الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مسالك التدريب على الخطابة
المسلك الأول: التدريب على إعداد الخطبة وصياغتها.
المسلك الثاني: التدريب على إلقاء الخطبة.
المسلك الثالث: التدريب على التقويم.
وفيما يلي بعض تفصيل كل واحد من هذه المسالك:
المسلك الأول: التدريب على إعداد الخطبة وصياغتها.
في أهمية الإعداد للخطابة قول عمر رضي الله عنه وهو يحكي طرفا من الأحداث التي مر بها المسلمون عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتجمع المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة قال: ((وكنت قد زوّرتُ مقالة أعجبتني أردت أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد)) (1) .
وفي رواية لمالك: ((ما ترك - يعني أبو بكر - من كلمة أعجبتني في رويتي إلا قالها في بديهته)) ، والتزويق هنا هو بمعنى التحسين والتهيئة وحسن الإعداد.
ولما بويع لعثمان رضي الله عنه خرج إلى الناس فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أيها الناس! إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله)) (2) .
ويمكن التدريب على إعداد الخطبة بطريقين:
الطريق الأول: الإعداد الذهني، سواء بالإطلاع على المصادر والمراجع، أو باستحضار النصوص المحفوظة ومعرفة أوجه الاستشهاد بها، أو بجمع العناصر
(1) متفق عليه: خ: الحدود (6830)، م: الحدود (1691)
(2)
الطبقات الكبرى لابن سعد 3 / 46
وترتيبها، أو بكل ذلك.
الطريق الثاني: بالإعداد الكتابي، وذلك بتدوين المعلومات ثم تنسيقها وترتيبها ثم صياغتها وتحبيرها والتأنق فيها، وهي طريقة تلائم المبتدئين من الخطباء والوعاظ وعلى المحاضرين على اختلاف بيّن بين مناهج كل من الخطبة والمنبرية والوعظ والمحاضرة. .
مراحل إعداد الخطبة:
1-
مرحلة اختيار الموضوع.
2-
مرحلة جمع الشواهد.
وهي في مجال الخطابة الوعظية وهي الدينية وهي كذلك الشرعية: (آيات القرآن العظيم، ثم ما صح من سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته، ثم فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء الأثبات، والأشعار، والحكم، والأمثال، وشواهد التاريخ)
3 -
مرحلة وضع العناصر وتصنيفها وترتيبها: يراعى في استخراج العناصر أصالتها وخلوها عن التكلف، كما يراعى في ترتيب العناصر التسلسل المنطقي والترابط الموضوعي.
وكثير من الخطباء البارعين يأتي حديثهم عفويا مسترسلا مترابطا وتكون مراعاتهم لهذه العناصر عفويا كذلك لكثرة تفكيرهم في موضوع الخطبة وكيفية إلقائها وأسلوب معالجتها، ثم ومع الممارسة ترسخ الكثير من المعايير والمفاهيم والشواهد الخطابية في أذهانهم، ومن ثم تظهر بجلاء في لغة الخطيب وأسلوبه وشخصيته وطريقة إلقائه..
4-
مرحلة الصياغة:
وهي: وضع الكلام وترتيب الحديث وإجادة سبكه، ومن الصياغة تزويق
الكلام أي تحسينه وتقويمه وتهيئته، وقد يستغني عن الصياغة المتمرسون من الخطباء ممن يرتجلون خطبهم ارتجالا بعد طول إعداد. ثم ومع كثرة الإلقاء والإعداد يستظهر الخطيب جمعا كبيرا من النصوص ويتمرس على قدر غير قليل من فنون الكلام، وكلما ترقى في درجات الاستظهار والاستشهاد والتمرس على أساليب الخطبة كلما قلت طلبته إلى الإعداد والصوغ لاسيما إن قوّم ما ألقاه من كافة الوجوه اللغوية والخطابية والفنية والنفسية.
وعليه فلا بد أن تكون لدى الخطيب ملكة التقويم والنقد الذاتي، يزن كلامه قبل التلفظ به، ثم يراجع ما قاله بروح ناقدة مستبصرة مستعينا بذوي العلم والخبرة ممن سبقوه.
ولا بد للخطيب وهو في طور التدرب على إعداد الخطبة من تحقيق أجزاء الخطبة وشروط كل جزء.
وأجزاء الخطبة ثلاثة:
1-
المقدمة. 2- العرض. 3- الخاتمة.
فمن شروط المقدمة:
1-
أن تستهل بحمد الله جل وعلا والثناء عليه، ثم الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الافتتاح الإيماني هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم قدوة الخطباء والمصلحين ورسول رب العالمين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله
…
وكان يخطب قائما
…
وكان يختم خطبته بالاستغفار)) (1) .
2-
أن تكون متصلة بموضوع الخطبة تمهد له.
(1) زاد المعاد 1 / 186
3-
الوضوح بتخيّر الألفاظ العذبة، مما يفهمه القاصي والداني وتجنب الكلمات الشاذة والغريبة.
4-
مراعاة براعة الاستهلال وطرافة الاستفتاح، وتحقيق ذلك سبيله الإلمام بضروب البلاغة كالسجع والجناس والطباق وغيرها من أبحاث البلاغة.
5-
تناسب حجم الخطبة طولا وقصرا.
وإذا انتهى من المقدمة شرع فيما بعدها بقوله (أما بعد) قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْل الخِطَابِ} (1) هو قوله (أما بعد)(2) .
وهو هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه وقد صنف الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة بابا فقال: باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، رواه عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وساق فيه حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال:«قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد» (3)
قال ابن منظور: ((فصل الخِطَاب: أَمّا بَعْدُ، وداودُ عليه السلام، أَوَّل من قال: أَمَّا بَعْدُ، وقال أَبو العباس: معنى أَمَّا بعدُ، أَمَّا بَعْدَما مَضَى من الكلامِ، فهو كذا وكذا)) (4)
ومن شروط متن الخطبة:
1-
الوحدة الموضوعية: بأن يراعي كون الحديث في موضوع واحد لا
(1) سورة ص: 20
(2)
زاد المسير 7 / 112
(3)
خ: الجمعة (926)
(4)
لسان العرب 1 / 360 – 361 مادة (خ ط ب)
يخرج عنه إلى غيره إلا لحاجة، لان ذلك أدعى إلى الاستيعاب.
2-
الجدة: بأن يكون موضوع الخطبة جديدا جاداً، فالجديد هو الطريف غير المكرر، في أسلوب العرض، ومنهج المعالجة وتقديم الفكرة.
3-
الوضوح: سواء في اختيار الموضوع أو في الأسلوب الخطابي وطريقة الإلقاء وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من سمعه» .
ولفظ الترمذي: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يفهمه من جلس إليه» (1) ومن الوضوح ترتيب العناصر وترابطها: فيبدأ بالأهم فالمهم، ويراعي التسلسل المنطقي بينها على أن يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها بحجز بعض في تناسق وإحكام.
4-
المعاصرة: ونعني بها هنا اختيار الموضوع الحي النابع من حاجات الناس مما يواكب رغباتهم ويجيب عن تساؤلاتهم ويحل مشكلاتهم ويشبع تطلعاتهم.
5-
مراعاة القدرات الفكرية للمخاطبين ومراعاة أحوالهم، قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه:((حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترة فأمسك)) وقال: ((ما أنت بمحدث قوما حديثا لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (2) . وقال علي رضي الله عنه ((حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)) (3) .
(1) د: الأدب (4199)، ت: المناقب (3639) وقال هذا حديث حسن
(2)
م: 1/11 (المقدمة)
(3)
خ: العلم (127)
وفي الإطالة والقصر قال أبو وائل خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال: «إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة وإن من البيان سحرا"(1) .
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هن كلمات يسيرات» (2) .
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا» (3) .
