المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البلاغ الرابعفي اكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات - بلاغ الرسالة القرآنية

[فريد الأنصاري]

الفصل: ‌البلاغ الرابعفي اكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات

‌البلاغ الرابع

في اكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات

لو أدرك المسلمون اليوم ما معنى (الصلاة)؟ ما تركها واحد منهم، إلا من أصر على ضلاله وعماه، أو كزّ على كفره وزندقته!

تبصرة:

أما أنت يا صاح فاعلم أن السير إلى الله من غير مسلك الصلاة ضرب في التيه!

كل أعمالك في الجهاد، والدعوة إلى الله، وما تستكثره من حركات وسياسات؛ راجعة إلى مدى سلامة هذا الأصل عندك؛ قصداً، ووقتاً، وأداء، وإلا فعلى دينك السلام! {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].

ص: 107

إنك لن تذوق ما الإيمان وما الإسلام؛ حتى ترحل إلى الصلاة: تكتشف أسرارها، الممتدة إلى بحر الغيب المطلق؛ فترى عجباً .. ذلك هو البلاغ الرابع من بلاغات الرسالة القرآنية، فهي نتيجة فعلية لكل من تلا القرآن حق تلاوته، إنها أول ما يبادر إليه المحب أول ما يتذوق معنى المحبة؛ إذ يتعرف على جمال الله من خلال القرآن الكريم؛ ومن هنا أمره عز وجل بالصلاة؛ مباشرة بعد أمره تعالى بالتلاوة، على سبيل العطف المباشر، المشعر بالتساوي بين الفعلين، مما يوحي بانعدام الفرق الزمني بينهما؛ لما بين الاستجابتين من ارتباط وثيق، إن من تعرف على القرآن الكريم حقّاً لا يملك إلا أن يصلي، قال تعالى:{اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

ومن هنا كان أول عمل من العبادات قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله وتوحيده- هو الصلاة، وهي أول عمل تعلمه من تطبيقات القرآن، وهذا أمر مهم جدّاً في معرفة ما يبتدأ به من أمر البلاغ. قال عليه الصلاة والسلام:«أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه» (1). ذلك أول العمل، كما هو ظاهر هذا الخطاب:(في أول ما أوحي إلي)،

(1) رواه أحمد والدارقطني والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (76).

ص: 108

الوضوء والصلاة، ولهذا دلالة كبرى في معرفة البدايات والأصول العمليات، ولم يزل ذلك مرافقاً لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يزداد مع الأيام إلا ترسخاً في الدين، وما تنزل القرآن بعده إلا بما يؤكد أنه أساس الغايات، ومنتهى العبادات.

وتأمل كيف أن الله جل جلاله أفرد (إقام الصلاة) بالذكر -في بناء المنهج الإصلاحي- بعد ذكر التمسيك بالكتاب، مع أن الصلاة فرع عن التمسيك بالكتاب، وداخلة في معناه، فلولا أنها أساس، وأم من أمهات البلاغ القرآني، ومنطلق من منطلقات الصلاح والإصلاح؛ لما كان لها ذلك التفريد الفريد، قال عز من قائل:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170].

إن العلماء يجمعون على أن الوظيفة الوحيدة للإنسان في الكون هي عبادة الله، فكل حظوظه الدنيوية إنما هي منجرة بالتبع مع أصل العبادة، وإنما أتيح له أن ينال من حظه ما يعينه على وظيفته الأساس، وأصل ذلك ومستنده قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

إن خلاصة دين الإسلام عقيدةً وشريعةً: هي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، والصلاة منه هي مفتاح كل شعيرة من شعائره، وروحها، وغايتها؛ زكاةً، وصياماً، وحجاً، وجهاداً

إلى آخر ما تفرع عن هذه وتلك من سائر أعمال

ص: 109

البر، ولذلك كانت الصلوات الخمس -بعد الشهادتين- هي العنوان الجامع المانع لكل أعمال الإسلام. إذ كل ما سواها داخل في معناها. وليس عبثاً أن يعتبرها الرسول خير أعمال المسلم، قال صلى الله عليه وسلم:«سددوا وقاربوا» وفي رواية: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» (1).

ولقد فصلنا هذا في غير هذا المكان من كتبنا (2)، لكنا نقتصر هاهنا على ما يفيد السياق.

لقد جعل الله الصلاة هي آية المسلم، والعلامة الجميلة التي تميزه في مسيرة التاريخ النبوي، فهي الفصل الذي لا يعرف إلا به، والنور الذي لا يمشي إلا به، قال عز وجل:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، وإنما اكتسبوا صِفَتَيْهم الأوليين: الجهادية: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} ، والخلقية:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ؛ من كونهم رهباناً بالليل، أي قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا

(1) رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، والدارمي والبزار، والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم:(952).

