المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(المقصد العاشر في أسانيدنا المتصلة إلى المؤلف) - تاج العروس من جواهر القاموس - جـ ١

[مرتضى الزبيدي]

فهرس الكتاب

- ‌(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)

- ‌(مُقَدّمَة)

- ‌(الْمَقْصد الأول فِي بَيَان أَن اللُّغَة هَل هِيَ توقيفية أَو اصطلاحية)

- ‌(الْمَقْصد الثَّانِي فِي سَعَة لُغَة الْعَرَب)

- ‌(الْمَقْصد الثَّالِث فِي عدَّة أبنية الْكَلَام)

- ‌(الْمَقْصد الرَّابِع فِي الْمُتَوَاتر من اللُّغَة والآحاد)

- ‌(الْمَقْصد الْخَامِس فِي بَيَان الْأَفْصَح)

- ‌(الْمَقْصد السَّادِس فِي بَيَان المطرد والشاذ والحقيقة وَالْمجَاز والمشترك والأضداد المترادف والمعرّب والمولَّد)

- ‌(الْمَقْصد السَّابِع فِي معرفَة آدَاب اللغويّ)

- ‌(الْمَقْصد الثَّامِن وَفِيه أَنْوَاع)

- ‌(الْمَقْصد التَّاسِع فِي تَرْجَمَة الْمُؤلف)

- ‌(الْمَقْصد الْعَاشِر فِي أسانيدنا الْمُتَّصِلَة إِلَى الْمُؤلف)

- ‌(بَاب الْهمزَة)

- ‌(فصل الْهمزَة)

- ‌أبأ

- ‌ أَثأْ

- ‌أتأ

- ‌أجأ

- ‌أزأ

- ‌أشأ

- ‌أكأ

- ‌ الأُ

- ‌أوأ

- ‌أيأ

- ‌(فصل الباءِ) الموَحَّدَة)

- ‌بأبأ

- ‌بتأ

- ‌بثأ:

- ‌بَدَأَ

- ‌بذأ

- ‌برأَ

- ‌بسأ

- ‌بشأ

- ‌بطأ

- ‌ بَكَّا

- ‌بوأ

- ‌بهأ

- ‌(فصل التَّاء) الفَوْقِيَّة مَعَ الْهمزَة)

- ‌تأتأ

- ‌تتأ

- ‌تطَأ

- ‌تفأ

- ‌تكأ

- ‌تنأ

- ‌تلأ

- ‌(فصل الثَّاء) الْمُثَلَّثَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌ثأثأ

- ‌ثدأ

- ‌ثرطأ

- ‌ثطأ

- ‌ثفأ

- ‌ثمأ

- ‌ثوأ

- ‌(فصل الْجِيم) مَعَ الْهمزَة)

- ‌جأجأ

- ‌جبأ

- ‌جرأ

- ‌جزأ

- ‌جسأ

- ‌جشأ

- ‌جفأ

- ‌جلأ

- ‌جلظأ

- ‌جمأ

- ‌جنأ

- ‌جوأ

- ‌جهجأ

- ‌جيأ

- ‌(فصل الْحَاء) الْمُهْملَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌حأحأ

- ‌حبأ

- ‌حبطأ

- ‌حتأ

- ‌حجأ

- ‌حدأ

- ‌حربأ

- ‌حزأ

- ‌حشأ

- ‌حصأ

- ‌حضأ

- ‌حطأ

- ‌حظأ

- ‌حفتأ

- ‌حفأ

- ‌حفسأ

- ‌حكأ

- ‌حلأ

- ‌حمأ

- ‌حنأ

- ‌حوأ

- ‌خبأ

- ‌ختأ

- ‌خجأ

- ‌خذأ

- ‌خرأ

- ‌خسأ

- ‌خطأْ

- ‌خفأ

- ‌خلأ

- ‌خمأ

- ‌خنأ

- ‌خوأ

- ‌(فصل الدَّال الْمُهْملَة) مَعَ الْهمزَة)

- ‌دأدأ

- ‌دبأ

- ‌دثأ

- ‌دَرأ

- ‌دربأ

- ‌دفأ

- ‌دكأ

- ‌دنأ

- ‌دهدأ

- ‌دوأ

- ‌(فصل الذَّال) الْمُعْجَمَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌ذأذأ

- ‌ذبأ

- ‌ذَرأ

- ‌ذمأ

- ‌ذيأ

- ‌(فصل الرَّاء) مَعَ الْهمزَة)

- ‌رَأرَأ

- ‌ربأ

- ‌رتأ

- ‌رثأ

- ‌رجأ

- ‌ردأ

- ‌رزأ

- ‌رشأ

- ‌رطأ

- ‌رفأ

- ‌رقأ

- ‌رمأ

- ‌رنأ

- ‌رهيأ

- ‌روأ

- ‌ريأ

- ‌(فصل الزَّاي) (مَعَ الْهمزَة)

- ‌زأزأ

- ‌زبأ:

- ‌زكأ

- ‌زنأَ

- ‌زوأ

- ‌(فصل السِّين) الْمُهْملَة مَعَ المهمزة)

- ‌سأسأ

- ‌سبأ

- ‌سبتأ

- ‌سخأ

- ‌سدأ

- ‌سرأ

- ‌سطأ

- ‌سلأ

- ‌سلطأ

- ‌سوأ

- ‌سيأ

- ‌(فصل الشين) الْمُعْجَمَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌شأشأ

- ‌شبأ

- ‌شرأ

- ‌شسأ

- ‌شطأ

- ‌شقأ

- ‌شَكأَ

- ‌شنأ

- ‌شوأ

- ‌شيأ

- ‌(فصل الصَّاد) الْمُهْملَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌صأصأ

- ‌صَبأ

- ‌صتأ

- ‌صدأ

- ‌صرأ

- ‌صمأ

- ‌صوأ

- ‌صَيَّأَ

- ‌(فصل الضَّاد) الْمُعْجَمَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌ضأضأ

- ‌ضبأ

- ‌ضدأ

- ‌ضرأ

- ‌ضنا

- ‌ضوأ

- ‌ضهأ

- ‌ضيأ

- ‌(فصل الطَّاء) الْمُهْملَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌طأطأ

- ‌طبأ

- ‌طتأ

- ‌طثأ

- ‌طرأَ

- ‌طسأ

- ‌طشأ

- ‌طفأ

- ‌طفشأ

- ‌طلأ

- ‌طلشأ

- ‌طلفأ

- ‌طمأ

- ‌طنأ

- ‌طوأ

- ‌(فصل الظَّاء) الْمُعْجَمَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌ظأظأ

- ‌ظبأ

- ‌ظرأ

- ‌ظمأ

- ‌ظوأ

- ‌ظيأ

- ‌(فصل الْعين) الْمُهْملَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌عبأ

- ‌عدأ

- ‌(فصل الْغَيْن) الْمُعْجَمَة مَعَ الْهمزَة)

- ‌غأغأ

- ‌غبأ

- ‌غرقأ

- ‌(فصل الْفَاء) مَعَ الْهمزَة)

- ‌فأفأ

- ‌فبأ

- ‌فتأ

- ‌فثأ

- ‌فجأ

- ‌فدأ

- ‌فرأ

- ‌فسأ

- ‌فشأ

- ‌فصأ

- ‌فضأ

- ‌فطأ

- ‌فَقَأَ

- ‌فلأ

- ‌فنأ

- ‌فيأ

- ‌(فصل الْقَاف)

- ‌قأقأ

- ‌قبأ

- ‌قثأ

- ‌قدأ

- ‌قَرَأَ

- ‌قرضأ

- ‌قسأ

- ‌قضأ

- ‌قفأ

- ‌قمأ

- ‌قْنأَ

- ‌قيأ

- ‌(فصل الْكَاف) مَعَ الْهمزَة)

- ‌كأكأ

- ‌كتأ

- ‌كثأ

- ‌كدأ

- ‌كرثأ

- ‌كرفأ

- ‌كسأ

- ‌كشأ

- ‌كفأ

- ‌كلأ

- ‌كمأ

- ‌(فصل اللَّام) مَعَ الْهمزَة)

- ‌لألأ

- ‌لبأ

- ‌لتأ

- ‌لثأ

- ‌لَجأ

- ‌لزأ

- ‌لطأ

- ‌لظَّا

- ‌لفأ

- ‌ لَكَأَ

- ‌لمأ

- ‌لوأ

- ‌لهلأ

- ‌ليأ

- ‌(فصل الْمِيم) مَعَ الْهمزَة)

- ‌مأمأ

- ‌متأ

- ‌مرأ

- ‌مسأ

- ‌مطأ

- ‌مقأ

- ‌مكأ

- ‌مَلأ

- ‌منأ

- ‌موأ

- ‌(فصل النُّون) مَعَ الْهمزَة)

- ‌نأنأ

- ‌نبأ

- ‌نتأ

- ‌نجأ

- ‌ندأ

- ‌نزأ

- ‌نسأ

- ‌نَشأ

- ‌نصأ

- ‌نفأ

- ‌نكأ

- ‌نمأ

- ‌نهأ

- ‌نوأ

- ‌نيأ

- ‌(فصل الْوَاو) مَعَ الْهمزَة)

- ‌وأوأ:

- ‌وبأ

- ‌وتأ

- ‌وثأ

- ‌وجأ

- ‌ودأ

- ‌وذأ

- ‌ورأ

- ‌وزأ

- ‌وصأ

- ‌وضأ

- ‌وطأ

- ‌وكأ

- ‌ومأ

- ‌(فصل الهاءِ) مَعَ الْهمزَة)

- ‌هأهأ

- ‌هبأ

- ‌هتأ

- ‌هجأ

- ‌هدأ

- ‌هذأ

- ‌هرأ:

- ‌هزأ

- ‌همأ:

- ‌هَنأ

- ‌هوأ

- ‌هيأ

- ‌(فصل الْيَاء) الْمُثَنَّاة من تَحت)

- ‌يأيأ

- ‌يرنأ

الفصل: ‌(المقصد العاشر في أسانيدنا المتصلة إلى المؤلف)

الحفّاظ مَا نَصه: وَقَرَأَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْعِرَاقِيّ صحيحَ مُسلم على مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الخَبَّاز بِدِمَشْق فِي سِتَّة مجَالِس مُتَوَالِيَة، قَرَأَ فِي آخر مجْلِس مِنْهَا أَكثر من ثلث الْكتاب، وَذَلِكَ بِحُضُور الْحَافِظ زين الدّين ابْن رَجَب وَهُوَ يُعَارض بنسخته، وقرأْت فِي تَارِيخ الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الْحِيرِي النَّيْسَابُورِي الضَّرِير مَا نَصه: وَقد سمع عَلَيْهِ الْخَطِيب البغداديّ بِمَكَّة صَحِيح البُخَارِيّ سَمَاعه من الْكشميهني فِي ثَلَاثَة مجَالِس، قَالَ: وَهَذَا شَيْء لَا أعلم أحدا فِي زَمَاننَا يستطيعه، انْتهى.

(الْمَقْصد الْعَاشِر فِي أسانيدنا الْمُتَّصِلَة إِلَى الْمُؤلف)

حَدثنَا شَيخنَا الإِمَام الْفَقِيه اللّغَوِيّ رضيّ الدّين عبد الْخَالِق بن أبي بكر الزين ابْن النمري المزجاجي الزَّبِيدي الْحَنَفِيّ، وَذَلِكَ بِمَدِينَة زَبيد حرسها الله تَعَالَى بِحُضُور جَمْعٍ من الْعلمَاء، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قدر الثُّلُث، وسماعي لَهُ فِيمَا قُرِئ عَلَيْهِ فِي بعضٍ مِنْهُ قَالَ: أَذن لنا شيخُنا الْفَقِيه عبد الفتاح بن إِسْمَاعِيل بن عبد الفتاح الخاصّ السِّراج الْحَنَفِيّ، الزَّبيدي، والعلامة عَلَاء الدّين بن مُحَمَّد بَاقِي المزجاجي الْحَنَفِيّ الْأَشْعَرِيّ الزبيدِيّ قَالَا: أخبرنَا الإِمَام أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن عبد الفتاح الْخَاص، وَهُوَ وَالِد الأول قِرَاءَة من الثَّانِي عَلَيْهِ فِي الْبَعْض، وإجازة مِنْهُ فِي سائره، وإجازة للأوّل ومناولة للْكُلّ عَن وَالِده فَخر الدّين عبد الفتاح ابْن الصدّيق بن مُحَمَّد الْخَاص، وَعَمه العلاّمة عبد الرَّحِيم بن الصّديق قَالَا: أخبرنَا عمنَا الْعَلامَة إِمَام المدرسين شرف الدّين أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْخَاص، وصِنْوُنا العلاّمة وجيه الدّين أَبُو بكر، وَشَيخ الْإِسْلَام جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد، ابْنا الصّديق ابْن مُحَمَّد الْخَاص قَالُوا: أخبرنَا خَاتِمَة الْمُحدثين واللغويين رَضِي الدّين أَبُو مُحَمَّد الصّديق، والعلامة شُجَاع الدّين أَبُو حَفْص عمر، والعلامة نور الدّين أَبُو عمر، وَعُثْمَان أَبنَاء مُحَمَّد بن الصدّيق الْخَاص السراج قَالُوا: أخبرنَا والدنا الْحَافِظ المعمَّر شيخ الْإِسْلَام

ص: 46

خَاتِمَة الْمُحَقِّقين جمال الدّين مُحَمَّد بن الصدّيق بن إِبْرَاهِيم الْخَاص السراج الْحَنَفِيّ الزبيدِيّ قَالَ: أخبرنَا الْعَلامَة شرف الدّين أَبُو الْقَاسِم بن عبد الْعَلِيم ابْن إقبال القَرْيتي الْحَنَفِيّ الزبيدِيّ، عَن الإِمَام الْمُحدث الْأَصِيل زين الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد اللَّطِيف الشرجي الْحَنَفِيّ الزبيدِيّ قَالَ: قرأْته على الْمُؤلف. وَهَذَا السَّنَد كَمَا ترى مُسلسل بالحنفية وبالزَّبيدِيين، وَأَجَازَ شيخَنا المذكورَ فِيهِ أَيْضا شيخُ الْجَمَاعَة الشريف عماد الدّين يحيى بن عمر ابْن عبد الْقَادِر الحُسيني الْحرار الزبيدِيّ، أَخبرنا الْمُحدث اللّغَوِيّ الْفَقِيه حسن ابْن عَليّ بن يحيى الْحَنَفِيّ الْمَكِّيّ، أخبرنَا عبد الرَّحِيم بن الصدّيق الْخَاص عَالِيا.

ح وأجازني بِهِ أَيْضا شَيْخي الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد، ابْن الشَّيْخ عَلَاء الدّين بن عبد الْبَاقِي المزجاجي، عَن وَالِده، عَن أَخِيه عفيف الدّين عبد الله، عَن الْعَلامَة عبد الْهَادِي بن عبد الْجَبَّار بن مُوسَى بن جُنَيْد الْقرشِي، عَن الْعَلامَة برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن جعمان، عَن الشريف الطَّاهِر ابْن حُسَيْن الأهدل، قَالَ: أخبرنَا شَيخنَا الْحجَّة وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن ابْن عَليّ بن الديبع الشَّيْبَانِيّ الزبيدِيّ.

ح وَأخْبرنَا شَيخنَا الْمُحدث الأُصولي اللّغَوِيّ نادرة الْعَصْر أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن مُوسَى الشرفي الفاسي نزيل طَيْبَة طَابَ ثراه فِيمَا قُرِئ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِع مِنْهُ وَأَنا أسمع ومناولة للْكُلّ سنة 1164 قَالَ: قرأته قراءةَ بحثٍ وإتقان على شَيخنَا الإِمَام الْكَبِير أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَنَاوِيّ، والعلامة أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الشاذلي، وَسمعت كثيرا من مباحثه وموادّه على شَيخنَا الْبركَة نحوِيِّ العصرِ ولُغوِيِّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الوجاري الأندلسي، الثَّلَاثَة عَن الشَّيْخ الْمسند أبي عبد الله مُحَمَّد الصَّغِير، ابْن الشَّيْخ الْحَافِظ أبي زيد عبد الرَّحْمَن، ابْن الإِمَام سَيِّدي عبد الْقَادِر الفاسي، عَن الإِمَام مُحَمَّد بن أَحْمد الفاسي،

ص: 47

عَن الإِمَام النظار أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الغرناطي الْقَيْسِي الشهير بالقصّار، عَن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد اليسيتني، عَن عَلامَة الْمغرب أبي عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي المِكناسي والعلامة أبي عبد الله مُحَمَّد الْحطاب، هما وابنُ الرّبيع عَن الْحَافِظ أبي الْخَيْر شمس الدّين مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن السخاوي.

ح وَزَاد حسن بن عَليّ الْمَكِّيّ عَن الْمُحدث المعمَّر أبي الْوَفَاء مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن الْعجل بن العجيل الشَّافِعِي الصُّوفِي اليمني، عَن إِمَام الْمقَام يحيى بن مكرم ابْن محب الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الطَّبَرِيّ الْحُسَيْنِي، عَن الإِمَام الْحَافِظ جلال الدّين أبي الْفضل عبد الرَّحْمَن بن أبي المناقب أبي بكر السُّيُوطِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي بِهِ التقي مُحَمَّد بن فَهد، وَأَخُوهُ ولي الدّين أَبُو الْفَتْح عَطِيَّة، وولداه فَخر الدّين أَبُو بكر، والحافظ نجم الدّين عمر، والشرف إِسْمَاعِيل بن أبي بكر الزَّبيدي، وَالْفَخْر أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المرشدي، وَأمين الدّين سَالم بن الضياء مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سَالم الْقرشِي الْمَكِّيّ، وَعلم الدّين شَاكر ابْن عبد الْغَنِيّ بن الجيعان، والمحب مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الألواحي، وَرَضي الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن ظهيرة الْمَكِّيّ، وَأَخُوهُ وليّ الدّين ومسند الدُّنْيَا على الْإِطْلَاق مُحَمَّد ابْن مقبل الْحلَبِي، كلهم مَا بَين سَماع وإجازة ومناولة عَن الْمُؤلف.

ح وَأخذ ابْن غَازِي أَيْضا عَن شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ هُوَ والسخاوي وَابْن فَهد، عَن الإِمَام الرحلة الْحَافِظ شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن حجر الْعَسْقَلَانِي قَالَ: اجْتمعت بِهِ أَي بالمجد اللّغَوِيّ فِي زبيد، وَفِي وَادي الْحصيب، وناولني جُلَّ الْقَامُوس وأَذِن لي وقرأْت عَلَيْهِ من حَدِيثه، وَكتب لي تقريظاً على بعض تخاريجي، وأنشدني لنَفسِهِ فِي سنة ثَمَانمِائَة بزبيد، وكتبهما عَنهُ الصّلاح الصَّفَدِي فِي سنة 57 بِدِمَشْق:

(أَحِبَّتَنَا الأماجِدَ إنْ رحلْتُمْ

ولَمْ تَرْعوْا لَنَا عهْداً وإلاّ)

ص: 48

(نُودِّعُكُمْ ونُودِعُكُمْ قُلُوباً

لَعلَّ الله يجْمعُنَا وإلَاّ)

وَزَاد السخاوي والتقى بن فَهد عَن الْحَافِظ جمال الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن أبي بكر بن مُحَمَّد بن صَالح الْهَمدَانِي التفري الْجبلي، عُرِف بِابْن الخيّاط، عَن الْمُؤلف، وسماعه عَنهُ صَحِيح، رأَيته فِي الذَّيل على طَبقات الحفّاظ. وَهُنَاكَ أَسَانِيد أُخر غير هَذِه عالية ونازلة، أَعرضنا عَنْهَا خوف الإطالة، وَفِي هَذَا الْقدر الْكِفَايَة، وَقد طَال الْبَحْث، وَوَجَب أَن نكفّ العِنان، ونُوجِّه الوِجْهَة إِلَى مَا هُوَ الأهمّ من افتنان مَا حواه الْكتاب من الأَفنان، وَقد ابْتَدَأَ المُصَنّف كَغَيْرِهِ بقوله:

(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)

اقْتِدَاء بِالْكتاب الْعَزِيز، وَعَملا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور على الْأَلْسِنَة " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أَبتَرُ، أَو أقطعُ أَو أجذَمُ "، على الرِّوَايَات والمباحث المتعلِّقة بهَا، أَوردناها فِي رِسَالَة مَخْصُوصَة بتحقيق فرائدها، لَيْسَ هَذَا مَحل ذكرهَا (الْحَمد لله) ثنّى بِهِ اقتفاءً للأَثريْن، وإعمالاً للحديثين، وجمعاً بَين الرِّوايتين، وإيراد المباحث الْمُتَعَلّقَة بِهَذِهِ الْجُمْلَة يخرجنا عَن الْمَقْصُود، فليُنظر فِي الْكتب المطَوّلات (مُنْطِق البُلغاءِ) نَطَق نُطْقاً تكلَّم، وأَنطقه غَيرُه: جعله ناطقاً، والبلغاءُ جمع بليغ، وَهُوَ الفصيحُ الَّذِي يَبلُغ بعبارته إِلَى كُنْه ضَمِيره، وَالْمعْنَى: أَي جاعِل البلغاءِ نَاطِقينَ أَي مُتكلِّمين (باللُّغَى) جمع لُغةٍ كَبُرَةٍ وبُرًى، أَي بالأصوات والحروف الدالَّة على الْمعَانِي، مأْخوذٌ من لَغَوْتُ أَي تكلّمت، ودائرةُ الأَخذ أَوسعُ من دَائِرَة الِاشْتِقَاق، كَذَا حَقَّقَهُ النَّاصِر اللَّقانيُّ، وَأَصلهَا لُغْوَة أَو لُغْيَة، بِنَاء على أَن ماضيه لَغَى، إِمَّا أَن تكون ياؤه أصليّةً أَو منقلبةً عَن وَاو، كرضِى استُثقلت الحركةُ على الواوِ أَو الْيَاء، فنُقِلت للساكن قبلَها، فَبَقيت الْوَاو أَو الْيَاء سَاكِنة، فحذفت وعُوِّضَ عَنْهَا هاءُ التأْنيث، وَقد يُذكَر الأصلُ مَقْرُونا بهَا، أَو نِيَّة العِوَضيَّة تكون بعد الحذْفِ، ووزنها بعد الإعلال فُعةٌ، بِحَذْف اللَّام، وقولُنا كبُرَةٍ وبُرًى هُوَ

ص: 49

لفظ الجوهرِي، ومرادُه الْمُمَاثلَة فِي الْوَزْن لَا الأَصْل، لقَوْله فِي فصل الباءِ نقلا عَن أبي عليٍّ: إِن أصل بُرة بَرْوَةٍ بالفَتحِ، قَالَ: لِأَنَّهَا جُمعت على بُرًى مثل قَرْية وقُرًى، وَضبط فِي بعض النّسخ بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ غلطٌ، لفساد الْمَعْنى، لِأَنَّهُ يكون حِينَئِذٍ من لَغِى يَلْغَى لَغًا إذَا هَذَى، وَقِيَاس بَاب عَلِم إِذا كَانَ لَازِما أَن يجِئ على فَعَلٍ، كفِرح فَرحا، قَالَ شَيخنَا، وَفِي الفقرتينِ شِبْهُ الجِناس المحرَّف، وعَلى النُّسْخَة الثَّانِيَة المُلحق، ويأْتي جمعُ لُغةٍ على لُغاتٍ فَيجب كسرُ التاءِ فِي حَالَة النَّصْب، وَحكى الكسائيُّ، سمعتُ لُغاتَهم، بِالْفَتْح، تَشْبِيها لَهَا بِالتَّاءِ الَّتِي يُوقف عَلَيْهَا (فِي الْبَوَادِي) أَي حالةَ كونِهم فِيهَا، وسوَّغ مجيءَ الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ كونُ الْمُضَاف عَاملا فِيهِ، وَهِي جمع بادِيةٍ سَمَاعا وَقِيَاسًا، واشتقاقها من البُدُوِّ، وَهُوَ الظُّهُور والبُرُوز، وَإِنَّمَا قُيِّد بذلك لِأَن الْمُعْتَبر فِي اللغاتِ مَا كَانَ مأْخوذًا عَن هَؤُلَاءِ الأعرابِ القاطنين بالبادِية، للحِكمة الَّتِي أَوْدَعها اللهُ سُبْحَانَهُ فِي لِسانهم، مَعَ مَظِنَّةِ البُعْدِ عَن أسرارها ولَطائِفِها وبدائِعها (ومُودِعِ) ، مِن أَوْدَعه الشَّيْء إِذا جعله عِنْده ودِيعةً يَحفَظُه لَهُ (اللسانِ) أَي لسانِ البلغاءِ (أَلْسَنَ) أفعلَ من لَسِنَ كفرِح لَسَنًا فَهُوَ لَسِنٌ ككتِف، وأَلْسن كأَحْمَر، فَهُوَ صِفة أَي أفْصح (اللُّسُن) بِضَمَّتَيْنِ جمع لِسان بِمَعْنى اللغةِ (الهَوادى) جمع هادية وهادِ، وَهُوَ المُتقدِّم من كلِّ شيءٍ وَمِنْه يُقَال لِلعُنق: الْهَادِي، وَالْمعْنَى مُودِع لِسانِ البلغاءِ أفصحَ اللُّغاتِ المُتقدِّمة فِي أَمرِ الفصاحةِ أَي الفائِقة فِيهِ، فَإِن الشَّيْء إِذا فاق فِي أَمرٍ وَبلغ النهايةَ فِيهِ يُقَال: إِنَّه تقدّم فِيهِ، وَفِي البُلغاء واللَغى وَاللِّسَان وَمَا بعده من الجناس مَا لَا يَخفَى (ومُخَصِّص) ، أَي مُؤْثِر ومُفْضّل (عُروقِ) جمع عِرْق من كُلِّ شَيْء أَصلُه (القَيْصُوم) نَبْتٌ طيِّبُ الريحِ خاصٌّ بِبِلَاد الْعَرَب (و) مُخصّص (غَضَا) مقصورٌ، وَهُوَ شجرٌ عربِيٌّ مَشْهُور (القَصِيم) جمع قَصيمةٍ، رملةٌ تُنْبِت الغَضا، وَفِي بعض النّسخ بالضاد

ص: 50

المعجة، وَهُوَ تَصْحِيف (بِمَا) أَي بالسِّرّ والتخصيصِ الَّذِي (لم ينَلْه) أَي لم يُعْطَه، من النَّوال، أَو لم يُصِبْه بِسرٍّ وخُصوص وَلم يظفرْ بِهِ (العبهَرُ) نبتٌ طيِّبٌ مشهورٌ (والجادِي) بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة، كَذَا فِي النُّسْخَة الرَّسولية والملكية، وحُكِي إعجام الدالِ لُغَة، وَالْيَاء مشدَّدة خُفِّفت لمراعاة القوافي، وَهِي نِسْبة إِلَى الجادِيَةِ قَرْبة بالبلقاء، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الأساس: سَمِعت من يَقُول: أَرْض البلقاءِ أَرْضُ الزعفرانِ، وأَقرَّه المناوِيُّ، وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى خصَّص النباتات البدويّة كالغَضا والقَيْصوم والشّيح، مَعَ كوْنِها مُبتذَلةً، بأسرارٍ ودقائقَ لم تُوجَد فِي النباتَاتِ الحَضَريَّة المُعَظَّمة المُعدّة للشَّمِّ والنَظَرِ كَالنّرجِس والياسمين والزعفران، وَفِي ضمن هَذَا الْكَلَام تخصيصُ العربِ بالفصاحة والبلاغة، وَاقْتضى أَن فِي عُروق رعْيِ أرضِهم وخِصْب زمانهم من النَّفْع والخاصّيّة مَا لم يَكن فِي فاخِرِ مَشموماتِ غَيرهم، وَهُوَ ظَاهر، وَفِي نُسْخَة مِيرزا عَليّ الشِّيرَازِيّ: الخادِي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَهُوَ غلَطٌ، وَفَسرهُ قَاضِي الْأَقْضِيَة بكَجرات، بالمُسترْخِي، فأَخطأ فِي تَفْسِيره، وَإِنَّمَا هُوَ الخاذي، بمعجمتين، وَلَا يُناسب هُنَا، لمُخَالفَته سائِر الفِقَر وَكَذَا تَفْسِيره العبْهر بالممتلِئ الْجِسْم الناعم، لبُعْده عَن مغزى المُراد. وَبَين القَيْصومِ والقصِيمِ جِناسُ الاشتقاقِ ومُراعاة النّظير بَين كلٍّ من النَّباتين (ومُفيضِ) من أَفاضَ الماءَ فَفَاضَ، وأفاض أَيْضا إِذا جرى وكثُر حَتَّى مَلأ جوانبَ مَجراه (الأيادي) جمع أَيْدٍ جمْع يَدٍ فَهُوَ جَمْعُ الجمعِ، واليَد أَصلٌ فِي الجارِحة، وَتطلق بِمَعْنى القُوّة، لِأَنَّهَا بهَا، وَبِمَعْنى النِّعْمَة لِأَنَّهَا تُنَاوِلُها، والمُراد هُنَا النِّعم والآلاء (بالرَّوائِح) جمع رَائحةٍ، وَهِي المَطرة الَّتِي تكون عَشِيَّةً (والغوادي) جمع غادِيَة، وَهِي المَطرة الَّتِي تكون غدْوةً، وَالْبَاء إمَّا سَببيَّة أَو ظرفيَّة، وَالْمرَاد بالروائح والغوادِي إِمَّا الأمطارُ، أَي مُفيض النِّعَم بِسَبَبِهَا لمن يَطلبها، أَو مُفيضها فِيهَا، لِأَن الأمطار ظروفٌ للنِّعم، أَو أَن المُرَاد بهما عُمُومُ الْأَوْقَات، فالباء إِذا ظرفيّة،

ص: 51

وَإِنَّمَا خُصَّت تِلْكَ الأوقاتُ جَرْياً على الْغَالِب (للمُجتدِي) أَي طالبِ الجَدْوَى أَي السَّائِل، والجَدْوَى والجَدَا العَطِيّة (والجَادِي) المُعطِي، ويأْتي بِمَعْنى السَّائِل أَيْضا، فَهُوَ من الأَضداد، قَالَ شَيخنَا: وَلم يذكُره الْمُؤلف، وَقد ذكره الإِمَام أَبُو عَلِيٍّ القالي فِي كتاب الْمَقْصُور والممدود، وَبَين الجادى والجادى الجِناسُ التامُّ، وَبَينه وَبَين المُجتدى جناسُ الِاشْتِقَاق، وَفِي بعض النّسخ المُحتدِي، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ غلط (وناقِعِ) أَي مُرْوِي ومُزِيلِ (غُلَّةِ) بالضمِّ العطَشُ (الصَّوادي) جمع صَادِية، وَهِي العَطْشَى، وَالْمرَاد بالغُلَّة مُطلَقُ الحَرارة، من بَاب التَّجْرِيد، وفسَّرها الْأَكْثَرُونَ بالنَّخيل الطِّوال، لَكِن المقامَ مَقامُ العُموم، كَمَا لَا يخفى، قَالَه شَيخنَا (بالأهاضيب) الأمطار الغزيرة، أَو هِيَ مُطلَق الأمطارِ و (الثَّوَادى) صِفَتُها، أَي الْعَظِيمَة الكثيرةُ الماءِ، أَو من بَاب التَّجْرِيد، وَيُقَال مطرة ثَدْياء، أَي عَظِيمَة غَزيرةُ الماءِ، وَفسّر شارِحُ الْخطْبَة عِيسَى بنُ عبد الرَّحِيم الأهاضيبَ بالجبالِ المُنبسِطَةِ على وجْهِ الأَرْض، والثَّوادي بِمَا فسَّره الْمُؤلف فِي مَادَّة ث د ى أَنَّهَا جمع ثادِيَة، إِمَّا من ثَدِيَ بالكسرِ إِذا ابتلَّ، أَو من ثَداه إذَا بلَّه، وهما بعِيدان عَن معنى المُراد، وَقيل إِنَّه من المهموزِ الْعين، وَالدَّال الْمُهْملَة لامٌ لَهُ، كَأَنَّهُ جمع ثَأْداءَ كصحراءَ وصحارِى، وَفِي بعض النّسخ بالنُّون، وَهُوَ خطأٌ عَقْلاً ونَقْلاً (ودافعِ) أَي صارِف ومُزيل (مَعَرَّة) بِفَتْح الْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء أَي الْإِثْم، عَن الْجَوْهَرِي، وَهُوَ مُستَدْرك على المؤلّف، كَمَا يَأْتِي فِي محلِّه، ووُجِد فِي بعض النّسخ هُنَاكَ الِاسْم، بِالسِّين الْمُهْملَة بدل الثَّاء، وتُطلَق المعرَّة بِمَعْنى الْأَذَى، وَهُوَ الأشبهُ بالمراد هُنَا، وَتَأْتِي بِمَعْنى الغُرْم والخِيانة والعَيْب والدِّية، ذكرهَا الْمُؤلف، وَبِمَعْنى الصُّعُوبة والشِّدَّة، قَالَه العكبريُّ والشَريشي (العَوَادى) جمع عَادِيَة من العُدْوانِ، وَهُوَ الظُّلم، وَالْمرَاد بهَا هُنَا السِّنونَ المجدِبَةُ على التَّشْبِيه، وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي يُناسبه سِياق الكلامِ وسِبَاقه، وأمَّا جعلُهُ جمعَ عادِ أَو عادِيَة بِمَعْنى جماعةِ القَوْم يَعْدُون

ص: 52

لِلْقِتَالِ، أَو أوّل من يَحمِل من الرَّجَّالة، وجَعْلُه بِمَعْنى مَا يغْرَس من الكَرْم فِي أُصولِ الشجرِ العِظام، أَو بِمَعْنى جماعةٍ عادِيَة أَو ظالِمة فيأْباه الطبعُ السليمُ، مَعَ مَا يَرِد على الأوَّلِ من أَن فاعِلاً فِي صِفات المُذكَّر لَا يُجْمع على فَوَاعل، كَمَا هُوَ مُقرَّر فِي مَحَله (بالكَرَمِ) أَي بالفَضْلِ (المُمادى) الدَّائِم والمستمرّ البالِغ الْغَايَة، وَفِي بعض النّسخ المُتمادى، بِزِيَادَة التَّاء، وَهُوَ الظَّاهِر فِي الدِّرَايَة، لشُيُوعِ " تمادَى " على الْأَمر إِذا دَامَ واستمرَّ دون " مَادَى " وَإِن أثْبته الْأَكْثَرُونَ، والأُولَى هِيَ الْمَوْجُودَة فِي الرَّسوليَّة (ومُجْرى) من الجَرْيِ وَهُوَ المرُّ السَّرِيع أَي مُسِيل (الأَوْداء) جمع وادِ، وَالْمرَاد مَاؤُهُ مجَازًا، ثمَّ المُرَاد الإحسانات والتفضُّلات، فَهُوَ من الْمجَاز على الْمجَاز، ثمَّ ذَكَر العَيْنَ فِي قَوْله (مِنْ عَيْن العَطاءِ) تَرشيحاً للمجاز الأوَّل اسْتِقْلَالا وَللثَّانِي تَبعاً، وَمثل هَذَا الْمجَاز قَلَّمَا يُوجَد إِلَّا فِي كَلام البُلغاء، والعطاءُ بِالْمدِّ والقَصْر نَوْلُكَ السَّمْحُ وَمَا يُعْطَى، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى (لكل صادى) أَي عَطْشان، وَالْمرَاد هُنَا مُطلَق المحتاجِ إِلَيْهَا والمشتاق لَهَا، قَالَ شَيخنَا: وَفِي الْفَقْرَة تَرْصِيع السَّجْع (باعِث) تَجوزُ فِيهِ الأوْجُه الثَّلَاثَة، والاستئناف أوْلَى فِي المَقام، لِعِظمِ هَذِه النِّعمة، وَالْمعْنَى مُرْسل (النبيِّ الْهَادِي) أَي المرشِد لعباد الله تَعَالَى، بدُعائهم إِلَيْهِ، وتعريفهم طرِيقَ نَجاتهم (مُفْحِماً) أَي حالةَ كَونه مُعجِزاً (بِاللِّسَانِ الضادِي) أَي العربيّ، لِأَن الضَّاد من الحُروف الخاصَّة بلغَة الْعَرَب (كُلَّ مُضَادِي) أَي مُخالِف ومُعانِد ومُعارِض، من ضَادَاه، لُغَة فِي ضَادَّه، وَضبط ابْن الشحْنة، والقَرافي، بالصَّاد الْمُهْملَة فيهمَا، فالصَّادي من صَاداه إِذا دَاجَاه ودَارَاه وسَاتَرَه، والمُصادِي من صَدّه يَصُدُّه إِذا مَنعه، والمُصادِي: المُعارض، ويُخالفان النقْلَ الصحيحَ المأْخوذ عَن الثِّقاتِ، مَعَ أَن فِي الثَّانِي خَلْطاً بَين بابَي المُعتلِّ والمُضاعَف، كَمَا هُوَ ظاهرٌ، وَبَين الضادي والمضادي جِناسٌ كَمَا هُوَ بيِّنٌ مفحماً (ومُفَخَّماً) أَي وَحَالَة كَونه مُعظَّماً ومُبجَّلاً جَزْلَ المنطِقِ (لَا تَشِينه) أَي لَا تَعِيبه مَعَ فخامتِه وحُسْنِ كلامِه

