الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2)
أحكام البيع بالتعاطي والإستجرار
بحث عرض على ندوة أقيمت بالكويت
من قبل بيت التمويل الكويتي
.
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام البيع بالتعاطي والإستجرار
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فالموضوع المفوض إلي في هذه الندوة هو بيع التعاطي والإستجرار ومدى جواز استخدامهما في معالات المصارف الإسلامية، والبيوع الحديثة. فلنشرح أولا معنى كل من النوعين وما قال فيهم الفقهاء رحمهم الله ثم لنتكلم عن تطبيقاتهما على بعض المعاملات الحديثة، والله سبحانه هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل
البيع بالتعاطي:
البيع بالتعاطي عند الفقهاء هو البيع الذي لا يتلفظ فيه المتبايعان بالإيجاب أو القبول وإنما يدفع هذا الثمن ويدفع ذلك المبيع دون أن ينطق أحدهما بقوله: اشتريت أو الآخر: بعت.
والتعاطي على قسمين: (1)
الأول: أن يلتفظ أحدهما بالإيجاب ويقبله الثاني بالفعل لا بالقول. مثل أن يقول: (أعطني بهذه الربية خبزا) فيعطيه الآخر الخبز، ولا يتكلم بشيء فوقع الإيجاب هنا باللفظ، والقبول بالفعل.
(1) قال النووي في المجموع شرح المهذب:9/172 (صوروا المعاطاة
…
أن يعطيه درهما أو غيره ويأخذ شيئا في مقابلته ولا يوجد لفظ أو يوجد لفظ من أحدهما دون الآخر) .
والثاني: أن لا يلتفظ أحدهما بشيء مثل أن يدخل الرجل الدكان وفيه أشياء كثيرة مكتوب عليها ثمنها فيأخذ شيئا ويدفع إلى البائع ثمنه المكتوب عليه دون أن يجري بينهما مكالمة أصلا.
وكل واحد من النوعين يعتبر تعاطيا أو معاطاة في اصطلاح الفقهاء.
وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز هذين النوعين من التعاطي في جميع أنواع المبيعات. والمشهور من مذهب الشافعي رحمه الله أنه لا يقول بجواز التعاطي لأن البيع يتوقف على الإيجاب والقبول وهما أو إحداهما مفقود في التعاطي. ولكن يظهر من مراجعة كتب الشافعية أنهم اختلفوا في حكم التعاطي على أقوال:
1-
التعاطي باطل مطلقا ولا ينعقد به البيع وهو المذهب المشهور عندهم.
2-
التعاطي في الأشياء المحقرة ولا يجوز في الأشياء النفسية وهذا القول مروي عن ابن سريج والرؤياني (1) وهو قول الكرخي من الحنفية. (2) .
3-
يجوز التعاطي فيما جرى فيه العرق بذلك ولا يجوز فيما سواه.
كل من وسم بالبيع اكتفى بالمعاطاة كالعامي والتاجر وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ. (3)
والراجح مذهب الجمهور من أن التعاطي ينعقد به البيع مطلقا بشرط أن يكون على سبيل التراضي. ونكتفي هنا بحكاية ما ذكره ابن
(1) مغني المحتاج للشربيني:2/4.
(2)
فتح القدير:5/459.
(3)
مغني المحتاج:2/4.
قدامة للتدليل على مذهب الجمهور فإنه يكفي ويشفي. قال رحمه الله تعالى (ولنا أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ولأن البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم وإنما علق الشرع عليه أحكاما وبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلا شائعا ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ولم يتصور منهم إهماله والغفلة عن نقله ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول لبينه صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال الباطل ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان ذلك إجماعا وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة والهدية والصدقة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه وقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحبشة وغيرها وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة متفق عليه وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل وإن قيل: هدية ضرب بيده وأكل معهم] وفي حديث [سلمان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر
فقال: هذا شيء من الصدقة رأيتك أنت وأصحابك أحق الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا ولم يأكل ثم أتاه ثانية بتمر فقال: رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا شيء أهديته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله وأكل] ولم ينقل قبول ولا أمر بإيجاب وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب ولا قبول وليس إلا المعاطاة والتفرق عن تراض يدل على صحته ولو كان الإيجاب والقبول شرطا في هذه العقود لشق ذلك ولكانت عقود المسلمين فاسدة وأكثر أموالهم محرمة ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه) (1)
مدى جواز التعاطي عقود المرابحة الجارية في المصارف الإسلامية:
هذا هو حكم التعاطي في البيوع والراجح عند الجمهور جوازه لأدلة ذكرناها عن ابن قدامة - رحمه الله تعالى ولكن التعاطي
إنما يعمل به في عقود البيع العامة التي لا يلزم في العمل بها محظور شرعي أو شبهته أما إذا أورث العمل به في بعض العقود محظورا شرعيا أو اشتبه به المعاملة الجائزة بالمعاملة المحظورة فينبغي الإحتراز عنه ومن هنا يظهر أن العمل بالتعاطي في عقود المرابحة التي تجري في المصارف الإسلامية مما لا ينبغي.