(2)

ن. كتابنا: قناديل الصلاة. دار السلام، القاهرة.

ص: 110

سُجَّدًا} [الفتح:29] الآية؛ لأن ذلك هو المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم الصادق المجاهد الداعية إلى الله؛ بصدق التوجه والسير، من حيث إن قوله تعالى:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29]، فيه إشارة إلى أن ذلك هو دأبهم وحالهم المستمر في حركتهم التعبدية؛ إذ التعبير باسم الفاعل جمعاً:{رُكَّعًا سُجَّدًا} ، في سياق الفعل المضارع:{تَرَاهُمْ} ؛ يوحي بصورة حية لقافلة المؤمنين، وهم منخرطون في حركة الصلاة المتواترة، من غير فتور أو انقطاع، سيراً مستمراً حتى كان ذلك صفة ثابتة لهم، حيثما تراهم، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} .

ولذلك كان تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في حياة المسلم التعبدية بالنهر الجاري، قال:«أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا» (1).

إن الإسلام في نهاية المطاف هو الصلاة، بالمعنى الذي سبق بيانه؛ وعلى هذا الوزان تُقَوّم أعماله كلها يوم القيامة، وعلى ذلك يتحدد مصيره الأخير .. ! قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحاكم الحاسم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة! فإن صلحت فقد أفلح

(1) رواه مسلم.

ص: 111

وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر! وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك» (1).

وأوضح من هذا دلالة على ما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» (2)، فليس عبثاً إذن أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مراتب أعمال ابن آدم، على سبيل ترتيب الأولويات:(أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله)(3)، إن الأمر جد، فتدبر! ثم أبصر!

وما بقي لمسلم تَرَك الصلاةَ من إيمانه إلا ما لا يخلده في النار، لا ما ينقذه منها بإطلاق، قال صلى الله عليه وسلم:«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (4)، وقال أيضاً:«بين الكفر والإيمان ترك الصلاة» (5)، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:«ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك» (6)، وهذه

(1) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:(2020).

(2)

رواه الطبراني في الأوسط، والضياء عن أنس. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:(2573).

(3)

متفق عليه.

(4)

رواه مسلم.

(5)

رواه الترمذي بسند صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير:(2849).

(6)

رواه ابن ماجه بسند صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير: (5388).

ص: 112

الأحاديث وما في معناها تقتضي أن المسلم التارك لصلاته قد شابه الكفار في صفاتهم، فكفر عملاً وإن سلم عقيدة؛ لأن المسلم إنما يتميز بصفة الصلاة التي هي عنوان إسلامه -كما بيناه قبل- فمن فَقَدَ عنوانه فَقَدَ هويته.

ولنعد إلى جمال القرآن الكريم، ذلك أن الله تعالى إذ يصف فلاح المؤمنين؛ يذكر الصلاة باعتبارها أول وسام نوري -بعد الإيمان- يشع من قلوبهم، وهو أمر يكاد يكون مطرداً في كل آي القرآن العظيم، يقول المولى الكريم في أول سورة البقرة:{الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:1 - 3]، ومن أجمل ما ورد في ذلك فاتحة سورة (المؤمنون)، إذ جعل الله أول صفاتهم الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة على الصلاة، وكل أعمال الصلاح من فعل الخيرات وترك المنكرات؛ جعلها فيما بينهما، فاقرأ وتدبر .. واحفظها واحدة واحدة:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].

ص: 113

فالخير كله فاتحته الصلاة، والخير كله خاتمته الصلاة، والخير كله غايته الصلاة، والخير كله وسيلته الصلاة.

تبصرة: والصلاة تَرْكٌ كما هي فِعْلٌ:

إن كنت تصلي حقّاً؛ فأنت تارك لكل منكر من الكبائر والموبقات! من مثل الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وكذا تناول المحرمات من المطعومات والمشروبات، كأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وشرب الخمر أم الفواحش، وسائر المسكرات والمخدرات، والسقوط في المحرمات من المعاملات والملبوسات، كالكبر، والظلم، والغصب، وشهادة الزور، وأكل أموال الناس بالباطل، والقمار، وسائر المنكرات!

