المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البلاغ الثالثفي اكتشاف الحياة الآخرة - بلاغ الرسالة القرآنية

[فريد الأنصاري]

الفصل: ‌البلاغ الثالثفي اكتشاف الحياة الآخرة

‌البلاغ الثالث

في اكتشاف الحياة الآخرة

هل تعرف: ما الحياة؟ .. هذا المعنى اللطيف الغريب العجيب، الذي يوصف به كل كائن حي في هذا الوجود، ما دامت نسمتها الغريبة تسري بجسده، حتى إذا فارقته تلك النسمة؛ فارق الحياة، أو بالأحرى فارقته الحياة؛ فصار ميتاً، ولم يعد معدوداً من أحياء هذا الكون.

مهم جدّاً أن تستحضر أن (الحياة) بكل ألوانها وتجلياتها مصدرها واحد: هو (الحي) سبحانه، فليس عبثاً أن يعلمنا الله بأن من أسمائه الحسنى هذين الاسمين العظيمين:(الحي) و (المحيي)، فهو الحي بذاته سبحانه، المحيي لغيره، ولا حياة لأحد سواه إلا بأمره. فسبحانه وتعالى من رب عظيم، وله الحمد في الأولى والآخرة.

وقد وصف الله جل جلاله (الحياة) في القرآن الكريم بصفتين

ص: 92

متقابلتين: الأولى: هي (الدنيا)، والثانية: هي (الآخرة)؛ وذلك نحو قوله تعالى: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ} [التوبة:38]، وقوله سبحانه:{وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ مَتَاعٌ} [الرعد:26].

فالحياة إذن طبقتان: الأولى: تنتمي إلى عالم الشهادة، وهي حياتنا هذه التي نحيى بها، والثانية: تنتمي إلى عالم الغيب، وهي الحياة الآخرة. وقد علمت أن الإيمان بالآخرة في الإسلام -من حيث هي (حياة) - ركن من أركان الإيمان الستة، التي وجب على كل مسلم أن يعلمها، ويؤمن بها. ولنبدأ الآن رحلة التدبر لهذا المعنى في الرسالة القرآنية.

ذلك أنه ما قُرِن بالإيمان بالله شيء -في الكتاب والسنة- مثل الإيمان باليوم الآخر، فهو أصل من أصول الرسالة القرآنية، ومقصد من مقاصد البلاغ الإلهي، وما كان ذلك ليكون لولا أن فيه حكمة ما، وهو ما نحاول اكتشاف بعض أسراره في هذه الإشارات بحول الله.

وأما الآيات فلنذكر منها أمثلة، تدل على ما سواها، فذلك في القرآن أكثر من أن يحصى لفظاً ومعنى، ونحوه قول الله تعالى في حق المؤمنين الصالحين من سائر الملل: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

ص: 93

وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، وقوله عز وجل في حق المنافقين:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]، وقال في حق أهل الكتاب الذين عرفوا الحق فأسلموا:{لَيْسُوا سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [آل عمران:113،114)، وقال في سياق التشريع: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} [البقرة:232]، وقال سبحانه في حق العابدين من عمار المساجد:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، وقال سبحانه في التنبيه على التأسي بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ومعلوم أن مثل هذا في القرآن كثير.

وأما السُّنة فقد تواتر فيها هذا المعنى بهذه الضميمة: (الإيمان بالله واليوم الآخر)، تواتراً معنويّاً كليّاً، فمن ذلك قوله عليه السلام:«فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر» (1)، وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان

(1) رواه مسلم.

ص: 94

يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت» (1)، وقوله أيضاً:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً ولا ذهباً» (2). ونحوه في السنة الصحيحة كثير جدّاً.

