المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تبصرة: حق الخالقية إذن هو مفتاح المعرفة بالله: - بلاغ الرسالة القرآنية

[فريد الأنصاري]

الفصل: ‌تبصرة: حق الخالقية إذن هو مفتاح المعرفة بالله:

وحده في ذلك، الذي خلقك، ومن هنالك جاء قوله بعد في السورة مباشرة:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، وعلى هذا الوزان من الاعتراف بهذا الحق، والشكر له أو عدمه، كانت الجنة والنار، وتفرقت أصناف الخلق بينهما أبراراً وكفاراً، كما هو في تتمة الآيات من سورة الإنسان، وغيرها من آي القرآن كثير.

‌تبصرة: حق الخالقية إذن هو مفتاح المعرفة بالله:

إن هذا الحق بقدر ما هو متعلق بذمة الإنسان، لربه الذي خلقه، فإنه يستفيد منه معنى عظيماً لوجوده، إن إحساسه بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، الذي ضاعت فيه أفكار الكفار من العالمين، أو بعبارة قرآنية: يخرجه {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]. وأي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! أو كما قالوا: (إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع!) فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة، وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب، الذي ما بعده من حياة؟ فأي لذة يجدها في متعها وهو يعتقد أنها إلى زوال قريب؟ ذلك ما يقوده غالباً إلى الشره المتوحش في تناولها، أو إلى العزوف القَلِق ثم الانتحار! ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال! فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين.

إن معرفة الله من هاهنا تبدأ: الشعور بالفرح به تعالى ربّاً خالقاً، والأنس بجماله عز وجل إلهاً رحيماً؛ فيمتلئ القلب شوقاً

ص: 75

إليه تعالى، ثم تنشط الجوارح للسير إلى بابه الكريم، والعروج إلى رضاه، عبر مدارج السالكين، ومنازل السائرين، فيجد الإنسان الأنس كل الأنس كلما ازداد معرفة بالله جل جلاله.

وإنما مدارج المعرفة به تعالى أن ينطلق المسلم من توحيد الربوبية، الذي ينفتح بابه على العبد أول ما ينفتح من الشعور بحق الخالقية كما قررناه، ذلك أن الرب إنما هو رب من حيث هو مالك للمربوب، ذلك معناه العام في اللغة وفي الشرع، قال ابن منظور: (الرَّبُّ: هو الله عز وجل، هو رَبُّ كلِّ شيءٍ: أَي مالكُه، وله الرُّبوبيَّة على جميع الخَلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْبابِ، ومالِكُ المُلوكِ والأَمْلاكِ. ولا يقال الربُّ في غَير الله، إِلا بالإِضافة (

) ورَبَّهُ يَرُبُّهُ رَبّاً: مَلَكَه) (1).

فرب الدار: مالكها، وربة البيت: سيدته، ورب السيارة: صاحب السيادة عليها. إلا أن (المالكية) الحقة، إنما تقع في الواقع على من يملك أصل الاختراع والإبداع، إنشاءً وتطويراً. ذلك هو المالك الحقيقي للشيء، وذلك هو الله سبحانه وتعالى في ربوبيته للكون والخلق أجمعين. إنه مالك كل شيء خلقاً وإبداعاً، وزيادة ونقصاً، وإحياءً وإماتةً، وبدءاً وإعادةً، وبعثاً ونشوراً. وما كان ذلك كله ليكون لولا أنه هو عز وجل الذي خلق.

ومن هنا كان أول وصف لذاته تعالى، نزل على محمد صلى الله عليه وسلم،

(1) لسان العرب، مادة:(ربب).

ص: 76

في بدء تعريفه بالله ربّاً: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فهو الرب إذن، وأول ما وصف به نفسه تعالى أنه {الَّذِي خَلَقَ} ؛ لأن الربوبية إنما ترجع في حقيقتها إلى هذا المعنى كما بيناه آنفاً. ومن هنا اطراد هذا المبدأ في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو سورة منه، بدءاً بالفاتحة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؛ حتى سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . فالقرآن كله إذن قائم على ترسيخ مفهوم الرب في قلوب المربوبين، عسى أن تستجيب فطرهم لأداء حق الربوبية، بتوحيد الألوهية عبادةً لله رب العالمين.

وخلاصة الأمر أن الخالق مالك، وأن المالك رب، ذلك أنه تعالى خلق فملك، وملك فرَبَّ. فهذه معان بعضها يحيل على بعض، حتى كان لفظ (الرب) جماعها؛ فجمع بذلك كل أوصاف الكمال والجمال والجلال، من الأسماء الحسنى والصفات العلى.

