديث عدي بن حاتم، رضي الله عنه، حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالمروة وشقة العصا، فقال:((أمرر الدم بما شئت)) . ولكن الأحاديث كلها متفقة على أنه يجب إنهار الدم بما يقطع ويخرق. ووجوب كون الآلة محددة كلمة إجماع فيما بين الفقهاء المتبوعين، غير أنهم اختلفوا في السن والظفر، فذهب الأئمة الحجازيون إلى عدم جواز الذبح بهما، سواء كانا متصلين بالجسم أو منفصلين، وذلك لعموم حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الذي مر آنفا، وقد استثنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم السن والظفر. أما أبو حنيفة، رحمه الله: فحمل الحديث على السن والظفر إذا كانا قائمين في الجسم، لأن الموت حينئذ يحصل بالخنق. أما إذا كانا مقلوعين، فتحصل منهما الذكاة مع الكراهة (2) إزهاق الروح بغير قطع الأوداج:
أما إزهاق الروح بغير فري الأوداج، فلا تحصل به الذكاة الشرعية في الحيوان المقدور عليه، واتفق على ذلك الفقهاء. وقال الله سبحانه وتعالى:{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3] .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "والمنخنقة، وهي التي تموت بالخنق، إما قصدا، وإما اتفاقا، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام. وأما الموقوذة، فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي، حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله! إني
(1) أخرجه الجماعة، راجع جامع الأصول، لابن الأثير: 4/ 489.
(2)
راجع رد المحتار: 5/ 208.
أرمي بالمعراض (1) الصيد، فأصيب، قال:((إذا رميت بالمعراض فخزق (2) فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ، فلا تأكله)) (3) ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء
…
وأما المتردية فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: المتردية: التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر، وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر. وأما النطيحة، فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم، ولو من مذبحها
…
{وما أكل السبع} أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام، وإن كان قد سأل منها الدم ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين. وقوله:{إلا ما ذكيتم} عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله:{والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: إلا ما ذكيتم، يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء، وفيه روح فكلوه، فهو ذكي. وكذا روي عن سعيد بن جبير، والحسن البصري والسدي".
(1) المعراض-بكسر الميم-سهم يرمى به بلا ريش، ولا نصل، يمضي عرضا فيصيب بعرض العود، لا بحده. لسان العرب لابن منظور: 9/ 42؛وجاء في تاج العروس:5/50، هو من العيدان دقيق الطرفين غليظ الوسط، كهيئة العود الذي يحلج به القطن، فإذا رمى به الرامي ذهب مستويا، ويصيب بعرضه دون حده
…
وإن قرب منه الصيد أصابه بموضع النصل منه فجرحه، ومنه حديث عدي بن حاتم.
(2)
الخزق: الطعن، وخزق السهم: إذا أصاب الرمية ونفذ فيها وأسال الدم، راجع اللسان وتاج العروس.
(3)
هذا الحديث أخرجه الجماعة في أبواب مختلفة من طرق شتى.
وتبين بهذه الآية الكريمة أن الحيوان إنما يحل إذا وقع إزهاق روحه بالذكاة الشرعية، ولا يحل بالخنق أو الوقذ ولا بأن يسيل دمه بأي طريق كان، لأن النطيحة ربما يسيل الدم من مذابحها، وكذلك ما قتله السبع، ولكن صرح القران الكريم بحرمتهما، فظهر بذلك أن الحيوان لا يحل بمجرد سيلان الدم، ولو من مذابحه، وإنما يجب أن يسيل الدم بطريق شرعه الله للتذكية.
ب- التسمية عند الذبح:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب للذكاة الشرعية أن يذكر الذابح اسم الله تعالى عند الذبح، فإن ترك التسمية عمدا فلا تحل ذبيحته عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وجمهور الفقهاء، وأما إذا نسيها فالذكاة معتبرة عند الحنفية والمالكية، ولا فرق عندهم في هذا بين الذبيحة والصيد. أما عند الحنابلة، فالنسيان معفو عنه في الذكاة الاختيارية فقط. أما في الصيد فلا تعتبر الذكاة إذا لم يذكر الصائد اسم الله عند إرسال السهم أو الكلب، سواء أتركها عمدا أم نسيان (1) أما الإمام الشافعي رحمه الله فالمشهور عنه أن التسمية ليست واجبة عنده، وإنما هي سنة (2) فتحل الذبيحة وإن تركها الذابح عمدا، ولكن الذي يظهر من مراجعة كتاب الأم للشافعي أنه لم يصرح بحل متروك التسمية عمدا، وإنما صرح يحل ما نسي الذابح ذكر الله عليه، وعبارته ما يلي: (وإذا أرسل الرجل المسلم كلبه وطائره المعلمين أحببت له أن يسمي، فإن لم يسم ناسيا فقتل أكل، لأنهما إذا كان قتلهما كالذكاة، فهو
(1) راجع بدائع الصنائع:5/46لمذهب الحنفية، والذخيرة للقرافي:4/134والصاوي على الدردير:2/171لمذهب المالكية، والمغني لابن قدامة:11/4لمذهب الحنابلة.
(2)
قليوبي وعميرة: 4/ 245.
لو نسي التسمية في الذبيحة أكل، لأن المسلم يذبح على اسم الله عز وجل وإن نسي) (1)
ثم إن الإمام الشافعي رحمه الله صرح فيما بعد بأن من يترك التسمية عند الذبح استخفافا لا يحل أكل ذبيحته، فقد ذكر رحمه الله في معرض ما هو مسلم عنده:"أن المسلم إن نسي اسم الله تعالى أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته"(2)
وقد صرح بعض العلماء بأن الفقهاء أجمعوا على ذلك. فقد جاء في التفسير المظهري نقلا عن شرح المقدمة المالكية: "وكل هذا في غير المتهاون، وأما المتهاون فلا خلاف أنها لا تؤكل ذبيحته تحريما، قاله ابن الحارث والبشير؛ والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا، والله أعلم"(3) . وهذه العبارات تدل على أن مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ليس على إطلاق الحل فيما تعتمد ترك التسمية عليه، وإنما تحرم الذبيحة عنده إذا ترك عليها التسمية تهاونا واستخفافا، وجعله الرجل عادة له. ومفاد ذلك أن حكم الحل مقتصر عنده على من ترك التسمية مرة أو مرتين اتفاقا، لا تهاونا واستخفافا، وفي تلك الصورة أيضا لا يخلو ذلك من كراهة، لأنه قال:"أحببت له أن يسمي". وقد صرح الفقهاء الشافعية بأن ترك التسمية عمدا مكروه، وأنه يأثم به التارك (4) .
(1) كتاب الأم، للشافعي: 2/ 227 كتاب الصيد والذبائح، باب تسمية الله عز وجل عند إرسال ما يصطاد.
(2)
كتاب الأم: 2/ 131 باب ذبائح أهل الكتاب
(3)
التفسير المظهري: 3/ 318، سورة الأنعام.
(4)
انظر روضة الطالبين: 3/ 205، ورحمة الأمة: ص 118.
وبهذا ظهر أن متروك التسمية عمدا حرام عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وحرام عند الشافعي، رحمه الله، أيضا إذا كان ذلك استخفافا وتهاونا، وصار كالعادة للذبائح. وما وقع اتفاقا فإنه لا يحكم بحرمته عنده، ولكنه لا يخلو من كراهة. وهذه الرخصة أيضا لا تساندها نصوص القرآن والسنة، حيث تضافرت الآيات والأحاديث على اعتبار التسمية ركنا من أركان الذكاة الشرعية. قال الله سبحانه وتعالى:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} . [الأنعام: 121]
وأية عبارة أصرح على كون متروك التسمية حراما من هذه الآية الكريمة الواضحة التي ليس فيها إجمال ولا خفاء؟ فإن فيه نهيا صريحا، والنهي يقتضي التحريم، ولم يكتف القرآن بصيغة النهي، بل أتبعها بقوله {وإنه لفسق} [الأنعام: 121] بما يقطع كل شبهة في هذا الباب. وليست هذه الآية هي الآية الوحيدة في القرآن الكريم، التي تدل على كون التسمية ركنا من أركان الذكاة، وإنما جاءت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، فمنها الآيات الآتية:
(1)
(2)
{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} [الحج: 34] .
(3)
(4)
{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون} [الأنعام: 138] .
(5)
{وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} [الأنعام: 119] . وهذه الآيات كلها تدل بأساليب مختلفة أن ذكر اسم الله تعالى من أهم العناصر التي تحل للمسلم أكل لحم الحيوان، ولم يكتف القرآن ببيان
ذلك في آية أو آيتين، وإنما ذكر هذا الركن في كل من الذبيحة والصيد والأضحية بصفة مستقلة، وأنكر على من يتركه إنكارا بليغا، فجعله افتراء على الله، وأنكر أيضا على من لا يستحل الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها، بما يدل على أنه من أعظم الشروط للذكاة الشرعية.
وكذلك تكاثرت الأحاديث التي ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم التسمية في معرض الأركان التي يجب توافرها لحلة الذبيحة والصيد، وانظر الأحاديث الآتية:
(1)
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) (1)
(2)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه (2) وهذا دليل على أن حرمة متروك التسمية كانت من جملة شريعة إبراهيم عليه السلام.
(3)
عن جندب بن سفيان البجلي، قال:((ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة ذات يوم، فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة، فلما انصرف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة، فقال: من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله.)) (3)
(1) صحيح البخاري، باب التسمية على الذبيحة، رقم: 5498، وأخرجه الجماعة.
(2)
صحيح البخاري، مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: 3826، وأخرجه أيضا في الذبائح رقم:5499.
(3)
صحيح البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: فليذبح على اسم الله، رقم:5500.
(4)
عن عباية بن رفاعة، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) (1)
(5)
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤاله في الصيد، فقال:((فما صدت بقوسك فأذكر اسم الله وكل، وما صدت بكلابك المعلمة فاذكر اسم الله وكل)) (2)
(6)
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك)) (3)
(7)
عن عدي بن حاتم قال: ((قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي أجد معه كلبا آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ فقال: لا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره)) (4)
(8)
وعنه رضي الله عنه مرفوعا: "وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن فقتلن فلا تأكل "(5)
(9)
وعنه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال:"أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله عز وجل (6) ".
