الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبصرة
في قصة بلاغ الرسالة القرآنية
سألني أحد المحبين يوماً، قال: كيف نجدد ديننا؟
قلت:
سؤالان كبيران، يرتبطان بوجود الإنسان في الكون، ويحددان مصيره فيه، لكن قلما نضعهما -نحن المسلمين- اليوم على أنفسنا؛ لأنا نزعم أننا نعرف الجواب بداهة. فهل حصل لك -يا صاح- أن جردت نفسك من نفسك وسألتها يوماً كأنها شخص آخر:
السؤال الأول: هل تعرفين الله؟
السؤال الثاني: هل تعرفين القرآن؟
المشكلة هي أننا عندما نكتفي بـ (نعم) نكف عن البحث، وننقطع عن السير في طريق المعرفة الربانية، واستكشاف هذا القرآن العظيم!
افرض إذن أنك -مثلي- لا تملك الحقيقة كاملة، ولنتابع البحث معاً:
ألسنا مسلمين؟ ألسنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ بلى طبعاً، هذا شيء حسن، فدين الإسلام الذي هو باب النجاة يوم القيامة إنما ينبني بعد الإيمان بالله على شهادة أن محمداً رسول الله، هذا بدهي، ومعلوم من الدين بالضرورة، نعم، ولكن تأمل: عبارة (رسول الله) هذا الوصف للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، هو مناط الدين، الذي قال عنه الله عز وجل:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فكل الإسلام قائم على شهادة أن محمداً رسول الله، فنتج عن هذا الوصف (رسول) أن الدين كل الدين -أعني الإسلام- هو عبارة عن (رسالة)، وهذا شيء عظيم جدّاً، ندرك رسمه، وقلما نبصر حقيقته. وإليك البيان:
عندما نقول: (محمد رسول الله) فإن الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية كلتيهما تقتضيان أن محمدا بن عبد الله قد جاء برسالة معينة، أي أنيطت به مهمة، يقوم بتبليغها، فكان بذلك (رسولاً)، ولولا ذلك لما كان له شأن في الكون ولا في التاريخ.
آه، ما زلتَ تحدثني عن البدهيات، والمعلومات البسيطة ..
عفواً، عفواً، اصبر علي قليلاً .. فلعل عدم تأملنا لهذا الذي نسميه (بدهيات)، أو معلومات من الدين بالضرورة، هو سبب شرودنا بعيداً عن حقائق الإسلام.
قلت لك يا صاح: الرسالة -أي رسالة، مهما كانت- لها أربعة أركان هي:
الأول: المرسِل؛ وهو من قام بإرسال الرسالة.
والثاني: المرسل إليه، وهو الطرف المعني بها والمخاطب بفحواها.
والثالث: الرسول، وهو حامل الرسالة المبلِّغ لها، بتكليف من المرسل.
ثم الرابع: وهو الخطاب المرسَل وهو مضمونها؛ أي متن الرسالة، ونصها اللغوي الحامل لمقاصد مرسلها.
وهذا كله لو تدبرت منطبق على الإسلام من حيث هو رسالة.
فالخلاصة إذن؛ هي أن الإسلام: رسالة، مضمنة في متنها؛ أي في خطابها الحامل لمضمونها الرسالي، وهو القرآن الكريم، الذي هو متن الرسالة، ثم السنة النبوية التي هي ملحقها الشارح؛ تلك هي أول مراتب {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، لو تدبرت قليلاً.
إنك لو قرأت القرآن بهذا المنطق لوجدت عجبّاً!
فسؤالك يا صاحبي يقوم على استيعاب هذا المعنى أولاً، أعني أن تجديد الدين يقوم أساساً على تبين ما {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ؟ ثم كيف الاستقامة عليه؟ وبغير ضبط (الحقيقة الرسالية) للقرآن فلا ضمان أن تكون محاولات التصحيح خارج {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . وليس عبثاً أن يكون ذلك هو دعاء المسلم في كل صلاة، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل، اصبر عليّ يا صاح، واقرأها الآن مرة أخرى، اقرأها فأنت مأجور على كل حال إن شاء الله، اقرأها وتدبرها قليلاً؛ كلمةً كلمةً، ثم استأنف بعد ذلك قراءة هذا الكتيب:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6،7].
مهم جدّاً أن تستحضر في ذهنك ووجدانك؛ أن القرآن يخبرنا عن نفسه؛ أنه رسالة، جاءت تحمل (الهداية) للناس الحيارى -وكل الناس لولا الدين حيارى- ويرسم لهم معالم الصراط المستقيم، فتدبر قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:52،53].
