الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغ السابع
في المفاتيح الثلاثة
لا فائدة لحكم ليس يتحقق له مناط مطلقاً في حياة الإنسان، وإنما جاء الدين ليكون حركة إنسانية في الزمان والمكان، لا نصوصاً تتلى فقط، ولا قصصاً تحكى فحسب، وإنما الأمانة التي حملها الإنسان عَمَلٌ:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
والإسلام لما بيَّن بلاغاته للناس بين لهم -فيما بين لهم- وسائل الوصول إليها، وطرائق اكتساب صفاتها، فجعل لكل أصل عملاً، ولكل عمل باباً، ولكل باب مفتاحاً.
تبصرة:
ومدار باب الخروج إلى العمل على ثلاثة مفاتيح، هي أصول لما سواها، نَسُكُّها في العبارات التالية:
- اغتنام المجالسات.
- والتزام الرباطات.
- وتبليغ الرسالات.
وبيان ذلك هو كما يلي:
* تبصرة:
فأما المفتاح الأول فهو اغتنام المجالسات:
وهو أن تحرص على (مجالس القرآن) وهي خير أنواع (مجالس الذكر)، التي تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها محبوبة عند الله، مذكورة في ملئه الأعلى، تشهدها الملائكة، وتنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، ويذكرها الله في من عنده، وليس شيء أفيد منها في تربية الإنسان المسلم على الصلاح والفلاح، وهي من أهم الوسائل التربوية التي لا غبش فيها ولا غبار، من حيث استنادها إلى الأدلة المتواترة بالمعنى، عبر الأحاديث الوفيرة المستفيضة، نذكر منها الحديث المشهور، الذي رواه أبو هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فيه:«ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (1).
(1) رواه مسلم.
وكذلك الحديث المتفق عليه، الذي رواه أبو هريرة أيضاً، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن لله ملائكة سياحين في الأرض، «فضلا عن كتاب الناس» ، يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم! فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك. فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم! فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!» (1) والأحاديث في هذا المعنى كثير.
تبصرة: وتوسلاً إلى تحقيق مناط ذلك نسمي «مجالس
(1) متفق عليه.
القرآن» مساهمة في تصحيح ما انحرفت إليه بعض الحركات الإسلامية، حيث تحولت مجالسهم التربوية، إلى اعتماد كتاب فلان، أو علان، من التآليف الفكرية البشرية؛ منهاجاً للدين والتدين. وهذا خطر كبير قد بيناه من قبل (1)، إذ بسببه يصيب الدعوات ما يصيبها من أنانية، وذاتية، وشركية نفسية في كثير من الأحيان. إن التربية الدعوية لا يمكن أن تستقيم على التوحيد الاعتقادي والعملي والوجداني؛ إلا بالتعلق المصدري بكتاب الله وسنة رسول الله في المجال التربوي، بالنسبة للمربي والمتربي سواء. فتدبر .. ثم أبصر!
وقد تبين مما سبق أن عملنا يقوم على منهج واضح وبسيط: الاعتصام بالقرآن آية آية؛ مصدراً أول للتدين، والدعوة إليه، والاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق. فهو قسمان، وكلاهما يجب أن تترجمه (مجالس القرآن)، وبيان ذلك كما يلي:
تبصرة: القسم الأول: اُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبك في مجلس من (مجالس القرآن)، وسِرْ من خلالها إلى الله. لا تهتم كثيراً -في هذا الشأن خاصة- بالتنظيمات والجماعات، فما نحن فيه أعم -من وجه- بكثير مما هي فيه، وهما أمران لا يتعارضان.
(1) انظر التوحيد والوساطة في التربية الدعوية للكاتب، الجزء الأول، نشر وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة. العدد:(47).
ولكن لا تنس (مجالس القرآن)، فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح، ومقومات الإصلاح. تعلم من القرآن مباشرة دعوة الخير:{يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104].