وتفصيل ذلك أن العميل حينما يتقدم إلى البنك لطلب التمويل لشراء بعض البضائع أو الآلات أو المعدات فإن المصرف الإسلامي بدلا
(1) المغني لابن قدامة:3/561و562.
من أن يقرضه على فائدة يشتري تلك البضائع المطلوبة لنفسه ثم يبيعها إلى العميل بمرابحة شرعية مؤجلة ولكن المعمول به في مثير من المصارف أنها لا تقوم بشراء البضائع بنفسها وإنما توكل العميل نفسه ليشتري البضائع للمصرف بصفته وكيلا له ثم يعد بعد ما يقبض على البضائع كوكيل للمصرف بعقد عقدا جديدا مع المصرف لشرائها منه على طريق المرابحة الشرعية.
ولا بد في هذا الطريق أن يقوم العميل بعد شراء البضائع للمصرف بإخطاره بإتمام مهمته كوكيل ثم يتقدم إليه بإيجاب للشراء منه ويقوم المصرف بقبول ذلك الشراء.
وقد يقترح بعض الناس حبا للإختصار في العمليات أن تقع المرابحة بين المصرف وبين العميل على أساس التعاطي دون أن يجري بينهما إيجاب وقبول من جديد فبعد ما يقبض العميل على البضائع كوكيل للمصرف يعتبر كأنه اشترى البضائع من المصرف على أساس التعاطي بصفة تلقائية.
وإن هذا الإقتراح فيما أرى غير مقبول شرها على الرغم من جواز التعاطي في الأصل.
وذلك لأن عقد المرابحة للآمر بالشراء إنما يلجأ إليه المصارف الإسلامية كبديل للإقراض بفائدة فلا بد لجواز هذا النوع من العقود أن يكون هناك بعض الفروق الجوهرية بينه وبين المعاملات الربوية وإن الفرق الجوهري بين المعاملتين ليس إلا أن المتعامل به في المعاملات الربوية هي السيولة انقدية ويتقاضى البنك عليها بفائدة دون أن يتحمل أي خطر وأما في المرابحة فإن المتعامل به فيها بضاعة مملوكة للمصرف وإنما يبيع المصرف تلك البضاعة بعد ما دخلت في ملكه وضمانه فلا بد لتحقيق هذا الفارق عملا أن يمر على البضاعة زمن ولو كان يسيرا تكون فيه البضاعة مملوكة للمصرف وفي ضمانه بحيث إن هلكت البضاعة
في ذلك الزمن هلكت من مال المصرف وبفضل هذا الضمان يطيب للمصرف أن يتقاضى الربح من العميل وإلا لصار ربح ما لم يضمن وهو المحرم بنص الحديث النبوي الشريف.
فلو أجزنا التعاطي في المرابحة وقلنا بإبرام البيع فور إستلام العميل للبضائع بصفة تلقائية على أساس التعاطي لفات هذا الفارق الوحيد الذي يفرق المرابحة المصرفية من المعاملات الربوية ولم تكن العملية فعلا إلى دفع مبلغ إلى العميل ومطالبته بمبلغ أكثر منه دون أن يتحمل المصرف مسؤولية الملكية وأخطارها في آن من الأوان.
وهناك وجه آخر فقهي لعدم جواز التعاطي هنا ، وذلك لأن التعاطي وإن كان يعوزه التلفظ بالإيجاب والقبول ، ولكن لابد له من حضور فريقين ، أحدهما يعطي والآخر يأخذ. وأما في الإقتراح المذكور ، فإن البيع ينعقد بصفة تلقائية دون أن يعطي واحد ويأخذ آخر. ومعروف أن الواحد لا يتولى طرف البيع.
إذن ، فلا يجوز عقد المرابحة بين المصرف وبين العميل على أساس التعاطي.
بيع الإستجرار:
أما بيع الإستجرار فهو مأخوذ من قولهم استجر المال: إذا أخذه شيئا فشيئا دون أن يجري بينهما مساومة أو إيجاب وقبول في كل مرة.
والإستجرار على نوعين:
الأول: الإستجرار بثمن مؤخر من مؤخر.
والثاني: الإستجرار بمبلغ مقدم.
أما الإستجرار بثمن مؤخر فهو ما ذكره الحصكفي في الدر المختار بقوله: (ما يستجره الإنسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها) وحاصله أن الرجل يتفاهم مع صاحب الدكان ولا تقع بينهما مساومة بل يعطيه البياع الشيء المطلوب بدون ذكر الثمن ولا تلفظ الإيجاب والقبول فيستعمله المشتري وفي نهاية الشهر مثلا يحاسبه بكل ما أخذ ويعطيه الثمن دفعة واحدة.
