المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: مفهوم التدريب وأهميته - تدريب الدعاة على الأساليب البيانية

[عبد الرب نواب الدين]

الفصل: ‌المبحث الأول: مفهوم التدريب وأهميته

‌الفصل الأول:

مفهوم التدريب وأهميته وخصائصه

‌المبحث الأول: مفهوم التدريب وأهميته

التدريب في اللغة: التدريب على وزن تفعيل من دَرِبَ بالأمر دَرَباً ودُرْبة، وتدرّب: ضَرِيَ ودرّبه به وعليه وفيه: ضَرّاهُ. والمدرَّب من الرجال: المجرّب.. والمدرّب: الذي قد أصابته البلايا ودربته الشدائد حتى قوي ومرن عليها. والدُّربة: الضراوة، والدُّربة: عادة وجرأة على الحرب وكل أمر. وقد درب بالشيء يدرُب ودرب به إذا اعتاده وضري به، تقول: ما زلت أعفو عن فلان حتى اتخذها دربة.. والدارب: الحاذق بصناعته (1)

ومن هذه المعاني والمرادفات اللغوية يتبين أن التدريب يكون بمعنى التعويد والحذق والتمرين، بحيث يتأهل المتدرب ويتعرف على ما هو بصدده ليكون فيما يتدرب فيه حاذقا متقنا متمرسا خبيرا، بحيث يعرف دقائق صناعته وأسرارها ويعرف مع ذلك كيف يستفيد من ملكاته وقدراته بدقة وإحكام.

والتدريب العملي اصطلاحا:

يتطابق مفهومه مع التعريف اللغوي، لأن التّدرُّب والتعوّد والتمرّس والوقوف على أسرار الصناعة والولوع بها والنبوغ فيها من مقتضيات التدريب ولوازمه ومعانيه، ورُكبت الجملة من كلمتين هكذا:(التدريب العملي) لتعطي دلالات على الجانب التطبيقي الميداني الذي ينتهجه المتدرب بعد الوقوف على

(1) لسان العرب مادة (درب) 1/374

ص: 333

الجانب النظري فيطبق عمليا ما يدرسه نظريا، فيسير التنظير والتدريب في خطين متواكبين متوازيين.

وعليه فمن التعريفات الاصطلاحية لتدريب الدعاة إلى الله:

(القيام بأنماط التعبير المشروعة لتبليغ الدين وإيصال الحق) .

و (التمرس على أشكال التعبير البياني لتبليغ الدين الحق) .

و (تجلية المواقف التعبيرية للداعية) .

و (صقل المهارات الكلامية والقدرات البيانية) .

وهذه التعاريف متقاربة تبرز المعنى المتوخى المراد، وتتضمن العناصر الرئيسة الثلاثة:

1-

التدرب وبذل الجهد فيه.

2-

كون التدرب في شكل واحد وهو البيان التعبيري الكلامي.

3-

توخي المقصد من ذلك وهو تبليغ الحق للخلق وبه ينوي الداعية الخير فيؤجر.

ويمكن تلخيصها في ثلاث كلمات: ممارسة البيان للتبليغ.

هذا وللتدريب العملي في حياة الدعاة مفهومان:

المفهوم الأول منصب نحو المناهج والخطط وجملة الوسائل والأساليب التي يتدرب عليها الداعية ويتمرس، كالوعظ والتذكير والتدرب على ذلك إما مشافهة أو من خلال وسائل الإعلام المختلفة، ومعرفة مواقع الكلام ووقفاته وسكتاته وتخير ألفاظه، وأيضا تأليف الكتب والنشرات وإقامة معارض الكتاب، وتأسيس وبناء دور الرعاية الاجتماعية والمعاهد العلمية، ومعرفة أولويات الدعوة

إلى آخر متعلقات المناهج والخطط، وهذا مفهوم عام وليس هو

ص: 334

المقصود بالدراسة في هذه المادة. إذ يدرسها طلاب الدراسات العليا في مادة (مناهج الدعوة) .

