الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد؛ فإني أحمد الله مرة أخرى أن أرشدني اليوم إلى تقديم هذه الرسالة الصغيرة: (بلاغ الرسالة القرآنية؛ من أجل إبصار لآيات الطريق)؛ لكل باحث عن معرفة الطريق السالكة إلى الله أولاً، ثم لكل المهتمين بالمشروع الإصلاحي.
وقد كانت هذه الرسالة -أول الأمر- عبارة عن دروس، ألقيتها بمجالس بعض أصحابنا المحبين، وإخواننا الصالحين -نحسبهم كذلك إن شاء الله، ولا نزكي على الله أحداً- مجالس قرآنية مباركة إن شاء الله، شهدتها مدينة مكناسة الزيتون حرسها الله، وأصلح أحوالها، تدارسنا خلالها ما تيسر من بلاغات القرآن العظيم، وهي ثمرة لما استقر عليه النظر -بفضل الله وتوفيقه- من خلال بحث سابق في:(البيان الدعوي)، بعد تجربة متواضعة، عملية ووجدانية، في مجال الدعوة إلى الله، إذ صار بعدها لهذا الموضوع في قلبي حضور خاص، جعلني أقلب النظر فيما بين يدي من أعمال، باحثاً فيما أرى وأسمع، من تجارب ومبادرات، جاهداً في تلمس طريق تقربني إلى الله، على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سيرته ودعوته، عسى أن أهتدي في الشأن التعبدي والإصلاحي إلى التي هي أقوم.
هذا، وقد كانت رحلتي لأداء فريضة الحج لعام:(1420 هـ/2000 م)، فرصة لأعيد النظر والمراجعة، فيما تحصل لدي من رؤى وفهوم، في المجال الدعوي والإصلاحي، فشرعت -منذ ذلك التاريخ- في ترتيب النظر، وأنا أرقب واقع العمل الإسلامي، في ظل ما يجتاح العالم الإسلامي اليوم من فتن كقطع الليل المظلم، لا يكاد قطر من أقطاره ينجو منها، ومن فجور سياسي داهم، يحرق
الأخضر واليابس، تهب به عواصف ما سمي بـ (العولمة)، أو (حركة تهويد العالم)، هذه الريح الاستعمارية الغازية الشديدة، الجديدة في أساليبها؛ القديمة في غاياتها ومقاصدها.
ثم إني رأيت الساحة الإسلامية تعج بالأفكار، من نظريات شتى، وتنظيمات شتى، وسياسات شتى، منها ما يتناقض ويتآكل، ومنها ما يتكامل، وكل يتخذ موقعه فيها حسب استعداداته الفطرية، ومؤهلاته الكسبية، وهي -على رغم ما تزخر به من خير كثير- لا تخلو من ثغرات وثلمات، لم تجد بعد من يسدها، ويقف مرابطاً على حراستها، بل إن بعض الأصول والمنطلقات بقيت مكشوفة الظهر، عارية الثغر، رغم تدبيجها في الورقات، لا تجد من يقف على فجها؛ لانصراف الناس إلى اقتطاف بعض الثمرات، مما نحسبه خدعة واستدراجاً.
وقصة نزول الرماة عن جبل الرماة، في غزوة أحد، لم يزل نذيرها يملأ آذان التاريخ! ولكن {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]!
ولقد تبين -لمن يتبين- في غبار أحداث العالم الكبرى، التي تندلع عن تواتر الانهيارات الكبرى، منذ مطلع الألفية الميلادية الثالثة؛ أن مواقع المسلمين عامة، ومواقع أهل الشأن الدعوي منهم خاصة؛ قد تراجعت إلى خط الدفاع الأخير! ولعل في ذلك خيراً للإسلام والمسلمين، عَلِمه من
علمه، وجهِله من جهله، فذلك -إن أُحسِنَ استيعابه وتوظيفه- مما سيقدح انطلاق دورة جديدة؛ لحركة تجديد الدين في العالم بحول الله، بمستوى أعلى، وبأداء أرفع.
ثم تبين أيضاً أن المضي بالدعوة في مسارها المشاهد اليوم في كثير من البلاد؛ مضيّاً لا يراعي الظروف الجديدة؛ إنما هو مقامرة بمصير الأمة! ذلك أن هذا المسار يغلب فيه الاستعراض على الاستنهاض، ويطغى فيه النداء على البناء! والحاجة اليوم اختلفت عما كانت عليه قبل سنوات، ولقد نطق شرق الغرب -من قبل- بحكمة مشهورة، تنص على أن النهوض قد يقع بإنجاز (خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام)، وتلك مقولة لها أصل أصيل في صناعة القتال عند المسلمين، مفادها أن:(من لا يحسن الفر لا يحسن الكر)!