تتبع منهج القرآن كما عرضه القرآن: التلاوة، والتعلم والتعليم، والدراسة والتدارس، ثم التدبر؛ عسى أن تكون من المبصرين. فاجعل مجلسك القرآني على هذه الفقرات الأربع، المؤصلة في كتاب الله وسنة رسول الله. وبيانها كما يلي:
1 -
فأما التلاوة: فبركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر -كما بيناه قبل- على كل حرف تتلوه من القرآن، فلا تنس هذا، والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في غير ما آية. قال سبحانه:{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر:29]، وقال:{لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]. وقال تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4]، ثم قال:{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنَ} [المزمل:20]. وفي الحديث الصحيح: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران» (1).
(1) متفق عليه.
فاقرأ كما استطعت وتعلم؛ كي تتزكى، فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التزكية والتعليم، كما مر في قوله تعالى:{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، فالتلاوة نور في نفسها. إنها -لو أبصرتها حقّاً- صلة مباشرة برب العالمين؛ ذكراً ومناجاة، إن العبد التالي لكتاب الله متكلم بكلام الله، وهذا وحده معنى عظيم في نفسه، فتدبر! وهو يمهد القلب ويهيئه للخطوات التربوية التالية.
2 -
وأما التعلم والتعليم: فهو لأحكامه كما ذكرنا، وهو يكون بتحصيل العلم للنفس وتلقينه للغير؛ وذلك لقول الله تعالى:{وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُونَ) و (تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها أولى: التعلم والتعليم، وأقل ذلك يا صاح أن تكون أحَدَهما: معلماً أو متعلماً. بيد أن العلم هاهنا إنما هو ما أفاد العمل. على قاعدة علماء مقاصد الشريعة: أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل)، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً» (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله لم يبعثني
(1) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن كما في صحيح الجامع الصغير: (1609).
معنتاً ولا متعنتاً؛ ولكن بعثني معلماً ميسراً» (1). أي: معلماً أعمال الخير والصلاح للعالمين.
3 -
وأما الدراسة والتدارس: فهو تتبع وجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، ويجمع الثانية والثالثة -أعني:(التعلم والتدارس) - ما ذكرنا من قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، ويجمع المراحل الثلاث كلها:(التلاوة والتعلم والتدارس) ما جاء عَنْ أنسِ بنِ مالك قال: جاء ناس إلى النبِي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رِجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهِم سبعين رجلاً من الأنصارِ، يقال لهم القراء. فيهِم خالِي حرام. يقرؤون القرآن، ويتدارسون بِالليلِ يتعلمونَ) .. الحديث (2). فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث، إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث عن وجوه المعاني وتتدارسها؛ لتتعلم أحكامها ومقاصدها، وذكر التدارس أيضاً في الحديث السالف الذكر، من قوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه مسلم.
إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (1).
4 -
وأما التدبر: فهو -كما سبق بيانه- أنك إذ تقرأ الآيات، وتدرس، وتتعلم؛ تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتبصر حقائقها الإيمانية إبصاراً؛ فتكتسب بذلك من الصفات، ما يعمر قلبك بالإيمان، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ونحو ذلك من المعاني، مما فصلناه قبل في محله، فلا حاجة لتكراره.
ذلك كله هو أساس التزكية، ومقياس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم العروج إلى رضى الرحمن، فاقرأ القرآن، وتدارس، وتعلم، وتدبر ثم أبصر! حتى يأتيك اليقين.
فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب أسرارها وأنوارها، فتتبع مسالك النور حتى تصل، إن شاء الله.
ذلك هو الاعتصام بكتاب الله، وأما الاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق؛ فهو:
تبصرة: القسم الثاني: وهو أن تتبع معالم سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، وهي مبثوثة في كل كتب السنة وعلومها، إلا أن أجمع علوم السنة الموضوعة لبيان هذا المنهج؛ هو
(1) رواه مسلم.
