المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ القضاء الإسلامي - تاريخ الجزائر المعاصر - جـ ١

[الزبيري، محمد العربي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الفصل الأول:الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافيةفي الجزائر قبيل نوفمبر 1954

- ‌الفصل الثاني:الحركة الوطنية الجزائريةفي مرحلة النضج

- ‌ تطبيق مبدأ فصل الدين الإسلامي عن الإدارة

- ‌ تعليم اللغة العربية، المدارس والمعلمون الأحرار

- ‌ القضاء الإسلامي

- ‌الفصل الثالث:حركة مايو الثورية

- ‌أحداث الفاتح من مايو 1945:

- ‌أحداث ثامن مايو:

- ‌المؤامرة الاستعمارية:

- ‌رد الفعل الوطني والثورة الشاملة:

- ‌عمليات الإبادة وتشغيل الأفران:

- ‌تطور التشكيلات السياسية الجزائريةفي الفترة ما بين 1946و1954

- ‌الفصل الرابع:الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

- ‌عن مشروع الدستور الجزائري:

- ‌ الاتحاد والعمل الميداني:

- ‌موقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائريمن قانون الجزائر التنظيمي:

- ‌المشاركة في انتخاب الجمعية الجزائرية:

- ‌النضال داخل الجمعية الجزائرية:

- ‌صراع الأشقاء وتدخل الحزب الشيوعي الجزائري:

- ‌نحو جبهة وطنية موحدة

- ‌ العوامل الإيجابية:

- ‌ العوامل السلبية:

- ‌الأعمال بنتائجها:

- ‌الفصل الخامس:حزب الشعب الجزائري

- ‌ الواجهة السياسية أو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية

- ‌الانتخابات وعواقبها:

- ‌حزب الشعب الجزائري وما يسمى بالأزمة البربرية

- ‌الحزب وسائر الفئات الاجتماعية:

- ‌ التوجهات السياسية ووسائل العمل:

- ‌ الواجهة العسكرية أو المنظمة الخاصة

- ‌المؤتمر الرابع وبوادر الانقسام:

- ‌الفصل السادس:جمعية العلماء المسلمين

- ‌الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها:

- ‌عودة إلى فصل الدين عن الحكومة:

- ‌قضية الاتحاد في الجزائر

- ‌الفصل السابع:موقف الشيوعيين من الحركة الوطنيةالجزائرية وثورة نوفمبر 1954

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ القضاء الإسلامي

والقوانين التعسفية الرامية كلها إلى إجهاض الحركة الإصلاحية وتهميش لغة القرآن باعتبارها وسيلة أساسية للتبحر في الدين ولإحداث النهضة الفكرية التي تسبق كل ثورة. ومن جملة القوانين المزرية ذلك الذي يجعل اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، الأمر الذي ترتب عليه ملاحقة معلميها وتغريمهم وحبسهم بعد غلق مدارسها. لأجل ذلك، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطالب، اليوم، بما يلي:

أ - إلغاء جميع الإجراءات والتدابير القمعية إدارية كانت أم وزارية.

ب - إصدار نص يضمن حرية تعليم اللغة العربية في المدارس، ويكون ذلك على النحو التالي:

- يحق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولسائر الجمعيات الدينية إنشاء المدارس حيث يكون لهم ذلك ممكناً ودون استرخاص الإدارة. يكفي فقط أن يقدم طلب يكون متضمناً اسم المدرسة وعنوانها.

- يتضمن النص المطلوب إصداره ضمانات تكفل للمدارس الحرة حماية من تعسف الإدارة وللمعلمين الأحرار عدم الملاحقة والمتابعات القضائية الظالمة.

- لا يكون للإدارة الاستعمارية حق لا في اختيار المعلمين ولا في وضع برامج التعليم أو تعيين الكتاب المدرسي.

- تخضع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وسائر الجمعيات الثقافية الأخرى إلى ما تتطلبه الرقابة الصحية وتقبل في مدارسها التفتيش الرسمي الذي يقوم به موظفو التعليم العمومي.

