الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: " فآل الأمر إذاً في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم "وقوله: " وصار معظم المقصود بما يتداول من أسانيد، خارجا من ذلك إبقاء سلسلة الإسناد "
فما المقصود "بالأجزاء وغيرها "؟ وما معنى تعذر الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؟ وكيف يتم له التعميم بقوله: " ما من إسناد من ذلك إلا ونجد فيه خللا يضر الصحة؟ وهل يقصد بقوله: " فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن " معرفة الصحيح والحسن في جميع الأحاديث أم في الأحاديث التي توجد في الأجزاء وغيرها؟
والإجابة على هذه التساؤلات تتوقف إلى حد كبير على ذكر بعض الأمور التاريخية، لها دور فعال في بلورتها.
مستجدات عصره وأثرها في معرفة الصحيح والحسن
.
إن المسيرة التاريخية للسنة النبوية يمكن تقسيمها إلى مرحلتين زمنيتين كبيرتين، لك منهما معاليمها وخصائصها المميزة: فأما الأولى فيمكن تسميتها " بمرحلة الرواية " وهي ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري تقريباً، وأبرز خصائصها هي كون الأحاديث تتلقى فيها وتنقل بواسطة الأسانيد والرواية المباشرة.
فالإسناد في هذه المرحلة كان بمثابة العمود الفقري، عليه يتم الاعتماد في تلقي الأحاديث ونقلها.
وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بـ" مرحلة بعد الرواية "، وفيها آلت ظاهرة الاعتماد على الأسانيد إلى التلاشي، لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب والمدونات التي صنفها أصحاب المرحلة الأولى في أخذ الأحاديث ونقلها، وإن كان القرن السادس الهجري يمكن اعتباره فترة انعطاف وتحول من مرحلة إلى أخرى، إذ ظهر فيه من بعض الأئمة الاعتماد على الرواية على شاكلة الأولى بدل الاعتماد على الكتب.
وبينما كانت الكتب المصنفة في المرحلة الأولى تنقل الأحاديث بأسانيدها الخاصة، فإن جل الكتب التي ظهرت في المرحلة الثانية إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على المدونات التي ظهرت في المرحلة الأولى، وإن كانت أساليب النقل، وطرق الأخذ تختلف من كتاب إلى آخر.
فمسند الإمام أحمد ـ مثلا ـ وهو نموذج لكتب المرحلة الأولى، عمدته في نقل الأحاديث هي الإسناد والرواية المباشرة، ولذلك يقول فيه صاحبه:" حدثني فلان " إلى آخر الإسناد في كل حديث يذكره.
وأما كتاب تفسير ابن كثير ـ مثلا ـ وهو نموذج لكتب المرحلة الثانية، فإن عمدته في نقل الأحاديث هي الكتب المصنفة في عصر الرواية، ولذلك تراه يحكي عن أصحاب كتب المرحلة الأولى، ويقول:" قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا فلان " وهكذا..
وقد بذلك المحدثون في كلتا المرحلتين جهودا مضنية لصيانة السنة وحفظها، وذلك بتقعيدهم لقواعد تتناسب مع مقتضيات كل مرحلة، وتستجيب للمستجدات الطارئة في كل منهما، فأنتج حفاظ المرحلة الأولى من الأصول الضوابط ما يضمن لهم صدق الرواة في رواياتهم، وضبطهم لها، في حين وضع المحدثون في المرحلة الثانية أنواعا أخرى من القواعد والشروط تساعدهم على حفظ الدواوين والمصنفات من احتمال عبث بعض الوراقين وتحريف الناسخين.
فكانت العناية في المرحلة الأولى منصبة على نقلة الأخبار ورواتها، والبحث عن أحوالهم، والتفتيش في مروياتهم بعد جمعها ومقارنتها، حتى أصبح بمقدورهم تمييز الرجال، ومعرفة الثقات والضعفاء والمتروكين، والإطلاع على الأسانيد الصحيحة والضعيفة والمنكرة والواهية، وإبقاؤها في محفوظاتهم وسجلاتهم، واستحضارها دون وقوع التداخل بينهما أو الاختلاط.
وأما في المرحلة الثانية ـ مرحلة ما بعد الرواية ـ فقد توجه اهتمام المحدثين إلى وضع ضوابط جديدة، من شأنها حفظ المدونات من التصحيف والتحريف والانتحال، ونقلها إلى الأجيال اللاحقة كما وضعها مؤلفوها.
فمن أهم تلك الضوابط: إثبات المحدث حقية النقل والإفادة بأي نوع من أنواع التحمل والتحصيل، وأما حيازتها المجردة بشراء أو غيره، فليست كافية للتعامل معها رواية
وإفادة، كما حقق هذه المسالة أستاذنا الفاضل الدكتور أحمد محمد نور سيف في رسالة لطيفة:" عناية المحدثين بتوثيق المرويات " ـ جزاه الله تعالى خير الجزاء ـ ومن ثم أخذ يظهر اهتمام بالغ لدى المحدثين في الحصول على الأسانيد التي تم بها نقل الكتب والمدونات، والحفاظ عليها مهما كان نوعها وذلك قصد إثبات حقية روايتها، ونيل الشرف بوجود صلة بيهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عموما.
" وبما أن معظم الأحاديث استقرت في دواوين السنة وأصبحت هذه الدواوين هي المعتمدة في أخذ الأحاديث النبوية وصارت عناية المحدث منصبة على حفظ هذه الدواوين فلا داعي إذن إلى دراسة أحوال الرجال الذين يشكلون حلقات الإسناد الذي بواسطته يتم نقل هذه المصنفات عن أصحافبها، كما لا تبقى حاجة إلى تلك التحفظات الشديدة، والقوانين الصارمة في جرح الرواة وتديلهم، بل يكفي فيهم معرفة أحقيتهم وأهليتهم لرواية تلك المصنفات، بل يكفي فيهم معرفة أحقيتهم وأهليتهم لرواية تلك المصنفات، إضافة إلى ستر حالهم، وإن لم ينص على توثيقهم "(1) وقد بين ذلك ابن الصلاح رحمه الله بقوله ـ، وهذا نصه: " أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحول ما تقدم
(1) عناية المحدثين بتوثيق المرويات: ص: 8- 10، لأستاذنا الفاضل الدكتور / أحمد محمد نور سيف، حفظه الله تعالى.