المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقود المستقبليات في السلعفي ضوء الشريعة الإسلامية - بحوث في قضايا فقهية معاصرة

[محمد تقي العثماني]

الفصل: ‌عقود المستقبليات في السلعفي ضوء الشريعة الإسلامية

(4)

‌عقود المستقبليات في السلع

في ضَوْءِ الشَّرِيْعَةِ الإِسْلَامِيَّةْ

بحث عرض في ندوة أقيمت بالبحرين من قبل

بنك البحرين الإسلامي حول الأسواق المالية

ص: 128

..

ص: 129

عقود المستقبليات في السلع

فِيْ ضَوْءِ الشَّرِيْعَةِ الإِسْلَامِيَّةْ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فمن أهم ما يتعامل به في الأسواق المالية اليوم نوع من المتاجرة يقال له المستقبليات (Futures،الأسهم المستقبلية) ، تباع فيه سلع مخصوصة لتاريخ مستقبل معين.

وقد أصبح هذا النوع من التعامل من أبرز أنواع المعاملات الجارية في الأسواق المالية العالمية، ولا سيما في البلاد الغربية، وتكونت له بورصات مستقلة يتعامل فيها بالملايين في كل يوم ويقال: أن أول بورصة قامت لتنظيم هذا التعامل هي (بورصة التجارة في شيكاغو)(Chicago Board Of Trade) التي أنشئت في سنة 1848م، غير أن أهل اليابان يدعون أنهم ابتكروا هذا النوع من التجارة قبل نحو من قرن واحد من هذه السنة (1) .

أما حقيقة هذه المعاملة، فقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بما يلي:

(1) Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading. Seventh ed. 1975p. 15.

ص: 130

(Commercial contracts calling for the purchase or sale of specified quantities of commodities at specified future dates) .

"هي عقود تجارية تقتضي الشراء أو البيع للكميات المعينة من السلع لتواريخ مستقبلة معينة"(1) .

وحاصل هذا التعريف أن العقد يشتمل على بيع بعض السلع التي يؤجل تسليمها إلى تاريخ مستقبل، ولكن هذا التعريف يشمل " البيوع المقدمة "(Forward sales) أيضا، فإن تسليم المبيع في " البيوع المقدمة " يقع في تاريخ لاحق، ولكن المستقبليات تختلف عن البيوع المقدمة البسيطة (Simple forward sales) في أن " البيوع المقدمة " إنما تعقد للحصول على السلع في تاريخ مستقبل، والبائع يقصد تسليم البيع، والمشتري يريد تسلمها في ذلك التاريخ، ويقع التسليم والتسلم فعلا عند حلوله. أما المستقبليات، فإن السلع إنما تستخدم فيها كأساس للتعامل، ولكنه لا يقصد بها في معظم حالات التسليم والتسلم، بل يقصد بها إما المخاطرة في الأرباح، أو تأمين الربح في أحد " البيوع المقدمة "(Forward sales) المتوازية، فلا يقع فيها تسليم السلع وتسلمها إلا في حالات نادرة، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى، وإن هذا الفرق بين البيوع المقدمة والمستقبليات مذكور في دائرة المعارف البريطانية عقب تعريف المستقبليات، ونصه:

(And the term commodity is used to define theundengingasset، even though the contract is frequently divorced from the product. It therefore differs from a simple forward puronase in the cash market، which involves actuel delivery of the commodity at the agreed time in the future) .

(1) Britannica، Micropeadia، 1988، v. 5 p. 62.

ص: 131

" إن اصطلاح (السلع) (في المستقبليات) إنما يستعمل لبيان الأساس الذي يقوم عليه التعامل، وإن كانت المعاملة في أكثر الأحوال خالية من المنتجات، فالمستقبليات تختلف عن البيوع المقدمة المتعامل بها في السوق الحالية التي تتضمن التسليم الفعلي للسلع في الوقت المتفق عليه في المستقبل "(1) .

كيفية التعامل بهذه العقود

وأما كيفية التعامل بهذه العقود المستقبلية، فهي كما يلي:

إن المستقبليات إنما تعقد في سوق منظمة أنشئت لهذا الغرض، وتسمى " سوق تبادل السلع "(Commodity Exchange) التي تجري على أساس العضوية فيها، فمن يحب أن يتعامل في المستقبليات يجب له أن يكون عضوا لهذه السوق، وإن العضوية تتكون من منتجي عدة سلع وتاجر بها، ومن مؤسسات السماسرة. ومن أراد أن يتعامل

في هذه السوق دون أن يكون عضوا فيها، فإنما يستطيع ذلك عن طريق السماسرة

الأعضاء، ويجب للتعامل في المستقبليات أن يفتح المتعامل حسابا عند إدارة السوق يتضمن مبلغا معينا يبقى عند إدارة السوق كضمان لتصفية التعامل حسب قواعد السوق، ولا يزيد هذا المبلغ عادة على10 % من قيمة العقد عند التوقيع، و7 % في اليوم اللاحق، والمقصود بهذا المبلغ تغطية الخسارة المحتملة في حال تخلف أحد الفريقين عن الوفاء بما التزمه.

وبعد فتح الحساب يجوز للعضو أن يبيع أو يشتري كمية معينة من السلع لتاريخ مستقبل، وإن كميات السلع المتعامل بها مقسمة على وحدات تجارية (Trading units) كل وحدة منها تنبئ عن كمية معروفة من

(1) الموسوعة البريطانية (المرجع السابق)

ص: 132

تلك السلعة المخصوصة، فالوحدة المعتبرة في القمح مثلا، هي خمسة آلاف كيس، فلا يقع التعامل بكمية أدنى من هذه الكمية، وللمتعامل أن يتعامل في وحدة واحدة من القمح، أو في وحدتين، أو في ثلاث، وهكذا. وكذلك أنواع السلعة محددة بدقة من حيث جودتها ورداءتها، ويشار إلى هذه الأنواع بأرقام الدرجات، فهناك قمح الدرجة الأولى، وقمح الدرجة الثانية، وقمح الدرجة الثالثة، وهكذا. وإن مواصفات كل من هذه الدرجات معروفة لدى جميع المتعاملين.

فمن أراد بيع وحدة من قمح الدرجة الأولى مثلا في شهر يناير لتسليم شهر أكتوبر، فإنه يعرض على السوق ما ينبئ عن رغبته لبيع وحدة من قمح الدرجة الأولى، لشهر أكتوبر بثمن يتوقع أن يكون رابحا عند التسليم، فمن رغب شراء هذه الوحدة بهذه الشروط قبل ذلك العرض، ولا يحتاج أي منهما إلى الالتقاء بالآخر في أسواق البورصة. ولكن إدارة السوق ضامنة لوفاء التزامات الفريقين. فالبائع يقدم عرضه إلى السوق بواسطة الإدارة، والمشتري يقبل هذا العرض عن طريق الإدارة، والإدارة تتكفل له بتسليم السلعة من قبل البائع، وبتسليم السلع من قبل المشتري عند حلول تاريخ التسليم.

وليس الأمر حقيقة بهذه البساطة التي تبدو مما ذكرنا من طريق هذا التعامل، ولا يقع أبدا أن ينتظر المشتري تاريخ التسليم ويتسلم السلعة المبيعة عندئذ، وإنما يظل هذا العقد فيما بين شهر يناير وشهر أكتوبر محل بيع وشراء في كل يوم، وربما يقع على العقد الواحد عشرات البياعات يوميا، إلى أن يأتي الأجل، فلو باع زيد مثلا إلى عمرو وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر، فإن عمرا يبيعه بعد ذلك إلى خالد، وخالد إلى حامد، كل واحد منهم بثمن ربما يختلف عن الثمن الأول، والفارق بين

ص: 133

سعري البيع والشراء هو الربح الذي يخاطر فيه المتعاملون في أثناء هذه المدة وكل من اشترى عقدا بسعر أقل وباعه بسعر أكثر، فإنه يستحق أن يطالب بفرق السعرين كربح له، دون أن يدفع الثمن كمشتر، أو يسلم المبيع كبائع، ففي المثال المذكور لو اشترى عمرو من زيد وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر بعشرة آلاف دولار مثلا، وباعه من خالد بأحد عشر ألف دولار، فإنه لا يدفع الثمن إلى زيد، ولا يسلم المبيع إلى خالد، وإنما يستحق ألف دولار كالربح الحاصل على تعامله.

ولإنجاز هذه العمليات تكون إدارة السوق غرفة تسمى (غرفة المقاصة)(learinghouse) وإن جميع هذه العمليات تسجل في غرفة المقاصة، وهي التي تتولى تصفية جميع الالتزامات في آخر النهار كل يوم. فإن عمرا في المثال المذكور يأخذ ربحه، وهو ألف دولار، ويستلمه من غرفة للمقاصة، ويخرج من العملية بتاتا.

وهكذا يستمر التعامل في هذا العقد الواحد إلى أن يأتي شهر التسليم، وفي هذا الشهر يصدر من قبل إدارة السوق إخطار للمشتري الأخير بحلول تاريخ التسليم، وباستفساره: هل يرغب في استلام المبيع في التاريخ المتفق عليه؟ أو يريد بيع هذا العقد؟ فإن رغب في استلام المبيع، فإن البائع يسلم السلعة المبيعة إلى المستودعات المعينة، ويسلم وثيقة الإدخال إلى المستودع، ويحصل مقابلها على الثمن، وإن لم يرغب المشتري الأخير في استلام السلعة، ورغب في بيع العقد، فإنه يبيعه من البائع الأول مرة أخرى، حينئذ فإن المعاملة تصفى على أساس دفع فوارق السعر كما يقع في العمليات التي تم إنجازها قبل حلول التاريخ، وحينئذ لا يقع التسليم والتسلم، حتى في المعاملة الأخيرة.

وإن ما يقع فعلا في أسواق السلع في معظم المعاملات هو هذا الشق الثاني، ولا يقع التسليم والتسلم إلا في أحوال نادرة، لعلها لا تبلغ

ص: 134

نسبتها إلا إلى الواحد في المائة.

والذين يتعاملون في المستقبليات هم نوعان، لكل واحد منهما غرض مستقل عن غرض الآخر للدخول في سوق المستقبليات.

أما النوع الأول، فهم المخاطرون (Speculators) الذين لا يقصدون شراء السلع وبيعها للحصول على المبيع أو الثمن، وإنما يقصدون الحصول على الأرباح التي تتكون من فروق أسعار البيع والشراء، كما تقدم ذكر ذلك، وإنهم على ثقة من خبرتهم بتقلبات الأسعار، يشترون المستقبليات على أمل أنهم سوف يبيعونها بسعر أكثر، ويتخلص لهم ربح من وراء هذه العملية، بدون أن يخوضوا في استلام المبيع وتسليمه. فربما تنجح آمالهم في عقد، وتفشل في أخرى.

والنوع الثاني، هم الذين يقصدون تأمين ربحهم على بيوع حقيقية عقدوها في الأسواق الحالة، وإن هذه العملية تسمى في الاصطلاح (Hedging) ، ويمكن لنا أن نترجمه إلى العربية بتأمين الربح.

ومن المناسب أن نشرح هذه العملية بمثال: إن زيدا اشترى من السوق الحالة عشرة آلاف كيس من القمح بسعر خمسة دولارات لكل كيس مثلا، وإن البيع حقيقي يقع في التسليم، ولكن نظرا إلى ظروف السوق، يريد زيد أن يبيع هذه الكمية بعد ثلاثة أشهر مثلا، ولكنه يخاف أنه إن انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر، فإنه سوف يخسر خسارة كبيرة. هب أن السعر انخفض بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار لكل كيس، فإنه يخسر خمسة آلاف دولار في هذه العملية الواحدة.

ولتجنب هذه الخسارة، يدخل زيد في سوق المستقبليات، ويبيع مثل هذه الكمية لتسليم ثلاثة أشهر بالسعر الموجود في السوق الحالة يوم العقد، فتكون له عملية شراء في السوق الحالة، وعملية بيع في

ص: 135

سوق المستقبليات بكميتين متوازيتين من القمح. وإن الربح في إحداهما يجبر الخسران في الأخرى، فلو انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار للكيس الواحد مثلا، فإنه سوف يخسر في صفقته الحالة بمقدار خمسة آلاف دولار، ولكنه في الوقت نفسه يربح في سوق المستقبليات بما يقارب هذا المقدار، لأن سعر المستقبليات سوف ينخفض أيضا بما يقارب نصف دولار لكيس واحد، فما باعه بسعر أعلى قبل ثلاثة أشهر في سوق المستقبليات يشتريه الآن بسعر أدنى، ويستحق الفرق بين السعرين، وهو خمسة آلاف دولار. وإن هذا الربح الذي حصل له في المستقبليات يجبر ما أصابه من الخسران في الصفقة الحالة، وإن النتيجة الصافية تظهر من الجدول الآتي:

السوق الحالة سوق المستقبليات

سبتمبر: يشتري 10000 كيس يبيع 10000 كيس

من القمح بسعر 5 دولارات من القمح بسعر 5 دولارات

ديسمبر: يبيع 10000 كيس يشتري 10000 كيس

من القمح بسعر 4.50 دولارات من القمح بسعر 4.50 دولارات

خسارة: 0.5 دولار ربح + 0.5 دولار

وبالعكس من ذلك، لو ارتفع سعر القمح في شهر ديسمبر بمقدار نصف دولار لكل كيس، يقع العكس، يعني أنه يخسر في سوق المستقبليات، ويربح في السوق الحالة. وفي كل من الحالين تجبر خسارته في إحدى العمليتين بالربح في العملية الأخرى، وهذا هو المراد من (تأمين الربح)(Hedging) .

هذه خلاصة وجيزة لكيفية التعامل في المستقبليات، وإن هذه العقود قد أصبحت اليوم معقدة للغاية، وقد تجاوزت دائرتها من السلع

ص: 136

إلى النقود وإلى الخيارات (Option) وغيرها، ولكننا لخصنا من العملية ما يمكن به فهم حقيقتها وتفاصيلها التي لابد من معرفتها لبيان حكمها في الشريعة الإسلامية (1) .

وأما حكمها الشرعي، فكل من له إلمام بقواعد الشريعة ومصالحها، لا يشك بعد النظر في تفاصيل هذه العملية أنها عملية محرمة شرعا، ومصادمة لعدة أحكام الشريعة الغراء.

أما أولا، فلأنه بيع لما لا يملكه الإنسان، وقد روى حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله: إن الرجل ليأتيني فيريد مني البيع، وليس عندي ما يطلب، أفأبيع منه ثم أبتاعه من السوق؟ قال:((لا تبع ما ليس عندك)) (2) .

أما البيوع اللاحقة التي تتم خلال مدة التسليم، فإنها بيوع تتم قبل قبض السلعة المبيعة، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((من اشترى طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه)) (3) .