والقواعد المعروفة تأبى جواز هذا البيع لأننا إن قلنا بانعقاد هذا البيع عندما استلم المشتري شيئا من هذه الأشياء فإنه بيع ثمن مجهول لأنه لم تقع بينهما مساومة ولا بيان ثمن وإن قلنا: إن البيع ينعقد عند تصفية الحساب فإن المبيعات عندئذ معدومة مستهلكة وهذا يتضمن محظورين الأول: أن يقع الإستهلاك من المشتري قبل أن يقع الشراء من المالك والثاني: أن يقع بيع ما هو معدوم. ومن هنا صرح بعض الفقهاء بعدم جواز هذا البيع وهو مذهب عامة الشافعية. وقال النووي رحمه الله تعالى:
(فأما إذا أخذ منه شيئا ولم يعطه شيئا ولم يتلفظا ببيع بل نويا أخذه بثمنه المعتاد كما يفعله كثير من فهذا باطل بلا خلاف لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة ولا يعد بيعا فهو باطل ولنعلم هذا ولنحترز منه ولا نغتر بكثرة من يفعله فان كثيرا من الناس يأخذ الحوائج من البياع مرة بعد مرة من غير مبايعة ولا معاطاة ثم بعد مدة يحاسبه ويعطيه العوض وهذا باطل بلا خلاف لما ذكرناه)(1)
ويبدو أن مذهب الشافعية أقل المذاهب مرونة في بيوع التعاطي
(1) المجموع شرح المهذب:9/173.
والإستجرار ولكن جماعة منهم ذهبوا إلى جوازهما ومنهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى قال العلامة الرملي رحمه الله:
(أما الاستجرار من بياع فباطل اتفاقا: أي حيث لم يقدر الثمن كل مرة على أن الغزالي سامح فيه أيضا بناء على جواز المعاطاة) وقال الخطيب الشربيني رحمه الله:
وأخذ الحاجات من البياع يقع على ضربين: أحدهما أن يقول: أعطني بكذا لحما أو خبزا مثلا وهذا هو الغالب، فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به، ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه، فهذا مجزوم بصحته عند من يجوز المعاطاة فيما أراه.
والثاني: أن يلتمس مطلوبه من غير تعرض لثمن كأعطني رطل خبز أو لحم مثلا فهذا محتمل، وهذا ما رأى الغزالي إباحته ومنعها المصنف - أي النووي رحمه الله) (2)
وأما المالكية فقد ذكروا مسألة الإستجرار بمبلغ مقدم قال مالك رحمه الله في الموطأ:
(ولا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهما ثم يأخذ منه بربع أو بثلث أو بكسر معلوم سلعة معلومة فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم وقال الرجل آخذ منك بسعر كل يوم فهذا لا يحل لأنه غرر يقل مرة ويكثر مرة ولم يفترقا على بيع معلوم)(3)
(1) نهاية المحتاج للرملي:3/364.
(2)
مغني المحتاج:2/4.
(3)
موطأ الإمام مالك راجع بيع الطعام وراجع للتفصيل المنتقى للباجي:5/15.
ومن هنا بعلم أن وجه المنع عندهم هو كون الثمن مجهولا ولا فرق في هذا بين أن يكون الإستجرار بمبلغ مقدم أو بثمن مؤخر وفي هذا يتفق المالكية مع أكثر الشافعية.
وأما الحنابلة فقد اختلفت في هذا وجاء في النكت والفوائد السنية لابن مفلح:
(وقال أبو داود في مسائله باب في الشراء ولا يسمى الثمن سمعت أحمد سئل عن الرجل يبعث إلى البقال فيأخذ منه الشيء بعد الشيء ثم يحاسبه بعد ذلك قال أرجو أن لا يكون بذلك بأس قال أبو داود قيل لأحمد يكون البيع ساعتئذ قال لا
قال الشيخ تقي الدين وظاهر هذا أنهما اتفقا على الثمن بعد قبض المبيع والتصرف فيه وأن البيع لم يكن وقت القبض وإنما كان وقت التحاسب وأن معناه صحة البيع بالسعر) (1)
وبه تبين أن رواية الجواز عند الحنابلة مبنية على جوز البيع بسعر السوق وفيه عند الحنابلة روايتان وأما الحنفية فقد أفتى المتأخرون منهم بجواز الإستجرار ولو لم يذكر الثمن عند أخذ الحاجات من البياع وجاء في الدر المختار:
(ما يستجره الانسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها جاز استحسانا) . (1)
(1) موسوعة الفقه الإسلامي مصرية:5/305 عزوا إلى النكت.
(2)
الدر المختار مع رد المحتار:4/516.