3 -

‌ القضاء الإسلامي

ترى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن القضاء في الجزائر يجب أن يكون صادراً عن الكتاب والسنة. وحيث أن السلطات الفرنسية تمكنت على مر السنين من تهميش القضاء الإسلامي، وحيث أن أمر إعادة تأهيل هذا الأخير لن يكون إلا تدريجياً، فإن الجمعية تقترح الإجراءات التالية:

أ - إعادة النظر في برنامج تكوين القضاة بحيث تعطى مكانة واسعة للغة العربية وللشريعة الإسلامية وعلم النفس وتاريخ القضاء في الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يتحتم فتح مؤسسات تكوين القضاة إلى

ص: 51

المعلمين الأحرار خريجي الزيتونة وغيرها من الجامعات الإسلامية وألا يكون هناك معيار آخر في الاختيار غير مقياس الكفاءة والمقدرة.

ب - إنشاء مجلس أعلى للقضاء يكون مشكلاً فقط من القضاة وتكون مهمته تعيين القضاة ومراقبتهم، ويكون مستقلاً عن أجهزة القضاء الفرنسي.

ج - إنشاء محاكم الاستئناف الإسلامية بحيث لا يؤيد ولا يلغى الحكم الصادر عن القاضي المسلم إلا من طرف قضاة مسلمين.

وبالإضافة إلى هذه الموضوعات الرئيسية الثلاثة، تلفت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين انتباه الحكومة الفرنسية إلى ضرورة تسهيل مهمة الدعاة وعدم مضايقتهم أثناء تأديتهم لمهمة الوعظ والإرشاد عبر مختلف أنحاء البلاد، وإلى رفع الحصار المضروب على النوادي التي هي، في واقع الأمر، مؤسسات مكملة للمدرسة وللمسجد. وفي هذا الإطار، فإن الجمعية تطالب بإلغاء المرسوم الصادر بتاريخ الثامن من مارس (آذار) سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف.

لكن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تكتف بالمواقف المكتوبة للتعبير عن التزامها بما ورد في البيان وملحقه بل إن دعاتها كانوا، حيثما يحلون، يرفعون نفس الشعارات ويؤكدون للناس أن الالتحاق بأحباب البيان والحربة "واجب كل مسلم" حتى يشرق فجر الخلاص من ربقة الاستعمار، وكانت آذان الشعب صافية خاصة وأن الحاج مصالي وجه، هو الآخر، من منفاه، وبصياغة أخرى نفس الدعوة لتعزيز صفوف المولود الوطني الجديد. واستمعت جحافل مناضلي حزب الشعب لنداء الزعيم وتعانق لأول مرة، في تاريخ الجزائر، تيار العلماء وتيار المصاليين فتغير وجه الجزائر السياسي وفاض الشارع حماساً، كان على فرحات عباس أن يبذل جهوداً جبارة للتمكن من توظيفه لإقناع الحلفاء والسلطات الفرنسية بأن الجماهير الشعبية قد اختارت طريق الجمهورية الجزائرية المستقلة.

وفي إطار هذا الجو الجديد الذي وجد امتداداً له وغذاء نافعاً في المبادئ الجديدة التي شاعت في مختلف أنحاء المعمورة والتي تدعو إلى تمكين سائر الشعوب من حقها في تقرير مصيرها بنفسها، عرف برنامج أحباب البيان والحرية تطوراً سريعاً وملحوظاً.

ففي فترة لا تتجاوز شهرين، تشكلت اتحادية عمالة قسنطينية وعقدت مؤتمرها الأول يوم 22/ 5/1944، وقد توجت أشغال هذا الأخير بلائحة كان التركيز فيها على المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم الحاج مصالي، وكذلك رفع الحصار المضروب على الشيخ البشير الإبراهيمي

ص: 52

والتنديد بعملية الاندماج التي بشرت بها أمرية الجنرال ديغول لأنها تتناقض مع طموحات الجزائريين.

وفي انتظار الحلول النهائية المنتظرة للمشكل الجزائري بعد أن تضع الحرب أوزارها، طالب المؤتمرون بحرية الرأي وحرية الصحافة وحرية العبادة وحرية تعليم اللغة العربية، وبذلك يكونون قد تجاوزوا كثيراً فحوى بنود القانون الأساسي لأحباب البيان والحرية المشار إليه آنفاً.