والغاية عندنا إنما هي بيان طبيعة هذه العقيدة في الإسلام، واكتشاف بعض أسرارها، إذ رغم أن المسلمين اليوم يؤمنون باليوم الآخر، إلا أن آثار ذلك في حياتهم قليل جدّاً؛ بسبب عدم الإحساس بحقيقته في وجدانهم، وضعف السير إليه، خلال آياته؛ لاكتشاف مشاهده الإيمانية، من خلال مشاهده القرآنية، فهو إذن عدم الإبصار، وهذا عمل إيماني وجب على كل مسلم أن يسعى لاكتسابه؛ حتى يجد ما وجد الصحابة من هذه الحقيقة القرآنية العظمى، ويلتقط واحداً من أعظم مضامين رسالة الله رب العالمين إلى الناس أجمعين.

إن الله جل جلاله يخبرك بخبر، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]! وافقه عن الله ما يقول، فإن الأمر يهم وجودك، ومصيرك أنت بالذات!

اقرأ، وأنصت، وتدبر قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى

(1) متفق عليه.

(2)

رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6509).

ص: 95

إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:24،25].

هاهنا لمفهوم (الحياة) حقيقتان: حقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الأخرى.

فأما الحياة الدنيا فأهم خصائصها الجوهرية أنها فانية، فهي محكوم عليها بـ (الفناء)، وقد ضرب الله لها في الآية السالفة مثلاً: وهو دورة الحياة والموت في الطبيعة، إذ ينزل ماء الحياة في فصل الخريف وفصل الشتاء، غيثاً يبعث النبات من أعشاب وزروع، فتبتهج الأرض بالربيع الزاهر، وتحتفل بموسم الجمال، أشجاراً وأطياراً وأنهاراً، وزخرفة تعلو الروابي والبساتين والسهول؛ فتكون أشبه ما تكون بالحسناء، المتزينة بشتى التلاوين وفنون التقيين؛ حتى تكون في أسحر أحوال الإغواء والإغراء! ذلك أن الزخرفة الصارخة تلقي على قلب الإنسان شباكاً سحرية، فتستوعب كل وجدانه وتفكيره، فلا يرى شيئاً بعد ذلك إلا من خلالها! حتى إذا جاء المصيف، وأنضجت الزروع حبوبها؛ كان الحصاد مآلها، فلا ترى لها في الأرض أثراً إلا هشيماً من حصيد! تماماً كما تتناثر أوراق الأشجار عند الخريف، لقىً ذابلاً، تذروه الرياح بكل البطاح!

ص: 96

فتعوي ريح الفناء بالوديان والقيعان، لتكنس كل أثر للحياة، وكأن الأشجار المتحطمة الأغصان، ما أورقت قط ولا أزهرت، وكأن الأطيار الراحلة في الأفق البعيد ما عششت هاهنا ولا غردت! {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} !

تبصرة:

ولنا في هذا المثال الرباني الحق عبرتان كلتاهما ترجع إلى حقيقة كونية عظمى، الأولى: تتعلق بمفهوم المكان، أي طبيعة بناء الكون، والثانية: تتعلق بمفهوم الزمان؛ أي طبيعة حركة العمر.

فأما الحقيقة الأولى: أي مفهوم المكان؛ فهو راجع إلى أن هذا البناء الكوني الممتد ما بين السماء والأرض؛ ليست له طبيعة خالدة؛ لأن تكوينه الابتدائي كان كذلك؛ أي أنه بني على هذا الوزان، وهو أن يحيا إلى حين، لا إلى الأبد، فكل المكان من حيث هو مكان قائم على مبدأ الفناء، فحركة أجرامه ومدارات فضاءاته، كلها سائرة إلى نهايتها، ومن هنا كانت حياة هذا الكون الحالي إنما هي (الحياة الدنيا)، فهي حياة، نعم، لكنها إلى حين، إنها (دنيا): أي قريبة الأجل، لا خالدة، ولا حتى ممتدة امتداداً طوليّاً حقيقيّاً، بالنسبة إلى امتداد (الحياة الأخرى).