وقد حاول بعض الناس تخريج جواز هذه العملية على أساس بيع السلم، ولكن ذلك لا يصح إطلاقا، لأسباب آتية:

1-

يجب في السلم شرعا أن يعجل الثمن بكامله، وهو الذي يسمى " رأس مال السلم "

(1) إن هذه الخلاصة مأخوذة من كتاب: (Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading)

(2)

أخرجه النسائي والترمذي وأبو داود.

(3)

أخرجه البخاري ومسلم.

ص: 137

قال ابن قدامة رحمه الله في بيان شرائط صحة السلم:

"ويقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق، هذا الشرط السادس، وهو أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم يكن ذلك شرطا، لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سلما، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس. ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق، فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف"(1) .

فتبين أن قبض رأس مال السلم في مجلس العقد شرط لصحة السلم عند الجمهور، وإنما أجاز مالك تأخير القبض إلى يوم أو يومين أو أكثر إن لم يكن التأخير شرطا في صلب العقد، فتأخير قبض الثمن إن كان مشروطا في العقد، فإنه لا يجوز عند أحد من الفقهاء.

أما في المستقبليات، فإن تأخير قبض الثمن مشروط في العقد، فلا يصح سلما عند أحد من الأئمة الأربعة. وقد يقال: إن حصة من الثمن مدفوعة إلى البائع عند العقد، ولكن ذلك لا يجدي نفعا في تصحيح هذا التعامل، أما أولا، فلأن دفع بعض الثمن لا يكفي لصحة السلم، بل يجب دفع الثمن بكامله كما ذكرنا، وثانيا: إن ما يوضع لدى إدارة السوق ليس جزءا من الثمن، ولا يدفع إلى البائع، وإنما هو مبلغ مودع لدى طرف ثالث ليكون ضمانا على الوفاء بالتزام المشتري.

2-

وبما أن الثمن لا يدفع إلى البائع عند العقد، فالثمن دين على

(1) المغني، لابن قدامة: 4/334.

ص: 138

المشتري كما أن المبيع دين على البائع، فصار هذا بيع الكالئ بالكالئ، وهو ممنوع بنص الحديث فيما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:

((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) .

وقد يقال: إن إدارة السوق تضمن أداء الثمن، فبفضل هذا الضمان أصبح الثمن كأنه مدفوع إلى البائع. ولكن هذا التوجيه ليس بصحيح، لأن ما يشترط لصحة السلم هو أن يقع دفع الثمن فعلا، لا أن يكون مضمونا أو موثقا من قبل إحدى الجهات، لأن ضمان

الطرف الثالث لا يخرج الثمن من كونه دينا، فلا يكون هذا البيع إلا بيع دين بدين، وهو لا يجوز.

3-

إن من الشرائط التي اتفق عليها جميع الفقهاء لصحة السلم أن تكون السلعة المسلم فيها موصوفة بصفات دقيقة، فلو كانت المواصفات مجهولة أو مترددة مفضية إلى النزاع، فإنه لا يصح السلم عند أحد من الفقهاء.

وإن عقود المستقبليات، وإن كانت مشتملة على المواصفات الدقيقة ببيان الدرجات، ولكن الذي يقع فعلا، أن البائع ربما يبين درجات مختلفة في العقد الواحد، ويكون الخيار بيد البائع في تسليم ما شاء من هذه الدرجات. جاء في دائرة المعارف البريطانية:

) utures Market، on the other، hand، generally permits trading in a number of grades of the commodity to protect hedger seellers from being (cornered) by speculators buyers who might otherwise insist on delivery of a particular grade whose stocks are smalle. since a number of alternative grades can be tendered، the futures market is not suitable for the acquisition of

(1) السراج المنير، للعزيزي: 4/372.

ص: 139

the physical commodity. For this reason physical delivery of the commodities in fulfillment of the futures contract generally does not take place، and the contract is usually settled between buyers and sellers by paying the difference between the buying and selling price. (

إن سوق المستقبليات في جانب آخر، تسمح بالتجارة في عدة درجات من السلع

لوقاية البائع الذي يريد تأمين ربحه من أن يتغلب عليه المشترون المخاطرون في مطالبته بتسليم درجة مخصوصة من السلعة توجد ذخائرها بقلة. وبما أنه يجوز أن البائع في السوق عدة درجات متبادلة، فإن سوق المستقبليات لا تناسب للحصول على السلع الحقيقية. وبهذا السبب، فإن الوفاء بالتزام العقود المستقبلية لا يقع بالتسليم الفعلي للسلع عموما، بل إن العقد يصفى فيما بين البائع والمشتري في النهاية على أساس دفع الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء (1) .

فتبين بهذا أن البائع يكون له الخيار في تسليم إحدى الدرجات التي عرضها عند العقد على سبيل التبادل، وإن هذه جهالة للوصف يضطر بها المشتري في نهاية العقد إلى أن يقبل التسليم، وإن مثل هذه الجهالة تفسد كذلك عقد البيع، فضلا عن السلم.

4-

إن المقرر في عقود المستقبليات أن تسليم السلعة إلى المشتري لا يقع عموما، بل يكون الخيار بيد المشتري الأخير إن شاء طالب بتسليم السلعة وإن شاء باعها على البائع مرة أخرى، ويقبل

(1) Britannica، Macropaedia، 1988، v. 23 p. 555.

ص: 140

التصفية على أساس دفع الفرق بين سعري البيع والشراء، وإن هذا الأمر مشروط في العقد منذ أول الأمر، ولاشك أن مثل هذا الشرط مفسد لعقد السلم، بل بيع المسلم فيه إلى البائع لا يجوز، ولو لم يكن مشروطا في عقد السلم، جاء في المغني لابن قدامة:(وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد)(1) .

5-

ولو فرضنا أن العقد الأول قد انعقد سلما بعد استيفاء شروط، فإنه لا يجوز لرب السلم، وهو المشتري، أن يبيع المسلم فيه إلى غيره قبل أن يقبضه، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:"أما بيع المسلم فيه قبل قبضه، فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن)) ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه"(2) .

وقد مر في كيفية التعامل بهذه العقود المستقبلية، أن العقد الواحد تجري عليه البياعات الكثيرة قبل أن يجيئ وقت التسليم، فلا سبيل إلى القول بجوازه.

فهذه وجوه خمسة، كل واحد منها يمنع من تخريج جواز هذه العقود بجعلها سلما.

وإذا لم يكن جعل هذا العقد سلما، فإنه بيع مضاف إلى تاريخ مستقبل، وقد أجمع الفقهاء على أن البيع لا يقبل التعليق أو الإضافة إلى تاريخ مستقبل.

(1) المغني، لابن قدامة: 4/341.

(2)

المرجع السابق نفسه.

ص: 141

فلا يصح البيع الأول، فكيف بالبيوع التي تتابعت على أساس هذا البيع الأول؟

وهنك احتمال آخر في التكييف الفقهي لهذا العقد، وهو أن هذا العقد ليس بيعا، وإنما هو وعد لبيع سلعة مخصوصة في تاريخ معين بسعر معين، والموعود له قد استحق شراء تلك السلعة بسعر متفق عليه في الوعد، ثم إنه يبيع هذا الحق إلى رجل ثالث، وثالث إلى رابع إلى أن يأتي يوم التسليم، ولكن هذا التكييف لا يصلح أن يكون مبررا شرعيا لهذه العملية فيما أرى، وذلك لوجوه:

أما أولا، فلأن الواقع لا يوافق هذا التكييف، فإن المتعاملين في سوق المستقبليات لا يدخلون في هذه العقود كوعد محض، وإنما يدخلون فيها لإبرام عقد البيع بنفسه، فلا يصح أن يسمى وعدا.

وأما ثانيا، فلأن الوعد المحض ليس ملزما في القضاء عند جمهور الفقهاء، ومن جعله ملزما في القضاء في بعض العقود، فإنه فعل ذلك لضرورة ملحة، ولا ضرورة ها هنا. وأما ثالثا، فلأن هذا الحق الذي حصل للموعود له ليس مما يجوز بيعه أو الاعتياض عنه، لأنه ليس واجبا حقا في القضاء، لأنه حق مجرد، وبيع الحق المجرد مما ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جوازه إلا بشروط، وهي منتفية في هذا العقد. وقد يقال: إذا كانت العقود المستقبليات لا تجوز شرعا، فهل هناك من بديل لهذه المعاملة يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية؟ وجوابي عن هذا السؤال، أن البديل إنما يبحث عنه فيما إذا كان الغرض المنشود صحيحا، فيبحث عن البديل للحصول على ذلك الغرض بطريق مشروع.

ص: 142

أما عقود المستقبليات، فلم يظهر لها غرض مشروع يحتاج إلى طريق شرعي لإنجازه، والواقع إن ما يقع في سوق المستقبليات لا يقصد به تجارة حقيقية، وإنما المقصود هو المخاطرة في الأرباح التي هي بالقمار أشبه منها بالبيع.

وقد ذكرنا أن المتعاملين في سوق المستقبليات نوعان: الأول هم المخاطرون (Speculators) الذين لا يقصدون شراء السلع أو بيعها، أو تسليمها وتسلمها، وإنما يقصدون الحصول على فرق سعري البيع والشراء فحسب، وظاهر أنه غرض غير مشروع، لأنه استرباح بدون التجارة الحقيقية، وربح لما لم يضمنه الإنسان، وهو حرام بالنص الصريح. والنوع الثاني: هم الذين يريدون تأمين ربحهم (Hedging) على ما اشتروه في السوق الحقيقية، فيدخلون في سعر المستقبليات تجنبا عن الخسائر المحتملة بتقلبات الأسعار، كما وصفنا من قبل. ولكن مثل هذا التأمين إنما يحتاج إليه فيما يريدون احتكاره لمدة طويلة. فإنهم لو باعوا سلعهم بعد ما اشتروها ببضعة أيام، فإنه لا حاجة إلى تأمين الربح (Hedging) حينئذ، ولكنهم إنما يلجأون إلى دخول المستقبليات حينما يريدون احتكار السلع إلى مدة ليزيد ربحهم، ولكنهم في الوقت نفسه يخافون من التقلب المعاكس للأسعار، فيريدون أن يعقدوا المستقبليات للوقاية عن الخسائر المحتملة بسبب هذا التقلب المعاكس. يقول جيرالد كولد: "إن اشترى تاجر عشرة آلاف كيس من الذرة من أحد الفلاحين، واستطاع أن يبيعها فورا بسعر معين، مثل أن يشحن في مدة أسبوع مثلا، فمثل هذا التاجر لا يحتاج إلى تأمين الربح (بدخول المستقبليات) ، لأنه قد نقل خطر انخفاض السعر إلى مشتريه فور ما باع السلعة منه.

ص: 143

ولكن التاجر ربما لا يستطيع أن يبيع الذرة فور ما استلمه بل يريد أن يمسكها معه إلى مدة يعتد بها

وإن هذه الكمية التي أمسكها معه تحتمل خطر الخسران بسبب انخفاض السعر في وقت البيع، وتجنبا عن هذا الاحتمال، يدخل هذا التاجر في عقد المستقبليات حفاظا على الربح الذي يريد أن يحصل عليه" (1) .

فظهر بهذا أن عقود المستقبليات إنما يحتاج إليها التجار لإمساك المنتجات عندهم لمدة يعتد بها، وذلك إنما يكون في غالب الأحيان لغرض الاحتكار، وهذا غرض غير مشروع، فلما لم يكن للدخول في المستقبليات غرض مشروع يعتد به، فلا حاجة بنا إلى البحث عن البدائل المشروعة للمستقبليات، ولئن قامت هناك حاجة حقيقية للدخول في عقد يتأخر فيه تسليم المبيع، فالطريق المشرع له هو السلم، ويمكن أن يعقد بشروطه المعروفة في كتب الفقه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

(1) Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading. P. . 165،166.

ص: 144

..

ص: 145

(5)

أحكام الأوراق النقدية

وتغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار

بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس بالكويت

من: (1) إلى (6) جمادى الأولى (1409 هـ)

الموافق من: (10) إلى (15) كانون الأول (ديسمبر)(1998) م.

ص: 146

أحكام الأوراق النقدية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد شاعت الأوراق النقدية اليوم كآلة للتداول في جميع المعاملات التجارية وأريد في هذا البحث دراسة حقيقتها وتاريخها والأحكام الشرعية المتعلقة بها وأسأل الله سبحانه أن يوفقني للسداد والصواب حسب ما يحبه ويرضاه وهو الموفق والمعين.

وقد قسمت هذا البحث إلى بابين:

الأول: أحكام أوراق النقود والمعاملات

الثاني: مسألة تغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار.

ص: 147

الباب الأول

أحكام أوراق النقود والمعاملات

التخريج الفقهي للأوراق النقدية:

قبل أن نخوض في أحكام الأوراق النقدية (البنكنوت) بجزئياتها وتفاصيلها يجب أن نعرف حقيقة هذه الأوراق، هل هي وثائق مالية؟ أو أثمان عرفية؟

فمن جعلها وثائق مالية اعتبرها سندات دين في ذمة مصدرها، فليست هذه الأوراق - حسب هذا الرأي - أثمانا ولا أموالا، وإنما هي عبارة عن وثيقة كتبها المديون، ليتسنى للدائن القبض على دينه إذا أراد، فكل من يدفع إلى غيره ورقا من هذه الأوراق، فإنه لا يدفع إليه مالا، وإنما يحيله على مديونه الذي أصدر ذلك الورق كوثيقة، فتجري عليه أحكام الحوالة الفقهية، فيجوز دفع هذه الأوراق قضاء لحق الآخر، حيث تجوز الحوالة فقط، فإن غطاء هذه الأوراق ذهب أو فضة، فلا يجوز أن يشتري بها الذهب أو الفضة أصلا؛ لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، والصرف يشترط فيه التقابض، والقبض على هذه الأوراق ليس قبضا على غطائها من ذهب أو فضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط في جواز الصرف، فبطلت هذه المعاملة شرعا.

وكذلك لو دفع غني هذه الأوراق إلى فقير لأداء الزكاة الواجبة عليه، فإن الزكاة لا تتأدى حتى يقبض الفقير على غطائه أو يشتري بها

ص: 148

عروضا، ولو ضاعت هذه الأوراق عند الفقير قبل أن يستمتع بها، لم تفرغ ذمة الغني الذي دفها من الزكاة الواجبة عليه.

ولكن هناك رأي آخر، وذلك أن هذه الأوراق قد أصبحت اليوم أثمانا عرفية بنفسها، فدفعها دفع للمال أو للثمن، وليس حوالة للدين، فتتأدى بأدائها الزكاة، ويجوز شراء الذهب والفضة بها.

فيجب قبل الدخول في أحكام الأوراق النقدية والعملات المختلفة، أن نبت في أحد الرأيين في التخريج الفقهي لهذه الأوراق.

وإني بعد دراسة هذا الموضوع في كتب الفقه والاقتصاد، ممن يميل إلى الرأي الثاني، وهو أن هذه الأوراق أثمان عرفية، وليست حوالة.

وبما أن معرفة حقيقة هذه الأوراق تحتاج إلى معرفة تطور النظام النقدي في العالم، نريد أن نلم في البداية بشيء من خلاصة هذا التطور.