لكن التحول الجذري في برنامج التجمع الجديد لم يظهر إلا من خلال اللوائح التي صادق عليها أول مؤتمر وطني جرت أشغاله بالجزائر العاصمة أيام 2 - 3 - 4 مارس (آذار) سنة 1945 أي بعد تاريخ التأسيس بأقل من عام.

لقد استعمل المؤتمرون أسلوباً مباشراً حيث جددوا قناعتهم بأن بيان الشعب الجزائري هو الوثيقة الوحيدة التي يمكن اعتمادها في كل عمل يكون الهدف منه تسوية المشكل الجزائري بكيفية جدية. أما تجاهلها بعد قبولها كما فعلت الحكومة الفرنسية، فإنه لا يقود سوى إلى التمادي في الخطأ وإلى محاولة فرض سياسة تتناقض كلية مع طموحات الشعب الجزائري.

ومن جهة ثانية، أكد المؤتمرون أن السياسة الواقعية الوحيدة هي التي تأخذ في الاعتبار الإرادة الشعبية وتنطلق من كون بناء مستقبل شعب لا يمكن أن يتم بدون استشارته. ولأجل ذلك، فإن المؤتمر طالب بأن تنجز حينا الإجراءات التالية:

1 -

استبدال الجمعيات الجزائرية ببرلمان منتخب.

2 -

استبدال الولاية العامة بحكومة جزائرية

3 -

الاعتراف بالألوان الوطنية

وإذا كانت حركة أحباب البيان والحرية ترى أن مستقبل الشعب الجزائري يكمن في استرجاع سيادته وإقامة جمهورية جزائرية مستقلة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري على غرار نظيره الفرنسي، يرفض الاعتراف بوجود الشعب الجزائري الذي تزعم أدبياته أنه ما زال في طور التكوين، وهو، وفي تلك المرحلة، عبارة عن تلاحم عدد من العناصر أهمها: العربي والقبائلي والميزابي والشاوي واليهودي

والأوربي الخ .. لأجل ذلك فإن القيادة قد أبدت، منذ اللحظات الأولى، مناهضتها للحركة الوطنية الفتية، ولتجسيد تلك المناهضة على أرض الواقع قررت تأسيس حركة منافسة أسمتها:"أحباب الديمقراطية".

إن بيان أحباب الديمقراطية يدعو الجزائريين إلى المساهمة في مجهود

ص: 53

الحرب وفي بناء فرنسا الجديدة التي سوف يترتب على قيامها تخليص الجزائر من النظام الاستعماري وأعوانه المرتشين والرجعيين والقواد (32).

أما المطالب التي ينبغي أن يناضل المسلمون من أجل تحقيقها في القريب العاجل فتتعلق جميعها بتحقيق المساواة مع الأوربيين في مجالات التموين والكساء والتنظيم الإداري، وقد وضع لبلوغ هذه الأهداف برنامج من تسع نقاط هي:

1 -

تمكين كل الجزائريين من تموين عادي، أي 300 غ خبز يومياً أو 10كغ قمح شهرياً مع مضاعفة الكمية بالنسبة للعمال اليدويين أمثال عمال السكة الحديدية والمواني والفلاحة.

2 -

تطبيق الأجر الأدنى المحدد من طرف الولاية العامة، أي 10

.......................

........................ (*)

7 -

إلغاء البلديات المختلطة بواسطة إرجاع مراكز الدواوير البلدية التي علقت في عهد فيشي.

8 -

إعادة فتح جميع المدارس الموجودة وإيجاد أخرى جديدة في محلات تؤمم للضرورة وتزود بمعلم يقدم للأطفال مبادئ التعليم بالفرنسية والعربية في انتظار حل شامل لمليون من الأطفال غير المتمدرسين.

9 -

الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الفرنسية.

كان الشيوعيون، بهذه المطالب البسيطة، يعتقدون أنهم وجدوا أفضل الوسائل لتعبئة الجماهير الشعبية بقصد سد الطريق في وجه أحباب البيان والحرية، لكن التربة الجزائرية كانت ترفض الغرس الشيوعي ولذلك فإن الإقبال على حركة أحباب الديمقراطية كان معدوماً.