ص: 53

(الهُجْنَة) قُبْحُ الْكَلَام (والعُجْمة) العجْز عَن إقامةِ الْعَرَبيَّة لعُجمة اللِّسَان (والضَّوادي) الكلامُ الْقَبِيح أَو مَا يُتَعلَّل بِهِ، وَالْمعْنَى أَي لَا يلْحقهُ

شيءٌ مِمَّا ذكر، وَلَا يتَّصِف بِهِ، وَقد تقدم فِي المقدِّمة " أَنا أفْصَحُ منْ نَطق بالضَّاد بَيْدَ أنِّي من قُرَيْش " الحَدِيث، وتقدَّم أَيْضا بيانُ أفصحيَّتِه،

، وتَعجُّب الصحابةِ رِضوانُ الله عَلَيْهِم مِنْهُ، وَفِيه مَعَ مَا قبله نوعٌ من الجِناس، قَالَ شَيخنَا: وَهَذِه اللَّفْظَة مِمَّا استدركها المؤلفُ على الجوهريِّ وَلم يُعرَف لَهُ مُفْرد (مُحَمَّد) قَالَ ابْن القيّم: هُوَ عَلَمٌ وصِفة، اجْتمعَا فِي حَقِّه

، وعلَم مَحْضٌ فِي حقّ من تَسمَّى بِهِ غَيره، وَهَذَا شأْنُ أسمائِه تَعَالَى وأسماءِ نَبيّه

، فَهِيَ أعلامٌ دالَّة على معانٍ، هِيَ أوصافُ مَدْحٍ، وَهُوَ أعظم أَسْمَائِهِ

وَأَشْرَفهَا وأشهرها، لإنبائه عَن كَمَال ذَاته، فَهُوَ المحمودُ مرَّةً بعد مرَّةٍ، عِنْد الله وَعند الملائِكة، وَعند الْجِنّ وَالْإِنْس، وَأهل السَّمَاوَات وَالْأَرْض، وأُمتُه الحمَّادُون وبيدِه لواءُ الْحَمد، وَيقوم المقامَ المحمودَ يومَ الْقِيَامَة، فيحمَدُه فِيهِ الأوَّلون والآخِرُون، فَهُوَ عليه الصلاة والسلام الحائزُ لمعاني الحمدِ مُطلقًا. وَقد ألَّف فِي هَذَا الاسمِ المبارَك وبيانِ أسرارِه وأنوارِه شيخُ مشايِخنا الإِمَام شَرَفُ الدِّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد الخليليّ الشافعيّ نزيلُ بيتِ الْقُدس كُرَّاسةً لَطيفةً، فراجِعْها (خَيْرِ) أَي أَفضَلِ وأَشرفِ (مَنْ حَضَر) أَي شهد (النَّوادِي) أَي الْمجَالِس مُطلقًا، أَو خَاص بمجالس النَّهارِ أَو الْمجْلس مَا داموا مُجْتَمعين فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى (وأفصحِ) أَي أَكثر فصاحةً من كُلِّ (من رَكِب) أَي علا واستوى (الخَوادي) هِيَ الْإِبِل المُسرِعة فِي السَّيْر، وَيسْتَعْمل فِي الْخَيل أَيْضا، مفردها خادٍ أَو خادِيَة، وَإِنَّمَا خصت الْإِبِل لِأَنَّهَا أَعظمُ مراكِب الْعَرَب وجُلُّ مَكَاسِبها (وأَبلَغِ) اسْم تَفْضِيل من البَلاغة، وَهِي المَلَكةُ، وتقدَّم تَعْرِيفهَا (مَنْ حَلَب) أَي استخرج لَبَن (العَوَادِي) هِيَ الْإِبِل الَّتِي تَرْعَى

ص: 54

الحَمْض، على خلاف بَين المصنّف والجوهريّ، رحمهمَا الله تَعَالَى، كَمَا سيأْتي مُبيَّناً فِي مادَّته. ورُكَّابُ الخوادي وحَلبَةُ العَوَادي هم العربُ، وَالْمعْنَى أَن النبِيَّ

أفصحُ العربِ وأبلَغُهم، وَلِأَنَّهُم هم المشهورون بالاعتناءِ بِالْإِبِلِ رُكوباً وحَلَباً، ونظراً فِي أحوالها، وَفِي مقابلةِ رَكِبَ بحَلَب، والعوادي بالخوادي، ترصيعٌ، وَهُوَ من الْحسن بمكانٍ، وَفِي نُسْخَة جَلب بِالْجِيم بدل حَلب بِمَعْنى سَاقهَا، والحوادي بِالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ تَحريفٌ وخلافٌ للمنصوصِ المسموع من أَفْوَاه الروَاة الثِّقَات (بَسَقَت) هَذِه الْجُمْلَة الفعلية فِي بَيَان عَظمته وقهْرِه

لجَمِيع مَن عَادَاهُ، وَلِهَذَا فَصَلها عمَّا قبْلها، أَي طَالَتْ (دَوْحَةُ) هِيَ الشَّجَرَة الْعَظِيمَة من أَي نوعٍ كَانَت (رِسالتِهِ) أَي بعْثَته العامَّة، وَالْإِضَافَة من إِضَافَة المشبّه بِهِ إِلَى المشبّه (فظهرَتْ) أَي غلبَتْ واستوْلَت (شَوْكةَ) هِيَ وَاحِدَة الشَّوْك، مَعْرُوف، أَو السِّلاح أَو الحدَّة أَو شدّة البأْس والنِّكاية على العَدُوِّ (الكَوَادي) جمع كادِيَة وَهِي الأَرْض الصُّلبة الغليظة البطيئةُ النباتِ، وَالْمعْنَى أَن رِسالته

الَّتِي هِيَ كالشجرةِ الْعَظِيمَة فِي كثْرةِ الفروعِ وسَعَة الظِّلّ وثباتِه نَسخَتْ سائرَ الشرائِع الَّتِي لَوْلَا بعثتُه

لما تَطرَّق إِلَيْهَا النسْخ، وَفِي تشبيهها بالأشجار الشائِكة النابِتة فِي الأَرْض الغَليظة الصُّلْبة الَّتِي لَا يَنقلِع مَا فِيهَا إِلَّا بِعُسْر ومَشقَّة، بعد تَشبيهِ رِسالته

بالدَّوْحَة فِي الِارْتفَاع وسَعَة الظِّلّ وَكَثْرَة الْفُرُوع، من اللطافة مَا لَا يَخفى، وَفِي نُسْخَة زِيَادَة شَوْك بعد شَوكة، فَيتَعَيَّن حِينَئِذٍ حملُ الْأَخير على أحَدِ مَعَانِيهَا الْمَذْكُورَة مَا عدا الأول، وَفِي أُخرى شَرَك، بالراء بدل الْوَاو، بِفتْحَتَيْنِ، وَضَبطه بَعضهم بِكَسْر الشين، بِمَعْنَاهُ الْمَشْهُور، والكوادي حِينَئِذٍ عبارَة عَن الكَفَرة، وَإِنَّمَا عبَّر عَنْهُم بِالشَّوْكَةِ، لِكَثْرَة مَا فِي الشوك من الْأَذَى والتأْليم وقِلَّة النَّفْع وعَدمِ الجَدْوَى، وبالكَوَادي لعدم الثَّمَرِ، وَلعدم النُّموِّ، وَالْمرَاد أَن النبيّ

ص: 55

غالِبٌ عَلَيْهِم بقُوَّته، وقاهِرُهم بحِلمه، ومُستوْل عَلَيْهِم (واستأْسَدَتْ) أَي طالَت وبَلغَتْ، يُقَال: رَوْضٌ مُستأْسِدٌ، وسيأْتي بيانُه (رِياض نُبُوَّتِه) بِالضَّمِّ، أَي نَباتُها، جمع رَوْضةٍ، هِيَ مستنقَعُ المَاء فِي الرَّمل والعُشْب، أَو الأَرْض ذَات الخُضرة والبُستان الحَسَن (فَعَيَّتْ) أَي أعجزَتْ (فِي المآسد) جمع مَأسَدة هِيَ الغَابة (اللُّيُوثَ) الْأسود (العوادِي) الَّتِي لاستيحاشها وجراءتها تَعْدُو على الخَلْق وتؤذيهم، وَمن قَوْله بَسقت إِلَى هُنَا هِيَ النُّسْخَة الصَّحِيحَة المكيّة، وَفِي نُسْخَة فغيَّبت بدل عَيَّت، أَي أَخْفَتْ وَفِي أُخرى فَطَهَّرت، بِالطَّاءِ الْمُهْملَة، أَي أزالت أوسَاخ الشِّرْك، وَهَذِه النُّسْخَة الَّتِي نَوَّهْنا بشأْنِها هِيَ نُسْخَة الملكِ الناصِرِ صلاحِ الدّين بن رَسول سُلطانِ الْيمن، بِخَط المحدِّث اللغويّ أبي بكرِ بن يُوسف بن عُثمان الحُميدِيّ المغربيّ، وَعَلَيْهَا خطُّ الْمُؤلف، إِذا قُرِئَت بَين يديهِ فِي مدينةِ زَبِيد، حَماها الله تَعَالَى وسائرَ بِلَاد الْإِسْلَام، قبل وَفاته بِسنتَيْنِ، وَفِي نُسْخَة أُخرى يمنِيَّة " نَبينَا الَّذِي شُعَب دَوْحِ رِسالته طَهَّرت شَوْكَة شَوْكِ الكَوَادي، وَلَا استأْسدت رِياضُ نبوّتِه يحم الذوابل نُضْرَتها إلاّ رَعَتْ فِي المآسد اللَّبون ذَات التعادِي فضلا عَن الذئاب العَوادي فِي إرداء الضوادِي "، وَفِي نُسْخَة أُخرى قديمَة:" استأْسدت " من غير " لَا " النافية، وَنجم بدل يحمّ، وعثَت بدل إلاّ رعت. وَبَين شَوْكَة والشوك، واستأسدت، والمأسدة، جناسُ اشتقاقِ، والشُّعب هُوَ طَرفُ الغُصن، ويحم بالتحتانية مَحْذُوف الآخر، والذوابل جمع ذابل، الرمْح الرَّقِيق، ونُضرتها خُضرتها وحُسْن بهجتها، وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الرياض، ورَعَت: تناولت الكلأَ، واللَّبون: الشَّاة ذَات اللَّبن، وَمِنْه الحديثَ " يَا أَبَا الهَيْثَمِ إيَّاكَ واللَّبُونَ، اذبَحْ عَنَاقًا " أَخرجه الْحَاكِم، والتَّعادي: التحامي أَو الْإِسْرَاع. والإرداء: الإهلاك. والضَّوادي: جمع ضادي بِمَعْنى الضدّ، بإبدال المضعَّف. والنجْمُ من النَّبَات مَا كَانَ على غير ساقٍ. وعَثَت، أَي أفسدت. قَالَ شَيخنَا: وَنبهَ ابْن

ص: 56

الشّحْنَة والقرافي وَغَيرهمَا أَن نُسْخَة المؤلّف الَّتِي بِخَطِّهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْء من هَذِه، وَإِنَّمَا فِيهَا بعد قَوله حَلَب العوادي

وَمثله فِي نُسْخَة نقيب الْأَشْرَاف السَّيِّد مُحَمَّد ابْن كَمَال الدّين الحُسيني الدِّمشقي، الَّتِي صححها على أُصول المشرف، وَالْمرَاد من الصَّلَاة عَلَيْهِ

، زيادةُ التشريف والتعظيم، والتسليمُ والسلامُ: التَّحِيَّة والأمان (وعَلى آله) هم أقاربُه الْمُؤْمِنُونَ من بني هَاشم فَقَط، أَو والمطَّلب، أَو أَتْبَاعه وَعِيَاله، أوكُلّ تقيٍّ، كَمَا ورد فِي الحَدِيث، وَأما الْكَلَام على اشتقاقه وَأَن أصلَه أهلٌ كَمَا يَقُول سِيبويه، أَو أوّل كَمَا يَقُول الكسائيُّ، والاحتجاج لكل من الْقَوْلَيْنِ، وترجيح الرَّاجِح مِنْهُمَا، وَغير ذَلِك من الأبحاث الْمُتَعَلّقَة بذلك، فأَمرٌ كفَتْ شُهرته مُؤْنَة ذكره (وأصحابِه) جمع صَاحِب كناصِر وأنصار، وَهُوَ مَن اجْتمع بالنبيّ

مُؤْمِناً بِهِ وَمَات على ذَلِك (نُجومِ) جمع نجْم وَهُوَ الْكَوْكَب (الدَّآدِى) جمع دَأْدَاءٍ بِالدَّال والهمزة، وسُهِّل فِي كَلَام الْمُؤلف تَخْفِيفًا وَهِي اللَّيَالِي الْمظْلمَة جدًّا، وَمِنْهُم مَن عَيَّنها فِي آخر الشَّهْر، وسيأْتي الْخلاف فِي مادَّته (بُدُورِ) جمع بَدْرٍ هُوَ القمَر عِنْد الْكَمَال (القَوَادي) بِالْقَافِ فِي سَائِر النّسخ، جمع قادِية، من قَدِيَ بِهِ كَرَضِي إِذا استَنَّ واتَّبَع القُدْوَة، أَو مصدر بِمَعْنى الِاقْتِدَاء، كالعافية والعاقِبة، وَيجوز أَن يكون جمع قُدْوَة وَلَو شذوذاً بِمَعْنى المُقتدَى بِهِ، أَو الِاقْتِدَاء، قَالَه شَيخنَا، وَالْمعْنَى أَي النُّجُوم المضيئة الَّتِي بهَا يهتدِي الحائرُ فِي اللَّيْل البهيم، وَهِي صِفة للآلِ. وبُدور: الْجَمَاعَات الَّتِي يُقتدى بأنوارهم، وأضوائهم، وَهِي صِفةٌ للأصحاب، وَالْمرَاد أَن الضالَّ يهتدِي بهم فِي ظلمات الضلالات، كَمَا يَهْتَدِي المسافرُ بالنجوم فِي ظلمات البرِّ وَالْبَحْر، للطريقِ الموَصِّلة إِلَى القَصْد، وَمِنْه قَوْلُ كثيرٍ من العارفين فِي استعمالاتهم: وعَلى آلِهِ نُجومِ الاهتداءِ وبُدُورِ الِاقْتِدَاء. وَقَالَ شَيخنَا: وَبِهَذَا ظَهَر

ص: 57

سُقوط مَا قَالَه بعضُهم من التوجيهات الْبَعِيدَة عَن مُراد المُصَنّف، وَالظَّاهِر أَن النُّجُوم صفة للصَّحَابة، للتلميح بِحَدِيث " أَصْحابي كالنُّجُوم " فَيَرِدُ سُؤالٌ: لم وَصَف الصحابةَ دُون الْآل؟ فيُجابُ بِجَوَاز كونِه حَذف صِفة الآلِ لِدَلالة صفة الصَّحْب عَلَيْهَا، وَالسُّؤَال من أَصله فِي مَعرِض السُّقُوط، لِأَنَّهُ ورَد فِي صفة الْآل أَيْضا بأَنهم نجومٌ فِي غيرِ مَا حديثٍ، وَأَيْضًا فَفِي الْآل مِنْ هُوَ صحابيٌّ، فَالصَّحِيح على مَا قدّمنا أَن كُلاًّ مِنْهُمَا لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّب فالاهتداء بالآل، والاقتداء بالصحابة، وَإِن كَانَتَا تصلحانِ لكلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي نُسْخَة التوادي، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة الفوقيّة بدل الْقَاف، وَهُوَ غلط مخالفٌ للدِّراية والرِّواية، لِأَنَّهُ جمْعُ تأْديةٍ، وتأْديةُ الحقِّ: قَضَاؤُهُ، وتأْدية الصَّلَاة: قَضاؤها فِي أول وقْتِها، وَلَا معنى لبُدور الْأَقْضِيَة، وَفِي رِواية أشياخنا بِالْقَافِ لَا غير، كَمَا قدّمنا، قَالَ شَيخنَا: وأعجب من هَذَا من جعل القَوادي جمْع قائِدِ، وَفَسرهُ بكلامِ المُصَنّف: الْقَائِد الأّول مِن بَنَات نَعْش الصُّغرى الَّذِي هُوَ آخرهَا، وَالثَّانِي عَنَاق، وَإِلَى جَانِبه قائدٌ صَغِير، وثانيه عَناق، وَإِلَى جَانِبه الصَّيْدَق، وَهُوَ السُّها، وَالثَّالِث الحَوَر فَإِنَّهُ لَا معنى لبدُور الْأَوَائِل من بَنَات نعش، مَعَ كَون المُفرَد مُعتلَّ العينِ، وَالْجمع مُعْتَلّ اللَّام، وَهَذَا لَعمري وأمثالُه احتمالاتٌ بعيدةٌ يمجُّها الطبعُ السَّلِيم، وَلَا يقبلهَا الذِّهْن الْمُسْتَقيم (مَا نَاحَ) أَي سجع وهَدَر (الحمامُ) طيرٌ مَعْرُوف (الشّادِي) مِن شَدَا يَشدُو إِذا ترنَّم وغَنَّى، فالنَّوْح هُنَا لَيْسَ على حَقِيقته الْأَصْلِيَّة الَّتِي هِيَ: الْبكاء والحزن، كَمَا سَيَأْتِي، وَالصَّحِيح أَن إِطْلَاق كلّ مِنْهُمَا باختلافِ الْقَائِلين، فَمن صادفَته أَسجاعُ الحمامِ فِي سَاعَة أُنسه مَع حَبِيبه فِي زمن وصاله وغَيْبَةِ رقيبه سَمَّاهُ سَجْعاً وترنُّماً، وَمن بضِدِّه سَمَّاهُ نَوْحاً وبكاءً وتغريدًا (وساح) أَي ذهب وتردّد فِي الفَلَوات (النعام) طَائِر مَعْرُوف (القادِي) أَي المسرع، من قَدَى

ص: 58

كَرَمَى قَدَياناً، محرَّكة، إِذا أسْرع (وَصَاح) من الصِّياح، وَهُوَ رَفْعُ الصوتِ إِلَى الغَايَة (بالأنغام) جمع نَغَم محرّكة، وَهُوَ تَرجيع الغِناءِ وَتَرْدِيده (الْحَادِي) من حَدَا الْإِبِل، كدعا، يَحْدُوها، إِذا سَاقهَا وغَنَّى لَهَا ليحْصُل لَهَا نَشاطٌ وارتياح فِي السَّيْرِ، وَالْمرَاد بِهَذِهِ الجُمل طُولُ الْأَبَد الَّذِي لَا نِهاية لَهُ، لأنَّ الكَوْنَ لَا يَخْلُو عَن تَسجيع الْحمام، وتردُّد النعامِ، وسَوْق الْحَادِي إبِله بالأَنغام، ثمَّ إِن فِي مُقَابلَة ناح بساح وَصَاح، وَالْحمام بالنعام والأنغام، تَرصيعٌ بَدِيع ومُجانسة، وَفِي القوافي الدَّالِيَّة تسميط (ورشَفَت) مَصَّت (الطُّفاوةُ) بِالضَّمِّ دَارَة الشمسِ أَو الشَّمْس نفسُها، وَهُوَ الْمُنَاسب فِي الْمقَام، وَمِنْهُم من زَاد بعد دَارة الشمسِ وَدارة القَمر، وَمِنْهُم من اقْتصر على الْأَخير، وَكِلَاهُمَا تكلُّف، وَقيل بل الطُّفاوة أيَّام بَرْدِ العَجوز، وَقد نُسِب للْمُصَنف، وَلَا أَصْل لَهُ، أَو أَيَّام الرَّبيع، كَمَا للجوهريّ، وَهُوَ خطأٌ فِي النَّقْل، فَحِينَئِذٍ يكون إِسْنَاد الرَّشف لأيام الْعَجُوز بمناسبة أَن بُدوَّ الأزهار فِي أَوَاخِر الشتَاء، وَهِي تِلْكَ الْأَيَّام، وَهَذَا مَعَ صِحَة هَذِه الْمُنَاسبَة لَيْسَ خَالِيا عَن التَّكَلُّف، قَالَه شَيخنَا (رُضَاب) بالضمّ الرِّيق، المَرشوف، وَيُطلق على قِطَعِ الرِّيق فِي الفمٍ وفٌ تات المِسك وقِطَع الثَّلج والسُكَّر ولُعَاب العَسل ورغْوَتُه وَمَا تقطَّع من النَّدى على الشّجر، وَالْمرَاد هُنَا الْمَعْنى الأوّل، وزعمِ بَعضهم الْمَعْنى الْأَخير (الطَّلِّ) هُوَ الندَى أَو فَوْقه وَدون الْمَطَر، وَيُطلق على الْمَطَر الضَّعِيف، وَلَيْسَ بمرادٍ هُنَا، وَإِضَافَة الرُّضاب إِلَيْهِ من قَبِيل إِضَافَة المشبَّه بِهِ إِلَى المشبَّه، أَي الطل الَّذِي فِي الأزهار بَين الْأَشْجَار، كالرضاب فِي فَم الأحباب، كَقَوْلِه.

(والرِّيحُ تَعْبَثُ بالغُصُونِ وَقد جَرَى

ذَهَبُ الأَصِيلِ عَلَى لُجَيْنِ الماءِ)

أَي مَاء كاللُّجَين، وَمن قَالَ إِن الْإِضَافَة بيانِيَّة فقد أَخطَأ، وَكَذَا من فسَّر الرضابَ بالسَّحِّ، والطلّ بأخفِّ المَطر، فَكَأَنَّهُ أجَاز إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه مَعَ فَسَاد الْمَعْنى، على أَن السحَّ إِنَّمَا هُوَ من مَعَاني الرَّاضِبة دون الرُّضاب،

ص: 59

كَمَا سَيَأْتِي فِي محلّه (من كُظَام) متعلّق برشفت، وَهُوَ بِالضَّمِّ جمع كَظَمٍ مُحرَّكة وَهُوَ الحَلْق أَو الْفَم. وَفِي الْأَرْبَعين الودعانية: فبادِرُوا فِي مُهَل الأنفاس، وحْدَة الإخلاس، قبل أَن يُؤخَذ بالكَظَم. وَمِنْهُم من فسروه بأفواهِ الْوَادي والآبارِ المتقارب بعضُهَا بَعْضًا، وَقيل: الكِظامة: فَمُ الْوَادي الَّذِي يخرج مِنْهُ المَاء وَلَيْسَ فِي الكلامِ مَا يدلُّ على الأودية والآبار وَلَا بتقارب بَعْضهَا بَعْضًا، كَمَا فسّروه، لَا حَقِيقَة، وَلَا مجَازًا، وَلَا رمزًا، وَلَا كِنَايَة، وَفِي بعض الشُّرُوح كِظَام الشَّيْء: مبدؤُه، وَالصَّحِيح مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ (الجُلِّ) بِالضَّمِّ، كَذَا هُوَ مضبوط فِي نسخه شَيخنَا الإِمَام رضيّ الدّين المِزجاجي، قيل: مَعْنَاهُ مُعظَم الشَّيْء، وَقيل: هُوَ بالفتحِ، وفسّره بالياسمين والورد أبيضِه وأحمرِه وأصفره، والواحدة بهاء، أما الْمَعْنى الأوّل فَلَيْسَ بمرادٍ هُنَا قطعا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُذكَر إِلَّا مُضَافا، لفظا أَو تَقْديرا، ككلّ وَبَعض، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك، وَأما رِوَايَة الْفَتْح فَهِيَ أَيْضا غير صَحِيحَة، وَقد باحَثَني فِي ذَلِك شيخُنا الإِمَام الْمَذْكُور، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، حِين وصلتُ إِلَى هَذَا المحلّ عِنْد الْقِرَاءَة بِحَضْرَة شَيخنَا السَّيد سُلَيْمَان الأهدل وَغَيره، فَقلت: الَّذِي يُعْطِيهِ مَقام اللفظِ أَن اللَّفْظَة مُعَرّبة عَن الفارسيّة، وَمَعْنَاهُ عِنْدهم الزّهر مُطلقًا، من أَي شجرٍ كَانَ، وَيصرف غَالِبا فِي الْإِطْلَاق عِنْدهم إِلَى هَذَا الورْد الْمَعْرُوف، بأنواعه الثَّلَاثَة: الْأَحْمَر والأبيض والأصفر، فأُعجِبا بِمَا قرَّرْت وأقَرّاه (والجَادِي) قالى قاضى كَجرات: هُوَ طَالب المَطَر، عطف على الطفاوة، أَي وَمَا أَخذ الجادى المَاء من السَّحَاب، وَقيل: هُوَ الْخمر، عطف على رُضاب، وَلَا يخفى أَن فِيمَا ذكر من الْمَعْنيين تكلُّفاً، وَالصَّحِيح أَنه نوع من الزَّهرِ كالنرجس والياسمين، وَهُوَ الْمُنَاسب، وَمن قَالَ: إِنَّه عطفُ تفسيرٍ لما قبله فقد أخطأَ، فَإِن الجلّ إِنَّمَا يُطلقُ على الياسمين والورد

ص: 60

فَقَط، كَمَا قدّمنا، ثمَّ إِن الَّذِي تقدم آنِفا مَقْرُونا بالعبْهر فَمَعْنَاه الزَّعْفَرَان لَا غير، فَلَا يكون إِعَادَته هُنَا لإيضاحٍ أَو غير ذَلِك، كَمَا وهِم فِيهِ بعضُ الشرَّاح، لاخْتِلَاف الْمَعْنيين، قَالَ شيخُنا: وَفِي رشفْتُ الِاسْتِعَارَة بالتبعيَّة، لوُجُود الْفِعْل وَهُوَ مُشْتَقّ، وَيجوز أَن يكون بِالْكِنَايَةِ، كأَنشَبت المنيَّةُ أظفارَها، وَأَن يكون اسْتِعَارَة تصريحيّة، فَإِذا اتَّضَح ذَلِك عرفت أَن الرُّضاب الَّذِي هُوَ الرِّيق شُبِّه بِهِ الطلّ، وَالشَّمْس الَّذِي هُوَ معنى الطفاوة شُبِّه بشخصٍ مرتشِف لذَلِك الرِّيق، وجَعَل لَهُ أَفواهاً وثغوراً هِيَ كِظام الجلِّ والجادي هما الْورْد والنرْجس والياسمين، وَإِن كَانَ تشبيهها بالأقاحِ أكثَر دوراناً، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

(بَاكِرْ إلَى اللَّذَّاتِ وارْكَبْ لَهَا

سَوَابِقَ الخَيْلِ ذَوَاتِ المِرَاحْ)

(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرْشفَ شَمْسُ الضُحَى

رِيقَ الغَوَادي مِن ثُغورِ الأقَاحْ)

(وبَعْدُ) كلمة يُفصَل بهَا بَين الكلامَينِ عِنْد إِرَادَة الِانْتِقَال من كَلَام إِلَى غَيره، وَهِي من الظروف، قيل: زمانيّة، وَقيل: مكانِيَّة، وعامله محذوفٌ، قَالَه الدَّماميني، وَالتَّقْدِير، أَي وَأَقُول بعد مَا تقدَّم من الْحَمد لله تَعَالَى وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نبيه مُحَمَّد

(فإنّ) بِالْفَاءِ، إِمَّا على تَوهُّم أمّا، أَو على تقديرِها فِي نظْمِ الْكَلَام، وَقيل: إِنَّهَا لإجراء الظّرْف مُجْرَى الشرْط، وَقيل: إِنَّهَا عاطفة، وَقيل زَائِدَة (للْعلم) أَي بأنواعِه وفُروعه (رِيَاضاً) جمع رَوْضة أَو رَيْضة، وَقد تقدم شَيْء من مَعْنَاهَا، وَيَأْتِي فِي مادته مَا هُوَ أَكثر (وحِيَاضا) جمع حَوْض، وَهُوَ مُجتَمع المَاء (وخَمائِلَ) جمع خَمِيلة وَهِي من الأَرْض المكرِمة للنَّبات، والرمْلة الَّتِي تُنبت الشّجر، وَقَالُوا هِيَ الشّجر الملتفّ، والموضع الكثيرُ الشجرِ (وغِيَاضا) جمع غَيْضة، وَهِي الغَابَة الجامعة للأشجار فِي حَضيض المَاء، وَفِي الفقرات الثَّلَاث لُزُوم مَا لَا يلْزم (وطَرائقَ) جمع طَرِيقة، والطَّرِيق يُجمع على طُرُقٍ (وشِعَابا) جمع

ص: 61

شِعْب بِكَسْر فَسُكُون، وَهُوَ الطَّرِيق الصَّيق بَين الجَبلينِ (وشَوَاهِق) جمع شاهِق وَهُوَ المرتفِع من الْجبَال (وهِضَابا) جمع هَضْبة بِفَتْح فَسُكُون، وَهِي الجَبل المنبَسط على وَجْهِ الأرضِ أَو المستطيل (يَتفرَّعُ) يَنْشأُ ويَخْرج ويتهيَّأُ (عَن كل أَصْلٍ) هُوَ مَبدَأُ الشيءِ من أسفَلِه (مِنْهُ) أَي مِن جِنس الْعلم (أفنانٌ) جمع فَنَنٍ محرّكة هُوَ الْغُصْن (وفُنون) جمع فَنٍّ بِالْفَتْح، وَهُوَ الْحَال والضرْب من الشَّيْء، وَفِيهِمَا جِناس الِاشْتِقَاق، وجعلُه عَطْفَ تفسيرٍ قصدا للْمُبَالَغَة سهوٌ عَن موارد اللُّغَة (وينشقُّ) انفعال من الشقِّ وَهُوَ الصَّدْع (عَن كلّ دَوْحةٍ مِنْهُ) مَرَّ أَنَّهَا الشَّجَرَة الْعَظِيمَة من أَي نوع كَانَت (خِيطَانٌ) جمع خُوط بِالضَّمِّ، وَهُوَ الْغُصْن الناعم (وغُصون) جمع غُصْنٍ بِضَم فَسُكُون، وَقد تضم اتبَاعا أَو لُغَة، هُو مَا يَنْشعب عَن ساقِ الشَّجَرَة من دِقاق القُضْبان وغِلاظها، فَهُوَ من عطف العامِّ على الخاصّ، وَفِي بعض الْحَوَاشِي حِيطان بِالْحَاء الْمُهْملَة، جمع حَائِط، وَهُوَ الْبُسْتَان، وَفِيه تكلُّفٌ ومُخالَفة للسَّماع (وَإِن عِلْمَ اللُّغةِ) هُوَ معرفَة أفرادِ الكَلِم وَكَيْفِيَّة أوضاعها (هُوَ الكافِلُ) القائِمُ لَا غيرُه لِشِدَّة توقُّفِ الْمعَانِي على بَيَان الْأَلْفَاظ (بإحرازِ) بِالْحَاء الْمُهْملَة من أَحرَزَ الأمرَ إذَا حَازَه، وَهُوَ الإحراس، كَذَا فِي النُّسْخَة الرَّسُولية، وَفِي نُسْخَة بإبراز وَمَعْنَاهُ الْإِخْرَاج والإظهار (أسرار) جمع سِرّ، وَهُوَ الشَّيْء المكتوم الخفيّ (الْجَمِيع) أَنْوَاع الْعُلُوم المتفرعة (الحافِلَ) بِلَا وَاو، وَفِي نُسْخَة بهَا، أَي الْجَامِع الممتلئ، وضَرْع حافل: ممتلئ لَبَنًا، وشِعْبُ حافل: كثُر سَيْله حَتَّى امْتَلَأَ جوانبُه (بِمَا يتَضَلَّعُ) قَالَ ثَعْلَب: تضلَّعَ: امْتَلَأَ مَا بَين أضلاعه (مِنْهُ القاحِلُ) وَهُوَ الَّذِي يَبِس جِلْدُه على عَظْمِه، وَقد قَحلَ كمَنع وعَلِم وعُنِيَ، وَالْمرَاد هُنَا الضَّعيف، أَو الشَّيْخ المُسِنّ (والكاهِلُ) القوِيّ، وَقيل: هُوَ لُغَة فِي الكَهْلِ فيقابل المَعنى السِّياقِيَّ (والناقعُ) هُوَ الْغُلَام المترعْرِع، وَفِي نُسْخَة اليافع، بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّة، وَهُوَ المُراهق الَّذِي قاربَ البُلوغ (والرَّضِيع)

ص: 62

هُوَ الصَّغِير الَّذِي يَرضع أُمَّه، وَالْمعْنَى أَن كلّ من يتعاطَى العلومَ من الشُّيُوخ والمتوسِّطين والمبتدِئِين، أَو كلُّ، من من الأقوياء والضعفاء والصِّغار والكبار، فَإِن علم اللُّغَة هُوَ المتكفِّل بِإِظْهَار الْأَسْرَار، وإبراز الخفايا، لافتقارِ الْعُلُوم كلِّها إِلَيْهِ، لتوقف المرَكّبَات على الْمُفْردَات لَا محَالة، وَفِي الْفقر صناعةٌ أدبيَّةٌ وحُسْن الْمُقَابلَة (وَإِن بَيان الشَّريعةِ) فَعِيلة بِمَعْنى مَفعولة هِيَ مَا شرع اللهُ لِعِبَادِهِ كالشَّرْع بِالْفَتْح، وحقيقتها وَضْع مَا يتعَرَّف مِنْهُ العبادُ أحكامَ عقائدهم وأفعالهم وأقوالهم، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ صَلاحُهم (لَمّا كَانَ مَصْدَرُه) الضَّمِير يرجع للْبَيَان، أَو إِلَى الشَّرِيعَة لتأويلها بالشرْع، والمصدر مَفْعَل من الصُّدور وَهُوَ الْإِتْيَان (عَن لِسان الْعَرَب) كَذَا فِي نُسْخَة الشّرف الْأَحْمَر، وَفِي أُخرى " على " بدل " عَن " عَلَى أَن الصُّدور بِمَعْنى الِانْصِرَاف عَن الوِرْد، وَكِلَاهُمَا صَحِيحَانِ وَقد يكون الصُّدور بِمَعْنى الرُّجوع عَن المَاء، وَحِينَئِذٍ يتعدَّى بإلى، وَاللِّسَان هُوَ اللُّغَة أَو الجارِحة، والعرَب - على مَا حقَّق النَّاصِر اللقائيُّ فِي حَوَاشِي التصريف - هم خِلاف الْعَجم، سَوَاء سكنوا البوادِيَ أَو القُرَى، والأعراب سُكان البَوادِيَ، سَوَاء تكلَّموا بالعربيَّة أَولا، فبينهما عمومٌ وخُصوص من وَجْهٍ، فَلَيْسَ الثَّانِي جمعا للْأولِ، انْتهى. وَفِي الْمُخْتَار: الْعَرَب جِيلٌ من النَّاس، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِم عربٌّ ي، وهم أَهُل الْأَمْصَار، والأعرابُ هم سُكَّان البَوادِي خاصَّةً، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِم أعرابيٌّ فَهُوَ اسْم جنس، انْتهى، وَسَيَأْتِي لذَلِك مزيدُ إِيضَاح فِي مادته، وَهُنَاكَ كلامٌ لشَيْخِنَا وَغَيره، وَالْجَوَاب عَن إيراداته، قلت: وَمن هُنَا سَمَّى ابنُ منظورٍ كتابَه لِسانَ الْعَرَب، لِأَنَّهُ مُتَضَمّن لبيانِ لُغاتِهم، لَا على سَبِيل الْحصْر بل بِمَا صحَّ عندَه (وَكَانَ العَملُ) هُوَ الفِعل الصَّادِر بالقصْد، وغالبُ اسْتِعْمَاله فِي أَفعَال الْجَوَارِح الظَّاهِرَة (بمُوجبه) الضَّمِير للْبَيَان أَو الشَّرِيعَة حَسْبَمَا تقدم، وَالْعَمَل بِالْمُوجبِ

ص: 63

هُوَ الْأَخْذ بِمَا أوجبه، وَله حُدُود وشروط، فَرَاجعه فِي كتاب الشُّرُوط (لَا يصِحُّ) أَي لَا يكون صَحِيحا (إِلَّا بإِحكام) أَي تَهْذِيب وإتقان (العِلْم بمقدِّمته) أَي مَعْرفَتهَا، وَالْمرَاد بالمقدمة هُنَا مَا يتقدَّم قبل الشُّرُوع فِي الْعلم أَو الْكتاب (وَجَبَ) أَي لزم وَهُوَ جَوَاب لمَّا (على رُوَّام العِلم) أَي طالبيه الباحثين عَنهُ (وطُلَاّب) كُروَّام وَزْنًا ومَعْنًى (الْأَثر) علم الحَدِيث فَهُوَ من عطف الخاصّ على العامّ، وَفِي بعض النّسخ وطلَاّب الْأَدَب، والأُولى هِيَ الثَّابِتَة فِي النّسخ الصَّحِيحَة، وَاخْتلف فِي معنى الْأَثر، فَقيل: هُوَ الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف، وَقيل: الْأَثر. هُوَ الْمَوْقُوف، وَالْخَبَر: هُوَ الْمَرْفُوع، كَمَا حَقَّقَهُ أهلُ الأُصول، وَلَكِن المناسِب هُنَا هُوَ الْمَعْنى الشَّامِل لِلْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوف، كَمَا لَا يخفى، لِأَن المحلَّ محلُّ الْعُمُوم. وَالْمعْنَى أَن عُلُوم الشَّرِيعَة كلهَا بأُصولها وفروعها، لما كَانَت متوقِّفة على عِلم اللُّغَة توقُّفًا كُلِّيّا محتاجة إِلَيْهِ، وَجب على كلّ طَالب لأيّ عِلم كَانَ سَوَاء الشَّرِيعَة أَو غَيرهَا الاعتناءُ بِهِ، وَالْقِيَام بِشَأْنِهِ، والاهتمام فِيمَا يُوصل إِلَى ذَلِك، وَإِنَّمَا خصَّ علم الْأَثر دون غَيره مَعَ احْتِيَاج الْكل إِلَيْهِ لشرفه وَشرف طالبيه، وعَلى النُّسْخَة الثَّانِيَة: وَجب على كلِّ طَالب علمٍ سِيمَا طَالب علم الْآدَاب، الَّتِي مِنْهَا النَّحْو والتصريف وصنعة الشّعْر وأخبار الْعَرَب وأنسابهم، مزيدُ الاعتناء بِمَعْرِِفَة علْم اللُّغَة، لِأَن مُفاد الْعُلُوم الأدبية غَالِبا فِي تَرْصِيع الْأَلْفَاظ البديعة المستملَحة، وبعضُها الحُوشِيّة، وَتلك لَا تعرف إلاّ بهَا، كَمَا هُوَ ظَاهر (أَن يَجعلوا) أَي يصيروا (عُظْم) بِضَم الْعين الْمُهْملَة، كَذَا فِي نُسْخَة شَيخنَا سيّدي عبد الْخَالِق، وَفِي أُخرى مُعظم بِزِيَادَة الْمِيم وَفِي بَعْضهَا أعظم بِزِيَادَة الْألف (اجتهادهِم واعتمادِهم) أَي استنادهم (وَأَن يَصْرِفوا) أَي يُوجِّهوا (جُلَّ) كجُلال، لَا يُذْكران إِلَّا مُضَافا وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ (عِنايتهم) أَي اهتمامهم (فِي ارْتيادهم) أَي فِي طَلَبهمْ، من ارتاد ارتيادًا، مجرَّدُه رَادَ الشيءَ يَروده رَوْدًا وَيسْتَعْمل بِمَعْنى الذّهاب والمجيءِ وَهُوَ الْأَنْسَب للمقام (إِلَى عِلم اللُّغَة) وَقد يُقَال إِن علم اللُّغَة من جملَة

ص: 64

عُلُوم الْأَدَب، كَمَا نَص عَلَيْهِ شَيخنَا طَابَ ثراه، نقلا عَن ابْن الأنصاريّ، فيَلزم حِينَئِذٍ احتياجُ الشَّيْء إِلَى نَفسه وتوقُّفه عَلَيْهِ، وَالْجَوَاب ظاهرٌ بِأَدْنَى تأمُّل (والمعرِفة) هِيَ عبارَة عَمَّا يحصل بعد الجهلِ، بِخِلَاف الْعلم (بِوُجوهها) جمع وَجْه، وَهُوَ من الْكَلَام الطريقُ الْمَقْصُود مِنْهُ (والوُقوف) أَي الِاطِّلَاع (على مُثُلها) بِضَمَّتَيْنِ جمع مِثال، وَهُوَ صِفة الشَّيْء ومِقداره (ورُسُومها) جمع رَسْم بِالْفَتْح وَهُوَ الْأَثر والعلامة، ثمَّ إِن الضمائر كلهَا رَاجِعَة إِلَى اللُّغَة، مَا عدا الْأَخيرينِ، فَإِنَّهُ يحْتَمل عودُهما إِلَى الْوُجُوه، وَفِي التَّعْبِير بالمُثل والرُّسوم مَا لَا يخفى على الماهر من الْإِشَارَة إِلَى دُرُوسِ هَذَا العِلم وذَهابِ أَهله وأُصولِه، وَإِنَّمَا البارَع من يقف على الْمثل والرسوم (وَقد عُنِي) بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول فِي اللُّغَة الفصيحة، وَعَلَيْهَا اقْتصر ثعلبٌ فِي الفصيح، وَحكى صاحبُ اليواقيت الفَتحَ أَيْضا أَي اهتم (بِهِ) أَي بِهَذَا الْعلم (مِنَ السَّلَف) هم العلماءُ المتقدمون فِي الصدْر الأوّل من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأتباعهم (والخَلف) المتأخِّرون عَنْهُم والقائمون مَقامهم فِي النّظر وَالِاجْتِهَاد (فِي كُلِّ عَصْرٍ) أَي دهرٍ وزَمانٍ (عِصَابَة) الْجَمَاعَة من الرّجال مَا بَين العَشرة إِلَى الْأَرْبَعين، كَذَا فِي لِسَان الْعَرَب، وَفِي شمس الْعُلُوم: الْجَمَاعَة من الناسِ والخيلِ والطيرِ، والأنسب مَا قَالَه الْأَخْفَش: العُصْبة والعصابة الْجَمَاعَة لَيْسَ لَهُم واحدٌ (هُمْ أهلُ الْإِصَابَة) أَي الصَّواب أَي هم مستحقُّون: لَهُ ومستوجبون لحيازته، وَفِي الفقرتين لُزومُ مَا لَا يلْزم، وَذَلِكَ لأَنهم (أحْرَزوا) أَي حازوا (دَقَائِقَه) أَي غوامِضه اللطيفة (وأَبْرَزُوا) أَي أظهرُوا وَاسْتَخْرَجُوا بأفكارهم (حَقائقه) أَي مَا هِيَّاته الْمَوْجُودَة، وَفِي القوافي الترصيع وَلُزُوم مَا لَا يلْزم (وعَمَرُوا) مخفَّفا، كَذَا هُوَ مضبوط فِي نسخنا (دِمَنَه) جمع دِمْنة، وَهِي آثَار الدّيار وَالنَّاس (وفَرَعوا) بِالْفَاءِ كَذَا هُوَ مضبوطٌ، أَي صعدوا وعَلَوْا، وَفِي بعض النّسخ بِالْقَافِ وَهُوَ غلط (قُننه) جمع قُنَّة بِالضَّمِّ وَهِي أعلَى الْجَبَل (وقَنَصوا) أَي اصطادوا

ص: 65

(شَوَارِدَه) جمع شاردة أَو شارد، من الشرود: النفور، وَيسْتَعْمل فِيمَا يُقَابل الفصيح (ونَظَمُوا) أَي ضمُّوا وجمعوا (قَلائدَه) جمع قِلادة، وَهِي مَا يُجعَل فِي العُنق من الحلى والجواهر (وأَرْهَفُوا) أَي رَقَّقوا ولَطَّفوا (مَخَاذِم) جمع مِخْذم كمِنْبر: السيفُ القاطِع (البَرَاعة) مصدر بَرَع إِذا فاقَ أَصْحَابه فِي الْعلم وَغَيره، وتمّ فِي كل فَضِيلَة (وأَرْعَفوا) أَي أَسَالوا دم (مَخاطِمَ) جمع مخْطم كَمِنْبر وَكمَجْلس: الْأنف (اليَرَاعة) أَي قَصبة الكِتابة، أَي أَجْروْا دمَ أَنفِ القَلَم، وَيُقَال رَعَفت الأقلامُ إِذا تقاطر مِدادُها. وَفِي القوافي الترصيع، وَبَين أرهفوا وأرعفوا جناسٌ مُلْحق، وَفِي البراعة واليراعة الجناس المُصحَّف، وَفِي كلٍّ مَجازاتٌ بليغة واستعاراتٌ بديعة (فألّفوا) أَي جمعُوا الفنَّ مُؤتلِفاً بعْضُه إِلَى بعضٍ (وأفادُوا) أَي بَذَلوا الفائدَة (وصَنَّفُوا) أَي جَمعوا أَصْنَاف الفنِّ مميّزة مُوضّحة (وأجادُوا) أَي أَتَوا بالجَيِّد دون الرّديء، وَفِي الألفاظِ الْأَرْبَعَة الترصيعُ والجناس اللَّاحِق (وبَلَغوا) أَي انتَهوْا ووَصَلُوا (مِن المقاصِد) جمع مَقْصَد كمقْعَد أَي الْمُهِمَّات المَقصودة (قَاصِيَتها) هِيَ وقُصْواها بِمَعْنى أَبْعدِها ومُنتهاها (وملَكوا) أَي استوْلَوْا (مِن المحاسِن) جمع حُسْن وَهُوَ الْجمال، كالمَساوى جمع سُوء (نَاصِيَتَها) أَي رَأْسَهَا، وَهُوَ كِناية عَن المِلْكِ التامّ والاستيلاء الكُلِّيِّ، وَفِي الْفَقْرَة لُزُوم مَا لَا يلْزم، والجِناس اللَّاحِق (جَزاهُم الله) أَي كافأَهم (رِضْوانَه) أَي أعظم خيرِه وكثيرَ إنعامه، قَالَ شَيخنَا: وَأخرج الترمِذِيُّ والنَّسائيُّ وَابْن حبَان بأسانيدهم إِلَى النَّبِي

قَالَ " مَنْ صُنِعَ، إِلَيْهِ مَعرُوفٌ فَقَالَ لفَاعِله: جَزاك اللهُ خَيراً فقد أَبْلَغ فِي الثَّناء ". قلت: وَقع لنا هَذَا الحَدِيث عَالِيا فِي الجزءِ الثَّانِي من المشيخة الغَيلانِيَّة من طَرِيق أبي الجَوَّاب أَحْوَص بن جوَّاب، حَدثنَا سُعيْر بن الخِمْسِ، حَدثنَا سُليمان

ص: 66

التَّيمي، عَن أبي عُثمان النَّهْدِيّ، عَن أُسامة بن زيدٍ رضي الله عنه، فَذكره. وَفِي أُخرى عَنهُ " إِذا قالَ الرجُلُ لِأَخِيهِ: جَزاكَ اللهُ خيرا فقد أبْلَغ " (وأَحَلّهم) أَي أنزلهم (مِن رِيَاض) جمع رَوْضة أَو رَيْضة وَقد تقدم (القُدْس) بِضَم فَسُكُون وَقيل بضمَّتين ورِياض الْقُدس هِيَ حَظيرَتُه، وَهِي الجَنّة، لكَونهَا مُقدَّسة أَي مُطهَّرَة مُنزَّهة عَن الأقذار (مِيطانه) المِيطان كمِيزان موضِعٌ يُهيَّأ لإرسال خَيْلِ السِّباق، فَيكون غَايَة فِي الْمُسَابقَة، أَي وأنزلهم، من محلَاّت الجِنان أَعْلَاهَا، وَمَا تَنتهِي إِلَيْهَا الغاياتُ، بِحَيْثُ لَا يكون وراءَها مَرْمَى أبصارٍ، وَالضَّمِير يعود إِلَى الْقُدس، وَلَو قَالَ رَوْض القُدس كَانَ أجلَّ، كَمَا لَا يَخفى، وَلَكِن الرِّواية مَا قَدَّمنا، وَمِنْهُم من قَالَ إِن مِيطان جَبَلٌ بِالْمَدِينَةِ، وتكلَّف لتصحيح مَعْنَاهُ فَاعْلَم أَنه من التأويلات الْبَعِيدَة الَّتِي لَا يُلتَفت إِلَيْهَا وَلَا يُعوَّل عَلَيْهَا. (هَذَا) هُوَ فِي الأَصْل أَدَاة إِشَارَة للقريب، قُرنت بأداة التَّنْبِيه، وأُتي بِهِ هُنَا للانتقال من أُسلوب إِلَى أُسلوب آخَر، وَيُسمى عِنْد البلغاء فصْل الخِطاب. وَالْمعْنَى خُذْ هَذَا أَو اعتمِدْ هَذَا (وَإِنِّي قد) أَي وَالْحَال أَنِّي قد (نَبَغْت) بالغين الْمُعْجَمَة، كَذَا قرأته على شَيخنَا أَي فقت غَيْرِي (فِي هَذَا الفنّ) أَي اللُّغَة، وَمِنْهُم من قَالَ: أَي ظَهرت، والتفوّق أَوْلى من الظُّهُور، وَفِي النُّسْخَة الرسولية فِي هَذَا الصِّغْو بِالْكَسْرِ، أَي النَّاحِيَة من الْعلم، واستغرَبها شيخُنا واستصوب النُّسْخَة الْمَشْهُورَة، وَهِي سماعُنا على الشُّيُوخ، وَاسْتعْمل الزمخشريُّ هَذِه اللَّفْظَة فِي بعض خطب مؤلّفاته، وَفِي بعض النّسخ نَبعْت بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَعَلَيْهَا شرح القَاضِي عِيسَى بن عبد الرَّحِيم الكجراتي وَغَيره، وتكلَّفوا لمعناه، أَي خرجت من ينبوعه، وَأَنت خبيرٌ بِأَنَّهُ تكلّف مَحّض، ومخالف للروايات، وَقيل: إِن نبَع بالمهملةِ لُغَة فِي نبغ بِالْمُعْجَمَةِ، فَزَالَ الْإِشْكَال (قَدِيما) أَي فِي الزَّمن الأوّل حَتَّى حَصلتْ لَهُ مِنه الثَّمَرَة (وَصَبَغَت) أَي لوَّنت (بِهِ) أَي بِهَذَا الْفَنّ (أَدِيما) أَي الجِلد المدبوغ،

ص: 67

أَي امتزج بِي هَذَا الْفَنّ امتزاجَ الصِّبغ بالمصبوغ (وَلم أَزَلْ) كَذَا الرِّوَايَة عَن الشُّيُوخ، أَي لم أبرَحْ، وَفِي بعض النّسخ لم أَزُلْ، بِضَم الزَّاي، مَعْنَاهُ لم أفارِق، من الزَّوال، وَفِيه تعسُّف ظَاهر (فِي خِدمته مُستدِيما) أَي دَائِما متأنياً فِيهَا. وَفِي الفقرات لُزُوم مَا لَا يلْزم (وكنتُ بُرْهَة) بِالضَّمِّ، وروى الْفَتْح، قَالَ العكبريّ عَن الجوهريّ، هِيَ الْقطعَة من الزَّمَان، وَقَوله (من الدَّهْر) أَي الزَّمن الطَّوِيل، وَيقرب مِنْهُ مَا فسّره الرَّاغِب فِي الْمُفْردَات: إِنَّه فِي الأَصْل اسْم لمُدَّة العالَم من ابْتِدَاء وجوده إِلَى انقضائه، وَمِنْهُم من فسَّر البُرهة بِمَا صدَّر بِهِ المُصَنّف فِي المادَّة، وَهُوَ الزَّمن الطَّوِيل، ثمَّ فسّر الدَّهْر بِهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه، وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ فِي مَعزِل عَن اللطافة وَإِن أورد بعضُهم صِحَّته بتكلّف، قَالَه شَيخنَا (ألتمِسُ) أَي أطلب طلبا أكيداً مرَّةً بعد مرَّةٍ (كِتاباً) أَي مُصنَّفاً مَوْضُوعا فِي هَذَا الْفَنّ، مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ (جَامعا) أَي مُستقصِياً لأكثرِ الفنِّ مملوءًا بغرائبه، وَيُوجد فِي بعض النّسخ قبل قَوْله جَامعا " باهراً "، وَلَيْسَ فِي الأُصول المصححة (بَسيطا) وَاسِعًا مُشْتَمِلًا على الْفَنّ كلّه أَو أَكْثَره مَبْسُوطا يَسْتَغْنِي بِهِ عَن غَيره (ومُصنَّفا) هَكَذَا فِي النّسخ وَفِي بَعْضهَا تَصنيفاً (على الفُصح) بِضَمَّتَيْنِ، جمع فَصيح كقَضيب وقُضُب أَو بِضَم فَفتح ككُبْرى وكُبَر (والشوارِد) هِيَ اللُّغَات الحُوشية الغَريبة الشاذَّة (مُحِيطا) أَي مُشْتَمِلًا، وَلذَا عُدِّيَ بعَلى، أَو أَن عَلَى بِمَعْنى الْبَاء، فَتكون الْإِحَاطَة على حَقِيقَتهَا الْأَصْلِيَّة (ولمَّا أعياني) أَي أتعبني وأعجزني عَن الْوُصُول إِلَيْهِ (الطلاب) كَذَا فِي النّسخ والأُصول، وَهُوَ الطَّلَب، ويأْتي من الثلاثي فَيكون فِيهِ معنى الْمُبَالغَة، أَي الطّلب الْكثير، وَفِي نُسْخَة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن غَانِم المقدسيّ رَحمَه الله تَعَالَى التَّطلاب، بِزِيَادَة التَّاء، وَهُوَ من المصادر القياسيَّة تأْتي غَالِبا للْمُبَالَغَة (شَرَعْت فِي) تأليف (كتابي) أَي مُصَنَّفي (المَوْسُوم) أَي المجعول لَهُ سِمَة وعلامة (باللامِع المُعْلَم العُجاب) هُوَ عَلَم الكتابِ، واللامع: المضيء، والمعلم

ص: 68

كمُكْرَم: البُرْدُ المخطَّط، وَالثَّوْب المنقَّش، والعُجاب كغُراب بِمَعْنى عَجيب، كَذَا فِي تَقْرِير سيّدي عبد السَّلَام اللَّقاني على كنوز الْحَقَائِق، وَالصَّحِيح أَنه يَأْتِي للْمُبَالَغَة وَإِن أسْقطه النُّحَاة فِي ذكر أوزانها، فَالْمُرَاد بِهِ مَا جَاوز حَدَّ اللُّغَة، كَذَا فِي الكَشَّاف، وَقد نقل عَن خطِّ المُصَنّف نَفسه غيرُ واحدٍ أَنه كتب على ظهْرِ هَذَا الْكتاب أَنه لَو قُدِّر تمامُه لَكَانَ فِي مائَة مُجَلَّد، وَأَنه كمَّل مِنْهُ خَمْس مُجَلَّدَات (الجامِع بَين المُحْكم) هُوَ تأليف الإِمَام الْحَافِظ الْعَلامَة أبي الْحسن عليّ بن إِسْمَاعِيل الشهير بِابْن سِيدَه الضَّرِير ابْن الضَّرِير اللّغَوِيّ، وَهُوَ كتاب جامعٌ كبيرٌ، يشْتَمل على أَنْوَاع اللُّغَة، توفّي بِحَضْرَة دَانِية سنة 458 عَن ثَمَانِينَ سنة (والعُبَاب) كغُراب تأليف الإِمَام الْجَامِع أبي الْفَضَائِل رَضِيِّ الدّين الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن حَيدر العُمَرِيّ الصَّغاني الْحَنَفِيّ اللغويّ وَهَذَا الْكتاب فِي عشْرين مجلدًا، وَلم يكمل، لِأَنَّهُ وصل إِلَى مَادَّة بكم، كَذَا فِي المزهر، وَله شوارق الْأَنْوَار وَغَيره، توفّي 19 شعْبَان سنة 650 بِبَغْدَاد، عَن ثَلَاث وَسبعين سنة، وَدفن بِالْحَرِيمِ الطاهريّ، وَهَذَا الْكتاب لم أطّلع عَلَيْهِ مَعَ كَثْرَة بحثي عَنهُ، وَأما الْمُحكم المتقدّم ذِكره عِندي مِنْهُ أَربع مُجلدات، وَمِنْهَا مادّتي فِي هَذَا الشَّرْح. وَفِي مُقَابلَة الْجَامِع باللامع، والمعلم بالمحكم، والعجاب بالعباب، ترصيع حسن (وهُمَا) أَي الكِتابان، هَكَذَا فِي نسختنا، وَفِي أُخْرَى بِحَذْف الْوَاو، وَفِي بَعْضهَا بِالْفَاءِ بدل الْوَاو (غُرَّتَا) تَثْنِيَة غُرَّة، وَفِي بعض النّسخ بِالْإِفْرَادِ (الكُتُب المصَنّفَة فِي هَذَا الْبَاب) أَي فِي هَذَا الْفَنّ، وَالْمرَاد وصفهما بِكَمَال الشُّهرة، أَو بِكَمَال الحُسْن، على اخْتِلَاف إِطْلَاق الأغرّ، وَفِي اسْتِعَارَة أَو تَشْبِيه بليغ (ونَيِّرا) تثنيةُ نيّر كسَيِّد، وَهُوَ الْجَامِع للنُّور الممتلئ بِهِ، والنَّيِّران: الشَّمْس وَالْقَمَر، والتثنية وَالْوَصْف كِلَاهُمَا على الْحَقِيقَة (بَرَاقع) جمْع بِرْقِعَ السَّمَاء السَّابِعَة أَو الرَّابِعَة أَو الأولى، وَالْمعْنَى: هذانِ الكتابانِ هما النِّيرانِ المشرقانِ الطالعانِ

ص: 69

فِي سَمَاء (الفَضْل والآداب) وَمِنْهُم من فسَّر البُرْقُع بِمَا تَستتر بِهِ النِّسَاء، أَو نيّر البرقع هُوَ مَحل مَخْصُوص مِنْهُ، وتمحَّل لبَيَان ذَلِك بِمَا تمجُّه الأسماع، وَإِنَّمَا هِيَ أَوْهَام وأفكار تخالِف النَّقْل وَالسَّمَاع. وعطْف الْآدَاب على الْفضل من عطف الخاصّ على العامّ (وضَمَمْت) أَي جمعت (إِلَيْهِمَا) أَي الْمُحكم والعباب (فَوَائِد) جمع فَائِدَة، وَهِي مَا استفدْته من عِلم أَو مَال (امتلَا) بِغَيْر همز من مَلِئ كفرِحِ إِذا صَار مملوءًا (بهَا) أَي بِتِلْكَ الْفَوَائِد (الوِطاب) بِالْكَسْرِ جمع وَطْب بِالْفَتْح فالسكون، هُوَ الظّرْف، وَله معَان أُخَرُ غير مُرادةٍ هُنَا (واعتَلَى) أَي ارْتَفع (مِنْهَا) أَي من تِلْكَ الْفَوَائِد (الخِطاب) هُوَ تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الغَيْر للإفهام، وَفِي بعض النّسخ " زيادات " بدل " فَوَائِد ". وَبَين امتلا واعتلَى ترصيع، وَبَين الوطاب وَالْخطاب جِناس لَاحق (ففاقَ) أَي علا وارتفع بِسَبَب مَا حواه (كلَّ مُؤلَّف فِي هَذَا الْفَنّ) أَي اللُّغَة، بَيَان للْوَاقِع (هَذَا الْكتاب) فَاعل فاق، وَالْمرَاد بِهِ الْكتاب المتقدِّم ذِكرُه (غير أَنِّي) كَذَا فِي النّسخ المقروءة، وَفِي بَعْضهَا " أَنه " على أَن الضَّمِير يعود إِلَى الْكتاب (خَمَّنْته) أَي قدَّرته وتوهَّمت مَجيئه (فِي ستِّين سِفْرًا) قَالَ الفرَّاء: الْأَسْفَار: الكُتب العِظام، لِأَنَّهَا تُسْفِر عمَّا فِيهَا من الْمعَانِي إِذا قُرِئَت، وَفِي نُسْخَة من الأُصول المكّية: ضَمَّنته، بالضاد الْمُعْجَمَة بدل الْخَاء، وَفِي شِفَاء الغليل لِلشِّهَابِ الخفاجيّ تبعا للسيوطيّ فِي المزهر أَن التخمين لَيْسَ بعرَبيّ فِي الأَصْل. وَفِي نُسْخَة أُخْرَى من الأُصول الزَّبيدية زِيَادَة " بِحَمْد الله " بعد " خمنته "(يُعجِز) أَي يعيى (تَحصيلُه) فَاعل يعجز (الطُّلَاّب) جمع طَالب، كرُكَّاب وراكب، أَي لكثرته، أَو لطوله. وَفِي نُسْخَة ميرزا عَليّ الشِّيرَازِيّ يَعجَز عَن تَحْصِيله الطلاّب (وسُئلت) أَي طَلَب مني جمَاعَة (فِي تَقْدِيم كتاب وَجِيزٍ) أَي أُقدّم لَهُم كتابا آخرَ

ص: 70

مَوْصُوفا بصِغَر الحجْمِ مَعَ سُرْعة الْوُصُول إِلَى فهم مَا فِيهِ، وَالَّذِي يظْهر عِنْد التأمُّل أَن السُّؤَال حَصل فِي الِانْصِرَاف عَن إتْمَام اللامع لِكثرة التَّعَب فِيهِ إِلَى جمع هَذَا الْكتاب (على ذَلِك النِّظام) أَي النهْج والأُسلوب، أَو الْوَضع وَالتَّرْتِيب السَّابِق (وعَمَلٍ) مَعْطُوف على كتاب أَي خَاص (مُفرَّغ) بِالتَّشْدِيدِ، أَي مَصبوب، من فَرِغَ إِذا انْصَبَّ، لَا من فَرَغ إِذا خلا كفرَغَ الْإِنَاء أَو فنِيَ كفرَغَ الزادُ، وتشبيهُ الْعَمَل بالشَّيْء الْمَائِع اسْتِعَارَة بالكِناية، وَإِثْبَات التفريغ لَهُ تَخييلية على رَأْي السَّكَّاكِي، وعَلى رَأْي غَيره تحقيقيّة تَبعيّة (فِي قَالَب) بِفَتْح اللَّام وتكسر آلَة كالمِثال يُفرَغ فِيهَا الجواهرُ الذائبة (الإيجاز) الِاخْتِصَار (والإحكام) أَي الإتقان (مَعَ الْتِزَام إتْمَام الْمعَانِي) أَي إنهائها إِلَى حدٍّ لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء خَارج عَنهُ، والمعاني جمع معْنًى، وَهُوَ إِظْهَار مَا تَضمَّنه اللَّفْظ، من عَنَتِ القِرْبة: أظَهَرت ماءَها، قَالَه الرَّاغِب (وإبرام) أَي إحكام (المباني) جمع مَبنى، اسْتعْمل فِي الْكَلِمَات والألفاظ والصِّيغِ الْعَرَبيَّة، وَفِي الفقرتين الترصيع. وَفِي بعض النّسخ إبراز بدل إبرام، أَي الْإِتْيَان بِها ظَاهِرَة من غير خفاءٍ (فصَرَفْت) أَي وَجَّهْت (صَوْب) أَي جِهة وناحية، وَهُوَ مِمَّا فَاتَ المؤلّف (هَذَا المقصِد عِناني) أَي زِمامي (وألّفت هَذَا الكتابَ) أَي الْقَامُوس، وللسيّد الشريف الْجِرْجَانِيّ قُدِّس سرّه فِي هَذَا كَلَام نَفِيس فَرَاجعه (مَحذُوف الشواهِد) أَي متروكها، والشواهد هِيَ الجزئيات الَّتِي يُؤْتى بهَا لإِثْبَات الْقَوَاعِد النحوية، والألفاظ اللُّغَوِيَّة، والأوزان العَروضية، من كَلَام الله تَعَالَى، وَحَدِيث رَسُول الله

، أَو من كَلَام الْعَرَب الموثوقِ بعرَبيَّتهم على أَن فِي الِاسْتِدْلَال بِالثَّانِي

ص: 71

اخْتِلَافا وَالثَّالِث هم العرَب العَرْباءُ الجاهليّة والمخضرمون والإسلاميون لَا الموَلَّدون، وهم على ثلاثِ طبقاتٍ، كَمَا هُوَ مُفَصَّل فِي محلّه (مطرُوح الزوائدِ) قريب من مَحْذُوف الشواهد، وَبَينهمَا الموازنة (مُعْرِباً) أَي حَالَة كَونه موضِّحاً ومُبَيِّناً (عَن الفُصح والشَّوَارد) وَتقدم تفسيرهما (وجَعلْتُ بِتَوْفِيق الله) جلّ وَعلا، وَهُوَ الإلهام، لوُقُوع الْأَمر على الْمُطَابقَة بَين الشَّيْئَيْنِ (زُفَراً) كصُرَد: البَحر (فِي زِفْر) بِالْكَسْرِ القِرْبة أَي بَحرًا متلاطماً فِي قِرْبة صَغيرة، وَهُوَ كِنَايَة عَن شدّة الإيجاز وَنِهَايَة الِاخْتِصَار، وَجمع الْمعَانِي الْكَثِيرَة فِي الْأَلْفَاظ القليلة، هَذَا الَّذِي قرَّرناه هُوَ المسموع من أَفْوَاه مَشَايِخنَا، وَمِنْهُم من تمحَّل فِي بَيَان هَذِه الْجُمْلَة بمعانٍ أُخَر لَا تَخْلُو عَن التكلُّفات الحَدْسِيَّة الْمُخَالفَة للنقول الصَّرِيحَة (ولخَّصْت) أَي بَيَّنْت وهَذَّبت (كلَّ ثلاثينَ سِفْراً) أَي جعلت مُفادَها ومَعناها (فِي سِفْر) وَاحِد (وضمَّنْته) أَي جَعلت فِي ضِمْنِه وأَدرجت فِيهِ (خُلاصَة) بِالضَّمِّ بِمَعْنى خالِص ولُباب (مَا فِي) كتابي (العُباب والمُحْكم) السَّابِق ذكرهمَا (وأَضفْتُ) أَي ضممت (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الْمُخْتَصر من الْكِتَابَيْنِ (زِياداتٍ) يحْتَاج إِلَيْهَا كلُّ لغويّ أَريب، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا كل أديب، فَلَا يُقَال إِن كَلَام المُصَنّف فِيهِ الْمُخَالفَة لما تقدم من قَوْله مطروح الزَّوَائِد، (مَنَّ الله تَعَالَى بهَا) أَي بِتِلْكَ الزِّيادات أَي هِيَ مَواهِبُ إلهِيّة مِمَّا فتح الله تَعَالَى بهَا (عَلَىَّ وأَنعم) أَي أعْطى وَأحسن (ورَزقنيها) أَي أعطانيها (عِند غَوْصي عَلَيْهَا) أَي تِلْكَ الزِّيَادَات، وَهُوَ كِنَايَة عَمَّا استنبطَتْه أفكارُه السليمة (من بُطُون الكُتب) أَي أجوافها (الفاخِرة) أَي الجيّدة أَو الْكَثِيرَة الْفَوَائِد أَو المعتمَدَة المعوَّل عَلَيْهَا (الدَّأْمَاءِ) ممدودًا هُوَ الْبَحْر (الغَطَمْطَم) هُوَ الْعَظِيم الْوَاسِع المنبسِط،

ص: 72

وَهُوَ من أَسمَاء الْبَحْر أَيْضا إِلَّا أَنه أُريد هُنَا مَا ذَكرْنَاهُ، لتقدم الدَّأْماء عَلَيْهِ، فالدأْماء مفعول أوّل لغوْصي وَهُوَ تَارَة يستغنِي بالمفعول الْوَاحِد، وَتارَة يحْتَاج إِلَى مفعول آخَر فيتعَدَّى إِلَيْهِ بعَلَى، ومِنْ بَيانِيَّة حالٌ من الدأْماء (وأَسَمَيْته) كسمَّيته بِمَعْنى وَاحِد، وهما من الْأَفْعَال الَّتِي تتعدّى للْمَفْعُول الأول بِنَفسِهَا وَللثَّانِي تَارَة بِنَفسِهَا وَتارَة بِحرف جر، فالمفعول الأول الضَّمِير الْعَائِد للْكتاب، وَالْمَفْعُول الثَّانِي (القَامُوسَ) هُوَ الْبَحْر (الْمُحِيط) وَيُوجد فِي بعض نسخ المقلّدين التَّعَرُّض لبَقيَّة التَّسْمِيَة الَّتِي يُورِدها المُصَنّف فِي آخر الْكتاب، وَهُوَ قَوْله والقابوس الْوَسِيط، فَفِي بعضٍ الِاقْتِصَار على هَذَا، وَفِي أُخرى زِيَادَة " فِيمَا ذهب من لُغة الْعَرَب شَمَاطيط " وكل ذَلِك لَيْسَ فِي النّسخ الصَّحِيحَة وَيرد على ذَلِك أَيْضا قَوْله (لِأَنَّهُ) أَي الْكتاب (البحرُ الْأَعْظَم) فَإِن هَذَا قَاطع لبَقيَّة التَّسْمِيَة، قَالَ شَيخنَا: وَإِنَّمَا سمي كِتَابه هَذَا بالقاموس الْمُحِيط على عَادَته فِي إبداع أسامي مُؤَلّفاته، لإحاطته بلغَة الْعَرَب، كإحاطة الْبَحْر للرُّبْع الْمَعْمُور. قلت: أَي فَإِنَّهُ جمع فِيهِ سِتين ألف مَادَّة، زَاد على الْجَوْهَرِي بِعشْرين ألف مَادَّة، كَمَا أَنه زَاد عَلَيْهِ ابْن مَنْظُور الإفْرِيقِي فِي لِسَان الْعَرَب بِعشْرين ألف مَادَّة، وَلَعَلَّ المُصَنّف لم يطّلع عَلَيْهِ، وَإِلَّا لزاد فِي كِتَابه مِنْهُ، وَفَوق كل ذِي علم عليم، وَمِمَّا أَحْمد الله تَعَالَى على نعْمَته أَن كَانَ من جملَة موادّ شرحي هَذَا كتابُه الْمَذْكُور.

