الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والباء في به سببية، أو كقولك: كتبت بالقلم لأنّ الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأوّل أظهر أَنْداداً «1» يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله:«اعبدوا» والأوّل أظهر.
فوائد ثلاث
الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين: أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام، فذكر أوّلا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم، لأنّ الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات، لأنّ المنعم يستحق أن يعبد ويشكر، وانظر قوله: جعل لكم، ورزقا لكم: يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع.
الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فلا تجعلوا لله أندادا، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلّا الله، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلّا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات «2» ، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار، وذلك أنها تدلّ بالعقل على عشرة أمور. وهي: أنّ الله موجود، لأنّ الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له، لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] وأنه حيّ قدير عالم مريد، لأنّ هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها، وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث، وأنه باق، لأنّ ما ثبت قدمه استحال عدمه، وأنه حكيم، لأنّ آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على
(1) . جمع ند ومعناه: النظير، والشبيه.
(2)
. ربما في الكلام نقص. والله أعلم.
المخاطبين دون الذين من قبلهم، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب: أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمراد الجميع، فإن قيل: هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعبدوا؟ فالجواب أنّ التقوى غاية العبادة وكمالها، فكان قوله: لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية إثبات لنبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم بإقامة الدليل على أنّ القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوّة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟
فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أنّ الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى لا رَيْبَ فِيهِ عَلى عَبْدِنا هو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص، وهي من أوصاف أشراف العباد. ولله در القائل:
لا تدعني إلّا بيا عبدها
…
فإنّه أشرف أسمائي
فَأْتُوا بِسُورَةٍ أمر يراد به التعجيز مِنْ مِثْلِهِ الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن، ومن لبيان الجنس، وقيل يعود على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فمن على هذا: لابتداء الغاية من بشر مثله، والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة شُهَداءَكُمْ آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله، وقيل: هو من الدين الحقير، فهو مقلوب اللفظ وَلَنْ تَفْعَلُوا اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة، وهو إخبار ظهير «1» مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى، وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين:
أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح، والثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه، والإعجاز حاصل على الوجهين، وقد بيّنا سائر وجوه إعجازه في المقدّمة فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف وَقُودُهَا حطبها الْحِجارَةُ قال ابن مسعود: هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدّة حرها وقبح رائحتها، وقيل الحجارة المعبودة، وقيل الحجارة على الإطلاق أُعِدَّتْ دليل على أنها قد خلقت، وهو مذهب الجماعة وأهل السنة، خلافا لمن قال: إنها تخلق يوم القيامة، وكذلك الجنة
وَبَشِّرِ يحتمل أن تكون خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو خطابا لكل
(1) . والصواب: ظهر.
أحد، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه، خلافا لمن قال: الإيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال، خلافا للمرجئة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت أشجارها وتحت مبانيها، وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً من الأولى: للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس، ومن الثانية: لبيان الجنس، مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، بدليل قولهم:«إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين» [الطور: 26] في الدنيا، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا، وإن كانت خيرا منها في المطعم والمنظر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه، وقيل يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في المطعم، والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى مُطَهَّرَةٌ من الحيض وسائر الأقذار، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق لا يَسْتَحْيِي تأوّل قوم أن معناه لا يترك، لأنهم زعموا أنّ الحياء مستحيل على الله لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر، وليس كذلك وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب، ويردّ عليهم قوله صلّى الله عليه واله وسلّم:«إنّ الله حيي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا» «1» أَنْ يَضْرِبَ سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت، عاب الكفار على ذلك، وقيل: المثلين المتقدّمين في المنافقين تكلموا في ذلك فنزلت الآية ردّا عليهم «2» مَثَلًا ما بَعُوضَةً إعراب بعوضة مفعول بيضرب، ومثلا حال، أو: مثلا مفعول، وبعوضة بدل منه أو عطف بيان، أو هما مفعولان بيضرب لأنها على هذا المعنى تتعدّى إلى مفعولين، وما صفة للنكرة أو زائدة فَما فَوْقَها في الكبر، وقيل: في الصغر، والأول أصح فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء، ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة: وضرب أمثال، وبيان للناس، ولأنّ الصادق جاء بها من عند الله ماذا أَرادَ اللَّهُ لفظه الاستفهام، ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب، وفي إعراب ماذا: وجهان أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره وهي موصولة، وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد، ومثلا منصوب على الحال أو التمييز يُضِلُّ بِهِ من كلام الله جوابا للذين قالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا، وهو أيضا تفسير لما أراد الله
(1) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وإسناده جيد عن سلمان الفارسي. [.....]
(2)
. في الكلام تشويش ولعل الصواب: سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفار على ذلك [وقالوا: ما بال العنكبوت والذباب يذكران] فنزلت الآية عليهم. راجع الطبري في تفسير الآية المذكورة.