وأمام ما كان لأحباب البيان والحرية من شعبية ومن إبداء الجزائريين استعداداتهم المطلقة للانخراط فيها ولتبني برنامجها الذي ما فتئ يتطور إيجابياً، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلى الرغم من المساعي المختلفة التي قامت بها السلطات الاستعمارية لدعم الشيوعيين من أجل تثبيت حركتهم الجديدة فإن هذه الأخيرة لم تعمر طويلاً وسرعان ما تركت المجال للحزب الشيوعي الجزائري فراح يستعمل كل الوسائل لإيقاف الزحف الوطني الذي وجد في محاربة

(*) - ثمة نقص في مخطوطة المؤلف المودعة لدى اتحاد الكتاب العرب، وتعذر الحصول عليها ..

ص: 54

الشيوعيين له قوة مكنته من التجذر بسهولة في أوساط سائر فئات الشعب الجزائري.

إن الحزب الشيوعي الجزائري في مصارعته لأحباب البيان والحرية كان يعتقد أن وصف القياديين الوطنيين بدعاة الانفصال عن الميتروبول سوف يقلل من شأنهم لدى مواطنيهم، زاعماً أن الاستقلال أمر مستحيل "أنه لا يخدم الجزائر ولكنه يكون في صالح غلاة الكولون والإمبرياليات الأجنبية الأخرى التي ليس لها من هم سوى آبار البترول (33).

لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري يرى أن الذين يعملون على استرجاع الاستقلال الوطني "هم عصابة من المفسدين في ركاب الفاشية، يتسترون بالدين لمحاربة المشروبات الكحولية"(34) إنهم "وطنيون مزيفون يسعون بدافع إمبريالي أجنبي، لفصل الجزائر عن فرنسا الجديدة" وعلى الرغم من هذه المواقف العدوانية ومن قناعة السيد فرحات عباس بأن "أحباب الديمقراطية صنيعة للشيوعية المقصود منها هو خلط الأوراق وذبذبة الضمائر (36)، فإن المكتب المركزي لأحباب البيان والحرية قد وجه نداء إلى أحباب الديمقراطية من أجل التعاون على أساس شرط واحد هو أن يدرج الشيوعيون ضمن مطالبهم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وحرية الصحافة بالنسبة لجميع الأحزاب والمنظمات الجزائرية، لأن برنامج أحباب الديمقراطية بجميع نقاطه المسطورة أعلاه لا يشتمل على أي عنصر جدي يمكن الأخذ به لتعبئة جماهير الشعب الجزائري، لكن الشيوعيين، من خلال قيادة أحباب الديمقراطية، رفضوا عرض الوطنيين لسبب أيديولوجي واضح هو: عدم إيمانهم بالوطن الجزائري ككيان واحد ومستقل عن فرنسا. ولم يتوقفوا عند رفض العرض، بل إنهم جندوا كل آلياتهم واستنجدوا بالسلطات الاستعمارية لإقامة العراقيل في طريق أحباب البيان والحرية.

هكذا، إذن لم تمض سوى ستة أشهر على تأسيس أحباب البيان والحرية حتى وجد هذا التجمع الوطني الجديد نفسه أمام عدد من الصعوبات والمخاطر كان أهمها ما يلي:

1 -

رفض الإدارة الفرنسية لبيان الشعب الجزائري بعد أن كان الوالي العام السيد بايروتون قد أفهم السيد فرحات عباس أن الاقتراحات الواردة ضمنه مقبولة لكنها تتطلب قليلاً من المراجعة وهوما تم بموجب الملحق الذي سبقت الإشارة إليه.

وجاء الرفض مصحوباً بإجراءات بعضها قمعي والآخر يتعلق بدس أعوان مقنعين في صفوف المناضلين ينشطون لفائدة مصالح

ص: 55

المخابرات والاستعلامات العسكرية.

2 -

حرب بلا هوادة يغذيها الشيوعيون الجزائريون بدعم من الحزب الشيوعي الفرنسي من أجل إفشال الجبهة الوطنية التي استطاعت أن تعبئ الجماهير الشعبية حول مطلبي الجمهورية والبرلمان الجزائريين، أي تجنيد مختلف فئات الشعب لفائدة الانفصال عن فرنسا. ولقد كانت الحرب تجري نيرانها على ثلاث جبهات هي:

أ - الجبهة الخاصة بإبراز نواقص الحركة المصالية التي يتمثل انحرافها وتزمتها، حسب المنطق الشيوعي، في رفعها لراية الاستقلال. ففي هذه الجبهة يسعى الشيوعيون إلى محاولة إقناع قواعد حزب الشعب الجزائري بالتخلي عن قيادتها وضمها، بشتى الوسائل (37) إلى أحباب الديمقراطية. وطبيعي أن في ذلك إضعاف لأحباب البيان والحرية.