قَالَ شَيخنَا رحمه الله: وَقد مَدح هَذَا الكتابَ غيرُ واحِدٍ مِمَّن عاصره وغيرُهم إِلَى زَمَاننَا هَذَا، وأَوْرَدوا فِيهِ أعارِيض مُخْتَلفَة، فَمن ذَلِك مَا قَالَه الأديب البارع نُور الدّين عليّ بن مُحَمَّد الْعَفِيف المكيّ الْمَعْرُوف بالعليفي. قلت: ووالده الأديب جمال الدّين مُحَمَّد بن حسن بن عِيسَى، شُهر بِابْن العليف، توفّي بِمَكَّة سنة 815، كَذَا فِي ذيل الْحَافِظ تَقِيّ الدّين بن فَهد على ذيل الشريف أبي المحاسن. ثمَّ قَالَ شَيخنَا:

ص: 73

وَقد سمعتهما من أشياخنا الْأَئِمَّة مرَّات، ورأيتهما بِخَط وَالِدي قدّس سرّه فِي مَوَاضِع من تقاييده، وسمعتهما مِنْهُ غير مرَّة، وَقَالَ لي إِنَّه قالهما لما قُرئ عَلَيْهِ كتاب الْقَامُوس:

(مُذْ مَدّ مَجْدُ الدِّينِ فِي أَيَّامِهِ

مِنْ بعْضِ أَبْحُرِ عِلْمِهِ القَامُوسَا)

(ذَهَبَتْ صَحَاحُ الجَوْهَرِيِّ كأَنَّها

سِحْرُ المدائِن حِينَ أَلْقَى مُوسَى)

وَفِي بعض الرِّوَايَات " وَاحِد عصره " بدل " فِي أَيَّامه " و " فيض " بدل " بعض " و " أضحت " بدل " ذهبت ". قلت: وَمثله أنشدنا الأديب البارع عُثْمَان بن عليٍّ الجبيلي الزَّبيدي والفقيه المفنّن عبد الله بن سُليمان الجرهزِي الشَّافِعِي إِلَّا أَنَّهُمَا نسباهما إِلَى الإِمَام شهَاب الدّين الردّاد، أنشدهما لما قُرئ عَلَيْهِ الْقَامُوس، وَنَصّ إنشادهما.

(مُذْ مَدّ مجدُ الدّين فِي أرجَائنا

)

وَفِي " القاموسا " و " ألْقى مُوسَى " جناس تَامّ، وَقد استظرَفَت أديبة عَصْرِها زَيْنَب بنت أَحْمد بن مُحَمَّد الحسنية المتوفاة بشهارة سنة 1114 إِذْ كتبت إِلَى السَّيِّد مُوسَى بن المتَوَكل تطلب مِنْهُ الْقَامُوس فَقَالَت:

(مَوْلَاي مُوسَى بالذِي سَمَكَ السَّمَا

وبِحَقِّ مَنْ فِي اليَمِّ أَلْقَى مُوسَى)

(أُمْنُنْ عليّ بِعَارَةٍ مَرْدُودَةٍ

واسْمَح بفضْلِك وابْعَثِ القَامُوسَا)

قَالَ شَيخنَا: وَقد رَدّ على القَوْل الأوّل أديبُ الشأْم وصُوفِيّه شيخ مَشَايِخنَا العلاّمة عبدُ الْغَنِيّ بن إِسْمَاعِيل الكِناني الْمَقْدِسِي الْمَعْرُوف بِابْن النابُلسي، قدس سره، كَمَا أسمعنا غيرُ واحدٍ من مَشَايِخنَا الْأَعْلَام عَنهُ:

(مَنْ قَال قَدْ بَطَلَتْ صِحَاحُ الجَوْهَرِي

لَمَا أَتى القَامُوسُ فَهْوَ المُفْتَرِي)

(قُلْتُ اسْمُه القَامُوسُ وَهْوَ البَحْرُ إنْ

يَفْخَرْ فَمُعْظَمُ فَخْرِه بالجَوْهَرِي)

(قلت) وأصل ذَلِك قَول أبي عبد الله رحمه الله:

ص: 74

(لله قاموسٌ يَطيبُ وُرُودُه

أَغْنَى الوَرَى عَنْ كُلِّ مَعْنًى أَزْهَرِ)

(نَبَذ الصحاحَ بلَفظه والبَحْر مِن

عَادَاته يُلْقِي صحَاحَ الجَوْهَرِي)

ونُقل من خطّ المجدِ صاحِبِ الْقَامُوس قَالَ: أنشدنا الفقيهُ جمالُ الدّين مُحَمَّد ابْن صباح الصباحيّ لنَفسِهِ فِي مدح هَذَا الْكتاب:

(مَنْ رَامَ فِي اللُّغَةِ العُلُوَّ عَلَى السُّهَا

فَعَلَيْه مِنْهَا مَا حَوى قامُوسُهَا)

(مُغْنٍ عَنِ الكُتُبِ النَّفيسَةِ كُلِّها

جَمَّاعُ شَمْلِ شَتِيتِهَا نامُوسُهَا)

(فَإذا دَوَاوِينُ العُلُومِ تَجَمَّعَتْ

فِي مَحْفِلٍ للدَّرْسِ فَهْوَ عَرُوسُهَا)

(للهِ مَجْدُ الدِّينِ خَيْرُ مُؤَلِّفٍ

مَلَك الأئمَّةَ وافتَدَتْه نُفُوسُها)

وَوجدت لبَعْضهِم مَا نصّه:

(ألَا لَيْسَ مِنْ كُتْبِ اللُّغاتِ مُحَقَّقًا

يُشَابِهُ هذَا فِي الإحاطَةِ والجَمْعِ)

(لَقَدْ ضَمَّ مَا يَحْوِي سِوَاهُ وفَاقَه

بِما اختَصَّ مِنْ وَضْعٍ جَمِيلٍ وَمن صُنْعِ)

(وَلما رأيتُ إقبال الناسِ) أَي توجُّه خاطِرِ عُلَمَاء وقته وَغَيرهم بالاعتناء الزَّائِد والاهتمام الكثيرِ (على صِحاح) الإِمَام أبي نصر إِسْمَاعِيل بن نصر بن حَمّاد (الجوهريِّ) لِبيع الْجَوْهَر، أَو لحسن خَطِّهِ أَو غير ذَلِك، الفارابيّ نِسبةً إِلَى مَدِينَة بِبِلَاد التّرْك، وَسَيَأْتِي فِي ف ر ب من أذكياء الْعَالم، وَكَانَ بخطِّه يُضرَب الْمثل، توفّي فِي حُدُود الأربعمائة، على اخْتِلَاف فِي التَّعْيِين، اختُلِف فِي ضَبْط لفظ الصِّحَاح، فالجاري على ألسِنة النَّاس الْكسر، ويُنكرون الفَتح، ورَجّحه الْخَطِيب التبريزي على الْفَتْح، وأَقرَّه السُّيُوطِيّ فِي المزهر، وَمِنْهُم من رجَّح الْفَتْح، قَالَ شَيخنَا: وَالْحق صِحَّة الرِّوَايَتَيْنِ وثبوتُهما من حَيْثُ الْمَعْنى، وَلم يرد عَن الْمُؤلف فِي تَخْصِيص أحدِهما بالسَّند الصَّحِيح مَا يُصار إِلَيْهِ وَلَا يُعْدل عَنهُ (وَهُوَ) أَي الْكتاب أَو مُؤَلفه (جَدِير) أَي حَقيق وحَرِيّ (بذلك) الإقبال، قَالَ شَيخنَا: وَقد مدحه غيرُ وَاحِد من الأفاضل، ووصفوا كِتابه بالإجادة، لالتزامه الصَّحِيح، وبَسْطه الْكَلَام، وإيراده

ص: 75

الشواهد على ذَلِك، وَنَقله كَلَام أهل الْفَنّ دون تصرف فِيهِ، وَغير ذَلِك من المحاسن الَّتِي لَا تُحْصَى، وَقد رزقه الله تَعَالَى شُهرة فاق بهَا كلَّ من تقدمه أَو تأخّر عَنهُ، وَلم يَصل شَيْء من المصنَّفات اللُّغَوِيَّة فِي كَثْرَة التداول والاعتماد على مَا فِيهِ مَا وصل إِلَيْهِ الصِّحَاح، وَقد أنْشد الإِمَام أَبُو مَنْصُور الثعالبي لأبي مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عَبدُوس النَّيْسَابُورِي:

(هذَا كِتَابُ الصَّحَاح سَيِّدُ مَا

صُنِّفَ قَبْلَ الصّحَاح فِي الأدبِ)

(تَشمَلُ أبوابُهُ وتَجْمَعُ مَا

فُرِّقَ فِي غَيْرِه مِنَ الكُتُبِ)

(غير أَنه) أَي الصِّحَاح قد (فاتَه) أَي ذَهب عَنهُ (نِصف اللغةِ) كَذَا فِي نُسْخَة مكّية، وَفِي الناصِرِيّة على مَا قيل ثُلثا اللُّغَة (أَو أَكثر) من ذَلِك، أَي فَهُوَ غير تَامّ، لفَوَات اللُّغَة الْكَثِيرَة فِيهِ. قَالَ شَيخنَا: وصريح هَذَا النَّقْل يدلّ على أَنه جمع اللُّغَة كلهَا وأحاط بأَسرها، وَهَذَا أَمر متعذّر لَا يُمكن لأحد من الْآحَاد إِلَّا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَقد تقدم فِي أوّل الْكتاب نصُّ الإِمَام الشافعيّ رضي الله عنه فِيهِ، فَإِذا عرفت ذَلِك ظهر لَك أَن ادِّعاءَ المصنّف حَصْر الْفَوات بِالنِّصْفِ أَو الثُّلثَيْنِ فِي غير محلّه، لِأَن اللُّغَة لَيْسَ يُنال مُنتهاها، فَلَا يُعرَف لَهَا نِصف وَلَا ثُلث، ثمَّ إِن الجوهريّ مَا ادّعى الْإِحَاطَة، وَلَا سَمَّى كِتَابه الْبَحْر وَلَا الْقَامُوس، وَإِنَّمَا الْتزم أَن يُورد فِيهِ الصَّحِيح عِنْده، فَلَا يلْزمه كل الصَّحِيح، وَلَا الصَّحِيح عِنْد غَيره، وَلَا غير الصَّحِيح، وَهُوَ ظَاهر، انْتهى. ثمَّ بيّن وَجه الْفَوات فَقَالَ (إِمَّا بإهمال) أَي ترك (المادّة) وَهِي حُرُوف اللَّفْظ الدالّ على الْمَعْنى، وَالْمرَاد عدم ذكرهَا بالكلّيّة (أَو بترك الْمعَانِي الغَريبة) أَي عَن كثير من الأفهام، لعدم تداولها (النّادّة) أَي الشارِدة النافِرة (أَردْت أَن يَظهر) أَي ينْكَشف (للناظِر) المتأمّل (بَادِيَ) مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة مُضَاف إِلَى (بَدَا) أَي أوّل كل شَيْء قبل الشُّرُوع فِي غَيره (فَضْلُ كِتابي هَذَا عَلَيْهِ) أَي الصِّحَاح

ص: 76

(فَكتبت بالحُمرة المادَّة) أَي اللَّفْظَة أَو الْكَلِمَة (المهمَلة) أَي المتروكة (لَدَيْه) أَي الصِّحَاح (وَفِي سَائِر التراكيب) أَي بَاقِيهَا أَو جَمِيعهَا (تتَّضِح) أَي تتبين وَتظهر ظهورًا وَاضحا (المَزِيَّة) الْفَضِيلَة والمأْثرة (بالتوَجُّه) أَي الإقبال وَصرف الهمّة (إِلَيْهِ) أَي إِلَى كِتَابه، وَفِي هَذَا الْكَلَام بَيَان أَن الموادّ الَّتِي تَركهَا الجوهريّ رحمه الله وزادها المُصَنّف ميزها بِمَا يعرّفها، وَهِي كتَابَتهَا بالحمرة، لإِظْهَار الْفضل السَّابِق، ولشيخنا رحمه الله هُنَا كَلَام، لم نعطف إِلَى بَيَانه زِمام، فَإِنَّهُ مورث للملام، وَالله سُبْحَانَهُ الْملك العلاّم (وَلم أَذْكُر ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا تقدم من مدح كِتَابه وَذكر مناقبه (إِشَاعَة) أَي إذاعة وإظهارا (للمَفَاخر) جمع مَفخَر ومَفَخُرة بِالْفَتْح فيهمَا، وبضم الثَّالِث فِي الثَّانِي لُغَة، مفعل من الفَخْر، وَيُقَال الفَخَار والافتخار، هُوَ الْمَدْح بالخصال المحمودة، قَالَ شَيخنَا: وجوّز الْبَدْر الْقَرَافِيّ ضبط المفاخر بِضَم الْمِيم اسْم فَاعل من فاخَرَه مُفاخرةً، وَجعله متعلِّقاً بأذكر، أَي لم أذكرهُ للشَّخْص المفاخِر. الَّذِي يفاخرني فأَفتخر عَلَيْهِ بِالْكتاب، وَهُوَ من الْبعد بمَكَان (بل إذاعةً) أَي نشًرا وإفشاء (لقوْل) أبي تَمام حَبيب بن أَوْس الطَّائِي (الشَّاعِر) الْمَعْرُوف وَهُوَ:

(لَا زِلْتَ مِنْ شُكْرِيَ فِي حُلَّة

لابِسُها ذُو سَلَبٍ فَاخِرِ)

(يَقُولُ مَنْ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُ

(كَمْ تَرَك الأوَّلُ لِلآخِرِ))

وَهَذَا الشّطْر الْأَخير جارٍ فِي الْأَمْثَال المتداولة الْمَشْهُورَة حَتَّى قَالَ الجاحظ:

(مَا عَلِم النَّاسُ سِوَى قَوْلِهِم

كَمْ تَرَك الأوَّل لِلآخِرِ)

ثمَّ إِن قَوْله " وَلم أذكر ذَلِك " إِلَخ ثَبت فِي نُسخة الْمُؤلف، كَمَا صرح بِهِ المحبّ ابْن الشّحْنَة، وأثبته الْبَدْر

ص: 77

الْقَرَافِيّ أَيْضا، وَشرح عَلَيْهِ المنَاوي وَابْن عبد الرَّحِيم وَغير وَاحِد، وَسقط من كثير من النّسخ.

(وَأَنت أَيهَا اليَلْمع) كَأَنَّهُ مُضارع من لَمع الْبَرْق، زيدت عَلَيْهِ أل، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يلمع ويتوقّد ذَكاءً، ويتفطن الأُمور فَلَا يُخطئ فِيهَا، وَالْمَعْرُوف فِيهِ اليلمعيّ بِالْيَاءِ الْمُشَدّدَة الدَّالَّة على الْمُبَالغَة، كالألمعيّ بِالْهَمْزَةِ، وَأما اليلمع فَهُوَ البَرْق الخُلَّب، وَبِمَعْنى الكذَّاب، وَكِلَاهُمَا غير مُنَاسِب (العَرُوف) كصَبور، مُبَالغَة فِي الْعَارِف أَي ذُو الْمعرفَة التامّة (والمَعْمَع) هُوَ الصَّبر على الأُمور ومزاولتها، وَهُوَ على تَقْدِير مُضَاف أَي ذُو المعمع (اليَهْفُوف) كيَعْفُور، الحديدُ القلبِ وَيُطلق على الجَبَان أَيْضا، وَلَيْسَ بمرادٍ هُنَا (إِذا تأمّلت) أَي أمعنت فِيهِ الْفِكر وتدبرته حقَّ التدبُّر (صَنِيعي هَذَا) مصدر كالصُّنع بِالضَّمِّ بِمعنى الْمَصْنُوع، أَي الَّذِي صَنعته، وَهُوَ الْكتاب المسمّى بالقاموس (وجَدْته) أَي الصَّنِيع أَو الْكتاب (مشتمِلاً) أَي مُنْضَمًّا (على فَرائدَ) جمع فَرِيدة وَهِي الجوهرةُ النفيسة، والشَّذْرَة من الذَّهَب والقطعة الَّتِي تَفْصِل بَين الْجَوَاهِر فِي القلائد، كَمَا سَيَأْتِي (أثِيرة) أَي جليلة لَهَا أَثَرَة وخصوصية تمتاز بهَا، أَو أَن هَذِه الْفَوَائِد متلقَّاة من قَرْن بعد قَرْن (وفوائد) جمع فَائِدَة، وَهِي مَا استفدته من علم أَو مَال (كَثِيرَة) وَفِي الْفَقْرَة كأُختها السَّابِقَة حسْنُ ترصيع والالتزام (من حُسْن الِاخْتِصَار) وَهُوَ حذف الفُضُول وإزالتها، أَو الْإِتْيَان بالْكلَام مستَوْفِيَ الْمعَانِي والأغراض (وتَقرِيب العِبارة) أَي إدنائها وتوصيلها إِلَى الأَفهام بِحسن الْبَيَان (وتَهْذِيبِ الْكَلَام) أَي تنقيحه وإصلاحه وَإِزَالَة زوائده (وإيراد الْمعَانِي الْكَثِيرَة فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة) أَي القليلة.

(وَمن أحسن مَا اختصَّ بِهِ) وتميّز عَن غَيره وَانْفَرَدَ (هَذَا الكتابُ) أَي الْقَامُوس (تخلِيصُ الْوَاو من الْيَاء) الحرفان المعروفان أَي تمييزها مِنْهَا (وَذَلِكَ) أَي التخليص (قِسْمٌ) أَي نوع من التَّصَرُّفَات الصَّرفية واللغوية (يَسِمُ) مِن وَسَم إِذا جعل لَهُ سِمةً وَهِي الْعَلامَة (المصنِّفين) هم أَئِمَّة

ص: 78

الْفَنّ الْكِبَار (بالعيّ) وَهُوَ بِالْفَتْح الْعَجز والتعب وَعدم الإطاقة، وَيسْتَعْمل بِمَعْنى عدم الاهتداء لوجه المُرَاد، وبالكسر الحَصَرُ والعَجز فِي النُّطْق خَاصَّة (والإعياء) مصدر أَعْيَا رُباعيًّا إِذا تَعب، قَالَ شَيخنَا: وَبَعْضهمْ يَقُول العيّ من الثلاثي العَجز الْمَعْنَوِيّ، والإعياء الرباعي الْعَجز الجسماني، وَالْمعْنَى أَن هَذَا النَّوْع فِي التَّصَرُّف اللغويّ والصرفيّ مِمَّا يُوجب للمهرة فِي الْفَنّ الْعَجز وَعدم الْقُدْرَة حسًّا وَمعنى لما فِيهِ من الصعوبة الْبَالِغَة والتوقف على الْإِحَاطَة التامَّةِ، والاستقراء التَّام، بل يتَوَقَّف إِدْرَاكهَا على اطِّلاع عَظِيم وَعلم صَحِيح.

(وَمِنْهَا) أَي من محَاسِن كتابِه الدَّالَّة على حسن اختصاره (أَنِّي لَا أذكُر مَا جاءَ من جمع فاعلٍ) الَّذِي هُوَ اسْم فَاعل (المعتَلّ الْعين) الَّذِي عينه حرف عِلّة يَاء أَو واوًا (على فَعَلة) محركة فِي حَال من الْأَحْوَال (إِلَّا أَن يَصح) أَي يُعَامل (مَوضِع العينِ مِنْهُ) أَي من الْجمع معاملةَ الصَّحِيح، بِحَيْثُ يَتَحَرَّك وَلَا يعلّ (كجَوَلَة) بِالْجِيم من جال جَوَلانَا (وخَوَلَة) بِالْمُعْجَمَةِ جمع خائل، وَهُوَ المتكبّر، فَإِنَّهُمَا لما حُرّكت الْعين مِنْهُمَا أُلحِقا بِالصَّحِيحِ، وَإِن كَانَت فِي الأَصْل معتلة، فَإِنَّهَا لم تُعَلّ أَي لم يدخلهَا فِي الْجمع إعلال، فَصَارَت كَالصَّحِيحِ نَحْو طَلَبة وكَتبَة، فَاسْتحقَّ أَن تُذكر لغرابتها وخروجها عَن الْقيَاس (وَأما مَا جاءَ مِنْهُ) أَي من الْجمع (معتلاًّ) أَي مغيِّراً بالإبدال الَّذِي يَقْتَضِيهِ الإعلال (كبَاعة وسَادة) وَفِي نُسْخَة " وقادة " بدل " وسَادَة " جمع بَائِع وسيّد وقائد، وأَصلهما بَيَعَة وسَيَدَة، تحركت اليَاء وَانْفَتح مَا قبلهَا فَصَارَت ألفا (فَلَا أذكرهُ لاطِّراده) أَي لكَونه مطّردًا مَقيساً مَشْهُورا، وَفِي المزهر: قَالَ ابْن جني فِي الخصائص: أصل مَوَاضِع طَرَد فِي كَلَامهم التَّتَابُع والاستمرار، من ذَلِك طَرَدْت الطَّرِيدة إِذا تبعتها واستمرَّت بَين يَديك، وَمِنْه مُطارَدَة الفرسان بَعضهم بَعْضًا، ثمَّ جعل أهل الْعَرَبيَّة مَا استمرَّ من كلامٍ وَغَيره من مَوَاضِع الصِّناعة مطَّرِدًا، وَجعلُوا مَا فَارق مَا عَلَيْهِ

ص: 79

بقيّة بَابه وَانْفَرَدَ عَن ذَلِك شاذًّا. قلت وَقد تقدم طَرف من ذَلِك فِي المقدِّمة، قَالَ شَيخنَا: وَهَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي العُدول عَنهُ، على أَن المُصَنّف أخلَّ بِهَذَا الشَّرْط، بل وَبِغَيْرِهِ من شُروطه، فَهِيَ أغلبيَّة، لَا لَازِمَة، فَظَاهر كَلَامه أَنه لَا يذكر سادة وقادة، وَقد ذكر كلاًّ مِنْهُمَا فِي مادّته، نعم أهمل باعَة على الشَّرْط، وَذكر عَالَة وذَادة وَغَيرهمَا. وَقَالَ المحبّ بن الشّحْنَة والقرافي: إِن فِي الْكَلَام تقدِيماً وتأخيراً، حَدَاه عَلَيْهِ التقْفِية، أَي لم يذكر مَا جاءَ على وزن فَعَلة مَفْتُوح الْعين إِذا كَانَت عَنهُ حرف عِلّة، كجَوَلة وخَوَلة وأشباههما لاطراده، أَي لمشابهة بعضِه بَعْضًا، قَالَ شَيخنَا: وَفِيه نظر، فَإِنَّهُ لَا قافية هَا هُنَا، بل جاءَ بِهذا الْكَلَام ترسيلاً، كَمَا هُوَ ظَاهر، وَقَالَ الشَّيْخ الْمَنَاوِيّ: قَوْله كجَولَة وخَولة فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْأَصْل: لَا أذكر مَا جَاءَ على وزن فَعَلة مَفْتُوح الْعين إِذا كَانَت عينه حرف عِلّة، كجَوَلَة وخَوَلة وَنَحْوهمَا، وَإِنَّمَا أذكر مَا جَاءَ صَحِيح الْعين، كدَرَجَة، وخَرَجة، انْتهى. وَالصَّحِيح مَا قدَّمناه، وَبِمَا نَقَلْنَاهُ عَن المزهر يبطل كلامُ الْقَرَافِيّ فِي الاطِّراد.

ثمَّ شرع فِي بَيَان الْوَجْه الثَّالِث من وُجُوه التحسين الَّذِي أودعها هَذَا الْكتاب بقوله:

(وَمن بَديع اختصاره) أَي الَّذِي ابتدعه وَلم يَسبقه بِهِ غَيره (وحُسْن ترصيع) أَي تحلية (تِقْصَاره) بِالْكَسْرِ هِيَ القلادةِ، وَفِي الْفَقْرَة مَعَ شبه الترصيع الِالْتِزَام (أَنِّي إِذا ذكرت صِيغة الْمُذكر) أَي بِنْيَته وهَيْأَته (أتبعتها) أَي ألحقتها بعد صِيغَة الْمُذكر (المؤنّث بِقَوْلِي وَهِي) أَي الأُنثى (بهاء) أَي هَاء التَّأْنِيث، كَمَا ستعلم أمثلته (وَلَا أُعيد) أَي لَا أُكرر (الصِّيغة) مرّةً ثَانِيَة، بل أَترك ذَلِك وأَحذفه اختصارًا إِلَّا فِي بعض الْمَوَاضِع لموانع تتَعَلَّق هُنَاكَ، وَفِي بَعْضهَا سَهوا من الْمُؤلف، كَمَا تَأتي الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي مَحَله.

(و) الْوَجْه الرَّابِع من وُجُوه التحسين أَنِّي (إِذا ذكرت الْمصدر) وَهُوَ اللَّفْظ الَّذِي

ص: 80

يدل على الحَدَث خاصّةً (مُطلقًا) أَي ذِكْرًا مُطلقًا، وَهُوَ عِنْدهم مَا دلَّ على الماهِيَّة بِلَا قَيْدٍ أَو بِكَسْر اللَّام، أَي حَالَة كوني مُطْلِقاً لَهُ غير مقيِّدٍ بِشَيْء (أَو) ذكرت الْفِعْل (الْمَاضِي) وَهُوَ مَا دلّ على حدث مقترن بِزَمن مَاض (بِدُونِ) أَي بِغَيْر (الْآتِي) وَهُوَ الْمُسْتَقْبل وَهُوَ الْمُضَارع (وَلَا مانعَ) هُنَاكَ (فالفِعْل) الْمَاضِي أَو الْمُضَارع كَائِن (على مِثَال كَتَب) كنَصر، أَي على وَزنه، وَهَذَا الْبَاب أحد الدعائم الثَّلَاثَة، وَيُقَال لَهُ الْبَاب الأوّل من الثلاثي المجرَّد، وَالْمَانِع من الضَّم فِي مضارعه أَرْبَعَة:

أَحدهَا أَن يكون فِي عينه أَو لامه حرفٌ من حٌ روف الْحلق، فَإِن الْبَاب فِيهِ الْفَتْح، وَرُبمَا جاءَ على الأَصْل، إِمَّا على الضَّم فَقَط، كَقَوْلِك سَعَلَ يَسْعُل، ودَخَل يَدخُل، وصرَخ يصرُخ، ونفَخ ينفُخ، وطبخَ يطبُخُ، وَإِمَّا على الْكسر فَقَط نَحْو نَزع ينزِع، ورجَع يرجِع، ووأل يئل، وَهُوَ فِي الْهمزَة أقلّ، وَكَذَلِكَ فِي الْهَاء، لِأَنَّهَا مُسْتفِلة فِي الْحلق، وَكلما سَفل الْحَرْف كَانَ الْفَتْح لَهُ ألزم، لِأَن الْفَتْح من الْألف وَالْألف أقرب إِلَى حُرُوف الْحلق من أُختيها، وَرُبمَا جاءَ فِيهِ الْوَجْهَانِ إِمَّا الضمُّ، وَالْفَتْح، وَإِمَّا الْكسر وَالْفَتْح، فَأَما مَا جاءَ فِيهِ الضَّم وَالْفَتْح فَقَوْلهم: شحَبَ يشحَب ويشحُب، وصلَح يصلَح ويصلُح، وفرَغ يفرَغ ويفرُغ، وجنَح يجنَحُ ويجنُح، ومضَغ يمضَغ ويمضُغ، ومخَض يمخَض ويمخُض، وسلَخ يسلَخ ويسلُخ، ورعَف يرعَف ويرعُف، ونَعس ينعَس ويَنْعُس ورعَدت السَّمَاء تَرْعَد وترعُد، وبَرأ من الْمَرَض يبرأ ويبرُؤ، قَالَ أَبُو سعيد السيرافي: لم يَأْتِ مِمَّا لَام الْفِعْل فِيهِ همزَة على فعَل يفعُل بِالضَّمِّ إِلَّا هَذَا الْحَرْف، وَوجدت أَنا حرفين آخَرين وهما: هَنَأَ الْإِبِل يهنُؤُها بِالضَّمِّ ويهْنَأُها إِذا طلاها بالهناء وَهُوَ القطرَان، وقرأَ يقرَأ ويقرُؤ، حَكَاهُمَا ابنُ عُديس فِي كتاب الصَّوَاب، وَأما مَا جاءَ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْكسر وَالْفَتْح فَقَوْلهم زأَر الأَسد يزأَر ويزئِر، وهنأَ يهنِئ ويهنَأ، إِذا أعْطى، وشحَج الْبَغْل يشحَج ويشحج، وشهَق الرجل يشهَق

ص: 81

ويشهِق، ورضَع يرضَع ويرضِع، ونَطح الْكَبْش ينطَح وينطِح، ومنَح يمنَح ويمنِح، ونبَح ينبَح وينبِح، وَرُبمَا اسْتعْملت الْأَوْجه الثَّلَاثَة، قَالُوا نحَت ينحَت وينحِت وينحُت، ودَبَغَ الْجلد يدبَغه ويدبِغه ويدبُغه ونَبَغ الْغُلَام ينبَغ وينبِغ وينبُغ إِذا علا شبابُه وَظهر كَيْسُه، ونَهق الْحمار ينهَق وينهِق وينهُق، ورجَح الدِّرْهَم يرجَح ويرجِح ويرجحُ، ونحَل جِسْمه يَنحَل وينحِل وينحُل، ومَخَض اللَّبن يمخَضه ويمخِضه ويمخُضه، وهَنَأَ الْإِبِل، إِذا طلاها بالقَطِرَانِ فَهُوَ يهنُؤُها ويَهنِئها ويَهْنَأَها، ولغا الرجل فَهُوَ يَلْغِي ويَلْغُو ويَلْغَى، عَن الفرّاء فِي كتاب اللُّغَات، ومحى الله الذُّنُوب يمْحُوها ويمحِيها ويَمحاها، وسَحَوْت الطين عَن الأَرْض أسحَاه وأسحُوه وأسحِيه، والكَسر عَن القَزّاز، وشحَحَت أَشَحّ وأَشُحُّ وأَشِحُّ إِذا بخلت، وَالْفَتْح عَن ابْن السَّيِّد فِي مُثلّثه. هَذَا حكم حرف الْحلق إِن وَقع عينا، كَذَا فِي بُغية الآمال للْإِمَام اللّغَوِيّ شارِح الفصيح أبي جَعْفَر اللبْليّ رَحمَه الله تَعَالَى.

وَالْمَانِع الثَّانِي أَن يكون واويّ الْفَاء كوَعَد، فَالْقِيَاس فِي مضارعه الْكسر، كوعَد ووَزَن، تَقول فِي مضارعهما يَعِد ويَزِن، وَقِيَاس كلّ فعل على هَذَا الْوَزْن مَا عدا فعلا وَاحِدًا فَقَط، وَهُوَ وَجَدَ يَجُد بِضَم الْجِيم من يَجُد، وَالْمَشْهُور يَجِد بِالْكَسْرِ، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقد قَالَ نَاس من الْعَرَب وجَد يَجُد، بِالضَّمِّ، كأَنهم حَذفوها من يَوجد، وَهَذَا لَا يكَاد يُوجد فِي الْكَلَام، قَالَ أَبُو جَعْفَر اللبلي: وعَلى الضَّم أنشدوا هَذَا الْبَيْت لجرير:

(لَوْ شِئْتِ قد نَقع الفُؤَادَ بِشَرْبة

تَدَع الصَّوَادِي لَا تَجُدْنَ غَلِيلَا)

ثمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قلَّ يجُد بِالضَّمِّ كراهَة الضمة بعد الْيَاء، كَمَا كرِهوا الْوَاو بعْدهَا، وَإِن كَانَ لامه حرفا من حُرُوف الْحلق نَحْو وضع ووقَع فَإِن مضارعه يَأْتِي بِالْفَتْح وَحذف الْوَاو إِلَّا فِي كلمة وَاحِدَة وَهِي وَلَغ يَلِغ، فَإِنَّهُ قد حكى بِفَتْح الْمَاضِي وَكسر الْمُسْتَقْبل، وَالْمَشْهُور يَلَغ بِالْفَتْح، وَهَذَا قد أَغفله شَيخنَا مَعَ تصرُّفه فِي علم التصريف.

ص: 82

وَالْمَانِع الثَّالِث أَن يكون الْفِعْل معتلاًّ بِالْيَاءِ، فَإِن مضارعه حِينَئِذٍ يَجِيء بِالْكَسْرِ فَقَط، وَلَا يَجِيء بِالضَّمِّ، سَوَاء كَانَ متعدّياً، نَحْو قَوْلك كال زيدٌ الطعامَ يكِيله وذَامه يَذِيمه، أَو غير متعدٍّ، كَقَوْلِك عَال يَعِيل وصَار يَصير.

وَالْمَانِع الرَّابِع أَن يكون الفِعل معتل اللَّام بِالْيَاءِ، فَإِن مضارعه حينَئذ أَيْضا عَلَى يفعِل مكسورًا، سَوَاء كَانَ متعدّيا، نَحْو قَوْلك رَمَى زيدٌ الأَسدَ يَرْمِيه، ونمَى زيد الشيءَ يَنميه، أَي رَفَعه، أَو غير متعدٍّ، نَحْو قَوْلك سَرَى يَسرِي وهَمَت عينُه تَهْمي.

فَهَذِهِ الأُمور الْأَرْبَعَة موجبةٌ لمنع الْمُضَارع من الضَّم.