(علم الشمائل المحمدية): وهو علم يبحث في صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخِلْقية والخُلُقِية، وكيفية سيرته مع ربه، وسيرته في نفسه، وفي أهله، وفي أصحابه والناس أجمعين. وإن ذلك لهو القرآن كله مطبقاً، والإسلام كله حيّاً متحركاً. فادرس من الكتب في ذلك ما شئت ولا حرج، أو اجمع نصوصه من حيثما شئت ولا حرج، وإنما الشرط أن تتحرى الصحة في الخبر، ويكمل بذلك ما أردناه من معنى:(مجالس القرآن)، التي كانت هي مجالس الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك هو المفتاح الأول.
تبصرة: وأما المفتاح الثاني فهو التزام الرباطات:
وإنما القصد بالرباطات بيوت الله حيثما كانت. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. ذلك ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرباط)، في الحديث الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بَلَى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة،
فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» (1) فتدبر .. ثم أبصر!
وإنما (الرباط) له دلالة جهادية في القرآن والسنة، وذلك هو المفهوم من فعل (رابط) المأمور به في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]؛ فقوله تعالى: (رابطوا) معناه -كما في سائر التفاسير- صابروا على ملازمة ثغور الجهاد؛ لمراقبة العدو، والتصدي لغاراته، وحراسة المسلمين.
ولذلك فقد أورد الإمام البخاري هذه الآية في كتاب الجهاد والسير من صحيحه، في ترجمة (باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} الآية). وأورد فيه الحديث الذي أخرجه مسلم أيضاً؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» (2).
في هذا السياق الجهادي إذن استعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظ (الرباط)؛ للدلالة على التزام المساجد، والارتباط بندائها؛ فقال:«فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!»
(1) رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه.
(2)
متفق عليه.
هكذا ثلاث مرات، كما خرجناه قبل، وفي ذلك ما فيه من الدلالة العظيمة على امتداد (التربية الجهادية) من المسجد إلى الثغر، وفيه دلالة واضحة على أن ربط القلب بثغور العدو؛ قبل ربطه بثغور المساجد؛ إنما هو قلب لميزان الجهاد ومفهومه في الإسلام، وتفريغ له من محتواه، فمن انهزم عن حصون الجوامع لا يمكنه أن ينتصر بحصون المدافع، تلك سنة الله التي سنها في عباده (المبعوثين) لتجديد الدين عبر الزمان:{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43] فتدبر .. ثم أبصر!
وإنما يقاس مدى نجاح تربيتك في المجالسات بمدى التزامك برباط الصلوات، ومن أخطأ هذا الميزان في التقويم التربوي الدعوي فقد أخطأ الحق كله! ونصوص القرآن والسنة في ذلك واضحة جدّاً. بل هي بمجموعها دالة على القطع مبنىً ومعنىً، وقد سبقت في ذلك آية سورة النور، وحديث الرباط، لكنا مع ذلك نورد بعض النصوص الأخرى، الدالة على تهافت من شرد عن المساجد وجماعاتها، وإن كان من المصلين، وفي جهنم واد لبعض المصلين أيضاً! نعوذ بالله منها. فعَنْ عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بِهِن، فإِن الله شرع لنبِيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإِنهن من سننِ الهدى، ولو أنكم صليتم فِي بيوتكم
كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبِيكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد؛ إلا كتب الله له بِكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بِها درجة، ويحط عنه بِها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.) (1). فتدبر .. ثم أبصر!
فيا عجباً لنابتة من الإسلاميين -زعموا- برعوا في تنميق العبارات، والخطب السيارات؛ وحظهم من الصلاة ضئيل! وخطوهم إلى مساجدها قليل! فإن اضطروا إلى ذلك فهو خطو ثقيل! قد كاد ينطبق عليهم قول الله تعالى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلاً. مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاء وَلَا إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء:142 - 143].
فأنى يرجى للأمة صلاح على أيديهم؟ كيف وقد سبق السابقون، المشاؤون بنور الله في الظلم، إلى المرابطة كل فجر بالصف الأول؟ وبقيت فلول المثقلين بتلبيس إبليس تغط في دفء الأحلام، وخيالات (التغيير الحضاري)! وحادي الدعوة إلى الله ينادي حزيناً:
(1) رواه مسلم.
مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدَا
…
أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدا؟
فانظر ما أشد قول النبي صلى الله عليه وسلم في المتخلفين عن جماعات الجوامع، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر! ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً! ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار!» (1). وروي عنه أيضاً بصيغة أخرى صحيحة: قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة ليؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال؛ فأحرق عليهم بيوتهم! والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء!» (2).
رباط المسجد هو المدرسة الأساس للدعوة الإسلامية، منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلى عهد كل من سار على سنته في تجديد الدين، ذلك المنهج الذي إن فاتك -يا عبدُ- فاتك الخير كله! وتلك دولة (المرابطين) في تاريخ المغرب الأقصى (430 هـ إلى 541 هـ)، إنما قامت يوم قامت على منهج
(1) متفق عليه.
(2)
رواه البخاري ومالك في موطئه.
تكوين الرباطات؛ انطلاقاً من أول رباط أنشؤوه بإحدى جزر المحيط الأطلسي بالجنوب المغربي، قرب شنقيط.
فمن هنالك شرع داعيتهم الأول عبد الله بن ياسين -وكان من المبصرين- في تربية الناس على شيء واحد لا ثاني له: الصلاة! وكانت له عقوبة تعزيرية عجيبة لمن تأخر عن الجماعة بالرباط، إذ كان يجلد المتأخر بكل ركعة عشر جلدات! وهم راضون بذلك مقبلون عليه باختيارهم! فما كان له أن يلزم الناس بالمرابطة معه في رباطه التربوي قبل التمكين، حتى إذا بدا له من صلاحهم ما جعلهم -في نظره- أهلاً لبناء الإسلام، ونشره بين الناس؛ خرج من رباطه؛ يفتح بهم المدن والقرى، وينشئ لكل بلدة فتحها مسجداً؛ يجعله لأهلها رباطا للتربية والتعليم! استصحاباً للمنهج التربوي النبوي، الذي به ضمان الاستمرار على النصر والتمكين.
وبذلك مكن الله للإسلام في المغرب إلى الأبد، ذلك أنه رغم ما كان من دولة الأدارسة قبل المرابطين؛ فإن الإسلام لم يتجذر حقيقة في كل القبائل الأمازيغية، إذ يتحدث المؤرخون عن بقاء الوثنية، ديناً مستمراً في كثير من الجبال والصحاري! ومن كانوا على الإسلام كانوا على انحراف شديد، وقد وجد عبد الله بن ياسين مسلمي قبائل الصحراء يتزوجون أكثر من أربع نسوة، فجعل الله من دولة المرابطين
التمكين الحقيقي للإسلام في البلاد المغربية مطلقاً، حتى إذا زالت دولتهم -كما تزول الدول- بقي الإسلام ممتداً، متجذراً بالمغرب، أصله ثابت وفرعه في السماء، إلى يوم القيامة إن شاء الله.
فتدبر .. ثم أبصر!
تبصرة: (التزام الرباط) إذن؛ هو تمام صلاح العبد وتصديقه، وإن (جلوساً) للذكر والتدارس، دون التزام الأوقات بالرباطات؛ لهو أشبه ما يكون بعملية ملء الإناء المثقوب؛ لا يكاد يمتلئ حتى يكون من الفارغين! فانظر لك أصحاباً من حيك وناديك؛ ثم اجعل لك -معهم- من مسجدكم الجامع رباطاً؛ تكن من الصالحين، ومن أهل البعثة المجددين، ذلك هو المفتاح الثاني، فجرب ترَ! وتدبر .. ثم أبصر!
تبصرة: وأما أنتِ أيتها الأخت المؤمنة، فلا نلزمك بما لم يلزمك الله به، وقد كفاك رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط المساجد. وإنما فلكك السيار هو هذه الصلوات بمنازل الأوقات، بيد أنَّا محدثوك عن رباطك الخاص، ألا وهو جلبابك الشرعي. ذلك هو رباطك الذي فرضه الله عليك فرضاً، إذ أنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59].