(6)
وإن هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على مدى التأكيد والتركيز على ذكر اسم الله تعالى عند الذبح، وإن النص الواحد من هذه
(1) صحيح البخاري، باب ما أنهر الدم من القصب
…
الخ، رقم 5503.
(2)
صحيح البخاري، باب آنية المجوس، رقم:5496.
(3)
صحيح البخاري، باب ما جاء في التصيد، رقم:5487.
(4)
صحيح البخاري، باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر، رقم:5486.
(5)
صحيح البخاري، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، رقم: 5484
(6)
أخرجه أبو داود في باب الذبيحة بالمروة، رقم: 2824، والنسائي، باب إباحة الذبح بالعود، رقم 4401 وقد مر.
النصوص كان كافيا لبيان أن التسمية ركن من أركان الذبح، ولكن الشارع لم يكتف ببيان هذا الحكم مرة واحدة، وإنما جاء به مرارا وتكرارا في عدة مناسبات وبأساليب مختلفة، وما ذلك إلا لأهميته البالغة، ولكونه شرطا قطعيا لحصول الذكاة الشرعية في الحيوان.
وإن الحالة الوحيدة التي استثنيت من وجوب التسمية هي حالة النسيان. قال الجصاص رحمه الله تعالى: "إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة، من قبل أن قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} خطاب للعامد دون الناسي، ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة: {وإنه لفسق} وليس ذلك صفة للناسي، ولأن الناسي في حال نسيانه غير مكلف بالتسمية، وروى الأوزاقي عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) . وإذا لم يكن مكلفا للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده ترك التسمية. وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى لفوات ذلك منه، وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة، أو نسيان الطهارة ونحوها، لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر، ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلها"(1)
ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمى حين يذبح فليسم، وليذكر اسم الله ثم ليأكل)) (2) ذكره الحافظ في
التلخيص، ثم قال: وقد صححه ابن السكن (1) وقد أعله بعض
_________
(1)
أحكام القرآن، للجصاص: 3/ 7 و 8، طبع لاهور.
(2)
نصب الراية، للزيلعي: 2/ 261.
(3)
التلخيص الحبير.
(4)
ص: 398
المحدثين بمعقل بن عبد الله، ومحمد بن يزيد بن سنان. ولكن معقل بن عبد الله من رجال مسلم، ومحمد بن يزيد بن سنان وثقه ابن حبان والنفيلي ومسلمة، (1) وقد أخرج عبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ذبيحة المسلم حلال سمي أو لم يسم، ما لم يتعمد، والصيد كذلك)) ذكره السيوطي في الدر المنثور. (2) وهذه الروايات المرفوعة مؤيدة بما علقه البخاري عن ابن عباس موقوفا قال: "من نسي فلا بأس ". (3)
ووصله الدارقطني، وسعيد بن منصور وغيره، ثم قال الحافظ:"وسنده صحيح "(4) وبإزاء النصوص المتكاثرة التي تدل على وجوب التسمية عند الذبح، ما يستدل به الشافعية على عدم وجوبها لا يداني هذه النصوص في الثبوت والدلالة. فمثلا: استدل بعضهم بقول الله تعالى: {إلا ما ذكيتم} قائلين: إن الله سبحانه وتعالى أطلق التذكية ولم يقيده بالتسمية، فظهر أنها غير واجبة. والجواب عن هذا الاستدلال واضح، وهو أن التذكية لها مفهوم معين في الشريعة، وقد دلت النصوص التي أسلفناها على أنها لا تحصل إلا بالتسمية، فالتسمية داخلة في مفهوم التذكية الشرعي، كما أن فري الأوداج داخل فيه. فذكر الله سبحانه التذكية كمفهوم كلي يشمل جميع أركانه الشرعية الثابتة بغيرها من النصوص، ومن جملتها التسمية، فالتسمية ملحوظة في قول الله عز وجل:{إلا ما ذكيتم} .
وكذلك استدل بعضهم بما أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي
(1) وراجع للبحث على إسناده: إعلاء السنن للتهانوي: 17/ 68.
(2)
الدر المنثور، للسيوطي: 3/ 42.
(3)
صحيح البخاري، باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدا، باب 15 من الذبائح.
(4)
فتح الباري: 9/ 624.
الله عنها: ((أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه أنتم وكلوه ". قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر)) (1) ولكن هذا الحديث لا يتم به الاستدلال على حلة ما علم فيه باليقين أن ذابحه ترك التسمية عمدا، لأن غاية هذا الحديث حمل فعل المسلم على الوجه الصحيح، ومفاده أن المسلم إن قدم لحما أو طعاما، فالظاهر أنه حلال مذبوح بطريقة مشروعة، فيحمل على الظاهر، ونحن مأمورون بإحسان الظن بكل مسلم، فلا يجب البحث عن طريقة ذبحه، ما لم يتبين أنه ذبحه بطريقة غير مشروعة. وإن هؤلاء القوم الذين وقع السؤال عنهم كانوا مسلمين، وإن كانوا حديثي عهد بالكفر، كما صرحت به عائشة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل فعلهم على الظاهر، وهو أنهم ذكروا اسم الله عليه، ولا يلزم منه حل الذبيحة إذا تيقن الرجل بأن ذابحها ترك التسمية متعمدا. ومن البديهي أن هذا الحديث صريح في أن السؤال إنما كان عن حالة لا نعلم فيها بيقين أن الذابح المسلم سمي على الذبيحة أو لم يسم؛ وهذا هو الواقع الذي يقع لمعظم المسلمين في اللحم الذي يوجد في أسواق المسلمين، فإننا لم نشاهد الذين ذبحوه هل سموا عند الذبح أم لا؟ فالحديث يبين حكم هذه الحالة، وأين ذلك من الحالة التي نعلم فيها بيقين أن الذابح ترك التسمية عن قصد وعمد؟ وكيف تقاس الحالة الثانية على الأولى؟ وقد يستدل بعضهم بما رواه أبو داود في مراسيله عن الصلت السدوسي مرسلا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله)) (2) ، وهذا الحديث مروي عن
1. صحيح البخاري، باب ذبيحة الأعراب، رقم: 5507.
2.
مراسيل أبي داود، ص 41.
الصلت السدوسي، وهو مجهول، كما قال ابن حزم وابن القطان: إنه لا يعرف بغير هذا الحديث، ولا روي عنه غير ثور بن (1) يزيد فإسناده لا يخلو من ضعف، ولئن ثبت بطريق صحيح، فيمكن حمله على ترك التسمية في حالة النسيان، وذلك لتطبيقه على النصوص المتظاهرة المتكاثرة التي تدل على وجوب التسمية، وعلى أن ما ترك عليه التسمية عمدا حرام. ومن أجل هذه الدلائل القوية، رجح بعض العلماء الشافعية قول الجمهور في هذا الباب. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وقواه الغزالي في الإحياء محتجا بأن ظاهر الآية الإيجاب مطلقا وكذلك الأخبار، وأن الأخبار الدالة على الرخصة تحتمل التعميم وتحتمل الاختصاص بالناسي فكان حمله عليه أولى، لتجري الأدلة كلها على ظاهرها، ويعذر الناسي دون العامد". ولم يعقبه الحافظ بشيء (2) وقد ذكر عبارة الغزالي رحمه الله في باب ذبيحة الأعراب، ويظهر من صنيعه أنه مائل أيضا إلى ترجيح قول الجمهور في وجوب اشتراط التسمية، حيث ذكر قول الغزالي رحمه الله في ختام البحث، وضعف الحديث الذي استدل به على جواز متروك التسمية (3)
جـ- شروط في الذابح:
ومن الشروط المهمة لحصول التذكية الشرعية أن يكون الذابح مسلما أو كتابيا، على كونه عاقلا مميزا، فلا تجوز ذبيحة غير أهل الكتاب من الكفار والمشركين، وهذا الشرط قد اتفق عليه الفقهاء، لا نعلم بينهم في ذلك خلافا، حتى حكى بعض العلماء الإجماع على
1. راجع نصب الراية للزيلعي.
2.
فتح الباري: 9/ 624
3.
فتح الباري: 9/ 634، رقم الباب21.
ذلك (1) وإن معنى تحريم ذبيحتهم أن الكافر من غير أهل الكتاب -وإن ذبح المسلمين- فإنه لا تؤكل ذبيحته، قال الجصاص رحمه الله:"وقد علمنا أن المشركين وإن سموا على ذبائحهم لم تؤكل"(2) . ولقد شذ بعض المعاصرين، فقصر الحرمة على ذبيحة الوثنيين من أهل العرب، وأباح ذبيحة سائر الكفار غيرهم، سواء أكانوا وثنيين، أم ملحدين، أم دوريين، أم عبدة النار. وهذا قول خاطئ لا عهد به في الكتاب والسنة، ولا في أقوال السلف رحمهم الله تعالى، وإنما اشتبه الأمر عليهم بما زعموا أنه لا يوجد هناك نص صريح في الكتاب أو السنة يدل على أن ذبيحة غير أهل الكتاب من الكفار حرام، والأصل في الأشياء الإباحة، فلا يقال بحرمتها إلا بالنص. (3) والواقع أن الأصل في الحيوانات الحرمة، ولا تحل إلا بما جاءت الشريعة بحله ، والدليل على ذلك ما مر من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله، إني أرسل كلبي أجد معه كلبا آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ فقال ((لا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره)) (4) فهذا الحديث يدل على أنه متى وقع الشك في حصول الذكاة الشرعية واستوى الاحتمالان، حرم أكل الحيوان، وهو دليل على أن الأصل في الحيوان الحرمة، فإنه لو كان الأصل الإباحة لما حرم الحيوان في حالة الشك.
ثم إن قول الله سبحانه قد خص الحل بذبيحة أهل الكتاب حيث
(1) انظر موسوعة الإجماع، لسعدي أبو جيب: 2/ 912 و 948، وسيأتي الكلام على ذبيحة المجوس
(2)
أحكام القرآن للجصاص: 3/ 6
(3)
فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ص 19-22
(4)
صحيح البخاري، باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر، رقم 5486.
قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] ، ولو كان طعام جميع الكفار حلالا لما خضهم بالذكر، وليس هذا استدلالا بمفهوم اللقب، كما زعمه بعض المعاصرين، وإنما هو رجوع في المسكوت عنه إلى الأصل، وهو الحرمة في الحيوان كما قدمنا. فالصحيح الذي أجمعت عليه الأمة طوال القرون أنه لا تحل الذبيحة للمسلمين إلا إذا كان الذابح مسلما أو من أهل الكتاب، والمراد بأهل الكتاب؛ اليهود والنصارى، وهناك بعض أقوال شاذة في اعتبار المجوس من أهل الكتاب استدلالا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) (1) ولكن الصحيح أن هذا الحديث إنما يتعلق بأخذ الجزية منهم، فإن الحديث ورد في هذا الموضوع، وإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مترددا في أنه هل تؤخذ منهم الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بهذا الحديث، فأخذ الجزية من المجوس. روى مالك في الموطأ عن محمد بن علي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال: ما لك كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) (2) واستدل الجمهور على اقتصار لقب أهل الكتاب على اليهود والنصارى بقول الله عز وجل: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 156] . وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عد المجوس من جملة أهل الكتاب، وإنما قال:((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) ، يعني في أخذ الجزية، فتبين أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما يعاملون معاملة أهل الكتاب في قبول الجزية منهم.
(1) راجع المحلى، لابن حزم: 7/ 456
(2)
موطأ الإمام مالك، كتاب الزكاة، جزية أهل الكتاب.
مسألة ذبائح أهل الكتاب:
أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد أجمعت الأمة على أن ذبيحتهم حلال، وهم من أهل التذكية، والدليل عليه قول الله عز وجل:{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة: 5]، والمراد من الطعام في هذه الآية الذبائح بإجماع أهل العلم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى:{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس" (1) وهل يشترط في ذبح أهل الكتاب ما يشترط في ذبح المسلمين من فري الأوداج، ومن الآلة المحددة، ومن ذكر اسم الله؟ هذه المسألة تحتاج إلى دراسة بالنظر إلى ما ادعى بعض المعاصرين من حل ذبيحتهم، بقطع النظر عن الطريق الذي اختاروه لذلك. ونريد أن نتكلم على هذه المسألة في شقين: الشق الأول: هل يجب لحل ذبيحة أهل الكتاب أن يذبحوا الحيوان بطريقة مشروعة للذبح من فري الأوداج بآلة محددة؟ والشق الثاني: هل يجب أن يذكروا اسم الله تعالى عند الذبح؟ أما المسألة الأولى: فالجمهور من الفقهاء على أن ذبيحة الكتابي إنما تحل إذا ذكاها بقطع العروق اللازمة بآلة محددة، وهو الحق الثابت بالأدلة الناطقة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى، لكن زعم بعض المعاصرين أن ذبيحة الكتابي حلال، بأي طريق قتلها، لأنه داخل في عموم قول الله تعالى:{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وتمسكوا في ذلك
(1) تفسير ابن كثير: 19/2 طبع لاهور 1393 هـ.
بقول القاضي ابن العربي رحمه الله حيث قال: "ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه؟ وهي المسألة الثامنة. فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا، إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه"(1) ولكن هذا القول الغريب من ابن العربي رحمه الله متعارض تمام التعارض مع الأصل الذي ذكره هو نفسه في نفس الكتاب قبل نحو صفحة من هذه العبارة، وعبارته هناك ما يلي:"فإن قيل: فما أكلوه- أي أهل الكتاب- على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة، وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم، وهو حرام علينا، فهذه مثله، والله أعلم"(2) . وهذا تعارض صريح في عبارتي ابن العربي، ومتى وقع التعارض بين عبارتيه، فالأجدر بالقبول ما هو ثابت بالنصوص، ومؤيد بتعامل الأمة، دون الفتوى الشاذة التي تنابذها الأدلة القوية الآتية:
1-
إن الله سبحانه وتعالى قال: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3] فحرم المنخنقة والموقوذة على الإطلاق. فيشمل كل ما مات بالخنق والوقذ، فمن يستدل بعموم قوله تعالى:{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} على كون مخنوقة الكتابي أو موقوذته حلالا، يلزمه أن يقول بحل الخنزير الذي ذبحه كتابي، لأنه من جملة
أحكام القرآن، لابن العربي: 2/ 556 طبع عيسى البابي الحلبي
المرجع السابق: 2/ 255.
"طعام أهل الكتاب "، فإن تمسك بالآية المذكورة في حرمة لحم الخنزير، فإن نفس الآية تحرم المنخنقة والموقوذة، ولا سبيل إلى التفريق بينهما، فإن خصت الآية المذكورة لحم الخنزير من عموم "طعام أهل الكتاب " فإنها خضت المنخنقة والموقوذة أيضا على قدم سواء، بل بالطريق الأولى، لأن الخنزير حلال في دينهم، والمنخنقة والموقوذة حرام في أصل دينهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن كان الطعام الذي هو حلال في دينهم- وهو الخنزير- مستثنى من طعام أهل الكتاب المباح للمسلمين، فالطعام الذي هو حرام في أصل دينهم - وهو لحم المنخنقة والموقوذة- يكون مستثنى بالطريق الأولى.
2-
قد تقرر في أصول الفقه واللغة أنه متى ورد حكم على اسم مشتق، فمادة اشتقاقه هي العلة لذلك الحكم، مثلا إذا قلنا: أكرموا العلماء، فإن حكم الإكرام ورد على العلماء الذي هو اسم مشتق، فمادة اشتقاقه، وهي العلم، علة الإكرام، وهذا واضح مسلم. فإذا ورد حكم الحرمة في آية المائدة على المنخنقة والموقوذة فإن الخنق والوقذ علة لهذا الحكم، وإن ذلك يدل على أنه متى وجد الخنق أو الوقذ، ثبت حكم الحرمة، ولا تأثير في ذلك لديانة الخانق أو الواقذ، فيحرم الحيوان بالخنق والوقذ، سواء كان الفاعل مسلما أم كتابيا.
3-
غاية ما يثبت من قول الله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} أنهم في أمر الذبائح في حكم المسلمين سواء بسواء، لا أنهم يفوقون المسلمين، حتى يحل منهم ما يحرم من المسلمين، ونتيجة قول ابن العربي أن تكون للكفار مزية على المسلمين من حيث إن ما يقتلونه بأي طريق حلال طيب، وما يقتله المسلم بنفس الطريقة حرام ، وهذه النتيجة باطلة بالبداهة.
4-
من المسلم في الأمة الإسلامية أن الكفار كلهم ملة واحدة، وكان هذا الأصل يقتضي أن يكون أهل الكتاب مثل الكفار الآخرين في
تحريم ذبيحتهم، ولكن الشريعة الإسلامية ميزت أهل الكتاب من بين سائر الكفار في أمر الذبيحة والمناكحة، لأن أحكام الذبح والنكاح عندهم كانت مماثلة لأحكام الإسلام في كلا الأمرين، فكانوا يراعون في الذبح نفس الشروط التي فرضها الإسلام على المسلمين، وهذه الأحكام موجودة حتى الآن في كتبهم المقدسة، بالرغم من التحريفات الكثيرة التي وقعت فيها. وإليكم بعض النصوص من كتابهم المقدس: جاء في سفر اللاويين (الذي قد يسمى سفر الأحبار) : "وأما شحم الميتة وشحم المفترسة، فيستعمل لكل عمل لكن أكلا لا تأكلوه"(لاوليين 7: 24) . وجاء في سفر الاستثناء: "وأما ذبائحك فيسفك دمها على مذبح الرب إلهك، واللحم تأكله. احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إلى الأبد إذا عملت الصالح والحق في عيني الرب إلهك". (الاستثناء:27:12و 28)
وهذان الكتابان يعترف بهما كل من اليهود والنصارى. أما كتب النصارى فقط، فقد جاء في سفر أعمال الرسل- المنسوب إلى لوقا:"لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا". (أعمال:25:21) . وجاء في موضع آخر من نفس الكتاب:
"وأما من جهة الذين آمنوا من الأمم، فأرسلنا نحن إليهم وحكمنا أن لا يحفظوا شيئا مثل ذلك سوى أن يحافظوا على أنفسهم مما ذبح للأصنام، ومن الدم، ومن المخنوق، والزنا". (أعمال 21: 25) .
وإن بولوس (St'paul) الذي هو رسول في زعم النصارى، وهو المقتدى عندهم، يكتب في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس:"بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله، فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين، لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين"(1- كورنثوس 10: 20و21) . ويجدر بالذكر أن بولوس هو الشخص الذي حكم- بالرغم من نصوص سيدنا عيسى عليه السلام بنسخ جميع أحكام التوراة في حق النصارى، ومع ذلك فإنه أبقى الأحكام المتعلقة بالذبح محكمة غير منسوخة، فحرم الحيوان المخنوق، وأوجب أن يكون الذبح لله تعالى. وبهذا يتبين أن أحكام الذبح في أصل دين النصارى كانت باقية على نحو ما كانت عند اليهود، وإن كتب اليهود مملوءة بالأحكام التفصيلية للذبح، وجاء في كتاب مشنا، وهو المرجع الأساسي للأحكام المشروعة عند اليهود:
'If he slaughtered with a hand- sickle or with a b lint or with a reed. what he slaugters is valid.All may slaughter and at any time and with any implement excepting a reaping sickle or a saw or teeth or the finger- nails ، since these choke".
"إن ذبح المرء بشفرة يدوية أو بزجاج حاد أو بقصب، فإن ما يذبحه حلال. كل أحد يستطيع أن يذبح، وفي أي وقت وبأية أداة، إلا بالمحصدة أو بالمنشار أو بالسن أو بظفر الأصابع، لأنها تخنق"(1) . وإن الدكتور هربرت دينبي يكتب تحت هذا النص من مشنا أن
(1) The mishnah ، hullin. l. p. 513 ، oxford 1987.
أحكام الذبح التي اعتبرها اليهود جزء للشريعة التي أوتي موسى عليه السلام على الطور تتلخص في خمسة:
(أ) يجب أن لا تقع هناك وقفة في إمرار السكين، بل يجب أن يستمر السكين في حركات قدامية وخلفية.
(ب) يجب أن لا يضغط الحيوان بثقل.
(ج) يجب أن لا يضغط بالسكين على الجلد أو على الحلقوم والمريء.
(د) يجب أن لا يتجاوز السكين الموضع المعلوم من الحلق.