وقال ابن نجيم رحمه الله:
(ومما تسامحوا فيه وأخرجوه عن هذه القاعدة ما في القنية الأشياء التي تؤخذ من البياع على وجه الخرج كما هو العادة من غير بيع كالعدس والملح والزيت ونحوها ثم اشتراها بعد ما انعدمت صح اهـ فيجوز بيع المعدوم هنا) . (1)
وبه تبين أن الإستجرار جائز عند الحنفية استحسانا ولكن اختلفت عباراتهم في تكييف وجه الإستحسان والذي تلخص لي بعد دراسة كلام الفقهاء في الكتب المختلفة هو ما يلي:
إن الإستجرار بثمن مؤخر لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ذكر البائع الثمن كلما يأخذ منه المشتري شيئا أو يكون ثمن ذلك الشيء معلوم للجانبين بأي طريق. وهذا لا خلاف في جوازه عند الجمهور القائلين بجواز التعاطي فيقع بيع كل شيء عند أخذه على سبيل التعاطي ويقع المحاسبة عند نهاية مجموعة من البيوع. فلا يلزم منه البيع بثمن مجهول ولا بيع ما هو معدوم ويجوز ذلك عند الحنفية والحنابلة وعند الغزالي وابن سريج وغيرهما من الشافعية وأما على المشهور من مذهب الشافعية فيقع جوازه عند التلفظ بالإيجاب والقبول وقد ذكرنا أن الراجح في التعاطي قول الجمهور
الحالة الثانية: أن لا يذكر الثمن في كل مرة ولكن يتفق الفريقان عند الفاهم الإبتدائي أن المشتري سوف يستجر هذه الأشياء بسعر السوق وفي هذه احالة يتوقف جواز البيع عند الأخذ على
(1) البحر الرائق:5/259 شرح تعريف البيع.
جواز البيع بسعر السوق والمعروف عند الأئمة الأربعة أن بيع الشيء بسعره أو بثمن مثله أو بالرقم لا يجوز إلا إذا كان معلوما لدى المتبايعين في المجلس (1) ولكن هناك رواية في مذهب الشافعية وأخرى في مذهب الحنابلة تجيز البيع بسعر السوق أما في مذهب الشافعية فهو وجه حكاه الرافعي وذكره النووي بقوله:
(وحكى الرافعى وجها ثالثا أنه يصح مطلقا للتمكن من معرفته كما لو قال بعت هذه الصبرة كل صاع بدرهم يصح البيع وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة وهذا ضعيف شاذ)(2)
وأما في مذهب الحنابلة فهو رواية عن الإمام أحمد واختارها الشيخ تقي الدين (3) وقد ذكرنا عبارته من قبل وكذلك ذهب إلى الجواز العلامة ابن القيم وذكر أنه منصوص من الإمام أحمد وهو الذي اختاره شيخه ابن تيمية رحمهم الله تعالى (4) .
والذي يظهر لي بعد مراجعة كلام الفقهاء وأدلتهم في هذا الموضوع أن الأشياء على قسمين: قسم تتفاوت أسعاره بتفاوت الآحاد ولا يمكن تحديد سعرها بمعيار منضبط معلوم فمن التجار من يبيعه بعشرة مثلا ومنهم من يبيعه بأكثر وأقل. فالذين ذهبوا إلى حرمة البيع بسعر السوق إنما أرادوا المنع في مثل هذا القسم من المبيعات لأن سعر السوق إذا لم يكن معلوما للمتبايعين في مثل هذه الأشياء اصطلاح غير
(1) رد المحتار:4/529 والمجموع شرح المهذب:9/365و366 والدسوقي على الشرح الكبير:3/15 والإنصاف للمرداوي:4/310.
(2)
المجموع شرح المهذب:9/366.
(3)
الإنصاف للمرداوي:4/310.
(4)
أعلام الموقعين:4/4.
مستقر فيبقى الثمن مجهولا بجهالة تقضي إلى النزاع.
ولكن هناك قسماً آخر من المبيعات، وهو الذي لا تتفاوت آحاده، ولا تتفاوت أسعاره، وإنها تنضبط بمعيار معلوم يعرفه كل أحد معلوم يعرفه كل أحد، ولا يحتمل أن يقع الخطأ أو النزاع في تطبيقه، والذين ذهبوا إلى الجواز إنما أرادوا هذا القسم، لأن ذكر مثل هذا المعيار المضبوط يقوم مقام ذكر الثمن، فليس فيه جهالة تفضي إلى النزاع. وإلى هذا المعنى يشير الإمام المحقق ابن الهمام رحمه الله حيث يقول:
(ومما لا يجوز البيع به: البيع بقيمته، أو بما حل به، أو بما تريد أو تحب، أو برأس ماله، أو بما اشتراه، أو بمثل ما اشترى فلان، لا يجوز
…
وكذا لا يجوز بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئاً لا يتفاوت كالخبز واللحم) (1) .
وذكر ابن عابدين مثله عن صاحب النهر الفائق، فقال:
(وخرج أيضاً ما لو كان الثمن مجهولاً، كالبيع بقيمته أو برأس ماله أو بما اشتراه فلان
…
ومنه أيضاً ما لو باعه بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئاً لا يتفاوت) (2) .