فتدبر كيف أن الله جل جلاله ذكر في سياق صفات الفلاح -مما أوردناه قبل من فواتح سورة (المؤمنون) - عدداً من الأفعال والتروك، كان جانب الترك فيها أكثر حضوراً، باللفظ أو بالمعنى، كما في (الإعراض عن اللغو)، و (حفظ الفروج) الذي هو في معنى النهي عن الزنى، والنهي عن كل مسالكه وأسبابه، و (رعي الأمانات والعهود)، الذي هو في معنى النهي عن الخيانات بشتى أنواعها، وهذا شيء مهم جدّاً، ذلك أن الصلاة كما ذكرنا ترك من التروك.

ص: 114

وجامع ذلك كله قول الله ذي الأسرار والأنوار: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. هل أبصرت هذه الآية؟ أبصر إذن كيف أن الله تعالى أسند فعل النهي للصلاة نفسها! كأنها هي ذاتها شخص معنوي، في هيأة نبي مرسل يؤدي مهمته التبليغية، أو عبدٍ مصلح يقوم بوظيفته الإصلاحية! أعد التلاوة وتدبر:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45] عجيب! لأن معنى (أن تصلي): هو أن ترحل عن خطاياك إلى الله .. تخرج من دركات العادة إلى درجات العبادة، وهذا كلام يعبر عن حقائق لا يعلم مدى عمقها في النفس إلا الله! إذ تتحول الأذواق وتتبدل، يتغير طعم المنكر في قلبك فلا تستحليه. ويتبدل ذوق شهوات الحرام من الرغبة إلى الغضبة! وتصبح خلقاً آخر! أبصر ثم أبصر! فإن الصلاة تصنعك! نعم، إنها {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45].

هل غلبتك الفاحشة ولم تستطع التخلص منها؟ هل أنت مدمن على خطيئة ما؟ دواؤك واحد: صَلِّ! تقول لي: إنني أصلي .. لا، لا! صلِّ! فإنك لا تصلي! {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، صلِّ؛ تجد أن ما كان يأسرك من المحرمات بالأمس، ويملأ عليك قلبك نزوةً ورغبةً،

ص: 115

فلا تستطيع التخلص منه؛ هو من أبغض الأشياء إليك اليوم! إن القرآن سيف قاطع، إذا قطع القول في حقيقةٍ فلا مراء بعدُ إلى يوم القيامة! ولقد قال الحقُّ كلمتَه، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32].

إن الصلاة سفر من الأرض إلى السماء؛ فأنى لمنازل السلام أن تصطدم بنوازل الحرام؟ أبداً، لا شهود للدرجات في نتانة الدَّرَكات!

تبصرة:

ومن أعجب العجب أن ألزم الله جل جلاله المسلمين بالصلاة إلزاماً؛ حتى في أحرج الظروف وأخطرها: الحرب .. قال جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ. فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238،239].

فقوله سبحانه: {فَإنْ خِفْتُمْ} يعني في حال الحرب وانعدام السلم والأمن، سواء لحظة الاشتباك أو لحظة الترقب، وقوله:{فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} ؛ أي فصلوا (صلاة الخوف) باصطلاح الفقهاء. وهي عندهم: الصلوات الخمس إذ تؤدى في ظروف الحرب. فتؤدى {رِجَالاً} ، أي: على أرجلكم، واقفين أو سائرين، أو {رُكْبَانًا} ، أي: راكبين خيولكم، أو دباباتكم، ومصفحاتكم.

ص: 116

وقد فصل الفقهاء، والمفسرون، وشراح الحديث؛ صور صلاة الخوف وأشكالها؛ بناء على قوله تعالى:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَاتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا. فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَانَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء:102،103].

فماذا بقي لك بعد هذا يا صاح من الأعمال الحادية إلى باب الله؟ وها أنت ترى الصلاة أساس السير على كل حال، منشطاً ومكرهاً؟ فأبصر!

ولصلاة الخوف صور كثيرة معروفة في كتب السنن وكتب الفقه، وإنما الغاية عندنا هاهنا العبرة من الأحكام لا أنفس الأحكام. وذلك أن الله عز وجل طلب من المسلم الصلاة على كل حال ما دام عقله سليماً، لا ينقصه جنون أو إغماء أو ما في معناهما.

وأحب هاهنا يا صاح -وأرجو أن تصبر علي قليلاً- لتعرف حجم هذه الفريضة التي ضيعها كثير من الناس اليوم، ولتعرف

ص: 117

حجم الخسارة الواقعة بما ضيعوا؛ أن أعرض لبعض الفقه في صلاة الخوف، ليس لذات الفقه، ولكن لبيان خطورة هذه العبادة في الدين، ومقامها عند رب العالمين. جاء في حاشية السندي على النسائي: (قال النووي: روى أبو داود وغيره وجوهاً في صلاة الخوف يبلغ مجموعها ستة عشر وجهاً. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها متفقة المعنى.