(هـ) يجب أن لا يؤثر عمل الذبح في إزالة الحنجرة أو المريء من موضعهما (1) وإن هذه النصوص من الكتب التي يقدسها اليهود والنصارى، والتي هي المأخذ الأساسي لدينهم وشريعتهم تدل على الأمور الآتية: أولا: أن المنخنقة والموقوذة حرام في شريعتهم، كما هو حرام في شريعتنا. ثانيا: الظاهر أنهم يوجبون أن يكون الذبح لله، وبعبارة أخرى: بذكر اسم الله كما يظهر من رسالة بولوس إلى أهل كورنثيوس التي نقلنا عبارتها قريبا. ثالثا: إن ابن العربي رحمه الله، حينما أفتى بحل الدجاجة التي فتل نصراني عنقها في العبارة المنقولة من أحكام القرآن- إن صحت نسبتها إليه، فإنها متعارضة مع عبارته الأخرى في نفس الكتاب-فإنما أفتى على زعم منه أن المخنوقة حلال عند النصارى، لأنه علل هذه المسألة بقوله:(وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا) وقد تبين من النصوص
_________
1 -
ibid ، p. 513.
النصرانية أن زعمه هذا خاطئ، فإن كتبهم المقدسة تصرح بكون المخنوق حراما، كما حكينا عن سفر أعمال الرسل 15: 28 وا2: 25، ولئن علم أن المخنوق حرام في دينهم لما أفتى بذلك. رابعا: يتبين منه صحة ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه"(1) .
5-
نظرا إلى ما سردنا من النصوص النصرانية يتحصل من حلة المخنوقة أو الموقوذة بيد نصراني أنه لو كان الخانق أو الواقذ مسلما، فإن الحيوان حرام، ولو خنقه نصراني، فإن الحيوان حرام في دين النصارى أيضا ولكن نقول بأنه حلال للمسلمين، وإن كان حراما للنصارى! فكأن كون الخانق من الكفار مزية تبرر أفعاله التي هي محظورة في شريعتنا وفي شريعتهم جميعا. وإن هذه النتائج الباطلة بالبداهة إنما تحصل إذا قلنا: إن ما قتله أحد من أهل الكتاب حلال للمسلمين، ولو قتله بطريق غير مشروع. وما يؤدي إلى مثل هذه النتائج الباطلة باطل.
6-
إن ما يتميز به اليهود والنصارى من بين سائر الكفار أمران:
الأول: حل ذبيحتهم. والثاني: حل مناكحة نسائهما، ومن المسلم أن التزوج بامرأة من أهل الكتاب إنما يحل إذا روعيت فيه جميع الشروط الواجبة في شريعتنا.
ولئن وقع النكاح بامرأة من أهل الكتاب على غير طريق المسلمين، مثل نكاح إحدى المحرمات، أو النكاح بغير شهود، أو بغير الإيجاب والقبول المشروعين؛ لا يقول بحله أحد. فتبين أن حلة نساء أهل الكتاب
1 - تفسير ابن كثير:2/19.
مشروطة بأن يقع العقد بطريق مشروع عند المسلمين، ولو وقع العقد بطريق غير مشروع فلا يصح الاستدلال على حلته بقول الله عز وجل:
{اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} [المائدة: 5] فكيف لا تكون حلة ذبائحهم مشروطة بأن يقع الذبح بطريق مشروع؟ ولئن وقع ذبحهم بطريق غير مشروع مثل الخنق والوقذ، فكيف يصح الاستدلال على حدته بقوله تعالى:{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} مع أن كلا الحكمين مقترنان في نسق واحد؟
7-
بما أن حرمة الميتة والمنخنقة والموقوذة ثابتة بالنص القطعي المطلق، فإن فقهاء الأمة أطبقوا على حرمتها، ولو كان الخانق أو الواقذ من أهل الكتاب. ولم يقل أحد بحل المخنوقة أو الموقوذة بيد كتابي فيما نعلم إلا ابن العربي في عبارته المذكورة، وهي متعارضة كما رأيت بعبارته الأخرى المذكورة في نفس الكتاب قبل نحو صفحة فقط. أفتترك نصوص الكتاب والسنة والأدلة القوية التي ذكرناها بمجرد فتوى شاذة لابن العربي في حين أنها متناقضة، وفي حين أنها مبنية على زعم أن المخنوقة حلال في دين النصارى، وقد تبين خطؤه بنصوص كتبهم المقدسة؟. ولو قطعنا النظر عن التناقض في عبارتي ابن العربي، وسلمنا أن ذلك مذهب له، فإن هذا مذهب شاذ ترده نصوص الكتاب والسنة والأدلة القوية التي أخذ بها جماهير علماء الأمة، فلا يجدر بأن يؤخذ بها في مثل هذه القضية الخطيرة التي متى وقع فيها الشك بين الحل والحرمة يرجح جانب الحرمة، فكيف إذا كان جانب الحرمة هو المتعين بالنظر إلى النصوص القطعية واتفاق أهل العلم؟ فالحق الصريح أنه لا تحل ذبيحة أهل الكتاب إلا إذا ذبحوا الحيوان بالطريق المشروع من قطع العروق وإسالة الدم، ولا يحل الحيوان إذا قتلوه بخنق أو وقذ، أو بأي طريق آخر غير مشروع.
هل التسمية شرط في ذبيحة الكتابي؟ المسألة الثانية: هل يجب لحل ذبيحة أهل الكتاب أن يذكروا اسم الله عند الذبح؟ اختلف فيه الفقهاء على أقوال: القول الأول: إن التسمية شرط لذبيحة المسلم والكتابي سواء بسواء. وهو مذهب الحنفية والحنابلة. قال ابن قدامة رحمه الله: "فالتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد، سواء كان مسلما أو كتابيا، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد، أو ذكر اسم غير الله لم تحل ذبيحته. وروي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والشافعي (1) وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. "(2) . وقال الكاساني في البدائع: "ثم إنما تؤكل ذبيحة الكتابي إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء، أو سمع وشهد منه تسمية الله تعالى وحده، لأنه إذا لم يسمع منه شيء، يحمل على أنه قد سمى الله تبارك وتعالى وجرد التسمية، تحسينا للظن به كما بالمسلم (3) ولو سمع منه ذكر اسم الله تعالى، لكنه عنى بالله عز وجل المسيح عليه الصلاة والسلام، قالوا: تؤكل، لأنه أظهر تسمية هي تسمية المسلمين، إلا إذا نص فقال: بسم الله الذي هو ثالث ثلاثة، فلا تحل. وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب وهم يقولون ما يقولون، فقال رضي الله عنه: قد أحل الله ذبائحهم وهو يعلم
(1) هكذا ذكر ابن قدامة مذهب الشافعي، والمشهور عنه أنه لا يوجب التسمية للمسلمين، فكيف بأهل الكتاب؟ إلا أن يقال: إنه لا يقول بحل الذبيحة إذا ترك عليها التسمية استخفافا وتهاونا، والظاهر من الكافر أنه يترك استخفافا، فلا تحل ذبيحته عنده من هذه الجهة إذا ترك التسمية، والله سبحانه أعلم.
(2)
المغني لابن قدامة: 11/ 56.
(3)
هذا إذا عرف من أهل الكتاب أنهم يسمون الله تعالى عند الذبح عموما. أما إذا عرف منهم ترك التسمية فلا.
ما يقولون. فأما إذا سمع منه أنه سمي المسيح عليه الصلاة والسلام وحده، أو سمي الله سبحانه وتعالى وسمي المسيح، لا تؤكل ذبيحته. كذا روي عن سيدنا علي رضي الله عنه، ولم يرو عنه غيره خلافه" (1) . والقول الثاني: إنه لا يجب لحل ذبيحة الكتابي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، فتحل الذبيحة إذا سكت عن التسمية، أما إذا ذكر غير الله تعالى مثل اسم المسيح وغيره فلا تحل ذبيحته، وهو قول المالكية. جاء في الشرح الصغير للدردير: "وجب عند التذكية ذكر اسم الله بأي صيغة من تسمية أو تهليل أو تسبيح أو تكبير، لكن لمسلم لا كتابي، فلا يجب عند ذبحه ذكر الله، بل الشرط أن لا يذكر اسم غيره مما يعتقد ألوهيته) (2) والقول الثالث: لا تجب التسمية لحل ذبيحة الكتابي، وتحل ذبيحته ولو سمي غير الله تعالى، وهو مروي عن عطاء ومجاهد، ومكحول، كما حكى عنهم ابن قدامة في المغني (3) وإذا تأملنا في النصوص، وجدنا أن القول الأول هو الراجح، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وإن صيغة المجهول في {لم يذكر اسم الله} دليل واضح على أن ترك التسمية محرم للحيوان، سواء أكان الذابح مسلما أم كتابيا. وكذلك قول الله عز وجل في معرض بيان المحرمات:{وما أهل لغير الله به} ورد بصيغة المجهول، فشمل ما إذا كان الذابح مسلما أو كتابيا، وكذلك قوله تعالى:{وما ذبح على النصب} وقد سبق منا أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يذبحون الحيوانات
(1) بدائع الصنائع: 5/ 46
(2)
الشرح الصغير للدردير مع الصاوي: 2/ 170 و 171
(3)
المغني لابن قدامة: 11/ 56.