وهذا فيما أرى أعدل الأقوال وأوفق بالأصول المجمع عليها، فإنه لا مانع من جواز البيع بالسعر إلا جهالة الثمن التي تفضي إلى المنازعة، وإذا ارتفع احتمال المنازعة بتعين معيار منضبط ارتفع المانع، وجاز البيع. وقد ظهر اليوم أشياء كثيرة ينضبط ثمن مثلها بمعيار معلوم لا يحتمل وقوع النزاع في تطبيقه، وفي مثل هذه الأشياء يجوز العقد، ويجوز الاستجرار على أساس سعر السوق.
(1) فتح القدير مع الكفاية:5/467.
(2)
رد المحتار:4/529.
وهذا مثل ما يتعامل الناس مع باعة الصحف اليومية، وإن البائع يلقي الصحيفة اليومية كل صباح في بيت المشتري على أنه يحاسبه في نهاية الشهر على أساس سعره القطاعيّ. وربما لا يعرفه المشتري، ولكن السعر القطاعي منضبط معروف ولا يتفاوت لآحاد الناس. نعم، ربما يتغير السّعر في أثناء الشّهر، فيتغير لكل واحد من المشترين، فليس هناك مجال للنزاع في تعيين السّعر. فكلّما يلقي البائع صحيفة في بيت المشتري بأمره أو بإذنه، ينعقد البيع على أساس سعر السّوق. وتقع تصفية الحساب في نهاية الشهر. وهذا هو القسم الثاني من الاستجرار بثمن مؤخر.
وظهر بهذا التفصيل أن في الحالة الثانية من بيع الاستجرار ينعقد البيع عند أخذ المشتري المبيع كل مرّة إذا كان سعره معروفاً منضبطاً بمعيار معلوم يؤمن معه في تعيين الثمن. أما إذا لم يكن السعر معروفاً بهذه الصفة، فإنه لا ينعقد البيع عند الأخذ، ويصير حكمه مثل ما سيأتي في الحالة الثالثة:
أما الحالة الثالثة: فهي أن لا يكون الثمن معلوماً عند الأخذ، ولا يتفاوت المتبايعان في بداية تعاملهما على أساس منضبط لتحديد الثمن يؤمن معه النزاع، بل يتعاملان هملا، ولا يتعارضان للثمن أصلاً. وحينئذ، لاشك في أن الثمن مجهول عند أخذ الأشياء جهالة فاحشة ربما تؤدي إلى النزاع، فلا ينعقد البيع عند الأخذ، فتبقى هذه المعاملة فاسدة إلى أن يقع بينهما تصفية الحساب. ولكن ذكر المتأخرون من الحنفية أن هذه المعاملة تنقلب جائزة عند التّصفية إذا اتفقا على ثمن.
ثم ذكر بعضهم أن هذه المعاملة تصح عند التصفية بيعاً. فكأن بيع تلك الأشياء قد انعقد الآن بمعرفة ثمن كل واحد منها. ويستشكل هذا بأن كثيراً من الأشياء المأخوذة قد استهلكها المشتري بعد أخذها حتى انعدمت عند التصفية، فكيف يصح بيعها وهي معدومة؟ فأجابوا عنه بأنه وإن كان
بيعاً للمعدوم، ولكن مثل هذا البيع جاز استحساناً للعرف، أو التعامل، أو عموم البلوى، وهو موقف ابن نجيم في البحر الرائق والأشياء والنظائر كما ذكرناه من قبل. وأما ما يورد عليه من أنه يستلزم تصرف المشتري في الأشياء المأخوذة من غير ملك ولا بيع، فينبغي أن لا يجوز، فأجابوا عنه بأنه تصرف بإذن من المالك، فلا مانع من جوازه.
وخرّج الآخرون صحة هذه المعاملة على أساس ضمان المتلفات لا على أساس البيع، فإن الثمن عند الأخذ مجهول، والمبيع عند التصفية معدوم، فلا يجوز البيع بحال، فكأن الآخذ أخذ الشيء قرضاً، واستهلكه، ثم ضمن قيمته على أساس ما اتفقا عليه عند التّصفية. ويستشكل هذا بأن القرض إنما يصح في المثليّات فقط، ولا يجوز اقتراض القيميّات عند الحنفية، مع أن الاستجرار ربما يجري في ذوات القيم. فأجابوا عنه بأن الاستجرار مستثنى من عدم جواز اقتراض القيميّات استحساناً، كما أجيز الاقتراض في الخبز والخميرة، مع أنها من ذوات القيم.