ب - الجبهة المخصصة لتهميش المثقفين الإسلاميين الذين يستعملون العاطفة الدينية لحمل الجماهير الشعبية على الالتحاق بصفوف أحباب البيان والحرية، ومما لا شك فيه أن تحييد هؤلاء العناصر سيفسح المجال لأحباب الديمقراطية من أجل التحرك بحرية في أوساط الجماهير الإسلامية.

ج - الجبهة المخصصة للتنديد بالمنتخبين وأعضاء النخبة الذين تخلوا عن فكرة الاندماج وتحولوا إلى "وطنيين مزيفين" ومناهضين للفرنسة وللفرنسيين.

3 -

وجود الفارق الكبير في أسلوب العمل الذي تمارسه اطارات ومناضلو أحباب البيان والحرية من أجل تحقيق الأهداف الوارد تعدادها في بيان الشعب الجزائري، فبينما يكتفي المنتخبون والعلماء بالقلم والكلمة، فإن عناصر الحركة المصالية ينادون بالعنف الثوري انطلاقاً من كون ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة.

ولتجاوز هذه الأوضاع الصعبة، ولتعميم الفكر السياسي الجديد وتمكين الجماهير الشعبية من التفاعل مع برنامجها فإن جمعية أحباب البيان والحرية قد أصدرت لساناً مركزياً بعنوان Egalitè وظفت له كثيراً من الإمكانيات المادية والأقلام الوطنية بحيث استطاع، في فترة وجيزة جداً، أن يحتل مكانة مرموقة بين نشريات ذلك الوقت وأصبح رغم كل المنافسات، الجريدة المحببة التي تنتظرها بلهفة أعداد غفيرة من الجزائريين في مختلف البلاد. غير أن ذلك لا

ص: 56

يعني أن سحبها كان مرتفعاً، بل ضعيفاً لم يتجاوز ثلاثين ألف نسخة بسبب أزمة الورق. (39).

وعندما نعود اليوم، إلى مختلف أعداد الجريدة، فإننا نلاحظ بكل سهولة الدور الإيجابي الذي أدته سواء بالنسبة لإنجاح عملية التعبئة الشاملة حول برنامج الحركة أو فيما يتعلق بمحاورة الأوربيين الذين كانوا متخوفين من فكرتي الأمة الجزائرية والبرلمان المنتخب بواسطة الاقتراع العام، أو فيما يخص تعرية أمرية الجنرال ديغول التي قال عنها السيد فرحات عباس: أنها لم تأخذ في الاعتبار تاريخ الجزائر وتطور ذهنيات أبنائها" (40).

وبالإضافة إلى الدور الإعلامي الذي كانت الجريدة تقوم به على أحسن وجه فإن أعمدتها كانت مفتوحة لبرامج التوجيه والتكوين الأيديولوجيين وللتحقيقات التي كانت تعالج موضوعات أساسية في مجالات الدين والتربية وحول أوضاع المرأة والطفل المسلمين إلى غير ذلك مما له علاقة بتطوير المجتمع وإعداده لمستقبل أفضل.

ولم يكن نشاط الجريدة ليرضي الإدارة الاستعمارية ولا ليطمئن الحزب الشيوعي الجزائري. فأما الأولى فإنها راحت تقابله بتقليص كمية الورق المخصصة للحركة وبعرقلة عملية التوزيع التي كانت تعتمد أساساً على مبادرات المناضلين، وأما الثاني فإنه جعل من صحافته منبراً للتنديد بمحرري الجريدة والمشرفين عليها مع التركيز على رئيس التحرير السيد عبد العزيز كسوس. وفي مجال آخر، ورغم ظروف الحرب الصعبة، كان السيد فرحات عباس ينتقل من مكان لآخر عبر مختلف أنحاء الوطن: يخطب ويحاضر تارة ويحاور ويناقش مرة. وفي جميع الحالات، كان يسهم بفعالية في شق طريق الحركة نحو التجذر والانتشار. ومما يستحق الذكر أن تلك الاتصالات المباشرة والمكثفة، وبقدر ما أفادت أحباب البيان والحرية، فإنها سمحت للرجل أن يثبت أقدامه في عالم الوطنية الجزائرية وأن يتخلى نهائياً، عن قناعات ظل بها متمسكاً إلى أن كانت صياغة البيان.

