الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة البقرة) الم اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور، وهي: المص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وق، وحم، وحم عسق، ون. فقال قوم: لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، قال أبو بكر الصديق: لله في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن فواتح السور، وقال قوم تفسر، ثم اختلفوا فيها، فقيل: هي أسماء الله، وقيل: أشياء أقسم الله بها، وقيل: هي حروف مقطعة من كلمات: فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ومثل ذلك في سائرها، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر، والخفض على قول من جعلها مقسما بها كقولك:
الله لأفعلن ذلِكَ الْكِتابُ هو هنا القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن.
والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 2] يعني القرآن باتفاق، وخبر ذلك: لا ريب فيه، وقيل: خبره الكتاب فعلى هذا «ذلك الكتاب» جملة مستقلة فيوقف عليه لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر أهل الباطل، وخبر لا ريب:
فيه، فيوقف عليه، وقيل: خبرها محذوف فيوقف على «لا ريب» . والأول أرجح لتعيّنه في قوله: «لا ريب» في مواضع أخر.
فإن قيل: فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله: «لا فيها غول» ؟ فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه: لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب، كما أن «لا فيها غول» إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر.
هُدىً هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: هُدىً لِلنَّاسِ. وإعرابه: خبر ابتداء، أو مبتدأ وخبره: فيه، عند ما يقف على لا ريب، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة لِلْمُتَّقِينَ مفتعلين من التقوى، وقد تقدّم معناه في الكتاب، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول.
الأوّل: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهدى كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] والنصرة، لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: 128] والولاية لقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18] والمحبة لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [براءة:
4] والمغفرة لقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] الآية وتيسير الأمور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5] وتقبل الأعمال لقوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] والفلاح لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189] والبشرى لقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يونس: 64] ودخول الجنة لقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:
34] والنجاة من النار لقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72] .
الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الأخروي، وخوف العقاب الدنيوي، ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل: -
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
…
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
ولله درّ القائل: -
قالت وقد سألت عن حال عاشقها:
…
لله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت: لو كان يظن الموت من ظمإ
…
وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
الفصل الثالث: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فيه قولان: يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها، فالغيب على
هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل، وإما تخفيفا في فعيل: كميت، والآخر:
يؤمنون في حال غيبهم، أي باطنا وظاهرا، وبالغيب: على القول الأوّل: يتعلق بيؤمنون، وعلى الثاني: في موضع الحال، ويجوز في الذين أن يكون خفضا على النعت، أو نصبا على إضمار فعل، أو رفعا على أنه خبر مبتدأ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامتها: علمها من قولك: قامت السوق «1» ، وشبه ذلك، والكمال: المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها، وفضائلها، وسننها، وحضور القلب الخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوّع، والثالث: العموم، وهو الأرجح:
لأنه لا دليل على التخصيص، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات، أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفا للمغايرة، أو مبتدأ وخبره الجملة بعد بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل، فإن كان الذين للجنس: فلفظها عام يراد به الخصوص، وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم فقيل: المراد من قتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديان سَواءٌ خبر إن وأَنْذَرْتَهُمْ فاعل به لأنه في تقدير المصدر، وسواء مبتدأ، وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن، ولا يُؤْمِنُونَ على هذه الوجوه: استئنافا للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضا، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة فيء أنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام خَتَمَ الآية تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال إصبعا إصبعا حتى يختم عليه، والأوّل أبرع، وعَلى سَمْعِهِمْ معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه، وقيل الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأوّل أرجح لقوله:«وختم على سمعه وقلبه» [الجاثية: 23] غِشاوَةٌ مجاز باتفاق، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافا لمن منعه، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع ومِنَ النَّاسِ أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس
(1) . المراد بإقامة الصلاة: عدم التهاون بها. راجع تفسير الطبري.
وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفا مَنْ يَقُولُ إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة، وأفرد الضمير في يقول رعيا للفظ:
ومن وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج، رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، يظهرون الإسلام ويسرّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك:
زنديقا، وهم في الآخرة مخلدون في النار، وأما في الدنيا إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك:
القتل، دون الاستتابة، ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل، فإن قيل: كيف جاء قولهم «آمنا» جملة فعلية «وما هم بمؤمنين» جملة اسمية فهلا طابقتها؟ فالجواب: أن قولهم «1» «وما هم بمؤمنين» أبلغ وآكد في الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا، فإن قيل: لم جاء قولهم: آمنا مقيدا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين مطلقا؟ فالجواب أنه يحتمل وجهين: التقييد فتركه لدلالة الأوّل عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان
يُخادِعُونَ أي يفعلون فعل المخادع، ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون، وقيل:
معناه يخدعون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أظهر وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهم أي وبال فعلهم راجع عليهم، وقرئ: وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف «2» من خدع وهو أبلغ في المعنى، لأنه يقال خادع إذا رام الخداع، وخدع إذا تم له وَما يَشْعُرُونَ حذف معموله أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وأن يكون مجازا بمعنى الشك أو الحسد فَزادَهُمُ يحتمل الدعاء والخبر يَكْذِبُونَ بالتشديد أي يكذبون الرسول صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ: بالتخفيف أي يكذبون «3» في قولهم آمنا لا تُفْسِدُوا أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا، أو اعتقاد أمنهم على إصلاح كَما آمَنَ النَّاسُ أصحاب النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل، وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية أَنُؤْمِنُ إنكار منهم وتقبيح هُمُ السُّفَهاءُ ردّ عليهم وإناطة السفه بهم، وكذلك هم المفسدون، وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه
(1) . الأصح أن يقول: قوله بإعادة الضمير إلى الله.