تطور النظام النقدي في العالم:

من المعروف أن الناس في بداية الحياة البشرية كانوا يتبادلون الأشياء عن طريق المقايضة Barter، ولكن هذا الطريق كان فيه من المشقة ما تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان.

فراج بعد ذلك نظام آخر يسمى "نظام النقود السلعية"(Commodity money System) ، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة، وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية والملح والجلود وما إلى ذلك.

ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران وازدادت الحاجات وكثرت المبادلات، شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، وتتوفر ثقة الناس به.

ص: 149

ففي المرحلة الثالثة بدأ الناس في استعمال الذهب والفضة كأثمان في المبادلات؛ لقيمتها الذاتية في صنع الحلي والأواني، ولسهولة حملها وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارا للقيمة يعتمد عليها الناس في جميع البلاد والأقطار. وإن هذا النظام النقدي يسمى "نظام النقود المعدنية (Metalic Money System)، وقد مرت عليه تطورات كثيرة نستطيع أن نلخصها كما يلي:

1-

ففي البداية استعمل الناس الذهب والفضة كسلع نقدية في صورة قطع متباينة الحجم والوزن والنقاء، سواء كانت تبرا أو مصوغة في صورة الحلي أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بهما يتم بالوزن.

2-

ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها وقابليتها للتداول. وكانت قيمة القطع الاسمية (Face Value) مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة (Gold or Silver Content) ، وإن قيمة الذهب المسبوك بهذا الشكل كانت مساوية لقيمة التبر إذا كان وزنها واحدا، وإن هذا النظام يسمى "نظام قاعدة التبر" أو "نظام قاعدة الورق (Gold Specie Standard) .

ويقال: إن أول من روج هذا النظام هم الصينيون في القرن السابع قبل ميلاد المسيح عليه السلام.

وكان المتعاملون في هذا النظام أحرارا في التعامل بالذهب تبرا أو مسبوكا أو مسكوكا، وفي استيراده وإصداره خارج البلاد. وكانت الدولة تلزم بسك كل ما يرغب سكه من قبل المواطنين، فيأتي إليها الناس بتبر أو ذهب مصوغ، فتتولى الدولة ضربهما سكة، وردهما إلى مالكهما، وكذلك يأتي بعضهم بذهب مسكوك ويريدون تذويبه، فتتولى الدولة ذلك أيضا، وترد إليهم الذهب بعد تذويبه تبرا.

ص: 150

3-

قد اختارت بعض الدول كلا المعدنين وليس معدنا واحدا فحسب كقاعدة نقدية في وقت واحد. وقررت قيمتهما كعيار لمبادلة أحدهما بالآخر، ويستعمل الذهب لقطع النقود الكبيرة، والفضة لقطع النقود الصغيرة، وإن هذا النظام يسمى "نظام المعدن الثنائي"(Bi metalism) .

ولكن هذا النظام أحدث مشاكل أخرى؛ وذلك لأن نسبة القيمة بين قطع الذهب والفضة كانت تختلف بين بلد وآخر، فتحث الناس على المتاجرة بالعملة، فإن كانت القطعة الواحدة من الذهب تقوم بخمس عشرة قطعة من الفضة في أمريكا مثلا، فإنها في نفس الوقت تقوم في أوروبا بخمس عشرة ونصف. وهذا يجعل تجار أمريكا يقتنون الذهب ويصدرونها إلى أوروبا؛ ليكسبوا بذلك كمية أكثر من الفضة، ويستوردونها إلى أمريكا؛ ليحولوها إلى الذهب، ثم يصدرون الذهب مرة أخرى، وهكذا. وصارت نتيجة هذه المتاجرة أن ذهب أمريكا مازال ينتقل إلى أوروبا، وأن القطع الفضية أخرجت القطع الذهبية من البلاد، ولما غيرت أمريكا النسبة في عام 1834 م فقومت قطعة الذهب بست عشرة قطعة من الفضة، حدث العكس وأقصت القطع الذهبية قطع الفضة.

4-

ثم إن القطع النقدية، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في نفس الوقت، وكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فجعلوا يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة والصيارفة، وكان هؤلاء الصاغة والصيارفة عندما يقبلون هذه الودائع يسلمون إلى المودعين أوراقا كوثائق أو إيصالات (Receipts) لتلك الودائع، ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البياعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة

ص: 151

نقدا، يسلم إلى البائع ورقا من هذه الإيصالات. وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها.

فهذه هي بداية الأوراق النقدية، ولكنها في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم الناس قبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها.

5-

لما كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى " البنكنوت " ويقال: إن بنك إستاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية.

وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزم بأن لا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من ذهب. وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب، ومن هنا يسمى هذا النظام "قاعدة سبيكة الذهب"(Gold bullion Standard) .

6-

لما ازداد شيوع "البنكنوت" جعلتها الدول ثمنا قانونيا (Legal Tender) في سنة 1833م، وألزمت كل دائن أن يقبلها في اقتضاء دينه، كما يلزمه قبول النقود المعدنية، ثم منعت البنوك التجارية أيضا من إصدارها، واقتصر إصدارها على البنوك الرئيسة الحكومية فقط.

7-

ثم واجهت الحكومات مشاكل تمويل مشاريعها في السلع والحرب مع قلة ريعها، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية، تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم؛ لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئا فشيئا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المائة في المائة إلى نسبة أدنى بكثير؛ وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق

ص: 152

لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وبعبارة أخرى قد راجعت في السوق أوراق نقدية لم تكن مدعومة بالذهب ولكن التجار قبلوها، لثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده. وإن هذه الأوراق النقدية تسمى "نقود الثقة"(Fiduciary Money) .

ومن جهة أخرى، اضطرت الدول التي لم تزل تتعامل بالنقود المعدنية إلى تقليل كمية المعدن، أو تنقيص جودته في كل قطعة، بحيث أصبحت قيمتها الاسمية (Face Value) أعلى بكثير من قيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة، (Intrinsic Value) ، وإن مثل هذه النقود تسمى "نقودا رمزية"(Token Money) بحيث يرمز أصلها المعدني إلى قيمتها الاسمية التي تمثل قيمتها الحقيقية السابقة.

8-

وإن تزايد "نقود الثقة" قد تدرج إلى حد أن الأوراق بلغت إلى مقدار ما يساوي أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، حتى خشيت الحكومات أن مقدار الذهب الموجود لا يفي بطلبات تحويل الأوراق إلى الذهب، ووقع ذلك فعلا في بعض البلاد، حيث إن بعض البنوك لم تستطع تلبية بعض الطلبات في بعض الأحيان.

وحينئذ شرعت الدول تنفذ شروطا قاسية على الذين يريدون تحويل أوراقهم إلى الذهب، وقد عطلت إنكلترا هذا التحويل بتاتا بعد حرب 1914م، ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925م، ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله، لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه، بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني تنفعهم في متاجراتهم الأهلية ما تنفع النقود المعدنية.

ص: 153

9-

ثم في سنة 1931م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقا، حتى لمن يطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت على الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم. ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلا أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى انكلترا، فإن إنكلترا كانت ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب. وإن هذا النظام يسمى "قاعدة التعامل بالذهب"(Gold Exchange Standard) .

10-

وقد ظل العمل بهذه القاعدة مستمرا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب للدول الأخرى أيضا، وذلك للخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1971م وبهذا قد قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وفي سنة 1974 م اختار "الصندوق المالي العالمي "(International Monetary Fund) فكرة " حقوق السحب الخاصة "(Special Drawing Rights) كبديل لاحتياطي الذهب. وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جراما من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وإن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلا لاحتياطي الذهب.

وهكذا أصبحت الذهب خارجا عن نطاق النقود بتاتا، وأصبحت الأوراق النقدية الرمزية تحتل مكانه من كل ناحية. وأن الأوراق النقدية لا تمثل اليوم ذهبا ولا فضة، وإنما تمثل قوة شراء فرضية. وبما

ص: 154

أن هذا النظام لم ترس قواعده بعد، كنظام أبدي خالد، وهنالك أصوات في كل بلد، للعودة إلى جعل الذهب كأساس للنظام المالي، حتى وللعودة إلى "قاعدة سبائك الذهب" فإن الدول لا تزعم أنفسها مستغنية عن الذهب إطلاقا، بل تجتهد للإكثار من رصائدها الذهبية كأوثق احتياطي يفيدها في انقلابات الظروف المتغيرة، ولكن هذا الرصيد الذهبي، مهما عظم مقداره، احتياطي مجرد، ليس له علاقة رسمية بالنقود الرائجة في شكل الأوراق، أو في شكل العملة المعدنية الرمزية.

فهذه هي خلاصة تطورات النظام النقدي في العالم (1)

وإن هذه الدراسة تدل على أن الأوراق النقدية لم تكن قائمة على طور واحد في حقيقتها ومكانتها القانونية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى.

فلا شك أنها كانت وثائق للديون في مبدأ أمرها، ولذلك أفتى كثير من العلماء بأنها سندات ديون وليست أموالا ولا أثمانا، يقول العلامة السيد أحمد بك الحسيني رحمه الله في كتاب "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق":

" ولذلك لو بحثنا عن ماهية كلمة " بنك نوت " لوجدناها من الاصطلاح الفرنسي، وقد نص لاروس، وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن، في تعريف أوراق البنك، حيث قال: ورقة البنك هي ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عينا

(1) . إن هذه الخلاصة لتاريخ النقود وتطوراتها مستمدة من الكتب الآتية:

(أ) An outline of Money، by Geoffrey Growther. Money And Man، by Elgin Groseclose، Ivth. Ed. University of Okiahoma Press، Norman 197.2 (ب)

Modern Economic Theory، by K.K. Dewett New Delhi، (ج)

Encyclopaedia Britannica Banking and Credit Money Currency. (د)

(هـ) حكم التعامل في الذهب والفضة، للدكتور محمد هاشم عوض.

ص: 155

لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق

الناس بالتعامل بها". اهـ. (فقوله: (قابلة لدفع قيمتها عينا لدى الاطلاع لحاملها) لم يجعل شكا في أنها سندات ديون"، ولا عبرة بما توهمه عبارته "التعامل بها كما يتعامل

بالعملة المعدنية"؛ لأن معنى تلك العبارة أن الناس يأخذونها بدل العملة، ولكن مع ملاحظة أن قيمتها تدفع لحاملها، وأنها مضمونة بدفع قيمتها، وهذا صريح في أن تلك الأوراق هي سندات ديون"(1) .

وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق بكون هذه الأوراق وثائق دين، فلا تتأدى بأدائها الزكاة، حتى يصرفها الفقير، ولا يجوز شراء الذهب والفضة بها (2) .

ولكن كان هناك في الوقت نفسه ثلة من العلماء والفقهاء، يعتبرون هذه الأوراق أموالا، كأثمان عرفية. وقد أشبع الكلام على هذه المسألة العلامة أحمد الساعاتي رحمه الله، صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، فقال في كتاب الزكاة من كتابه المذكور:

"فالذي أراه حقا، وأدين الله عليه: أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تماما؛ لأن مالكه يمكن صرفه وقضاء مصالحه به في أي وقت شاء. فمن ملك النصاب من الورق المالي، ومكث عنده حولا كاملا وجبت عليه زكاته

" إلخ (3) .

(1) هذه العبارة مأخوذة من "بلوغ الأماني، شرح الفتح الرباني، للساعاتي رحمه الله: 8/248.

(2)

راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله: 2/5 والمجلد الثالث.

(3)

شرح الفتح الرباني، آخر باب زكاة الذهب والفضة: 8/251.

ص: 156

وبعين هذا الرأي كان يرى بعض علماء الهند، مثل مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله، صاحب "عطر الهداية" و "خلاصة التفاسير" وتلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله، صاحب المؤلفات المعروفة في العلوم الإسلامية. وقد شرح ابنه المفتي سعيد أحمد اللكنوي رحمه الله رأيه في آخر كتابه"عطر الهداية"، وذكر أن الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله كان يوافقه في هذه المسألة.

وخلاصة قوله: أن أوراق العملة لها جهتان: الأولى: أنها يتعامل بها في البيوع والإجارات، وسائر العقود المالية كالسكك والأثمان سواء بسواء، بل وقد ألزمت الدول جميع الناس لقبولها في اقتضاء الديون والحقوق، فلا يسع لدائن في القانون اليوم أن يمتنع من قبولها في اقتضاء دينه. ومن هذه الجهة صارت هذه الأوراق أثمانا عرفية.

والجهة الثانية: أنها وثيقة من قبل الحكومة، والتزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها، فمن هذه الجهة أنها تخالف الأثمان العرفية المسكوكة، فإن الحكومة لا تؤدي بدلها عند هلاكها، ومن هذه الجهة ينبغي أن تعتبر كسندات لديون، أو كوثائق مالية أخرى.

ولكننا إذا أمعنا النظر في الجهة الثانية، رأينا أنها لا تبطل ثمنية هذه الأوراق، فإن الأصل أن الحكومة كانت تريد أن تصدر هذه الأوراق كأثمان عرفية، ولهذا ألزمت الناس قبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقا، حتى النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالا لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقومها موقوفا على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثمانا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس أو الحديد، مما هي أموال

ص: 157

في أنفسها، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بقي تقومها من حيث موادها.

وأما هذه الأوراق فليست أموالا في أنفسها، وإنما جاء فيها التقوم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها، فلم تكن هذه الأوراق لتحوز من ثقة الناس ما تحوزه الأثمان المعدنية، ولهذا التزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها أو ضياعها، لا لأنها لم تكن أثمانا عرفية في نظر الحكومة، بل لتحوز هذه الأثمان ثقة العامة، ويتعامل بها الناس دون أيما خطر.

فليست جهة كونها وثيقة مما يبطل ثمنيتها، فإنها تنبئى عن وعد الحكومة بأداء بدلها، وليس لهذا الوعد أي أثر في تعامل الناس فيما بينهم، ولو كانت الحكومة لا تريد أن تجعلها أثمانا عرفية، لما جبرت الناس على قبولها، بل إن هذه الجهة قد منحت هذه الأوراق من الثقة ما هو فوق ثقة الأثمان الأخرى، فإنها تهلك وتضيع بلا بدل، وهذه يمكن إبدالها من الحكومة (1) رأينا في المسألة: ولو أردنا أن نحاكم بين هذين الرأيين، فإني أرى أن كلا الرأيين مصيب بالنسبة إلى أزمنة مختلفة، فقد شرحنا عند بيان تاريخ النقود ما مر على هذه الأوراق من تطورات.

فلا شك أنها كانت في بداية أمرها سندات لديوان، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية:

"أن البنكنوت ظهر في العالم قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن

لدين له على البنك، وإن

(1) راجع "عطر الهداية" للشيخ اللكنوي 218إلى227 طبع ديوبند الهند.