(وَإِذا ذكرت) الْمَاضِي وَذكرت (آتيَه) مُتَّصِلا بِهِ (بِلَا تَقْيِيد) أَي بِلَا ضبط وَلَا وزن (فَهُوَ) أَي الْفِعْل (على مِثال ضَرَبَ) بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي وَكسرهَا فِي الْمُضَارع، وَهُوَ الْبَاب الثَّانِي من الثلاثي الْمُجَرّد المطّرد وَثَانِي الدعائم الثَّلَاثَة (على أَنِّي أذهب) وأختار وأعتقد وأميل (إِلَى مَا قَالَ) إِمَام الْفَنّ (أَبُو زيد) مَشْهُور بكنيته، واسْمه سعيد بن أَوْس بن ثَابت بن بشير بن أبي زيد وَقيل ثَابت بن زيد بن قيس ابْن النُّعمان بن مَالك بن ثَعْلَبَة بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ اللغويُّ النحويّ، أَخذ عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء، وَعنهُ أَبُو عُبَيْد القاسمُ بن سلَاّم، وَأَبُو حَاتِم السجسْتانِي، وَأَبُو العيناء، وَكَانَ ثِقَة من أهل الْبَصْرَة، قَالَ السُّيُوطِيّ فِي المزهر: وَكَانَ أَبُو زيدٍ أحفظَ النَّاس للّغة بعد أبي مالِكٍ، وأوسعهم رِوَايَة، وَأَكْثَرهم أَخذاً عَن الْبَادِيَة، وَقَالَ ابنُ مِنادِر: وَأَبُو زيدٍ من الْأَنْصَار، وَهُوَ من رُوَاة الحَدِيث، ثِقةُ عِنْدهم مأْمونٌ. قَالَ أَبُو حَاتِم عَن أبي زيد: كَانَ سِيبَوَيْهٍ يَأْتِي مجلسي وَله ذُؤابتان، قَالَ: فَإِذا سمعته يَقُول: وحَدَّثني من أَثِق بعربيته فَإِنَّمَا يُرِيدنِي، وَمن جَلالة أبي زيد فِي اللُّغَة مَا حدَّث بِهِ جَعْفَر بن مُحَمَّد، حدّثنا مُحَمَّد بن الْحسن الْأَزْدِيّ عَن أبي حَاتِم السجسْتانِي، عَن أبي زيد قَالَ: كتَب رجلٌ من أهل رَامَهُرْمز إِلَى الْخَلِيل يسْأَله كَيفَ يُقَال مَا أَوْقفك

ص: 83

هَا هُنَا وَمن أَوْقفك، فَكتب إِلَيْهِ: هما وَاحِد. قَالَ أَبُو زيد: لَقِيَنِي الْخَلِيل فَقَالَ لي فِي ذَلِك فَقلت لَهُ: إِنَّمَا يُقَال مَنْ وَقَفَك، ومَا أوقفك، قَالَ: فَرجع إِلَى قولي، وَأما وَفَاته وبقيّة أسانيده فقد تقدّم فِي المقدّمة. وَيُوجد هُنَا فِي بعض النّسخ بعد قَوْله أَبُو زيد " وَجَمَاعَة " أَي مِمَّن تبعه وَرَأى رأْيه (إِذا جَاوَزت) أَنت أَيهَا النَّاظر فِي لُغَة الْعَرَب (المَشَاهِير) جمع مَشْهُور، وَهُوَ الْمَعْرُوف المتداول (من الْأَفْعَال) وَهِي الاصطلاحية (الَّتِي يَأْتِي) فِي الْكَلَام (ماضيها) الاصطلاحي (على فَعَل) بِالْفَتْح وَلم تكن عينه أَو لامه حرفا من حُرُوف الْحلق، وَلَا تعرض مضارِعه كَيفَ هُوَ بعد الْبَحْث عَنهُ فِي مظَانّه فَلَا تَجدهُ (فَأَنت فِي الْمُسْتَقْبل) حِينَئِذٍ (بالخِيار) أَي مخيّر فِيهِ (إِن شِئْت قُلْت يَفْعَلُ بضمِّ الْعين، وَإِن شِئْت قلت يفعِل بِكَسْرِهَا) وَفِي نُسْخَة " بِكَسْر الْعين " فالوجهانِ جائزان: الضمُّ وَالْكَسْر. وهما مستعملان فِيمَا لَا يُعْرَف مستقبله ومُتساويان فِيهِ، فكيفما نطقت أصبت، وَلَيْسَ الضَّم أولى من الْكسر، وَلَا الْكسر أولى من الضَّم، إِذْ قد ثَبت ذَلِك كثيرا، قَالُوا حشَر يحشِر ويحشُر، وزمَر يزمِر ويزمُر، وقَمرَ يقمِر ويقمُر، وفَسَق يفسِق ويفسُق، وفسَد يفسِد ويفسُد، وحسَر يحسِر ويحسُر، وعرَج يعرِج ويعرُج، وعكَف يعكِف ويعكُف، ونفَر ينفِر وينفُر وغدَر يغدِر ويغدُر، وعثَر يعثِر ويعثُر، وقدَر يقدِر ويقدُر، وسفَك يسفِك ويسفُك إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول إِيرَاده، وَفِيه لغتانِ. وَفِي البغية: قَالَ أَبُو عمر إِسْحَاق بن صَالح الجَرمي، سَمِعت أَبَا عُبَيْدَة مَعمَر ابْن المثنَّى يروي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: سَمِعت الضَّم والكَسْر فِي عامَّة هَذَا الْبَاب، لَكِن رُبمَا اقتُصر فِيهِ على وَجْهٍ واحِد لَا بدَّ فِيهِ من السماع، وَمِنْهُم من قَالَ جَوَاز الْوَجْهَيْنِ الضمّ وَالْكَسْر إِنَّمَا يكون عِنْد مجاوَزة الْمَشَاهِير من الْأَفْعَال، وَأما فِي مَشْهُور الْكَلَام فَلَا يتعدّى مَا أتَت الرِّوَايَات فِيهِ كَسْرًا، كضرَب يضرِب، أَو ضما نَحْو قتل يقتُل، ويريدون بمجاوزة الْمَشَاهِير أَن يَرِد عَلَيْك فِعل لَا تعرف مُضارعَه كَيفَ هُوَ بعد الْبَحْث

ص: 84

عَنهُ فِي مظانِّه فَلَا تَجدهُ، ومجاوزة الْمَشَاهِير لَيست لكل إِنْسَان، وَإِنَّمَا هِيَ بعد حفظ المشهورات، فَلَا يَتَأَتَّى لمن لم يدرس الكُتب وَلَا اعتنى بالمحفوظ أَن يَقُول قد عدمت السَّماع فيختار فِي اللَّفْظَة يفعِل أَو يفعُل، لَيْسَ لَهُ ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم إِذا عُرف أَن الْمَاضِي على وزن فعل بِفَتْح الْعين وَلم يعرف الْمُضَارع، فَالْوَجْه أَن يَجْعَل يفعِل بِالْكَسْرِ، لِأَنَّهُ أَكثر، والكسرة أَخف من الضمة، وَكَذَا قَالَ أَبُو عَمْرو الْمُطَرز حاكياً عَن الْفراء إِذا أشكل يفعُل أَو يفعِل فبتْ على يفعِل بِالْكَسْرِ، فَإِنَّهُ الْبَاب عِنْدهم، قلت: وَمثله فِي خَاتِمَة الْمِصْبَاح، وَقد عقد لَهُ ابنُ دريدٍ فِي كتاب الْأَبْنِيَة من الجمهرة بَابا، وَنَقله ابْن عُصفور وَغَيره، قَالَ شَيخنَا: ومقالة أبي زيد السَّابِق ذكرهَا قد ذكرهَا ابْن القُوطية فِي صدر كِتَابه، وَكَذَا ابنُ القطاع فِي صدر أَفعاله مَبْسُوطا، وَالشَّيْخ أَبُو حَيَّان فِي البحرِ، وَأَبُو جَعْفَر الرُّعيني فِي اقتطاف الأزاهر، ثمَّ إِنَّه قد وجد بعد هَذَا الْكَلَام زِيَادَة، وَهِي فِي نُسْخَة شَيخنَا وَشرح عَلَيْهَا كَمَا شرح الْمَنَاوِيّ وَغَيره.

(و) من المحاسن الدالّة على حسن اختصاره أَن (كلّ كلمة عرَّيْتها) أَي جرَّدتها (عَن الضَّبْط) فِيهِ بِأَن لم أتعرض لَهَا بِكَوْنِهَا بِالْفَتْح أَو الضَّم أَو الْكسر (فَإِنَّهَا بِالْفَتْح) فِي أَوله، فإهمالها من الضَّبْط هُوَ ضَبطهَا (إلاّ مَا اشْتهر بِخِلَافِهِ اشتهاراً رَافعا للنزاع) أَي الْخُصُومَة (من البَيْن) فَإِنَّهُ على مَا هُوَ الْمَشْهُور فِي ضَبطه، وَفِي الْفَقْرَة الْتِزَام، وَهَذِه النُّسْخَة سَاقِطَة عندنَا من بعض الأُصول وَلذَا أهملَها المحبُّ بن الشّحْنَة والبدر الْقَرَافِيّ وَغَيرهمَا، كَمَا قَالَه شَيخنَا. قلت: وَلَو أهملها من أهمل فَلَا خلاف أَنَّهَا من اصْطِلَاح المُصَنّف وقاعدته، كَمَا هُوَ مَشْهُور (وَمَا سوى ذَلِك) مِمَّا ذكرنَا من التعرِية عَن الضَّبْط وَالتَّقْيِيد (فأُقيّده) من الْإِطْلَاق (بِصَرِيح الْكَلَام) أَي خالصه وَظَاهره، أَو أكتبه بالْكلَام الصَّرِيح الَّذِي لَا شُبهة فِيهِ وَلَا اختلال وَلَا كِنَايَة، حَال كوني (غير مُقْتَنع) أَي غير مكتف وَلَا مجتز (بتوشيح القِلام) بِالْكَسْرِ جمع قَلَم، وَهُوَ مقيس

ص: 85

كالأقلام، أَي لَا يقنع بمجرّد ضبط الْقَلَم، أَي وضع الحرَكة على الْحَرْف، لِأَن ذَلِك عُرْضة للترك والتحريف، وَهَذَا من كَمَال الاعتناء، ووشّحه توشيحاً: ألبسهُ الوِشاح على عَاتِقه، مُخَالفا بَين طَرَفيه، وَيَأْتِي تَمَامه، والفقرة فِيهَا الِالْتِزَام والجناس المحرّف اللَّاحِق (مكتفياً بِكِتَابَة) هَذِه الأحرف الَّتِي اخترعها واقتطعها من الْكَلِمَات الَّتِي جعلهَا أعلاماً لَهَا فِي اصْطِلَاحه، وَهِي (ع د ة ج م) وَهِي خَمْسَة (عَن قولي: مَوضِع، وبلد، وقرية، وَالْجمع، ومعروف) فالعين وَالدَّال وَالْهَاء من آخر الْكَلِمَات، وَالْجِيم وَالْمِيم من أوائلها، لِئَلَّا يحصل الِاخْتِلَاط، وَفِيه لفّ وَنشر مرتّب (فتلخَّص) أَي تبين الْكتاب واتضح (وكُلُّ غَثٍّ) وَهُوَ اللَّحْم المهزول، وَمن الحَدِيث: الْفَاسِد (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) جَاءَ بهَا تبركا (عَنهُ) أَي الْكتاب (مَصروف) أَي مَدْفُوع عَنهُ، وَقدمه اهتماماً ومناسبة للفقرة، وفيهَا الِالْتِزَام، قَالَ شَيخنَا، وَضَابِط هَذِه جُمُعَة المصنّف بِنَفسِهِ فِي بَيْتَيْنِ، نقلهما عَنهُ غير وَاحِد من أَصْحَابه وهما:

(وَمَا فِيه مِنْ رَمْزٍ فخمسَةُ أَحْرُفٍ

فمِيمٌ لمعْرُوفٍ وعَيْنٌ لموضِعِ)

(وجِيمٌ لجَمْعٍ ثمَّ هَاءٌ لقَرْيَةٍ

وللبَلَد الدَّالُ الَّتِي أُهْملَتْ فَعِي)

وَفِي أزهار الرياض للمقّرِيّ.

(وَمَا فيهِ مِنْ رَمْزٍ بحرْفٍ فخمْسَةٌ

)

ونسبهما لعبد الرَّحْمَن بن معمر الوَاسِطِيّ: وَقد ذيَّل عَلَيْهِمَا أَحدُ الشُّعَرَاء فَقَالَ:

(وفِي آخرِ الأبْوَابِ وَاوٌ وياؤهَا

إشارةُ وَاوِيٍّ ويَائِيّها اسْمَعِ)

واستدرك بَعضهم أَيْضا فَقَالَ:

(وَمَا جاءَ فِي القَاموس رَمْزًا فسِتَّةٌ

لموضِعهم عَيْنٌ ومعْرُوفٍ الميمُ)

(وجَجٌّ لجمْع الجَمْع دَالٌ لبَلْدةٍ

وقَرْيتُهُمْ هاءٌ وجمْعٌ لَهُ الجِيمُ)

وَنقل شَيخنَا عَن شُيُوخه مَا نَصه: وَوجد بِهَامِش نسخةِ المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى بخطّه لنَفسِهِ:

(إِذا رُمْت فِي الْقَامُوس كَشْفاً لِلَفْظَةٍ

فَآخِرُها لِلْباب والبَدْءُ لِلْفَصْل)

ص: 86

(وَلَا تَعْتَبِرْ فِي بَدْئِها وأَخِيرِها

مزِيدًا ولكِنَّ اعتِبَارَكَ للأصْلِ)

وَقد تقدّم مَا قيل فِي اصْطِلَاح الصِّحَاح، فَهَذِهِ أُمور سَبْعَة جعلهَا اصْطِلَاحا لكتابه، ومَيَّزه بهَا اختصاراً وإيجازًا، وَإِن كَانَ بعضُها قد سبقه فِيهِ كالجوهري وَابْن سَيّده.

الأول: تَمْيِيزه الْموَاد الزَّائِدَة بِكِتَابَة الْأَحْمَر.

الثَّانِي: تَخْلِيص الْوَاو من الْيَاء.

الثَّالِث: عدم ذِكر جمع فَاعل المعتل مَا أُعِلّ مِنْهُ.

الرَّابِع: إتباع الْمُذكر الْمُؤَنَّث بقوله وَهِي بهاء.

الْخَامِس: الْإِشَارَة إِلَى الْمُضَارع مضموم الْعين هُوَ أَو مكسورها عِنْد ذكر الْآتِي وَعدم ذكره.

وَالسَّادِس: حَمْل المُطلق على ضَبْط الْفَتْح فِي غير الْمَشْهُور.

وَالسَّابِع: الِاقْتِصَار على الْحُرُوف الْخَمْسَة.

وَيجوز أَن يَجْعَل قَوْله " وَمَا سوى ذَلِك فأُقيده " اصْطِلَاحا ثامِناً، ليطابق عدد أَبْوَاب الجِنان.

قَالَ شَيخنَا: وَله ضَوابط واصطلاحات أُخر تعلم بممارسته ومعاناته واستقرائه.

مِنْهَا: أَن وسط الْكَلِمَة عِنْده مُرتب أَيْضا على حُروف المعجم كالأوائل والأواخر. قلت، وَقد أَشرت إِلَى ذَلِك فِي أوّل الْخطْبَة، وَمثله فِي الصِّحَاح ولسان الْعَرَب وَغَيرهمَا.

وَمِنْهَا: إتقان الرباعيات والخماسيات فِي الضَّبْط، وترتيب الْحُرُوف، وَتَقْدِيم الأوّل فالأوّل.

وَمِنْهَا إِذا ذكرت الموازين فِي كلمة سَوَاء كَانَت فِعلاً أَو اسْما يقدّم الْمَشْهُور الفصيح وِلاءً ثمَّ يتبعهُ باللغات الزَّائِدَة إِن كَانَ فِي الْكَلِمَة لُغَتَانِ فَأكْثر.

وَمِنْهَا أَنه عِنْد إِيرَاد المصادر يقدم الْمصدر الْمَقِيس أوّلا ثمَّ يذكر غَيره فِي الْغَالِب.

وَمِنْهَا أَنه قد يَأْتِي بوزنين متّحدين فِي اللَّفْظ فيظُنُّ من لَا معرفَة لَهُ بأسرار الْأَلْفَاظ وَلَا باصطلاح الْحفاظ أَن ذَلِك تكرارٌ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة، وَقد يكون لَهُ

ص: 87

فَوَائِد يَأْتِي ذكرهَا، وأقربها أَنه أَحْيَانًا يزن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة بزُفر وصُرَد، وَكِلَاهُمَا مَشْهُور بِضَم أوّله وَفتح ثَانِيه، فَيظْهر أَنه تكرارٌ، وَهُوَ يُشِير بِالْوَزْنِ الأول إِلَى أَنه علم فَيعْتَبر فِيهِ الْمَنْع من الصّرْف، وَبِالثَّانِي إِلَى أَنه جنس لم يُقْصد مِنْهُ تَعْرِيف، فَيكون نكرَة فيُصرف، وَكَذَلِكَ يزِن تَارَة بسحاب وقطام وثمان وَمَا أشبه ذَلِك.

وَمِنْهَا: أَنه إِنَّمَا يعْتَبر الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة فِي الْكَلِمَات دون الزَّوَائِد، وَمن ثمَّ خَفِي على كثير من النَّاس مُرَاجعَة أَلْفَاظ مزيدة فِيهِ، نَحْو التَّوْرَاة وَالتَّقوى، وَكثير من النَّاس يحاجي وَيَقُول: إِن المُصَنّف لم يذكر التَّقْوَى فِي كِتَابه، أَي بِنَاء على الظَّاهِر.

وَمِنْهَا أَنه عِنْد تصدّيه لذكر الجموع أَيْضا يقدم الْمَقِيس مِنْهَا على غَيره فِي الْغَالِب، وَقد يهمل الْمَقِيس أَحْيَانًا اعْتِمَادًا على شهرته، كالبوادي، وَقد يتْرك غَيره سَهوا، كَمَا نبينه.

وَمِنْهَا: أَنه يقدم الصِّفات المقيسة أوّلاً ثمَّ يتبعهَا بغَيْرهَا من الْمُبَالغَة أَو غَيرهَا، ويعقبها بِذكر مؤنثها بِتِلْكَ الأوزان أَو غَيرهَا، وَقد يفصل بَينهمَا، فيذكر أوّلاً صِفَات الْمُذكر، ويتبعها بمجموعها، ثمَّ يذكر صِفَات الْمُؤَنَّث، ثمَّ يتبعهَا بمجموعها، على الْأَكْثَر.

وَمِنْهَا: أَنه اخْتَار اسْتِعْمَال التحريك ومحرَّكا فِيمَا يكون بِفتْحَتَيْنِ، كجبَلٍ وفَرَح، وَإِطْلَاق الْفَتْح أَو الضَّم أَو الْكسر على المفتوح الأوّل فَقَط أَو المضموم الأوّل فَقَط، أَو المكسور الأوّل فَقَط، وَهُوَ اصطلاحٌ لكَثير من اللغويين.

فَهَذِهِ نَحْو عشرَة أُمور إِنَّمَا تُؤْخَذ من الاستقراء والمعاناة، كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ. انْتهى.

(ثمَّ إِنِّي نبّهت فِيهِ) أَي الْقَامُوس (على أشياءَ) وأُمورٍ (رَكِبَ) أَي ارْتكب إِمَام الْفَنّ أَبُو نصر (الجوهريّ رَحمَه الله تَعَالَى) وَهِي جملَة دعائية (فِيهَا خلافَ الصَّواب) وغالب مَا نبّه عَلَيْهِ فَهُوَ من تكمِلة الصَّاغَانِي وحاشية ابْن بَرِّي وَغَيرهمَا، وللبدر الْقَرَافِيّ بَهجة النُّفُوس

ص: 88

فِي المحاكمة بَين الصِّحَاح والقاموس جمعهَا من خطوط عبد الباسط البُلْقِينِيّ وسعدي أَفَنْدِي مفتي الديار الرومية، وَقد اطَّلعت عَلَيْهِ، وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نورد فِي كل مَوضِع مَا يُنَاسِبه من الْجَواب عَن الْجَوْهَرِي، حَالَة كوني (غير طاعِنٍ) أَي دَافع وواقع وقادح (فِيهِ) أَي الجوهريّ (وَلَا قاصدٍ بذلك) أَي بالتنبيه الْمَفْهُوم من قَوْله نبهت (تَنْديداً) أَي إشهاراً (لَهُ) وَتَصْرِيحًا بعيوبه وإسماعه الْقَبِيح (و) لَا (إزراءً) أَي عَيْبا (عَلَيْهِ و) لَا (غضًّا مِنْهُ) أَي وَضْعا من قدره (بل) فعلت ذَلِك (استيضاحاً للصَّوَاب) أَي طلبا لِأَن يَتَّضِح الصَّوَاب من الْخَطَأ (واستِرْباحاً للثَّواب) أَي طلبا للرِّبح الْعَظِيم الَّذِي هُوَ الثَّوَاب من الله تَعَالَى، وَفِي الْفَقْرَة الترصيع والتزام مَا لَا يلْزم، وَقدم الاستيضاح على الاسترباح لكَونه الأهم عِنْد أُولي الْأَلْبَاب (وتحرُّزاً) أَي تحفظاً (وحَذَراً) محركة، وَفِي نُسْخَة حِذاراً ككِتاب، وَكِلَاهُمَا مصدران أَي خوفًا (من أَن يُنْمَى) أَي يُنسب (إليَّ التَّصْحِيف) قَالَ الرَّاغِب: هُوَ رِوَايَة الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ لاشتباه حُرُوفه. وَفِي المزهر: قَالَ أَبُو الْعَلَاء المعريُّ: أصل التَّصْحِيف أَن يَأْخُذ الرجلُ اللفظَ من قراءتِهِ فِي صحيفةٍ وَلم يكن سَمِعه من الرّجال فيغيّره عَن الصَّوَاب (أَو يُعْزَى) أَي ينْسب (إليَّ الغَلَط) محرَّكة، هُوَ الإعياء بالشَّيْء بِحَيْثُ لَا يَعرف فِيهِ وجْهَ الصَّوَاب (والتحريف) وَهُوَ التَّغْيِير، وتحريف الْكَلَام: أَن تَجْعَلهُ على حَرْف من الِاحْتِمَال، والمحرَّف: الْكَلِمَة الَّتِي خَرَجَت عَن أَصْلهَا غَلطا، كَقَوْلِهِم للمشئوم مَيْشوم. ثمَّ إِن الَّذِي حذر مِنْهُ وَهُوَ نِسبة الْغَلَط والتصحيف أَو التحريف إِلَيْهِ فقد وَقع فِيهِ جماعةٌ من الأجلاء من أَئِمَّة اللُّغَة وأئمة الحَدِيث، حَتَّى قَالَ الإِمَام أَحْمد: وَمَنْ يَعْرَى عَن الخَطَإ والتصحيف؟ قَالَ ابْن دُرَيْد: صحّف الخليلُ بن أَحْمد فَقَالَ: يَوْم بغاث، بالغين الْمُعْجَمَة، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ،

ص: 89

أوردهُ ابْن الْجَوْزِيّ، وَفِي صِحَاح الْجَوْهَرِي: قَالَ الْأَصْمَعِي: كنت فِي مَجلس شُعبه فروى الحَدِيث قَالَ: تَسْمَعُونَ جَرْش طير الْجنَّة. بالشين الْمُعْجَمَة، فَقلت: جَرْس، فَنظر إليّ وَقَالَ: خذوها مِنْهُ، فَإِنَّهُ أعلم بِهَذَا منا. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدِّمَشْقِي فِي رِسَالَة لَهُ: إِن ضبط القَلَم لَا يُؤْمَن التحريفُ عَلَيْهِ، بل يتطرَّق أَوْهَامَ الظانِّين إِلَيْهِ، لَا سيّما من عِلْمه من الصُّحف بالمطالعة، من غير تَلَقٍّ من الْمَشَايِخ، وَلَا سُؤال وَلَا مُرَاجعَة. وقرأت فِي كتاب الْإِيضَاح لما يُستدرك للإصلاح كتاب الْمُسْتَدْرك لِلْحَافِظِ زين الدّين الْعِرَاقِيّ بِخَطِّهِ نقلا عَن أبي عَمْرو ابْن الصَّلاح مَا نصُّه: وَأما التَّصْحِيف فسبيل السَّلامة مِنْهُ الْأَخْذ من أَفْوَاه أهلِ العِلم والضبط، فَإِن من حُرم ذَلِك وَكَانَ أخذُه وتعلُّمه من بطُون الْكتب كَانَ من شَأْنه التحريف، وَلم يُفلِتْ من التبديل والتصحيف، وَالله أعلم.

(على أَنِّي لَو رُمْتُ) أَي طَلبت (للنِّضال) مصدر ناضَلَه مُنَاضلَةً إِذا بَارَاه بالرَّمْيِ (إيتارَ القَوْس) يُقَال أَوْتَر القوْسَ إِذا جعل لَهُ وَتَراً (لأنشدت) أَي ذكرت وقرأت، وَقد تقدم فِي المقدّمة أَنه يُقَال فِي رِوَايَة الشّعْر أنشدنا وَأخْبرنَا (بيتَيْ) مُثَنَّى بَيْت (الطائيِّ) نِسبَة إِلَى طيّئ كسيّد، على خِلاف الْقيَاس، كَمَا سَيَأْتِي فِي مادته، وَهُوَ أَبُو تَمام (حَبيب ابْن أَوْس) الشَّاعِر الْمَشْهُور، صَاحب الحماسة العجيبة، الَّتِي شرحها المرزوقي والزمخشريّ وَغَيرهمَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ أَبُو حَيّان، أَنا لَا أَسمع عَذلاً فِي حبيب، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ يحفظ عشرَة آلَاف أُرجوزة للْعَرَب غير القصائد والمقاطيع، وَله الدِّيوَان الْفَائِق الْمَشْهُور الجامعُ لحُرّ الْكَلَام ودُرِّ النظام، ولد بجَاسم، قريةٍ من دمشق سنة 190، وَتُوفِّي بالموصل سنة 232 وَقيل غير ذَلِك، والبيتان اللَّذَان أَشَارَ إِلَيْهِمَا المُصَنّف قد قدَّمنا إنشادهما آنِفا، هَذَا هُوَ الظَّاهِر الْمَشْهُور على أَلْسِنَة النَّاس، وَهَكَذَا قرَّر لنا مَشَايِخنَا، قَالَ شَيخنَا: وَيُقَال إِن المُرَاد بالبيتين قَول أبي تَمام:

ص: 90

(فَلَوْ كَانَ يَفْنَى الشِّعْرُ أَفْنَاهُ مَا قَرَتْ

حِيَاضُك مِنْهُ فِي العُصُورِ الذَّوَاهِبِ)

(ولكِنَّه صَوْبُ العُقُول إِذا انْجَلَتْ

سَحَائبُ مِنْهُ أُعْقِبَتْ بِسَحَائبِ)

ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي كَانَ يرجِّحه شيخُنا الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الشاذلي رضي الله عنه، ويستبعد الأوّلَ وَيَقُول: يقبح أَن يتَمَثَّل بِهِ أوّلاً صَرِيحًا ثمَّ يُشِير إِلَيْهِ ثَانِيًا تَقْديرا وتلويحاً، وَهُوَ فِي غَايَة الوضوح لِأَنَّهُ يُؤدّي إِلَى التَّنَاقُض الظَّاهِر، وارتضاه شَيخنَا الإِمَام ابْن المسناويّ، وَعَلِيهِ كَانَ يقْتَصر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ الوجاري، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. والفقرة فِيهَا الْتِزَام مَا لَا يلْزم (وَلَو لم أَخْشَ) قَالَ الرَّاغِب: الخشية: خوفٌ يشوبه تَعظيم، وَأكْثر مَا يكون ذَلِك عَن علمٍ مِمَّا يخْشَى مِنْهُ. وَسَيَأْتِي مَا يتَعَلَّق بِهِ فِي مادّته (مَا يَلْحق المُزَكِّيَ نَفْسَه) تزكيةُ الشَّاهِد: تطهيرُه من عوارض القَدْح، أَو تَقْوِيتُه وتأْييده بِذكر أَوْصَافه الجميلة الدّالَّة على عَدَالَته، وَيُقَال: تزكيةُ النفسِ ضَرْبَان:

فِعْلِيَّة، وَهِي محمودة ممدوحة شرعا، كَقَوْلِه تَعَالَى {قد أَفْلح من زكاها} بِأَن يحملهَا على الاتصاف بكامل الْأَوْصَاف.

وقوْلِيَّةِ، وَهِي مذمومة، كَقَوْلِه تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} أَي بثنائِكم عَلَيْهَا وافتخارِكم بأفعالكم، وَأنْشد ابْن التلمساني:

(دَعْ مَدْحَ نَفْسِكَ إنْ أَرَدْتَ زَكَاءَهَا

فَبِمَدْحِ نَفْسِكَ عَنْ مَقَامِكَ تَسْقُطُ)

(مَا دُمْتَ تَخْفِضُهَا يَزِيدُ عَلاؤُهَا

والعَكْسُ فَانْظُرْ أَيُّ ذَلِك أَحْوَطُ)

(من المَعَرّة) أَي الْإِثْم وَالْعَيْب أَو الْخِيَانَة، وَسَيَأْتِي فِي مادّته مُطوَّلاً، وسبقت إِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي الْخطْبَة (والدَّمَان) هُوَ بِالْفَتْح، وَاخْتلف الشُّرَّاح والمحشُّون فِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ بَعضهم: بل هُوَ الذَّان، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، بِمَعْنى

ص: 91

الذَّام، وَهُوَ العَيْب، وَقَالَ بعضُهم: الدَّمَان كسَحاب من مَعَانِيه السَّرقين ويُراد بِهِ لازِمُه، وَهُوَ الحَقارة، هَذَا هُوَ الْمُنَاسب هُنَا، على حسب سَماعنا من الْمَشَايِخ، وَفِي بعض الأُصول بِكَسْر الْمُهْملَة أَو ضمهَا وَتَشْديد الْمِيم، مَصدرٌ من الدمَّامة وَهِي الحَقارة (لتمثَّلْت) يُقَال تمثّل بالشعر إِذا أَنشده مرَّةً بعد مرَّةٍ (بقول) أبي الْعَلَاء (أَحْمد بن) عبد الله بن (سُليمان) بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن سُلَيْمَان المعَرِّيّ التنوخيّ القُضاعيّ اللغويّ، الشَّاعِر الْمَشْهُور، الْمُنْفَرد بِالْإِمَامَةِ، ولد يَوْم الجُمعة لثلاثٍ بَقينَ من ربيع الأوّل سنة 363 بالمعرّة، وعمى بالجُدَرِيّ، وَكَانَ يَقُول إِنَّه لَا يعرف من الألوان غير الحُمرة، وَتُوفِّي فِي الثَّالِث من ربيع الأول سنة 449 (أديب) وَهُوَ أَعَمُّ من الشَّاعِر، إِذْ الشِّعر أَحدُ فُنون الأَدب، وَهُوَ أَبلغ فِي الْمَدْح، وأضافه إِلَى (مَعَرّة النّعمانِ) لِأَنَّهَا بلدته، وَبهَا وُلد، وَهِي بَين حَلب وحَماة، وأُضيفت إِلَى النُّعمان بن بَشيرٍ الأنصاريّ، رضي الله عنه، فنُسِبت إِلَيْهِ وَقيل: دفن بهَا ولَدٌ لَهُ، وَالْقَوْل الَّذِي أَشار إِلَيْهِ هُوَ قَوْله من قصيدة:

ومطلعها:

(وَإِنِّي وَإِن كُنْتُ الأخِيرَ زمَانُهُ

لآت بِمَا لم تَسْتَطِعْه الأوائِلُ)

(أَلَا فِي سَبيل المَجْدِ مَا أَنَا فَاعِلُ

عَفَافٌ وإقبَالٌ ومَجْدٌ ونَائِلُ)

وَفِي الْفَقْرَة الِالْتِزَام والجِناس التامُّ بَين مَعرّة والمعرَّة (وَلَكِنِّي أَقُول كَمَا قَالَ) الإِمَام (أَبُو الْعَبَّاس) مُحَمَّد بن يزِيد ابْن عبد الْأَكْبَر الثُّماليّ الأَزديّ البصريّ الإِمَام فِي النَّحْو واللغة وفنون الْأَدَب ولقبه (المبرّد) بِفَتْح الرَّاء المشدّد عِنْد الْأَكْثَر، وَبَعْضهمْ يكسر، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول بَرّد الله من بَرّدني، أَخذ عَن أبي عُثمانَ المازنيّ وَأبي حاتِمٍ السجسْتانِي وطبقتهما، وَعنهُ نفطَوَيْه وأَصحابه، وَكَانَ هُوَ وثعلب خَاتِمَة تَارِيخ الأُدباء، ولد سنة 210 وَتُوفِّي سنة 286 بِبَغْدَاد (فِي) كِتَابه الْمَشْهُور الْجَامِع وَهُوَ (الْكَامِل) وَقد جعله ابنُ رَشِيق فِي العُمدة من أَركان الْأَدَب الَّتِي لَا يَسْتَغنِي عَنْهَا مَنْ يُعاني

ص: 92

الْأَدَب، وَله غَيره من التصانيف الفائقة، كالمقتَضَب والرَّوْضة وَغَيرهمَا (وَهُوَ القائِلُ المحقّ) وَهَذِه جملَة اعتراضية جِيءَ بهَا فِي مدح الْمبرد بَين القَوْل ومقوله وَهُوَ (لَيْسَ لِقِدَم العَهْد) أَي تقدُّمه، والعَهد: الزَّمَان (يَفْضُل) أَي يزِيد ويكْمُل (الفائل) بِالْفَاءِ، وَضَبطه الْقَرَافِيّ وَغَيره بِالْقَافِ كالأوّل، وَهُوَ غلطٌ، فَالَ رَأْيُه كباع فَهُوَ فائِلُه، أَي فاسِدُه وضَعيفه (وَلَا لِحدْثَانِه) هُوَ كحِرْمان أَي الْقرب، وَالضَّمِير إِلَى الْعَهْد (يُهتَضَم) مبنيًّا للْمَجْهُول، أَي يُظلَم ويُنتَقص من هَضَمَه حَقَّه إِذا نَقصه (المُصِيب) ضد الْمُخطئ (وَلَكِن) الْإِنْصَاف وَالْحق أَن (يُعطى كلٌّ) من فائِل الرَّأْي ومُصِيبه (مَا يسْتَحق) أَي مَا يستوجبه من الْقبُول والردّ، وَمثل هَذَا الْكَلَام فِي خُطبة التسهيل مَا نَصه، وَإِذا كَانَت العُلوم مِنحاً إلهية ومواهب اختصاصِيّة، فَغير مُستبعَدٍ أَن يُدَّخَر لبَعض المتأَخرين مَا عَسُر على كَثير من المتقدِّمين، وَالْمعْنَى أَن تَقدُّمَ الزَّمَان وتأَخُّرَه لَيست لَهُ فضيلةٌ فِي نَفسه، لِأَن الْأَزْمَان كلهَا مُتَسَاوِيَة، وَإِنَّمَا المعتبَر الرجالُ الموجودون فِي تِلْكَ الْأَزْمَان، فالمصيب فِي رَأْيه وَنَقله ونقده لَا يضرُّه تأَخُّرُ زمانِه الَّذِي أظهره الله فِيهِ، والمخطئ الفاسدُ الرأيِ الفاسِدُ الفهمِ لَا يَنْفَعهُ تقدُّم زَمَانه، وَإِنَّمَا المُعَاصرة كَمَا قيل حِجَابٌ، والتقليد المَحْضُ وَبَالٌ على صاحِبِهِ وَعَذَاب، أنشدنا شيخُنا الأديب عبد الله بن سَلامَة الْمُؤَذّن:

(قُلْ لمَن لَا يَرَى المعاصِرَ شَيْئاً

ويَرى لِلأوائِل التَّقْدِيمَا)

(إِن ذَاك القديمَ كانَ حَدِيثاً

وسَيُسْمَى هَذَا الحديثُ قَدِيمَا)

وأنشدني أَيْضا لِابْنِ رَشِيق:

(أُولِع الناسُ بامتداحِ القَدِيمِ

وَبِذَمِّ الجَدِيدِ غَيرِ الذَّميمِ)

(لَيْسَ إلَاّ لأَنَّهُمْ حَسَدُوا الحَيَّ

وَرَقُّوا عَلَى العِظامِ الرَّمِيمِ)

ص: 93

وأنشدني أَيْضا:

(تَرى الفَتَى يُنكِرُ فَضْلَ الفَتَى

خُبْثاً ولُؤْماً فَإذَا مَا ذَهَبْ)

(لجَّ بِهِ الحِرْصُ على نُكْتَةٍ

يَكْتُبُهَا عَنْهُ بِمَاءِ الذَّهَبْ)

والمُراد من ذَلِك كلّه النظرُ بعَين الْإِنْصَاف من المعاصِرين وَغَيرهم، فَإِن الْإِخْلَاص والإنصاف هُوَ الْمَقْصُود من الْعلم، وَإِنَّمَا أَورد المُصَنّف هَذَا القولَ مَعْزُوًّا لأبي الْعَبَّاس لِأَن بركَة العِلْم عَزْوُه إِلَى قَائِله.