على اسم الله تعالى، وقد حرم بولس على النصارى ما تذبحه الأمم الأخرى، لكونها تذبح للشياطين لا لله، كما مر من نصه في رسالته الأولى إلى أهل كورنثيوس (10: 20و21) ومن أجل هذا أبيحت ذبائح أهل الكتاب للمسلمين، كما سبق عن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى. فإذا تركوا التسمية أو سموا غير الله تعالى، فقدت العلة التي أحلت ذبائحهم بسببها، وعادت الحرمة. وإن معظم ما ذكرنا من الأدلة على حرمة المخنوقة أو الموقوذة بيد كتابي، ينطبق على موضوع ذكر اسم الله تعالى أيضا، غير أن قضية ترك التسمية أخف بالنسبة إلى مسألة الخنق والوقذ، من جهة أن حرمة متروك التسمية من ذبائح أهل الكتاب مسألة مجتهد فيها، كما ذكرنا. أما مسألة الخنق والوقذ فليست محل اختلاف فيما بين الأئمة المتبوعين، ولا عبرة بعبارة ابن العربي المتعارضة، حتى تجعل المسألة خلافية. فالصحيح الراجح المؤيد بالنصوص الظاهرة أن ذبائح أهل الكتاب إنما تحل إذا راعوا جميع شروط الذبح المنصوصة في القرآن والسنة، وكان ذلك هو المعهود منهم حين نزلت الرخصة في أكل ذبائحهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذبائح الماديين والدهرين المتسمين باسم النصارى:
ثم إن حلة ذبائح أهل الكتاب إنما يشترط لها أن يكون الذابح على دين النصارى واليهود، معتقدا مبادئ دينهم الأساسية، وإن كانت تلك المبادئ تخالف الإسلام، مثل عقيدة التثليث والكفارة، والإيمان بالتوراة والإنجيل المحرفتين، لأن الله سبحانه وتعالى سماهم أهل الكتاب بالرغم من كونهم يعتقدون هذه العقائد الباطلة عند نزول القرآن، وقد صرح بذلك القرآن الكريم حيث قال:{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال {وقالت اليهود عزير ابن الله} [التوبة: 30]، وقال:
{يحرفون الكلم عن مواضعه} [المائدة: 13]، وقال الجصاص رحمه الله تعالى:(وروى عبادة بن نسي، عن غضيف بن الحارث: أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرءون التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث، فما ترى؟ فكتب إليه عمر أنهم طائفة من أهل الكتاب)(1)
فثبت بهذا أنه لا يشترط في كون الرجل من أهل الكتاب أن يؤمن بالتوحيد الخالص كما هو عقيدة المسلمين، ولا أن يؤمن بتحريف التوراة والإنجيل الموجودتين، ولا أن يؤمن بنسخ شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما الصلاة والسلام، بل يكفي لذلك أن يؤمن بالعقائد الأساسية التي يؤمن بها اليهود والنصارى، والتي يتميزون بها عن الملل الأخرى. ولكن لا يكفي لاعتبار المرء من أهل الكتاب مجرد أن يكون اسمه كاسم النصارى، ولا أن يعد في عدادهم عند الإحصاءات الرسمية فحسب، بل يجب أن تكون عقائده كعقائدهم. وقد ظهر في زماننا- ولا سيما في البلاد الغربية- عدد لا يحصى من الناس، أسماؤهم كأسماء النصارى، وربما يسجلون في الإحصاءات كنصارى، ولكنهم في الواقع دهريون أو ماديون، لا يؤمنون بوجود خالق لهذا الكون، فضلا عن العقائد الأخرى، بل يستهزؤون بالأديان كلها، وإن مثل هؤلاء من الرجال ليسوا من النصارى، فلا يجوز اعتبارهم من أهل الكتاب، فلا تحل ذبيحتهم. والدليل على ذلك واضح، وهو أن أهل الكتاب إنما تميزوا عن سائر الكفار بفضل عقيدتهم بوجود الله جل ثناؤه، وبإيمانهم بالرسل وكتبهم السماوية، فمن لا يعتقد بوجود الله رأسا، ولا بإرسال الرسل وإنزال
(1) أحكام القرآن، للجصاص: 2/ 323.
الكتب؛ لا يسوغ أن يعتبر من أهل الكتاب. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل هذا الحكم في نصارى بني تغلب. قال الجصاص رحمه الله تعالى: "وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال: سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا تحل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر"(1) . معنى ذلك أن هؤلاء لا يؤمنون بالتوراة والإنجيل، ولا بعقائدهم الأساسية، فلذلك لا يمكن اعتدادهم من جملة أهل الكتاب لمجرد كونهم منسوبين إلى النصرانية. ولكن هذا الحكم إنما يتأتى في رجل تحقق فيه أنه لا يؤمن بالله ولا بالرسل ولا بالكتب السماوية. أما إذا كان الرجل باسمه ومظهره نصرانيا، يجوز أن نعتبره من النصارى، ما لم يتبين أن عقائده كعقائد الماديين.
حكم ما جهل ذابحه:
إذا جهل الذابح وطريق ذبحه، فإن ذلك لا يخلو من أحوال آتية:
1-
إذا كان البلد مسلما، بمعنى أن أغلبية سكانها مسلمون، فما يوجد في أسواق ذلك البلد يحل أكله، ولو لم نعرف الذابح بعينه، أو لم نعرف هل سمي على الذبيحة أم لا؛ لأن ما وجد في بلاد الإسلام يحمل على كونه موافقا للأحكام الشرعية، ونحن مأمورون بإحسان الظن بالمسلمين، والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها:
((أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه)) .
(1) أحكام القرآن، للجصاص: 2/ 323.
قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (1) . وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "قال ابن التين: وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم من غير علمهم فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها، ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها أكل ما لم تعلموا أذكر اسم الله عليه أم لا، إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمي. ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية، وبهذا الأخير جزم ابن عبد البر) (2) . ثم قول عائشة رضي الله عنها: "وكانوا حديثي عهد بالكفر"يدل على أنه كان يخشى منهم أن لا يعرفوا وجوب التسمية عند الذبح، ومع ذلك أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل اللحم، لأن أمر المسلم، وإن كان جاهلا، يحمل على الصحة ما لم يتيقن المرء أنه باشر عملا على غير وجهه الصحيح. وإلى هذا المعنى أشار البخاري رحمه الله حيث ترجم على هذا الحديث:(باب ذبيحة الأعراب ونحوهم) وقد وقع التصريح بكونهم من الأعراب في رواية النسائي، كما حكى عنه الحافظ في الفتح، والأعراب يقل علمهم عادة.
2-
أما إذا كان غالب أهل البلد من الكفار غير أهل الكتاب، فاللحم المعروض للبيع في السوق لا يحل للمسلمين، حتى يتبين بيقين أو بالظن الغالب أن هذا اللحم بعينه ذبحه مسلم أو كتابي بالطريق المشروع. وهذا ظاهر جدا.
3-
وكذلك الحكم إذا كان أهل البلد مختلطين ما بين مسلم ووثني
(1) صحيح البخاري، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، رقم الحديث: 5507
(2)
فتح الباري: 9/ 635 و 636.
أو مجوسي؛ لأن ما وقع فيه الشك لا يحل حتى يتبين كونه حلالا، والدليل على ذلك حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي مر فيما قبل، حيث حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصيد الذي شارك في اصطياده كلاب أخرى.
4-
أما إذا كان غالب أهل البلد من أهل الكتاب، فالأصل فيه ما سبق من حكم بلاد المسلمين، فإن أهل الكتاب حكمهم في أمر الذبيحة حكم المسلمين، لكن إذا عرف باليقين أو بالظن الغالب أن أهل الكتاب في ذلك البلد لا يذبحون الحيوان بالطريق المشروع، فلا يحل أكل اللحم حتى يتبين أن هذا اللحم بعينه حصل بالذكاة المشروعة، وهذا هو الحال في معظم البلاد الغربية اليوم، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
طرق الذبح الآلية الحديثة:
قد سبب ازدياد العمران وكثرة متطلباتهم الغذائية أن تستخدم الأجهزة الآلية (الأوتوماتيكية) لذبح الحيوانات أيضا، وقد أنشئت لذلك مجازر ومسالخ ضخمة تبلغ منتجاتها آلاف الحيوانات كل يوم، فلا بد من معرفة حكمها الشرعي، وإن استخدام مثل هذه الأجهزة يختلف طريقه بالنسبة إلى نوع الحيوان، فطريق الذبح في الدجاج يختلف عن طريقه في البقر والغنم.
ذبح الدجاج:
أما الطريق الذي يستخدم في ذبح الدجاج- وقد شاهدته في كندا، وجنوب إفريقيا، وفي جزيرة ري يونين- أن الجهاز الواحد- وهو كبير جدا- يتكفل جميع مراحل الذبح والإنتاج، بحيث يدخل فيها الدجاج من طرف واحد، ويخرج لحمه الصافي معلبا من الطرف الآخر، وجميع المراحل ما بين ذلك؛ من ذبحه، ونتف ريشه، وإخراج أمعائه، وتنظيف لحمه، وتقطيعه وتعليبه، تتم بواسطة الجهاز الكهربائي، وإن هذا الجهاز
يحتوي على قضيب حديدي طويل ينصب في عرض القاعة ما بين الجدارين، وإن هذا القضيب في أسفله علاقات كثيرة تتجه عراها إلى الأرض. فيؤتى بمئات من الدجاج في شواحن كبيرة، ثم يعلق كل دجاج برجليه، بحيث تعلق رجلاه في عروة العلاقة، وسائر جسمه معلق معكوسا- بمعنى أن حلقومه ومنقاره متجه إلى الأرض- وإن هذه العلاقات تسير على القضيب مع الدجاج المعلقة، حتى تأتي إلى منطقة ينصب فيها الماء البارد من فوق في صورة شلالة صغيرة، فتمر بهذه الدجاج من خلال هذا الماء البارد، والمقصود بغمسها في الماء تنظيفها من الأدران، وفي بعض الحالات يحتوي هذا الماء على تيار كهربائي يخدر الدجاج،
ثم تأتي هذه العلاقات إلى منطقة وضع في أسفلها سكين دوار يدور بسرعة شديدة، وإن هذا السكين الدوار منصوب في مكان تصل إليه أعناق الدجاج المعلقة معكوسة، فحينما تأتي العلاقة في هذه المنطقة فإنها تدور حول هذا السكين الدوار بشكل هلالي، فتصل أعناق عديد من الدجاج إلى طرف هذا السكين الدوار دفعة واحدة وتمر عليه، فيقطع السكين حلقوم كل واحد منها تلقائيا، ثم تتقدم العلاقات إلى الأمام وقد فرغ الجهاز من قطع حلقوم الدجاجات المعلقة فيها، وبعد قليل تمر على منطقة ينصب فيها الماء من فوق مرة أخرى، ولكن هذا الماء حار، ومقصود المرور عليه نتف ريش الدجاج، ثم هناك مراحل أخرى من إخراج أمعائه وتصفيته وتقطيعه في نفس الجهاز، ولكن نترك ذكرها لكونها خارجة عن عملية الذبح المقصودة بالبحث هنا، والجدير بالذكر أن هذا الجهاز الكهربائي لا يزال يسير طوال النهار، وأحيانا على مدار الساعة، لا يقف إلا في حالات استثنائية،
وإن ما يحتاج إلى البحث في هذه الطريقة من الناحية الشرعية أمور أربعة:
الأول: المرور على الماء البارد الذي فيه تيار من الكهرباء.
الثاني: قطع الحلقوم بالسكين الدوار.
الثالث: المرور على الماء الحار.