وأن تكون مستوعبة لما تمخضت عنه تجارب أهل الاختصاص من الخطباء وما يذكرونه من أساليب الخطابة كالتفنيد والإثبات والمحاجة وطرق كل منها وكذلك خصائص الأسلوب الخطابي من الإطناب والوضوح وإثارة الشعور وحلاوة الجرس وقياس المضمر ووسائل تحقيق كل منها، وأن تكون متمشية مع معطيات علم النفس مما له صلة بالنفس المخاطبة كمعرفة عوامل التأثير والتأثر وما تنطوي عليه هذه النفس مما جبلت عليه من محبة ورغبة ونفور وسرور وحزن ورجاء وغضب وحياء ونحو ذلك بمعرفة أسباب هذه السمات البشرية ودوافعها ومكامن إنمائها أو كفها.
هذا، والخطابة كما علمت موهبة وعلم، فمن آزرته الموهبة فإنه لا يصقل
(1) م: الجمعة (869)
(2)
د: الصلاة (933) ، وانظر المستدرك على الصحيحين 1 / 426 (1067) قال السيوطي في الجامع الصغير 1/251 قال الحاكم صحيح.
(3)
م: الجمعة (866)
إلا بالممارسة فتدبر هذا فهو المحك من الجهة العملية ومن الله وحده الفضل والتوفيق لا إله غيره ولا معين سواه.
7-
ترتيب العناصر وترابطها: فيبدأ بالأهم فالمهم، ويراعي التسلسل المنطقي بينها على أن يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها بحجز بعض في تناسق وإحكام، وهذا يكون في دور الإعداد والتحضير، وينبغي أن يراعي الخطيب زمن الخطبة فلا يطيل إطالة مملة ولا يختصر اختصارا مخلا!
وكانت عامة خطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من المختصر المفيد، ففي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:«كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا» (1) والقصد في كل شئ: الاقتصاد فيه وترك الغلو، والمراد أنه لم يكن يطيل لئلا يمل الناس
الجزء الثالث - الخاتمة:
من ضوابطها:
1- أن يختم بالاستغفار فهو هدى النبي صلى الله عليه وسلم.
2-
أن يبرز من خلال الخاتمة أهم جوانب الموضوع في تلخيص موجز بارع، دون تكرار اللفظ
3-
أن يراعى فيها القصر دائما سواء طالت الخطبة أم قصرت.
4-
أن تكون الخاتمة قوية في سبكها ومعانيها، تهز المشاعر وتبعث على الاتعاظ.
هذه خطوات الإعداد، ولا بد من مراعاتها كي يكون الخطيب المتدرب المبتدئ ملما بقواعد الخطابة من الناحية النظرية، حتى إذا أقدم على الناحية
(1)
م: الجمعة (866)
التطبيقية أقدم عن علم وبصر فتكلم بالأسلوب الأمثل وعرف كيف يقول وماذا يقول ومتى يقول، وفي المقابل متى يسكت وكيف يسكت ولماذا؟
ولنر الآن الجانب التطبيقي الميداني في حياة الخطيب:
المسلك الثاني: التدريب على إلقاء الخطبة
كيف تلقى الخطبة؟
تقدم أن الخطبة (علم وموهبة) وعلى هذا فإن تدريب الدعاة على إلقاء الخطبة يعتمد على ما يرتئيهالأستاذ المدرب بحسب نظرته للمتدرب وميوله ومواهبه وقدراته التعبيرية وتوجهاته الخطابية، ويهدف التدريب على إلقاء الخطبة بصفة أساسية إلى (إيقاظ) الصفات الخطابية الخاملة في المتدرب، أو (تنميتها وتطويرها) لتصبح نمطا خطابيا يعرف بها.
وصفات الخطيب نوعان: فطرية وكسبية، فالفطرية ما يجبل عليها المرء وتعبر عن الموهبة أو الملكة، والكسبية سبيلها التعلم والتثقف والممارسة والتدريب، وعمدتنا في كل هذه الاستضاءة بما ورد في نصوص الشرع، ثم لا نغفل الاستئناس بما أحرزته تجارب ذوى الاختصاص والمراس في مجال الخطابة.
ولكل خطيب طريقته في إلقاء خطبته، مما هو جزء من شخصيته ومكنون فكره وتوجهه، وتتضافر وتتلاقى أمور عدة لتحقق جودة الإلقاء: كقوة الصوت، والقدرة على تكييفه أثناء الخطاب بحسب ما تقتضيه مسالك الكلام، وكاستخدام الإشارة المرئية، والإيماءات الإشارية التي يلحظها المستمع الحصيف فيدرك مغزاها ويتفاعل مع الخطيب فيما يقول ويقصد، ومثل جملة الخصائص الشخصية للخطيب.
ويتدرب الخطيب وفق المعايير الآتية:
أولا: المعايير التوافقية (الصفات الفطرية) : وهي المعايير التي من خلالها يعرف الخطيب الموهوب، ولا يكون سبيلها الكسب والتحصيل بل الصقل والتهذيب.
وكثير من الخطباء المصاقع لا تكتشف موهبتهم في الخطابة إلا بعد طول الممارسة والإلقاء لذا يلاحظ بجلاء التحسن النوعي في أداء الخطيب كلما طالت ممارسته للخطابة وتم تقويمه على الأسس العلمية التجريبية السليمة. وتتلخص أهم المعايير التوافقية في الآتي:
1-
جهارة الصوت:
بحيث يكون قوياً مسموعا مستساغا، تتقبله الآذان وتقبل عليه النفوس، ولا بد من مراعاة هذين الأمرين أعني قوة الصوت وعذوبته. فإذا بدأ خطبته فالأوفق أن يبدأ بصوت يناسب المقام ثم يرفعه رويدا رويداً كلما أوغل في الخطبة كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: «كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ثم يثني عليه ثم يقول إثر ذلك وقد علا صوته "بعثت أنا والساعة كهاتين
…
" (1)
والخطيب البارع يكيّف صوته حسب الظروف التي تحيط به وعدد المستمعين وسعة المكان ومكانة الموضوع وخطورته، فيرفع صوته تارة ويخفضه تارة بحسب ذلك ويراعي الوقفات والسكتات كما يراعي نبرة الصوت ارتفاعا وانخفاضا، والأسلوب الخطابي تنويعا وتجديداً، فنبرة الاستفهام غير نبرة التعجب، ونبرة التأكيد غير نبرة الاستعطاف، ونبرة الإعلام والتعليم ليست كنبرة التوبيخ.. وهكذا..
(1) م: الجمعة (867)
ولا يخفى ما قرره الشرع من وجوب الإصغاء لخطيب يوم الجمعة، حتى لقد بوّب له أئمة الحديث كما صنع البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة فقال باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب وساق فيه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"(1) فإذا كان الشرع قد أوجب الإنصات للخطيب فحري بالخطيب إزاء هذا أن يلقي خطبته بتؤدة ورفع صوت بحيث يسمع القاصي والداني ويتخير من الألفاظ ما يناسب أفهام السامعين، وهذه أمور يقدرها الخطيب، وترجع إلى نباهته وكياسته وإحساسه بالمسئولية وبأمانة الكلمة وثقلها، وحسن تأتيه في الأمور، وبقدر توفيقه في ذلك يكون مؤثرا ينصت إليه الناس ويصغون لقوله. ويتفاعلون لحديثه.
ولعلماء الصوتيات معايير دقيقة يميزون بها الصوت القوي الندي من غيره، ويقسمون الأصوات إلى أنواع شتى كالصوت المبحوح، والصوت الشجي، والصوت المتهدل، والصوت الهادر
…
الخ
وفي التنويه بجمال الصوت ونداوته قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري صلى الله عليه وسلم لما سمعه يتلو كتاب الله تعالى: "يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود"(2)
2-
اللسن والفصاحة:
الفصاحة والإبانة والبلاغة ألفاظ متقاربة، والخطيب الفصيح هو القادر على التعبير القوي البليغ من غير تكلف، والمتدرب من الخطباء ينبغي أن تكون
(1) متفق عليه: خ: الجمعة (934)، م: الجمعة (851)
(2)
متفق عليه: خ: فضائل القرآن (5048)، م: صلاة المسافرين (793)
لديه أو لدى مدربه معايير دقيقة في اختبار الفصاحة والبلاغة وحلاوة المنطق.