(واختصصت) أَي آثرت (كِتَاب) الإِمَام أبي نصر (الجوهريّ) الْمُسَمّى بالصحاح، وأفردته بالتوجُّه إِلَيْهِ بالبحث على جِهة الْخُصُوص (من بَين الكُتب اللُّغَوِيَّة) أَي المصنفات المنسوبة إِلَى علم اللُّغَة، كاللُّباب والمحكم والمجمل وَالنِّهَايَة وَالْعين وَغَيرهَا (مَع مَا فِي غالبها) أَي أَكْثَرهَا، يَقُولُونَ: هَذَا الِاسْتِعْمَال هُوَ الْغَالِب، أَي الْأَكْثَر دَوَراناً فِي الْكَلَام، لكنه قد يتخلّف، بِخِلَاف المطَّرِد فَإِنَّهُ الْمَقِيس الَّذِي لَا يختلّ (مِن الأوهامِ) جمع وَهَم محركة، كالغَلَط وزْناً وَمعنى (الْوَاضِحَة) أَي الظَّاهِرَة ظهوراً بيِّناً لَا خفاءَ فِيهِ كوَضَح الصُّبْح (والأغلاط) جمع غَلَط قد تقدم مَعْنَاهُ (الفاضحة) المنكشفة فِي نَفسهَا، أَو الكاشفة لصَاحِبهَا ومرتكِبها (لِتَدَاوُله) بَين النَّاس، أَي عُلَمَاء الْفَنّ، كَمَا فِي بعض النّسخ هَذِه الزِّيَادَة، وَهُوَ حُصول الشَّيْء فِي يَدِ هَذَا مرَّةً وَفِي يَد الآخر أُخْرَى، وتداولوه: تناولوه وأَجْرَوْه بَينهم، وَهُوَ يدلّ على شُهرته ودورانه. وَفِي نُسْخَة أُخرى " لتنَاوله " وَهُوَ أَخذ الشَّيْء مُنَاوَبةً أَيْضا (واشتهارِه) أَي انتشاره ووضوحه (بخُصُوصه) أَي خاصّته دون غَيره (و) لأجل (اعتمادِ المدرِّسين) كَذَا فِي نُسْخَة الْمَنَاوِيّ والقرافي وميرزا عَليّ الشِّيرَازِيّ، وقاضي كجرات أَي استنادهم ورُكُونهم (على نُقُوله) جمع نَقْل مصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول، أَي الْمَنْقُول الَّذِي يَنقله عَن الثِّقات وَالْعرب العَرْباء (ونُصُوصه) هِيَ مَسائله الَّتِي أُوردت فِيهِ. وَفِي نُسْخَة ابْن الشّحْنَة " المتدرسين " بِزِيَادَة التَّاء، وَهُوَ خطأ،

ص: 94

لِأَن هَذِه الصيغةَ مُشِيرةٌ إِلَى التعاطي بِغَيْر اسْتِحْقَاق، وَهُوَ قد جعل االاعتماد علّةً لاختصاصه من دون الْكتب، وَلَو تكلّف بَعضهم فِي تَصْحِيحه كَمَا تكلّف آخَرُونَ فِي معنى هَذِه الْجُمْلَة، أَعني اختصصت إِلَى آخرهَا بِوَجْه يَمجُّه الطبعُ السَّلِيم، ويستبعِدُه الذِّهْن الْمُسْتَقيم، فليحذر المطالِع من الركون إِلَيْهِ أَو التعويل عَلَيْهِ (وَهَذِه اللُّغَة الشريفةُ) من هُنَا إِلَى قَوْله " وكتابي هَذَا " سَاقِط فِي بعض النّسخ، وَعَلِيهِ شرح الْبَدْر الْقَرَافِيّ وَجَمَاعَة، لعدم ثُبُوته فِي أُصولهم، وَهُوَ ثَابت عندنَا، وَمثله فِي نُسْخَة ميرزا عَليّ والشرف الْأَحْمَر وَغَيرهمَا، وَهَذِه الْعبارَة من هُنَا إِلَى قَوْله " مَالك رِقّ الْعُلُوم وربِقة الْكَلَام " مَأْخُوذَة من رِسَالَة شرف إيوَان الْبَيَان فِي شرف بَيت صَاحب الدِّيوان، وَهِي رِسَالَة أَنشأَها بعض أُدباء أَصْفهان، من رجال الستمائة وَالثَّلَاثِينَ، باسم بعض أُمراء أَصفهان ونصُّها: تَهُبُّ نَوَاسِمُ القَبُول، على رَيْحانَة الْأَشْعَار والفُصول، فيُناوِح سَحَرِيُّ شَمَالِهَا شَمائِل المَحبوب، ويُنْعِم نُعَامى أَرضِها بَالَ المكروب، تَرفَع العَقيرة غِرِّيدة بانِها أَحْيَانا، وتَصوغ ذاتَ طَوْقها بِقَدْرِ القُدْرَةِ أَلحاناً، يتمتَّع بشَمِيم عَرارِها، وَإِن انساق إِلَى طَفَلِ العَشيَّة مُتُونَ نَهارها، تَغْتَنِم خَيْلُ الطّباع انتهابَ نقْلِ رياضها، وَإِن توانَتْ خُطَا طالبيه وتدَانَت كَرُوَيْحَات الفَجر فِي انتهاضها. إِلَى آخر مَا قَالَ، غير أَن الْمُؤلف قد تَصرَّف فِيهَا كَمَا ننبه عَلَيْهِ (لم تَزل ترفع العَقيرة) أَي الصَّوْت مُطلقًا أَو خاصَّة بالغِناء (غِرّيدة) بِالْكَسْرِ، صفة من غَرّد الطَّائِر تغريداً إِذا رفع صَوته وطَرّب بِهِ (بَانِها) شجرٌ مَعْرُوف، أَي لم تزل حمامةُ أَشجارِها ترفع صَوتهَا بِالْغنَاءِ (وتصوغ) مِن صَاغه صَوْغا إِذا هَيَّأه على مثالٍ مُسْتقِيم، وَأَصْلحهُ على أَحْسَن تَقْوِيم (ذاتُ طَوْقها) أَنْوَاع من الطير لَهَا أَطواق كالحمام والفواخت والقمارى وَنَحْوهَا (بقَدْرِ) أَي بِمِقْدَار (القُدْرَة) بِالضَّمِّ أَي الطَّاقَة (فُنونَ) أَي أَنْوَاع وَفِي نُسْخَة صنُوف (ألحانِها) أَي أَصواتها المطرّبة، وعبّر بالصوغ إِشَارَة

ص: 95

إِلَى أَنَّهَا تخترع ذَلِك وتنشئه إنْشَاء بديعاً. ومُراد المُصَنّف أَنَّهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَا تنقطِع وَلَا بُدَّ لَهَا مَن يقوم بهَا، وَإِن حصل فِيهَا التَّقْصِير أَحْيَانًا، لعُمُوم الْجَهْل، وتعاطي الْعُلُوم من لَيْسَ لَهَا بأَهْل، قَالَ شيخُنا وَلَا يخفى مَا فِي حذف المشبَّه وَذكر بعض أَنْوَاع الْمُشبه بِهِ كالغِرِّيدة وَذَات الطوْق، من الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ والتخييلية والترشيح، وَقد يدّعي إِثْبَات المشبّه أوّلاً حَيْثُ صرَّح باللغة الشَّرِيفَة، فَتكون الِاسْتِعَارَة تصريحيّة، وَفِيه الجناس المحرَّف الناقصُ، وإيراد الْمثل، وَغير ذَلِك من اللطائف الْجَوَامِع (وَإِن دارت الدوائرُ) أَي أحاطت النوائبُ والحوادث والمصائب من كُلّ جِهة (على ذوِيها) أَي أَصحابها، أَي اللُّغَة الشَّرِيفَة، وَفِي شرف إيوَان الْبَيَان: وَلَا أَشتكِي تَحامُل الدَّهرِ بإضاعة بِضاعَة الْأَدَب، وسَلْب خَطَر المُقامرين على ذَلِك النَّدَب، وتطّرق الخَلل إِلَى القشر دون اللُّبَاب، وموضوع اللَّفْظ دون الْمَعْنى الَّذِي هُوَ مَغْزَى الطلاب، بل أَقُول دارت الدَّوَائِر على الْعُلُوم وذويها (وأَخْنَت) أَي أهلكت واستولت، وَفِي نُسْخَة قَاضِي كجرات وَبَعض الأُصول الَّتِي بأَيدينا " أنحت " بالنُّون قبل الْحَاء الْمُهْملَة، مَعْنَاهُ أَقبلت، وَمثله فِي شرف إيوَان الْبَيَان (على نَضَارَة) بِالْفَتْح النِّعْمَة وحُسْن المنظر (رِيَاض) جمع رَوْض سقط من بعض النّسخ (عَيْشِهم) حياتهم أَو مَا يتعيَّش بِهِ (تُذْوِيها) أَي تُجفِّفها وتُبَسِّها (حَتَّى) غَايَة لدَوَرَان الدَّوَائِر الْعَارِضَة (لَا لَهَا) أَي اللُّغَة الشَّرِيفَة (اليومَ) أَي فِي زَمَانه، وَنَصّ عبارَة شرف إيوَان الْبَيَان بعد قَوْله " تذويها " فأهملوا الْفُرُوع والأُصول، واطَّرحوا الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول، وَرَغبُوا عَن الصناعات دقيقِها وجلِيلِها، وَالْحكم جُمَلِهَا وتفاصيلِها، فغاضت الشَّرَائِع بمسائلها، وَتركت مَدْلُولات أَحْكَام الْفِقْه بدلائلها فَلَا (دارِس) أَي قَارِئ ومشتغل بِهِ (سِوَى الطَّلَل) محركة: مَا شَخَص من آثَار الدَّار (فِي المَدَارس) جمع مَدْرسة، هِيَ مَوضِع الدِّراسة والقراءَة، وَذَلِكَ عبارَة عَن قلَّة الاعتناء بِالْعلمِ وانقراض أَهله، وَهَذَا فِي زَمَانه، فَكيف

ص: 96

بزماننا، وَقد روينَا فِي الحَدِيث المسلسل بالترحم أَن السيدة عَائِشَة أُم الْمُؤمنِينَ رضي الله عنها قَالَت: رحم الله لَبِيدًا كَيفَ لَو أدْرك زَمَاننَا هَذَا حِين أنْشد بَين يَديهَا:

(ذَهَبَ الذّين يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ

وبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجرَبِ)

وأنشدنا غير وَاحِد:

(أمَّا الخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ

وأَرى نِسَاءَ الحَيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا)

نسْأَل الله اللطفَ والستر، إِنَّه وليّ الْإِجَابَة وَالْأَمر (وَلَا) لَهَا (مُجَاوِب) يردُّ لَهَا جوابَهَا (إلاّ الصَّدَى) وَهُوَ الصَّوْت الَّذِي يُسْمَع من أَركان السُّقوف وَالْبَاب إِذا وَقع صِيَاحٌ فِي جوانبها (مَا بَين أعلامِها) أَي علاماتها الكائنة فِيهَا (الدَّوَارِس) أَي الَّتِي عفَتْ آثارها، وَكَأن هَذَا مُبَالغَة فِي الْإِعْرَاض عَن الْعلم وَطَلَبه، بِحَيْثُ لَو قدِّر أَنه رجل طَالب يسأَل من يأْخذه لَا يُلْقَى لَهُ مجاوب وَلَا يُوجَد لَهُ دَاع وَلَا مُجيب، وَفِي الْفَقْرَة الْتِزَام مَا لَا يلْزم، وَزَاد فِي الأَصْل بعد هَذِه الْعبارَة إِن اخْتلف إِلَى الْفُقَهَاء مُحَصل بِيَدِهِ التَّعْلِيق فمسبّب الدِّيوَان وحامل البروات، أَو ألزم الْحجَّة بطرِيق التَّوْجِيه معاند فمستخرج مَال القسمات، يَقع الْخلاف وَلَا منع إِلَّا عَن الْحق الصَّرِيح، وَلَا مُطَالبَة إِلَّا بِالْمَالِ الجسيم، وَلَا مصادرة على الْمَطْلُوب إِلَّا بِضَرْب يضْطَر مَعَه إِلَى التَّسْلِيم. إِلَى آخر مَا قَالَ (لَكِن) اسْتِدْرَاك على الْكَلَام السَّابِق، وَعبارَة الأَصْل: وَلَو شِئْت لقلْت أَسْأَرَت شِفاه اللَّيَالِي من الْقَوْم بَقَايا، وأخلفت بواسقُ النّخل ودَايَا، بلَى (لم يَتَصَوَّحْ) أَي لم يتشقق وَلم يَجِفَّ، وَصَاح النبت وصَوّح وتَصَوّح: يَبِس وجَفَّ، وَظَهَرت فِيهِ الشقوق (فِي عَصْفِ) بِفَتْح فَسُكُون أَي هبّ (تِلْكَ البَوَارِح) وَهِي الرِّيَاح الشَّدِيدَة الحارّة الَّتِي تهبّ بِشدَّة فِي الصَّيف، وَالْمرَاد بهَا تِلْكَ الْحَوَادِث والمصائب (نَبْتُ تِلْكَ الأبَاطِح) عبارَة

ص: 97

عَن اللُّغَة وَأَهْلهَا على وَجه الِاسْتِعَارَة التخييلية والمكنية والترشيحية (أَصْلاً) انتصابه على الظَّرْفِيَّة، أَي لم يتصوّح وقتا من الْأَوْقَات (وَرَاسا) هُوَ فِي نسختنا بِإِثْبَات الْهَمْز، وَسَقَطت عَن غَالب الأُصول المصححة، وَهُوَ على لُغَة بني تَمِيم فَإِنَّهُم يتركون الْهَمْز لزُوماً، خلافًا لمن زعم أَن ترك الْهَمْز إِنَّمَا هُوَ تَخْفيف، قَالَه شَيخنَا، وَالْمرَاد أَن تِلْكَ الدَّوَائِر الَّتِي دارت على أهل اللُّغَة لم تستأصلهم بالكلّيّة، بل أبقت مِنْهُم بقيّة قَليلَة، تنجع إِذا سقتْها سحائبُ التدارُكِ مِمَّن يقيِّضه الله على عَادَته إحْيَاء للدّين وعلومه، وَفِي الْفَقْرَة ترصيع (وَلم تُستَلَبْ) أَي لم تختلس وَلم ينتزع ذَلِك النبت الَّذِي أُريد بِهِ اللُّغَة، وَهُوَ من الافتعال، وَفِي نُسْخَة: وَلم يتسلَّب، من بَاب التفعُّل، فَهُوَ نَظِير لم يتَصَوّح، وَمثله فِي شرف إيوَان الْبَيَان (الأَعْواد المُورِقةُ) أَي الأغصان الَّتِي نبت عَلَيْهَا وَرَقُها (عَن آخِرِها) أَي بِتَمَامِهَا وَكلهَا، وَهَذِه الْكَلِمَة استعملها الْعَرَب قَدِيما وأرادت بهَا الِاسْتِيعَاب والشمول (وَإِن أَذْوَت) أَي أَجَفَّت وأَيبَسَتْ (اللَّيَالِي) أَي حركاتها (غِرَاسا) جمع غَرْسٍ أَو مُفْرد بِمَعْنى المغروس، كاللِّباس بِمَعْنى الملبوس، وَفِي الْفَقْرَة الْتِزَام مَا لَا يلْزم، وَهُوَ الرَّاء قبل الْألف الموالية للسين الَّتِي هِيَ القافية، وَفِي نُسْخَة: وَإِن أذوت الْأَلْسِنَة ثمار اللَّيَالِي غراسا (وَلَا تَتَساقَطُ عَن عَذَبات) جمع عَذَبة محركة فيهمَا، وَهِي الطَّرَف، وعَذَبة الشجرةِ غُصْنُها كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقه فِي مادته (أفنانِ) جمع فَنَن، هُوَ الغُصن (الْأَلْسِنَة) جمع لِسان هُوَ الْجَارِحَة (ثِمارُ اللِّسَان) أَي اللُّغَة، وَفِي الأَصْل الْبَيَان (العربِيّ) منسوبة للْعَرَب (مَا اتّقَتْ) أَي تحفَّظت (مُصادمَةَ) أَي مدافعة (هُوجِ) بِالضَّمِّ، جمع هَوْجاء، وَهِي الرِّيح الْعَظِيمَة الَّتِي تَقلع البيوتَ وَالْأَشْجَار (الزَّعازِع) جمع زَعْزَع، وَالْمرَاد بهَا الشدائد، وَجعل ابنُ عبد الرَّحِيم الهُوجَ جمع هَوَج محركة، وتمحَّل لبَيَان مَعْنَاهُ، وَهُوَ غلط (بمُناسَبَةِ) أَي مشاكلة ومقاربة (الكِتابِ) وَهُوَ الْقُرْآن الْعَظِيم كَلَام الله الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه،

ص: 98

تَنْزِيل من حَكِيم حميد (ودَوْلَة النَّبي)

، وَالْمرَاد اسْتِمْرَار الغَلَبة النبويّة، قَالَ: وَهَذِه الْفَقْرَة كَالَّتِي قبلهَا مُشعرة بِبَقَاء هَذِه الْعُلُوم اللسانية، وَأَنَّهَا لَا تذْهب وَلَا تَنْقَطِع وَلَو صادمتها الزعازع والشدائد، لِأَنَّهَا قريبَة ومشاكلة لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم، وللدولة النَّبَوِيَّة، فَكَمَا أَن الْقُرْآن والدولة النَّبَوِيَّة ثابتان باقيان بِبَقَاء الدُّنْيَا، وَلَا تزَال كلمة الله هِيَ الْعليا، وَلَا تزَال الدولة المحمدية صائلة، فَكَذَلِك مَا يتوصَّل بِهِ إِلَى معرفَة الْكتاب الْعَزِيز وَكَلَام النَّبِي

لَا يزَال مستمرًّا على مُرُور الزَّمَان، وَإِن حصل فِيهِ فتورٌ أَحْيَانًا، كَمَا أَن الاتقاءَ والتحفظ دَائِم لَا يَزُول، فَكَذَلِك عدم التساقط، وَفِي الْكَلَام من الاستعارات الكنائية والتخييلية والترشيحية، وَفِيه جناس الِاشْتِقَاق والتزام مَا لَا يلْزم (وَلَا يَشْنَأُ) أَي لَا يبغض (هَذِه اللغةَ الشريفةَ) وَعبارَة الأَصْل: فَهِيَ اللُّغَة لَا يَشنَؤُها (إلَاّ من اهْتافَ بِهِ) افتعل من الهَيْفِ أَي رَمَاه (رِيحُ الشقاءِ) أَي الشدَّة والعسر وَخلاف السَّعَادَة، واستعار للشقاء ريح الهَيْف، لما بَينهمَا من كَمَال الْمُنَاسبَة فِي الْفساد الظَّاهِر وَالْبَاطِن، لِأَن الهَيْفَ ريحٌ شَدِيدَة حارّة، من شَأْنهَا أَن تُجَفِّف النَّبَات وتُعطش الْحَيَوَان وتُنشف الْمِيَاه أَي مَنْ بَغَض اللسانَ العربيَّ أَدّاه بُغْضه إِلَى بُغْض الْقُرْآن وسُنّة الرَّسُول

، وَذَلِكَ كُفْرٌ صُرَاح، وَهُوَ الشقاءُ الْبَاقِي، نسْأَل الله الْعَفو (وَلَا يَختار عَلَيْهَا) غَيرهَا من الْعُلُوم قبل مَعْرفَتهَا (إلاّ من اعتاض) أَي استبدل الرّيح (السافِيَة) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاء، وَهِي الَّتِي تحمل الترابَ وتُلقيه فِي وَجهه وتَذرّه على عَيْنَيْهِ (مِن) وَفِي نُسْخَة عَن (الشَّحْوَاء) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة ممدودًا، هُوَ الْبِئْر الواسعة الْكَثِيرَة المَاء الَّذِي هُوَ مادّة الْحَيَاة، قَالَ شَيخنَا، وَسمعت من يَقُول: السافية: الأَرْض ذَات السَّفا، وَهُوَ التُّرَاب، والسَّجْواء بِالْجِيم وَالسِّين الْمُهْملَة الْبِئْر الواسعة، وَكِلَاهُمَا عِنْدِي غير ثَابت وَلَا صَحِيح، انْتهى. قلت: وَهَذِه النُّسْخَة أَي الثَّانِيَة هِيَ نَص

ص: 99

عبارَة الأَصْل (أفادَتْها) أَي أعطتها (مَيَامِنُ) أَي بَرَكَات (أنفاسِ المُستَجِنّ) أَي الْمُسْتَتر وَالْمرَاد بِهِ المقبور (بَطَيْبَةَ) وَهِي الْمَدِينَة المشرَّفة (طِيباً) أَي لذاذةً وعِطْرًا، وَالْمرَاد بِهِ النَّبِي

(فشَدَتْ) أَي غَنَّت ورَنَّمت (بهَا) أَي اللُّغَة (أيْكيَّةُ النُّطْق) هِيَ الْحَمَامَة وَنَحْوهَا من الطُّيُور الَّتِي لَهَا شَدْوٌ، وغناء نَسَبهَا إِلَى الأيك، وَهِي الغَيْضَة، لِأَنَّهَا تأْوِي إِلَيْهَا كثيرا، وتتخذها مساكنَ (على فَننِ) محرّكةً: الغصنُ (اللسانِ) هَذِه الْجَارِحَة (رَطيبا) أَي رَخْصاً ليِّناً نَاعِمًا، وَهُوَ حَال من الفَنَن، أَي أَن هَذَا اللِّسَان ببركات أنفاسه

لم تجفّ أغصانُها وَلم تزل حمائمُ النطقِ تُغنِّي على أَغْصَان الْأَلْسِنَة وَهِي رطبَة ناعمة، وَفِي الْفَقْرَة زِيَادَة على المجازات والاستعارات الِالْتِزَام (يَتداولها القومُ) أَي يَتَنَاوَلهَا (مَا ثَنَتِ الشَّمَال) أَي عطفت وأمالت، والشَّمال: الرّيح الَّتِي تهبُّ من الشأْم (مَعاطِفَ) جمع مِعْطَف كمنبر: الرِّدَاء، وَالْمرَاد مَا يكون عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَامَة والجوانب (غُصْن و) مَا (مَرَت) أَي دَرّت (الجَنوبُ) بِالْفَتْح الريحُ اليمانِية لبن (لِقْحَة) بِالْكَسْرِ: النَّاقة ذَات اللَّبن (مُزْن) بِالضَّمِّ هُوَ السَّحَاب، وَالْإِضَافَة فِيهِ كلُجَيْنِ الماءِ: قَالَ شَيخنَا: شبَّه الأغصان بالقدود، والمُزْن باللّقاح من الْإِبِل، الْجنُوب بِصَاحِب إبل يمرِيها ليستخرج دَرَّها، وَأورد ذَلِك على أكمل وَجه من الْمجَاز والاستعارة الكنائية والتخييلية والترشيح والمقابلة وَغير ذَلِك مِمَّا يظْهر بِالتَّأَمُّلِ (استظلالاً بدَوْلَة) أَي دُخولا تَحت ظلّ دولة، وَفِي الأَصْل استظلالاً بدوحة (مَن رَفَع مَنارَها) وعَلَمَها (فَأَعْلَى) وأوضح منزلَتها بِحَيْثُ لَا تَخفى على أحدٍ، وَهُوَ النَّبِي

(ودلّ) ضَبطه بَعضهم مبنيًّا للْمَفْعُول، وَالصَّوَاب مَبْنِيا للْفَاعِل مَعْطُوف على الصِّلَة، أَي أرشد وهَدَى (عَلى) نَيْلِ (شَجرةِ الْخلد) أَي الْبَقَاء والدوام وَهِي أَشجَار الْجنَّة (ومُلْكٍ لَا يَبْلَى) أَي سلطنة لَا يَلحقها بَلاءٌ وَلَا فَناء والدّالّ على ذَلِك هُوَ النَّبِي

على جِهة النُصْحِ للعباد،

ص: 100

وإرشادهم، إِلَى مَا يَنْفَعهُمْ يَوْم الْمعَاد، عِنْد رب الأرباب نصحاً وشفقةً وَرَحْمَة لَهُم، كَمَا أمره ربُّه سبحانه وتعالى. وَفِي الْكَلَام اقتباسٌ أَو تلميح، وَقد أَخطَأ فِي تَفْسِيره كثيرٌ من المحشِّين والطلبة المدَّعِين (وَكَيف لَا) تكون هَذِه اللُّغَة الشَّرِيفَة بِهَذِهِ الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة منسوبة إِلَى النَّبِي

بَاقِيَة بِبَقَاء شَرِيعَته وَكتابه وسنته (و) الْحَال أَنه

هُوَ المتكلّم بهَا، بل أفْصح من تكلم بهَا، وَلذَلِك قَالَ (الفصاحةُ) وَفِي الأَصْل: كَيفَ لَا والنبوة (أَرَجٌ) محرّكةً الطيبُ (بِغَيْر ثنائه) هَكَذَا فِي سَائِر النّسخ بالثاء وَالنُّون، وَفِي الأَصْل بِغَيْر ثِيَابه، جمع ثَوْب، وَهُوَ الصَّوَاب (لَا يَعْبَقُ) أَي لَا يَفُوح وَلَا ينتشِر، وَقد تقدم فِي الْمُقدمَة بَيَان أفصحيَّته

وَمَا وَرَدَ فِيهِ (والسَّعادة صَبٌّ) أَي عاشق مُتابِع (سِوَى تُراب بَابه لَا يَعْشَق) وَلَا عَنهُ يحيد، فاللغة حازت الفصاحة والسعادة، واكتسبت ببركته

، وَفِي الفقرتين أنواعٌ من الْمجَاز، وَفِي المزهر: أخرج الْبَيْهَقِيّ فِي شُعَب الْإِيمَان، من طَرِيق يُونُس بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن أبيهِ قَالَ: قَالَ رَسُول الله

فِي يَوْم دَجْنٍ " كَيْفَ تَروْنَ بَوَاسِقَهَا؟ " قَالُوا: مَا أحسنَها وأشدَّ تَراكُمها. قَالَ: " كَيفَ تَرَوْنَ قَوَاعِدَها؟ " قَالُوا: مَا أَحسَنها وأَشدَّ تَمكُّنَها، قَالَ:" كَيفَ ترَوْنَ جَوْنَهَا؟ " قَالُوا: مَا أحْسنه وأشدّ سوادَه: قَالَ: " كَيفَ ترَوْنَ رَحَاها استدَارَتْ " قَالُوا: مَا أحْسنهَا وأشدَّ استدارتها. قَالَ: " كَيفَ ترَوْنَ بَرْقها أَخفِيًّا أم وَميضاً أم يَشُّقُ شَقًّا "" قَالُوا: بل يشقُّ شقًّا، فَقَالَ " الْحيَاء. فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، مَا أفصَحَك، مَا رَأينَا الَّذِي هُوَ أَعْرَبُ مِنْك، قَالَ:" حقّ لي، فَإِنَّمَا أُنزِل القرآنُ عَلَيّ بِلِسَان عَرَبِيٍّ مُبين ". ثمَّ إِن المُصَنّف لما ذكر أَوْصَافه الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة اشتاق إِلَى رُؤْيَة الحضرة، وتذكر تِلْكَ

ص: 101

النضرة، فَأقبل بِقَلْبِه وقالَبه عَلَيْهَا، وَجعلهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَة لَدَيْهِ، وَكَأَنَّهُ مخاطِب لَهُ

وَهُوَ بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ: وَفِي الأَصْل قبل الْبَيْت بعد قَوْله لَا يعشق مَا نَصه: وبواسطة من خُلِق أَجود من الرّيح المرسَلة نَجِد عَرْف الجِنان، وحُبًّا لمن ألّف الْبَوَادِي نَستروِح نَسِيم الرَّنْدِ والبان، ثمَّ أنْشد:

(إذَا تَنَفَّسَ من وَادِيكَ رَيْحَانُ

تَأَرَّجَتْ مِنْ قَميِصِ الصُّبْحِ أَرْدَانُ)

(إِذا تنفَّس مِنْ وَادِيك) أَي مجلسك (رَيحانُ) أَي كل ذِي رَائِحَة طيبَة (تأَرّجَتْ) أَي توهجَت (مِنْ قَمِيص (الصُّبْح) هُوَ الْفجْر (أَرْدَان) أَي أَكمام، جعل الصُّبْح كَأَنَّهُ شخص وَمَا ينتشر عَنهُ من أضوائه وأنواره عِنْد صدوع الْفجْر كَأَنَّهُ ثِيَاب يلبسهَا، وَجعل الثِّيَاب قَمِيصًا لَهُ أكمام مُتَفَرِّقَة، وقيّد بالصبح لِأَن رَوَائِح الأزهار والرياض تفوح غَالِبا مَعَ الصَّباح. وَالْبَيْت من الْبَسِيط، وَفِيه الِاسْتِعَارَة المكنية والتخييلية والترشيح وَقُوَّة الانسجام (وَمَا أجدَر) أَي أَحَق (هَذَا اللسانَ) أَي اللُّغَة، وَفِي الأَصْل ذَلِك اللِّسَان (وَهُوَ) أَي اللِّسَان (حَبيبُ النَّفس) أَي محبوبها (وعَشِيق الطبْع) أَي معشوقه أَي حُبُّه طبيعةٌ للأذواق السليمة (وسَمِيرُ) أَي مسامِر ومحادِث (ضميرِ) أَي خاطر وقلب (الجَمْع) هم الْجَمَاعَات المجتمعة للمنادَمَة والمسامَرة والملاطفة بأنواع الْأَدَب والمُلح وَذَلِكَ لما فِيهِ من الغرائب والنوادر (وَقد وَقَفَ) أَي اللِّسَان (على ثَنِيَّة الوَدَاع) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّهَا قد أزمعت الترحال، وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا مِقْدَار مَا يعدّ توديعاً بَين الرِّجال، وَفِي الْفَقْرَة الِاسْتِعَارَة المكنية والتخييلية والترشيح (وهَمّ) أَي اعتنى واهتم وَقصد (قِبْلِيُّ) بِالْكَسْرِ مَنْسُوب إِلَى القِبلة، وَهِي جِهَة الصَّلَاة وناحية الْكَعْبَة المشرَّفة (مُزْنِه) أَي غَيْثه (بالإقلاع) أَي بالكفِّ والارتفاع، وَخص القِبليَّ لما من شَأْنه الانصباب (بِأَن يُعْتَنَقَ) الظّرْف مُتَعَلق بأجدر، أَي مَا أَحَق هَذَا اللِّسَان لشرفه وَتوقف الْأَمر عَلَيْهِ وعزمه

ص: 102

على الرحيل أَن يعامَل مُعاملة المفارِق فيُعْتَنق (ضمًّا والتزاماً كالأحبّة) أَي كَمَا يَضمُّون الصُّدُور على الصُّدُور، ويلتزمون بالنحور (لدَى التوديع) أَي مُوَادعة بَعضهم بَعْضًا (ويُكْرَم بِنَقْل الخطوات) أَي بِالْمَشْيِ مُتبعاً (على آثاره) أَي بَقِيَّته كالأعِزَّة، كَمَا فِي نُسْخَة الأَصْل (حالةَ التشييع) قَالَ شَيخنَا: وَقد أورد هَذَا الْكَلَام على جِهَة التَّمْثِيل حضًّا وحثًّا على تعلُّم اللُّغَة والاعتناء بشأنها وتحصيلها بِالْوَجْهِ الْمُمكن، وَإِن لم يُمكن الْكل فَلَا بُد من الْبَعْض فَجَعلهَا كشخص تهيَّأَ للسَّفر، ووقف على ثَنِيَّة الوَداع، وَأوجب تَشييعه وتَوْدِيعه بالاعتناق الْمُشْتَمل على الضمّ والالتزام الَّذِي لَا يكون إلَاّ للخاصة من الأحبَّة فِي وَقت التوديع، وحث على نقل الخُطا فِي آثاره حَالَة التشييع، كَمَا يفعل بِالصديقِ المضنون بمفارقته، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الزَّمن السَّابِق، من تَعْظِيم أهل اللُّغَة، وإنالتهم جلائل المكاسب فَقَالَ (وَإِلَى الْيَوْم) أَي إِلَى هَذَا الزَّمَان الَّذِي كَانَ فِيهِ (نَالَ القومُ) أَي أخذُوا وأدركوا (بِهِ) أَي بِسَبَب هَذَا اللِّسَان (الْمَرَاتِب) الجليلة (والحُظوظ) الجسيمة (وَجعلُوا) أَي صيروا (حَماطَة) بِالْفَتْح والمهملتين صَميم (جُلْجُلَانِهِم) بِالضَّمِّ أَي حَبَّة قلبهم، قَالَ شَيخنَا: وَهُوَ مَأْخُوذ من كَلام سيدنَا عليٍّ رضي الله عنه، كَمَا مرَّ، وَفِي الأَصْل: جعلُوا حَمَاطة قُلُوبهم (لَوْحَه) أَي صَحِيفَته (الْمَحْفُوظ) المحروس، أَي جعل قلبه لَوْحَ ذَلِك الشَّيْء، فَإِن الْإِنْسَان إِذا أَكثر من ذكر شَيْء لَازمه وسلَّط قلبه على حفظه ورعايته. وَفِي الْفَقْرَة تضمين (وفاح) أَي انْتَشَر (مِن زهر) أَي نَوْر (تِلْكَ الخمائِل) جمع خَمِيلة (وَإِن أَخطأَه) أَي تجاوزه فَلم يُصِبْه (صوْبُ) أَي قصد أَو نزُول (الغُيُوث) الأمطار (الهَواطل) الغزيرة المتتابعة الْعَظِيمَة الْقطر (مَا تتولّعُ بِهِ) أَي تستنشقه (الْأَرْوَاح) وتحِنُّ لَهُ النُّفُوس (لَا) من الأُمور الْعَارِضَة الَّتِي تَأْخُذهُ (الرِّياح) والأَهْوِية فتفرِّقه، فَفِيهِ الْمُبَالغَة وجناس الِاشْتِقَاق (وتُزْهَى) مَبْنِيا للْمَجْهُول على الفصيح