فجلبابك الضافي، الساتر الوافي، هو عنوان تقواك وورعك، وراية انتمائك لأمتك، به تعرفين من دون العاريات، فلا يصل إليك الأذى بإذن الله. ذلك منطوق الآية العظيمة، فتدبري .. ! {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]؛ أي أنه تمييز لك، ورفع وتكريم، وتنزيه أن تشتبهي على الساقطين بالساقطات! خاصة في زماننا هذا، حيث صار جسد المرأة سلعة معروضة في سوق العولمة الدولي، وإنما (العولمة): هي حركة تهويد العالم، حركة صارت المرأة فيها جسداً بلا روح، جسداً للاستهلاك الجنسي الساقط، ملء شوارع العالم، وتلفزيوناته.
أيتها المسلمة! إنك مسلمة، فتستري! ادخلي رباط الصلاح والفلاح، واجعلي عفافك عنوان هويتك! كذلك يقول دينك العظيم، فقولي ملء العالم كله:(أنا محجبة إذن أنا موجودة!) وإلا فعلى دينك السلام!
قال جل وعلا في تفصيل أحكام ذلك: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
هذا حكم الله، وهو حكم من الرتبة التشريعية الأولى، قوته الإلزامية تأبى التأويلات الفاسدة، والتحريفات المغرضة؛ ولذلك أنذر النبي صلى الله عليه وسلم العاريات إنذاراً رهيباً، فقال صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَهُمَا؛ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) (1). ذلك الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ} [يونس:32].
قلت: ذلك حكم الله، لمن رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً ورسولاً، فتدبري -بنيتي- هذه الآية العظيمة ثم أبصري! قال الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. اقرئيها ثم اقرئيها
…
! وتدبري ثم أبصري!
اليوم تدور حرب حضارية كبرى، هذا قدر زماننا، فإما أن نكون فيه -كما يجب أن نكون- أو لا نكون!
العري هزيمة! والعفاف خطوة كبرى في طريق الانتصار،
(1) رواه مسلم.
ومن هنا جاء فرض الحجاب في القرآن، وفي القرآن نفسه قبل سواه، وما نزل القرآن بحكم إلا كان أمراً جليلاً، وعزماً مبيناً، وكان هتكه جرماً عظيماً. فالستر يا بنيتي -لو تبصرين- جمال وجلال.
لباسك الشرعي أيتها الأخت المؤمنة هو -مع كل ما ذكر بهذه الرسالة مما سوى المسجد- ميزان وفائكِ العهدَ مع الله، ومدى التزامك بميثاقه. فتكاليف الدين ليست خاصة بالرجال، بل هي عامة في النساء والرجال على السواء، كل ما عليهم عليك، وكل ما لهم لك، إلا ما استثناه الدليل، قال تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض} [آل عمران:195]، إن الدين عهد، وإن الإسلام بيعة، تعلقت بأعناق المسلمين من الرجال والنساء جميعاً، فإما وفاءً، وإما نقضاً والعياذ بالله! ويوم الحساب الكوني قريب! ومن هنا كان لباسك الشرعي -بنيتي- يشكل جزءاً جوهريّاً من (بيعة النساء)، كما جاء مفصلاً في حديث عبد الله بن عمرو قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى!» (1)، ذلك
(1) رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات.
عهد الله، فهل وفَّيْتِ؟ وذلك ميثاقه الذي واثَقَكِ به فهل صدقتِ؟
لباسك رباطك بنيتي، فنجاح بلاغات القرآن على يديك التزاماً ودعوةً؛ إنما هو به ومن خلاله، فانطلقي سيراً إلى الله طوعاً! واعتصمي ببصيرة الصبر العظيمة، وهي قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
فلباسك الشرعي، أي: جلبابك الفضفاض، الذي لا يصف ولا يشف، إنما هو راية دعوة وجهاد لو تعلمين! إنه ناطق بكثير من المعاني، إنه يعلن للعالمين أن المرأة المسلمة ليست مجرد جسد للتجارة، في أسواق السياسة والإعلام! إنها نفس إنسانية تَسْبَح في فلك الأمانة الكونية التي حملها الإنسان، تؤدي وظيفتها الحقيقية، عمارة في الأرض على المنهج الرباني، والتكليف الرسالي، تحمل بلاغات القرآن، في طريقها إلى الله، سائرة على أثر الأنبياء والصديقين والشهداء، من القرآن إلى العمران.