ص: 158

حقوق هذا الورق تنتقل إلى رجل آخر بتسليمه إليه، فيصير حامله دائنا للبنك بطريقة تلقائية، لهذا صار أداء الحقوق المالية بهذه الأوراق كأداءها بالنقود، وإن أداء المبالغ الكثيرة بالنقود المسكوكة عسيرة جدا، فإنها تحتاج إلى عد ونقد، وربما يحتاج نقلها وحملها إلى تكاليف معتدة بها، باستعمال هذه الأوراق قد قلل من مشقة العد، وأذهب المشاق الأخرى رأسا" (1) .

ولكننا رأينا في تطورات هذه النقود أنها لم تبق على هذه الحالة في الأزمان الآتية، إنها كانت في بداية أمرها إيصالات مكتوبة شخصيا من قبل بعض الصاغة والصيارفة، دون أن تكون لها صورة رسمية، ولا جهة واحدة تصدرها، ولم يكن أحد يجبر على قبولها عند اقتضاء حقه. ثم لما ازداد شيوعها جعلتها الحكومات عملة قانونية Legal Tender ومنعت البنوك الشخصية في إصدارها. وحينئذ اختلفت حقيقتها عن الوثائق المالية الأخرى في جهات تالية:

1-

أنها صارت عملة قانونية، وجبر الناس بقبولها كالأثمان العرفية الأخرى، في حين أن الوثائق المالية الأخرى لا يجبر أحد على قبولها في اقتضاء دينه، كالشيكات المصرفية مع أنها قد عم التعامل بها أيضا.

2-

أنها صارت عملية قانونية غير محدودة (Unlimited Legal Tender) في حين أن النقود المعدنية الرمزية عملة قانونية محدودة (Limited Legal Tender) . فيمكن قضاء الدين بالأوراق النقدية، مهما عظم مقدار الدين، ولا يستطيع الدائن أن يرفض قبول شيء منها، بخلاف

(1) Encyclopadia Britannica 1950، V. 3p. 44 Banking And Credit.

ص: 159

النقود المعدنية الرمزية، فإن الدائن يستطيع أن يرفضها في اقتضاء مبلغ كبير، فهذا يدل على أن أوراق العملة هذه قد فاقت العملة المعدنية الرمزية بكثير، في شيوع التعامل بها، واعتماد الناس عليها، وصفتها القانونية.

3-

أن سند الدين يستطيع أن يصدره كل أحد، وليس هناك أي مانع قانوني ولا شرعي، أن يكتب مديون وثيقة لدائنه، ولا مانع من أن يستعملها ذلك الدائن في أداء دينه إلى دائن

آخر، وهكذا، ولكن الأوراق النقدية لا تصدر إلا من جهة واحدة فقط، وهي الجهة الرسمية، كما هو شأن النقود المعدنية.

4-

أن هذه الأوراق يطلق عليها كلمة "النقود"، "والأثمان"، "والعملة" في كل من العرف والقانون في جميع البلاد والأقطار، في حين أن هذه الكلمات لا تطلق على شيء من الوثائق الأخرى.

5-

أنها يتعامل بها الناس بنفس الاعتماد الذي يتعاملون به في النقود المعدنية الرمزية، ولا يخطر ببال أحد عند التعامل بها أنه يتعامل بدين، ولا يوجد اليوم أحد يطمع فيما وراءها من ذهب أو فضة أو عملة مسكوكة أخرى.

6-

قد سبق في بيان تطورات هذه الأوراق أنها لم يبق اليوم وراءها شيء من الذهب والفضة فعلا، ولا يمكن تحويلها إلى الذهب، حتى في المداولات الدولية. يقول جيوفر كراؤتهر: (The Promise to Pay Which appears on their face is now utterly meaningless. Not even in amounts of 1.700 can notes now be converted into gold. The note is no more than a piece of paper، of no intrinisie value whatever and if it were presented for redemption، the Bank of England could honour its Promise to pay one

ص: 160

Pound only by giving Silver coins or another note but it is money throughtout the British Isles (1)) .

" إن وعد الأداء الذي يرى مكتوبا على وجه الأوراق النقدية صار الآن لا معنى له إطلاقا. لا ورق يمكن تحويله إلى الذهب الآن، حتى بمقدار ألف وسبعمائة جنيه. الورق النقدي الآن ليست إلا قطعة من الكاغد، ليس لها قيمة ذاتية، وأنها لو قدمت إلى البنك الرئيسي البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية، أو ورق نقدي آخر. ولكنه يعتبر في سائر الجزر البريطانية.

وحاصل ذلك أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر اليوم إلا عن ضمان الحكومة لحامله بالحفاظ على قيمة الورق الاسمية (Face Value) وإن قيمته الاسمية عبارة عن عيار مخصوص

لقوة الشراء، ولذلك لا يلتزم البنك بأداء الذهب أو الفضة أو العملة المعدنية الأخرى، بل

ربما يفي بوعده بإبدال ذلك الورق بورق آخر يساويه في قيمته الاسمية، فليس ذلك أداء الدين، وإنما هو إبدال الثمن بثمن آخر، قد التزم به البنك الرئيسي، لا لأن الورق ليس ثمنا رمزيا، بل للحفاظ على ثقة الناس بهذا الثمن الرمزي.

فاتضح بما ذكرنا أن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي، وإنما صارت أثمانا رمزية يعبر عنها الفقهاء بكلمة " الفلوس النافقة " فإن الفلوس النافقة تكون قيمتها الاسمية أكثر بكثير من قيمتها الذاتية، فكذلك الأوراق النقدية تكون قيمتها الاسمية أضعاف

(1) Geoffrey Grpwther: An Outline of money p16.

ص: 161

قيمتها الذاتية، وجرى بها التعامل العام فيما بين الناس، دون أيما فرق بينهما وبين الفلوس النافقة، حتى لا توجد العملة المعدنية اليوم - ولو رمزية - إلا نزرا قليلا، فالحكم بعدم أداء الزكاة بهذه الأوراق، ومنع مبادلة بعضها ببعض على أساس كونه بيع بالكالئ، ومنع شراء الذهب والفضة بها لفقدان التقابض، فيه حرج عظيم لا يتحمل، والمعهود من الشريعة السمحة في مثله السعة والسهولة، والعمل بالعرف العام المتفاهم بين الناس، دون التدقيق في أبحاث قد أصبحت اليوم فلسفة نظرية ليس لها في الحياة لعملية أثر، ولا يسمع لها خبر، والله سبحانه وتعالى أعلم، وعدما ثبت كون هذه الأوراق في حكم الفلوس، ننتقل إلى الأحكام المتعلقة بها، والله سبحانه المستعان.

1-

الزكاة والأوراق المالية:

تجب الزكاة على الأوراق النقدية بالإجماع، وليس على قول من يقول بوجوب الزكاة على الدين فقط؛ لأنها ليست سندات دين، وإنما هي في حكم الفلوس النافقة، والفلوس النافقة في حق الزكاة كعروض التجارة، تجب عليها الزكاة إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة.

وكذلك يجوز أداء الأوراق النقدية إلى الفقير زكاة، وتتأدي بها الزكاة فور ما يستلمها الفقر، دون انتظار أن يصرفها، أو يحولها إلى عملة معدنية، كما تتأدي الزكاة بأداء الفلوس إلى الفقير، ولا يشترط لأداء الزكاة بها أن يصرفها الفقير، أو يأخذ بدلها شيئا من الذهب أو الفضة.

2-

أحكام مبادلة الأوراق بالأوراق.

إن مبادلة الأوراق بالأوراق تمكن على وجهين:

ص: 162

الأول: المبادلة بين الأوراق الأهلية، وذلك أن تكون الأوراق في كلا الجانبين أوراق دولة واحدة.

والثاني: المبادلة بين الأوراق الأجنبية، وذلك أن يكون التبادل بين عملات دول مختلفة. فلنتكلم على كلتا الجهتين على حدة.

المبادلة بين الأوراق الأهلية:

قدمنا أن النقود الورقية في حكم الفلوس سواء بسواء، فتجري على مبادلتها أحكام بيع الفلوس بعضها ببعض. فلو بيعت هذه الأوراق على التساوي، بأن تكون قيمة البدلين متساوية، فهذا جائز بالإجماع، بشرط أن يتحقق قبض أحد البدلين في المجلس قبل أن يتفرق المتبايعان، فإن تفرقا ولم يقبض أحد شيئا، فسد العقد عند الحنفية وبعض المالكية؛ لأن الفلوس لا تتعين بالتعيين عندهم، وإنما تتعين بالقبض، فصارت دينا على كل أحد، والافتراق عن دين بدين لا يجوز (1) .

وأما بيعها على التفاضل بأن تكون قيمة أحد البدلين أكثر من الآخر، كبيع الربية بالربيتين، والريال بالريالين، والدولار بالدولارين، فتجري فيه أحكام الفلوس بالتفاضل، وفيه خلاف مشهور للفقهاء.

وذلك أن بيع الفلس بالفلسين حرام مطلقا، وهو من الربا المحرم شرعا عند الإمام مالك بن أنس، ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وهو أشهر الوجهين عند الحنابلة، وبه يقول الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف، إذا كان البدلان غير متعينين.

فأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فلأنه يعتبر الثمنية علة لتحريم التفاضل والنسيئة، سواء كانت الثمنية جوهرية، كما في الذهب

(1) راجع له الدر المختار، وحاشيته لابن عابدين رحمه الله: 5/179و180.

ص: 163

والفضة، أو عرفية مصطلحة، كما في الفلوس، فلا يجوز التفاضل والنسيئة في مبادلتها بجنسها. وجاء في المدونة الكبرى للإمام مالك: "ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة؛ لأن مالكا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة

ولا بالدنانير نظرة" (1) .

وأما الحنفية فإن العلة عندهم، وإن كانت الوزن، ولا يوجد ذلك في الفلوس ولكنهم يقولون: إنها أمثال متساوية قطعا، لاصطلاح الناس بإهدار الجودة منها، فلو بيع فلس واحد بفلسين كان أحد الفلسين خاليا عن العوض مشروطا في العقد، وهو الربا، وهذا مادامت ثمنيتها باقية بأن لا تتعين بالتعيين، ثم يقول محمد بن الحسن رحمه الله: إنه لا سبيل إلى إسقاط ثمنيتها ما دامت رائجة؛ لأنها صارت ثمنا بالاصطلاح، فلا تبطل إلا باصطلاح الجميع، فليس للمتعاقدين إبطالها وتعيينها، فلا يجوز الفلس بالفلسين بحال. ويقول أبو حنيفة وأبو يوسف: إن للمتعاقدين إبطال ثمنيتها بتعينها، وحينئذ تصير عروضا متعينة، ويجوز فيها التفاضل (2) .

وأما الإمام أحمد، فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى: أنه يجوز الفلس بالفلسين؛ لأن علة الربا عنده الوزن، ولا يوجد في الفلوس لكونها عددية. والثانية: لا يجوز، ويجري فيها الربا؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر ابن قدامة أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالإسطال ففيه الربا، وما لا فلا (3) .

(1) المدونة الكبرى، للإمام مالك: 7/104.

(2)

راجع لتفصيله العناية على هامش فتح القدير: 5/162.

(3)

المغني لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/128و 129، وفتاوى ابن تيمية: 29/460.

ص: 164

وقياس هذا التعليل أن يجوز عنده بيع الأوراق النقدية متفاضلة؛ لأن الورق ليس موزونا من أصله، بخلاف الفلوس المعدنية، والله سبحانه أعلم.

والمذهب الثاني للفقهاء في هذا الباب: أنه يجوز بيع الفلس بالفلسين، ويجوز التفاضل في مبادلة الفلوس بالغا ما بلغ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله؛ وذلك لأن علة الربا عنده جوهرية الثمن، فتختص بالذهب والفضة، وليست الفلوس في حكمها، فلا ربا عنده في الفلوس وإن راجت، فيجوز عنده بيع بعضها ببعض متفاضلا (1) .

وكذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوزان الفلس بالفلسين، إذا كانا بأعيانهما، وعينهما العاقدان، لفوات ثمنيتهما حينئذ، وكونهما عروضا محضة، كما قدمنا.

الرأي الراجح في هذا الباب:

كان اختلاف الفقهاء هذا في زمن يسود فيه الذهب والفضة كعيار للأثمان، وتتداول فيه النقود الذهبية والفضية بكل حرية، ولا تستعمل الفلوس إلا في مبادلات بسيطة. وأما الآن فقد فقدت النقود المعدنية من الذهب والفضة، ولا يوجد اليوم منها شيء في العالم كله، واحتلت النقود الرمزية محلها في سائر المعاملات كما بينا في بداية هذه المقالة.

فيجب الآن - فيما أرى - أن يختار قول الإمام مالك أو الإمام محمد رحمهما الله تعالى في مسألة بيع النقود الرمزية بعضها ببعض؛ وذلك لأنه لو وقع الحكم اليوم بمذهب الإمام الشافعي، أو الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، لانفتح باب الربا على مصراعيه، وصارت كل معاملة ربوية

(1) راجع نهاية المحتاج، للرملي:3/418، وتحفة المحتاج، لابن حجر، مع حاشية الشرواني: 4/279.

ص: 165

حلالا تحت هذا الستار، فإن المقرض أن أراد الربا باع نقوده الرمزية من الآخر بنقود رمزية أكثر من قيمة ما دفعه. والذي يغلب على الظن أن هؤلاء الفقهاء لو كانوا أحياء في هذا الزمان، وشاهدوا من تغير أحوال النقود ما نشاهده، لأفتوا بحرمة الفلس بالفلسين، وقد رأينا ذلك فعلا من بعض الفقهاء المتقدمين، إذ حرم مشايخ ما وراء النهر التفاضل في العدالي والغطارفة، وهي النقود التي كان يغلب عليها الغش، ولم تكن فيها الفضة إلا بنسبة ضئيلة، وكان أصل مذهب الحنفية في مثل هذه النقود جواز التفاضل، صرفا للجنس إلى خلاف الجنس، ولكن مشايخ ما وراء النهر أفتوا بحرمة التفاضل فيها، وعللوا ذلك بقولهم: أنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيها ينفتح باب الربا (1) . ثم إن قول الإمام محمد رحمة الله تعالى يبدو راجحا من حيث الدليل أيضا، إذا قورن بمذهب شيخيه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى؛ لأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها قطعات صفرا أو حديدا، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، فلو تصالحها على إبطال ثمنيتها، لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل ذلك لا يقبله الشرع، ولا سيما في زماننا، حيث لا يتصور الربا إلا في النقود الرمزية، لنفاد النقود الخلقية وفقدانها من العالم كله.

نعم، يمكن أن يتصور قول الشيخين في الفلوس التي يقصد اقتناؤها من حيث موادها وصنعتها، ولا يقصد التبادل بها، كما هو معتاد عند بعض الناس في عصرنا من اقتناء عملات شتى البلاد وشتى الأنواع؛ لتكون ذكرى تاريخية. ففي مثل هذه الفلوس يمكن أن يتصور ما قاله

(1) راجع الهداية مع فتح القدير باب الصرف: 6/325.