وهذه التخريجات كلّها ذكرها ابن عابدين رحمه الله تعالى في رد المحتار. والذي يظهر لهذا العبد الضعيف عفا الله عنه أن التخريج الأول هو الراجح، وهو أن هذه المعاملة تصح بيعاً عند تصفية الحساب إذا اتفقا الفريقان على الثمن الإجماليّ للمأخوذات. وأما الاستشكال بكونه بيع المعدوم، فالأحسن في جوابه أن يقال: إنه ليس بيعاً للمعدوم، بل هو بيع لما استهلكه المشتري، وانتفع به انتفاعاً تامّاً. وبيع المعدوم إنما يحرم من جهة أنه يتضمن الغرر، فربّما لا يقدر البائع على تسليمه إلى المشتري. ولا غرر ههنا، لأن البائع سلّم المبيع إلى المشتري فعلاً، فالمبيع كان موجوداً عند المشتري، وانتفع به المشتري حتى استهلكه، فيعتبر عند التصفية كالموجود تقديراً، فيصح بيعه.
وأما استشكاله بأن تصرف المشتري في تلك الأشياء وقع قبل البيع في غير ملكه، فالأحسن في جوابه أن يقال: إن البيع حينما انعقد عند التصفية صحيحاً، فإنه يسند إلى وقت الأخذ تقديراً، ويعتبر كأنّه تصرف فيما ملكه بالبيع، وهذا كما يقع في ضمان المغصوبات، فإن تصرف الغاصب فيما غصب غير صحيح، ولكنه إذا أدى ضمان المغصوب ملكه، ويسند هذا الملك إلى وقت الغصب، فتنقلب جميع تصرفاته فيه صحيحة بعد الضمان على ما هو الراجح، وأمّا إذا أحل له المغصوب منه تصرفه فلا خلاف في أن جميع تصرفاته تنقلب صحيحة جائزة بعد أداء الضمان. (1) فإن الغاصب بعد أداء الضمان يملك المغصوب من حين غصبه، فالآخذ في الاستجرار أولى، لأنه أخذ بإذن صاحبه، فلا يأثم بالأخذ أيضاً، كما يأثم الغاصب.
فالاستجرار ليس ضماناً للمتلفات كما زعمه أصحاب التخريج الثاني، ولكنه نظير لضمان المتلفات من حيث إن البيع المتأخر فيه يستند إلى وقت الأخذ كما أن الملك الحاصل بالضمان يستند إلى وقت الغصب.
الخلاصة:
فخلاصة ما تحقق من حكم الاستجرار بثمن مؤخر ما يلي:
(1) قال ابن عابدين رحمه الله في الغصب من رد المحتار:6/191 (وما أفاده كلامه من أن الملك في المغصوب ثابت قيل أداء الضمان، وإنما المتوقف على أداء الضمان الحل هو ما في عامة المتون، فما في النوازل من أنه بعد الملك لا يحل له الانتفاع لاستفادته بوجه خبيث كالملوك بالبيع الفاسد عند القبض إلا إذا جعله صاحبه في حل اه.
مخالف لعامة المتون
…
وقال بعض المتأخرين: إن سبب الملك الغصب عند أداء الضمان كما في المبسوط. وقال الرافعي تحته: (أي فيكون كالبيع بشرط الخيار للمشتري يمله بالشراء عند سقوط خياره) راجع التحرير المحتار للرافعي:6/287.
1-
إن كان البائع يبين ثمن البضاعة المأخوذة كلّ ما يأخذ منه المشتري، فالبيع ينعقد صحيحاً عند كل أخذ، وهذا بإجماع من يقول بجواز التعاطي. وتقع تصفية الحساب بعد أخذ مجموعة من المبيعات.
2-
إن كان البائع لا يبين ثمن البضاعة عند كل أخذ، ولكن المتبايعين تفاهما بأن الأخذ يكون على سعر السّوق، وسعر السّوق منضبط بمعيار معلوم لا يقع الاختلاف في تحديده، فالصّحيح أن البيع ينعقد أيضاً عند كلّ أخذ.
3-
إن كان الثمن مجهولاً وقت الأخذ، أو اتفق الفريقان على أنه يقع على أساس سعر السوق ولكن سعر السوق متفاوت تفاوتاً فاحشاً، بحيث يقع الاختلاف في تحديده، فإن البيع لا يصحّ عند الأخذ، وإنما يقع عند تصفية الحساب، ولكنه يسند حينئذ إلى وقت الأخذ، فيثبت الملك للآخذ من وقت الأخذ، وتحل تصرفاته من ذلك الحين بعد أداء الثمن.
الاستجرار بمبلغ مقدم:
وأما النوع الثاني من الاستجرار، فهو أن المشتري يدفع إلى البائع مبلغاً مقدّما، ثم يستجرّ منه الأشياء، وتقع المحاسبة بعد أخذ مجموعة من الأشياء في نهاية الشهر أو في نهاية السنة مثلاً.
وإن هذا النوع من الاستجرار فيه كلام من ناحيتين:
الأولى: ناحية كون الثمن معلوماً أو مجهولاً. والكلام فيها مثل ما ذكرناه في النوع الأول سواء بسواء. فالحكم فيها في الحالات الثلاثة مثل الحكم في الحالات الثلاثة المذكورة في النوع الأول.