الرابع: كيف يتأدى واجب التسمية في هذا الطريق الميكانيكي؟ أما المرور على الماء البارد قبل قطع حلقوم الدجاج، فلا يستخدم هذا الطريق في جميع المسالخ، بل يستغنى عنه في كثير منها، وإن كان الماء البارد بدون أثر كهربائي فهذا لا يؤثر في قضية الذبح، فإن كان في الماء أثر من الكهرباء، فإن ذلك لا يسبب موت الحيوان عادة، وإنما يخدر دماغه، والتخدير وإن كان يسبب انكماشا في القلب، فلا يخرج منه الدم عادة بذلك المقدار الذي يخرج من المذبوح بدون التخدير، ولكن مجرد ذلك لا يجعل الحيوان ميتة، ولكن إذا تحقق في حيوان بعينه أن هذه العملية سببت موته فلا يجوز أكله، وإن قطع حلقومه بعد ذلك بطريق مشروع، فلا بد من التأكد من أن برودة الماء أو تيار الكهرباء ليسر بتلك القوة التي تكون كافية لموت الحيوان، ثم لابد من مراقبة ذلك مراقبة دقيقة، حتى لا يخرج منه حيوان ميت، ومع ذلك فتركه أولى، للابتعاد عن أية شبهة.
وأما الذبح بالسكين الدوار، فإن هذا السكين يشبه الرحى وأطرافه حادة، وإن هذا الرحى لا يزال يدور بسرعة، وتمر على أطرافه أعناق الدجاج من جانب الحلقوم فتقطع تلقائيا، والظاهر أنه يقطع عروق الدجاج، ولكن قد يحدث أن تتحرك الدجاجة في العلاقة لسبب من الأسباب، فلا ينطبق عنق الدجاج على طرف السكين الدوار، فإما أن لا يقطع عنقه بتاتا، أو يقطع جزء قليل منه بحيث يقع الشك في قطع العروق، وفي كل من الحالتين لا تحصل به الذكاة الشرعية.
أما قضية التسمية، فإنها صعبة جدا في استخدام هذا الطريق، فالمشكلة الأولى في تعيين الذابح، لأن التسمية إنما تجب على الذابح،
حتى لو سمي رجل وذبح غيره لا يجوز، فالسؤال إذن، من هو الذابح في هذا الجهاز الميكانيكي؟ فيحتمل أن نقول: إن من شغل هذا الجهاز لأول مرة يعتبر ذابحا، لأن عمليات الأجهزة الكهربائية إنما تنسب إلى من شغلها؛ لأن الآلة ليست من ذوي العقول حتى ينسب إليها الفعل، فينسب الفعل إلى من استعملها، فيصير هو الفاعل بواسطة الآلة، ولكن المشكلة هنا: أن من يشغل هذا الجهاز في أول النهار مثلا، إنما يشغله مرة واحدة، ثم لا يزال يسير الجهاز طول أوقات العمل، وفي بعض الأحيان على مدار الساعة، فيقطع أعناق آلاف من الدجاج، فإذا سمي من شغله في أول النهار مرة واحدة، فهل تكفي هذه التسمية الواحدة للآلاف من الدجاج التي تذبح بهذا التشغيل في سائر النهار؟ والظاهر من النص القرآني:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} أن كل حيوان يحتاج إلى تسمية مستقلة يذبح بعدها على الفور، وعلى هذا الأساس استنبط الفقهاء الأحكام الآتية:"وأما الشرط الذي يرجع إلى محل الذكاة، فمنها تعيين المحل بالتسمية في الذكاة الاختيارية، وعلى هذا يخرج ما إذا ذبح وسمي، ثم ذبح أخرى، يظن أن التسمية الأولى تجزئ عنهما؛ لم تؤكل، فلا بد أن يجدد لكل ذبيحة تسمية على حدة"(1)"ولو أضجع شاة وأخذ السكين وسمى، ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عامدا عليها لا تحل". كذا في الخلاصة. "وإذا أضجع شاة ليذبحها وسمي عليها، ثم كلم إنسانا، أو شرب ماء، أو حدد سكينا، أو أكل لقمة أو ما أشبه ذلك من عمل لم يكثر، حلت بتلك التسمية، وإن طال الحديث وكثر العمل كره أكلها، وليس في ذلك
(1) الفتاوى الهندية، كتاب الذبائح، الباب الأول: 5/ 286.
تقدير، بل ينظر فيه إلى العادة، إن استكثره الناس في العادة يكون كثيرا، وإن كان يعد قليلا فهو قليل" (1) .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه، كما تعتبر على الطهارة، وإن سمي على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز، سواء أرسل الأولى أو ذبحها، لأنه لم يقصد الثانية بهذه التسمية، وإن رأى قطيعا من الغنم فقال: بسم الله. ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم يحل، وإن جهل كون ذلك لا يجزئ، لم يجر مجرى النسيان؛ لأن النسيان يسقط المؤاخذة، والجاهل مؤاخذ، ولذلك يفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي؛ وإن أضجع شاة ليذبحها وسقى، ثم ألقى السكين وأخذ أخرى، أو رد سلاما، أو كلم إنسانا أو أستسقى ماء ونحو ذلك وذبح حل؛ لأنه سمي على تلك الشاة بعينها ولم يفصل بينهما إلا بفصل يسير، فأشبه ما لو لم يتكلم) . (2) وقال المواق المالكي رحمه الله تعالى: "قال مالك: لا بد من التسمية عند الرمي وعند إرسال الجوارح وعند الذبح لقوله {واذكروا اسم الله عليه} (3) وهذه العبارات الفقهية صريحة في أن الجمهور من الأئمة الذين يشترطون التسمية عند الذبح يشترطون أن تقع التسمية على حيوان بعينه، وأن تكون عند الذبح، وأن لا يفصل بين التسمية وبين الذبح فاصل يعتد به.
وهذه الشروط مفقودة في الطريق المذكور من الجهاز الميكانيكي، فإنه لو سمي من شغله لأول مرة، لم يسم على حيوان بعينه، وقد وقع بين تسميته
(1) الفتاوى الهندية، كتاب الذبائح، الباب الأول: 5/ 288
(2)
المغني لابن قدامة: 11 / 33
(3)
التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل: 3/ 219، كتاب الذكاة.
وبين ذبح آلاف الدجاج فاصل كبير، ربما يمتد إلى نهار كامل، أو يوم أو يومين، فالظاهر أن هذه التسمية لا تكفي لذكاة هذه الحيوانات بأجمعها، وهذا قريب مما ذكره ابن قدامة أن من رأى قطيعا من الغنم فقال: بسم الله، ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية، فإنه يحرم (1)
وقد يستشكل هذا بما ذكره بعض الفقهاء:
(ولو أضجع إحدى الشاتين على الأخرى تكفي تسمية واحدة إذا ذبحهما بإمرار واحد، ولو جمع العصافير في يده فذبح وسمي، وذبح آخر على أثره ولم يسم لم يحل الثاني، ولو أمر السكين على الكل جاز بتسمية واحدة)(2) وقد يتوهم منه أن مسألتنا مشابهة لمن أضجع شاتين، أو جمع العصافير في يده، حيث تكفي تسمية واحدة، ولكن الحق أن مسألتنا لا تنطبق على هاتين الصورتين، لأن ذبح الشاتين أو العصافير إنما وقع في فور واحد، دون أن يقع بين التسمية وبينه فصل يعتد به، ولذلك قد صرح في نفس الجزئية المذكورة، أن الذابح إن جمع العصافير في يده وذبح بعد التسمية، ثم ذبح عصفورا آخر على أثره لم يحل هذا العصفور الأخير، لأن ذبحه قد انفصل عن العصافير التي ذبحت في فور واحد. أما في مسألتنا فلا نستطيع أن نقول: إن جميع ما ذبح من الدجاج في مدة يوم أو يومين مذبوح في فور واحد، وإنما هي عمليات كثيرة من الذبح تقع واحدة تلو الأخرى، فالفرق واضح. فهذا يدل على أنه لا يكفي التسمية الواحدة من مشغل الجهاز لذبح سائر الدجاج، وإن أقيم رجل عند السكين الدوار ليسمي عندما تأتي الدجاجات إليه فيقطع حلقومها- وهذا شيء رأيته في مذبح من مذابح
(1) وهذه المسألة مذكورة أيضا في الفتاوى الهندية: 5/ 289
(2)
الفتاوى الهندية: 5/ 289.
كندا - فإن في كون تسميته معتبرة شرعا إشكالات آتية: الأول: أن التسمية ينبغي أن تصدر من الذابح، وهذا الرجل الواقف أمام السكين الدوار لا علاقة له بعملية الذبح، فإنه لم يشغل الجهاز، ولا أدار السكين، ولا قرب الدجاجة إليه، وإنما هو رجل منفصل عن عملية الذبح تمام الانفصال، فتسميته ليست من الذابح. والثاني: أن السكين الدوار تأتي إليه عدة دجاجات بفصل ثوان، ولا يمكن لهذا الرجل الواقف أن يسمي على واحد من هذه الدجاجات من غير فصل.