ص: 166

الشيخان رحمهما الله، ويبدو أن في التفاضل في مثل هذه الفلوس سعة على قولهما، وأما الفلوس التي يقصد بها التبادل دون خصوص المادة، فلا ينبغي المساهلة في أمرها، فإنها من أقوى الذرائع إلى الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم. الصحيح الراجح في زماننا أن مبادلة الأوراق النقدية إنما تجوز بشرط تماثلها، ولا يجوز التفاضل فيها.

ثم التماثل ههنا لا يكون بعدد الأوراق، وإنما يكون بقيمة الأوراق الاسمية، فيجوز بيع ورق واحد قيمته الاسمية خمسون ربية بخمسة أوراق قيمة كل واحد منها عشر ربيات؛ لأن مجموع قيمة هذه الخمسة تساوي خمسين ربية، وذلك لأن المقصود من بيع هذه الأوراق ليس ذات الورق ولا وزنه أو عدده، وإنما المقصود هو القيمة التي يمثلها، فيجب التساوي في تلك القيمة، وهذا كما جعل الفقهاء الفلوس عددية، مع أن أصلها من معدن موزون، وما ذلك إلا لأن المقصود منها ليس ذواتها، وإنما المقصود هو القيمة التي تمثلها هذه الفلوس، فلو كانت قطعة منها تساوى عشرة فلوس، فإنه يباح بيعها بعشر قطعات قيمة كل منها فلس واحد، حتى عند من يحرم بيع الفلس بالفلسين؛ لأنها مساوية في القيمة، أو لأن قطعة العشرة وإن كانت واحدة في العدد، ولكنها في حكم عشر قطع، فتساوي عشر قطعات، فكذلك الأوراق النقدية لا يعتبر فيها عددها الظاهر، بل عددها الحكمي الذي يظهر من قيمتها الاسمية. والله سبحانه أعلم.

مبادلة عملات الدول المختلفة:

ثم الذي يظهر أن عملة الدولة الواحدة الرمزية كلها جنس واحد، وعملات الدول المختلفة أجناس مختلفة؛ وذلك لأن العملة اليوم لا يقصد بها مادتها، وإنما هي عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، وإن

ص: 167

ذلك العيار يختلف باختلاف البلاد، كالربية في باكستان والريال في المملكة السعودية والدولار في أمريكا، وما إلى ذلك، وأن عيار كل دولة ينبني على قائمة أسعارها، وقدر إيرادها وإصدارها، وليس هناك شيء مادي ينبئ عن نسبة ثابتة بين هذه العيارات، وإنما تختلف هذه النسبة كل يوم، بل كل ساعة، بناء على تغير الظروف الاقتصادية في شتى البلاد، ولذلك لا يوجد بين عملات البلاد المختلفة علاقة ثابتة تجعل هذه العملات جنسا واحدا، بخلاف عملة الدولة الواحدة، فإن أنواعها المختلفة مرتبطة بينها بنسبة ثابتة لا تتغير، كالربية والبيسة في باكستان، بينهما نسبة الواحد والمائة، وأنها نسبة ثابتة لا تتأثر بتغير أسعار الربية. وأما الربية الباكستانية والريال السعودي، فليس بينهما نسبة ثابتة، بل إنها تتغير كل حين بتغير أسعار هذا أو ذاك.

فتبين أن عملات الدول المختلفة أجناس مختلفة، ولذلك تختلف أسماؤها وموازينها ووحداتها المنشعبة منها. ولما كانت عملات الدول أجناسا مختلفة جاز بيعها بالتفاضل بالإجماع، أما عند الشافعي رحمه الله فلأنه يجوز بيع الفلس بالفلسين في عملة واحدة، ففي العملات المختلفة أولى، وهو رأي في مذهب الحنابلة كما قدمنا، وأما عند مالك رحمه الله فلأنه يجعل هذه العملات من الأموال الربوية فإذا اختلفت أجناسها جاز التفاضل، وأما عند أبي حنيفة وأصحابه فلأن تحريم بيع الفلس بالفلسين مبني عندهم على كون الفلوس أمثالا متساوية قطعا، فيبقى عند التفاضل فضل خال عن العوض، ولكن عملات البلاد المختلفة لما كانت أجناسا مختلفة، لم تكن أمثالا متساوية، فلا يتصور الفضل الخالي عن العوض. فيجوز إذن أن يباع الريال السعودي مثلا بعدد أكثر من الربيات الباكستانية.

ص: 168

ثم إن أسعار هذه العملات بالنسبة إلى العملات الأخرى، ربما تعين من قبل الحكومات، فهل يجوز بيعها بأقل أو أكثر من ذلك السعر المحدد؟ والجواب عندي أن البيع بخلاف هذا السعر الرسمي لا يعتبر ربا؛ لما قدمنا من أنها أجناس مختلفة، ولكن تجري عليه أحكام التسعير، فمن جوز التسعير في العروض، جاز عنده هذا التعسير أيضا، ولا ينبغي مخالفة هذا السعر، إما لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجب (1) ، وإما لأن كل من يسكن دولة فإنه يلتزم قولا أو عملا بأنه يتبع قوانينها، وحينئذ يجب عليه اتباع أحكامها، مادامت تلك القوانين لا تجبر على معصبة دينية (2) .

بيع العملات بدون التقابض:

ثم إن هذه الأوراق النقدية، وإن كان لا يجوز فيها التفاضل، ولكن بيعها ليس بصرف، فلا يشترط فيه التقابض في مجلس العقد، نعم يشترط قبض أحد البدلين عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الفلوس عندهم لا تتعين بالتعيين، فلو افترقا دون أن يقبض أحد البدلين، لزم الافتراق عن دين بدين (3) . وأما عند الأئمة الثلاثة فينبغي أن لا يشترط ذلك إن كان أحد

(1) هذه القاعدة صرح بها الفقهاء، راجع مثلا "شرح السير الكبير للسرخسي1/168ورد المحتار، باب العيدين3/183وباب الاستسقاء1/185، وكتاب الحظر والإباحة:5/407.

(2)

راجع أحكام القرآن للشيخ المفتي محمد شفيع رحمة الله:5/43.

(3)

راجع الدر المختار مع رد المحتار: 4/129 و180.

ص: 169

البدلين متعينا؛ لأن الأثمان تتعين بالتعيين عندهم (1) .

وهل يجوز هذا البيع نسيئة؟ كما هو معمول به اليوم عند كثير من التجار وعامة الناس، أنهم يعطون عملة بلدهم، بشرط أن يؤدي الآخذ بدلها في شكل عملة بلد آخر بعد مدة، مثل أن يعطي زيد عمرا ألف ريال سعودي في المملكة السعودية، بشرط أن يؤدي عمرو بدلها أربعة آلاف ربية باكستانية في باكستان.

فأما عند الحنفية فيجوز هذا البيع؛ لأن الأثمان لا يشترط فيها كونها مملوكة للعاقد عند البيع عندهم، فيصح فيها التأجيل عند اختلاف الجنس، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وإذا اشترى الرجل فلوسا بدراهم ونقد الثمن، ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود. وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معا، ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد، كما لا يشترط ذلك في الدراهم والدنانير) (2) فصار البيع حينئذ بيعا بثمن مؤجل، وذلك جائز في الأجناس المختلفة، ثم يمكن تخريجه على قاعدة السلم أيضا؛ لأن السلم في الفلوس جائز عند أكثر الفقهاء؛ لأنها عددية غير متفاوتة تنضبط بالضبط، حتى عند محمد رحمه الله أيضا، الذي يقول بحرمة الفلس بالفلسين (3) . وكذلك يجوز السلم في كل ما لا يتفاوت من العدديات عند أحمد رحمه الله (4) .

(1) راجع المغني لابن قدامة، باب الصرف: 4/169.

(2)

مبسوط السرخسي: 14/24.

(3)

راجع فتح القدير: 6/209.

(4)

المغني لابن قدامة: 4/327.

ص: 170

وحينئذ يجب أن تراعي في هذا العقد شرائط السلم، على اختلاف أقوال الفقهاء فيها، وهي معروفة. والله سبحانه وتعالى أعلم. ولكن جواز النسيئة في تبادل العملات المختلفة يمكن أن يتخذ حيلة لأكل الربا فمثلا إذا أراد المقرض أن يطالب بعشر ربيات على المائة المقرضة فإنه يبيع مئة ربية نسيئة بمقدار من الدولارات التي تساوي مئة وعشر ربيات وسدا لهذا الباب فإنه ينبغي أن يقيد جواز النسيئة في بيع العملات أن يقع ذلك على سعر سوق السائد عند العقد.

* * *

ص: 171

الباب الثاني

مسألة تغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار

بسم الله الرحمن الرحيم

عرض المسألة:

إن مسألة تغير قيمة العملة، وربطها بقائمة الأسعار إنما نشأت نتيجة للنظام النقدي المعاصر. كانت العملة فيما سبق مرتبطة بعيار مخصوص من الأثمان، كالنقود الذهبية أو الفضية ترتفع قيمتها وتنخفض بالنسبة إلى ذلك العيار المخصوص. ولكن النقود الورقية اليوم ليست مرتبطة بثمن خلقي، وإنما هي تمثل قوة شراء مخصوصة باصطلاح من جهتها المصدرة. فلا تتفاوت قيمتها بالنسبة إلى عيار مخصوص من الأثمان، وإنما تتفاوت بغلاء الأشياء ورخصها.

فكلما غلت البضائع في السوق انتقصت قوة شرائها، فكأنما انتقصت قيمتها، وكلما رخصت البضائع زادت قوة شرائها، فكأنما ارتفعت قيمتها.

وبعبارة علم الاقتصاد المعاصر: إن قيمة النقود إنما تنبني اليوم على مقدار التضخم أو الانكماش الموجودين في البلاد، فكلما ازداد التضخم انتقصت قيمة النقود، وكلما ازداد الانكماش ارتفعت قيمتها.

ودعوني، قبل أن أتقدم في الموضوع، أن أفسر التضخم والانكماش باختصار، ليسهل فهم الموضوع قبل الدخول فيه. إن التضخم (Inflation) في اصطلاح الاقتصاد المعاصر عبارة عن

ص: 172

حالة اقتصادية في بلد مخصوص، يزداد فيها مقدار النقود السائلة على مقدار البضائع والخدمات التي يمكن شراؤها بالنقود. ومن النتائج اللازمة لهذه الحالة أن ترتفع أسعار البضائع والخدمات فيحدث الغلاء العام، لأن النقود السائلة في البلاد تمثل طلب المجتمع للبضائع والخدمات، والبضائع والخدمات الموجودة في البلاد تمثل عرضها للمجتمع، وحيثما ازداد الطلب على العرض، ازدادت الأسعار، كما هو معلوم من قواعد الاقتصاد الأساسية. أما الانكماش (Deflatiom) فهو عبارة عن حالة اقتصادية ينتقص فيها مقدار النقود السائلة عن مقدار البضائع والخدمات المتوفرة في بلد مخصوص. ونتيجة هذه الحالة أن ينخفض مستوى أسعار البضائع والخدمات، فيحدث رخص عام. لأن العرض قد ازداد على الطلب، فانخفضت الأسعار. وإن النقود في حالة الانكماش تستطيع أن تشتري كمية كبيرة من البضائع، فنستطيع في هذه الحالة مثلا، أن نشتري بمائة ربية البضائع الآتية:

الحنطة 20 كيلو

الملح 20 كيلو

الثوب 10 متر

ولكن لا تستطيع النقود في حالة التضخم أن تشتري إلا كمية أقل مما كانت تشتري في حالة الانكماش، فإنما يمكن لنا في حالة التضخم مثلا، أن نشتري بمائة ربية:

الحنطة 10 كيلو

الملح 10 كيلو

الثوب 5 أمتار

ص: 173

فالمائة ربية في الحالتين، هي المائة روبية، لكن كانت قوة شرائها في الحالة الأولى ضعف قوة شرائها في الحالة الثانية. وبما أن النقود الورقية اليوم لا تمثل إلا قوة شراء، وهي التي تعتبر قيمتها الحقيقية، فإن الاقتصاديين يعبرون عن هذا التفاوت بتفاوت قيمة النقود، وقد رأينا أن قوة شراء المائة ربية في المثال المذكور قد انتقصت في حالة التضخم بقدر الخمسين في المائة، لأنها إنما تستطيع أن تشتري بها في حال التضخم نصف ما كانت تشتري في حالة الانكماش، أو نقول: إن المائة روبية في حالة التضخم صارت مساوية للخمسين ربية في حالة الانكماش نظرا إلى قوة شرائها. فالسؤال المطروح اليوم: هل تعتبر المائة ربية في حالة التضخم مثل المائة ربية في حالة الانكماش في أداء الحقوق والالتزامات؟ أو تعتبر أنها صارت خمسين؟ فمن استقرض من رجل مائة ربية في حالة الانكماش، هل يؤدي مائة ربية بالعدد في حالة التضخم؟ أو يؤدي مائتي ربية نظرا إلى انخفاض قيمتها، وانتقاص قوة شرائها بقدر الخمسين في المائة؟ وقد يرى بعض الاقتصاديين أن أداء مائة ربية بالعدد في هذه الحالة ظلم على المقرض، لأن المستقرض إنما يرد عليه نصف القوة الشرائية التي دفعها إليه المقرض. وقد اقترح بعض الاقتصاديين لحل هذه المشكلة أن تستخدم قائمة الأسعار كمعيار لتقييم النقود، ويكون أداء الحقوق والالتزامات على أساس قيمة النقود المرتبطة بقائمة الأسعار. وإن قائمة الأسعار (Price index) قائمة تدرج فيها معظم البضائع والخدمات المتداولة في البلاد، ويذكر فيها سعرها الرائج في ابتداء السنة المالية مثلا، ثم يذكر سعرها الرائج عند انتهاء السنة، والفرق ما بين هذين السعرين يمثل نسبة تفاوت

ص: 174

الأسعار بطريق حسابي مخصوص. وتعتبر هذه النسبة نسبة تغير قيمة النقود. فإذا كانت هذه النسبة زيادة عشرة في المائة مثلا، فإن الحقوق الملتزم بها في ابتداء السنة تؤدي في نهايتها بزيادة عشرة في المائة، فمن استقرض مائة ربية في ابتداء العام يؤديها عند انتهاء العام مائة وعشر ربيات، وإن هذا الطريق يستخدم في بعض البلاد في أداء الأجور، وقضاء الديون، فنريد أن نبحث عن مدى جواز استخدام هذا الطريق من الناحية الشرعية، والله سبحانه هو الموفق.

ربط القروض والديون بقائمة الأسعار:

ما ربط القروض وسائر الديون بقائمة الأسعار، فالمقصود منه أن لا يرد المستقرض إلى المقرض مبلغ قرضه فحسب، بل يضيف إليه قدرا زائدا بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. فإن اقترض مثلا ألف ربية، وازدادت قائمة الأسعار بنسبة العشرة في المائة عند الأداء، فإنه يرد إلى المقرض ألفا ومائة ربية.