المفهوم الثاني: الأساليب البيانية خاصة، أي التي تعتمد على جارحة اللسان والبيان، كالخطابة والحوار والجدال والحديث الإذاعي وندوة الرائي، والصور التعبيرية المتنوعة، وغيرها من ضروب وألوان البيان والكلام، وهذا المفهوم هو المعني في هذا الكتاب.

والتدريب باعتباره فناً يتخذ مفاهيم أخر بحسب كل مجال وتخصص، فهناك التدريب الخطابي البياني، وهناك التدريب الإعلامي الصحفي، وهناك التدريب الإعلامي الإذاعي، وهناك التدريب على صور الحوار..

أهمية التدريب الميداني في عمل الدعاة:

ليس أدل على أهمية التدريب العملي (البياني) في إعداد الدعاة من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة، يتضح ذلك من خلال ما يأتي:

(أ) ورود مبادئ للصيغ البيانية في القرآن الكريم:

ولا غرو فالقرآن الكريم كله بيان وهدى للناس، بل هو قمة البيان وذروة البلاغة، وحسبنا في هذا المقام الإشارة إلى قبسات من ذلك، فمن ذلك:

- تضافر الكثير من الآيات على سوق الأدلة على قضايا الإيمان وتصديرها بقوله (قل) بصيغة الأمر المشعرة بأن الداعية ينبغي أن يصدع بالحق وأن يتخذ من القول المبين والحجة البالغة منهاجا وغاية، كما في قوله تعالى: {قُل أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَليًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُل إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّل مَنْ

ص: 335

أَسْلمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ قُل إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُل اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلغَ أَئِنَّكُمْ لتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلهَةً أُخْرَى قُل لا أَشْهَدُ قُل إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (1)

وتأمل أيضا {قُل مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل اللهُ قُل أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْليَاءَ لا يَمْلكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُل هَل يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَل تَسْتَوِي الظُّلمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلوا للهِ شُرَكَاءَ خَلقُوا كَخَلقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلقُ عَليْهِمْ قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ} (2)

ونجد فعل الأمر: (قل) وردت (343) مرة في القرآن الكريم من تأملها وسبر غورها وصنف مضامينها وتدبر مقول القول: وقف على منهاج متكامل في صيغ البيان وطرائق الأداء ومسالك إقامة الحجة في إحقاق الحق ودحض الباطل، وهذا لون رفيع من بلاغة القرآن يتضمن التوجيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه الداعية من قوة العارضة والتمرس على صيغ الخطاب.

- وقد يأتي الأسلوب القرآني الجليل على شكل تعليم الحوار وعلى غرار (إن قالوا كذا فقل كذا) وهي صورة من التدريب على القول ومثاله قوله تعالى: {وَقَالوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لمَبْعُوثُونَ خَلقًا جَدِيدًا * قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُل الذِي فَطَرَكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِليْكَ

(1) سورة الأنعام: 14 – 19

(2)

سورة الرعد: 16

ص: 336

رُءُوسَهُمْ وَيَقُولونَ مَتَى هُوَ قُل عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} (1)

وهذا يتضمن فيما يتضمنه التوجيه بتعلم صيغ الجدال والحوار ومعرفة متى يتكلم الداعية وكيف وبماذا.. مما هو من مؤهلات الدعاة ومقوماتهم الخطابية.

(ب) اتخاذه صلى الله عليه وسلم الخطابة أسلوباً في الدعوة:

لقد اتخذ النبي عليه الصلاة والسلام من الخطابة أسلوبا عمليا مباشراً في إيصال دعوته وأداء برسالته سواء خطبه الراتبة أيام الجمعة أو خطبه العارضة في النوازل وغيرها، فعامة الأحاديث النبوية القولية هي في حقيقتها مقاطع من خطبه البيانية الوعظية.

لقد كان أصحابه يرونه ويعاينونه وهو يخطب بين أظهرهم ولننقل لمحة عن هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في خطبه مما سطره يراع الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى قال: ((فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته: خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض وعلى المنبر وعلى البعير وعلى الناقة، وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وأما قول كثير من الفقهاء إنه يُفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة، وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب

(1) سورة الإسراء: 49 - 51

ص: 337

بالحمد لله وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا قدس الله سره. وكان يخطب قائما، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال السلام عليكم، قال الشعبي وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك وكان يختم خطبته بالاستغفار.

وكان كثيراً ما يخطب بالقرآن، وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة رضي الله عنها قالت:«ما أخذت {ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» (1) وذكر أبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال: «الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا»

وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحو هذا إلا أنه قال: "ومن يعصهما فقد غوى"(2)

وقال ابن شهاب: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب: "كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت ولا يعجل الله لعجلة أحد يريد الله شيئا ويريد الناس شيئا ما شاء الله كان ولو كره الناس ولا مبعد لما قرب الله ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله".

(1) سورة ق: 1 والحديث رواه: م: الجمعة (873)

(2)

م: الجمعة (870)

ص: 338

وكان مدار خطبه صلى الله عليه وسلم على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده وتعليم قواعد الإسلام وذكر الجنة والنار والمعاد والأمر بتقوى الله وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه.

وكان يقول في خطبه: "أيها الناس إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كل ما أمرتم به ولكن سددوا وأبشروا"(1)

وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم، وثبت عنه أنه قال:"كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء"(2) ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ولا زيقا واسعا، وكان منبره ثلاث درجات فإذا استوى عليه واستقبل الناس أخذ المؤذن في الأذان فقط ولم يقل شيئا قبله ولا بعده فإذا أخذ في الخطبة لم يرفع أحد صوته بشيء البتة لا مؤذن ولا غيره. وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك وكان أحيانا يتوكأ على قوس ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح من وجهين أحدهما أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس، الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي وأما

(1) سورة التغابن: 15

(2)

ت: النكاح (1106) وقال حسن صحيح غريب، د: الأدب (4201) ، صحيح ابن حبان (2797)

ص: 339

السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ومدينة النبي صلى الله عيه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف. وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به ثم رجع إلى خطبته، وكان يخطب فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين فقطع كلامه فنَزل فحملهما ثم عاد إلى منبره ثم قال: صدق الله العظيم {إِنَّمَا أَمْوَالكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) رأيت هذين يعثران في قميصيهما فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما، وجاء سليك الغطفاني وهو يخطب فجلس فقال له:«قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما» ثم قال وهو على المنبر: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما"(2)

وكان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ويحرضهن على الصدقة. والله أعلم)) (3)

وفي هذه اللمحة عن الخطابة النبوية يتبين لنا أهم أسس الخطابة وصفات الخطيب والمعايير التي ينبغي أن تراعى في الخطيب البارع والخطابة البليغة.

(ج) تقويمه الخطباء وتصويبه لأخطائهم:

لقد كانت الخطباء تخطب بين يديه، سواء كانوا من خطباء المجتمع المدني أو من خطباء الوفود القادمة من مختلف أنحاء الجزيرة العربية بعد الهجرة، وممن

(1) سورة التغابن: 15

(2)

متفق عليه: خ: الجمعة (930)، م: الجمعة (875)

(3)

زاد المعاد1/186-199 وفي خطبته صلى الله عليه وسلم النساء، الصحيحين: خ: الحيض (3304)، م: الإيمان (80)

ص: 340

اشتهر من الخطباء في ذلك العهد الميمون ثابت بن قيس رضي الله عنه الذي خطب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان يجيب بخطبه على خطباء الوفود التي كانت تقدم المدينة.

ومن الأمثلة على تقويمه للخطباء وتعليمهم مواضع القول حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه: أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى قال: «قم أو اذهب فبئس الخطيب أنت» وفي رواية أخرى عنه قال: تشهّد رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله"(1) فهو هنا عليه الصلاة والسلام أنكر عليه تشريكه مع الله في المعصية فقد قال: ((ومن يعصهما)) ولم يقل ومن يعص الله ورسوله، وهذا درس في التوحيد بليغ.

ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستمع إلى خطيب الأنصار كثابت بن قيس بن الشماس وإلى شعرائهم، وكانت خطباء الوفود تخطب بين يديه فيستمع ويعلم ويوجه.

(د) تربيته صلوات الله عليه أصحابه على أساليب البيان:

كان يتعهدهم ويوجههم ويصوّب من أخطأ منهم حتى في الدقائق التي قد تخفى على كثيرين، لاسيما ما يمس جناب التوحيد والعقيدة، وكان ذلك شاملا لكل الأشكال التعبيرية البيانية من خطابة وحوار وجدال

لذا برز عدد غير قليل من الصحابة رضي الله عنهم في الخطابة الحوار والجدال وجمعوا في هذه العلوم خصائصها ودقائقها على نحو قل مثيله.

(1) م: الجمعة (870)

ص: 341

ومن تأمل خطب هؤلاء الأماجد رضي الله عنهم يجد أنها مليئة بالمعالم العقدية والأسس الإيمانية والخصائص الخطابية والمقاصد السنية وهذا كله لم يأت من فراغ، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعهدهم ويربيهم على ذلك ما كان لهم أن يحققوه، ومن خُطب الصحابة رضي الله عنهم الذين تبؤوا المكانة السنية في التدرب البياني ممن رباهم صلى الله عليه وسلم على عينه:

أ - جعفر رضي الله عنه بين يدي النجاشي (خطبةً وحواراً) .

ب- مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما (تعليما وإقراءً)

ج- معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما (تعليما وإقراءً وإفتاءً) .

د- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (تعليما ووعظاً)

هـ- عبد الله بن العباس رضي الله عنها (حواراً وجدالاً)

وإليك مقتبسات مختصرة من سير كل واحد من هؤلاء الأماجد والأسلوب البياني التعبيري الذي سلكه:

أ - جعفر بين يدي النجاشي: تروي القصة أم المؤمنين أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ساقت أحداث القصة قالت قال سفيرا قريش للنجاشي: ((أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه)) [وذكرت أحداث القصة] قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له أيها الملك: ((كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام

ص: 342

ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك)) قالت فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء قالت فقال له جعفر نعم فقال له النجاشي فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من سورة {كهيعص} قالت فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: ((إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد)) (1)

ومن هذه القصة يتبين كيف أن الكلمة الهادفة البناءة والحوار الصّيّب الحكيم كان سببا قويا بعد توفيق الله تعالى في صد كيد الأعداء وصيانة مصالح

(1) أحمد: أهل البيت (1649) مختصرا، قال في مجمع الزوائد 6/26 رجاله رجال الصحيح غير إسحاق وقد صرح بالسماع، وقال في مسند إسحاق 1/73 (21) رواته ثقات سوى محمد بن إسحاق صدوق مدلس لكنه صرح هنا فإسناده حسن به.

ص: 343

المسلمين وإقامة الحجة والبرهان على المنكرين والمتشككين، ولقد كان جعفر رضي الله عنه موفقا في خطابه وفي حواره. عارفا بمسالك الكلام ومكامن الحوار، ولا جرم أنه لم يكن بتلك المثابة من الحكمة والحنكة إلا بعد أن تعلم ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وتفقه فيه على يديه.