- ولننصت الآن في ذلك إلى القرآن العظيم، حيث يقول الله عز وجل معرفاً بذاته سبحانه:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الحشر:24]، فقوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ} جملة اسمية من مبتدأ وخبر، فيها معنى الجواب عن سؤال تقديره: سؤال السائل عن الرب (من هو؟)، فقال:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]؛ أي (الرب هو الله)؛ لأن الضمير (هو) لابد أن يعود على معاد سابق، كما قال الله حكاية لحوار فرعون مع موسى وهارون: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا

ص: 77

يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49،50]. وكما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].

ثم كانت الإحالة -في نهاية الأمر- في تعريف الرب على (الأسماء الحسنى)، بعدما ذكر عز وجل بعضها، فقد جاءت الآية المذكورة من سورة الحشر في سياق التعريف بالله عز وجل من خلال بعض أسمائه، وذلك قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُو الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لحشر:22 - 24].

تبصرة:

فالأسماء الحسنى هي مدخل التعريف بالله ربّاً، وهو توحيد الربوبية، كما في هذه الآيات، وهي كذلك مدخل التعريف به إلهاً، وهو توحيد الألوهية، كما في قوله عز وجل من سورة الأعراف:{وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].

ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله الحسنى: «إن لله تسعة وتسعين اسماً -أعطى مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة. إنه وتر يحب الوتر» (1). وفي رواية: «من حفظها دخل

(1) متفق عليه.

ص: 78

الجنة»؛ يعني: إن لله تسعة وتسعين اسماً. وفي الحديث دلالة على عدم حصر أسمائه في هذا العدد، لقوله:(أعطى)، فهذا لفظ ظاهره دال على أن له تعالى غيرها مما لم يعط واستأثر به في علم الغيب عنده، كما هو معروف في السنة. فقد أعطى ما أعطى ومنع ما منع؛ لحكمة هو جل وعلا يعلمها.

وزاد الترمذي والحاكم وغيرهما في الحديث تفصيلاً في عد هذه الأسماء، نذكرها جميعاً لبركتها ولحاجتنا إليها، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحَكَم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المغيث، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدِّم، المؤخِّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار،

ص: 79

النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» (1).

قلت: إن جماع توحيد الربوبية يؤول إلى إثبات الأسماء والصفات لله رب العالمين، إثبات إيمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل، ولا يخرمه تشبيه أو تجسيم. فهو تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فلا ينسب شيء من الخلق والتدبير في الكون إلا له سبحانه، وحده دون سواه، ولا يعتقد شيء من النفع والضر والعطاء والمنع والحياة والموت؛ يصل الكائنات من غيره تعالى، فكل الأسماء الحسنى والصفات العلى دلت على تفرده سبحانه بمقتضياتها من الفعل والأمر، لا دخل لأحد من خلقه في ذلك إلا بإذنه تعالى، تدبر -ثم تدبر- قوله عز وجل:{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].

ذلك هو توحيد الله في ربوبيته أي في مالكيته للكون وخالقيته له، وذلك هو المنطلق السليم، والأساس القويم لتوحيد الألوهية، كما ذكرنا، وبقدر تصفية ذلك يكون السير في طريق المعرفة الربانية، والرقي في مدارج الإيمان،

(1) رواه الترمذي والحاكم في المستدرك.

ص: 80

لأداء حق الخالقية، حيث إن توحيد العبودية، أو الألوهية كله لا يخرج عن معنى السير إلى الله رغباً ورهباً، من حيث إنه تعالى موصوف بصفات الكمال وأسماء الجمال، وبهذا السير تتحقق للعبد رتب المعرفة به تعالى، ويكتسب الجديد من منازل الإيمان، ومقامات الإحسان، سيراً في طريق عبادته تعالى على نهج السنة النبوية؛ استجابة لقوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].

وهنا نعود إلى حديث الأسماء الحسنى، حيث يتبين أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(من أحصاها -أو من حفظها- دخل الجنة) إنما المقصود بالإحصاء (الحفظ) عينه، كما هو في صحيح البخاري في (باب إن لله مائة اسم إلا واحداً)، وقد ذهب أغلب العلماء -كما سترى بحول الله- إلى أن (الحفظ) هنا هو بمعنى حفظ المقتضيات من الأفعال والتصرفات، لا حفظ العبارات، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك» (1). والمقصود بحفظ المقتضيات: توقيع كل أعمالك وتصرفاتك بما تقتضيه دلالاتها من حدود والتزامات.

فمثلاً إذا انطلق العبد في طلب رزقه، واكتساب قوته فإنما يفعل ذلك باسمه تعالى:(الرزاق)، ومعناه أن يعتقد ألا رزق يصل إليه إلا ما كتب الله له، ثم ألا مانع له منه وقد

(1) رواه أحمد والترمذي والحاكم بسند صحيح. ن. صحيح الجامع الصغير: (7957).

ص: 81

كتبه الله له، ويكون لهذا -إن صح اعتقاده فيه- أثره الإيماني، يجتهد كل يوم في تحصيله، فلا يساوم في دينه مقابل مال، عطاءً أو حرماناً، إذ وجد في معرفته باسم (الرزاق) أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

وهو قصد من مقاصد حفظ (الاسم) من أسمائه الحسنى: الثبات على ذلك أمام الفتن، لا تزحزحه المضايقات ولا المناوشات، ولا التهديدات، ولا تذهب به الوساوس كل مذهب، بل يسكن إلى عقيدته مطمئناً، آمناً من كل مكروه، إلا ما كان من قدر الله، موقناً أن الله لا يريد به إلا خيراً. فذلك أمر المؤمن الذي ليس إلا لمؤمن، والمؤمن أمره كله له خير كما في الحديث الصحيح؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام:«عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له» (1).

إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله، وبقدر ما تسكن النفس إلى اسمه تعالى (الرزاق) يذوق العبد من معنى (الحفظ) جمالاً حميداً، وأنساً جديداً، فتعلو القدم بذلك في مراتب العبودية، وتوحيد الألوهية مقامات أخرى. والربانيون

(1) رواه مسلم.

ص: 82

في (حفظ) كل اسم من أسمائه الحسنى - بهذا المعنى - مراتب ومنازل. وبذلك يمتلئ القلب حبّاً لجمال أنواره وجلال إفضاله تعالى، فيزداد شوقاً إلى السير في طريق المعرفة الربانية، التي كلما ذاق منها العبد جديداً ازداد أنساً وشوقاً، فلا تكون العبادة -بالنسبة إليه حينئذ- إلا أنساً، وراحة، ولذة في طريق الله، إذ تنشط الجوارح للتقرب إليه تعالى بالأوقات والصلوات، والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، والدخول في سائر أعمال البر الصالحات. ولك في أسماء الله الحسنى -من كل ذلك- مسالك تقربك إلى الله سبحانه وتوصلك إليه.

هذا هو الفهم الأليق بحديث الأسماء الحسنى، وهو ما ذهب إليه أغلب شراح الحديث عند تعرضهم لذلك؛ ومن هنا قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:(وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط؛ لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها، وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها)(1).

وقال أيضاً: (وهو أن يعلم معنى كلٍّ في الصيغة، ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تمر على موجود

(1) فتح الباري:11/ 226. نشر دار المعرفة بيروت: (1379 هـ) ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب.

ص: 83

إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء، وتعرف خواص بعضها (

) قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن؛ بما يقتضيه كل اسم من الأسماء) (1).

ذلك هو الشأن بالنسبة لسائر أسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن

إلخ. فكلها (حسنى) بصيغة التفضيل المطلقة هذه؛ أي لا شيء أحسن منها، فهي تبث النور والسلام والجمال، في طريق السالكين إليه تعالى؛ بحفظها، وتملأ قلوبهم إيماناً وإحساناً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:«إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها» (2).

تبصرة:

وهاهنا لنا لطيفة من لطائف الأسماء الحسنى، نذكرها بحول الله؛ رفعاً للغبش الذي قد يدور بخلد بعضهم، أو مما قد يلقيه الشيطان في خاطر العبد الذي لم يذق بعد جمال بعض الأسماء، من مثل أسمائه تعالى:(الجبار، والمتكبر، والقهار، والمنتقم)، إن أول شيء يجب التذكير به أن هذه الأسماء -كسائر أسمائه تعالى- قد وصفها الله عز وجل في

(1) فتح الباري:11/ 226 ـ 227.

(2)

رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير:(2163).

ص: 84

القرآن بأنها (الحسنى)، على التفضيل، وفي هذا لطائف كثيرة. فبالنسبة إلى خصوص معاني التكبر والكبرياء والقهر والجبروت من أسمائه تعالى، فهي مما يشين الإنسان، ويلقي به في دركات الذم والنقص؛ لو اتصف بها، وتخلق بأحوالها، لكنها في ذات الله تعالى جلال وجمال، ونور وكمال، فهي (الحسنى)، نعم قد ورد الوعيد في حق من اتصف بها من الناس، كما في الحديث القدسي:«قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار» (1).