ويحتج بعض الاقتصاديين على جواز هذا الربط بأن هذه الزيادة ليست زيادة حقيقية، وإنما هو رد لنفس المالية التي اقترضها المقترض، لأن مالية الألف ربية من حيث شرائها كانت أكثر عند الاقتراض، وانتقصت عند الأداء بنسبة 10 %، فلو رد المقترض ألف ربية كان ذلك ظلما على المقرض لأنه لم تعد إليه المالية الكاملة التي أقرضها. وإنما عادت إليه ناقصة ، فلو ألزمنا المقترض أن يدفع إليه ألفا ومائة، لم يكن ذلك إلا إكمال المالية المقترضة، لأن مالية الألف ومائة اليوم عين مالية الألف عند الاقتراض، فزيادة المائة جبر لنقصان قيمة النقد، وليس زيادة على المالية المقترضة، فينبغي أن لا تعتبر هذه الزيادة من الربا الحرام شرعا.

ص: 175

ولكن الحق أن هذا الدليل لا ينطبق على القواعد الشرعية بحال من الأحوال، لأن القروض يجب في الشريعة أن تقضى بأمثالها، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، حتى القائلين بجواز ربط القروض بالأسعار، فبقي الآن تعيين معنى المثلية. فالسؤال الأساسي هنا: هل يجب أن تتحقق هذه المثلية في القدر (أي الكيل، والوزن، والعدد) أو في القيمة والمالية؟ والذي يتحقق من النظر في دلائل القرآن والسنة ومشاهدة معاملات الناس، أن المثلية المطلوبة في القرض هي المثلية في القدر والكمية، دون المثلية في القيمة والمالية.

ويدل على ذلك دلائل:

1-

لو اقترض الرجل صاعا من الحنطة، قيمتها يومئذ خمس روبيات مثلا، فلم يؤدها إلى المقرض إلا بعد ما صارت قيمتها ربيتين فحسب، فإنه لا يرد إلى المقرض إلا صاعا واحدا، رغم أن مالية الصاع الواحد قد انتقصت من خمس ربيات إلى ربيتين، وهذا بإجماع الفقهاء قديما وحديثا، ولا يقول في ذلك أحد: إن رد الصاع الواحد فقط بعد انتقاص ماليته ظلم على المقرض، فينبغي أن تضاف إلى الصاع زيادة بنسبة نقصان قيمته، وهذا من أوضح الدلائل على أن المثلية المعتبرة في القرض إنما هي المثلية في المقدار، لا في القيمة والمالية.

وربما يقال جوابا عن هذا: إن الحنطة بضاعة لها مالية في حد ذاتها، فلا تقاس عليها النقود الورقية التي ليست لها قيمة أو مالية ذاتية، ولكن هذا الجواب خلط للبحث، لأن السؤال هنا عن تعيين معنى المثلية المطلوبة في القرض، فما دامت المثلية المطلوبة هي المثلية في المقدار دون القيمة والمالية، فليس هناك فرق جوهري بين الحنطة والنقود في هذا المجال، لأن لكل منهما مقدارا، وقيمة، فإن كانت المثلية المقلوبة في الحنطة هي المثلية في المقدار، فلتن المثلية المطلوبة في النقود مثلية المقدار كذلك. ولو اعتبر تفاوت القيمة والمالية هدرا في الخطة فليكن

ص: 176

ذلك هدرا في النقود سواء بسواء.

2-

من المسلم لدى الجميع أن التماثل مطلوب في القروض للاحتراز عن الربا، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا التماثل المطلوب في أحاديث ربا الفضل بكل صراحة ووضوح. أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخلط من التمر، فكنا نبيع صاعين بصاع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(لا صاعين تمرا بصاع، ولا صاعين حنطة بصاع، ولا درهما بدرهمين)(1) .

ومعلوم أن ما يباع بصاعين كان أكثر قيمة ما يباع بصاع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرض إلا بالتماثل في القدر والكيل، وجعل التفاوت في القيمة هدرا.

وكذلك أخرج الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ((: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاث)) ، قال:((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) (2) .

وهذه الرواية من أصرح الأدلة على التماثل المطلوب في الأموال الربوية هو التماثل في القدر، دون التماثل في القيمة، لأن الجنيب كان أغلى من الجمع بكثير، وأكثر قيمة، وأجود نوعا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر الجودة والرداءة في مبادلة بعضها ببعض، وأوجب التماثل في الكيل.

(1) جامع الأصول، لابن الأثير:1/546

(2)

جامع الأصول: 1/550.

ص: 177

وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا)) وأخرجه مالك بلفظ ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) (1) .

وأخرج مسلم وغيره من عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .

وأخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدين بمدين، والشعير بالشعير مدين بمدين، والتمر بالتمر مدين بمدين، والملح بالملح مدين بمدين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) (2) .

وأخرج مسلم عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) وفي رواية أخرى: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن)) (3) .

فهذه الأحاديث كلها ناطقة بأن التماثل المعتبر في الشريعة إنما هو التماثل في القدر، ولا عبرة بالتفاوت في القيمة، ما دامت الأموال ربوية.

(1) جامع الأصول: 1/552.

(2)

المرجع السابق: 1/554.

(3)

المرجع السابق: 1/556.

ص: 178

وهذا في المبايعة نقدا، فما بالك في القروض التي يجري فيها أصل الربا، والتي يحترز فيها عن كل زيادة وشبهتها.

3-

وهناك حديث أخر يوضح معنى المثلية في الديون خاصة، وهو ما أخرجه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله: رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . (1) ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لابن عمر رضي الله عنهما إذا وقع البيع على الدنانير أن تأخذ بدلها الدراهم بقيمة الدنانير يوم الأداء لا يوم ثبوتها في الذمة. يعني إذا وقع البيع على دينار مثلا، وقيمته وقت البيع عشرة دراهم، ثم لما أراد المشتري الأداء لم يكن عنده إلا دراهم، وقيمة الدينار الواحد يوم الأداء أحد عشر درهما، فإنه يؤدي إليه أحد عشر درهما.

ولذلك لما سأل بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عبد الله بن عمر عن كري لهما، له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير، أجاب ابن عمر:(أعطوه بسعر السوق) . فتبين أن القيمة إنما تعتبر يوم الأداء، لا يوم الثبوت في الذمة. ولئن كانت المثلية المعتبرة في الديون المثلية قي القيمة، لوجب قيمة الدنانير يوم الثبوت في الذمة. وهذا واضح جدا.

(1) سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم 3354، 3/ 250.

ص: 179

4-

من المسلم لدى جميع الفقهاء في ضوء القرآن والسنة أن الواجب في عقد القرض اشتراط أداء المثل الحقيقي في القدر، دون المثل المقدر بالجزاف والتخمين. حتى لو أقرض الرجل صاعا من الحنطة، واشترط أن يرد إليه المستقرض صاعا منها بالجزاف لا على أساس الكيل / لم يجز هذا العقد، لأن المجازفة في الأموال الربوية لا تجوز. وهنا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع المزابنة وهو بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مجذوذ. وليس وجه الحرمة في هذا البيع إلا أن التمر المجذوذ يمكن معرفة قدره بالكيل، وأما التمر القائم على رؤوس النخل فلا يمكن معرفة قدره إلا بالمجازفة والتخمين. فحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقا، مهما كانت المجازفة دقيقة أو قريبة من الصواب. فالسبيل الوحيد في مبادلة الأموال الربوية بعضها ببعض، أن يقع التبادل على أساس التماثل الحقيقي، دون التماثل المقدر بالمجازفة.

إذا ثبت هذا، فإن التماثل المقترح في ربط الديون بقائمة الأسعار، ليس تماثلا فعليا، وإنما هو تماثل مقدار على أساس المجازفة والتخمين. لأن نسبة الزيادة والنقصان في الأسعار ليست إلا نسبة تقريبية إنما تقدر على أساس حساب مخصوص لا يرجع إلا إلى المجازفة والتخمين.

ويجب لمعرفة هذه النقطة أن نعلم كيفية وضع قائمة الأسعار، وطريق استخدامها لتعين قيمة النقود.

كيفية وضع قائمة الأسعار واستخدامها في تقويم النقود:

ومن أجل الوقوف على الحكم الشرعي في هذا المجال، يجب أن نعرف كيفية وضع هذه القائمة وطريق استخدامها في تعيين قيمة النقود. فإليكم خلاصة ما يقصده الاقتصاديون من ربط الديون بقائمة الأسعار:

من المعلوم أن النقود، سواء كانت نقودا معدنية أو ورقية، لا يقصد

ص: 180

بها ذاتها، فإنها بذاتها لا تسد جوعا، ولا تستر جسما، ولا تدفع شهوة، ولا ترد ضررا. وإنما المقصود من هذه النقود أن يشتري بها المرء ما يحتاج إليه في حياته من بضائع وخدمات. فمن هذه الجهة كل نقد له قيمتان: الأولى قيمتها الاسمية (Price Value) ، وهي المكتوبة عليها، والثانية: قيمتها الحقيقية (Real Value) ، وهي الفائدة العملية الحقيقية التي يحصل عليها المرء بصرفها في حاجاته، وبعبارة أخرى: هي مجموعة من البضائع والخدمات التي يمكن للمرء أن يشتريها بتلك النقود. وإن هذه المجموعة من البضائع يسميها الاقتصاديون اليوم " سلة البضائع "(basket of goods) ، فالقيمة الحقيقية للنقود هي سلة البضائع الممكن شراؤها بها.

فإذا كان زيد راتبه كل شهر عشرة آلاف ربية مثلا، فإن عشرة آلاف ربية هي القيمة الاسمية لدخله الشهري. ثم إنه يصرف هذه العشرة آلاف ربية في شراء ما يأتي مثلا:

الحنطة 40 كيلو

الثوب 20 مترا

اللحم 20 كيلو

الشاي 5 كيلو

استئجار بيت للسكن يحتوى على غرفتين.

تعليم ابنين في مدرسة.

استئجار خدمات الدكتور مرة في الشهر.

وإن مجموعة هذه البضائع والخدمات تسمى " سلة البضائع "(Basket of goods) وإذا كان راتب زيد يصرف في شراء هذه السلة كل شهر، فإن هذه السلة المخصوصة (بمقاديرها المذكورة في المثال) هي القيمة الحقيقية لراتبه.

ص: 181

وإن هذه القيمة لعشرة آلاف ربية عرضة للتغير بتغير أسعار البضائع والخدمات المندرجة في السلة. وإن أسعار كل واحدة من هذه البضائع تختلف من حين لآخر بنسب مختلفة، ولكن الاقتصاديين إنما يقدرون نسبة التغير في أسعار السلة على أساس معدل وسط (Average) .

ثم إن البضائع والخدمات المندرجة في السلة ليست على مستوى واحد من الأهمية، فبعضها أهم من بعض، فالحنطة مثلا أهم من الثوب، والثوب أهم من الشاي، ولا شك أن تغير السعر في ما هو أهم أكثر تأثيرا على حياة المرء من تغيره فيما هو أقل أهمية، فلو ارتفعت قيمة الحنطة فأنه يحدث مشاكل أكثر مما يحدثه ارتفاع قيمة الشاي فلأجل الوقوف على التغير في قيمة النقود الحقيقية، يأخذ الاقتصاديون أهمية كل بضاعة موضوع اعتبار عند استخراج المعدل الوسط لتغير الأسعار، فيعطون كل بضاعة من هذه البضائع رقما على أساس أهميته، وإن هذا الرقم يسمى"وزن البضاعة "(Weight of comnodity) ، وإن هذا الوزن ربما يحسب على أساس نسبة الراتب المصروفة في شراء تلك البضاعة كل شهر، فإذا كان زيد يصرف الخمسين في المائة من راتبه في شراء الطعام لأسرته، فإن الطعام يكون له وزن صفر فاصل خمسين (0.50) وإن كان يصرف العشرين في المائة من راتبه في الثياب، فالثياب لها وزن صفر فاصل عشرين وهكذا.

فمعدل تغير قيمة السعر في كل بضاعة يضرب في وزنها، والحاصل هو المعدل الموزون (Weighted Average) لكل بضاعة.

ويتضح هذا بالجدول الآتي الذي فرضنا فيه أن سلة البضائع مشتملة على ثلاثة أشياء فقط، وهي الطعام، والثياب، والسكن:

ص: 182

عمود 6

عمود 5

عمود 4

عمود 3

عمود 2

عمود 1

العمود الخامس مضروبا في وزنه البضاعة

معدل تغير القيمة فيما بين

قيمة البضاعة في سنة

قيمة البضاعة في سنة

وزن

البضاعة

1980و1987م

1987م

1980م

البضاعة

0‚1

‚2

/100

-/50ربية

‚0

الطعام

ربية لثلاثين كيلو

لثلاثين

6‚0

0‚3

كيلو

20‚0

الثياب

-/30ربية

9‚0

0‚3

لكل متر

-/10 ربية

30‚0

السكن

لكل متر

-/1500 لكل شهر

-/500 ربية لكل شهر

5‚2

فتقرر بهذا المثال أن سلة البضائع قد ارتفعت قيمتها فيما بين سنة 1980 م - و 1987 م بنسبة اثنين فاصل خمسة في المائة حسب المعدل الموزون الذي أخذ أهمية كل بضاعة بعين الاعتبار. وبما أن سلة البضائع هي القيمة الحقيقية للنقود، فإن قيمتها الحقيقية قد انتقصت بقدر 2.5 % ومعنى ذلك أن السلعة التي يشتريها الرجل في سنة 1980 م بمائة ربية، صارت تشترى في سنة 1987 م بمائتين وخمسين ربية.

فلو فرضنا أن الرجل كان يأخذ خمسة آلاف ربية كراتب في سنة 1980 م وازداد رتبة في سنة 1987 م، حتى صار يأخذ عشرة آلاف ربية شهريا، فإن قيمة رواتبه الشهرية تحسب كالآتي:

ص: 183

السنة

القيمة الإسمية

نسبة الزيادة في

القيمة الحقيقية

قائمة الأسعار

1980م

=/5000ربية

‚1 ربية

=/5000 ربية

1987م

=/000‚10ربية

5‚2

=/4000 ربية

ونرى بهذا المثال أن راتب الرجل وإن ازدادت قيمته الإسمية إلى عشرة آلاف ربية، ولكن قيمته الحقيقية صارت أربعة آلاف ربية نظرا إلى مستوى أسعار سنة 1980 م، لأن عشرة آلاف ربية في سنة 1987 م صارت تساوي أربعة آلاف ربية في سنة 1980م نظرا إلى قيمتها الحقيقية.

فلو ربطنا الديون بقائمة الأسعار، وقررنا أن الديون تقضى على أساس القيمة الحقيقية، دون القيمة الاسمية، فإن ذلك يقتضي أن من اقترض أربعة آلاف ربية في سنة 1980 م فإنه يؤدي عشرة آلاف ربية في سنة 1987 م، لأن القيمة الحقيقية لكل واحدة.