وإذا كانت الحركة المصالية قد هللت لهذا التحول الإيجابي لدى أهم أقطاب المنتخبين الجزائريين، فإن الإدارة الاستعمارية لم تخف استياءها وراحت تعبر عنه بالعمل ميدانياً وبشتى الوسائل، على إحداث التصدع في البناء الجديد وزرع الشقاق بين سائر الأطراف المكونة له. لكن حزب الشعب الجزائري المحظور فوت عليها الفرصة بفضل ما أصدره من تعليمات لإطارته ومناضليه يدعوهم من خلالها إلى إحاطة السيد فرحات عباس بكل أنواع الرعاية والعناية وإشعاره

ص: 57

بأنه قائد أساسي إلى جانب الزعيم الذي كان يحرك الخيوط من إقامته الجبرية.

وبينما كانت حركة أحباب البيان والحرية تواصل العمل الهادف إلى تطبيق برنامجها، كان حزب الشعب الجزائري ينشط في السرية وفقاً لإيديولوجيته المعبر عنها رسمياً سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف وكما سبقت الإشارة لذلك في بداية هذه الدراسة.

كان حزب الشعب الجزائري، في مؤتمره المنعقد بالجزائر يوم 24/ 7/1938 قد قرر باجماع المؤتمرين تأسيس هيأة أسماها "اللجنة الخضراء" وأسند لها مهمة التكوين العسكري استعداداً للكفاح المسلح في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني، وقبل نهاية نفس الشهر قامت الهيأة المذكورة بتكوين لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري" (41) التي اختارت من بين أعضائها مجموعة سيرتها إلى برلين قصد التدرب على استعمال الأسلحة وممارسة النشاط السري.

صحيح أن السلطات الألمانية قد استقبلت المجموعة التي كان يرأسها السيد محمد طالب (42) وصحيح، أيضاً، أنها أولت عناية كبيرة بتدريب أفرادها، لكنها أرجأت البت في موضوع الاستعمار إلى ما بعد نهاية الحرب ولم تبد كثير استعداد عندما نشرت أمامها قضية التسليح.

لأجل ذلك، فإن لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري قد فضلت إنهاء العلاقة معها وولت وجهها نحو إيطاليا التي لم يكن موقفها أكثر التزاماً مع مسألة تحرير الشعب الجزائري. غير أن كل ذلك لم يمنع بعض أعضاء اللجنة وبعض المسؤولين الآخرين أمثال بلقاسم راجف وسي جيلاني (43) من الاستمرار في محاولة الاستفادة من دول المحور بصفة عامة.

وعلى الرغم من معارضة الحاج مصالي لفكرة التعاون مع الألمان وإقدامه، وهو سجين، على فصل أعضاء لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري من صفوف حزب الشعب الجزائري بسبب اتصالاتهم ببرلين وتعاونهم مع مصالح الجيش الألماني، فإن محاولات التقارب مع دول المحور لم تنقطع طيلة سنوات الحرب.

ومن الجدير بالذكر أن بعض مساعي الوطنيين قد أثمرت خاصة في مجال الاستفادة من تقنيات التنظيم السري واستعماله الأسلحة بجميع أنواعها.

انطلاقاً من كل ما تقدم، وعندما نريد ضبط الأوضاع التي كان عليها حزب الشعب الجزائري، فإننا نخلص إلى ما يلي:

1 -

كان الحزب ينشط في السرية نتيجة حله بموجب قرار إداري صدر بتاريخ 26/ 7/1939.

ص: 58

2 -

كان معظم قادته وفي مقدمتهم الحاج مصالي (44) محبوسين بمقتضى أحكام تتراوح ما بين 16 و3 سنوات، صدر معظمها يوم 28/ 3/1941.

3 -

فرضت طبيعة النضال السري ومقتضيات تلك المرحلة الصعبة ظهور قيادة جديدة من الشباب (45) معظمهم من المثقفين، في مقدمتهم الدكتور محمد الأمين دباغين (46).