ولهذا نظرت بعد ذلك في كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو أصل الدين كله، منه ينطلق وإليه يعود؛ فتبين لي أولاً أنه لا ينفع الإنسان في هذا كله؛ إلا ما بقي له مدخراً في قبره، عسى أن ينفعه يوم لقاء ربه، فكان أن فتح الله بصيرتي على تولية الوجهة إلى النظر في القرآن؛ تعلماً وتعليماً، ومدارسة وتدبراً؛ عسى أن أهتدي في المسألة الدعوية إلى التي هي أقوم؛ فكان أن اكتشفت أنني كنت أمر على كثير من الآيات دون أن
أبصرها! وذلك كان سبباً في كثير من البلاء والارتباك الحاصل في السير، هنالك كانت الثغرات التي دخل منها المرض إلى الجسم، ويُجْمِعُ الأطباء على أن أخطر مراحل التطبيب هو تشخيص الداء، قبل وصف الدواء.
ثم إنه لابد -بين يدي هذه الورقات- أن أعلن ما سبق لي إعلانه في كتاب: (البيان الدعوي) من أنني أنطلق في عملي هذا من (مبدأ تأميم الدعوة إلى الله)، كما سلف بيانه مفصلاً في محله، بأدلته وشواهده، والمقصود بـ (تأميم الدعوة): تحريرها من كل انتماء (حركي) ضيق، بالمعنى السياسي للكلمة.
لقد كان مما ضيق الاستيعاب الدعوي بالمغرب وغيره؛ أن الكلمة الطيبة عرضت على الناس باسم التنظيمات والحركات! حتى قاس كثير من الشباب الدخول إلى (الجماعة) على وزان الدخول إلى الإسلام، والخروج عنها كالخروج عنه! لقد آن الأوان لتختص الحركات الإسلامية الحزبية بالاشتغال المؤسسي، والتدافع السياسي، كما هو حالها في الواقع اليوم، وهو أمر لا نقلل من شأنه وأهميته، ولكن على أساس أن يتحرر الشأن الدعوي العام من قبضتها، فالتجربة أثبتت أنها ما زادته -في المرحلة الأخيرة- إلا ضعفاً وتقويضاً!
إن (الحركة) مشروع اجتهادي قد تتباين وجهات النظر فيه من التوافق إلى الاختلاف، حتى التناقض والتنافي أحياناً!
بينما الدعوة أو (الصحوة)؛ هي في الأغلب الأعم اشتغال بالمعلوم من الدين بالضرورة، فقلما يميل الشأن فيها حتى إلى مجرد الاختلاف، بلْهَ التنافي والتناقض! فقل لي بربك لو أنك استدعيت محاضراً، أو عالماً من كل حركة، ممن يُعلم اختلافهم الحاد في مواقفهم السياسية، وبرامجهم التغييرية، ثم أوكلت لكل منهم أن يتحدث للناس في موضوع:(الإنسان في القرآن) مثلاً، أو موضوع:(المقاصد التعبدية في الإسلام)، أو:(خطر الفساد الأخلاقي)، بشرط التجرد عن الهوى التنظيمي؛ أفلا يكون الكلام منهم جميعاً واحداً في الجوهر؟ لا تنافي فيه ولا اختلاف؛ إلا كما تختلف العبارات والأساليب في عرض الأفكار؟ فلِمَ إذن نرهن الدعوة بما لم يرهنها الله به؟ ألا نكون قد حجرنا واسعاً؟ بلى والله! وتلك هي آفة الدعوة والدعاة في زماننا هذا، وذلك ما قصدنا التخلص منه بـ (مبدأ تأميم الدعوة).
نقدم رسالتنا هذه إذن؛ ورقةَ عمل لنموذج تطبيقي -تتلوه نماذج أخرى بحول الله، على خطوات ومراحل- من بعد أن أصّلنا النظر في كتابنا:(البيان الدعوي)، فما بقي بعد القول إلا العمل، والقاعدة أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل).
ولقد ظن بنا بعض إخواننا (من هنا وهناك) -وبعض الظن إثم- أننا بدَّلنا وغيَّرنا، وركنَّا إلى الذين ظلموا! فإلى
هؤلاء وأولئك نقول لهم كلمة واحدة: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].
لقد اكتشفنا أن المنهج المعتمد لدى بعض إخواننا، في الدعوة والحركة؛ منهج مقلوب، ينطلقون فيه (من العمران إلى القرآن)، على طريقة قياس الشبه -وهو أضعف أنواع الأقيسة في علم الأصول- ينظرون إلى ما عند (الآخر) من بناء، فيقيسون عليه -تشبيهاً وتخييلاً- ما يرون أنه يجب أن يكون عندنا، وينطلقون في البناء؛ بل في التقليد! مع مراعاة (إسلامية) الشكل الخارجي! ويبقى الجوهر بعد ذلك يرشح بجاهليته! {أَفَمَنْ اُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ اُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
بينما هذا القرآن العظيم يقدم نموذجه العمراني كاملاً.