ص: 97

وكم أخطأ الناس في هذا الزمان في فهم معنى (الدنيا)، إذ ظنوا أنها دالة على الجمال، والغنى والرفاه؛ حتى جعلوا من أسماء بناتهم (دنيا)، وما هذا التعبير بدال على المدح، بل له دلالة قدحية ناقصة، فالدنيا -بهذا السياق خاصة- من الدنو والدناءة، وهي معنى نازل لا علو له؛ ولذلك قيل لسيء الأخلاق: دنيء؛ أي له أخلاق منحطة قريبة من الأرض، فالدنيا: حياة قريبة من الفناء، لا لذة حقيقية فيها ولا متعة، ما دام كل شيء فيها إلى فناء. فهي دنيا.

ومن هنا سمت العرب أبناءها -قبل الإسلام وبعده- (خالداً) و (خالدة)، إذ رغبوا قبله في الخلود الدنيوي، وهو محال؛ لأن الضدين لا يجتمعان، ثم رغبوا بعده في الخلود الأخروي السعيد، وهو ممكن بإذن الله.

إن بناء الكون الدنيوي له ساعة ينهار فيها، ثم يفنى بإرادة الله، فلا يبقى شيء إلا الله الواحد الأحد، وهذه الساعة هي (الساعة) بتعبير القرآن، ذلك الحدث الكوني العظيم، سألتك بالله أن تتدبر قوله عز وجل:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا تَاتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، ذلك هو السؤال الأزلي: الساعة؟ فلم يزل الإنسان مذ كان يتوجس وقوعها، ويتحسس وقتها وحقيقتها، لكن الله جل جلاله أنبأه أنها سر من أسرار قضائه الكوني:

ص: 98

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ} [الأعراف:187]، وقد ورد في التفاسير أن العرب واليهود كانوا كثيري السؤال لمحمد صلى الله عليه وسلم عن الساعة، كانوا يسألونه ظانين أنه حفي عنها، أي كثير السؤال -مثلهم- لربه عنها، إذ لا يتصور في المرء إلا السؤال عن الغوامض الكونية. ولذلك قال قبل:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:187]، إنها حدث كوني عظيم، يمتد من السماء إلى الأرض. ليحدث ذلك التحول الرهيب في طبيعة الكون، تدميراً ثم تكويناً وإفناءً ثم خلقاً؛ لاستقبال الحياة الأخرى، وإن أمرها في ميزان الله لقريب.

ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1،2].

والساعة: هي القيامة، والواقعة، والقارعة، والصاخة

إلخ من الأسماء، التي عبر فيها الرب العظيم عن لحظة نهاية الكون الدنيوي، فالكون الدنيوي إذن تكوين ابتدائي، والكون الأخروي تكوين استئنافي، قال جل جلاله:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ

ص: 99

يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:19،20]، ولذلك قال تعالى:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:187] كما أوردناه قبل.

إن الساعة إذن؛ هدم وبناء: هدم لكون الدنيا، وبناء لكون الآخرة، إنها تحول كوني عجيب من طبيعة إلى أخرى، يحدث في لحظة واحدة، كاللمحة من البصر! كما في قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77]. وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50].

إن الكون الدنيوي خلق فان، ومعمار إلى زوال، هذه هي الحقيقة الأولى.

أما الحقيقة الثانية: أي مفهوم الزمان؛ فهو مرتبط في دلالته بالمكان، بل إنما الزمان وليد حركة المكان، فالمكان الفاني لا ينتج عنه إلا زمان فان. كما أن المكان الخالد لا ينتج عنه إلا زمان خالد. ومن هنا كان العمر البشري -مهما توهمنا أنه طال- قصيراً جدّاً. ويكفينا في ذلك حقيقة واحدة: هي أن الشهوات الدنيوية كلها، لذتها تنتهي ببدايتها! كل شوق إلى المزينات الدنيوية يموت بمجرد الحصول عليها، فلذة الطعام الشهي الجميل إنما تشعر بها

ص: 100

قبل أن تأكله، وعند بداية الأكل، ثم يبدأ بعد ذلك خط التلذذ في الهبوط حتى درجة الشبع، فالتخمة، حتى يصير اللذيذ بعد ذلك ممجوجاً قبيحاً، وقد كان قبل قليل في غاية اللذة.

