المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تبصرة: ما القرآن - بلاغ الرسالة القرآنية

[فريد الأنصاري]

الفصل: ‌تبصرة: ما القرآن

الكون. فيكون كل متدبر للقرآن متفكراً في الكون. فتقرأ -بقراءة القرآن- كلَّ آيات الله المنظورة والمقروءة سواء.

وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو: الإبصار.

إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء، أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماماً كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة -في اليوم الصحو- على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة، فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، والتفكر يكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون، وكانت لهم فيها مشاهدات، لا تكون لغيرهم، ولذلك قال عز وجل:{قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]، وقال سبحانه:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2].

هكذا وجب أن تقرأ القرآن آيةً آيةً؛ اقرأ وتدبر ثم أبصر! عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل؛ فتكون له متدبراً .. فتدبر!

‌تبصرة: ما القرآن

؟

ولنسأل الآن: ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله؛ بل الكون كله؟

أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله)،

ص: 45

واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح، وإنما المهم عندنا الآن هاهنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين:(القرآن كلام الله)، هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلاً ..

الله جل جلاله خالق الكون كله .. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟ طبعاً لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى، فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود، هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها

إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية، أين أنت الآن؟ اسأل نفسك .. أنت هنا في ذرة صغيرة جدّاً، تائهة في فضاء السماء الدنيا –الأرض- وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء؛ هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً .. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان؛ فكلمك بالقرآن .. كلام الله رب العالمين، أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أي وجدان، وأي قلب؛ يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجداً لله الواحد القهار رغباً ورهباً؟

ص: 46

اللهم إلا إذا كان صخراً أو حجراً، كيف؛ وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص:18،19]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].

كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء؛ علماً وقدرة، إنه رب الكون .. فتدبر:{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [فصلت:54]، ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله، متحدثاً عن كثير من عجائبه، قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ. لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:75 - 82]، سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب.

ذلك هو القرآن .. كلام من أحاط بمواقع النجوم؛ خلقاً

ص: 47

وأمراً، وعلماً، وقدرة، وإبداعاً، فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له:{إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [الجن:5]. ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:5،6].

وإنه لرد عميق جدّاً، ومن هنا جاء متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض، قال عز وجل:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]، وقال:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [فصلت:53،54].

فليس عجباً أن يكون تالي القرآن متصلاً ببحر الغيب، ومأجوراً بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم، أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن؛ يكفيه ذلك دلالة

ص: 48

وأي دلالة، ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (1).

ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه، من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها» (2). وقال أيضاً: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه؛ فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده؛ فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه؛ فيرضى عنه. فيقول: اقرأ وارقَ ويزاد بكل آية حسنة» (3). {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].

إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، لقد تكلم عز وجل،

(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر). كما رواه الحاكم أيضاً في المستدرك.

(2)

رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8122).

(3)

رواه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8030).

ص: 49

وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين.

قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث لطيف، تشد إليه الرحال:«كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» (1)، وقال في مثل ذلك أيضاً:«أبشروا .. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبداً» (2). وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضاً فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم:«أبشروا .. أبشروا .. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً» (3)

(1) رواه الطبري في تفسيره: (4/ 31)، نشر دار الفكر بيروت لبنان:(1405 هـ). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (4473).

(2)

رواه الطبراني بإسناد صحيح. وهو في صحيح الجامع الصغير: (34).

(3)

رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعبه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة:(713). نشر مكتبة المعارف بالرياض، لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد، طبعة جديدة بتاريخ:(1415 هـ/1995 م).

ص: 50

ذلك أن القرآن جاء -وهو من رب العالمين- بلاغاً إلى الناس أجمعين، يحمل رسالة ذات مضامين من النبأ الرباني العظيم، نبأ الخلق، ونبأ الكون، ونبأ الغيب، ونبأ الشهادة، ونبأ الحياة، ونبأ الموت، ونبأ البعث القريب .. ونبأ الأمر الإلهي الحكيم في ذلك كله. وكلف رسوله ببلاغه جميعاً إلى الناس، فقال له عز وجل:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، وقال أيضاً:{قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا. إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:22،23]، وقال سبحانه:{هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [إبراهيم:52]، وقال:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، ومن أشد المعارض القرآنية لهذا المعنى وقعاً على النفس؛ قوله تعالى للمؤمنين من هذه الأمة -بعد آية تحريم الخمر مباشرة-:{وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، ونحو ذلك كثير في القرآن الكريم؛ مما ينطق عن طبيعته (البلاغية) بالمعنى الرسالي للكلمة، وما ينتج عن ذلك من إعذار وإنذار، ومن ثقل الأمانة الملقاة على عاتق كل مسلم، بل كل إنسان بلغته الرسالة.