والثالث: أن هذا الرجل الواقف إنسان، وليس جهازا أوتوماتيكيا، فلا يستطيع أن لا ينشغل بأي عمل آخر دون التسمية، فربما تعرض له حاجات تشغله عن التسمية، وفي هذه الأثناء تمر عشرات من الدجاج على السكين الدوار، فتذبح بغير تسمية. وقد شاهدت بنفسي في المذبح المذكور من كندا أن هذا الرجل يغيب عن موضعه عند الجهاز لفترات ربما تستغرق نصف ساعة أو أكثر. وهناك ملحظ آخر في موضوع التسمية على هذا الجهاز الأوتوماتيكي، وهو أن نقيس تشغيل الجهاز على إرسال كلب الصيد، حيث لا تجب التسمية عند هلاك الصيد، وإنما تجب عند إرسال الكلب، وقد يكون بين الإرسال وبين هلاك الصيد فاصل كبير، وقد يهلك كلب الصيد عدة حيوانات في إرسال واحد، والظاهر أن التسمية الواحدة تكفي لحل جميعها. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:"وإن سمي الصائد على صيد فأصاب غيره حل، وإن سمي على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى به لم يبح ما صاده به، لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت الآلة التي يصيد بها بخلاف الذبيحة". ويحتمل أن يباح قياسا على ما لو سمي على سكين ثم ألقاها
وأخذ غيرها. " وسقوط اعتبار تعيين الصيد لمشقته لا يقتضي اعتبار تعيين الآلة فلا يعتبر". (1) ،هذا، وإن كان متعلقا بالذكاة الاضطرارية، ومسألتنا تتعلق بالذكاة الاختيارية، ولا تقاس حالة الاختيار على حالة الاضطرار، ولكن إذا نظرنا إلى حاجة إكثار الإنتاج في أسرع وقت، وذلك لازدياد العمران، وتكاثر عدد المستهلكين، وقلة الذابحين، وإلى أن الشريعة إنما أسقطت اعتبار تعيين الصيد لمشقته، كما يقول ابن قدامة رحمه الله، والمعهود من الشريعة في مثله دفع الحرج، فإن ذلك ربما يبدو مبررا لقياس حالة الاختيار على حالة الاضطرار في موضوع التسمية فقط، دفعا للحرج وتيسيرا على الناس. ولست أجزم بمدى قوة هذا الملحظ، لكن أردت أن أطرحه للبحث أمام العلماء للبت في هذا الموضوع، ولم أفت بذلك حتى الآن، وخاصة في حين أن عندنا بديلا مناسبا للسكين الدوار، وهو يلبي حاجة الإنتاج في نفس الوقت، وذلك أن يزال السكين الدوار عن موضعه في الجهاز، ويقوم في محله أربعة أشخاص مسلمين يتناوبون في قطع حلقوم الدجاج مع ذكر اسم الله تعالى، كلما تمر عليهم العلاقات بالدجاج، وهذا أمر اقترحته على مذبح كبير في جزيرة ري يونين، فعملوا بذلك، وقد دلت التجربة على أن ذلك لم ينقص من كمية الإنتاج شيئا؛ وذلك لأن هؤلاء الأشخاص يقطعون حلقوم الدجاج في نفس الوقت الذي كان السكين الدوار يقطعه، وإن هذا الجهاز لا يغني عن استعمال الطاقة البشرية بالكلية، فقد شاهدنا أنهم اضطروا إلى تعيين رجال يقومون في بعض المناطق التي تمر عليها هذه العلاقات، وإنهم يستعملون أيديهم أو آلات يدوية لإخراج الأمعاء وغيرها من بطن الدجاج، ولم أعرف مذبحا يستغني عن مثل هذا العمل البشري بتاتا. فإن كانوا يقيمون أشخاصا لهذا الغرض،
(1) المغني لابن قدامة: 33/11 و 34.
فإنهم يستطيعون أن يقيموا أربعة أشخاص عند مرحلة الذبح أيضا، فيقع الذبح بالطريقة المشروعة بأيدي ذابحين مسلمين، يسمون الله تعالى عند الذبح، والأمور الباقية يتكفلها الجهاز. وإضافة إلى جزيرة ري يونين، رأيت نفس الطريق معمولا به في مذبح أكبر منه بقرب من مدينة دربن في جنوب إفريقيا، وإنتاجهم اليومي يبلغ إلى ألوف من الدجاج كل يوم، وقد قبلوا هذا الاقتراح من المسلمين، ويعملون به دون أية صعوبة. وكذلك كلمت أصحاب المذبح الذي زرته في كندا، واقترحت عليهم هذا الاقتراح، فأبدوا صلاحيتهم للعمل بذلك إذا طلب منهم المسلمون، ولكن جمعية المسلمين التي تصدر شهادة بكون ذبائحهم حلالا، لم تقبل ذلك مع الأسف الشديد.
وما دام هذا البديل متوفرا فلا تظهر هناك حاجة كبيرة لاستخدام السكين الدوار، ولقياس الذكاة الاختيارية على الاضطرارية، والله سبحانه أعلم.
مرور الدجاج على الماء الحار:
أما مرور الدجاج على الماء الحار وهي المسألة الأخيرة في موضوع هذا الجهاز هي أن الدجاج بعد المرور على السكين الدوار تمر على منطقة ينصب فيها ماء حار من الفوق وذلك لنتف ريشها وهذا الماء الحار يمكن أن يسبب إشكالين:
الأول: أن الدجاج إذا لم يقطع حلقومه بالسكين الدوار بصورة مقبولة شرعا، فإنها تبقى حية إلى أن تمر على هذه المنطقة التي يغطس فيها الدجاج في ماء حار، فلا يبعد احتمال أن تموت تلك الدجاجة بحرارة الماء فتكون حراما.
والثاني: قد يستشكل بعض الناس من هذا الطريق أن هذا الغطس في الماء الحار إنما يقع قبل أن تخرج النجاسات من بطن الدجاج، فربما
تسري هذه النجاسات إلى لحم الحيوان بفضل الغليان، وقد ذكر الفقهاء أن مثل هذا الحيوان لا يحل أبدا. جاء في الدر المختار:"وكذا دجاجة ملقاة حالة غلي الماء للنتف قبل شقها". وقال ابن عابدين تحته: (قال في الفتح: إنها لا تطهر أبدا، لكن على قول أبي يوسف تطهر، والعلة-والله أعلم-تشربها النجاسة بواسطة الغليان)(1) . ولكن هذا الإشكال غير وارد في مسألتنا، لأن درجة الحرارة في هذا الماء لا تبلغ إلى نقطة الغليان، حيث تكون أقل بكثير من مئة درجة مئوية، ثم بقاء الدجاج في هذا الماء الحار لا يجاوز دقائق معدودة لا تكفي لتشرب اللحم النجاسة، والفقهاء الذين قالوا بنجاسة الدجاج إنما قالوا ذلك إذا كان الماء بلغ إلى درجة الغليان، ويبقى فيه الدجاج مدة تكفي لتشريب اللحم النجاسة. قال ابن عابدين رحمه الله بعد بيان المسألة المذكورة:"وعليه اشتهر أن اللحم السميط بمصر نجس، لكن العلة المذكورة لا تثبت ما لم يمكث اللحم بعد الغليان زمانا يقع في مثله التشرب والدخول في باطن اللحم، وكل منهما غير متحقق في السميط حيث لا يصل إلى حد الغليان، ولا يترك فيه إلا مقدار ما تصل الحرارة إلى ظاهر الجلد لتنحل مسام الصوف، بل لو ترك يمنع انقلاع الشعر"(2) ،هذا ينطبق تماما على هذا الماء الحار الذي تمر من خلاله الدجاج في هذا الجهاز، وقد أدخلت يدي في الماء فلم يكن محرقا، فضلا من كونه بلغ إلى حد الغليان.
1 - رد المحتار لابن عابدين: 1/ 334، قبيل فصل الاستنجاء.
2 -
رد المحتار: 334/1.
نتائج البحث في الطريق الآلي لذبح الدجاج:
ويتحصل مما ذكرنا من الطريق الآلي لذبح الدجاج أن هذا الطريق فيه خلل من الناحية الشرعية بوجوه:
1-
في بعض المذابح يغطس الدجاج قبل ذبحه في ماء بارد فيه تيار كهربائي، ويخشى منه أن يسبب موت الدجاج قبل ذبحه، لأن بعض المتخصصين يرون أن هذا التيار الكهربائي يحدث توقف القلب في 90 % من الدجاج، والله أعلم.
2-
السكين الدوار، وإن كان كافيا لقطع العروق، في معظم الأحيان، ولكن الدجاج في بعض الحالات لا يصل عنقه تماما إلى طرف السكين، فلا يقطع حلقومه أو يقطع جزء قليل منه، بحيث تبقى العروق غير مقطوعة.
3-
لا يمكن مع وجود السكين الدوار أن تقع التسمية على كل دجاجة، والتسمية عند تشغيل الجهاز، أو من قبل شخص واقف عند السكين لا يفي بالمتطلبات الشرعية.
4-
إن الماء الحار الذي تمر من خلاله الدجاج يخشى منه أن يسبب موت الدجاج التي لم يقطع عنقها بالسكين الدوار أو قطع ناقصا. وبعد النظر في الأسباب الأربعة للخلل، يتبين أن تدارك هذا الخلل ليس بعسير، ويمكن استخدام هذا الجهاز الآلي للذبح بعد إجراء بعض التعديلات في طريق استخدامه، وهي ما يلي:
1 عدم استخدام التيار الكهربائي في الماء البارد، أو التأكد من أن هذا التيار لا يسبب توقف قلبه.
2-
عدم استخدام السكين الدوار، وإقامة أشخاص مسلمين أو من أهل الكتاب يتناوبون في ذبح الدجاجات التي تمر أمامهم، وذلك بأيديهم
ومع تسمية الله تعالى على كل دجاجة، وقد ذكرت طريقه التفصيلي، وأن ذلك معمول به في عدة مذابح كبيرة طلب من أصحابها المسلمون ذلك، ولا يقلل ذلك من كمية الإنتاج.
3-
التأكد من أن الماء الحار الذي تمر منه الدجاجات المذبوحة لا يبلغ إلى حد الغليان.
وبمراعاة هذه الأمور الثلاثة تكون الدجاجات المذبوحة بواسطة هذا الجهاز حلالا.
الذبح الصناعي للأنعام:
أما ذبح الأنعام من البقر والغنم من الحيوانات الكبيرة، فطريقه غير طريق الدجاج، فلا يقع إزهاق الروح فيها بالسكين الآلي، وإنما يقع بأعمال يباشرها إنسان، فمن هذه الأعمال الخنق، كما هو المتبع في الطريقة التي تسمى الطريقة الإنكليزية، ويخرق فيها الصدر بين الضلعين، وينفخ فيه حتى يختنق الحيوان بضغط هواء المنفاخ على رئتيه، ولا يخرج من الحيوان دم. ومن البديهي أن الحيوان في هذه الصورة داخل في المنخنقة التي نطق بحرمتها القرآن الكريم، وقد حققنا فيما سبق أن الخنق محرم للحم الحيوان، سواء أصدر الخنق من مسلم أم من كتابي، فلا سبيل إلى حلة الحيوان المخنوق بهذه الصفة.
ولكن في معظم المذابح اليوم يتم الذبح بأنهار الدم بقطع جانب من العنق، أو بقطع الرقبة، وبما أن الطرق في جرح الحيوان متعددة، فلا نجزم هل هي تقطع الأوداج، أو تقطع الحيوان من محل آخر، ولا يحل الحيوان حتى يثبت أنه قطع من حلقه ما يجب أن يقطع شرعا. ولكن إذا كان الذابح مسلما فإنه يسع له أن يذبح الحيوان بطريقة مشروعة من فري الأوداج، ولكن محل البحث في ذبيحة هذه المجازر أنهم يصرون على تدويخ الحيوان أو تخديره قبل أن يشرع الإنسان في عملية الذبح،
وإن هذا التدويخ في نظرهم واجب لإراحة الحيوان عند الذبح وتخفيف ألمه. ويستعملون عدة آلات لحصر الحيوان تضمن عدم انفلاته وتقديم عنقه إلى الذابح بسهولة.