ص: 103

أَي تتبختر وتتكبَّر (بِهِ الألسنُ لَا الأغصن) جمع غُصن، على المشاكلة، فَإِن الْقيَاس على مَا سَيَأْتِي فِي جمع غُصْن غصون وغِصنَة كقِرطَة وأغصان (ويُطلِع) بِضَم حرف المضارعة أَي يُظهِر (طَلْعَهُ) أَي ثمره السادات وَالْعُلَمَاء من (البَشَر لَا الشّجر) فَإِنَّهُ جامد، والطَّلع بِالْفَتْح شَيْء يخرج كَأَنَّهُ نَعْلَانِ مُطبقان، وَالْحمل بَينهمَا منضود الطَّرَف، مَحْدُود، وأُريد بِالشَّجَرِ النّخل، وَقد ثَبت عَن الْعَرَب تَسْمِيَة النّخل شَجرا، قَالَه الزّجاج وَغَيره، وَمِنْه الحَدِيث المرويّ فِي الصَّحِيحَيْنِ " إِن من الشّجر شَجَرَة لَا يَسقط وَرَقها، وَإِنَّهَا لمثلُ الْمُؤمن، أخبروني مَا هِيَ " فَوَقع النَّاس فِي أَشجَار الْبَوَادِي، فَقَالَ:" أَلا وَهِي النَّخْلَة " وَقَالَ شَيخنَا: وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْمُعْتَبر فِي الْعُلُوم هُوَ حملهَا عَن الرِّجَال ومشافهتهم بضبطها وإتقانها، لَا الْأَخْذ من الأوراق والصحف، فَإِنَّهُ ضلال مَحْضٌ، وَلَا سِيمَا المنقولات الَّتِي لَا مَجال لِلْعَقْلِ فِيهَا، كَرِوَايَة اللُّغَة والْحَدِيث الشريف، فَإِنَّهُمَا يتسلط عَلَيْهِمَا التَّصْحِيف والتحريف، وخصوصاً فِي هَذَا الزَّمَان، فالحذر الحذر. قلت: وَقد عقد السُّيُوطِيّ لهَذَا بَابا مستقلاًّ فِي المزهر فِي بَيَان أَنْوَاع الْأَخْذ والتحمُّل فراجعْه. وَفِي الْفَقْرَة جناس الِاشْتِقَاق والتلميح لحَدِيث ابْن عمر الْمُتَقَدّم ذكره، وَزَاد فِي الأَصْل بعد قَوْله الشّجر: ويسمح بجَناه الجنَان لَا الجِنَّان (ويجلوه) أَي يظهره ويكشف عَن حَقِيقَته (المنطِق السَّحَّار) أَي الْكَلَام الَّذِي يسحر السامعين لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة السحر الْحَلَال (لَا الأسحار) جمع سحر، وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يكون قبل طُلُوع الْفجْر، وَخص لتوجه القرائح السيالة فِيهِ للمنثور من غرائب الْعُلُوم والمنظوم، وَفِي الْفَقْرَة جناس الِاشْتِقَاق، وَزَاد فِي الأَصْل بعد هَذَا وتحلّ عقدته يدُ الإفصاح، لَا ناسم الإصياح، ويكسوه شعاعه الذَّكاء لَا ذُكَاء، ويهيج الطَّبْع وَلَا يكَاد يهيج، ويرف نَضارَة إِن ذَوَى الزهرُ البهيج (تُصان) وَفِي الأَصْل يُصان (عَن الخَبْطِ) أَي تحفظ عَن السُّقُوط (أوراقٌ عَلَيْهَا اشتملَتْ) أَي التفَّت

ص: 104

تِلْكَ الخمائل فَإِنَّهَا أزهار وأنوار، فيناسبها القطف والجَنْي، لَا الْخبط، لِأَنَّهُ يُفْسِدهَا، وَفِيه إِشَارَة إِلَى حسن إجتناء الْعلم وَكَمَال الْأَدَب عِنْد أَخذه وتلقّيه، وَفِيه تلميح للأوراق المعدَّة للكتابة وصيانتها عَن الْخبط فِيهَا خبط عَشْواء، والخوض فِيهَا بِغَيْر نظرٍ تامّ، والأُستاذ إِمَام (ويتَرفَّعُ) أَي يتعلّى (عَن السُّقوط) والخبط (نَضِيجُ ثَمرٍ) وَهُوَ محرّكة حَمْل الشّجر مُطلقًا أشجارُه) أَي النضيج (احتملتْ) مِن حَمَلَه واحتمله إِذا رَفعه، أَي يحافظ على تِلْكَ الثِّمَار بِحَيْثُ لَا تَجف وَلَا تذبُل حَتَّى يحصل لَهُ سُقُوط، بل يجب الاعتناءُ بهَا والمحافظة لَهَا، بِحَيْثُ يتَبَادَر إِلَى قطفها وتناولها قبل السُّقُوط والوقوع، وَفِيه الِالْتِزَام والمقابلة (من لُطف بلاغتهم) وَفِي الأَصْل من لطف تفريعاتهم (مَا يَفضح فُروع الآس) أَي أغصانه (رَجَّلَ جَعْدها) ترجيلاً إِذا سرَّحه وَأَصْلحهُ، والجَعد الشّعْر (ماشِطَةُ) ريح (الصَّبَا) وَالْإِضَافَة كلُجَيْن المَاء، أَي ريح الصَّبا الَّتِي هِيَ لفروع شَجَرَة الآس عِنْد هبوبها عَلَيْهَا وتسريحها إِيَّاهَا بِمَنْزِلَة الماشطة الَّتِي تُرَجّل شعر النِّسَاء وتُصلِح من حالهن. وَفِي الْجُمْلَة مُبَالغَة فِي مدحهم (وَمن حُسْن بَيانهم) هُوَ الْمنطق الفصيح المعرب عَمَّا فِي الضَّمِير. نَقله شَيخنَا عَن السعد، وَفِي نُسْخَة الأَصْل: وَمن شعب بيانهم (مَا استلَبَ) أَي اختلس (الغُصْنَ) الْمَفْعُول الأوّل (رَشاقَتَه) مفعول ثَان (فَقلِقَ) أَي الْغُصْن لما حصل لَهُ من السَّلب (اضطراباً) مفعول مُطلق (شاءَ) أَي أَرَادَ ذَلِك الِاضْطِرَاب والقلق (أَو أبَى) وَفِي نُسْخَة الأَصْل: أَمْ أَبى، أَي امْتنع، فَلَا بُد من وُقُوعه، كَمَا هُوَ شَأْن الأغصان إِذا هبَّ عَلَيْهَا النسيم فَإِنَّهُ يُميلها ويُقْلِقها. وَفِي الفقرتين مُبَالغَة والتزام وترصيع ومقابلة، والاستعارة المكنية والتخييلية فِي الترجيل والجعد، وَالتَّعْبِير بالفروع فِيهِ لطف بديع، لِأَن من إطلاقاتها عقائص الشّعْر، كَمَا

ص: 105

فِي شعر امْرِئ الْقَيْس وَغَيره، قَالَه شَيخنَا، وَزَاد فِي الأَصْل بعد هَذَا: لَم تَزْهُ أَيدي الأغصانِ فِي أكمامِ الزَّهر بالامتداد دونهَا، إِلَّا ضَرَبَتْ عَلَيْهَا الرياحُ فكادَت تَقصِفُ مُتونَها، وَلم يَدَعْ مِسْكيَّ نَوْرِ الخِلاف يَجْنُبها طِيبُ الشمائلِ، إِلَّا ومَزَّقت فَرْوَته على ذُرَى الأعواد ترمِيه باصفرار الأنامل، إِلَى آخر مَا قَالَ (وللهِ) يُؤْتِي بهَا عِنْد إِرَادَة التفخيم والتهويل، وَإِظْهَار الْعَجز عَن الْقيام بِوَاجِب من يذكر فيضيفه الْمُتَكَلّم إِلَى الله تَعَالَى، وَمن ثَمَّ قَالُوا لمن يَستغربون مِنْهُ نَادِرَة: لله دَرُّه، وَللَّه فلانٌ، وَمن ذَلِك أنشدنا الأديب الماهر الْمُحَقق حُسَيْن بن عبد الشكُور الطائفيُّ بهَا:

(لله قومٌ كِرَامٌ

مَا فِيهِمُ مَنْ جَفَانِي)

(عَادوا وعَادُوا وعَادُوا

عَلى اخْتِلاف المَعاني)

(صُبَابةٌ) بِالضَّمِّ الْبَقِيَّة من كل شَيْء، كَمَا يَأْتِي فِي مادّته، وَفِي نُسْخَة الأَصْل وَللَّه صُيَّابة، بِضَم وَتَشْديد مثناة تحتية وَبعد الْألف مُوَحدَة (من الخُلفاء) جمع خَليفَة وَهُوَ السُّلْطَان الْأَعْظَم (الحُنَفَاء) جمع حنيفَة وَالْمرَاد بِهِ الْكَامِل الإسلامِ، الناسك المائل إِلَى الدّين (و) عِصَابَة من (الْمُلُوك العُظماء) أَي ذَوِي العظمة والفخامة اللائقة بهم، وَفِيه الِالْتِزَام (الَّذين تَقلَّبوا فِي أعطاف الفَضْل) والكمال وتخوّلوا فِيهَا (وأَعْجَبوا بالمنطِق الفَصْل) الفصيح الَّذِي يَفْصل الْمعَانِي بَعْضهَا من بعض، أَو الْفَصْل بِمَعْنى الْحق، أَو هُوَ مصدر بِمَعْنى الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول، وَفِيه جناس تصحيفي (وتَفكَّهوا) أَي تنعَّموا (بثِمار الْأَدَب الغضّ) أَي الناعم الطري (وأُولِعوا) أَي أغروا (بأبكار الْمعَانِي) أَي الْمعَانِي المبتكرة (وَلَع) أَي إغراءَ (المُفتَرع المفتَضّ) وَكِلَاهُمَا من افترع البِكر وافتضَّها أَي أَزَال بَكَارَتهَا بِالْجِمَاعِ، وَبَين تفكَّهوا وتقلّبوا، وأعجبوا وأولعوا مُقَابلَة، وَفِي التقلب والتفكه وَالثِّمَار والأبكار مجازات (شَمِل القومَ)

ص: 106

أَي أهل اللُّغَة، وشملهم: عمَّهم (اصطناعُهُم) أَي معروفهم وإحسانهم وصنيعهم (وطَرِبت) أَي فرحت ونشطت وارتاحت (لِكَلِمهم) أَي الْقَوْم جمع كَلَام (الغُرِّ) بِالضَّمِّ جمع غُرَّةٍ، أَي الْوَاضِحَة البيِّنة، وَفِي نُسْخَة الأَصْل وطربت للأناشيد (أسماعُهُم) أَي آذان الْخُلَفَاء (بل أَنْعشَ) أَي رفع وأقال (الجُدودَ) جمع جَدّ هُوَ الْحَظ وَالْبخْت (العَواثِرَ) جمع عاثر وعثر كضرب وَنصر وَعلم وكرم إِذا كبا وسَقط وعثر جَدُّه: تعس، كَمَا سَيَأْتِي (إلطافهم) بِالْكَسْرِ أَي ملاطفتهم ورفقهم، وقرأت فِي مُعجم ياقوت لعَمْرو ابْن الْحَارِث بن مُضاض الجرهمي قَوْله من قصيدة طَوِيلَة:

(بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا

صُرُوفُ اللَّيالِي والجُدُودُ العَوَاثِرُ)

(واهتزَّت) أَي فرحت وسُرَّت (لاكتساء حُلَل) جمع حُلّة، ثَوبانِ يَحُلُّ أحدُهما فَوق الآخر (الحَمْدِ) أَي الثَّنَاء الْجَمِيل (أعطافُهم) جمع عِطْف بِالْكَسْرِ، هُوَ الْجَانِب، وَالْمرَاد بهَا ذاتهم، وَفِي الْفَقْرَة الِالْتِزَام والاستعارة المكنية (رَاموا تخليدَ الذِّكر) أَي إبقاءَه على وجْه الدَّوَام (بالإنعام) أَي الْإِحْسَان (على الْأَعْلَام) أَي عُلَمَاء الْأَدَب واللغة الْمشَار إِلَيْهِم، وَفِي نُسْخَة الأَصْل: راموا تخليد الذّكر بِوَاسِطَة الْكَلَام (وَأَرَادُوا أَن يعيشوا بعُمُرٍ ثانٍ) والعمر مُدة بقاءِ الْإِنْسَان وَغَيره من الْحَيَوَانَات (بعد مُشَارَفة) أَي مقارَبة (الحِمام) بِالْكَسْرِ الْمَوْت، إِشَارَة إِلَى أَن من دَامَ ذِكْرُه لم ينتقص عمرُه، أنْشد أَبُو الْحجَّاج الْقُضَاعِي لِابْنِ السَّيِّد:

(أخُو العِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ

وأَوصالهُ تَحْتَ التُّرابِ رَمِيمُ)

(وَذُو الجَهْل مَيْتٌ وهْوَ يَمْشِي علَى الثَّرَى

يُعدُّ مِنَ الأحْياءِ وَهْوَ عَدِيمُ)

وَأنْشد شَيخنَا لأبي نَصرٍ الميكاليّ، وَهُوَ فِي الْيَتِيمَة:

(وَإذَا الكَرِيمُ مَضَى وَولَّى عُمْرُهُ

كَفَلَ الثَّنَاءُ لَهُ بِعُمْرٍ ثَانِ)

ص: 107

(طواهم الدهرُ) أَي أفناهم وصيَّرهم كالثَّوْب الَّذِي يُطوَى بعد نَشْرِه (فَلم يبْق لأعلامِ العلومِ) ، الأوَّل جمع عَلَم بِالْفَتْح، وَالثَّانِي جمع عِلْم بِالْكَسْرِ (رافِع) أَي مُعْلِى (ولاعن حرِيمها) أَي أَعلام الْعُلُوم، والحريم فِي الأَصْل: مَا حَوْل الشَّيْء من الْحُقُوق وَالْمَنَافِع، وَمِنْه حَرِيمُ الدّارِ، وَبِه سُمِّيَ حَرِيم دارِ الخِلافة، كَمَا سَيَأْتِي (الَّذِي هَتَكَتْه) أَي شَقَّت سِتْرَه، وَفِي نُسْخَة الأَصْل: انتهكته (اللَّيَالِي) أَي دوائرها ونوائبها (مُدافِع) أَي محامٍ وناصرٌ، وَفِي الْفَقْرَة الِالْتِزَام وَالْمجَاز الْعقلِيّ، أَو الِاسْتِعَارَة المكنية وجناس الِاشْتِقَاق، والمكنية فِي تَشْبِيه الْحَرِيم بِشَيْء لَهُ سِتارة، والترشيح فِي إِثْبَات الهتك لَهُ (بل) وَفِي نُسْخَة الأَصْل: بلَى (زَعَم الشامِتون بِالْعلمِ) جمع شامت من شَمِت بِهِ إِذا فَرح بمصيبة نزلَتْ بِهِ، وَالْمرَاد بالزعْمِ القولُ المظنون أَو الْكَذِب، وَتَأْتِي مباحثه (و) الشامتون ب (طُلَاّبِه) أَي الْعلم، جمع طَالب (والقائلون) أَي الزاعمون (بِدَوْلَة الجهلِ و) كَذَا (أحزابِه) أَي أنصاره ومعاونيه أَو جماعته (أَن الزَّمَان بمثلهم) أَي أَعْلَام الْعُلُوم الْمَاضِي ذِكْرُهم أَي الْخُلَفَاء، وَلَفْظَة الْمثل زَائِدَة، أَي بهم (لَا يَجُود) أَي لَا يُعْطِي (وأنّ وقْتاً قد مضى [بهم] ) وَفِي نُسْخَة الأَصْل وَأَن زَمنا مضى أَي ذهب وانقضى (لَا يَعود) أَي لَا يرجع، لِأَنَّهُ محَال عقليّ، وَقيل: عاديّ، كرجوع الشَّبَاب عِنْد السُّبكي. وَفِي عكس هَذَا قَالَ الشَّاعِر:

(حَلَفَ الزَّمَانُ لَيَأْتِيَنَّ بِمِثْلِهِ

إنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَعَقِيمُ)

وَفِي الْكَلَام اسْتِعَارَة ومجاز عَقْلِي والتزام بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَاو الرَّوِيّ فَإِنَّهَا غير وَاجِبَة كَمَا قرّر فِي مَحَله (فرَدَّ عَلَيْهِم) أَي على الشامتين والقائلين أَي رَجَعَ (الدهْر مُراغِماً) أَي ملاصقاً بالرُّغام أَي التُّرَاب، وَفِي نُسْخَة الأَصْل مُرْغِماً (أُنوفَهم) وَهُوَ كِنَايَة عَن كَمَال الإهانة (وتبيَّن) أَي ظهر (الْأَمر) أَي الشان (بالضّدّ) أَي بِخِلَاف مَا زعموه، أَو

ص: 108

أَن تبين متعدّ، وَالْأَمر مَنْصُوب على المفعولية، وفاعله ضمير الدَّهْر، بِدَلِيل قَوْله (جالباً حُتوفَهم) جمع حَتْف، هُوَ الْهَلَاك، وَفِي الْفَقْرَة الْمجَاز والترصيع والالتزام (فطلَع) وَفِي نُسْخَة الأَصْل وطلع (صُبْح النُّجْع) بِالضَّمِّ أَي الظَّفَر والفَوْز (مِن آفَاق) أَي جِهَات (حُسْنِ الِاتِّفَاق) وبديعه (وتباشرَت) أَي سُرَّت (أَرْبَاب) أَصْحَاب (تِلْكَ السِّلَع) بِالْكَسْرِ جمع سِلْعة وَهِي البضاعة (بِنَفَاق) بالفَتح رَوَجَان الْبيُوع (الْأَسْوَاق) أَي قِيَامهَا وعمارَتها، وَفِيه نوع من صناعَة الترصيع وَغَيره من مجازات واستعارات (وناهَضَ) أَي قاوم (مُلوكَ الْعدْل) وَفِي نُسْخَة الأَصْل الْعَهْد (لتنفيذ) أَي إِمْضَاء وإجراء (الْأَحْكَام، مالكُ) بِالرَّفْع فَاعل ناهض (رِقّ الْعُلُوم) أَي المستولي عَلَيْهَا كاستيلاء الْمَالِك على الرقّ (ورِبْقَة الْكَلَام) ، وَفِي نُسْخَة الأَصْل " وربقة الْأَنَام " وَهِي حَبْل فِيهِ عِدَّة عُرًى تُتَّخذ لضبط البَهْمِ، وَهِي صغَار الغَنَمِ، وَفِيه اسْتِعَارَة وجناس اشتقاق وَحسن التَّخَلُّص لذكر الممدوح، وَهَذِه الْفقر من قَوْله " لم تَزل ترفع غِرِّيدة بانها " إِلَى هنَا، كلهَا عبَارَة شرف إيوَان الْبَيَان المسلُوف ذِكْرُها، وَإِيَّاهَا أَعنِي بنسخة الأَصْل فَاعْلَم ذَلِك (بُرْهان) أَي حجَّة (الأساطينِ الأعْلامِ) جمع علم (سُلطان سلاطين الْإِسْلَام) وَيجوز أَن يُرَاد بالأعلام السادات فَإِنَّهُم أساطين الدّين المتين، وَفِيهِمَا ترصيع بديع وجناس حسن والتزام (غُرَّة وجْهِ اللَّيَالِي، قمرً بَراقع) جمع برقع تقدّم ذكره (الترافُع والتعالي) تفَاعل من الرِّفعة وَمن العُلُوّ، وَفِيه جناس التَّصْحِيف والتحريف، وَفِي نُسْخَة الأَصْل: فِي مدح ولدَيّ صَاحب الدِّيوَان غُرَّتَي وجْهِ اللَّيَالِي، وقَمرَيْ سماءِ الْمَعَالِي (عاقِد أَلْوِية) جمع لِوَاء (فُنون الْعلم كُلِّها) توكيد للفنون، وَفِيه مُبَالغَة واستعارة مكنيّة وتصريحية (شاهِر سُيوف العدلِ ردَّ الغِرارَ) بِالْكَسْرِ النّوم (إِلَى الأجفان) جمع جَفْن الْعين، وَيُطلق على غِمد السَّيْف (بِسَلِّها) أَي تِلْكَ السيوف، وَفِيه إِشَارَة إِلَى الْأمان

ص: 109

والدَّعة والراحة الَّتِي ينشأُ عَنْهَا النّوم، يَعْنِي إشهار سيوف الْعدْل كَانَ سَببا فِي ذَلِك، وَفِيه التَّأْكِيد وَالْإِيهَام والمقابلة والاستعارة (مُقَلِّد أعناقِ البرايا) أَي الْخلق (بالتحقيق) أَي التثبيت (طَوْقَ امتنانِه) أَي إحسانه وإفضاله، وَفِيه الْمُبَالغَة والاستعارة (مُقَرِّط) أَي محلِّي (آذانِ اللَّيَالِي) أسماعها أَي جَاعل آذان اللَّيَالِي مُقَرَّطَةً مُشَنَّفةً مُحلَاّةً (على مَا بَلَغَ) أَي وصل إِلَى جَمِيع (المَسامِع) جمع مِسْمع كمنبر: الأُذن، أَي شاع وذاع حَتَّى وصل إِلَى جَمِيع الأسماع (شُنُوفَ) أَي حُلَى (بَيانِه) وَفِيه الِاسْتِعَارَة ومراعاة النظير (مُمهِّد الدّين) أَي مُسهِّله ومُوطِّئه (ومُؤَيِّده) ومُقوِّيه فِي قِيَامه بأُموره وَمَا يصلحه، وَفِيهِمَا تلميح إِلَى ألقاب جَدّ الممدوح الْملك المُؤَيَّد ممهِّد الدّين دَاوُد بن عليّ، كَمَا سَيَأْتِي (مُسَدِّد المُلْكِ) من السَّداد، بِالْفَتْح، هُوَ الصَّوَاب فِي القَوْل والفِعل، أَي مقوّمه ومُنَظِّم مَا اختلَّ مِنْهُ (ومُشَيِّده) أَي رافعه، وَسَيَأْتِي فِي مَادَّته مَا يتَعَلَّق بِهِ، وَفِي الفقرتين الترصيع والالتزام وَالْمُبَالغَة.

(1)

(مولى مُلوك الأَرْض من فِي وَجْهه

مِقْبَاسُ نُورٍ أَيُّما مِقْبَاسِ)

(2)

(بَدْرٌ مُحَيَّا وَجْهِهِ الأَسنَى لنَا

مُغْنٍ عَنِ القمَرَيْن والنِّبراسِ)

(3)

(مِن أُسْرَة شَرُفَتْ وَجَلَّتْ فاعْتَلَتْ

عَنْ أَنْ يُقَاسَ عَلاؤُها بِقياسِ)

(4)

(رَوَوُا الخِلافة كابِراً عَنْ كابِرٍ

بِصَحِيح إسْنَادِ بِلا إلْبَاسِ)

(5)

(فَرَوى عَلِيٌّ عَنْ رَسُولٍ مِثلَ مَا

يَرْوِيه يوسفُ عَنْ عُمَرْ ذِي البَاسِ)

(6)

(وَرَواه دَاوُودٌ صَحِيحاً عَنْ عُمَرْ

وروى عَليٌّ عَنْهُ للجُلَاّسِ)

(7)

(ورَوَاه عَبَّاسٌ كَذَلِك عَنْ عَلِي

ورَوَاهُ إسماعيلُ عَنْ عَبَّاسِ)

(مولَى) أَي سيّد (مُلوكِ الأَرْض) ومالكهم بسطوته ومآثره (مَنْ فِي وَجْهِه مِقبَاسُ نورٍ) أَي شُعْلَة من نور تلمع فِي وَجه الممدوح (أَيُّما مِقباسِ) أيْ مِقْباس وأيُّ مقباس، أَي مقباس

ص: 110

عَظِيم، وَفِي ذكره النُّور الاحتراس وَدفع الْإِيهَام، لِأَن المقباس هُوَ شعلة نَار (بَدْرٌ مُحيّا) كثُرَيَّا أَي حُرّ (وَجْهه الْأَسْنَى) أَي الأَضْوأ أَو الأَرفع (لنا مُغْنٍ) أَي كافٍ (عَن القمرَيْنِ) أَي الشَّمْس وَالْقَمَر تَغْلِيبًا كالنَّيِّرَيْنِ (و) عَن (النِّبْراسِ) بِالْكَسْرِ الْمِصْبَاح، وَفِيه الْمُبَالغَة (مِن أُسْرَةٍ) بِالضَّمِّ أَي رَهْطٍ (شَرُفَت) أَي علا مجدهم (وجَلَّت فاعْتَلَت) أَي ارْتَفَعت (عَنْ أَن يُقَاس) مَبْنِيّ للْمَجْهُول (عَلاؤُها) بِالْفَتْح مَمْدُود (بِقياس) وَفِيه جناس الِاشْتِقَاق ومراعاة النظير (رَوَوُا الخِلافَةَ) أَي أسندوها مُعَنْعَنةً من غير انْقِطَاع، كَمَا يُنْقَلُ الحَدِيث ويُحْمَل عَن أَصْحَابه (كابِرًا) حَال من فَاعل رووا أَي عَظِيما (عَن كابرٍ) أَي عَن عظيمٍ (بِصحيح إسنادٍ) غير مُعَلّلٍ وَلَا شَاذٍّ (بِلَا إلْباسِ) أَي بِلَا إِشْكَال وتدليس، وَفِيه التورية بِالْإِشَارَةِ إِلَى اصْطِلَاح المحدِّثين بِذكر الرِّوَاية والإسناد وَالصَّحِيح والإلباس والإتيان بِعَنْ، وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَول أبي سعيد الرُّسْتميّ فِي الصاحِب بن عَبَّاد، كَمَا أنشدنيه غيرُ وَاحِد:

(وَرِثَ الوِزَارةَ كابِرًا عَن كَابٍ ر

مَوْصُولَةَ الإسنادِ بالإسنادِ)

(فروى عَن العبّاس عَبَّادٌ وِزارَته

وإسماعيلُ عَن عَبَّادٌ)

وَمن هُنَا أَخذ المُصَنّف فَقَالَ (فَرَوى عَلِيٌّ) شرع فِي بَيَان رجال السَّنَد، وَأَرَادَ بِهِ الْأَمِير شمس الدّين علِيًّا أوّل من ملك من هَذَا الْبَيْت وَهُوَ قد أَخذ الْخلَافَة (عَن) وَالِده (رَسُولٍ) وَيُقَال إِن اسْمه مُحَمَّد بن هَارُون بن أبي الْفَتْح بن يُوحى بن أبي الْفَتْح الجفنيّ الغَسَّانيّ، من نَسْلِ جَبلةَ بن الأَيْهم بن جَبلة بن الْحَارِث بن أبي جَبَلة الغسَّانيّ، وَهُوَ أوّل من عَهِد إِلَيْهِ بالنيابة الخليفةُ المستعصم بِاللَّه العباسيّ أَبُو مُحَمَّد عبد الله، كَمَا قَالَه الْملك الْأَشْرَف النسابة عُمر بن يُوسُف ابْن عمر بن عَليّ بن رَسُول عمّ وَالِد الممدوح، فِي رِسَالَة لَهُ سَمَّاها تُحفة الأحباب فِي علم الْأَنْسَاب. قَالَ وأعقب الْأَمِير شمس الدّين عليّ أَرْبَعَة: بدر الدّين الْحسن، وَالْملك الْمَنْصُور

ص: 111

أَبَا بكر، وَالْملك الْمَنْصُور عُمر، والأمير شرف الدّين مُحَمَّدًا. وأولد الْأَمِير بدر الدّين الْحسن من الرِّجَال اثنينِ. أَسد الدّين مُحَمَّدًا وفخر الدّين أَبَا بكر، وَأَوْلَاد أَسد الدّين الذُّكْرَانُ: جلال الدّين عليّ، وشمس الدّين أَحْمد، وفخر الدّين أَبُو بكر، وَشرف الدّين مُوسَى، وَبدر الدّين حسن، وجلال الدّين حُسَيْن، وَصَلَاح الدّين عبد الرَّحْمَن، ولفخر الدّين ولدٌ واحدٌ، وَهُوَ غياث الدّين مُحَمَّد (مِثلَ مَا يرويهِ) الْملك المظفر (يُوسفُ عَن) وَالِده الْملك الْمَنْصُور (عُمَرْ) بن عليّ بن رَسول، وسكَّنَ راءَه ضَرُورَة (ذِي الباسِ) أَي الهيبة والسطوة، وَفِيه مَعَ الإلباس فِي الْبَيْت الَّذِي قبله نوع من الجِناس. وأعقب الْملك المظفر ثَلَاثَة عشر: الْأَمِير مُغيث الدّين أَحْمد، وَالْملك الْأَشْرَف عمر مؤلف الْكتاب الَّذِي نقلنا هَذَا النّسَب مِنْهُ، وَعمر الْكَامِل، وَمُحَمّد وَأَبُو بكر، دَرجا، والظافر لَيْث الْإِسْلَام عليّ، وأساس الدّين عِيسَى هُوَ الْملك، والواثق إِبْرَاهِيم، والمسعود حسن، وَيُونُس، وَالْحُسَيْن، وَالْملك الْمُؤَيد دَاوُد، وَالْملك الْمَنْصُور أَيُّوب، وَأما إخْوَة الْملك المظفر فاثنان: الْملك المفضَّل أَبُو بكر، وَالْملك الفائز أَحْمد، وَأما أَوْلَاد الْملك الْأَشْرَف عمر فستة: مُحَمَّد، وَحسن، وَعِيسَى، وَأَبُو بكر، وَأحمد، وَدَاوُد. ولمحمد: حَسن وَأَيوب، وَإِسْمَاعِيل. وَلأبي بكر: مُحَمَّد وَهَارُون (ورَوَاه) الْملك الْمُؤَيد ممهد الدّين (دَاوُودٌ) بن يُوسُف كَذَا رَأَيْته فِي تُحفة الْأَنْسَاب، وَنقل شَيخنَا عَن الدُّرَر الكامنة أَن لقبه هزبر الدّين، قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: كَانَ محبًّا للعلوم متفقّهاً فِيهَا، بحث فِي التَّنْبِيه، وَحفظ مُقَدّمَة ابْن بابشاذ فِي النَّحْو، وكفاية المتحفّظ فِي اللُّغَة، وَسمع الطبريَّ وَغَيره، واشتملت خِزانة كتبه على مائَة الف مجلّد، وَكَانَ من جملَة اعتنائه أَنه أُهديَ إِلَيْهِ كتاب الأغاني بخطّ ياقوت، فأَعطى فِيهَا مِائَتي دِينَار مصريّة، وأنشأَ بتَعزّ القصورَ الْعَظِيمَة، وَكَانَ استقرارُه فِي الْملك بعد مُعارَضات من أَخِيه الْملك الْأَشْرَف وَغَيره، أَقَامَ فِي المملكة خمْسا وَعشْرين سنة، وَتُوفِّي سنة 721 قَالَه اليافعي

ص: 112

(صَحيحاً عَن) جده الْملك الْمَنْصُور (عُمَرْ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يلِ الْخلَافَة بعد وَالِده، وَإِنَّمَا وَليهَا بعد أَخِيه الْملك الْأَشْرَف وَغَيره، وَقَوله صَحِيحا يُشِير إِلَى ذَلِك، وَفِيه تَلميحٌ لطيفٌ. وأعقب الْملك المؤيدُ داؤوُد، علَى مَا قَالَه الْملك الْأَشْرَف خَمْسَة: عُمَر، وضرغام الدّين حسن، وقطب الدّين عِيسَى، وَأحمد، وَيُونُس. قلت: وَلم يذكر الْمُجَاهِد عليًّا، لتأَخُّر وِلَادَته عَن التَّأْلِيف، وَفِيه الْبَيْت والعَدَد والخلافة، وَقد تقدّم ذِكْرُ المسعود، وَله ولد اسْمه أَسد الْإِسْلَام مُحَمَّد، وَكَذَلِكَ الْمَنْصُور أَيُّوب لَهُ أَحْمد وَإِدْرِيس، وَكَذَلِكَ المفضّل، وَله عمر، وَكَذَلِكَ الفائز وَله يُوسُف وَعلي وَإِسْمَاعِيل وَرَسُول (ورَوَى) الْملك الْمُجَاهِد (عَليٌّ عَنهُ) أَي عَن وَالِده دَاوُد (للجُلَاّس) ولي السلطنة بعد أَبِيه فِي ذِي الْحجَّة سنة 731 وثار عَلَيْهِ ابنُ عَمه الظَّاهِر بن مَنْصُور، فغلبه، وَاسْتولى أَبوهُ الْمَنْصُور وَقبض على الْمُجَاهِد، ثمَّ مَاتَ فَقَامَ الظَّاهِر، وَجَرت بَينه وَبَين الْمُجَاهِد حُروبٌ، وَاسْتقر الظَّاهِر بالبلاد، واستقرت تعزّ بيد الْمُجَاهِد، فَخرج من الْحصار، ثمَّ كَاتب المجاهدُ الناصرَ صاحبَ مصر. فَأرْسل لَهُ عسكراً، وَجَرت لَهُم قِصصٌ طَوِيلَة، إِلَى أَن آل الْأَمر للمجاهد، وَاسْتولى على الْبِلَاد كلهَا، وَحج سنة 743 وَلما رَجَعَ وجد ولَدَه قد غلب على المملكة ولُقِّب بالمؤيد، فحاربه إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ وَقَتله، ثمَّ حجّ سنة 751 وقدّم محمله على محمل المصريّين، وَوَقع بَينهم الحروب، وأُسِر المجاهدُ وحُمل إِلَى الْقَاهِرَة، وأكرمه السُّلْطَان النَّاصِر وحلّ قَيده، وخلع عَلَيْهِ، وجهزه إِلَى بِلَاده، ثمَّ أُعيد إِلَى مصر أَسِيرًا وحُبس فِي الكَرك، ثمَّ أُطلِق وأُعيد إِلَى بِلَاده على طَرِيق عَيْذَاب، وَاسْتقر فِي مَمْلَكَته إِلَى أَن مَاتَ فِي جُمادى الأُولى سنة 767 وَذكر اليافعي فِي تَارِيخه أَن للمجاهد نظماً ونثرًا وديوانَ شعرٍ وَمَعْرِفَة بِعلم الْفلك والنجوم والرّمْل وَبَعض الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة من فقه وَغَيره (ورَوَاه) الْملك الْأَفْضَل (عَبَّاسٌ) صَاحب زبيد وتعزّ، ولي سنة 764 وَأقَام فِي إِزَالَة المتغلِّبين

ص: 113

من بني ميكال، إِلَى أَن استبدّ بالمملكة، وَكَانَ يحب الْفضل والفُضلاء، وألَّف كِتاباً وسماهُ نزهة الْعُيُون، وَله مدرسة بتعزّ، وأُخرى بِمَكَّة، توفّي فِي شعْبَان سنة 77 {كَذَلِك عَن) وَالِده (عَلى) السَّابِق ذِكرُه (ورَوَاه) الممدوح الْملك الْأَشْرَف ممهد الدّين (إسماعيلُ عَن) وَالِده (عَبَّاس) ولي السلطنة بعد أَبِيه فَأَقَامَ فِيهَا خمْسا وَعشْرين سنة، وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره طائشاً، ثمَّ توقَّر وأَقبل على الْعلم وَالْعُلَمَاء وأحبّ جمعَ الكُتب، وَكَانَ يُكْرِم الغُرباء، ويبالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِم، امتدحتُه لما قدِمْت بلدَه، فأثابني، أحسنَ الله جزاءه. مَاتَ فِي ربيع الأول سنة 803 بِمَدِينَة تعز، وَدفن بمدرسته الَّتِي أنشأَها بهَا وَلم يكمل الْخمسين. هَذَا كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر، نَقله عَنهُ شَيخنَا. قلت: وَكَانَت رِحلة الْحَافِظ إِلَى زبيد سنة ثَمَانمِائَة. وألّف لَهُ المؤلّف عدَّة تآليف باسمه وَكَانَ قد تزوّج بابنته، وَهُوَ الَّذِي ولاّه قضاءَ الْأَقْضِيَة بِالْيمن، وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ (تَهُبُّ) بِالضَّمِّ على غير قِيَاس كَمَا قَالَه الشَّيْخ ابْن مَالك (بِهِ) أَي الممدوح وَالْبَاء سَبَبِيَّة وَفِي نُسْخَة الأَصْل عِنْد مدح ولدَيْ صاحبِ الدِّيوَان السعيد مَا نَصه: يَهُبُّ بهما (علَى رِياض) وَفِي نُسْخَة الأَصْل: روض (المُنَى) جمع مُنْيَة بِالضَّمِّ، وَهِي مَا يتمنّاه الْإِنْسَان وتتوجَّه إِلَيْهِ إِرَادَته (رِيحَا) تَثْنِيَة ريح مُضَاف إِلَى المتعاطفين وهما (جنُوب وشَمَال) إِضَافَة العامّ إِلَى الخاصّ، وَفِيه تَشْبِيه الْمَعْقُول بالمحسوس والاستعارة وَشبه التفويف (وتَقِيل) أَي تُقِيم، وَقد يُقَيَّدُ بِطول النَّهَار، كالبيْتُوتَة بطُول اللَّيْل (بمكانه) أَي الممدوح. وَفِي نُسْخَة الأَصْل: ويَقِيل بمكانهما (جنَّتان) تَثْنِيَة جَنَّة بِالْفَتْح (عَن يَمِين وشِمال) الجهتان المعروفتان، وَفِي الفقرتين الجِناس التَّام إِن قُرِئ الشمَال فيهمَا بِالْفَتْح فَقَط أَو الْكسر فَقَط، لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ فِي كلّ من الرّيح والجِهة، وَإِن ضبطت الْجِهَة بِالْكَسْرِ وَالرِّيح بِالْفَتْح على مَا هُوَ الْأَفْصَح فالجناس محرَّف، والاقتباس ظَاهر، قَالَه شَيخنَا (وتَشتمِل) وَفِي نُسْخَة الأَصْل: يشْتَمل، أَي يلتفّ