ولا تتأتىّ الفصاحة إلا بأمرين: أحدهما عذوبة الحديث وسلامة المنطق وذلك باختيار التعبير المناسب المؤثر الواضح البيّن بحيث يجري الكلام على لسانه جريان الماء في الجدول بغير تكلف ولا لغوب.
الثاني: السلامة من عيوب النطق والكلام، كاللجلجة والفأفأة واللثغ وتعثر النطق، فمن كان حديثه شيّقا سهلا ممتعا ممتنعا صحيح المخارج عذب اللفظ حلو الجرس لا تكلف فيه ولا عسر كان لسنا فصيحا.
قالوا في تعريف البيان: ((هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير كذا في الكشاف، وفي المفردات: البيان هو الكشف، وهو أعم من النطق لأن النطق مختص باللسان ويسمى ما يبين به بيانا والبيان ضربان أحدهما بالتسخير وهي الأشياء الدالة على حال من الأحوال من آثار صنعة، والثاني بالاختبار وذلك إما أن يكون نطقا أو كتابة أو إشارة)) (1)
وقد ذكر اللغويون من عيوب النطق والكلام: اللجلجة والفأفأة، واللثغ، وتعثر النطق، واللجلجة من التلجلج وهو التردد: يقال تلجلج أي تردد (2)
والفأفأة: حبسة في اللسان وغلبة الفاء على الكلام (3)
واللثغ ثقل اللسان في الكلام، يقال فلان ألثغ وفلانة لثغاء أي به أو بها ثقل في الكلام (4) فمن كان حديثه خاليا من هذه الأدواء اللسانية كان فصيحا،
(1) التعريفات للمناوي 2 / 148
(2)
مختار الصحاح 1/247
(3)
لسان العرب 1/ 119
(4)
انظر لسان العرب مادة (لثغ) 8/ 448
لذا قالوا: الفصيح من لا يعتريه ثقل في اللسان ولا تكلف في البيان، وقالوا: البلاغة أن لا يبطئ ولا يخطئ!
ومن الحروف التي تدخلها اللثغة: القاف، والسين، واللام، والراء. فالقاف بنطقها طاءً كنطق قال: طال! والسين بنطقها ثاءً كنطق سمرة: ثمرة، واللام بنطقها ياءً كنطق لؤلؤ: يؤيؤ، والراء بنطقها ياءً أو غينا أو ذاءً أو ظاءً كنطق رجل: يجل! ونطق الرواية: غواية! وكان بعض الأذكياء ممن ابتلي باللثغ في الراء يجتنب الإتيان بلفظ فيه راء ويستبدله بلفظ مرادف، كاستخدام لفظ الحنطة أو القمح بدلا من البُر. قال الجاحظ: اللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء، والغين أقلها قبحا وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم (1)
وإمام الفصحاء وسيد البلغاء هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وملك زمامها فانقادت له وهو القائل صلوات الله عليه:"بعثت بجوامع الكلم"(2) وفي رواية: "أعطيت مفاتيح الكلم"(3) وجوامع الكلم مفردها: الكلمة الجامعة، وهي: الموجزة لفظا المتسعة معنى، وهذا يشمل القرآن العظيم والسنة، لأن كل منها يقع فيها المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
وفي وصف خطابه وبلاغة بيانه قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم فصلا، يفهمه كل من سمعه» (4)
(1) البيان والتبيين 1/15
(2)
متفق عليه: خ: الجهاد والسير (2977)، م: المساجد (523)
(3)
خ: التعبير (6998)
(4)
د: الأدب (4199)، ت: المناقب (3572)
وفي رواية أخرى قالت رضي الله عنها: «إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لوعده العاد لأحصاه» (1)
وفي رواية عنها: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه» (2)
وقد حاول كثير من أئمة البلاغة والأدب وصف هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه وكلامه وفصاحته فلم يقدروا من ذلك إلا على جوانب من ذلك دون أخرى، كقول الإمام ابن القيم:((كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقا، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويسبي الأرواح، ويشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلم بكلام مفصّل مبّين يعده العاد، ليس بهذا مسرع لا يحفظ، ولا منقطع، تخلله السكتات بين أفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهدي، قالت عائشة رضي الله عنها: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام لين فصل يحفظه من جلس إليه» (3)
وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا ليعقل عنه، وكان إذا سلّم سلَّم ثلاثا، وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح كلامه ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كره الشيء عرف في وجهه، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا، وكان جل ضحكه التبسم، بل كله
(1) متفق عليه: خ: المناقب (3568)، م: الزهد (2493)
(2)
الشمائل: للترمذي باب كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 183
(3)
م: الفضائل (2493) ، ت المناقب (3643) وقال حسن صحيح، د: العلم (3170)
التبسم! فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه)) (1)
والفصاحة بعد هذا موهبة وملكة، وقد برع في الفصاحة كثير وكانت الفصاحة فيهم وقوة البيان من مقومات شهرتهم وذيوع صيتهم وعمق تأثيرهم في الناس كالخلفاء الأربعة، وعدد لا يحصيهم إلا الله من الصحابة والتابعين، وكالأئمة الأربعة وغيرهم، قال الذهبي:((وقال الربيع بن سليمان كان الشافعي والله لسانه أكبر من كتبه لو رأيتموه لقلتم إن هذه ليست كتبه. وعن يونس بن عبد الأعلى قال ما كان الشافعي إلا ساحرا ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله كأن ألفاظه سكر وكان قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلاغة وفرط ذكاء وسيلان ذهن وكمال فصاحة وحضور حجة)) (2)
ومن المعيب في الخطيب التشدق والتكلف وإظهار المقدرة الخطابية تصنُّعاً، إما جدالا في الباطل وهذا مما ينافي الفصاحة، تأمل قوله تعالى:{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى مَا فِي قَلبِهِ وَهُوَ أَلدُّ الخِصَامِ} (3) وإما على وجه الرياء، كما في قول الله تعالى في وصف المنافقين:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولوا تَسْمَعْ لقَوْلهِمْ} (4)
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاق، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا
(1) زاد المعاد 1/182
(2)
سير أعلام النبلاء 10 / 48 ترجمة الإمام الشافعي
(3)
سورة البقرة: 204
(4)
سورة المنافقون: 4
يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" (1)
والمتشدق هو المتطاول على الناس في الكلام وقيل الذي يتكلم من طرف شدقه تكبرا وتطاولا، وقوله (والمتفيهقون) أي: المتكبرون. ومن هذا الباب ما ورد عن السلف في ذم الكلام وذلاقة اللسان بغير حجة ولا برهان، وشتان بين العلم والبيان، وبين ما هو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين، وما أحسن ما قال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج (2)
ومن المعيب- أيضا - الوقوع في اللحن، وقد خافه كبار الخطباء والبلغاء والخلفاء، قال الأصمعي: قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك الشيب! فقال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين، وقيل له أسرع إليك الشيب! قال: وتنسى ارتقاء المنبر ومخافة اللحن! (3)
ومن الحكمة أن يقيّم الخطيب المتدرب نفسَه وفق معايير الفصاحة السابق ذكرها، وأن يوقفه الأستاذ المدرب على عيوبه في النطق، وفي مخارج الحروف، وفي الأخطاء اللغوية والبلاغية، وفي الوقوع اللحن أو خلوه منه، وفي طريقة الأداء، كي تصقل ملكته الخطابية وتنجم مهارته البيانية.