تبصرة: وأما المفتاح الثالث فهو تبليغ الرسالات:
وتبصرة هذا المفتاح هو: جواب (كيف البلاغ؟) أما تأصيله فقد سبق تقريره بقواعده، في تبصرة البلاغ الخامس، من بلاغات الرسالة القرآنية، وذلك ما جعلناه (في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
تبصرة: كيف البلاغ؟ ليس البلاغ اليوم في المسلمين بلاغ (خبر) هذا الدين، فذلك أمر قام به الأولون، وما بقي اليوم صقع في الأرض لم تبلغه قصة الرسالة الإسلامية، على الجملة، ثم إنما المقصود بمشروعنا هذا هو دار الإسلام، هذا العالم الإسلامي الذي لان فيه التدين، وضعف فيه التمسك بالكتاب، مع أنه يتلوه -أو يتلى عليه- كل حين.
إنما المسلمون اليوم في حاجة إلى (إبصار)، إبصار الحقائق القرآنية التي تتلى عليهم صباح مساء، وهم عنها عمون، على نحو ما وصف الله سبحانه في قوله:{وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، وقوله سبحانه:{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]. فالبلاغ الذي نحن في حاجة إليه إنما هو بلاغ (التبصير)، لا بلاغ التخبير.
وأما مادته فما ذكرناه من أصول الرسالة القرآنية، وبلاغات القرآن: من اكتشاف القرآن العظيم، والتعرف إلى الله والتعريف به، واكتشاف الحياة الآخرة، واكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات، وحقيقة الدعوة إلى الخير، وحكمة اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً، ومفاتيح ذلك كله في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما وسيلته فأصول وفروع، أما الفروع فلا تنحصر،
وإنما الشرط فيها عدم نقض أصولها، ومعلوم في قواعد الأصول أن (كل فرع عاد على أصله بالإبطال فهو باطل).
وأما الأصول فأحسب أن مدارها على أمرين: سقي وتجذير. وقد سبق لنا بيانهما في ورقتنا الدعوية: (نظرية السقي المِرْوَحي والتجذير المتعدد الإنبات)(1)؛ والمقصود بالسقي المروحي: استعارة حركة آلة السقي المروحية في المجال الزراعي، التي ترش الماء على المزروعات بصورة شمولية، ترش على كل ما حولها من جميع جهاتها، في حركة دائرية دائمة، وذلك هو حال المؤمن في حركته الدعوية، يدور مع كلمة الخير حيث دارت، يسقي بها كل من لقيه في طريقه، وكل من اتصل به، في أي ظرف من الظروف، (يبَصِّر) الناس بحقائقها؛ واعظاً، وخطيباً، ومتحدثاً، ومحاوراً، ومناقشاً، ومناظراً، وكاتباً، وقائماً، وقاعداً، وراجلاً، وراكباً، وفي المسجد، وفي السوق، وفي المكتب، وفي الجامعة، وفي المدرسة، وفي المستشفى، وفي الشارع
…
إلخ. فلا يزال مستنيراً بقاعدة القرآن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، ذلك سقي مروحي.
(1) تلك كانت ورقة دعوية سبق لنا إعدادها بعنوان: (نظرية السقي المِرْوَحي والتجذير العشري)، طلباً للعدد:«عشرة» في تنظيم جلسات التربية لمقاصد حركية، ثم عدلنا عنه لما تبين لنا من ضرورة تأميم الدعوة من جهة، ومن أن حصر العدد في عشرة فيه نوع من التحكم غير المشروع؛ فعبرنا بـ (التجذير المتعدد الإنبات) بإطلاق، وإنما الموفق من وفقه الله.