فلو نظرنا في هذا الطريق الحسابي الذي تعين به القيمة الحقيقية للنقود، اتضح لنا أن هذا الطريق مبني على الخرص والمجازفة في جميع مراحله، ويتبين بتجزئة هذا الطريق أنه يشتمل على الخرص والتخمين في الأمور الآتية:

1-

تعيين البضائع التي تدرج في القائمة:

من المعروف أن كل رجل له حاجات تخصه، فالبضائع المحتاج إليها تختلف باختلاف الرجل، فسلة البضائع لكل أحد تختلف عن سلة الآخر، ولكن السلة المندرجة في قائمة الأسعار واحدة، وإنما تدرج فيها البضائع على أساس كثرة من يستعملها، فربما تدرج فيها بضائع لا يحتاج إليها بعض الناس أبدا، فالقائمة غير حقيقية بالنسبة إلى أولئك البعض. فإدراج بعض البضائع في القائمة ليس إلا مجازفة وخرصا.

ص: 184

2-

تعيين وزن البضائع:

ثم المجازفة الثانية تأتي في تعيين وزن البضائع، وأهميتها بالنسبة للمستهلكين، ولا شك أن أهمية البضائع أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص، فبينما البضاعة الواحدة مهمة جدا لشخص واحد، فإنها لا أهمية لها إطلاقا لشخص آخر. ولكن القائمة تفرض أن أهمية كل بضاعة واحدة بالنسبة إلى كل مستهلك، وذلك على أساس المعدل الوسط، وليس ذلك إلا خرصا ومجازفة.

3-

تعيين قيمة البضائع:

والمجازفة الثالثة في تعيين قيمة البضائع في سنوات مختلفة، لأن من المعلوم أن البضاعة الواحدة تختلف قيمتها باختلاف الأمكنة أيضا، ولا يمكن في القائمة إلا إدراج قيمة موضع واحد، ولو وضعت القائمة لدولة واحدة فلا يمكن ذلك إلا عن طريق معدل وسط، وهو مجازفة أيضا.

فتقرر بهذا أن قائمة الأسعار مبنية على الخرص والمجازفة في جميع مراحلها. ولو كان الحساب من الدقة بمكان، فإن غاية ما يصل إليه في ذلك هو التقريب دون التحقيق. وبما أن اشتراط أداء القروض والديون بالخرص والمجازفة لا يجوز شرعا، فلا يجوز ربط الديون بهذه القائمة بحال.

مذهب الأمام أبي يوسف في أداء قيمة الفلوس:

قد استدل بعض الاقتصاديين على ربط الديون بقائمة الأسعار بما روي من مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى في أداء قيمة الفلوس إذا تغيرت قيمتها عند أداء الديون

يقول العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى:

ص: 185

(في المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت، قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف، وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض)

ثم نقل عن التمرتاشي قوله: (وفي البزازية معزيا إلى المنتقي، غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول (أي أبي حنيفة) والثاني (أي أبي يوسف) أولا: ليس عليه غيرها، وقال الثاني (أي أبو يوسف) ثانيا: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى) .

ثم قال ابن عابدين: " هكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول

عليه إفتاء وقضاء " (1) .

فاستدل به بعض الاقتصاديين على أنه إذا وجب الدين في صورة الفلوس، فالواجب أداء قيمتها إذا طرأ عليها الغلاء والرخص، وهذا المذهب قريب جدا من فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار.

ولكن هذا الاستدلال غير صحيح، والحقيقة أن مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى لا علاقة له بفكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، لأن من المعلوم بالبداهة، أن التضخم والانكماش ووضع قائمة الأسعار، وتقويم النقود على أساس تلك القائمة، كل هذه الأمور أمور حادثة لم تكن

(1) رسائل ابن عابدين: 2/60.

ص: 186

متصورة في زمن الإمام أبي يوسف - رحمة الله تعالى - فحينما يقول أبو يوسف بأداء قيمة الفلوس، فإنه لا يمكن أن يريد به قيمتها المقدرة على أساس قائمة الأسعار، أو القيمة الحقيقية (Real Value) بالاصطلاح الاقتصادي المعاصر.

والواقع أن الفلوس في الأزمنة المتقدمة كانت مرتبطة بنقود الذهب والفضة تقوم على أساسها (1) وتعتبر كالفكة للنقود الذهبية والفضية وكانت عشرة فلوس تعادل درهما واحدا من الفضة، فكان الفلس الواحد يعتبر عشر الدرهم الفضي، ولكن قيمة الفلس هذه لم تكن مقدرة على أساس قيمتها الذاتية، وإنما كانت قيمة رمزية اصطلح عليها الناس، فكان من الممكن أن يتغير هذا الاصطلاح، بأن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر نصف عشر الدرهم بعد ما كان يعتبر عشرة، فهذا هو المراد برخص الفلوس، كما يمكن أن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر خمس الدرهم، وهذا هو المراد بغلائها.

فإذا وقع غلاء الفلوس أو رخصها بهذه الصورة، فهل يؤدي المديون نفس عدد الفلوس الذي وجب في ذمته يوم العقد؟ أو يؤدي قيمة ذلك العدد يوم الأداء؟ قد وقع فيه خلاف العلماء. فقال أبو حنيفة: يؤدي نفس العدد الذي وجب في ذمته يوم العقد، ولا عبرة بالقيمة، وهو المشهور. من مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (2) فلو اقترض أحد مائة فلس في وقت يعتبر فيه الفلس الواحد عشر درهم واحد فاقترض فلوسا تساوي عشرة دراهم في القيمة، ثم تغير الاصطلاح، حتى صار الفلس الواحد يعتبر نصف عشر درهم واحد.

(1) يقول ابن عابدين في مسألة أخرى: " ويدل عليه أيضا تعبيرهم بالغلاء والرخص فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تقوم بغيرها ". رسائل ابن عابدين: 2/62.

(2)

راجع تنبيه الرقود:2/60، الزرقاني على خليل: 5/60، والحاوي للفتاوى للسيوطي: 1/97 - 99، والشرح الكبير على المقنع: 4 /358.

ص: 187

فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المقترض لا يؤدي إلا مائة فلس، وإن كانت هذه المائة لا تساوي اليوم إلا خمسة دراهم.

لكن خالفهم أبو يوسف رحمه الله، فقال: إنما يجب أداء قيمة الفلوس المقترضة على أساس الدرهم، فمن اقترض مائة فلس في المثال المذكور، إنما يؤدي الآن مائتي فلس، لأن الفلوس فكة للدراهم، فمن اقترض مائة فلس، فكأنه اقترض فكة عشرة دراهم، وإن فكة عشرة دراهم يوم الأداء هي مائتا فلس، فالواجب عليه أداء مائتي فلس.

والذي يظهر لي - والله أعلم - أن أساس الخلاف بين أبي يوسف والجمهور مبني على اختلافهم في تكييف هذه الفلوس، فيبدو أن جمهور الفقهاء اعتبروا الفلوس أثمانا اصطلاحية مستقلة غير مرتبطة بالدراهم والدنانير ارتباطا دائما، فمن اقترض عددا من الفلوس، فإنه يؤدي نفس العدد دون نظر إلى قيمتها بالنسبة للدرهم، وأما أبو يوسف رحمه الله فاعتبر الفلوس أجزاء اصطلاحية كالفكة للدرهم، فالمقصود بالاقتراض عنده ليس عدد الفلوس، وإنما المقصود اقتراض أجزاء للدرهم يمثلها ذلك العدد من الفلوس، فلذلك أوجب رد تلك الأجزاء للدراهم في صورة الفلوس، وإن اختلف عددها من العدد المقترض.

ونظير الرخص والغلاء الذي يأتي فيه قول أبي يوسف هذا، أن الربية الباكستانية إلى أوائل الخمسينات كانت مقسمة على أربع وستين بيسة، (والبيسة نوع من الفلس) ثم اختارت الدولة النظام الأعشاري، فأعلنت أن الربية تكون مقسمة على مائة بيسة. فكانت البيسة قبل هذا الإعلان ثمن يساوي ثمن الربية، وصارت بعد هذا الإعلان عشر عشرها، فطرأ عليها الرخص بهذا القدر. فمن اقترض أربعا وستين بيسة قبل الإعلان هل يؤدي بعد الإعلان نفس الأربع والستين بيسة؟ أو يؤدي مائة؟ (1) الظاهر

(1) الواقع أن الدولة عند الإعلان صاغت " بيسات جديدة "، والبيسات الجديدة " هي التي كانت المائة منها تعادل ربية، وبقيت البيسات القديمة رائجة بقيمتها القديمة، فلا ينطبق واقع هذا المثال على ما نحن فيه، ولكن لنفرض أن الدولة لم تروج البيسات الجديدة، وإنما أعلنت بالتغير في قيمة البيسات القديمة نفسها، فحينئذ ينطبق هذا المثال على المسألة محل البحث.

ص: 188

أنه يؤدي مائة، لأنه اقترض فكة ربية واحدة، فليرد فكة ربية واحدة، وهي الآن مائة بيسة. فالحاصل أن قول الإمام أبي يوسف رحمه الله إنما يتأتي في فلوس مرتبطة بثمن آخر ارتباطا دائما يجعلها كالأجزاء والفكة لذلك الثمن. أما النقود الورقية اليوم، ليست مرتبطة بثمن آخر، ولا معتبرة كالأجزاء والفكة له، وإنما هي أثمان اصطلاحية مستقلة.

وبالتالي، إن الوقوف على قيمة الفلوس حسبما يراه الإمام أبو يوسف يمكن تحقيقها، لأنها مرتبطة بعيار مضبوط من الثمن، وهو الدرهم، بخلاف النقود الورقية، فإن الوقوف على قيمتها الحقيقية حسب الاصطلاح الاقتصادي المعاصر، لا يمكن تحقيقا، وإنما تكون هذه القيمة مقدرة على أساس الخرص والمجازفة، كما أوضحنا فيما سبق، فلا يقاس هذا على ذاك.

اعتبار العرف في مثلية النقود:

قد يستدل بعض الاقتصاديين على جواز ربط الدين بقائمة الأسعار، بأن الواجب في القروض أداء المثل، ولكن يجب أن يرجع في تعيين معنى المثلية إلى العرف، فما اعتبره العرف مثلا، ينبغي أن يعتبره الشرع أيضا كذلك. وبما أن قيمة النقد والمقدرة على أساس قائمة الأسعار تعتبر مثلا للمبلغ المقترض في العرف الاقتصادي اليوم، فينبغي أن تعتبرها الشريعة مثلا في أداء القروض. ولكن هذا الاستدلال باطل أيضا. أما أولا: فلأن العرف إنما يصار

ص: 189

إليه عند عدم النص، وقد بينا فيما سبق أن النصوص التي حرمت الربا قد عينت معنى المثلية بكل صراحة ووضوح، وأن المعتبر هو التماثل في القدر، فلا مجال بعد ذلك للعرف في تعيين معنى المثل. وأما ثانيا: فإن كون القيمة الحقيقية (باصطلاح الإقتصاد) مثلا لم يصره عرفا معتبرا إلى الآن، حتى عند الاقتصاديين. فمن المعلوم بالبداهة أن معظم بلاد العالم لم توافق بعد على فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، وإنما طبقت هذه الفكرة في دول معدودة (مثل البرازيل، وأستراليا، وإسرائيل، وما إليها) فنسبتها ضئيلة جدا بالنظر إلى سائر دول العالم.

ثم إن القلة من الدول لم تأخذ بهذه الفكرة بجميع نواحيها، ولا في سائر المداولات المالية، وإنما أخذت بها في شعب مخصوصة من شعبها الاقتصادية، لأن تطبيقها كأصل عام شامل لا يعتبر ممكنا، حتى عند الاقتصاديين، يقول بين هورم، وإيجل ليوى:

" إن استخدام قائمة الأسعار في جميع المعاملات المالية على وجه الشمول أمر لا يمكن حصوله فعلا (1) ومن الأمور الواضحة جدا، أنه لا تعرف على وجه الأرض دولة ربطت الحسابات الجارية في البنوك بقائمة الأسعار مهما كانت نسبة التضخم مرتفعة. وإن البرازيل أبرز دولة استخدمت قائمة الأسعار في كثير من معاملاتها المالية. ولعلها أكثر دول العالم استخداما لهذه القائمة، ولكنها لم تستخدمها في الحسابات الجارية في البنوك، فمن أودع في هذه الحسابات مبلغا لا يستلم إلا ذلك المبلغ بنفس العدد المودع، كانت قائمة الأسعار قد ازدادت للضعف أو أكثر.

(1) Ben Horim and H. Levy ، Financial Management in an inflationary Evironment، p. 37 - 40 ، as quoted by Umar Chaper، in his paper ، " Indexation theory ، experience and issues from Islamic perspective" ، p. 3.

ص: 190

وإن هذا واضح الدلائل على أن اعتبار التماثل بالقيمة الحقيقية ليس عرفا سائدا، حتى في الدول التي تمسك بالقيمة الحقيقية كسلاح لمدافعة أضرار التضخم.

وقد رأينا أكثر الاقتصاديين الذي يؤيدون فكرة الأخذ بالقيمة الحقيقية في أداء الديون، يصرخون بأنهم لا يريدون الأخذ بهذه الفكرة في القروض الاستهلاكية، يعني: إن اقترض رجل ألف ربية لدفع حاجاته الشخصية من الطعام والشراب والسكن، فإن هذا القرض لا ينبغي أن يربط بقائمة الأسعار عندهم أيضا، وإنما يقصدون أن يطبقوا فكرة القيمة الحقيقية في القروض الإنتاجية فحسب.

أليس هذا اعتراف من أنفسهم بأن القيمة الحقيقية ليست مثلا في القروض الاستهلاكية؟ فإن لم تكن مثلا في القروض الاستهلاكية، فكيف تكون مثلا في القروض الإنتاجية؟ فإن المثلية حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف أقسام القروض؟

وكذلك نرى الاقتصاديين إنما يؤيدون فكرة القيمة الحقيقية في حالة التضخم، ولا يوجد أحد يأخذ بهذه الفكرة في حالة الانكماش. ومعنى ذلك أن القيمة الحقيقية المزعومة إنما تعتبر في حالة ارتفاع الأسعار، أما إذا انخفضت الأسعار بعد القرض، فلا يؤدي إلا المبلغ المقترض يوم العقد لأنه لا يرضي من أقرض ألف ربية أن يقبل بدلها ثمانمائة ربية نظرا إلى انخفاض الأسعار، ولو طبقت فكرة القيمة الحقيقية في حالة انخفاض الأسعار، فإنه لا يوجد من يودع ماله في البنوك خشية النقصان العارض بسبب الانكماش.

وهذا أيضا دليل على أن فكرة القيمة الحقيقية ليست فكرة علمية قائمة على أسس متينة وإنما هي فكرة إنما ظهرت لمواجهة أضرار التضخم كعلاج وقتي دون نظر إلى لوازمها المنطقية وعواقبها الأخرى. وإن مثل هذه

ص: 191

الفكرة لها مجال في النظام المالي الذي يقوم على أساس الربا، وأما في النظام الذي يريد الاحتزار عن الربا، فإن فكرة ربط الديون بالأسعار فكرة زائفة لا تقوم أمام الدلائل الشرعية والعقلية.

وإن هذه المسألة قد عرضت أمام مجلس الفكر الإسلامي في باكستان، فاتفق أعضاء المجلس من العلماء والاقتصاديين جميعا على أن ربط الديون بالأسعار لا مبرر له في الشرعية الإسلامية. وكذلك نوقش هذا الموضوع في ندوة مختصة لمداولته أقامها البنك الإسلامي للتنمية بجدة باشتراك المعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي بإسلام آباد وذلك في شعبان سنة 1407 هـ، وقد حضر هذه الندوة جماعة من العلماء والاقتصاديين من بلاد مختلفة، والقرار الذي اتفق عليه مشاركو هذه الندوة كما يلي.

توصيات:

1-

إن النقود الورقية تقوم مقام النقدين (الدنانير والدراهم) في جريان الربا ووجوب الزكاة فيها وكونها رأس مال سلم ومضاربة وحصة في شركة، وإن قول أبي يوسف بوجوب رد قيمة الفلوس في حالة الغلاء والرخص بالنسبة للنقدين لا يجري في الأوراق النقدية لأن هذه الأوراق النقدية تقوم مقام النقدين المتفق على عدم اعتبار الرخص والغلاء فيهما.

2-

يؤكد العلماء الحاضرون في الندوة على أن المقصود بالمثل في أحاديث الربا والقروض، المثل في الجنس والقدر الشرعيين، أي الوزن والكيل والعدد، لا القيمة. وذلك تباعا لما دلت عليه السنة من إلغاء اعتبار الجودة في تبادل الأصناف الربوية، وما انعقد عليه إجماع الأمة وجرى عليه عملها.

3-

لا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار، بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين، كالبيع والقرض

ص: 192

وغيرهما، ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض، بسلعة (أو مجموعة من السلع) أو العملة وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع والقرض.

4-

الأصل في النفقات أن تقدر عينا، ويحكم القضاء بقيمة الأعيان عند التنازع تأسيسا على مستوى الأسعار، ومن ثم فلا حاجة لربطها بمستوى الأسعار على النحو السابق شرحه.

ثم كل ما ذكرناه في هذا البحث الموجز كان يتجه نحو الناحية الشرعية لهذه المسألة، أما الناحية الاقتصادية، فلم أتعرض لها في هذا البحث، لكونها خارجة عن اختصاصي، غير أنه يجدر بالذكر هنا أن فكرة ربط الديون بالأسعار قد واجهت - ولا تزال تواجه - نقدا عنيفا من قبل الاقتصاديين أنفسهم، وإن معظم الاقتصاديين اليوم لا يعتبرونها علاجا للتضخم، وما يعتبرونها إلا كدواء مخدر يستر المرض ولا يزيله، والحق أنها لا تداوي علة التضخم، وإنما تقرها وتسايرها. ولهذا الدواء المخدر أضرار مستقبلية على الحياة الاقتصادية، ومن أجل هذه الأضرار فقد تركته بعض الدول رأسا كفرنسا.

وبما أن هذه الناحية خارجة عن نطاق موضوعنا، فإني أضرب عنها صفحا، ومن شاء راجع الكتب الاقتصادية المؤلفة في هذا الموضوع خاصة.

النقاط التي تحتاج إلى مزيد من البحث:

قد ثبت بما ذكرنا أن ربط الديون بقائمة الأسعار لا مبرر له شرعا. ولكن قد يبدو أصل المسألة يحتاج إلى حل آخر ولا سيما بالنظر إلى الظروف الإقتصادية في بعض الدول التي واجهت إنهيارا ذريعا في قيمة عملتها مثل الليرة اللبنانية التي كانت ثلاثة منها دولارا أميركيا،

ص: 193

فانهار سعرها إلى أنه مئات منها لا تعادل دولارا واحدا وقد حدث مثل ذلك في الليرة التركية والروبيل الروسي وبعض العملات الأخرى، حتى حكى لي بعض الإخوة اللبنانيين أن إمرأة قضي لها بالمهر على زوجها فلما قبضت المرأة المهر صار لا يساوي إلا بمقدار ما تستأجر به سيارة تذهب بها إلى بيتها.

ولمواجهة هذه المشاكل أطرح بعض النقاط التي خطرت بقلبي وليست هذه النقاط للإفتاء وإنما مطروحة لنظر الفقهاء والمعاصرين ولم أبت فيها بشيء بعد:

1 -

إن الإنهيار في قيمة العملة إذا وقع بشكل غير عادي ، فيمكن أن يكون لها وضع خاص. ويلحق هذا الوضع بكساد الفلوس ، والمرجع عند كساد الفلوس القيمة عند كثير من الفقهاء.

2 -

يمكن أن يفرق بين حالتين من انخفاض سعر العملة:

الحالة الأولى: أن يقع الإنخفاض في السوق مبنيا على العرض والطلب وفي مثل هذا الإنخفاض لا يقع أداء الدين إلا بالمقدار الأصلي الذي ترتب به الدين كما أسلفنا في هذا البحث.

والحالة الثانية: أن يقع التخفيض في سعر العملة (devaluation) من قبل الحكومة وفي مثل هذه الحالة يعتبر التخفيض كأن الحكومة قد أصدرت بذلك عملة جديدة يختلف سعرها عن العملة السابقة.

فيقع أداء الدين بقيمة العملة القديمة بإزاء هذه العملة الجديدة.

ولنفرض أن زيدا اقترض مئة ربية في حين أن سعرها الرسمي ثلاثة دولارات ثم خفضت الحكومة ربيتها حتى صارت مئة ربية تعادل دولارين فتعتبر هذا التخفيض إصدارا لعملة جديدة قيمتها ناقصة عن العملة القديمة بقدر ثلث فإذا وقع أداء الدين بهذه العملة الجديدة ،

ص: 194

فينبغي أن يزداد فيه الثلث ليساوي قيمة العملة القديمة التي وقعت الإستدانة فيها لأن الحكومة إن منعت العملة القديمة بتاتا وأصدرت عملة جديدة تنقص قيمتها بقدر الثلث كان المرجع قيمة العملة القديمة من العملة الجديدة قطعا فإن اعتبرنا تخفيض قيمة العملة رسميا في حكم إصدار العملة الجديدة فهناك احتمال لقياس هذه الحالة على إصدار العملة الجديدة.

3 -

إن الديون وإن كان لا يمكن ربطها بقائمة الأسعار كما حققناه ولكن قد يخطر بالبال أنه يمكن ربطها بالذهب وذلك لأن الأوراق النقدية وإن لم تبق الآن مدعومة بالذهب كما مر ولكن الأصل فيها أن مصدر الورق كان ملتزما بأداء مقدار الذهب فمن رفض إعطاء الذهب لحامله لأول مرة فإنه قد تخلف عن أداء ما كان واجبا عليه وبمجرد رفضه لم يسقط ما كان في ذمته من الذهب بل بقي واجبا عليه من الناحية الشرعية ولم يزل هذا الواجب ينتقل إلى كل من تناوله بعد ذلك وإلى كل من أصدر أوراق جديدة على ذلك الأساس فإن كون الأوراق النقدية مدعومة بالذهب وأن لم يكن معترفا به في الجهات القانونية ولكن يمكن أن يكون معتبرا من الناحية الشرعية من جهتين:

الأولى: أن الأوراق النقدية لم ترج في السوق في بداية الأمر إلا على بداية كونها مدعومة بالذهب ومجرد رفض بعض الجهات إعطاء الذهب لحاملها لا ينبغي أن يعتبر مبررا شرعا لفك صلتها بالذهب.

والثانية: أن الشرع قد اعتبر الذهب ثمنا خلقيا فينبغي أن ترجع جميع العملات إلى هذا العيار.

وإن هذه النقاط لا أجزم بكونها مقبولة ولذلك لا أفتي بها حتى الآن ولكن أحببت أن أطرحها أمام الفقهاء المعاصرين لينظروا فيها ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 195

ربط الأجور بقائمة الأسعار:

أما ربط الأجور بقائمة الأسعار فيختلف حكمه عن ربط الديون ما لم تصر الأجرة دينا، فإن صارت دينا فحكمها ربط الديون، وتفصيل ذلك أن ربط الأجور بقائمة الأسعار يمكن بثلاثة طرق:

1-

أن يقع تعيين الأجور والمرتبات بالنقود عددا، ويتعاهد العاقدان، أن هذه الأجور تتزايد كل سنة بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. مثاله: أن الحكومة عينت موظفا على راتب ثلاثة آلاف ربية شهريا، وتعاهدت أن هذا المرتب يزداد عند ابتداء السنة الآتية بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار، فإن هذا الموظف لا يزال يستلم ثلاثة آلاف ربية كل شهر، إلى أن تنتهي السنة، ولا ينظر إلى قائمة الأسعار أثناء السنة. فإذا جاءت السنة الجديدة وكانت نسبة الزيادة في قائمة الأسعار خمسا في المائة، فإن مرتب الموظف سيزداد بهذه النسبة، فيصير راتبه ثلاثة آلاف ومائة وخمسين.

إن هذا الطريق يعمل به في كثير من البلاد، ومنها باكستان. وإن مثل هذا الربط لا مانع منه شرعا، لأن حاصله اتفاق الفريقين على تزايد الأجور والمرتبات كل سنة أو كل ستة أشهر بنسبة معينة وإن هذه النسبة، وإن لم تكن معلومة عند العقد، غير أن عيارها الذي تتعين النسبة على أساسه معلوم، فانتفت شبهة الجهالة في قدر الزيادة أو يقال: إن عقد الإجارة يتجدد كل سنة بأجرة متزايدة بنسبة الزيادة في الأسعار. وليس في ذلك أي مانع شرعي.

2-

والطريق الثاني لربط الأجور بالأسعار: أن يقع تعيين الأجر على أساس مبلغ معلوم من النقود، ولكن يشترط في العقد أن هذا المبلغ المعلوم ليس هو المرتب الواجب في الذمة، وإنما الواجب في الذمة ما يساوي هذا المبلغ عند انتهاء كل شهر حسب قائمة الأسعار.

ومثاله: أن زيدا استأجر عمرا لشهر، وقرر أنه سيؤديه ما يساوي

ص: 196

قيمة ألف ربية موجودة عند نهاية الشهر نظرا إلى قائمة الأسعار، وقد ازدادت قائمة الأسعار خلال هذا الشهر بقدر اثنين في المائة مثلا، فيؤديه في آخر الشهر ألفا وعشرين ربية، لأنها تعادل قيمة ألف ربية في بداية الشهر، ولكن إذا تقرر في نهاية الشهر أن الراتب ألف وعشرون ربية مثلا، فإنها تبقى ألفا وعشرين إلى الأبد. فلو لم يستطيع المؤجر أداءها عند نهاية الشهر، حتى مضى على ذلك شهر آخر، أو سنة أخرى، فإن الواجب في الذمة ألف وعشرون لا غير، ولا يتغير قدرها بتغير قائمة الأسعار بعد ذلك، فلو ازدادت القائمة في هذه المدة بقدر العشرة في المائة مثلا، فلا يستطيع الأجير أن يطالب المؤجر بزيادة العشرة في المائة على الألف والعشرين. لأن الراتب المتفق عليه عند بداية العقد هو ما يعادل الألف عند نهاية الشهر الأول، وكان الرجوع إلى قائمة الأسعار لمجرد تعيين ذلك، فإذا تعينت الأجرة على أساسها مرة، انتهت وظيفة قائمة الأسعار، وصارت الأجرة المعينة دينا على المؤجر، فلا يزيد هذا الدين ولا ينقص، مهما وقعت التغيرات في القائمة.

وحكمه الشرعي، فيما أرى، أنه يجوز أيضا، بشرط أن تكون قائمة الأسعار وطريق حسابها معلوما لدى الفريقين علما لا يفضي إلى النزاع. لأن الفريقين قد اتفقا منذ بداية العقد على أن الأجرة ليست ألف ربية، وإنما الواجب ما يعادلها من الروبيات عند انتهاء الشهر حسب قائمة الأسعار، وهي معلومة منضبطة بطريق حسابي معلوم لدى الفريقين، فلا تفضي جهالة قدر الأجرة إلى المنازعة، فصارت كما إذا استأجر رجل أجيرا على ربيات تعادل عشرة جرامات من الذهب في اليوم الأخير من الشهر، فإذا تقرر في اليوم الأخير من الشهر أن ألفي ربية تعادل عشرة جرامات من الذهب اليوم ظهر أن الأجرة ألفا ربية، ولا تزيد بعد ذلك ولا تنقص، سواء انتقصت قيمة الذهب بعد ذلك أو ازدادت.

4 -

والطريق الثالث لربط الأجور بالأسعار أن يقع تعيين الأجرة بمبلغ معلوم من النقود، ويشترط العاقدان أن هذا المبلغ هو الواجب في

ص: 197

الذمة، وعليه انعقد الإجارة، ولكن يجب على المؤجر عند أداء الأجرة أن يزيد في هذا المبلغ بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء.

ومثاله: رجل استأجر أجيرا على ألف ربية، وتقرر بينهما أن الأجرة ألف ربية، ولكن يجب على المؤجر كلما أدى هذه الألف ربية أن يضيف إليها نسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء، فإن أدى آخر الشهر ونسبة الزيادة يومئذ اثنان في مائة، فإنه يضيف إلى الآلف عشرين، وإن أداها بعد سنة ونسبة الزيادة يومئذ عشرة في المائة، فإنه يضيف إلى الألف مائة، وهكذا.

وحكمة الشرعي، فيما أرى، حكم ربط الديون بالأسعار وهو أنه لا يجوز شرعا كما مر تفصيلا ولله الحمد.

والفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية أن قائمة الأسعار إنما استخدمت في الصورة الثانية لتعيين الأجرة المتفق عليها، فإذا تعينت الأجرة على أساسها، انتهت وظيفة القائمة، وصارت الأجرة المعينة هي الواجبة في الذمة إلى الأبد.

وأما في هذه الصورة الثالثة، فالأجرة المقررة هي الألف ربية، فصارت الألف ربية دينا على المؤجر، وإن هذا الدين قد ارتبط بقائمة الأسعار، فحكمه حكم ربط الدين بالأسعار.

ولا نستطيع هنا أن نقول: إن قائمة الأسعار، تؤدي دورها في تعيين الأجرة، لأن الأجرة يجب أن تكون معلومة عند العقد، أو في ثاني الحال، بحيث لا تقبل الزيادة والنقصان بعد ذلك.

فإذا تعلقت الأجرة بشيء آخر إلى الأبد، بحيث تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه، فإن ذلك أجرة مجهولة متراوحة لا تستقر على قدر معلوم، وإن هذه الجهالة تفسد عقد الإجارة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* * *

ص: 198

..

ص: 199