3 -
سرعة البديهة:
هو وصف لازم للخطيب المصقع، لأن الخطيب إنما هو بمثابة المعلم
(1) ت: البر والصلة (2018)، قال في مجمع الزوائد 8/21: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح
(2)
انظر بيان تلبيس الجهمية 1/370
(3)
البداية والنهاية 9/ 68 - 69
الموجه، ومن مقومات ذلك سعة الإدراك وسرعة الفهم وإصابة التأويل، وقد يُقاطَع أو يعارض أثناء الخطبة أو بعدها فإذا لم يحسن الرد ولم يتقن المحاجة في حسم وإقناع، فقد مكانته وفقد مع ذلك عامل التأثير.
والبديهة والبديهي: ((هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، سواء احتاج إلى شيء آخر من حدس أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج..)) (1)
فكأن سرعة البديهة موهبة تبرزُ في الإنسان دقةَ الفهم وسرعته.
ومن البديهة: النباهة والذكاء والفطنة والكياسة واللباقة وكلها ألفاظ مترادفة متقاربة، وهي من معاني الإنسانية ولوازمها فالإنسان مخلوق ذكي، وهذا هو الأصل فيه، ولا يعتريه الخبل أو الحمق أو البلادة إلا لعوامل، وتزول هذه العوارض بزوال مسبباتها، وقد ذهب أماثل علماء التفسير إلى أن قوله تعالى:{هَل أَتَى عَلى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (2) معنى قوله لم يكن شيئا مذكورا لم يكن شيئا له نباهة ولا رفعة ولا شرف إنما كان طينا لازبا وحمأ مسنونا (3)
ومن لطائف ما يذكر عن نباهة العالم والمتعلم والخطيب والمخاطب ما ذكره القرطبي عن ابن العربي في تفسيره قال: ((كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية يعرف بابن عطاء! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: ياشيخ! ياسيدنا! فإذاً يوسف هم وماتم قال: نعم! لأن العناية من
(1) التعريفات للجرجاني ص 63
(2)
سورة الإنسان: 1
(3)
جامع البيان للطبري 29/126
ثمّ. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله وجواب العالم في اختصاره واستيفائه!)) (1)
وما من ريب أن أذكى الأذكياء هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله له كل خصائص الفهم والفطنة والإدراك التي تفرقت في آحاد الناس، وفوق ذلك أكرمه الله تعالى واصطفاه بمقام النبوة، وقد عد ابن حجر (46) وجها لفطنته وفهمه وقوة بصيرته صلى الله عليه وسلم وذلك في موضع قوله صلى الله عليه وسلم:"الرؤيا الحسنة من الرجل جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"(2) ، (3) .
وفي تقويم الخطيب توضع عادة ثلاثة معايير لمعرفة سرعة البديهة لدى الخطيب وهي: سرعة الفهم مع الإصابة فيه، التفاعل التلقائي مع الجمهور، حُسن التصرف في الوقت المناسب.
4-
حرارة العاطفة:
ويقصد بها الانفعال المحمود، وهو تعبير لاشعوري عن قوة الخطيب الوجدانية وإيمانه بالفكرة التي يدعو إليها أو يلاحي عنها وصدق لهجته، وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومسّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد: فان خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9/168
(2)
خ: التعبير (6983)
(3)
انظر: الفتح 12/366
صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (1)
قال النووي رحمه الله: يستدل به على أن الخطيب يستحب له أن يفخم أمر الخطبة ويرفع صوته ويجزل كلامه، ويكون مطبقا للفعل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً وتحديده خطباً جسيماً (2)
وانفعال الخطيب إنما ينبغي أن يكون منبعثا من قوة إيمانه وصدق لهجته وتمام إخلاصه، وما يخرج من القلب يلج القلب، وكما قالوا في تأثير الخطيب وبلوغه إلى مكامن القلوب: إن النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة! فالخطيب الصادق المخلص يظهر صدقه في نبرات صوته وحمرة عينيه ونور وجهه، وجديته وصرامته. وتلك أمور يعرفها الحذاق المتمرسون من الخطباء والبلغاء.
5-
رباطة الجأش (الاستعداد النفسي) :
الخطابة في حقيقتها تعبير عن خلجات النفس وأحاسيسها ومشاعرها! والناس يتفاوتون في إبداء ذلك وإخفائه بحسب مواهبهم الخطابية ومداركهم العقلية ومشاعرهم الوجدانية، فأقواهم عارضة أكثرهم بلاغة وأقدرهم على التعبير الصادق المؤثر! لذا قال البلاغيون: أصل البلاغة الطبع. والخطيب البارع هو من يخطب في يسر وسلاسة، فلا يجد عناء ولا تكلفا ولا مشقة، وهذا لازم كي يكون الخطيب لبقا ذا سطوة، والاستعداد النفسي يرتبط بالموهبة الفكرية والملكة اللسانية وقوة المنطق وحلاوته، ويتحقق بتضافر أمرين أولهما: ترك الاستعانة وهي إما قولية كالإكثار من قوله (يعني) أو (اسمعوا) أو (أفهمتم) أو
(1) م: الجمعة (867)، ماجة: المقدمة (45)، أحمد: المكثرين (13815)
(2)
المنهاج 6 / 403
(أسمعتم) ونحو ذلك مما هو معيب ممجوج. وإما فعلية كالعبث باللحية وفرقعة الأصابع أو الإكثار من التنحنح بغير حاجة..
الأمر الثاني: الخلو من مظاهر الحصر والعي، وهي كثيرة منها: تصبب العرق أثناء الخطاب وبرودة الأطراف وجفاف الحلق وسرعة ضربات القلب أو الخفقان وبحة الصوت.والحصر كما يقول علماء النفس أمر طبيعي في الأغلب فلا يجفلن منه الخطيب المبتدئ، إذ يعرض لجل الناس ولا يمكث إلا ثوان ثم يزول مع مواصلة الخطابة، وإنما يصاب به من الناس من يميلون بالطبع إلى الانعزال والانطواء والتقوقع حول ذواتهم.
وعلاج الحصر والعيّ يكمن في ثلاثة أمور:
أولها: أن يتسم الخطيب بروح المشاركة والمداعبة، ويحاول جاهدا مغالبة طبعه الانطوائي، وكثير من الطباع تتغير وتتحور بمغالبة النفس المستمرة وبقوة الإرادة والعزيمة، فلا يترك مجالا اجتماعيا إلا ويضرب فيه بسهم حتى يزول الحاجز النفسي الوهمي بينه وبين الناس، فإن النفس تجنح إلى الإلف والعادة فإذا تعودت الحديث والمرح اعتادته، وإذا عودت الصمت الدائم والصرامة في كل الأحوال اعتادتها أيضا.
الثاني: الممارسة والتدرب والمران، فإن المرء لا يولد خطيبا وإنما تولد معه موهبة الخطابة وعليه استحثاثها وصقلها وتنميتها بكثرة الممارسة والتدرب والتجربة، ومع التدرب لابد من التقويم، وقد يتعثر الخطيب في بداية حياته الخطابية وتكون له كبوة وكبوة، ثم ومع الأيام يتمرس ويتعود ويشتد عوده وتقوى عارضته وينصع بيانه ويجل كلامه، فيصبح مع الأيام خطيبا مصقعا مفوها لا يشق له غبار، ولا يكتشف له عوار!
الثالث: وهو من أنجح العلاج وأنجعه، إنها مداومة ذكر الله جل وعلا واستغفاره سبحانه، قال عز وجل:{الذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ} (1)
هذا ملخص المعايير التوفيقية الأساسية التي تستكشف بها الموهبة والملكة والبديهة. ولا بد أن تؤازرها المعايير التحويلية التي يتحول إليها الشخص ويتحور بها فكره ونظره، وسبيلها التعلم والتطبع.