ب- مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما: لقد بعثهما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة داعيين معلمين مقرئَين، ولم يكن اختياره عليه الصلاة والسلام إلا بعد تأهلهما لهذه المهمة التربوية الإعلامية الجليلة تأهلا صقلته التجربة والممارسة والتربية على عينيه صلى الله عليه وسلم، قال البراء بن عازب رضي الله عنهما:«أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل» (1)

ففي هذا الحديث أن مصعبا وعبد الله كانت مهمتهما إقراء الأنصار القرآن وللقرآن كما هو معروف تأثيره النافذ من خلال قوته البيانية وما اشتمل عليه من إعجاز، والقرآن العظيم أجل ما اشتغل به الدعاة تعلما وتعليما وتلقيا وأداءً

ج - دعوة معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لأهل اليمن:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما

(1) خ: المناقب (3925)

ص: 344

بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس» (1)

وتأمل كيف وجهه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلمه طرائق الدعوة ومنهجها إذ عرفه أولا بالمدعوين الذين سيدعوهم، وبين له بعد ذلك مراتب الدعوة وأولوياتها، ولم يكن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه إلا لتأهله ومكنته في مجال ما بعث إليه. فهو يجمع بين فقه المفتي الأريب وفقه الداعية الحصيف، ومعاذ من فقهاء الصحابة وقرائهم ودعاتهم رضي الله عنه.

د - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

لعبد الله أسلوب عرف به فهو فضلا عن كونه مرجعاً في إقراء القرآن وتفسيره، كما في الحديث الشريف:"استقرؤا القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل"(2) نجده أيضا خطيبا مفوها وواعظا حكيما، فمن منهج ابن مسعود أنه كان يتحرى الوقت المناسب للوعظ والتعليم يستجلب بذلك في المستمعين والمتعلمين الاستيعاب ويدرأ عنهم السأم والملل، يدل على ذلك ما رواه شقيق أبي وائل قال كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: «ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم إن رسول

(1) متفق عليه: خ: الزكاة (1458)، م: الإيمان (19)

(2)

متفق عليه: خ: المناقب (3758)، م: فضائل الصحابة (2464)

ص: 345

الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا» (1)

وكان عبد الله من المكثرين من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يظنه من لا يعرفه أنه من أهل البيت من كثرة دخوله على النبي وملازمته له، وحسبنا في هذا شهادة الصحابي حذيفة رضي الله عنه له قال حذيفة:«إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلاًّ وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلى أَنْ يَرْجِعَ إِليْهِ لا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلهِ إِذَا خَلا» (2)

وهذا الشبه في السمت والهدي بالنبي صلى الله عليه وسلم سببه كثرة ملازمته له والأخذ عنه والجلوس بين يديه، ومن جملة ذلك معرفته بأصول الخطابة وخصائصها ومضامينها ومعالمها ومتعلقاتها يشهد لذلك حديث الأسود أنه سمع أبا موسى يقول:«قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما نرى من دخوله ودخول أمه عليه» (3)

إن هذه الملازمة بهذه المثابة أسلوب تربوي يتحقق معه التعلم والأخذ بطريق القدوة، وهي قدوة يصاحبها حب ورغبة في التشبه والإقتداء، فإذا كان ذلك بدافع الإيمان والتقوى لا لشيء آخر فكيف تراه يكون، وهذا ما كان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في أخذه من رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى عن أبي الأحوص قال كنا في دار أبي موسى مع نفر من

(1) متفق عليه: خ: العلم (70)، م: صفة القيامة (2821)

(2)

م: الأدب (6097)

(3)

متفق عليه: خ: المناقب (3763)، م: فضائل الصحابة (2460)

ص: 346

أصحاب عبد الله وهم ينظرون في مصحف فقام عبد الله فقال أبو مسعود ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم فقال أبو موسى: «أما لئن قلت ذاك لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذَن إذا حُجبنا» (1)

وكل واحد من هؤلاء الأماجد وغيرهم رضي الله عنهم جميعا كان يقوم بالدعوة إلى الله بالخطابة تارة وبالموعظة تارة وبالجدال تارة وبالحوار تارة وبالنصح والتذكير تارة. ولولا أنه صلى الله عليه وسلم كان يربّيهم على أساليب البيان بالتقويم وبالقدوة والتوجيه ما بلغوا رتبة السفارة ولا تصدوا للدعوة ولا تصدروا الإفتاء، إذ تلك مناصب لا يصلح لها إلا المتكلم البليغ.

(1) م: فضائل الصحابة (2461)

ص: 347