ومن هنا فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله إلا بهذا القرآن، استجابة لقوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ

ص: 51

جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] وكذلك كان صحابته الكرام على هديه عليه الصلاة والسلام، فما أسلم أغلب من أسلم من الصحابة إلا بعد سماع القرآن، وهذا أمر متواتر في كتب السنن، وكتب السير والمغازي، لمن استقرأه وتتبعه. ومن أشهر الأمثلة على ذلك قصة مفاوضة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ بعثت إليه ممثلها الوليد بن عتبة، فكلمه في أن يكف عن تسفيه أحلامهم، حتى إذا فرغ من مقالته قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أفرغت؟ قال: نعم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:1 - 12](1).

وكذلك كانت سفارة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد، إذ يرسل صحابته إلى الأقاليم والأمصار، فإنما كانوا يدعون الناس بالقرآن، كما هو الشأن في بعث أصحابه إلى المدينة، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:(أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن)(2).

هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان،

(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده، وابن هشام في السيرة، والبيهقي في الدلائل، وأبو نعيم في دلائل النبوة، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، والحاكم في المستدرك، ووافقه الذهبي، وحسنه الأستاذ إبراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية:(64). دار النفائس الأردن، ط. الثانية:(1416 هـ/1996 م).

(2)

رواه البخاري.

ص: 52

فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم، كلا! كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:29].

سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟ تماماً كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء

إلخ، كل ذلك في وقت واحد -وهو تعالى فوق الزمان والمكان- لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحداً سواك، احذر أن تخطئ هذا المعنى .. تذكر أنه كلام الله، وتدبر .. ثم أبصر!

قال جل جلاله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .. فتدبر!

ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر،

ص: 53

فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر .. إن فيه كل ما تريد، ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن؛ عليك بالقرآن، اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك؛ تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام:(إن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته)(1).

وأخيراً؛ فإن في كتاب الله آية عجيبة، تدلك على الطريق: كيف يبدأ، وكيف ينتهي؛ تدبر قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]. تمسيك بالكتاب أولاً: وهو الأخذ ببلاغاته بقوة، وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها، ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير. {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]، تلك إذن المدارج الأولى للسالكين، كما سترى بحول الله عز وجل.

هذا غاية ما عندي يا صاح عن القرآن، فلا تغتر بما عندي؛ إنه لا يحدثك عن القرآن إلا القرآن؛ فتدبر .. اقرأه آية فآية، وتدبر .. ثم أبصر!

(1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:(2165).

ص: 54

أبصر لنفسك! فإن الإبصار لا نيابة فيه لأحد عن أحد، وإنما الذي يمكن أن أساعدك به هو التبصير بمنهج الإبصار لآيات الطريق، حتى إذا أبصرت؛ ربما رأيت فيها ما لم أر، وأبصرت منها ما لم أبصر!

تبصرة:

القرآن إذن؛ هو متن رسالة الله .. يمنحك أول مقاصده الإرسالية: معرفة الله، مرسل الرسالة إلى الخلق، تلك حقيقته الأولى، وهي أول ما يرفع بصيرتك إليه؛ عسى أن تبصر جمال الخالق جل جلاله؛ فتكون من العابدين.

فاسأل نفسك: هذه هي الرسالة: القرآن، ولكن؛ هذا المرسِل .. من يكون؟ ومن هو؟

هذا أول المعرفة الربانية. وهو في مقاصد الخطاب القرآني، البلاغ الأول، ذلك من حيث الرتبة لمقاصد الإرسال، وهو هاهنا من حيث ترتيب السير المنهجي في التعرف على معالم الطريق، ومنازل السير يحتل الرتبة الثانية منهجيّاً لا مقاصديّاً؛ إذ لا يعرف الله إلا بمعرفة القرآن، كما أنه لا يمكن أن يعبد الله -عمليّاً- إلا باتباع رسول الله، وإن شئت فقل: معرفة الله وتوحيده هو غاية الغايات، ومنتهى الخطوات، ولكن أولاها قطعاً وإنجازاً هي معرفة القرآن، فإذا أنت عرفت ما القرآن؟ وبدأت تغرف من مأدبة الله؛ وجدت الله جل وعلا أول المقاصد التي يدعوك القرآن لتعرفها.

ص: 55

فلا ضير إذن أن يكون هذا البلاغ: (التعرف على الله) من حيث هو مرسل الرسالة قد جاء (ثانياً) بهذا الترتيب التعليمي، بعد (الأول) الذي هو معرفة الرسالة نفسها، وتحقيق التوصل بها، وإلا فلا صراط ولا سير ولا هدى، وقد بينت لك أن معرفة الله تعالى -من حيث الترتيب المقاصدي- هي أصل الأصول ومنتهى الوصول، فليكن إذن.

***

ص: 56