وفيما يأتي بعض نصائح لكل خطيب ومحاور ومجادل ومتحدث ومحاضر.. على اختلاف أنواع الأنماط البيانية، وهذه النصائح من شأنها تحقيق الثقة بالذات تتلخص في الآتي:
1-
وجه بصرك مباشرة نحو الأشخاص الذين تتحدث إليهم، وخفف من لهجة حديثك إذا شعرت بتوتر حتى تبدو هادئا.
2-
تنفس باطمئنان، فالتنفس السليم يلعب دورا هاماً في الاحتفاظ بالطمأنينة ويمكنك لبضع لحظات أخذ نفس عبر أنفك على نحو بطئ تشعر معها بانتفاخ بطنك تدريجيا، ثم أطلق زفرة ببطء بحيث تشعر معه هبوط بطنك على نحو تدريجي يمكنك القيام بهذا التمرين لدقيقتين يوميا يمكنك معه التحكم في تنفسك تحت أي ظرف.
3-
احتفظ بوضع جلوس سليم، بحيث يكون الجلوس بصورة فيها استقامة الظهر من غير انحناء ولا استرخاء، وأما الجلوس بوضع سيئ فإنه يشكل علامة من علامات تدني احترام الذات فضلا عما يسببه من تعب وآلام الظهر.
(1) سورة الرعد: 28
4-
لا تقدم على مقارنة ذاتك بالآخرين، لأن كل شخص يتميز بمهارات ومواهب مختلفة عن تلك التي يتسم بها الآخرون، فإذا كرس المرء اهتماما بالغا بما يفعله أو ينجزه الآخرون فإنه سوف يفقد الإحساس بذاته.
5-
لا ينبغي أن تشعر بالإحباط لمجرد الوقوع في خطأ أو الإخفاق في إنجاز مهمة، فهناك أشياء عظيمة يمكن تحقيقها مستقبلا، وتجنب دوما الإفراط في نقد الذات ومحاسبتها كي لا يكون الإفراط في نقد الذات عاملا للانتكاس، واحرص على الاستفادة من الدروس التي تعلمتها من أخطائك ومن ثم تطلع إلى المستقبل بروح إيجابية.
6-
هيئ نفسك لتحقيق النجاح بالإعداد الجيد لما تصبو إليه من درس أو محاضرة أو خطبة وبالإطلاع الواسع في موضوعه، وبإحسان الهيئة والمظهر لأن ذلك سيشعر الآخرين بأنك جدير بما تطمح إليه.
7-
لا تبالغ في الاهتمام بآراء الآخرين، وتذكر دوما أنه ليس هناك شخص كامل، فلكل هفواته وزلاته، والمهم الأخذ بالصحيح والإشادة به وفي المقابل نبذ ما ليس كذلك.
المعايير التحويلية (صفات الخطيب الكسبية) :
لا جرم أن الخطابة أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل، وهي الأسلوب المباشر الذي يخاطب العقول والضمائر ويحرك الوجدان والمشاعر، وتتلقاه الأسماع والأبصار، في آن واحد معا، فالخطابة على هذا من أمثل أساليب الدعوة إلى الله. ومن أهم المعايير التحويلية التي هي مقياس لمعرفة براعة الخطيب ومدى قدرته على التأثير بالكلمة:
1-
الإخلاص: فهو بيت القصيد، ولقد فاز المخلصون بسعادة الأبد في
الدار الآخرة كما حازوا القبول في الدنيا فمن خطب الناس ولم يكن همه السمعة ولا الرياء ولا أن يقال فلان خطيب مصقع وخطيب مفوه. ثم لم يكن ليبتغي عرضا زائلا ولا حطاما فانيا، كان إن شاء الله من أهل الإخلاص، وما أجل البغية التي يسعى إليها المخلصون من الخطباء والوعاظ والمصلحين! إنها ابتغاء وجه الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1)
ولقد كان السلف شديدي الحرص على تحقيق الإخلاص قبل الخطبة أو الموعظة وأثناءها وبعدها بمحاسبة النفس والإزراء عليها وتفقدها.
والإخلاص أمر غيبي لأنه من أعمال القلوب ولا يعرف ما في القلوب إلا الله جل وعز، ومن ثم فإن هذا المعيار معيار افتراضي، ولا مندوحة من ذكره في سلسلة المعايير التي يتم بها تقويم الخطيب، وما من ريب في أن الإخلاص تظهر أماراته في أقوال الخطيب وتصرفاته ومواقفه ولا يخفى ذلك إذ يظهر في ثنايا كلامه.
2-
العلم:
وهو المعبر عنه بسعة الاطلاع، وسعة علم الخطيب وكثرة اطلاعه ومعرفته بدقائق موضوع خطبته هي الذخيرة والمادة التي يصوغها ويعرضها وتظهر في ذلك براعته، وقد يبتدئ بالخطابة من ليس يتصف بعلو الكعب في الإطلاع على المعارف قديمها وحديثها ومن ليس من أهل الحذق في هذا المضمار.. وقد يكون خطؤه أكثر من صوابه، وقد يكون العكس، لكنه لا يضطلع بمهام
(1) متفق عليه: خ بدء الخلق (1)، م: الإمارة (1907)
الخطابة على الوجه المنشود إلا من اتسعت دائرة معارفه.
والعلم علمان شرعي ومدني، فالعلم الشرعي يعتمد على الكتاب والسنة وفهم السلف لهما وهذا العلم هو المراد إذا أطلق، والعلم الشرعي مادة الخطيب العلمية وعماده بعد الله تعالى، وينبغي أن يتضلع منه ويتمكن قبل أن يعتلي المنبر! فإن الخطيب بمنْزلة المعلم والمرشد فإذا لم يف بمسالك هذا العلم الشريف لم يتقن صنعة الخطابة الوعظية وربما كان خطأه أكثر من صوابه، ولم ينزل الشرع بدقائقه وتفاصيله إلا ليبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم للناس فيعوه حق الوعي ويستمسكوا به، قال تعالى:{وَأَنزَلنَا إِليْكَ الذِّكْرَ لتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّل إِليْهِمْ وَلعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) فإذا كان الخطيب جهولا بمعطيات النص الشرعي عاجزا عن استثماره واستخراج دلالاته واستيعاب مقاصده ومراميه افسد ما يبتغي إصلاحه، وقد ورد على لسان الشرع التحذير من القول على الله بغير علم قال تعالى {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لمْ يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَنْ تَقُولوا عَلى اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ} (2)
وقد ذهب جمع من علماء التفسير إلى أن المحرمات المذكورة في الآية الشريفة سيقت على وجه التدرج من الأدنى إلى الأعلى فيكون القول على الله بغير علم أعظمها جرما وأشنعها حالا.. (3)
ومما يدل على أهمية العلم الشرعي في حياة الخطيب وأنه ينبغي أن يكون
(1) سورة النحل: 44
(2)
سورة الأعراف: 33
(3)
إعلام الموقعين 1/38
دقيقا في تعبيره متحريا الصواب في موضوع خطبته لا سيما ما يتعلق بالعقيدة وبخاصة التوحيد ولوازمه ومقتضياته حديث عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت، قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"(1)
وأما العلم المدني فعماده التجريب والدليل العلمي، ولا بد أن يأخذ الخطيب من كل علم من العلوم المدنية والكونية بطرف! وقد تنوعت العلوم المدنية اليوم وانتشرت فعصرنا عصر الثورة العلمية كما يقول المثقفون: والعلوم التخصصية المتاحة كثيرة كالطب بفروعه المتعددة، والزراعة، والهندسة بأنواعها، والفلك، والكونيات، والعلوم الإنسانية، وغيرها كثير..
