المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مناقشة رأي السيوطي: - تصحيح الحديث عند ابن الصلاح

[حمزة عبد الله المليباري]

الفصل: ‌مناقشة رأي السيوطي:

بل لابد من فقد الشذوذ ونفي العلة، والوقوف على ذلك الآن متعسر بل متعذر، لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم من يكون شيوخه التابعين، أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة، فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة في العلل فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله، لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته لاحتمال أن تكون له علة خفية لم يطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان ".

"أما القسم الثاني، فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره وعليه يحمل صنيع من كان في عصره ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته ".1هـ (1) .

‌مناقشة رأي السيوطي:

فعسى الحافظ السيوطي رحمه الله من خلال هذا التحليل أن يوجه كلام ابن الصلاح توجيها حسنا كي يوفق بينه وبين المعترضين عليه في مجال التصحيح، إلا أن سعيه هذا

(1) نقله الدكتور/ نور الدين عتر ـ حفظه الله ـ في كتابه: منهج النقد في علوم الحديث

ص:263ـ265، من رسالة التنقيح لمسألة التصحيح، للسيوطي، مخطوطة في الظاهرية،

في مجموع رقم:5896 عام.

ص: 34

ذهب بعيدا عن الواقع العلمي، وعن المرتكزات الأساسية التي استند إليها ابن الصلاح تدعيما لرأيه، كما سيتضح ذلك جليا من الآتي:

يستخلص من تعقيب السيوطي أن المانع من التصحيح في الأعصار المتأخرة مرجعه إلى صعوبه الاطلاع على الشذوذ والعلة، وتعذر الكشف عنهما في خبايا الروايات عند المتأخرين نظرا إلى تأخر عهدهم عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وطول أسانيدهم، ونزولها إلى حد بعيد، ومن ثم حمل النصوص الواردة في منع التصحيح على الصحيح لذاته، وجعل ما صححه المتأخرون من قسم الصحيح لغيره، مدعيا بأن التعارض بين ابن الصلاح ومخالفيه قد زال بذلك.

ومما لا شك فيه أن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة من أهم عناصر القبول، سواء كان الحديث صحيحا لذاته أم صحيحا لغيره، أو كان حسنا لذاته أو لغيره باتفاق المحدثين كما قرره الحافظ ابن الصلاح في مبحث الصحيح والحسن من مقدمته.

وعليه، فقد لوحظ في كلام السيوطي ما يلفت الانتباه من كونه خص الحديث الصحيح لذاته بضرورة انتفاء الشذوذ والعلة كشرط أساسي له، دون الصحيح لغيره، وهذا منه غير مقبول، بل هو مرفوض قطعا، لأن الخلو من الشذوذ والعلة شرط أيضا للصحيح لغيره، كما هو شرط كذلك في الحسن

ص: 35

لذاته ولغيره، ولهذا قلت سابقا: إن السيوطي رحمه الله في سبيل توجيهه لقول ابن الصلاح قد ذهب بعيدا عن الواقع العلمي الذي لا ينبغي العدول عنه.

فبما أن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة تعتبر أهم شروط القبول ـ على اختلاف مستوياته ـ فتخصيصه الصحيح لذاته بذلك الشرط دون سواه أمر يرفضه الإنصاف العلمي. وبناء على هذا، فإن كان كشف الشذوذ والعلة مما يعجز عنه المتأخرون لبعد عصرهم عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وطول الأسانيد عندهم، فإن المنع وارد أيضا في الصحيح لغيره إذا كان في رجال إسناده راو خف ضبطه، إضافة إلى وروده من طريق أخرى سواء على وجه المتابعة أو الاستشهاد. فالفصل بينهما بالمنع والجواز تكلف ظاهر، على أن الصحيح لذاته عندهم معناه: أن يكون رواة الحديث ثقاة عدولا، مع اعتبار شروط أخرى من اتصال وخلو من العلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحيح لغيره إذا كان في رجال إسناده راو خف ضبطه، إضافة إلى وروده من طريق أخرى سواء على وجه المتابعة أو الاستشهاد.

والجدير بالذكر أنه لا يلزم من ورود الحديث من طريق آخر ـ متابعة أو استشهادا ـ انعدام الشذوذ كليا إذ للشذوذ والعلة منافذ، ومداخل أخرى، حيث إن المتابعة تنفي الشذوذ عمن له المتابعة، وأما بقية الرواة فمعرضون لاحتمال الشذوذ والعلة، وكذلك الأمر في الشاهد فإنه ينفي الشذوذ والعلة عن المتن

ص: 36

الذي له شواهد، وأما سنده فمحتمل لوجود الشذوذ والعلة فيه.

وعلى فرض تسليم أن الشذوذ والعلة يزولان بشكل دائم بورود الحديث من طريق أخر ـ متابعة أو استشهادا ـ فمعنى هذا أن الكشف عنهما، والتأكد من خلو الحديث منهما ـ من خلال وروده من وجه آخر ـ ليس من خاصية المتقدمين وحدهم، بل يشاركهم فيه المتأخرون أيضا، فأبطل هو رحمه الله بقوله هذا استدلاله بما ذكره على منع التصحيح، ولم يعد سائغا له أن يقول: والوقوف على الشذوذ والعلة الآن متعسر بل متعذر لأن الإطلاع على العلل الخفية، إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم قلت:" لا يسوغ له أن يقول هذا لأن المتأخر بإمكانه الوقوف على زوال الشذوذ والعلة بمجرد معرفته أن الحديث ورد من طريق أخرى، كما يفهم من آخر كلامه حين قال: " أما القسم الثاني فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنيع من كان في عصره ومن جاء بعده

"

يضاف إلى هذا أنه ورد عن ابن الصلاح ما يرد دعوى السيوطي رحمه الله من أن الكشف عن الشذوذ والعلة من طرف المتأخرين متعسر بل متعذر، وذلك قوله في مبحثه حول كتاب المستدرك للحاكم: " فالأولى أن نتوسط في أمر فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به إلا

ص: 37

أن تظهر فيه علة توجب ضعفه "، فهذا كلامه رحمه الله صريح في احتمال توصل المتأخرين إلى اكتشاف العلة، فأصبح قول السيوطي ـ رحمه الله تعالى ـ مجرد دعوى بلا دليل.

وتجدر الإشارة إلى أن الحديث إذا ورد بإسناد واحد، ولم تتعدد طرقه، فإن جميع النقاد متقدمين كانوا أو ممتأخرين قد يعجزون عن تصحيحه، بل أحيانا ينتقلون إلى تعليله في حاله ما إذا تأكد تفرده في الطبقات المتأخرة، لأن العلة إنما تظهر وتدرك في حالتين هما: حالة التفرد، وحالة المخالفة، ولهذا صرح كثير من النقاد إن الحديث إذا لم تجمع طرقه لا تظهر صحته ولا علته، قال يحي بن معين:" لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه "(1) .

وقال الإمام أحمد: " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا"(2) وقال ابن المديني: " الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"(3) .

فإذا تأكد تفرد راو أو مخالفته من خلال الجمع والمقارنة، فذلك يمنع النقاد من تصحيحه، وبهذا يتضح مكمن الخلل في كلام الحافظ السيوطي رحمه الله وبعده عن الواقع العلمي. وأما بعده عن المرتكزات الأساسية التي استند إليها ابن الصلاح لتدعيم رأيه، فلكونه لم يعتبرها في تحليله، بل

(1) الجامع لأخلاق الراوي2/212.

(2)

المصدر السابق2/212.

(3)

المصدر السابق.

ص: 38

وجدناه يلجأ إلى أدلة أخرى لم يعتمدها ابن الصلاح أصلا، وذلك حين جعل سبب منع التصحيح هو صعوبة الإطلاع على الشذوذ والعلة، وتعذر الكشف عنهما من طرف المتأخرين لبعدهم عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم، بينما كان دليل ابن الصلاح على دعواه شيئا آخر غير ذلك، وهذا نص كلامه:" لأنه ما من إسناد من ذاك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان".

فالحافظ السيوطي رحمه الله استدل على المنع بعدم قدرة المتأخرين على الكشف من العلة، وعدم تأهلهم لذلك، بينما استدل ابن الصلاح بعدم وجود إسناد صالح للتصحيح في عصره لوقوع الخلل في أسانيدهم كما سبق تفصيله، دون أن يدعي رحمه الله عدم أهليتهم لذلك من حيث القدرة العلمية، وهذا المانع الذي ذكره ابن الصلاح يمنع المتقدمين أيضا لو كانت حالة الإسناد عندهم كحالته عند المتأخرين، فإذا زال المانع فبإمكان الجميع التصحيح والتعليل بإعمال القواعد النقدية مع الفهم والوعي.

والخلاصة: ان الحافظ السيوطي رحمه الله قد حاول من خلال تحليله أن يوفق بين قول ابن الصلاح في منع تصحيح الأحاديث في العصور المتأخرة، وبين قول المعترضين عليه والمجيزين لذلك، لكنه رحمه الله ابتعد كثيرا عن الواقع العلمي، والله أعلم.

ص: 39