ص: 114

(على مَناكِبِ) جمع مَنكِب كمجلس، وَهُوَ رَأس العضُد والكَتِف، لِأَنَّهُ يعْتَمد عَلَيْهِ (الْآفَاق أَرْدِيَةُ) جمع رِدَاء، مَا يُرتَدَى بِهِ (عَواطِفِه) جمع عَاطِفة، وَهِي الخَصلَة الَّتِي تَحمل الْإِنْسَان على الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة كالرَّحِم وَنَحْوهَا (وتَسِيل طِلَاعَ) بِالْكَسْرِ أَي ملءَ (الأرضِ) وَفِي التوشيح: طِلاعُ كلِّ شيءٍ: مِلْؤُه (للإرْفَاق) بِالْكَسْرِ مصدر أرفَقَ بِهِ إِذا نَفعه وَأَعْطَاهُ وتلطَّف بِهِ، وَهَذِه اللَّفْظَة سَقَطت من نُسْخَة الأَصْل، وَنَصهَا بعد الأَرْض (أَوْدِيةُ) جَمع وَادٍ (عَوارِفِه) جمع عارفة وَهِي الْمَعْرُوف والعِطيَّة، وَفِي الفقرتين اسْتِعَارَة مكنية، وتخييلية وترشيح والترصيع والجناس اللَّاحِق (وتَشمَلُ) أَي تعُمُّ (رأْفتُه البلادَ والعِباد، وتَضْرِبُ دُون المِحَنِ) بِالْكَسْرِ جمع مِحْنَة وَهِي البَليَّة والمُصِيبة أَي يُحَال دونهَا (والأضدادِ) جمع ضِدّ بِالْكَسْرِ، هُوَ الْمُخَالف والعَدُوُّ (الجُنَنَ) جمع جُنَّة بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد وَهِي الوِقاية (والأسْدَاد) وَنَصّ عبارَة الأَصْل: وَيضْرب دون المحن الأسْداد، جمع سُدّ بِالضَّمِّ وَهُوَ الحاجز، يَعْنِي أَن هَذَا الممدوح لعلّو هِمته وَكَمَال رأْفته يحول بَين متعلقاته وَبَين المحن والبلايا والأضداد والأعداء بأنواع الْمَوَانِع والحجب الَّتِي تحفظهم من الْآفَات، وَفِيه الترصيع والالتزام، وَمن قَوْله تهب إِلَى هُنَا كلهَا عبارَة شرف إيوَان الْبَيَان الْمُتَقَدّم ذِكرُها (وَلم يَسَعِ البليغَ) مفعول مُقَدَّم وفاعله (سِوَى سُكُوتِ الحُوتِ بمُلتَطِمِ) صِيغَة اسْم فَاعل من التطمت الأمواج إِذا ضرب بَعْضهَا بَعْضًا (تَيَّار) كشدّادٍ مَوْج (بِحارِ فوائدِهِ) يَعْنِي أَن البليغ غرق فِي تيّار بَحر عطاياه المتلاطمة الأمواج، فَلَا يَسعهُ إِلَّا السُّكُوت، كالحوت الَّذِي امْتَلَأَ فوه بِالْمَاءِ فَلَا يَسْتَطِيع كلَاما لامتلاء فِيهِ (وَلم تَرْتَمِ) افتعال من الرمْي (جَوَاري الزُّهْرِ) أَرَادَ بهَا النُّجُوم الزاهرة من الجَوارِي الكُنَّس (فِي) مُتَعَلق بترتم (البحرِ الأخضرِ) الْعَظِيم (إلاّ لِتُضَاهِيَ) أَي تشابه وتشاكل (فرائدَ) أَي شذور (قَلائِدِهِ) وَالْمعْنَى أَن الْجَوَارِي الكنس الزاهرة لم

ص: 115

ترتم فِي الْبَحْر الْعَظِيم أَي فِي وَسطه مُقَابلَة للأُفق إِلَّا طلبا مِنْهَا أَن تكون مشابهة للفرائد الَّتِي ينظمها فِي قلائد عطاياه، وَفِيه الترصيع والالتزام وَالْمُبَالغَة وَغَيرهَا (بَحْرٌ) أَي هُوَ بَحر أَي كالبحر، فَهُوَ تَشْبِيه بليغ عِنْد الْجُمْهُور، واستعارة عِنْد السكَّاكي، قَالَه شَيخنَا (عَلى عُذُوبةِ) أَي حلاوة (مائِه) وَفِيه احتراس، لأَنهم قرروا أَن الْجَوَاهِر إِنَّمَا تستخرج من الْبَحْر الْملح (تَملأُ السَّفائنَ) مفعول مقدم وَالْفَاعِل (جَواهِرُه) جمع جَوْهَرَة وَهِي كل حجر يسْتَخْرج مِنْهُ شَيْء ينْتَفع بِهِ، وَكثر اسْتِعْمَاله فِي اللُّؤْلُؤ خاصّةً، وَفِيه مُرَاعَاة النظير (وتُزْهَى) مَجْهُولا أَي تَفْخَر (بالجوَارِي المُنشَآتِ) أَرَادَ بهَا القصائد والأمداح تعبر عَنْهَا كَمَا تعبر عَن الْأَبْكَار يُؤَيّدهُ (مِن بَنَاتِ الخاطرِ) لِأَنَّهَا تتولد وتتكوّن من الخواطر (زَوَاخِرُه) أَي مواد عطاياه الَّتِي هِيَ كالبحر (بَرٌّ) أَي هُوَ برٌّ أوردهُ على جِهَة التورية وَالْإِيهَام بِمَا يُقَابل الْبَحْر لذكره فِي مُقَابلَته (سالَ) أَي جرى، وَفِيه إِيهَام لطيف (طِلاعَ الأرضِ) أَي مِلأها (أَوْدِيَةُ جُودِهِ) أَي جوده الْجَارِي كالأَوْدِيَة (وَلم يَرْضَ) أَي الْبر الَّذِي سَالَ جوده (للمُجْتَدِي) أَي السَّائِل (نَهْرا) بِفَتْح فَسُكُون أَي منعا وزجراً وطرداً، امتثالاً لقَوْله تَعَالَى {وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} (وطَامِي) أَي ممتلئ (عُبَابِ) بِالضَّمِّ مُعظم السَّيْل، وَسَيَأْتِي (الكَرَم) أَي الْجُود (يُجَارِي) أَي يبارِي (نَدَاهُ) عطاؤُه (الرَّافِدَيْنِ) تَثْنِيَة رافِد، وهما دِجْلة والفُرات (وبَهْرا) بِفَتْح فَسُكُون أَي ويَبْهرهما بَهْرًا، أَي يغلبهما. وَجعل قَاضِي كجرات الرافدين جمع رافد، وَهُوَ غلط، وَيجوز أَن يُقَال إِن بهرًا مَعْنَاهُ تعساً وقُبحاً، يُقَال بَهْرًا لَهُ، ردًّا لما يُتَوَهَّمُ بِالسُّكُوتِ من أَنَّهُمَا يَقدِرانِ على المجاراة، لِأَنَّهَا تكون من الطَّرفَيْنِ، فتدارك ذَلِك الْإِيهَام، يَعْنِي أَن نداه يجارِي الرافدينِ أَي دجلة والفرات، وَيُقَال لَهما بَهْرًا لَكمَا، أَي تعساً، كَيفَ تقدران على المجاراة، قَالَه شَيخنَا، وَفِيه الجناس

ص: 116

الْمُصحف (خِضَمٌّ) بِكَسْر فَفتح فتشديد أَي هُوَ، خِضمّ، وَهُوَ السّيد الحَمول الكثيرُ العطاءِ، كَمَا سَيَأْتِي (لَا يبلُغ كُنْهَهُ) بِالضَّمِّ أَي حَقيقته (المتعَمِّق) أَي المتنطِّع والمتكلِّف (عَوْض) من الظروف المستعملة فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل، خلاف قطّ، أَي لَا يصل البليغ إِلَى إِدْرَاك حَقِيقَته أبدا، وَفِيه مُبَالغَة (وَلَا يُعطَى) مبنيًّا للْمَجْهُول (الماهرُ) الحاذق بالسِّباحة (أَمَانَهُ) ثَانِي مفعولي يعْطى (مِن الغَرَقِ) محرّكة هُوَ الغيبوبة فِي المَاء (إِن اتَّفَقَ لَهُ) من غير قصد (فِي لُجَّتِه) أَي أعظم مَائه (خَوْض) هُوَ الدُّخُول فِيهِ، وَفِيه الِالْتِزَام والجناس اللَّاحِق (مُحِيطٌ) أَي هُوَ بَحر مُحِيط جَامع غير مُحْتَاج، وَمَعَ ذَلِك (تَنْصَبُّ) فيهِ وتنحدر (إِلَيْهِ الجَدَاوِلُ) الْأَنْهَار الصغار (فَلَا يَرُدُّ ثِمادَهَا) بِالْكَسْرِ جمع ثَمَدِ محركةً، أَي قليلها الَّذِي جاءَت بِهِ، وَلَا يَدْفَعهُ، بل يقبله قَبُولاً حسنا، كَمَا تقبلُ البحارُ مَا ينحدر إِلَيْهَا من السُّيول والأنهار، وَلَا تدفع شَيْئا (وتغتَرِفُ) أَي تَأْخُذ الغُرْفة بعد الغُرْفة (من جُمَّتِه) بِالضَّمِّ فالتشديد أَي معظمه (السُّحُبُ) بِالضَّمِّ جمع سَحابة (فَتَملأُ مَزَادَها) أَي قِرَبَهَا، وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ وَالِاخْتِلَاف (فأَتحَفْتُ) أَي تلطَّفْت وأوصلت (مجلِسَه العالي) هُوَ ذَاتُه، كَقَوْلِهِم: الجنابُ العالي والمقامُ الرفيع (بِهَذَا الكِتابِ) يَعْنِي الْقَامُوس (الَّذِي سَمَا) أَي علا (إِلَى السما لمَّا تَسَامَى) يَعْنِي أَن كِتَابه تَسامَى بأوصافه البديعة إِلَى أَن وصل السماءَ، أَي بلغ الْغَايَة الَّتِي لَا يجاوزها أحدٌ، فَهُوَ فِي غَايَة العُلوِّ. ثمَّ اعتذر للمدوح فَقَالَ (وأنَا فِي حَمْلِه) أَي الكِتاب [ (إِلَى حَضرَته) ] وَإِن دُعِيَ) وسمى ولقب (بالقاموس) وَهُوَ مُعظم الْبَحْر، كَمَا سبق (كحامل القَطْرِ إِلَى الدَّأْمَاء) من أَسمَاء الْبَحْر، أَي فَلَا صنيعةَ وَلَا مِنَّةَ لمن يحمل القَطْرَ إِلَى الْبَحْر، وَفِيه تلميح لطيف إِلَى مَا أنشدَناه الأديبُ عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن صَلَاح الدّين الْأنْصَارِيّ:

(كَالبحْرِ يُمْطِرُه السَّحَابُ ومَالَهُ

فَضْلٌ عَلَيْهِ لأنَّه مِنْ مَائِهِ)

ص: 117

(والمُهْدِي) أَي وكالمقدِّم (إِلَى خُضَارَةَ) بِالضَّمِّ اسْم عَلَمٍ على الْبَحْر، مُنع من الصرفَ للتأْنيث والعلمِيَّة (أقَلَّ مَا يكون من أنداءِ المَاء) جمع نَدًى، وَهُوَ الطَّلُّ يكون على أَطْرَاف أوراق الشّجر صباحاً، وَهُوَ مُبَالغَة فِي حَقارَة هَذِه الهديَّة وَإِن عظمت بِالنِّسْبَةِ إِلَى المهدَى لَهُ. وَفِي القوافي الِالْتِزَام وَالْمُبَالغَة (وَهَا أَنا أقولُ) قَالَ شَيخنَا الْمَعْرُوف بَين أهل الْعَرَبيَّة أَن هَا الْمَوْضُوعَة للتّنْبِيه لَا تدخل على ضمير الرّفْع الْمُنْفَصِل الْوَاقِع مُبْتَدأ إِلَّا إِذا أخبر عَنهُ باسم إِشَارَة، نَحْو {هَا أَنْتُم أولاء} {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ} فَأَما إِذا كَانَ الْخَبَر غير إِشَارَة فَلَا، وَقد ارْتَكَبهُ المُصَنّف غافلاً عَن شَرطه، وَالْعجب أَنه اشْترط ذَلِك فِي آخر كِتَابه لما تكلّم على " هَا " وارتكبه هَا هُنَا، وَكَأَنَّهُ قلد فِي ذَلِك شَيْخه العلَاّمة جمال الدّين بن هِشام، فَإِنَّهُ فِي مُغني اللبيب ذكرهَا ومعانيها واستعمالها، على مَا حَقَّقَهُ النحويون، وعَدَل عَن ذَلِك فاستعملها فِي كَلَامه فِي الْخطْبَة مثل المُصَنّف فَقَالَ: وَهَا أَنا بائح بِمَا أَسرَرْته، انْتهى (إِن احتَملَه مني) أَي حمله وَقَبله (اعْتناءً) أَي اهتماماً بشأْنه أَو قَبِلَه حَالَة كَونه مُعتنياً بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ، مَعَ حقارته بِالنِّسْبَةِ لما عِنْده من الذَّخَائِر العِظام، وَفِي التَّعْبِير بِالِاحْتِمَالِ إيماءٌ إِلَى كَمَال حلمه (فالزَّبَدُ) محرّكةً: مَا يَعْلُو الْبَحْر وَغَيره من الرغوة (وَإِن ذَهَب جُفاءً) بِالضَّمِّ، يُقَال جَفَأَ الْوَادي وأَجفَأَ إِذا أَلقى غُثاءَه (يَركَبُ) يعلى (غَاربَ) كَاهِل (البَحْر) أَي ثَبَجه (اعتلاءً) مفعول مُطلق أَو حَال من الْفَاعِل أَي حَالَة كَونه معتلياً (ومَا أَخَاف على الفُلْكِ) أَي السَّفِينَة (انكفاءً) انقلاباً (وَقد هَبَّتْ) تَحرَّكت ومَرَّت (رياحُ عِنايته) اهتمامه وتوجُّهه (كَمَا اشتَهت السُّفُنُ) أَي اشتاقت وتوجَّهت ريحًا (رُخَاء) بِالضَّمِّ، وَهِي الليِّنة الطيِّبة، عبَّر عَن كِتَابه بالفلك، لما فِيهِ من بضائع الْعُلُوم، وقدَّمه هديَّةً لهَذَا الممدوح، وعبرَّ بالانكفاء عَن الردّ وَعدم القَبُول، وَالْمرَاد أَنه لَا يخَاف على هَدِيَّته أَن تنْقَلب إِلَيْهِ، لكَمَال حلم المهدَى لَهُ، وَهُوَ الممدوح، فَهُوَ بحرٌ،

ص: 118

والسفنُ الَّتِي تجْرِي فِيهِ لَا يحصل لَهَا انكفاءٌ وَلَا انقلابٌ، لِأَن رِيحه طيِّبة رِخْوَة، لَا تهبُّ إلاّ على: وَفْق السفن، فَلَا تخالفها، لعدم وجدان الزعازع والرياح الْعَاصِفَة فِي هَذَا الْبَحْر، وَفِيه الجناس اللَّاحِق، فِي اعتناء واعتلاء، والالتزام فِي جفَاء وانكفاء. واستعارة الرّكُوب وَالْغَارِب للفلك، وهبوب الرِّيَاح للعناية، والتلميح للاقتباس فِي ذهب جُفاء إِلَى قَول المتَنَبِّي.

(تَجْري الرِّياحُ بمَا لَا تَشْتَهي السُّفُنُ

)

ثمَّ احتار وَبَالغ فِي هَيْبَة الْمُخَاطب وجلالته، كَأَنَّهُ لم يَتَّضِح لَهُ الطَّرِيق، وَلم يهتد لوجه الْعذر، فاستفهَم عَنهُ فَقَالَ (وَبِمَ) أَي بِأَيّ شيءٍ (أعتَذِرُ) أَرشدوني (مِن حَمْلِ الدُّرِّ مِن أَرْضِ الْجبَال) وَهِي الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بعراق الْعَجم، وَهِي مَا بَين أصفهان إِلَى زنجان وقزوين وهمذان والدينور وقرميسين والري وَمَا بَين ذَلِك من الْبِلَاد والكُوَر (إِلَى عُمَان) كغُراب كُورة على سَاحل الْيمن، تشْتَمل على بلدان، أَي إِن الدرَّ كثيرٌ فِي عُمَان المعبّر بِهِ عَن الممدوح، وَقَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجبَال المعبَّر بِهِ عَن المُهدِي، وَهُوَ نَظِير قَوْلهم: كجالِب التَّمْر إِلَى هَجَر، قَالَ شَيخنَا: يَعْنِي أَن الهديّة شأْنُها أَن تكون أَمرًا غَرِيبا لَدَى المُهدَى إِلَيْهِ، وَمن يُهِدي الدرَّ إِلَى عُمان، وَالتَّمْر إِلَى يَثْرِب وَنَحْو ذَلِك، يَأْتِي بِالْأَمر المبتَذَل الْكثير الَّذِي لَا عِبْرَة بِهِ فِي ذَلِك الْموضع (وَأَرَى البحرَ) الْجُمْلَة حَالية (يَذهَبُ ماءُ وَجْهِهِ) أَي يضمحلّ، وَهُوَ كِنَايَة عَن التجرُّد عَن الْحيَاء، وقِدمًا قيل.

(وَلَا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُه

)

(لَو حَملَ) هُوَ أَي الْبَحْر (بِرَسْمِ الخِدْمة) وَقصد الْعُبُودِيَّة (إِلَيْهِ) أَي الممدوح أشرف مَا يفتخر بِهِ وَهُوَ (الجُمَان) بِالضَّمِّ هُوَ اللُّؤْلُؤ الصافي، أَي كَانَ ذَلِك قَلِيلا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لقلَّة حيائه وَذَهَاب رونق مَاء وَجهه (وفُؤاد البحرِ يَضطَرِبُ) أَي يتحرَّك ويَتموَّج ويَتلاطم (كاسْمِه رَجَّافاً) أَي بِاعْتِبَار

ص: 119

وَصفه، وَقد أطلقت الْعَرَب هَذَا اللَّفْظ عَلَيْهِ، فَصَارَ علَماً عَلَيْهِ، وَهُوَ حَال من فَاعل يضطرب (لَو أَتحَفَه) أَي الْبَحْر الممدوح (المرْجَان) هُوَ كبار اللُّؤْلُؤ أَو صغاره، على اخْتِلَاف فِيهِ (أَو أنفَذَ) أَي الْبَحْر أَي أمضى وأوصل (إِلَى البحرَيْن) مَوضِع بَين الْبَصْرَة وعُمَان، مَشْهُور بوجدان الْجَوَاهِر فِيهِ، وَقد أبدع غَايَة الإبداع بقوله (أعنِي يَدَيْه) الفائقتين (الجواهِرَ الثِّمان) مَنْصُوب على المفعولية، أَي وَلَو أتحف الْجَوَاهِر المثمنة الغالية، وَفِي الْأَوليين مَعَ الْأَخِيرَة الِالْتِزَام، وَفِي الثَّانِيَة الِاسْتِعَارَة التصريحية أَو التخييلية، بِحَسب إِعْمَال الصَّنْعَة فِي تَشْبِيه الْبَحْر بِرَجُل يقوم برسم الْخدمَة، فَيذْهب مَاء وَجهه على أَي وَجه استعملته، وَفِي الثَّالِثَة التوْرِية فِي الرجَّاف، وَفِي الرَّابِعَة الِاسْتِخْدَام ولطافة التورية (لَا زالتْ حضرَتُه) أطلقوها على كل كَبِير يحضر عِنْده النَّاس فَقَالُوا: الحضرة الْعَالِيَة تَأمر بِكَذَا، كَمَا قَالُوا: الْمقَام السَّامِي، والجناب العالي (الَّتِي هِيَ جَزيرةُ بحرِ الجُودِ) والجزيرة بقْعَة ينحسر عَنْهَا المَاء وينجزر وَيرجع إِلَى خلف (منْ خالداتِ الجزائر) أَي من الْبَاقِيَات إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لما فِيهَا من النَّفْع بصاحبها وَفِيه التورية العجيبة بالجزائر الخالدات، وَهِي جزائر السعادات، يذكرهَا المنجمون فِي كتبهمْ، وَيَأْتِي ذكرهَا فِي مادّتها (و) لَا زلت (مَقرَّ أُناس يُقابِلون) أَي يواجهون أَو يعارضون (الخَرَزَ) محركةً هُوَ الْحجر الَّذِي ينظم كَاللُّؤْلُؤِ (المحمولَ إِلَيْهَا) أَي الحضرة (بأَنفَسِ الْجَوَاهِر) أَي الْبَالِغَة فِي النفاسة، وَهُوَ دُعَاء لَهُ بِالْبَقَاءِ على جِهةِ الخلود، وَأَنه يَخلُف من يقوم مَقامه فِي حَضرته، فَلَا تزَال مقرًّا للموصوفين بِمَا ذُكر، وَفِي الْكَلَام مُبَالغَة وتورية (وَيرْحَم الله عبدا قَالَ آمينا) ضمن الدُّعَاء كَلَامه، لكَمَال الاعتناء باستجابته، وَالرَّغْبَة فِي حُصُول ثَمَرَته، لِأَن كل من سمع هَذَا الدُّعَاء فَإِنَّهُ يَأْتِي بالتأمين رَغْبَة فِي الرَّحْمَة، فَيحصل الْمَطْلُوب، قَالَ شَيخنَا: وَهُوَ شطر من شعر رَوَاهُ صَاحب الحماسة

ص: 120

البصرية لمَجْنُون بني عَامر، واسْمه قيس ابْن مُعاذ الْمَعْرُوف بالملوّح، وأوّله:

(يَا رَبِّ لَا تَسْلُبنّي حُبَّها أبدا

ويَرْحَمُ اللهُ عَبْدًا قَالَ آمينَا)

وَله قصَّة رَأَيْتهَا فِي الدِّيوَان الْمَنْسُوب إِلَيْهِ.

قَالَ شَيخنَا: وَهَذَا آخر الزِّيَادَة الَّتِي أهملها الْبَدْر الْقَرَافِيّ والمحب ابْن الشّحْنَة، لِأَنَّهَا لم تثبت فِي أصولهم من قَوْله:" وَهَذِه اللُّغَة الشَّرِيفَة " إِلَى هُنَا. قَالَ: وَكَأن المُصَنّف زَادهَا فِي الْقَامُوس بعد أَن استقرَّ بِالْيمن وأزمع إهداءه لسلطان الْيمن الْملك الْأَشْرَف، فقد قيل: إِنَّه صنَّفه بمكّة المشرَّفة، فَلَمَّا رأى إكرام الْأَشْرَف لَهُ زَاد ذِكْرَه فِي الدّيباجة، وَأثبت اسْمه فِيهِ، لمَسِيس الْحَاجة، وَقصد بذلك ترغيبَه فِي الْعلم وَأَهله، أَو مَا يقرب من ذَلِك من الْمَقَاصِد الْحَسَنَة إِن شاءَ الله تَعَالَى، وَيُؤَيّد هَذَا الظَّاهِر أَن هَذَا الْكَلَام ساقِطٌ فِي كثير من النّسخ الْقَدِيمَة.

قلت: وَالَّذِي سمعناه من أَفْوَاه مَشَايِخنَا اليَمنيّين أَن الْمجد سوّد الْقَامُوس فِي زَبيد بالجامع الْمَنْسُوب لبني المِزجاجي، وهم قَبيلَة شيْخنا سيّدي عبد الْخَالِق، متع الله بحياته، وَفِيه خَلوَةٌ تواترَ عِنْدهم أَنه جلس فِيهَا لتسويد الْكتاب، وَهَذَا مَشْهُور عِنْدهم، وَأَن التبييض إِنَّمَا حصَل فِي مَكَّة المشرّفة، فَلِذَا ترى النّسخ الزَّبِيديّة غالبها محشُوّة بالزيادات الطبية وَغَيرهَا والمكية خَالِيَة عَنْهَا (وكتابي هَذَا) أَي الْقَامُوس (بِحَمْد الله [تَعَالَى] ) مصحوباً أَو ملتبساً، جاءَ بِهِ تبركاً وقياماً بِبَعْض الْوَاجِب على نعْمَة إِتْمَامه على هَذَا الْوَجْه الْجَامِع (صَريحُ) أَي خَالص ومحض (ألْفَىْ) تَثْنِيَة ألف (مُصَنَّف) على صِيغَة الْمَفْعُول أَي مؤلف

ص: 121

فِي اللُّغَة (من الْكتب الفاخِرَة) الجيّدة أَي زِيَادَة على مَا ذُكِر من العُباب والمحكم والصحاح من مؤلّفات سائرِ الْفُنُون، كالفقه والْحَدِيث والأُصول والمنطق وَالْبَيَان وَالْعرُوض والطب وَالشعر ومعاجم الروَاة والبلدان والأمصار والقرى والمياه وَالْجِبَال والأمكنة وَأَسْمَاء الرِّجَال والقصص وَالسير، وَمن لُغَة الْعَجم، وَمن الاصطلاحات وَغير ذَلِك، فَفِيهِ تفخيم لشأن هَذَا الْكتاب، وتعظيم لأَمره وسَعَته فِي الْجمع والإحاطة (ونَتيج) بِفَتْح النُّون وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة، هَكَذَا فِي النّسخ الَّتِي بِأَيْدِينَا، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ النتيجة أَي حَاصِل وثَمرَة (ألفَيْ) بالتثنية أَيْضا (قَلَمَّس) محركة مَعَ تَشْدِيد الْمِيم أَرَادَ بِهِ الْبَحْر (من العيَالم) جمع عَيْلَم كصَيْقَل، هُوَ الْبَحْر (الزاخِرة) الممتلئة الفائضة، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن تِلْكَ الْكتب الَّتِي مادّة كِتَابه مِنْهَا لَيست من المختصرات، بل كل وَاحِد مِنْهَا بَحر من الْبحار الزاخرة، وَفِي نُسْخَة: سَنِيح بِالسِّين الْمُهْملَة وَكسر النُّون وَفِي آخِره حاء، أَي جَوْهَر ألفى كتاب أَي مختارها وخالصها، وَقد أورد الْقَرَافِيّ هُنَا كلَاما، وتكلَّف فِي بَيَان بعض النّسخ تفقّهاً، لَا نقلا من كتاب، وَلَا سَمَاعا من ثِقة، وَقد كفانا شيخُنا رَحمَه الله تَعَالَى مُؤْنَة الردّ عَلَيْهِ، فراجع الشَّرْح إِن شِئْت، وَفِي الْفَقْرَة زِيَادَة على الْمجَاز الْتِزَام مَا لَا يلْزم (واللهَ) الْعَظِيم (أَسأَلُ) لَا غيرَه (أَن يُثِيبَني) أَي يعطيني (بِهِ) أَي الْكتاب أَي بِسَبَبِهِ (جَميلَ الذِّكر فِي الدُّنيا) وَهُوَ الثَّنَاء بالجميل، وَقد حصل، قَالَ الله تَعَالَى {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} فسَّره بَعضهم بالثناء الْحسن، قَالَ ابْن دُرَيْد:

(وإنَّما الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ

فَكُنْ حَدِيثاً حَسَناً لِمَنْ وَعَى)

وَإِنَّمَا رجا شكر الْعباد لِأَنَّهُ تقرَّر أَن ألسِنة الخلْق أَقْلَام الْحق، وَلقَوْله

" مَنْ أَثنَيْتُم عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ " وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ شكر الْعباد

ص: 122

لحظّ نَفسه، ولتكون لَهُ مَكانةٌ عندهَم إِذْ مثل هَذَا يطْلب الدُّعَاء للتنصُّل مِنْهُ والتجرّد عَنهُ (وجَزيلَ الأجْر فِي الآخِرة) هُوَ الْفَوْز بِالْجنَّةِ أَو التنعم بِالنّظرِ إِلَى الْوَجْه الْكَرِيم وَحُصُول الرضْوَان، وَقد حصل الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا، كَمَا فَازَ بِطَلَبِهِ فِي الْآخِرَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَفِيه الِالْتِزَام مَعَ الَّتِي قبلهَا والترصيع فِي أغلبها (ضارِعاً) متذلِّلاً (إِلَى مَن ينظر) أَي يتَأَمَّل (مِنْ عَالِمٍ فِي عَمَلي) هَذَا (أَن يَستُرَ عِثَارِي) أَرَادَ بِهِ الْوُقُوع فِي الْخَطَأ (وَزَللِي) محرّكة عطف تَفْسِير لما قبله (ويَسُدَّ) بِالضَّمِّ أَي يصلح (بِسَدادِ) بِالْفَتْح أَي استقامة (فَضْلِه خَلَلي) محرّكة، وَهُوَ الوهن فِي الْأَمر، والتفرّق فِي الرَّأْي، وأمرٌ مختلٌّ أَي ضَعِيف، وَإِنَّمَا خصَّ العالِم بذلك لِأَنَّهُ الَّذِي يميِّز الزلَل، وَيسْتر الخلَل، وَأما الْجَاهِل فَلَا عِبرة بِهِ وَلَا بنظرِه، بل وَلَا نَظر لِبَصرِه، وَلذَا قيل: إِن المُرَاد بِالنّظرِ هُوَ التفكُّر والتأمُّل، لَا مُطلق الإمرار، ولزيادته وكثرته عدَّاه بفي الظَّرْفِيَّة، وصيَّر الْعَمَل مظروفاً لَهُ، قَالَه شَيخنَا. ثمَّ إِن كَلَامه هَذَا خرج مَخرَج الِاعْتِذَار عَمَّا وَقع لَهُ فِي هَذَا الْمِضْمَار، فقد قيل: من صَنَّف فقد استهْدَف نَفْسَه. وَقل المؤتمن الساجِي: كَانَ الْخَطِيب يَقُول: من صَنَّف فقد جعل عَقْلَة على طَبَقٍ يَعرِضُه على النَّاس. وَفِيه الجناس المحرَّف بَين " مِنْ " الجارة البيانية و " مَنْ " الموصولة المبينة بهَا، والمقلوب فِي عَالم وَعمل، والاشتقاق فِي يسدّ وبسداد، والتزام مَا لَا يلْزم، وَفِي الفقرتين الْأَخِيرَتَيْنِ الجناس اللَّاحِق والمقابلة المعنوية للستر والعثار، والزلل والسداد والخلل (و) بعد أَن ينظر فِيهِ مَعَ التَّأَمُّل والمراجعة عَلَيْهِ أَن (يُصْلِحَ مَا طَغَى) أَي تجَاوز القدْرَ المُرَاد (بِهِ القلمُ) ونسبته إِلَيْهِ من الْمجَاز العقليّ، فَالْمُرَاد بالإصلاح إِزَالَة مَا فسد فِي الْكتاب، بالتنبيه عَلَيْهِ وإظهاره، مَعَ إِيضَاح الْعذر للْمُصَنف من غير إِظْهَار شناعةٍ وَلَا حطٍّ من منصبه، وَلَا إزراءٍ بمقامه وَكَون الأولى فِي ذَلِك

ص: 123

إصْلَاح عبارَة بغَيْرهَا أَو إبْقَاء كَلَام المُصَنّف والتنبيه على مَا وَقع فِيهِ فِي الْحَاشِيَة إِذْ لَعَلَّ الْخَطَأ فِي الْإِصْلَاح، وَفِي ذَلِك قيل:

(وكَمْ مِنْ عائبٍ قَوْلاً صَحِيحاً

وآفتُه مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ)

(وَزَاغَ عَنهُ) أَي مَال أَو كَلَّ (البَصَرُ وقَصَرَ) كقَعَدَ (عَنهُ الفَهْمُ) أَي عجز عَن إِدْرَاك الْمَطْلُوب فَلم ينله، والفَهْم: تصوُّر الْمَعْنى من اللَّفْظ أَو سرعَة انْتِقَال النَّفس من الأُمور الخارجية لغَيْرهَا (وغَفَلَ عَنهُ الخاطِر) أَي تَركه إهمالاً وسهوًا وإعراضاً عَنهُ، والغفلة: غيبوبةُ الشيءِ عَن بَال الْإِنْسَان وَعدم تذكُّره وَسَيَأْتِي، والخاطر: الهاجس وَمَا يخْطر فِي قلب الْإِنْسَان من خير وَشر (فالإنسانُ) وَفِي نُسْخَة الْبَدْر الْقَرَافِيّ: فَإِن الْإِنْسَان، أَي من حَيْثُ هُوَ (مَحلُّ النِّسْيَان) أَي مَظنَّة لوقوعِه وصُدور الْغَفْلَة مِنْهُ، وَلَو تحرَّى مَا عَسى، وَلذَلِك ورد عَنهُ

" رُفع عَنْ أُمَّتي الخطأُ والنِّسْيان " وَلذَا قيل:

(وَمَا سُمِّي الإنْسانُ إلَاّ لِنَسْيِهِ

وَمَا القَلْبُ إِلَّا أنَّه يَتَقَلَّبُ)

وَلذَلِك اعتنى الْأَئِمَّة بالتقييد لِمَا حَفِظوا وسمعوا، ومثَّلوا الحِكمَة كالصَّيْد والضالَّة، وربْطُها: تَقْييدُها، ثمَّ أَقَامَ على كَلَامه حُجَّة فَقَالَ:(وَإِن أوَّل ناسٍ) أَي أوّل من اتّصف بِالنِّسْيَانِ والغفلة عَمَّا كَانَ هُوَ (أَوَّلُ النَّاس) خلقه الله تَعَالَى وَهُوَ سيّدنا آدم عليه الصلاة والسلام، فَلَا يلام غَيره على النسْيَان (وعَلَى الله) لَا على غَيره جلّ شَأْنه (التُّكْلَان) بِالضَّمِّ مصدر، وتاؤه عَن وَاو، لِأَنَّهُ منَ التَّوَكُّل، وَهُوَ إِظْهَار الْعَجز والاعتماد على الْغَيْر، وَالْمعْنَى لَا اعْتِمَاد وَلَا افتقار إلاّ إِلَى الله سبحانه وتعالى، وَهُوَ الْغَنِيّ الْمُطلق، لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، وَلَا ربَّ غيرُه، وَلَا خير إلَاّ خَيْرُه، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم

ص: 124