4 -

تبلور النشاط السري خاصة في مجالين: التنظيمي حيث أعيدت هيكلة الحزب بكيفية تتلاءم مع الأوضاع الجديدة، والإعلامي الذي تميز بالكتابات الحائطية وحملات التوعية والتربية الدينية (47) وبصدور جريدتي L،Action Algèrienne والجزائر الحرة.

5 -

ظهور "منظمة الشباب"(48)"ومنظمة الجيش الثامن"(49) اللتين كانتا تدعوان إلى عدم الالتحاق بصفوف الجيش الفرنسي قبل أن تتضافر جهودها لتأسيس منظمة عسكرية تكون "قادرة على رفع لواء الكفاح المسلح عندما تفتح الجبهة الثانية أو يتم إنزال قوات الحلفاء، وتكون هي الممثل الشرعي للشعب الجزائري عند اقتضاء الحاجة"(50).

6 -

إطلاق سراح الحاج مصالي يوم 24/ 4/1943 ووضعه في الإقامة الجبرية بالشلالة. ومن هناك صار يوجه نشاط الحزب المحظور رسمياً، ومما يستحق الذكر أنه قرر السماح لأعضاء لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري المفصولين بالعودة إلى صفوف الحزب كما أنه قرر عدم إبقاء أي تنظيم خارج الإطار النظامي.

7 -

إن الحزب، نتيجة كل هذه العوامل، قد أصبح تنظيماً سياسياً أكثر قدرة على تعبئة الجماهير وتوعيتها، وأكثر دقة في العمليات التي يقوم بها من أجل تجسيد إيديولوجيته على أرض الواقع.

وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن هياكل الحزب العادية قد تعززت، عبر مختلف أنحاء الوطن، بآليات متخصصة في التوثيق والإحصاء والنشاط السري والعمل السيكولوجي، كما أنها تدعمت بتنظيمين أساسيين أحدهما مسؤول عن الأمن والمراقبة بجميع أنواعها والثاني مكلف بالدراسات ومتابعة الأحداث وتوظيفها لفائدة الحزب. وكان التنظيمان، على غرار الآليات الأخرى، ممثلين في جميع مستويات الهيكلة الحزبية، لكن نشاطهما كان يتم في سرية مطلقة.

8 -

استطاع الحزب، بفضل مساعي تنظيماته المختلفة، أن يجمع كمية معتبرة من

ص: 59

الأسلحة والذخيرة اشترى بعضها من جيوش الحلفاء ووصله بعضها الآخر عن طريق مناضليه ومحبيه العاملين في صفوف الجيش الفرنسي. وزعت كل المعدات الحربية على سائر الاتحاديات والدوائر ووقع خزنها في انتظار يوم المعركة الذي أصبح متداولاً لدى العام والخاص أنه سيحل مع نهاية الحرب الامبريالية الدائرة رحاها في أوربا وشمال افريقيا وبعض مناطق آسيا.

9 -

استطاع الحزب، بفضل تجربة مناضليه الواسعة، أن يسيطر بكيفية شبه كلية على حركة أحباب البيان والحرية، وتمكن، في ظرف قصير جداً، من إدخال تغييرات جذرية على برنامجها السياسي كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.

10 -

إن فكرة الكفاح المسلح قد نضجت بما فيه الكفاية، ووجد في داخل الحزب تيار قوي من المناضلين الشباب الذين التحق معظمهم بالصفوف فقط في الفترة ما بين 1939 - 1944، لكنهم يرفضون تكتيك القيادة الذي كان الحاج مصالي قد لجأ لمحاولة التقرب من باقي أطراف التيار الوطني، والذي جعل الحزب يتنازل عن هدف الانفصال عن فرنسا ويعوضه بالشعار الغريب "لا اندماج ولا انفصال، ولكن ترشيد وتحرر"(51). إن أولئك الشباب الذين اكتسبوا خبرة واسعة من خلال نشاطهم السري ضمن "منظمة الشباب" و"الجيش الثامن" قد أصحبوا على كامل الاستعداد لإشعال فتيل الثورة والانتقال إلى المرحلة الحاسمة من الكفاح التحريري.

••••

ص: 60