إننا قررنا أن ننطلق (من القرآن إلى العمران) على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته ودعوته، هذا هو الطريق إن شاء الله! فلن نصدر كتبنا الدعوية بعد اليوم، ولا تجاربنا العملية -إن شاء الله- إلا بهذا المنهج وعلى أساسه، تصوراً وتطبيقاً.
لا نبني بناءً، ولا نعمر تعميراً؛ إلا على أساس من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن القرآن العظيم تصميم رباني راقٍ؛ لبناء فخم، ما كُلِّف الإنسان إلا بإنجازه، على شموليته وامتداده، بدءاً بعمران الإنسان، حتى عمران السلطان.
فأما عمران الإنسان: فهو البناء الكفيل بإخراج (الإنسان القرآني)، المشار إليه في قوله جل وعلا:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
وحينما نقول: (الإنسان) فهو الفرد والمؤسسة، وهو الوجدان الذاتي والجماعي، وهو الأسرة الواحدة والنسيج الاجتماعي، وهو العامة والخاصة، وهو المجتمع والدولة .. إلى غير ذلك من الثنائيات التي يستوعبها مصطلح (الإنسان).
ورسالتنا هذه (بلاغ الرسالة القرآنية) هي من هذا المعنى الأول.
وأما عمران السلطان: فهو البناء الكفيل بإخراج السلطان القرآني، وليس المقصود بالسلطان عنصره البشري، ومرجعه الإنساني، كلا! فذلك هو المعنى الأول وقد سبق، وإنما
المقصود به طبيعته العمرانية، وعمقه النظامي، وهو المشار إليه في قوله تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]، وليس هذا إلا نتيجة للأول، ومَن عَكَسهما فقد قلب المنهج، ولقد بينَّا في كتاب (البيان الدعوي) من ذلك؛ احتجاجاً واستدلالاً؛ ما يكفي إن شاء الله، فلا داعي للإطالة.
والذي يجمع الأول والثاني؛ ليتم كمال (العمران)، هو:(عمران الاستخلاف)، الذي يشمل كل النشاط البشري، ويستوعب كل أبعاده الكونية، وهو المعبر عنه في القرآن الكريم بقوله تعالى:{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود:61].
وقوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
وقوله سبحانه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص:26]. فقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص:26] هو جزء من كلي خلافته، وليس هو إياها، وقد سبق لنا في هذه المسألة تدليل وتأصيل، في كتابنا المذكور، لمن شاء التفصيل.
العمل إذن هو: (من القرآن إلى العمران)، إن معنى ذلك أننا ننخرط في حركة (البعثة الجديدة) التي نراها تنطلق اليوم؛ تصديقاً لوعد القرآن العظيم؛ ولبشارة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقولنا (حركة): ليس بالمعنى السياسي للكلمة، حيث يضيق اللفظ ويتقزم؛ لينحصر في الدلالة على دائرة تنظيمية محدودة، كلَّا!.
وإنما (الحركة) هنا بمعناها العمراني الكبير، حركة يديرها رب الكون، الحي القيوم سبحانه، مجالها في الأرض، وتقديرها في السماء، تصميمها القرآن، ومنفِّذها الإنسان، ولنا في هذا الموضوع تأصيل آخر، في خطوة تأليفية تتلو هذه بحول الله.
فما عليك يا صاح الآن إلا أن تتناول التصميم القرآني لهندسة العمران، فتنشره بين يديك نشراً، تتبين معالمه، وتتبصر موازينه، وتشرع في التنفيذ؛ بناءً وتعميراً، وكل كلام دون ذلك مضيعة للأعمار في غير طائل، ويكفي الأمة ما أهدرت -ولا تزال- من الطاقة في الجدل والكلام. ومن الحِكَم المأثورة، أنه (إذا أراد الله بقوم سوءاً سلط عليهم الجدل ومنعهم العمل!)
***
وقبل الخلوص من هذا التقديم أعلن لكل من يرغب في السير إلى الله أن هذه الورقة المتواضعة؛ هدية له مني، هدية من قلب أخلص المحبة للمحبين، فمن وجد فيها ما ينفع فهي له، ومن لم يجد من ذلك شيئاً فليدفع عنه ما يكره، والله الهادي إلى الخير والمعين عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه عبد ربه راجي عفوه وغفرانه، الفقير إلى رحمته ورضوانه:
فريد بن الحسن الأنصاري
الخزرجي السجلماسي، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين.
وقد وافق تمام تبييضه وتصحيحه -بمكناسة الزيتون، من حواضر المغرب الأقصى فجر يوم الأربعاء 9 ربيع الثاني: 1423 هـ - 19/ 6 /2002 م
***