أما التدويخ، فيقع بطرق مختلفة، ولعل من أكثرها استعمالا، هو التدويخ بالمسدس، وهذا المسدس غير مسدس الرصاص، وإنما تخرج منه عند إطلاقه إبرة أو قضيب معدني، ويضعون المسدس في وسط جبهة الحيوان فيطلقونه، فتخرج هذه الإبرة أو القضيب، وتثقب دماغ الحيوان، فيفقد الحيوان الوعي فورا، وبعد ذلك يذبح. والطريق الثاني للتدويخ هو: استعمال مطرقة ضخمة يضرب بها الحيوان على جبهته وهي مؤلمة للحيوان، ولذلك تركوها في معظم المجازر، واستبدلوا بها طريق استعمال المسدس. والطريق الثالث: استعمال الغاز، ويحبس فيها الحيوان في هواء يحتوي على غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة معلومة، وإن هذا الغاز يؤثر على دماغه فيفقده الوعي، ثم يذبح الحيوان باليد. والطريق الرابع للتدويخ: استعمال الصدمة الكهربائية، وتوضع فيها آلة كالملقط على صدغي الحيوان، ويرسل من خلاله تيار كهربائي ينفذ إلى الدماغ، فيفقد الحيوان الوعي بسبب هذه الصدمة الكهربائية. والحكم الشرعي لهذا التدويخ يحتاج إلى البحث من ناحيتين: الأولى: هل استخدام هذا الطريق جائز شرعا؟ والثانية: هل تكون الذبيحة حلالا إن ذبحها مسلم أو كتابي بالطريق المشروع بعد هذا التدويخ؟ أما كون هذه الطرق جائزة شرعا، فيتوقف الحكم فيه على أن هذا الطريق يخفف من ألم الذبح على الحيوان أم لا؟ وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحسان ذبح الحيوان والرفق به في الحديث المعروف، حيث قال: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد
أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) (1) وكان من المسلم أن الطريق الذي شرعه الإسلام من قطع عروق حلق الحيوان أحسن الطرق لإزهاق روحه وأسهلها على الحيوان، أما التدويخ ففي بعض الحالات يضر بالحيوان ويؤلمه أكثر مما يؤلمه الذبح، كالضرب بالمطرقة على جبهته، فلا شك في كون هذا الطريق غير جائز في الشريعة، أما الطرق الأخرى، فلا نجزم بأنها تخفف من ألم الحيوان أو تزيد، لأن إطلاق المسدس على الجبهة إنما يحصل به وقذ عنيف، والصدمة الكهربائية لا تخلو من ألم، وحبس الحيوان في الغاز يؤدي إلى الضيق التنفسي، ولكن خبراء علم الحيوان يدعون أن ذلك يخفف من ألمه، فإذا تحقق ذلك قطعا وأنه لا يموت به الحيوان، جاز استعمالها، وألا فلا.
أما حكم الحيوان الذي يذبح بعد هذا التدويخ، فيتوقف فيه الحكم على أن هذا التدويخ يسبب الموت أم لا؟ ويدعي الخبراء اليوم أنه لا يسبب موت الحيوان، بل يجعله فاقد الوعي ويعدم إحساسه بالألم، ولكن هذا الادعاء محل نظر: أما التدويخ بالمسدس، فإنه يحدث وقذا عنيفا في جبهة الحيوان ودماغه، ولا يبعد أن يموت به الحيوان، فيصير موقوذة، وقد شاهدت هذا الطريق للتدويخ في مدينة ديترويت من الولايات المتحدة، فرأيت أن القضيب الخارج من المسدس دخل في دماغ البقرة بقدر طول الإصبع تقريبا، وخرج من دماغه الدم وأنهار الحيوان على الأرض فورا، وانقطعت حركات أعضائه بالكلية كأنه ميت، ولكن قال لي صاحب المجزرة الأمريكي: إن الحيوان يبقى بعد إطلاق المسدس حيا
(1) أخرجه مسلم في الصيد، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، رقم:1955،وأخرجه أيضا الترمذي في الديات؛ باب النهي عن المثلة، وأبو داود، والنسائي، كما في جامع الأصول: 481/4.
لبضع دقائق، ولو لم يذبح في خلال اثنتي عشرة دقيقة فإنه يموت، ولم أستطع أن أتأكد من مدى صحة ما أدعاه، ولكن ما رأيته جعلني أشك في ادعاء أن هذا التدويخ لا يسبب موت الحيوان، ولم يكن هناك ما يبعد احتمال أن يموت بعض الحيوانات على الأقل بهذه الصدمة العنيفة.
وأما الصدمة الكهربائية، فقد اعترف بعض الخبراء بأنها توقف حركة القلب في بعض الحالات، وكذلك الغاز إذا تجاوز نسبة معلومة يمكن أن يسبب الموت. وإن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة فنية عميقة من المتخصصين المسلمين الغيورين على دينهم، وبما أن الموضوع خارج عن اختصاصي، فلا يسع لي أن أبت فيه بشيء، وأقترح على المجمع أن يكون لجنة من الخبراء المسلمين ليقدموا تقريرا بعد دراستهم للموضوع، ولا شك أن هذه الطرق للتدويخ لو كانت مسببة للموت، أو يخشى منها الموت فلا يجوز استعمالها، ولا القول بحلة الحيوان المذبوح بعد التدويخ، وما دامت هذه الطرق مشكوكة، فالأسلم أن يبتعد عنها، ومن المعروف أن اليهود لا يقبلون أي طريق للتدويخ، والمسلمون أولى منهم بالابتعاد عن الشبهات، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم اللحوم المستوردة:
قد اكتظت الأسواق اليوم باللحوم المستوردة من البلاد الأجنبية،
من إنكلترا، ومن الولايات المتحدة، ومن هولندا، وأستراليا، والبرازيل. وقد ثبت بما سبق من الدلائل في هذا البحث أن ذبائح أهل الكتاب إنما تحل للمسلمين إذا كانوا يراعون الشروط اللازمة للذكاة الشرعية، وكان ذلك هو المعهود منهم حينما أباح القرآن الكريم ذبائحهم، فأما اليهود، فالمعروف عنهم حتى الآن أنهم يحتفظون بأحكام دينهم في اللحوم، وقد استطاعوا أن ينظموا لأنفسهم مجازر خاصة تحت رقابة علمائهم وأحبارهم، وقد تميز لحمهم باسم:(كوشر) وهو متوفر في كل مكان يوجد فيه اليهود. أما النصارى، فقد خلعوا ربقة التكليف في موضوع الذبائح إطلاقا، ولا يلتزمون اليوم بالأحكام التي هي مصرحة حتى اليوم في كتبهم المقدسة، والتي نقلنا بعض نصوصها فيما سبق، وحينئذ فلا تحل ذبيحتهم حتى يثبت أنه قد توفر فيها الشروط الشرعية. فاللحوم التي تباع في أسواق البلاد الغربية، والتي تستورد إلى البلاد الإسلامية، وجوه المنع فيها كثيرة:
1-
لا سبيل إلى معرفة ديانة ذابحه، فإن تلك البلاد يوجد فيها وثنيون، ومجوسيون، ودهريون وماديون بكثرة، فلا يحصل اليقين بكون الذابح من أهل الكتاب.
2-
ولو ثبت بالتحقيق، أو بحكم غلبة السكان أن ذابحه نصراني، فلا يعرف هل هو نصراني في الواقع، أو هو مادي في عقيدته، وقد سبق أن ذكرنا أن العدد الكثير منهم لا يعتقد بوجود خالق لهذا الكون، فليس هو نصرانيا في الواقع.
3-
ولو ثبت بالتحقيق، أو على سبيل الحكم بالظاهر أنه نصراني، فإن المعروف من النصارى أنهم لا يلتزمون بالطرق المشروعة للذكاة، بل منهم من يهلك الدابة بالخنق، ومنهم من يقتله بغير فري الأوداج، ومنهم من يستعمل الطرق المشتبهة للتدويخ التي فصلناها.
4-
الثابت يقينا أن النصارى لا يذكرون اسم الله عند الذبح، والقول الراجح المنصور عند جمهور أهل العلم أن التسمية شرط لحل ذبائح أهل الكتاب أيضا.
وعند وجود هذه الوجوه القوية للمنع، لا يجوز لمسلم أن يأكل هذه اللحوم التي تباع في أسواق البلاد الغربية، حتى يتيقن في لحم معين أنه حصل عن طريق الذكاة الشرعية، وقد ثبت بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن الأصل في لحوم الحيوان المنع حتى يثبت خلافه، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصيد الذي خالط فيه كلاب غير كلاب الصائد، وكذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الصيد:((إن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري؛ الماء قتله أو سهمك)) (1) وبهذا يثبت أنه إذا اجتمع في حيوان وجوه مبيحة ووجوه محرمة، فالترجيح للوجوه المحرمة، وهذا أيضا يدل على أن الأصل في اللحوم المنع، حتى يثبت يقينا أنه حلال ، وهذا أصل ذكره غير واحد من الفقهاء. وكذلك الحكم في اللحوم المستوردة، فإنها تتأتى فيها جميع الوجوه الأربعة المذكورة، أما الشهادات المكتوبة على العلب أو على الكرتونات أنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية، فقد ثبت بكثير من البيانات أنها شهادات لا يوثق بها، وقد قامت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية مشكورة ببعث مندوبيها إلى المجازر الأجنبية التي تصدر منها اللحوم إلى البلاد الإسلامية، وقد بعث هؤلاء المندوبون بتقاريرهم لما شاهدوه في تلك المجازر، وكلها تدل على أن هذه الشهادات لا يوثق بها إطلاقا وليراجع لهذه التقارير فتاوى هيئة كبار العلماء ونذكر فيما يلي قرار هيئة كبار العلماء بشأن اللحوم المستوردة.
(1) صحيح مسلم كتاب الصيد، رقم 943، وراجع تكملة فتح الملهم: 494/3.