والناحية الثانية: هي حيثية المبلغ المدفوع مقدّماً، هل يعتبر هذا المبلغ ثمناً مقدماً؟ أو أمانة في يد البائع؟ أو قرضاً عليه؟.
أما كونه ثمناً مقدماً، فلا يصح إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون المبيع وقدره ووصفه معلوماً عند تقديم المبلغ إلى البائع. فإن الثمن إنما يعتمد البيع، ومن شرائط البيع أن يكون المبيع معلوماً بذاته ووصفه وقدره.
والشرط الثاني: أن يكون المبيع مما يجري فيه السّلم أو الاستصناع، وتتوفر في العقد شروط جوازه، على اختلاف في ذلك بين الفقهاء. وذلك لأن الشراء بثمن مقدم لا يكون إلا عن طريق السّلم أو الاستصناع، فيجب أن يفي العقد بشروطه.
والذي يُشاهد في الاستجرار أنه لا يوجد فيه هذان الشرطان، فإنّ الذي يدفع إلى البائع المبلغ ربما لا يعرف وقت الدفع ما سيشتري به حينا بعد حين. ولئن علمه فإنّه لا يمكن بيان قدر كل واحد من المأخوذ ووصفه وأجله في الوقت نفسه، فى تتوفر فيه شروط السّّلم، وربما لا تكون الأشياء مما تحتاج إلى صنعة حتى يتحقق الاستصناع.
وإن قلنا: إن المبلغ المدفوع أمانة في يد البائع، وكلّما أخذ المشتري منه شيئاً، صار جزء من المبلغ ثمناً للمأخوذ. فينبغي أن يكون المبلغ مودعاً عند البائع كما هو، ولا يجوز له أن يصرفه في حاجة نفسه، لأن الأمانة لايجوز التصرف فيها وهذا، على كونه مشكلاً، بل متعذراً من الناحية العملية، خلاف ما هو متعارف في الاستجرار، فإن الباعة في الاستجرار لا يحتفظون بالمبلغ المدفوع إليهم مقدماً، وإنما يسجّلون قدره في حساب المعطي، ثم يتصرفون فيه كيفما شاؤوا.
وإن قلنا: إن المبلغ المدفوع قرض أقرضه المشتري إلى البائع، فحلّ له استعماله، فالإشكال في أنه قرض مشروط فيه البيع اللاحق، فإن المشتري لم يقرض البائع على وجه الصلة، وإنما أقرضه ليقع به البيع في وقت لاحق، فصار البيع مشروطاً في عقد القرض، وهذا شرط يخالف
مقتضى عقد القرض، فينبغي أن يكون فاسداً.
ولم أرَ أحداً من الذين تكلموا عن الاستجرار من تعرض لهذا الإشكال. والذي يظهر لي أنّ هذا المبلغ دفعة تحت الحساب، وهي، وإن كانت قرضاً في الاصطلاح الفقهيّ، من حيث إنّه يجوز للمدفوع له أن يصرفها في حوائج نفسه، ومن حيث كونها مضمونة عليه، ولكنها قرض يجوز فيه شرط البيع اللاحق، لكونه شرطاً متعارفاً، فإن الدفعات تحت الحساب لا يقصد بها الإقراض، وإنما يقصد بها تفريغ ذمة المشتري عن أداء الثمن عند البيع اللاحق وأن يتيسر له شراء الحاجات دون أن يتكلف نقد الثمن في كلّ مرّة. فهذا قرض تعورف فيه شرط البيع. والشرط كلما كان متعارفاً فإنه يجوز عند الحنفية، وإن كان مخالفاً لمقتضى العقد، كما في شراء النعل بشرط أن يحذوه البائع.
ومن هنا نرى الفقهاء الذين أجازوا الاستجرار لم يفرقوا بين دفع الثمن مقدماً، وبين دفعه مؤخراً. قال ابن عابدين رحمه الله تعالى:
(قال في الولوالجية: دفع دراهم إلى خبّاز، فقال: اشتريت منك مئة منّ من خبز، وجعل يأخذ كل يوم خمسة أمناء، فالبيع فاسد وما أكل فهو مكروه، لأنه اشترى خبزاً غير مشار إليه، فكان المبيع مجهولاً. ولو أعطاه الدراهم وجعل يأخذ منه كل يوم خمسة أمناء، ولم يقل في الابتداء: اشتريت منك، يجوز. وهذا حلال وإن كان نيته وقت الدفع الشراء، لأنه بمجرد النية لا ينعقد البيع، وإنما ينعقد البيع الآن بالتعاطي، والآن المبيع معلوم، فينعقد البيع صحيحاً. اهـ. قلت: ووجهه أن ثمن الخبز معلوم، فإذا انعقد بيعاً بالتعاطي وقت الأخذ مع دفع الثمن قبله، فكذا إذا تأخر دفع الثمن بالأولى)(1) .
(1) رد المحتار:4/54.