وقس على ذلك كل المتع الدنيوية، مما زين للناس، من مثل الوارد في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. إن طبيعة الشهوات الدنيا أنها فانية، لا تكاد تبتدئ حتى تنتهي! وإنما جمال المتعة هو الخلود فيها. هذا هو الجمال الحق، وتلك هي الحياة الحق؛ ولذلك قال بعد مباشرة، ناسخاً قبح الزوال بجمال الخلود:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]. قضية العمر أو الزمان راجعة إلى هذا المعنى، فالفرق فيه ما بين الوهم والحقيقة؛ هو بالضبط فرق ما بين الفناء والبقاء.

وما أجمل قول الله الملك السلام، في آيتي (يونس) مما أوردنا قبل؛ للتدبر: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا

ص: 101

فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:24،25]. تدبر قوله في آخر الكلام: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:25].

- إنه معنى جميل جدّاً، فقد جاء مقابلاً لما ذكر من أمر الحياة الدنيا وزخرفها الفاني، ومآلها الحصيد. إذ كل ذلك موحٍ بالخوف والخراب؛ لأن دار الدنيا هي دار الخراب، فكل نفس تعلقت بها إنما تعلقت بالوهم، وهذه حقيقة رهيبة، تملأ القلب هولاً وفزعاً، إذا كان لهذا الإنسان القارئ، أو المستمع للخطاب الرباني قلب فعلاً، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، فمقابل ذلك الشعور بما صوره القرآن لك من مآل مأساوي للحياة الدنيا، مكاناً وزماناً؛ ينفح الله روحك بالبشرى:{وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس:25] .. السلام الحق الجميل، الممتد بلا نهاية، يملأ عرض السماوات والأرض، ولكن -فقط- لمن آمن واهتدى؛ ولذلك قال:{وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:25]. فلا جنة بلا هداية. عمر ممتد بلا نهاية، وزمان بلا حساب، يغرف من جمال الله خلوداً إلى الأبد، ذلك هو السلام، قال عز من قائل: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

ص: 102

وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].

إن الإنسان عندما يتدبر هذه الحقائق القرآنية العظيمة؛ يرى بأم عينيه أن العمر الدنيوي مجرد حلم، وأن مفهوم (الحياة) إنما يتجلى بصورة حقيقية في الآخرة، حتى لكأن ما دون الآخرة ليس بحياة! وتلك آيات القرآن العظيم ناطقة بهذا، قال عز وجل:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]؛ فلفظ (الحيوان) صيغة دالة في العربية على الامتلاء، كقولك (فيضان) بدل (فيض)؛ إذا كان قد بلغ السيل الزبى، والتقى الماء على أمر قد قدر، فجرف كل شيء، فيقال حينئذ:(فيضان). فلفظ (حيوان) هو بمعنى الامتلاء حياة، بل هو فيضان الحياة. تلك هي طبيعة الحياة الآخرة تفيض بالحيوية والحياة، وتمتد نعمها التي لا تنفد على عرض الكون، فلا يعرف لها نهاية، خلوداً مؤبداً، إلى ما شاء الله. ويبقى ما دون ذلك من (حياة) أشبه ما يكون بطعم الصياد، الذي يغري الفريسة، لتقع على المتعة الوهمية؛ فتكون من الهالكين. فهي {مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] حقّاً، كما قال عز وجل في سياق آخر:{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

ص: 103

والكافر لا يرى ذلك إلا بعد هلاكه، فما أعجب تعبير القرآن في هذا! إذ يقول الله تبارك وتعالى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى. يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23،24]، فحسرة الكافر وندمه إنما هو لكونه لم يقدم لحياته، ويقصد الحياة الآخرة، ولكنه لم يصفها بـ (الآخرة)؛ للدلالة على أنها هي وحدها حياته، إذ أدرك الآن عياناً أن ما سبق من حياته الدنيا ليس بحياة، فندم على تفريطه في حياته الحقيقية: الآخرة، ونتيجة الأمر أنه ما حيي إلا من حيي في الآخرة وللآخرة. وأما الدنيا فهي -بالنظر إلى هذا المعنى- ليست بحياة؛ إلا مجازاً.