وأما التجذير فهو غرس جذور المقبلين على الخطاب القرآني وبصائره، المستزيدين من حقائقه. وإنما التجذير المفيد هاهنا هو (التجذير المتعدد الإنبات)، ذلك أن جذور النبات والشجر على نوعين: نوع مقتصر في وظيفته على نبتة واحدة، أو شجرة واحدة؛ إمداداً عموديّاً بالماء والغذاء، ونوع ثان له طبيعة متكاثرة متناسلة، بحيث تتعدى وظيفته إمداد شجرته أو نبتته؛ إلى إنبات شجرة أخرى جديدة، أو إخراج نبتة أخرى جديدة، بصورة أفقية، تتكاثر شجراً، أو نباتاً متناثراً هنا وهناك، فمثال ذلك في الشجر: القصب والصفصاف ونحوهما، ومثاله في النبات: النجم البري، وكذلك النجم الرومي الذي تزين به اليوم الحدائق العامة. فمثل هذه الأشجار والنباتات بمجرد ما تضع لها في التربة جذراً واحداً وتسقيه بماء حتى يقوم بوظيفتين: الأولى أنه ينبت نبتته الخضراء، والثانية: أنه يسرح تحت الأرض ليفتق التربة في مكان آخر، بنبتة أخرى جديدة. ويتكاثر ذلك بصورة متوالية؛ حتى يخضر المكان كله، ويفيض بالنبات، أو الشجر، كذلك المؤمنون المستجيبون لبلاغ الرسالة القرآنية، فإنهم تمد لهم جذور التربية في تربة الرباطات، ويسقون بعد ذلك بماء المجالسات.
ويمكن أن يربطوا بهذه قبل تلك، لا حرج عليك بأيهما بدأت، حسبما تيسر لك، لكن بشرط أن يؤول الغرس في
النهاية إلى تربة المسجد، إذ يجب أن تعلم أن رباط المسجد هو غاية الوسائل ووسيلة الغايات، وأن المجالس إنما هي سِقاؤه. ولطالما تباهت التنظيمات والحركات بكثرة خلاياها وأعدادها، وليس لها من رباط المسجد نصيب، فلا يمضي من الزمن إلا قليل حتى ترتد تلك الجموع على أدبارها، وتتساقط لقىً مهملاً بين المقاهي والملاهي!
المسجد هو أساس عَدِّكَ وإعدادك، فاغرس برياضه (رُبُطاً)، واجعل منها نسل دعوتك، ثم اجعل جلسة القرآن لها مدرسة، تغذيها وتنميها، وابن على ذلك في منهج التبصير بحقائق هذا الدين؛ بعثاً وتجديداً! فبذلك -وبذلك فقط- تبنى الصفوف، لمن رام الدعوة إلى الله على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السقي والتجذير مصطلحان زراعيان استعرناهما للتمثيل والتقريب، وإنما ذلك ما عبرنا عنه من قبل في كتابنا (التوحيد والوساطة في التربية الدعوية) (1) بـ (الأرقمية) و (المنبرية)؛ فـ (الأرقمية): نسبة إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، بدار الأرقم بن أبي الأرقم، قبل الهجرة، (والمنبرية): نسبة إلى منهجه صلى الله عليه وسلم الخطابي، الذي عرف من على منبر المدينة، والحقيقة أن المنبرية والأرقمية منهج متكامل، لا يستغني أحدهما عن الآخر؛ فالمنبرية هو ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم أول الأمر، لما صعد
(1) انظر التوحيد والوساطة في التربية الدعوية للكاتب، الجزء الأول، نشر وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة. العدد:(47).
الصفا وخطب منذراً. فمن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحا! فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد!» قال أبو لهب: تبّاً لك. ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]» (1)، ثم استمر هذا المنهج في المسلمين بعد الهجرة، إذ صار منبره صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة رمزاً لمنهج السقي المروحي، داخل المسجد وخارجه.
وأما الأرقمية فقد كانت في المرحلة المكية تحتضن كل من أجاب الخطاب المنبري، فتجذره بتربة المجالس بدار الأرقم، أو بشعاب مكة وجبالها، فتلك المجالس هي التي آلت بعد الهجرة إلى المسجد؛ مجالسَ للذكر وصلوات، ذلك المنهاج النبوي الحق إن شاء الله. وإنما الموفق من وفقه الله.
…
(1) متفق عليه.