ولكل علم في كتاب الله بيان وذكر، إما على الإشارة والإجمال وإما على سبيل التفصيل والتوضيح، والخطيب البارع هو الذي يرتقي بخطبته إلى مستوى علمي يشبع في المستمعين توجهاتهم الفكرية ويثري فيهم الجانب المعرفي فلا يغفل تلك العلوم بالاقتباس منها، والاستدلال الصحيح على ما هو بصدده، ويربط ما يود الاستدلال به بالقضايا الإيمانية التي يتحدث فيها، لا سيما وقد شاعت هذه العلوم اليوم وذاعت وانتشرت.
وفي تحقيق هذا المعيار لتقويم الخطيب توضع عادة نقاط إيجابية في قائمة التقويم العلمي منها: قدرة الخطيب على استيفاء أهم عناصر الخطبة، وقدرته على جمع الأدلة والاستدلال بها استدلالا صحيحا، وقدرته على الربط بين عناصر وأجزاء الخطبة، ومدى تحقيقه لعنصر الجدة والأصالة.
(1) م: الجمعة (870)، د: الصلاة (926)، ن: النكاح (3279)
3-
الصدق في القول والعمل والقصد: وحسبنا دلالة على فضل الصدق وأهميته ورفعته أنه حلية أهل الإيمان والتقى، وأن ضده الكذب سمت أهل النفاق والشقاق!
إن للصدق لتأثير عجيبا في سلوك الإنسان وسمته وهدية ودله! وإنك لتكاد تعرف الخطيب أو الواعظ الصادق من غيره، وقد قال قديما أحد أبناء الوعاظ يا أبت إن فلانا من الوعاظ اعلم منك لكنه لا يصل إلى القلوب كما تصل؟ فقال يا بني ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة!
وصدق العمل هو بيت القصيد فالكلام كثير والمواعظ أكثر والناس في عصرنا لا يحتاجون إلى الخطب الرنانة والمواعظ الطنانة بقدر ما يحتاجونه من العمل الصادق والقدوة الحسنة والامتثال الحي وفي التنزيل الحكيم: {يَاأَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا لمَ تَقُولونَ مَا لا تَفْعَلونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولوا مَا لا تَفْعَلونَ} (1)
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه"(2)
وفيما تقدم الوعيد الشديد لمن خالف قوله فعله، وتناقضت علانيته وسره، والخطباء والوعاظ والمربون هم أولى الناس بالصدق في الالتزام بما يقولون ويعظون ويدرسون.
(1) سورة الصف: 1 - 3
(2)
متفق عليه: خ: بدء الخلق (3267)، م: الزهد (2989)
ولصدق الخطيب الواعظ معنى آخر وهو أن يكون ذا سمت ووقار بأن يكون مشتغلا بمعالي الأمور مترفعا عن سفاسفها، خيره مبذول وشره مكفوف أصدق الناس لهجة وأمضاهم عزيمة وأقربهم إلى البر والرشد لا يلهو مع اللاهين ولا يغفل مع الغافلين، وقد جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا قلت: صف لي منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلم كلامه فصل لا فضول ولا تقصير ليس بالجافي ولا المهين يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا غير أنه لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها إذا أشار أشار بكفه كلها وإذا تعجب قلبها وإذا اتصل بها وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى وإذا غضب أعرض وأشاح وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم يفتر عن مثل حب الغمام» (1) .
ومما يذكر في هذا الصدد من سير الخلفاء رضي الله عنهم ما رواه سالم عن أبيه قال كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شيء دخل إلى أهله أو قال جمع فقال إني نهيت عن كذا وكذا والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني فمن شاء فليتقدم
(1) الشمائل المحمدية: الترمذي باب كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 184 - 185
ومن شاء فليتأخر (1)
وفي تقويم الخطيب وفق هذا المعيار تلاحظ عدة أمور منها: المظهر الإسلامي العام، التفاعل مع موضوع الخطبة، شخصية الخطيب ووقاره وسمته، مدى تأثر المخاطبين وتفاعلهم معه أثناء الخطبة، مدى التزامه بما يقول.
4-
معرفة نفسية المخاطبين وطباعهم وأخلاقهم:
إن معرفة المخاطبين من الأمور الأساسية للخطيب، فقد يكون الخطيب عالما متبحرا لكنه لا يعي كيف يوصل هذا الخير الذي يحمله بين جوانحه إلى الناس وما هي طرائق التبليغ المرتبطة بمعرفة أحوال المستمعين!
ومن فقه الدعوة إيقاع الخطاب على حسب حال المخاطب، وهذا ما نوه به كثير من حكماء الدعاة كقول علي رضي الله عنه:((حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (2)
وقول ابن مسعود رضي الله عنه: ((ما أنت محدث أحدا بكلام لا يعرفه إلا كان لبعضهم فتنة)) (3) وقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((قوله تعالى: {وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (4) أي حكماء فقهاء، والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره)) (5)
وقد ورد في نصوص الشرع الحض على معرفة ذلك، فالناس مختلفون في
(1) الجامع لمعمر بن راشد 11/343 (20713)
(2)
خ: العلم (127)
(3)
م: 1 / 11 (المقدمة)
(4)
سورة آل عمران: 79
(5)
خ: العلم 1 / 160
طباعهم وميولهم ورغباتهم، ولكل فئة من فئات المجتمع خصائص يعرفون بها باعتبار الأعمار كفئة الشباب وفئة الشيوخ وفئة النساء والأطفال، أو باعتبار المهن والمكانة الاجتماعية كالوجهاء والعلماء والعامة.
3-
استعمال الإشارة:
ورد في القرآن الكريم أن الإشارة تؤدي من الغرض البياني ما يؤديه اللسان في بعض الأحيان كما في قصة مريم عليها السلام قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا} (1) والإشارة لغة منظورة هي كما تكون باليدين والأنامل تكون كذلك بالعينين والحواجب والرأس، ولكل أمة فهم معين للغة والإشارة، والإشارة قد تؤدي من المعاني ما لا يؤديه اللسان، ولهذا قالوا: رب إشارة أبلغ من عبارة!
ومن أدلة مشروعيتها:
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (2) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنْزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال جمعه لك في صدرك وتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له
(1) سورة مريم: 29
(2)
سورة القيامة
وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إن علينا أن تقرأه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه» (1) .
- وما أخرجه البخاري في كتاب العلم، قال باب من أجاب الفتا بإشارة اليد والرأس، ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته فقال - يعني السائل - ذبحت قبل أن أرمي "فأومأ بيده قال: ولا حرج" قال حلقت قبل أن أذبح، قال:"فأومأ بيده قال "ولا حرج"(2) .
- ومن الأمثلة قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى"(3)
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج، قيل يا رسول وما الهرج؟ قال: هكذا بيده فحرّفها كأنه يريد القتل"(4)
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا"(5)
- وقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. ثم شبك بين أصابعه"(6)
(1) خ: بدء الوحي (4)
(2)
متفق عليه: خ: العلم (84)، م: الحج (1037)
(3)
متفق عليه: خ: (5301)، م: الفتن (2950)
(4)
متفق عليه: خ: العلم (85)، م: العلم (157)
(5)
متفق عليه: خ: الطلاق (5304) واللفظ له، م: الزهد والرقائق (2983)
(6)
متفق عليه: خ: الصلاة (481)، م: البر والصلة (2585)
- وفي حديث ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَسَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالثَةِ"(1)
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "
…
وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله! ثم أقبل على ثديها يمصه. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص أصبعه" (2)
ففي هذه الأحاديث مشروعية استخدام الإشارة أثناء الخطبة والفتوى والتعليم وأن ذلك مما يعين الخطيب والمعلم على إيصال ما يقوله إلى المستمع في صورة جلية ليسهل استيعابه وفهمه، وأن أكثر الإشارة ينبغي أن تكون باليدين والكفين والأصابع لأنها موضع ذلك في الأغلب وعلى جاري عادة الناس.