وقال ابن نجيم في الأشباه والنظائر:
(ومنها لو أخذ من الأرز والعدس وما أشبهه، وقد كان دفع إليه ديناراً مثلاً لينفق عليه، ثم اختصما بعد ذلك في قيمته هل تعتبر قيمته يوم الأخذ أو يوم الخصومة؟ قال في التتمة: تعتبر يوم الأخذ)(1) .
وقد أسلفنا قول الإمام مالك رحمه الله في الموطأ:
(ولا بأس بأن يضع الرجل عند الرجل درههماً، ثم يأخذ منه بثلث أو بربع أو بكسر منه معلوم سلعة معلومة)(2) .
وتبين بهذا أن الاستجرار بمبلغ مقدم جائز مثل الاستجرار بثمن مؤخر، ويكون المبلغ قرضاً عند البائع إلى أن يقع البيع عند الأخذ، فتجري مقاصّة القرض بثمن المبيع. والمبلغ مضمون على البائع، إن هلك، هلك من ماله، إلا إذا وضع المبلغ عنده كما هو كأمانة، ولم يتصرف فيه بشيء، فحينئذ يكون قبضه أمانة، فلا يضمنه عند الهلاك. ويخرّج على هذا اشتراك المجلات الدوريّة. فإن العادة في عصرنا أن الناس يدفعون بدل الاشتراك السنويّ في بدانة كل سنة إلى أصحاب هذه الدوريّات، وأنهم يبعثون إليهم نشرة من المجلة في كل شهر. فبدل الاشتراك قرض مضمون عندهم، ويقع بيع كل عدد من المجلة عندما تصل المجلّة إلى المشتري. فلو انقطعت المجلّة في أثناء السنة لزم على أصحابها ردّ ما بقي من بدل الاشتراك.
(1) حكاه ابن عابدين أيضا:4/54.
(2)
موطأ الإمام مالك جامع بيع الطعام: ص590.
استخدام الاستجرار في المعاملات المصرفيّة:
أما استخدام الاستجرار في المعاملات المصرفيّة، فإن المعاملات الجارية اليوم في البنوك الإسلامية تشتمل على مرابحة، وإجارة، ومضاربة، وشركة، وفي الثلاثة الأخيرة من هذه المعاملات لا يمكن استخدام هذا الطريق مع عملاء البنك الذين يطلبون منه التمويل. ولكن يمكن في عمليات المرابحة أن يتعامل المصرف مع الموردين على أساس الاستجرار. فيقع من البنك تفاهم مع عدّة مؤسسا تجاريّة أنه سوف يشتري البضائع، أو الآلات، أو المعدّات على أساس سعر السّوق، أو بخصم معلوم على سعر السّوق. ثم كلما يتقدم عميل من العملاء يطلب منه المرابحة الشرعيّة، اشترى البنك من تلك المؤسسات ما يطلبه العميل ويقع هذا الشراء على أساس الاستجرار، ثم يبيعها إلى العميل عن طريق المرابحة.
وأما عملاء البنك في المرابحة، فلا يجري معهم الاستجرار المشتمل على التعاطي، ولكن يمكن أن يدخل البنك معهم في معاملة شبيهة بالاستجرار. وذلك بأن يتفق البنك معهم على أعلى حدّ للتسهيلات التي يقدمها إليهم عن طريق المرابحة في سنة واحدة. ثم إن العميل لا يستفيد بجميع هذه التسهيلات مرة واحدة، وإنّما يستفيد منها في مرّات متعددة. فالبنك اتفق معه مثلاً أنه سوف يبيع إليه بضاعات قيمتها عشرة ملايين. ولكن العميل لا يشتري من البنك جميع هذه البضائع مائة واحدة، بل يشتري منه بضاعات مليون في البداية مثلاً، ثم كلما يحتاج إلى مزيد من البضاعات، يأتي إليه، فيشتريها منه مرابحة إلى أن ينتهي الحد الأعلى المتفق عليه في الاتفاقية، وهو عشرة ملايين في مثالنا السابق وعند ذلك تنتهي الاتفاقية.
وإن هذه المعاملة موافقة للحالة الأولى من الاستجرار بثمن مؤخر،
لأنّ العميل يستجرّ من البنك البضاعات مرّة بعد أخرى، ولكن الثمن معلوم عند كلّ أخذ. ولا خلاف في هذه الصورة بين القائلين بجواز التعاطي. وقدّمنا في مبحث التعاطي أن استخدام التعاطي في عمليات المرابحة يجعل هذه العمليات مشابهة بالربا، فينبغي الاحتراز عنها. فيجب في عمليات المرابحة أن يعقد عقد البيع بالإيجاب والقبول بين البنك وعميله بعد ما يتملك البنك البضاعات المطلوبة، ليكون هناك وقت تكون البضاعة في ملك البنك وضمانه، ويجوز له الاسترباح عليها.
فبمراعاة هذا الشرط يجوز أن يستخدم الطريق المذكور الذي يشابه الاستجرار في عمليات المرابحة.
* * *
..