وبيانه أن الله عز وجل قصر ذلك الوصف عليه تعالى، ولم يأذن لأحد من خلقه في اكتسابه، وهو عز وجل وحده يليق به ذلك؛ لجلال قدره، وعظمة ملكه وسلطانه، فهو الملك الحق العدل، لا ينافي شيء من ذلك عدله ورحمته، بل إن وصف القهر والجبر والكبرياء في ذاته مصدر رحمة لعباده المؤمنين -وهذا من لطائف المسألة- حيث إن المؤمن حينما ينتسب إلى الله عبداً، فإنه يكتسب من نسبة العبودية عزة ومنعة؛ إذ هو محمي من الظلمة والفجار؛ باسم الله الجبار القهار. وأنت حينما ترى في الأرض عبداً جاهلاً متكبراً؛ تدرك بسرعة أنه ينتحل ما ليس له، كيف يصدق تجبره وكبرياؤه؟

(1) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:(4311).

ص: 85

وقد قال الله فيه: {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، فكبرياؤه ذاك إنما هو صورة من ورق! إنه مرض نفسي، فهو تعبير عن الشعور بالنقص إزاء كمال حاوله فلم يصله، من الناحية الاجتماعية، أو المالية، أو السلطانية، أو أي جهة أخرى، فقد يكون الإنسان غنيّاً ذا ثروة طائلة، فإذا تكبر دل ذلك على نقص من جهة أخرى، ربما ظن أن ماله يغنيه من كل وجه، فلما أدرك أنه لا يسد له حقيقة الكمال؛ استكبر فطغى وتجبر وظلم! إنك أيها العبد المنتسب -بخضوعك وعبوديتك- إلى كبرياء الله الحق، تشعر أن الكبرياء الذي ينتحله الخلق كذب وافتراء، بل مرض يستحق صاحبه الحسرة والإشفاق! تماما كما تشفق على من ألقى بيده إلى التهلكة بالكفر والضلال، على غرار قوله تعالى:{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، فأما الجاهل فقد يرى الجبار من الناس أسداً يزأر في وجوه الخلق، وأما عبد الله فإنما يراه أسداً من ورق، أو دمية (كرتونية) تحكي لعبة الأسد، والمتكبر من الخلق هو أول من يشعر -في نفسه- بضعفه، وعجزه، وفشله في أن يندمج في المجتمع، ويتواضع أمام الخلق، وما أصدق قول الشاعر في هذا:

ملأى السنابل تنحني بتواضع

والفارغات رؤوسهن شوامخ

ص: 86

وأنت إذ ترى ما لا يرى الجهلة تستريح .. فقد عرفت أنما الكبرياء والجبروت لله الواحد القهار؛ فكانت بذلك أسماؤه الحسنى: الجبار والمتكبر والقهار، ونحوها من أسماء الجلال، برداً وسلاماً على قلوب عباده الصالحين، تبعث النور والجمال .. ولا عجب، فهي من (الأسماء الحسنى) حقّاً وصدقاً. و {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] والله خير الصادقين.

وإنك حينما تذوق من معرفة الله لمعات وأنواراً؛ يتعلق قلبك بحبه؛ لأنك إنما تجد الجمال الحق في تلك المعرفة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال» (1)، فمن ذاق؛ عرف، ومن عرف اشتاق. وليس عبثاً أن يكون ضمن السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله تعالى:(رجل قلبه معلق في المساجد)(2). ولا يتعلق القلب إلا إذا أحب، ولا يحب إلا من شهد الجمال. وإنما ترى جمال الله جل جلاله في شعورك القوي بجمال خالقيته تعالى، وكمال قيوميته، وحسن إجابته، وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه، فاقرأ الجمال في كلمات الله إذ يقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].

إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله، يفيض قلبه بالمحبة، محبة

(1) رواه مسلم.

(2)

متفق عليه.

ص: 87

كل شيء، إذ يجد أخوة إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات -عدا شياطين الجن والإنس- فالكل مستغرق في عبادة الله، سائر إليه عبر مسالك المحبة:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، ولقد جعل الله لنبيه داود معجزة كَشْف لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال، تلتقي على موعد بالغدو والآصال، كما في قوله تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص:18،19].

إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر، تشعره بالأخوة الكبرى، في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية:{كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، وأنت أيضاً يا صاح تسبح عبر فلك العمر سيراً إلى الله ذي الجلال والجمال، تتعرف إليه من خلال هذا كله، إذ تجده سبحانه تجاهك، كلما ذكرت أو دعوت، منتسباً إليه تعالى بعبوديتك، وذلك أعظم معنى لوجودك في الحياة .. فتأمل! وتلك غاية الغايات من الخلق كما ذكرنا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

والمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف سر السير إلى الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ

ص: 88

حَتَّى يَاتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99]، وترى هنالك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي، من خلال وجودك الأخروي:{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].

إن المعرفة بالله تملأ قلبك أنساً بالله، ثم أنساً بالحياة، وأنساً بالكون والكائنات، وأنساً بالموت، الذي لن ترى فيه -إذ تقف عليه- إلا موعداً جميلاً، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية. وإنما (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (1). ألا يا حسرة على الناس إذ جهلوا بالله!

حتى إذا وجدت ما وجدت، وعرفت من ربك ما عرفت، أبت عليك معرفتك، وما فاضت به عليك من جمال الأخوة الكونية؛ إلا أن تسعى بهذا الخير إلى الناس كل الناس .. داعياً إلى الله ومعرفاً به، لا يمكن لعارف بالله حقّاً إلا أن يكون داعية إليه، وهل يستطيع المحب أن يكتم من محبته شيئاً؟ إن الوجدان ليضيق عن كتمان جمال، تشرق أنواره على الكون كله! ولا يمكن للنور إلا أن ينير!

(1) متفق عليه.

ص: 89

تبصرة:

إن الدعوة إلى الله إنما هي تعريف بالله .. فتأمل!

هؤلاء الناس الذين شغلتهم أموالهم الفانية، وأشغالهم الصبيانية، وأحزانهم الطفولية، وألهتهم عن التفكير في حقيقة أنفسهم وحقيقة الوجود من حولهم، إنما هم في هذا المقام كالأطفال، لا يدرون ما يضرهم مما ينفعهم، فهم أحوج ما يكونون إلى من يذيقهم لحظة من لحظات المحبة الربانية؛ عسى أن يجدوا شيئاً -ولو قليلاً- مما وجدت؛ فيتعلقوا بجمال الله كما تعلقت:(ورجل قلبه معلق في المساجد)، ويدركوا حينئذ أن للوجود معنى أعظم بملايين المرات مما عرفوا في وعيهم البهمي الساذج.

وبالتعريف بالله تزداد -أنت أيضاً- معرفة جديدة به. فكأنك إذ تسعى إلى تعريف غيرك به؛ تكتشف أنك إنما تعرف نفسك به! فعملك ذاك خير الأعمال، وسعيك ذاك أحسن ما في منازل الإيمان من جمال! {ومَن أَحْسَنُ قولاً مِمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت:33].

التعرف إلى الله والتعريف به كلمة لا تشرحها العبارات، ولا تكشفها الإشارات، ومهما سودت لك من ورقات، أو صنفت من مصنفات؛ فإني سأبقى دون مداركها الشاملة على شاطئ الابتداء! وإنما الذي عليَّ أن أبلغك أنها الحلاوة

ص: 90

التي لا تدانيها حلاوة، وليس لي أبداً أن أصف لك المذاق؛ لأن الحلاوة لا تدرك إلا أن تذاق، فلتعرف ما هنالك ذق! وعذري في هذا كله أن أصف لك الطريق، فاسلك عسى أن تكون من الراشدين!

التعرف إلى الله والتعريف به: ذلك هو رأس العلم، وتلك هي زبدة المعرفة، وعليها ينبني ما بعدها من كلمات، في بلاغ الرسالة القرآنية، فلا مبدأ من مبادئها، ولا ركن من أركانها؛ إلا وهو مضمن في المعرفة بالله.

يمكن لك يا صاح -بالتدبر والإبصار- أن تجد كل ذلك عنده؛ لأن من وجد الله -كما في الحكمة المأثورة- وجد كل شيء، ومن فاته الله فاته كل شيء، كيف لا وقد قال الله في بلاغه الحكيم:{فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ] يونس:32]، ولذلك نوجز ما بقي من بلاغات الرسالة، مختصرين الكلام في المعاني المفتاحية، ولك في كتبنا المفصلة في هذا ما يغني إن شاء الله (1)، وإنما العبرة عندنا هاهنا إبلاغ البلاغ بأخف ما تدركه الأسماع.

(1) ن. ذلك في كتابنا: جمالية الدين.

ص: 91