فإذن لا طول للحياة الدنيا ولا بقاء لها مكاناً وزماناً، بل هي مجرد خدعة للإنسان إن لم يستثمرها للحياة الحقيقية: الآخرة، إنها -لو تدبرت- عمر في أيام .. فلا طول، وإنما الطول مفهوم يدل على الحصر؛ إذ ما سمي طولاً إلا لقابليته للعد والقياس، وكل معدود محدود. ومن هنا وصف الله الجنة بالعرض دون الطول، وذلك بعدما قرر عز وجل طبيعة الحياة الدنيا، فقال على سبيل الجزم والتحذير: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ

ص: 104

وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:20،21].

لقد ابتدأ الخطاب في الآية بهذا الأمر الجازم: (اعلموا

!) والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع قطعاً ويقيناً، أي بلا تردد ولا شك، ولا ظن. (اعلموا ..) هكذا قطعاً، وجاء المثال القرآني العجيب مرة أخرى بصيغة أخرى: مثال الزرع إذ ينبهر الفلاح بخضرته وجماله وسنبله، فلا يلبث أن يصير حقله الجميل حطاماً، أو حصيداً كأن لم يغن بالأمس! فكذلك الدنيا كلها بزينتها وأموالها وأولادها، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

وهنا جاء المقابل الأخروي هذه المرة في القرآن الكريم بصيغة فريدة .. لا مثيل لها، جاء طلب المسابقة إلى المغفرة والجنة، ووصف الجنة بما قال عز وجل:{عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21]، فوصفها بالعرض دون الطول، ذلك هو الزمان الأخروي السعيد، والعمر الجميل المديد، تلك هي الحياة .. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]، إن (الطول) -كما ذكرنا- مفهوم محدود معدود، والجنة لا حد لها، ولا عد. إنها (الحيوان)، فلا يليق بوصفها من ألفاظ الامتدادات إلا (العرض)، إذ بالعرض تعيش اللحظة الواحدة أكثر من مرة، أما الطول فلا يتيح لك من اللحظة

ص: 105

الواحدة إلا خطوة واحدة، تخطوها إلى أمام؛ لتصبح بعد ذلك من (الماضي)، فلا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين، كما قال الحكماء، وأما العرض فهو امتداد أفقي في الزمان الفسيح، إذ تتمتع بالمتعة الواحدة أبداً، وتعيش الشعور الواحد أبداً، وتغرف من اللحظة الواحدة معنى الخلود، صورته في الدنيا هي (بركة العمر)، حيث يبارك الله العمر القصير -ولا يكون العمر إلا قصيراً- ويزكيه؛ فينجز المؤمن فيه من الصالحات؛ ما يمكنه بإذن الله من الخلود في الجنة، وصورته في الآخرة: حياة سعيدة مطلقة في الزمان، سابحة في الجمال، تنعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

- فما أبلد من يستنزف طول عمره على حساب عرضه! ولا يسابق إلى هذا إلا من عرف الله ابتداء، ثم اكتشف هذا المعنى اللطيف (للحياة)، وذاق جماله، فسابق إليه، وإنما {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فكيف السبيل إلى ذلك، وكيف المسير؟ ذلك هو البلاغ الرابع من بلاغات الرسالة القرآنية، فيه بيان طريق العمل، ورسم معالم السلوك.

***

ص: 106