وينبغي عدم الإكثار من الإشارة كي لا يخرج عن حد الوقار، بل التوسط أعدل الأحوال، وفي حديث عمارة بن رويبة رضي الله عنه قال:«لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بأصبعه المسبحة» (3) .
والإشارة كما تكون باليد والأصابع تكون أيضا بالعين والرأس كما مر معنا قبل قليل، ومما يذكره الحذاق في إشارات العين: ((أن العين المفتوحة تمثل الغيظ أو الخوف أو الإعجاب، والعين المغلقة تشير إلى التواضع أو البغضاء، والنظر الشزر يترجم عن الاحتقار والاستهانة، والعين المتحركة يمينا وشمالا تنبئ
(1) متفق عليه خ: الصوم (1908) واللفظ له، م: الصيام (1080)
(2)
متفق عليه: خ: أحاديث الأنبياء (3436)، م: البر والصلة (2550)
(3)
م: الجمعة (874)
عن الرياء والاشمئزاز، والعين المنطلقة إلى السماء ترمز إلى الدعاء، والنظر إلى الأرض تعبر عن التأثر والخشوع والحياء، والعين المستقرة في نظرتها تفسح عن الشدة والثبات والرجاء، والعين اللامعة ترجمان عن الظفر)) (1)
وفي تقويم هذه المهارة في ترصد قدرة الخطيب على استخدام الإشارة أثناء خطبته، وعدد مرات استخدام تلك الإشارة وهيئتها وكيفية استخدامه لها ووقعها، ومدى التوافق بين الإشارة والمعنى المتلفظ به.
4-
توخي السنة، ومنها:
أ- أن يخطب قائما ففي التنْزيل الحكيم: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لهْوًا انفَضُّوا إِليْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُل مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنْ اللهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2)
وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب - يعني يوم الجمعة - قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، قال فمن حدثك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فلقد صليت معه أكثر من ألفي صلاة» (3) ومعلوم أن القيام في الخطبة أوقع في النفس وأسمع لمن بعد مجلسه، ولأنه يجتمع مع السماع المشاهدة، فقد لا يرى الخطيبَ الجالسُ في مؤخر المجلس أو المسجد، ولهذا يشرع أن يعتلي الخطيب نشزا من الأرض إن لم يجد منبرا ليشاهده الناس ويعوا ما يقوله.
ب- الخطبة على المنبر ولا سيما يوم الجمعة: وفي السنة أنه صلى الله عليه
(1) الدعوة الإسلامية والإعلام الديني د. عبد الله شحاتة ص 26
(2)
سورة الجمعة: الآية 11
(3)
م: الجمعة (862)
وسلم قال لامرأة من الأنصار (مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس) فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها فأرسلت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت ها هنا ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال:(أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي)(1)
ج- استخدام أسلوب طرح السؤال ثم إردافه بالجواب ليكون أوقع في النفس وأجلب للانتباه ومن عشرات الأمثلة عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد قيس: "أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ قَالوا اللهُ وَرَسُولهُ أَعْلمُ قَال شَهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللهِ وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ" الحديث (2)
وأيضا حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَال: "خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَال: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلنَا اللهُ وَرَسُولهُ أَعْلمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَال أَليْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلنَا بَلى قَال أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلنَا اللهُ وَرَسُولهُ أَعْلمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَال أَليْسَ ذُو الحَجَّةِ قُلنَا بَلى قَال أَيُّ بَلدٍ هَذَا قُلنَا اللهُ وَرَسُولهُ أَعْلمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَال أَليْسَتْ بِالبَلدَةِ الحَرَامِ قُلنَا بَلى قَال فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ عَليْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلدِكُمْ هَذَا إِلى يَوْمِ تَلقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلا هَل بَلغْتُ قَالوا نَعَمْ قَال اللهُمَّ اشْهَدْ فَليُبَلغْ الشَّاهِدُ الغَائِبَ
(1) متفق عليه: خ: الجمعة (917)، م: المساجد (544)
(2)
خ: الإيمان (53)
فَرُبَّ مُبَلغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" (1)
- وحديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: "خَرَجَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَال: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُل يَوْمٍ إِلى بُطْحَانَ أَوْ إِلى العَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ" فَقُلنَا: يَا رَسُول اللهِ نُحِبُّ ذَلكَ. قَال: "أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلى المَسْجِدِ فَيَعْلمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل خَيْرٌ لهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلاثٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الإِبِل" (2) ومثل هذا في السنة النبوية كثير.
د- الإمساك بعصا أو نحوها، فهو من السنة قال القرطبي:((الإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا فالعصا مأخوذة من أصل كريم ومعدن شريف ولا ينكرها إلا جاهل وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما آمن به السحرة المعاندون واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم)) (3)
(1) متفق عليه: خ: الحج (1741)، م: القسامة (1679)
(2)
م: صلاة المسافرين (803)
(3)
الجامع لأحكام القرآن 11 / 188 – 189
- حسن المظهر: على الخطيب أن يتهيأ تهيأ حسنا بما يليق ومقام الخطبة، فيرتدي أجود ثيابه.
وفي هذا حديث أبي الأحوص عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون فقال: ألك مال؟ قالت نعم. قال: من أي المال؟ قلت قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته» (1)
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال "(2)
وفي حديث البراء رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا [يعني: ليس بالطويل ولا بالقصير] بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه» (3)
وفي رواية: «ما رأيت أحدا أحسن في حلة حمراء من النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض أصحابي عن مالك أن جمته لتضرب قريبا من منكبيه» (4)
وفي حديث أبي رمثة رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وعليه بردان أخضران» (5) .
(1) د: اللباس (3541)، ن: الزينة (5223 –5224)، أحمد: المكيين (15323)
(2)
م: الإيمان (91)، ت: البر والصلة (1998)، أحمد: المكثرين (3600)
(3)
متفق عليه: خ: المناقب (3551)، م: الفضائل (2337)
(4)
متفق عليه: خ: اللباس (5901)، م: الفضائل (2337)
(5)
د: اللباس (3543)، ت: الأدب (2737)، ن: صلاة العيدين (1572)، أحمد: المكثرين (6814) قال الحاكم في المستدرك 2/664 (4203) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
هذا بعض ما ورد في أهمية الاعتناء بالمظهر والهيئة من أناقة وتشذيب وأن ذلك نمط إسلامي يلتزمه المسلم في حياته العامة والخاصة، لاسيما في المناسبات كالخطب ونحوها دون غلو ولا تهاون، وينبغي للداعية أن يكون على هذا المنوال في سائر أحواله لأنه موضع القدوة سيحتى في زيه وسمته ومظهره فلا يعدل عن الزينة المباحة إلى الرثاثة مع قدرته على تجنبها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "البذاذة من الإيمان"(1) والبذاذة هي التقشف فيحمل على التواضع في اللباس وتجنب الإسراف فيه والفخر به، لأن المراد هنا ترك الترفع والتنطع في اللباس، والتواضع فيه مع القدرة لا لسبب جحد نعمة الله كما قال ابن حجر في الفتح.
ومن العناية بالمظهر الاعتناء بلباس التقوى في الأقوال والأفعال، فيعفي لحيته إتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويحف شواربه بأن يأخذ مها ويقلم أظافره ويستاك ويتطيب ولا يسبل إزاره.. إلى غير ذلك من سنن الفطرة.
ومن تطابق قوله وفعله وتناسب سمته وهيئته صار له من القبول في القلوب بقدر إخلاصه وصدقه ورفعه الله عز وجل بذلك درجات في الدنيا والآخرة. قال ابن قدامة: ((ويستحب أن يكون في خطبته متخشعا متعظا بما يعظ الناس به لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرض علي قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقيل لي: هؤلاء خطباء أمتك يقولون ما لا
(1) د: الترجل (3630)، ماجة: الزهد (4118)، أحمد: الأنصار (21289) قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين 1 / 51 (18) .