قال الإمام أحمد: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون كلها في مرات مختلفة، على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه) (1).

قلت: ومن أحرج الوجوه في صلاة الخوف ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا

(1) حاشية السندي على النسائي: (3/ 168)، لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندي، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب. ط. الثانية:(1406 هـ/1986 م) تحقيق: الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.

ص: 118

فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين) (1).

ومن ذلك ما رواه البخاري أيضاً؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:(قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً)(2).

ولعل أحرج صورها على الإطلاق أن يصليها كل واحد لنفسه ركعة واحدة بالإيماء، وذلك أنه إذا اشتد الخوف، كما هو الحال عند المسايفة، ونحوها من الاشتباك في القتال، يصلي كل واحد لنفسه ركعة واحدة، راكباً أو راجلاً، مقبلاً ومدبراً.

قال القرطبي في تفسيره: (واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب، وشدة القتال، وخيف خروج الوقت، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن؛ لقول ابن عمر: «فإن كان خوف أكثر

(1) رواه البخاري.

(2)

رواه البخاري.

ص: 119

من ذلك فيصلي راكباً أو قائماً يومئ إيماء» قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها) (1)، وهذه من عجيب صورها. فانظر رحمك الله، هل يبلغ شيء من أعذار الناس اليوم ما ذكره العلماء من الشدة والحرج في القتال، ولم يروا مع ذلك رخصة في تركها، أو تأخيرها عن وقتها؟

فعجيب أمر هذه العبادة العظمى .. لا تبرأ ذمة المسلم منها حتى يؤديها، وقد جاء تأكيد ربطها بالوقت في ظروف الحرب كما قرأت؛ حتى لا يؤخرها مسلم عن وقتها الذي فرضها الله فيه، فالحرب، بل الاشتباك في المعركة، أي ما يسمى قديماً بـ (المسايفة)؛ ليس عذراً لتأخير الصلاة عن وقتها، بله أن يكون عذراً لتركها. وإنما هو يؤثر فقط في شكل أدائها لا في إسقاطها، أو إخراجها عن وقتها، صلّ على أي حال كنت، وخذ حذرك! {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، في السلم وفي الحرب سواء!

تبصرة:

فإلى الذين يرابطون في أسواق التجارات، أو يرابطون في أسواق السياسات والنقابات، ويفرطون -أو يتكاسلون-

(1) تفسير القرطبي، المسمى بالجامع لأحكام القرآن:(5/ 369)، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، نشر دار الشعب، القاهرة. ط. الثانية:(1372)، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني.

ص: 120

في أداء الصلوات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ إليكم المفهوم النبوي للرباط! .. قال صلى الله عليه وسلم في سياق التنبيه والترشيد:«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة .. فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» (1).

إنه تفسير نبوي لقول الله تعالى في محكم البلاغ القرآني: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].

يا حسرةً على العباد! لو يدركون ما هذه الصلوات؟ ويا حسرة ثم يا حسرة! على نابتة من أبناء الحركات الإسلامية، تعددت بهم السبل من هنا وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه الصلوات، خشوعَها ومواقيتَها وجمالَها؛ فصدق عليهم قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].

(1) رواه مسلم.

ص: 121

تبصرة:

وإن للسياسة والرياسة لشهوة لو كنتم تعقلون، وإن لأشعة الإعلام، وزينة الكاميرات لشهوة لو كنتم تتفكرون. تلك آية فاصلة بين نوعين من الأجيال، بينهما ما بين النور والنار من دلالة، فللآية رهبة عظيمة لو تدبرتها، اقرأها ها هي ذي كاملة، فتدبر:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا. فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:58 - 60].

فتدبر .. ثم تدبر عسى أن تدرك بذوقك ما هذه الصلوات في الإسلام؛ فتبصرها، وتركب أوقاتها؛ لتدور بفلك العابدين سيراً إلى الله العلي الكبير، فالصلاة هي العبادة التي تدخل من خلالها إلى نسق الكون، في صحبة الكائنات السائرات من النباتات إلى المجرات، لا فوضى ولا عصيان ولا تمرد، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، فأين أنت من المدار؟

ذلك نص البلاغ النبوي المستمد من وحي الله رب العالمين، فاختر لنفسك ما ينجيها إن كنت من العاقلين! {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104].

***

ص: 122