وهنا فقط ندخل إلى صلب الموضوع:
إن الشعور بالمعنى الرسالي للقرآن، إنما يتحقق لك على المستوى النفسي؛ إذا تصورت طبيعة الوجود البشري، ذلك أن الإنسان إذ جاء من عالم الغيب، قد أحاطت به حجب عالم الشهادة ففقد الاتصال بأصله الغيبي؛ إلا ما كان من نداء الفطرة الخفي في قلبه.
إن ميلاد كل شخص من بطن أمه، ونزوله إلى الدنيا؛ هو كنزول آدم عليه السلام، من الجنة في عالم الغيب؛ إلى الأرض في عالم الشهادة، حيث تبدأ حجب الحياة الدنيا تنسج على الإنسان غلائل النسيان وتغرقه في جزئياتها اليومية، فيضرب بعيداً عن استشراف السماء مرة أخرى. ومن هنا اقتضت رحمة الرب العظيم -وهو الرحمن الرحيم- أن يرسل الرسل إلى الناس: أنْ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21،22].
جاءت الرسالة من عالم الغيب لتربط الإنسان بأصله الحقيقي، ولتشعره بسعة الكون، وربوبية الخالق عز وجل، المحيطة بكل شيء، ثم لتعلمه بقصته كاملة من النشأة حتى المصير، وما له في ذلك كله وما عليه، فجاء القرآن لذلك في
صورة (بلاغ) رباني، هذا مصطلح مهم؛ للتعرف على طبيعة القرآن: إنه (بلاغ) فيه دلالة عميقة على (قصد التبليغ) لمضمون الرسالة؛ حتى يتم العلم بها على التمام عند من قُصِدوا بالتبليغ والإعلام. ذلك أن (البلاغ) في العربية يرد بمعنى (التبليغ والإبلاغ)، جاء في لسان العرب:(والبَلاغُ: الإِبْلاغُ. وفي التنزيل: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الجن:23]؛ أَي لا أَجِدُ مَنْجى إِلا أَن أُبَلِّغَ عن اللهِ ما أُرْسِلْتُ به، والإِبلاغُ: الإِيصالُ، وكذلك التبْلِيغُ، والاسم منه البَلاغُ)(1)، ومن هنا كان (البلاغ القرآني) جامعاً للمعنيين معاً: البيان والتبيين، فهو (بلاغ)؛ أي بيان إعلاني في نفسه، يوصل إلى الناس بنصه مجموعة من العقائد والمبادئ، وهو (بلاغ) أيضاً: أي تبيين رسالي من حيث هو حركة في المجتمع، يقوم بها الرسول ومن ينوب عنه من الدعاة، والعلماء المصلحين؛ لتبليغ مضامينه وإيصال نصه إلى الناس أجمعين؛ حتى تشمل الرسالة كل العالمين؛ ومن هنا قوله عز وجل:{هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [(إبراهيم:52].
- إنه بلاغ قادم من عالم الغيب، من فوق سبع سماوات، إلى عالم الشهادة، إلى الإنسان المتحرك فوق هذه الأرض،
(1) لسان العرب: مادة (بلغ). طبعة دار صادر، بيروت.
وبين العالمين مسافة رهيبة، لا يستطيع العقل استيعابها، مهما أوتي من قدرة على الخيال. فجاء القرآن رسالة تعبر تلك المسافات كلها لتلقي على الإنسان خطابا ربانيا عظيما، يحمل قضايا محددة، قصد (إبلاغها) للإنسان، قضايا أو إن شئت فقل:(بلاغات) هي مناط مسؤوليته، ووظيفته في الأرض. يمكن أن نلخصها في سبعة بلاغات، أرجو أنها أصول لما سواها من مقاصد الإرسال الرباني.
ولقد كان أول هذه البلاغات هو القرآن نفسه، أعني أن أول ما جاء القرآن ليبلغه إلى الناس هو هذا المعنى الرسالي للقرآن؛ حتى لا يقرأه أحد أو يستمع إليه، بعيداً عن هذه الحقيقة الكونية الكبرى؛ فلا يستفيد من بلاغاته الربانية شيئاً.
إن أول ما يجب أن يعرفه الإنسان من القرآن هو طبيعة هذا القرآن، من حيث هو رسالة رب الكون، مرسلة إلى واحد من أهم سكان الكون: الإنسان أنت يا صاح، وأنا، وكل إنسان .. فكان ذلك هو البلاغ الأول للقرآن .. فتدبر! ثم أبصر!
***