قد احتج مسلم بصالح بن أبي صالح السمان أحد رجال الحديث وقال ابن حجر في الفتح 10/ 368 هو حديث صحيح.
يفعلون" (1)) ) (2)
وفي التقويم وفق هذا المعيار تلاحظ ثلاثة أمور جوهرية: اللبس والزي والهندام المناسب، المظهر العام، السمت والوقار ومدى تطابق القول والفعل.
5-
الشرف والفضل:
على الخطيب أن يثبت فضيلة نفسه ضمنا، لأن الناس لا تتأثر ولا تأخذ إلا عمن اتسم بالفضل والألفة أو التفوق أو المعرفة، فالنفوس مجبولة على التأثر بمن له ميزة يتفوق بها.
ومما يستدل على أثر الشرف والفضل ما قصه الله علينا من قصص طائفة من أنبيائه فنوح عليه السلام يمهد لدعوته قومه بقوله: {أُبَلغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لكُمْ وَأَعْلمُ مِنْ اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ} (3) ولا ينصح إلا صاحب فضل وعلم في الأغلب وعلى جارى السنة، وانظر كيف أشعرهم هذا النبي الكريم بتميزه عنهم بقوله {وَأَعْلمُ مِنْ اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ} فهو يثبت لنفسه العلم وينفيه عنهم! ليأخذوه عنه.
وهود عليه الصلاة والسلام قال لقومه: {أُبَلغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا
(1) أحمد: المكثرين (11766) ، وشعب الإيمان للبيهقي 2 / 283 (1773) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب 1/72 (207) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وقد رجعت إلى الصحيحين ولم أجده فلعله توهم. قال في مجمع الزوائد 7 / 276 للحديث روايات رواها كلها أبو يعلى والبزار ببعضها والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد أبي يعلي رجاله رجال الصحيح.
(2)
المغني للمقدسي 3/ 180
(3)
الأعراف: 62
لكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (1)
وصالح قال لقومه: {يَاقَوْمِ لقَدْ أَبْلغْتُكُمْ رِسَالةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (2) وفيه أن الناصح المخلص تجب محبته ومن كان محبوبا كان مقبول الكلام.
وشعيب قال لقومه: {فَتَوَلى عَنْهُمْ وَقَال يَاقَوْمِ لقَدْ أَبْلغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (3)
ثم إن هذا التفوق المستشعر أمر معنوي كما ترى فقد يتوافر في شخصية الخطيب لكن المخاطبين لديهم من اعتلال النفوس ما يحول بينه وبين التأثر المطلوب كما تقدم في دعوات نوح وشعيب وصالح وهود عليهم الصلاة والسلام.
أهمية الارتجال في الخطابة:
كثير من الباحثين لا يعتبرون القراءة من ورقة خطابة، تأسيسا على أن من أخص خصائص الخطابة المشافهة والارتجال، ومن أبرز عيوب الارتجال:
1-
عدم تحقق الجمال التعبيري للأسلوب الخطابي: بنفس الكيفية المتحققة في طريقة الإلقاء من ورقة مكتوبة، إلا إذا تمرس الخطيب على أساليب الخطاب ويمكن من انتقاء الكلمات المعبرة، واقتدر على التأنق في العبارة، وجرى ذلك منه مجرى الدماء في العروق.
(1) الأعراف: 68
(2)
سورة الأعراف: 79
(3)
سورة الأعراف: 93
2-
لا يتأتى حصر العناصر وترتيبها بدقة كما هو الحال في الطريقة الأولى السابق ذكرها إلا إذا كان الخطيب مستوعبا لموضوع خطبته استيعابا دقيقا، ولم تنسه رهبة الموقف بعض عناصر الموضوع.
3-
التقيد بالزمن المحدد مرتبط بمدى إحساس الخطيب بمرور الزمن، وكثيرا من الخطباء يفقدون هذا الإحساس في غمرة الانفعال الخطابي.
4-
الارتجال مظنة لكثرة الأخطاء اللغوية والتعبيرية والخطابية وغيرها.
ومن محاسن الارتجال: قدرة الخطيب على إدارة دفة الخطاب وتغيير اتجاه الحديث من أسلوب إلى آخر وفق ما قد يستجد من ظروف ما بحسب ما يقرؤه في وجوه مستمعيه من تفاعل.
هذا، وبعض الخطباء والمحاضرين يجمع بين الطريقين الكتابية والارتجالية فيضع الورقة في مكان لا يراها غيره فيلحظها بطرف البصر ويتذكر ما عسى أن يكون قد نسيه، وهكذا يخيل للناس أنه يرتجل وليس الأمر كذلك.
المسلك الثالث: التدرب على التقويم.
كثيرا ما يكون الخطيب ذا ملكة نقدية يقوم نفسه ويحاسبها بعد فراغه من الخطابة، يتأمل الجوانب الإيجابية والسلبية في خطبته على ضوء الدراسة النظرية السابقة، وكثير من مشاهير الخطباء تدرجوا في سلم الخطابة وحققوا أعلى المستويات الخطابية بالتقويم الذاتي، بالتصحيح ما يمكن تصحيحه من الأخطاء الخطابية والاجتهاد قدر الوسع في تلافي ما لا يمكن تقويمه أو التقليل من وقعه خاصة مخارج الحروف، وعيوب النطق الأخرى. وقد يتولى التقويم مدرب متخصص وأستاذ متمرس.
عناصر التقويم والمعايير الانتقائية:
هنالك عدد من عناصر التقويم يمكن من خلالها اختبار الخطيب لمعرفة مدى قدرته على الخطابة باعتبار الموهبة الخطابية والكم المعرفي. ويمكن تلخيص أهم تلك العناصر المنتقاة في الآتي:
1-
الارتجال: ويتم تقويم هذا العنصر بأحد ثلاثة اعتبارات: (الارتجال الكلي، أو الجمع بين القراءة والارتجال، أو القراءة الكلية) بحسب قدرات الخطيب البيانية ومدى تمكنه من الارتجال.
2-
قوة الصوت ونقاوته (قوة الصوت، التناسق بين نبرات الصوت، القدرة على تكييف الصوت مع المواقف الخطابية)
3-
رباطة الجأش (الخلو من مظاهر العي والحصر، توزيع النظرات، التأني في الإلقاء)
4-
سلامة اللغة (مراعاة قواعد النحو والصرف، تضافر مؤشرات الفصاحة والبلاغة)
5-
استيفاء أطراف الموضوع. (توافر العناصر، ترابطها وتناسقها)
6-
استعمال الإشارة. (تنويع الإشارات، توقيتها مع الخطابة، التوسط في استخدامها)
7-
الالتزام بالوقت المحدد.
8-
التفاعل مع الخطبة (ارتفاع الصوت، احمرار العينين، اشتداد الغضب، صدق اللهجة)
9-
قوة الأسلوب الخطابي: (تنويع الأسلوب بين الخبر والإنشاء، مراعاة السكتات والوقفات، القدرة على التأثير على المستمعين)
10-
التحقيق العلمي (سوق الأدلة العلمية، التوثيق والعزو)
ويمكن اختصار هذه العناصر بذكر ما كتب بالبنط العريض فقط. ووضع درجة التقويم أمام كل عنصر، (لكل فقرة درجة، والمحصلة 10 درجات)
ولا بد أن يحصل المتدرب على الحد الأدنى على النحو الآتي:
6 درجات للمبتدئين، 8 درجات للمتمرسين، وترتفع الدرجة كلما تقدم الخطيب في أسلوب الأداء)
مع ملاحظة أن العناصر الثلاثة الأولى قد لا تتغير في أغلب الأحيان لأنها تعتمد على الملكة والموهبة، وباقي العناصر يمكن تطويرها على نحو قويم.