(2)
. وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: 68.
(3)
. وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: 68.
والفساد فيهم، وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب
قالُوا آمَنَّا كذبوا خوفا من المؤمنين خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ هم رؤساء الكفر، وقيل: شياطين الجن، وهو بعيد. وتعدّي خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا، وقيل: إلى بمعنى مع، أو بمعنى الباء وجه قولهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بجملة اسمية مبالغة وتأكيد، بخلاف قولهم: آمنا، فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فيه ثلاثة أقوال:
تسمية للعقوبة باسم الذنب: كقوله «ومكروا ومكر الله» وقيل: يملي لهم بدليل قوله:
«ويمدّهم» وقيل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد: 13 ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً الآية وَيَمُدُّهُمْ يزيدهم، وقيل يملي لهم، وقد ذكروا يعمهون اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه ووقوعهم في الضلالة، فهو مجاز بديع فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ترشيح للمجاز، لمّا ذكر الشر ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضا لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ في هذا الشراء، أو على الإطلاق. وقال الزمخشري: نفى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: وما كانوا مهتدين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه وإن كان المثل بمعنى التشبيه فالكاف زائدة اسْتَوْقَدَ أي أوقد، وقيل: طلب الوقود على الأصل في استفعل فَلَمَّا أَضاءَتْ إن تعدّى فما حوله مفعول به، وإن لم يتعدّ فما زائدة أو ظرفية ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أذهبه، وهذه الجملة جواب لما محذوف تقديره: طفيت النار، وذهب الله بنورهم: جملة مستأنفة والضمير عائد على المنافقين، فعلى هذا يكون «الذي» على بابه من الإفراد، والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة لأنه لم يقصد بالذي: واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارا سواء كان واحدا أو جماعة، ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه، لأنهم جماعة، فإن قيل: ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، والثاني: أن استخفاء كفرهم كالنور، وفضيحتهم كالظلمة، والثالث: أنّ ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر، فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة، ويرجح هذا قوله:«ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا» فإن قيل: لم قال:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: أذهب الله نورهم، مشاكلة لقوله: فَلَمَّا أَضاءَتْ فالجواب:
أن إذهاب النور أبلغ لأنه إذهاب للقليل والكثير، بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ يحتمل أن يراد به المنافقون، والمستوقد المشبه بهم، وهذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم، وليس المراد فقد الحواس فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إن أريد به المنافقون: فمعناه لا يرجعون إلى الهدى، وإن أريد به أصحاب النار: فمعناه أنهم متحيرون في الظلمة، لا يرجعون ولا يهتدون إلى الطريق أَوْ كَصَيِّبٍ عطف على الذي استوقد، والتقدير: أو كصاحب صيب، أو للتنويع لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين، والصيب: المطر، وأصله صيوب، ووزنه فعيل، وهو مشتق من قولك صاب يصوب، وفي قوله مِنَ السَّماءِ إشارة إلى قوته وشدّة انصبابه، قال ابن مسعود: إنّ رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وحسن إسلامهما، فضرب الله ما أنزل فيهما مثلا للمنافقين، وقيل: المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فضلّ عن الطريق وخاف الهلاك على نفسه، وهذا التشبيه على الجملة، وقيل: إنّ التشبيه على التفصيل، فالمطر مثل للقرآن أو الإسلام، والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين، والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم، والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة، فإن قيل: لم قال رعد وبرق بالإفراد، ولم يجمعه كما جمع ظلمات؟ فالجواب: أن الرعد والبرق مصدران، والمصدر لا يجمع، ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما «1» لأنهما في الأصل مصدران يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من أجل الصواعق، قال ابن مسعود: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم. فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن، والموت هو ما يتخوفونه فهما مجازان، وقيل: لأنه راجع لأصحاب المطر المشبه بهم فهو حقيقة فيهم، والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد، ونزول قطعة نار والموت أيضا حقيقة. وقيل: إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد، فإن قيل: لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم والأنامل هي التي تجعل في الآذان؟ فالجواب أن ذكر الأصابع أبلغ لأنها أعظم من الأنامل، ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه بل هم تحت قهره، وهو قادر على عقابهم
(1) . ربما كان الأصل: ولم يجمعهما.
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ إن رجع الضمير إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين:
فهو بيّن في المعنى، وإن رجع إلى المنافقين: فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين:
أحدهما: تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق، وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم، والآخر: يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان: ثبتوا على كفرهم، وقيل:
إنّ المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا هذا دين مبارك فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدّة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا: فهذا مثل الظلمة، فإن قيل: لم قال مع الإضاءة كلما، ومع الظلام إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي التكرار والكثرة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الآية: إن رجع إلى أصحاب المطر: فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف: المؤمنين، والكافرين والمنافقين:
أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله، وجاء بالدعوة عامة للجميع لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعث إلى جميع الناس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا لَعَلَّكُمْ يتعلق بخلقكم: أي خلقكم لتتقوه كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أو بفعل مقدّر من معنى الكلام أي:
دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون، وهذا أحسن. وقيل: يتعلق بقوله: «اعبدوا» وهذا ضعيف. وإن كانت لعل للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين، جريا على عادة كلام العرب، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو: عسى، فإذا قالها الله: فمعناها أطباع العباد، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى:
الْأَرْضَ فِراشاً تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأنّ الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها