الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الإخلاص
[وهي] مكية
{1
أي {قُلْ} قولا جازمًا به، معتقدًا له، عارفًا بمعناه، {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: قد انحصرت فيه الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال المقدسة، الذي لا نظير له ولا مثيل.
{اللَّهُ الصَّمَدُ} أي: المقصود في جميع الحوائج. فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويرغبون إليه في مهماتهم، لأنه الكامل في أوصافه، العليم الذي قد كمل في علمه، الحليم الذي قد كمل في حلمه، الرحيم الذي [كمل في رحمته الذي] وسعت رحمته كل شيء، وهكذا سائر أوصافه، ومن كماله أنه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لكمال غناه {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} لا في أسمائه ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى.
فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات.
تفسير سورة الفلق
[وهي] مكية
{1
- 5} {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ *
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
أي: {قل} متعوذًا {أَعُوذُ} أي: ألجأ وألوذ، وأعتصم {بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح.
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وهذا يشمل جميع ما خلق الله، من إنس، وجن، وحيوانات، فيستعاذ بخالقها، من الشر الذي فيها، ثم خص بعد ما عم، فقال:{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي: من شر ما يكون في الليل، حين يغشى الناس، وتنتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة، والحيوانات المؤذية.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي: ومن شر السواحر، اللاتي يستعن على سحرهن بالنفث في العقد، التي يعقدنها على السحر.
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} والحاسد، هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره، وإبطال كيده، ويدخل في الحاسد العاين، لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع، خبيث النفس، فهذه السورة، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور، عمومًا وخصوصًا.
ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره، ويستعاذ بالله منه [ومن أهله] .
تفسير سورة الناس
وهي مدنية
{1
- 6} {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ *
مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم، من الشيطان الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها، الذي من فتنته وشره، أنه
⦗ص: 938⦘
يوسوس في صدور الناس، فيحسن [لهم] الشر، ويريهم إياه في صورة حسنة، وينشط إرادتهم لفعله، ويقبح لهم الخير ويثبطهم عنه، ويريهم إياه في صورة غير صورته، وهو دائمًا بهذه الحال يوسوس ويخنس أي: يتأخر إذا ذكر العبد ربه واستعان على دفعه.
فينبغي له أن [يستعين و] يستعيذ ويعتصم بربوبية الله للناس كلهم.
وأن الخلق كلهم، داخلون تحت الربوبية والملك، فكل دابة هو آخذ بناصيتها.
وبألوهيته التي خلقهم لأجلها، فلا تتم لهم إلا بدفع شر عدوهم، الذي يريد أن يقتطعهم عنها ويحول بينهم وبينها، ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس، ولهذا قال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.
ونسأله تعالى أن يتم نعمته، وأن يعفو عنا ذنوبًا لنا حالت (1) بيننا وبين كثير من بركاته، وخطايا وشهوات ذهبت بقلوبنا عن تدبر آياته.
ونرجوه ونأمل منه أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمته إلا القوم الضالون.
وصلى الله وسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، صلاة وسلامًا دائمين متواصلين أبد الأوقات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم تفسير كتاب الله بعونه وحسن توفيقه، على يد جامعه وكاتبه، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله المعروف بابن سعدي، غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين، وذلك في غرة ربيع الأول من سنة أربعٍ وأربعين وثلثمائة وألف من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
⦗ص: 939⦘
(1) في ب: ذنوبنا التي حالت.
(2)
في ب: ووقع النقل في شعبان 1345 ربنا تقبل منا واعف إنك أنت الغفور الرحيم.
أصول وكليات من أصول التفسير وكلياته لا يستغني عنها المفسر للقرآن (1)
النكرة في سياق النفي، أو سياق النهي، أو الاستفهام، أو سياق الشرط، تعم، وكذلك المفرد المضاف يعم، وأمثلة ذلك كثيرة.
فمتى وجدت نكرة واقعة بعد المذكورات، أو وجدت مفردا مضافا إلى معرفة، فأثبت جميع ما دخل في ذلك اللفظ، ولا تعتبر سبب النزول وحده، فإن "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب".
وينبغي أن تنزل جميع الحوادث والأفعال الواقعة، والتي لا تزال تحدث، على العمومات القرآنية، فبذلك تعرف أن القرآن تبيان لكل شيء، وأنه لا يحدث حادث، ولا يستجد أمر من الأمور، إلا وفي القرآن بيانه وتوضيحه.
ومن أصوله أن الألف واللام الداخلة على الأوصاف، وعلى أسماء الأجناس، تفيد استغراق جميع ما دخلت عليه من المعاني.
ومن كليات القرآن، أنه يدعوا إلى توحيد الله ومعرفته، بذكر أسماء الله، وأوصافه، وأفعاله الدالة على تفرده بالوحدانية، وأوصاف الكمال، وإلى أنه الحق، وعبادته هي الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، ويبين نقص كل ما عبد من دون الله من جميع الوجوه.
ويدعو إلى صحة ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، ببيان إحكامه، وتمامه، وصدق إخباراته كلها، وحسن أحكامه. ويبين ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، من الكمال البشري الذي لا يلحقه فيه أحد من الأولين والآخرين، ويتحداهم بأن يأتوا بمثل ما جاء به إن كانوا صادقين.
ويقرر ذلك بشهادته تعالى بقوله وفعله وإقراره إياه، وتصديقه له بالحجة والبرهان، وبالنصر والظهور، وبشهادة أهل العلم المنصفين. ويقابل بين ما جاء به من الحق في أخباره وأحكامه، وبين ما كان عليه أعداؤه، والمكذبون به، من الكذب في أخبارهم، والباطل في أحكامهم، كما يقرر ذلك بالمعجزات المتنوعة.
ويقرر الله المعاد بذكر كمال قدرته، وخلقه للسموات والأرض، اللتين هما أكبر من خلق الناس، وبأن الذي بدأ الخلق قادر على إعادته من باب أولى، وبأن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى. ويذكر أيضا أيامه في الأمم، ووقوع المثلات التي شاهدها الناس في الدنيا، وأنها نموذج من جزاء الآخرة.
ويدعو جميع المبطلين من الكفار والمشركين والملحدين بذكر محاسن الدين، وأنه يهدي للتي هي أقوم، في عقائده وأخلاقه وأعماله، وبيان ما لله من العظمة والربوبية، والنعم العظيمة. وأن من تفرد بالكمال المطلق، والنعم كلها، هو الذي لا تصلح العبادة إلا له، وأن ما عليه المبطلون، إذا ميز وحقق وجد شرا وباطلا وعواقبه وخيمة.
ومن أصول التفسير، إذا فهمت ما دلت عليه الآيات الكريمة من المعاني مطابقة وتضمنا، فاعلم أن لوازم هذه المعاني، وما لا تتم إلا به، وشروطها وتوابعها، تابعة لذلك المعنى، فما لا يتم الخبر إلا به،
(1) هذه الخاتمة جعلها الشيخ رحمه الله في آخر الجزء الخامس لما طبع في حياته، وقد جعلتها في خاتمة التفسير.
فهو تابع للخبر، وما لا يتم الحكم إلا به، فهو تابع للحكم، وأن الآيات التي يفهم منها التعارض والتناقض، ليس فيها تناقض ولا تعارض، بل يجب حمل كل منها على الحالة المناسبة اللائقة بها. وأن حذف المتعلقات، من مفعولات وغيرها، يدل على تعميم المعنى، لأن هذا من أعظم فوائد الحذف، وأنه لا يجوز حذف ما لا يدل عليه السياق اللفظي، والقرينة الحالية، كما أن الأحكام المقيدة بشروط أو صفات تدل على أن تلك القيود، لا بد منها في ثبوت الحكم.
إذا أمر الله بشيء كان ناهيا عن ضده، وإذا نهى عن شيء كان آمرا بضده، وإذا أثنى على نفسه بنفي شيء من النقائص؛ كان إثباتا للكمال المنافي لذلك النقص. وكذلك إذا أثنى على رسله وأوليائه ونزههم عن شيء من النقائص؛ فهو مدح لهم بما يضاد ذلك النقص، ومثله نفي النقائص عن دار النعيم، يدل على إثبات ضد ذلك.
ومن الكليات؛ أنه إذا وضح الحق وظهر ظهورا جليا، لم يبق للمجادلات العلمية والمعارضات العملية محل، بل تبطل المعارضات، وتضمحل المجادلات.
ما نفاه القرآن؛ فإما أن يكون غير موجود، أو أنه موجود، ولكنه غير مفيد ولا نافع.
الموهوم لا يدفع المعلوم، والمجهول لا يعارض المحقق، وما بعد الحق إلا الضلال.
ذكر الله في القرآن الإيمان والعمل الصالح في مواضع كثيرة رتب عليهما من الجزاء العاجل والآجل والآثار الحميدة شيئا كثيرا، فالإيمان هو: التصديق الجازم، بما أمر الله ورسوله بالتصديق به، المتضمن لأعمال الجوارح.
والعمل الصالح هو: القيام بحقوق الله، وحقوق عباده، وكذلك أمر الله بالتقوى، ومدح المتقين، ورتب على التقوى حصول الخيرات، وزوال المكروهات. والتقوى الكاملة: امتثال أمر الله وأمر رسوله، واجتناب نهيهما وتصديق خبرهما.
وإذا جمع الله بين التقوى والبر ونحوه، كانت التقوى اسما لتوقي جميع المعاصي، والبر اسما لفعل الخيرات، وإذا أفرد أحدهما، دخل فيه الآخر.
وذكر الله الهدى المطلوب في مواضع كثيرة، وأثنى على المهتدي، وأخبر أن الهدى بيده، وأمرنا بطلبه منه، وبالسعي في كل سبب يحصل الهدى، وذلك شامل لهداية العلم والعمل.
فالمهتدي: من عرف الحق، وعمل به، وضده الغي والضلال، فمن عرف الحق ولم يعمل به فهو الغاوي، ومن جهل الحق فهو الضال.
أمر الله بالإحسان، وأثنى على المحسنين، وذكر ثوابهم المتنوع في آيات كثيرة. وحقيقة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأن تبذل ما تستطيعه من النفع المالي والبدني والقولي إلى المخلوقين.
وأمر بالإصلاح وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يضيع ثوابهم وأجرهم.
والإصلاح هو: أن تسعى في إصلاح عقائد الناس وأخلاقهم. وجميع أحوالهم، بحيث تكون على غاية ما يمكن من الصلاح، وأيضا يشمل إصلاح الأمور الدينية، والأمور الدنيوية، وإصلاح الأفراد والجماعات، وضد هذا الفساد.
والإفساد، قد نهى عنه، وذم المفسدين، وذكر عقوباتهم المتعددة، وأخبر أنه لا يصلح أعمالهم الدينية والدنيوية.
أثنى الله على اليقين، وعلى الموقنين، وأنهم هم المنتفعون بالآيات القرآنية، والآيات الأفقية.
واليقين أخص من العلم، فهو: العلم الراسخ، المثمر للعمل والطمأنينة.
أمر الله بالصبر، وأثنى على الصابرين، وذكر جزاءهم العاجل والآجل في عدة آيات، نحو تسعين موضعا، وهو يشمل أنواعه الثلاثة: الصبر على طاعة الله، حتى يؤديها كاملة من جميع الوجوه، والصبر عن محارم الله حتى ينهى نفسه الأمارة بالسوء عنها. والصبر على أقدار الله المؤلمة، فيتلقاها بصبر وتسليم، غير متسخط في قلبه ولا بدنه ولا لسانه.
وكذلك أثنى الله على الشكر، وذكر ثواب الشاكرين، وأخبر أنهم أرفع الخلق في الدنيا والآخرة.
وحقيقة الشكر هو: الاعتراف بجميع نعم الله، والثناء على الله بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم.
وذكر الله الخوف والخشية، في مواضع كثيرة. أمر به، وأثنى على أهله، وذكر ثوابهم، وأنهم المنتفعون بالآيات، التاركون للمحرمات.
وحقيقة الخوف والخشية: أن يخاف العبد مقامه بين يدي الله، ومقامه عليه، فينهى نفسه بهذا الخوف عن كل ما حرم الله.
والرجاء: أن يرجو العبد رحمة الله العامة، ورحمته الخاصة به. فيرجو قبول ما تفضل الله عليه به من الطاعات، وغفران ما تاب منه من الزلات، ويعلق رجاءه بربه في كل حال من أحواله.
وذكر الله الإنابة في مواضع كثيرة، وأثنى على المنيبين، وأمر بالإنابة إليه. وحقيقة الإنابة: انجذاب القلب إلى الله، في كل حالة من أحواله، ينيب إلى ربه عند النعماء بشكره، وعند الضراء بالتضرع إليه، وعند مطالب النفوس الكثيرة بكثرة دعائه في جميع مهماته، وينيب إلى ربه، باللهج بذكره في كل وقت.
[والإنابة أيضا: الرجوع إلى الله، بالتوبة من جميع المعاصي، والرجوع إليه في جميع أعماله وأقواله، فيعرضها على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون الأعمال والأقوال، موزونة بميزان الشرع](1)
أمر تعالى بالإخلاص، وأثنى على المخلصين، وأخبر أنه لا يقبل إلا العمل الخالص.
وحقيقة الإخلاص: أن يقصد العامل بعمله وجه الله وحده وثوابه. وضده: الرياء، والعمل للأغراض النفسية.
نهى الله عن التكبر، وذم الكبر والمتكبرين، وأخبر عن عقوباتهم العاجلة والآجلة.
والتكبر هو: رد الحق، واحتقار الخلق، وضد ذلك التواضع، فقد أمر به، وأثنى على أهله، وذكر ثوابهم، فهو قبول الحق ممن قاله، وأن لا يحتقر الخلق، بل يرى فضلهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه.
العدل، هو: أداء حقوق الله، وحقوق العباد.
والظلم: عكسه، فهو يشمل ظلم العبد لنفسه بالمعاصي والشرك وظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
الصدق، هو: استواء الظاهر والباطن في الاستقامة على الصراط المستقيم، والكذب بخلاف ذلك.
حدود الله هي: محارمه، وهي التي يقول فيها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} ويراد بها ما أباحه الله وحلله، وقدره، وفرضه، فيقول فيها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}
الأمانة هي: الأمور التي يؤتمن عليها العبد. فيشمل ذلك أداء حقوق الله، وخصوصا الخفية، وحقوق خلقه كذلك.
العهود والعقود، يدخل فيها التي بينه وبين الله، وهو: القيام بعبادة الله مخلصا له الدين، والتي بينه وبين العباد من المعاملات ونحوها.
(1) ما بين القوسين في هامش النسخة بخط مغاير لخط الشيخ رحمه الله -
الحكمة والقوام فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي.
والإسراف والتبذير، مجاوزة الحد في الإنفاق. والتقتير والبخل عكسه: التقصير في النفقات الواجبة.
المعروف: اسم جامع لكل ما عرف حسنه ونفعه شرعا وعقلا والمنكر عكسه.
الاستقامة: لزوم طاعة الله، وطاعة رسوله على الدوام.
مرض القلب هو: اعتلاله، وهو نوعان: مرض شكوك في الحق، ومرض شهوة للأمور المحرمة.
النفاق: إظهار الخير، وإبطان الشر، فيدخل فيه النفاق الاعتقادي والنفاق العملي.
القرآن، كله محكم، وأحكمت آياته من جهة موافقتها للحكمة، وأن أخباره أعلى درجات الصدق، وأحكامه في غاية الحسن. وكله متشابه، من جهة اتفاقه في البلاغة والحسن، وتصديق بعضه لبعض وكمال اتفاقه.
ومنه محكم ومتشابه، من جهة أن متشابهه ما كان فيه إجمال أو احتمال لبعض المعاني. ومحكمه، واضح مبين صريح في معناه، إذا رد إليه المتشابه، اتفق الجميع، واستقامت معانيه.
معية الله التي ذكرها في كتابه، نوعان:
معية العلم والإحاطة، وهي: المعية العامة، فإنه مع عباده أينما كانوا.
ومعية خاصة، وهي: معيته مع خواص خلقه بالنصرة، واللطف، والتأييد.
الدعاء والدعوة، يشمل دعاء العبادة، فيدخل فيه كل عبادة أمر الله بها ورسوله.
ودعاء المسألة، وهو: سؤال الله جلب المنافع، ودفع المضار.
الطيبات: اسم جامع لكل طيب نافع، من العقائد، والأخلاق، والأعمال، والمآكل، والمشارب والمكاسب. والخبيث ضد ذلك.
وقد يراد بالخبيث: الرديء، وبالطيب: الخيار كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} (1)
النفقة، تشمل النفقة الواجبة: كالزكاة، والكفارة، ونفقة النفس، والعائلة، والمماليك، والنفقة المستحبة: كالنفقة في جميع طرق الخير.
التوكل على الله والاستعانة به، قد أمر الله بها، وأثنى على المتوكلين في آيات كثيرة.
وحقيقة ذلك: قوة اعتماد القلب على الله في جلب المصالح، ودفع المضار الدينية والدنيوية، مع الثقة به في حصول ذلك.
العقل الذي مدحه الله وأثنى على أهله، وأخبر أنهم هم المنتفعون بالآيات. هو: الذي يفهم، ويعقل الحقائق النافعة، ويعمل بها، ويعقل صاحبه عن الأمور الضارة، ولذلك قيل له: حجر، ولُب، ونُهى، لأنه يحجر صاحبه وينهاه عما يضره.
العلم هو: معرفة الهدى بدليله، فهو معرفة المسائل النافعة المطلوبة، ومعرفة أدلتها وطرقها، التي تهدي إليها.
والعلم النافع هو: العلم بالحق والعمل به، وضده الجهل.
لفظ "الأمة" في القرآن على أربعة أوجه: يراد به "الطائفة من الناس" وهو الغالب. ويراد به "المدة"،
(1) لم يتم الشيخ رحمه الله الآية، وبتمامها يتضح مراده، وتمامها قوله تعالى:(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) .
ويراد به "الدين" و "الملة"، ويراد به "الإمام" في الخير.
لفظ "استوى" في القرآن على ثلاثة أوجه: إن عدي بـ "على" كان معناه العلو والارتفاع، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
وإن عدي بـ "إلى"، فمعناه قصد، كقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}
وإن لم يعد بشيء، فمعناه "كَمُل"، كقوله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}
"التوبة" ورد في آيات كثيرة الأمر بها، ومدح التائبين وثوابهم، وهي: الرجوع عما يكرهه الله ظاهرا وباطنا، إلى ما يحبه الله ظاهرا وباطنا.
الصراط المستقيم، الذي أمر الله بلزومه وأثنى على المستقيمين عليه، هو: الطريق المعتدل الموصل إلى رضوان الله وثوابه، وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وكل أحواله.
الذكر لله الذي أمر به، وأثنى على الذاكرين، وذكر جزاءهم العاجل والآجل هو: عند الإطلاق، يشمل جميع ما يقرب إلى الله: من عقيدة، أو فكر نافع، أو خلق جميل، أو عمل قلبي أو بدني، أو ثناء على الله، أو تسبيح ونحوه، أو تعلم أحكام الشرع الأصولية والفروعية، أو ما يعين على ذلك، فكله داخل في ذكر الله. فصل
وقد تكرر كثير من أسماء الله الحسنى في القرآن بحسب المناسبات، والحاجة داعية إلى التنبيه إلى معانيها الجامعة، فنقول:
قد تكرر اسم "الرب" في آيات كثيرة.
و"الرب": هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم. وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم. ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل، لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة.
"الله": هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال.
"الملك، المالك": الذي له الملك فهو الموصوف بصفة الملك، وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر والتدبير، الذي له التصرف المطلق في الخلق والأمر والجزاء، وله جميع العالم العلوي والسفلي، كلهم عبيد ومماليك، ومضطرون إليه.
"الواحد، الأحد": وهو الذي توحد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. ويجب على العبيد توحيده، عقلا وقولا وعملا بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة.
"الصمد": وهو الذي تقصده الخلائق كلها في جميع حاجاتها، وضروراتها وأحوالها، لما له من الكمال المطلق في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
"العليم، الخبير": وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والأسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
"الحكيم": وهو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فلا يخلق شيئا عبثا، ولا يشرع شيئا سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده، في شرعه، وفي قدره وجزائه.
والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها.
"الرحمن، الرحيم، البر، الكريم، الجواد، الرؤوف، الوهاب".
هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه، التي عم بها جميع الوجود، بحسب ما تقتضيه حكمته، وخص المؤمنين منها بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية.
والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه. وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته.
"السميع" لجميع الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات.
"البصير" الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، فيبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء. ويبصر ما تحت الأرضين السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع. وأيضا سميع بصير بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته، والمعنى الأخير يرجع إلى الحكمة.
"الحميد" في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمها وأحسنها، فإن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل.
"المجيد، الكبير، العظيم، الجليل" وهو الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى. وله التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله، والخضوع له والتذلل لكبريائه.
"العفو، الغفور، الغفار" الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا، كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها، قال تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}
"التواب" الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى الله توبة نصوحا، تاب الله عليه، فهو التائب على التائبين أولا بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم قبولا لها، وعفوا عن خطاياهم.
"القدوس، السلام" أي: المعظم المنزه عن صفات النقص كلها، وأن يماثله أحد من الخلق، فهو المتنزه عن جميع العيوب، والمتنزه عن أن يقاربه أو يماثله أحد في شيء من الكمال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}
فالقدوس كالسلام، ينفيان كل نقص من جميع الوجوه، ويتضمنان الكمال المطلق من جميع الوجوه، لأن النقص إذا انتفى ثبت الكمال كله.
"العلي الأعلى" وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه، علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر. فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى. وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى.
"العزيز" الذي له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع. فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته.
"القوي، المتين" هو في معنى العزيز.
"الجبار" هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى "الرؤوف" الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه.
"المتكبر" عن السوء والنقص والعيوب، لعظمته وكبريائه.
"الخالق، البارئ، المصور" الذي خلق جميع الموجودات وبرأها وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل ولا يزال على هذا الوصف العظيم.
"المؤمن" الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال والجمال، الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آية وبرهان، يدل على صدقهم وصحة ما جاؤوا به.
"المهيمن": المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علما.
"القدير" كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئا قال له "كن فيكون"، وبقدرته يقلب القلوب، ويصرفها على ما يشاء ويريد.
"اللطيف" الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة، اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه، من طرق لا يشعرون بها، فهو بمعنى "الخبير" وبمعنى "الرؤوف".
"الحسيب" هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر، بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها.
"الرقيب" المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير.
"الحفيظ" الذي حفظ ما خلقه، وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات، ولطف بهم في الحركات والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها.
"المحيط" بكل شيء علما، وقدرة، ورحمة، وقهرا.
"القهار" لكل شيء، الذي خضعت له المخلوقات، وذلت لعزته وقوته وكمال اقتداره.
"المقيت" الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصرفها كيف يشاء بحكمته وحمده.
"الوكيل" المتولي لتدبير خلقه بعلمه وكمال قدرته وشمول حكمته، الذي تولى أولياءه، فيسرهم لليسرى، وجنبهم العسرى، وكفاهم الأمور. فمن اتخذه وكيلا كفاه {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
"ذو الجلال والإكرام" أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة والجود، والإحسان العام والخاص، المكرم لأوليائه وأصفيائه، الذين يجلونه ويعظمونه ويحبونه.
"الودود" الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه ودا وإخلاصا وإنابة من جميع الوجوه.
"الفتاح" الذي يحكم بين عباده بأحكامه الشرعية، وأحكامه القدرية، وأحكام الجزاء، الذي فتح بلطفه بصائر الصادقين، وفتح قلوبهم لمعرفته ومحبته والإنابة إليه، وفتح لعباده أبواب الرحمة والأرزاق المتنوعة، وسبب لهم الأسباب التي ينالون بها خير الدنيا والآخرة {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}
"الرزاق" لجميع عباده، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. ورزقه لعباده نوعان:
رزق عام، شمل البر والفاجر، والأولين والآخرين، وهو رزق الأبدان.
ورزق خاص وهو رزق القلوب، وتغذيتها بالعلم والإيمان.
والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين، على مراتبهم منه، بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته.
"الحكم، العدل" الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه. فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحمِّل أحدا وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه ويؤدي الحقوق إلى أهلها، فلا يدع صاحب حق إلا أوصل إليه حقه، وهو العدل في تدبيره وتقديره {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
"جامع الناس" ليوم لا ريب فيه، وجامع أعمالهم وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين، بكمال قدرته، وسعة علمه.
"الحي القيوم" كامل الحياة والقائم بنفسه. القيوم لأهل السموات والأرض، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم، وجميع أحوالهم، فـ "الحي": الجامع لصفات الذات، و"القيوم" الجامع لصفات الأفعال.
"النور" نور السموات والأرض، الذي نوَّر قلوب العارفين بمعرفته والإيمان به، ونوَّر أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنار السموات والأرض بالأنوار التي وضعها، وحجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
"بديع السموات والأرض" أي: خالقهما ومبدعهما، في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم.
"القابض الباسط" يقبض الأرزاق والأرواح، ويبسط الأرزاق والقلوب، وذلك تبع لحكمته ورحمته.
"المعطي، المانع"، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فجميع المصالح والمنافع منه تطلب، وإليه يرغب فيها، وهو الذي يعطيها لمن يشاء، ويمنعها من يشاء بحكمته ورحمته.
"الشهيد" أي: المطلع على جميع الأشياء. سمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه.
"المبدئ، المعيد" قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ابتدأ خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ثم يعيدهم ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجزي المسيئين بإساءتهم. وكذلك هو الذي يبدأ إيجاد المخلوقات شيئا فشيئا، ثم يعيدها كل وقت.
"الفعال لما يريد" وهذا من كمال قوته ونفوذ مشيئته وقدرته، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع ولا معارض، وليس له ظهير ولا عوين، على أي أمر يكون، بل إذا أراد شيئا قال له "كن فيكون". ومع أنه الفعال لما يريد، فإرادته تابعة لحكمته وحمده، فهو موصوف بكمال القدرة، ونفوذ المشيئة، وموصوف بشمول الحكمة، لكل ما فعله ويفعله.
"الغني، المغني" فهو الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله، وكمال صفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنيا، لأن غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا خالقا، قادرا، رازقا، محسنا، فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه، فهو الغني، الذي بيده خزائن السموات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة. المغني جميع خلقه غنى عاما، والمغني لخواص خلقه بما أفاض على قلوبهم من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية.
"الحليم" الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا.
"الشاكر، الشكور" الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل. ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب، ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة،
تقرب الله منه أكثر.
"القريب، المجيب" أي: هو تعالى القريب من كل أحد، وقربه تعالى نوعان: قرب عام من كل أحد، بعلمه، وخبرته، ومراقبته، ومشاهدته، وإحاطته. وقرب خاص، من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو قرب لا تدرك له حقيقة، وإنما تعلم آثاره، من لطفه بعبده، وعنايته به، وتوفيقه وتسديده. ومن آثاره الإجابة للداعين، والإنابة (1) للعابدين، فهو المجيب إجابة عامة للداعين مهما كانوا، وأين كانوا، وعلى أي حال كانوا كما وعدهم بهذا الوعد المطلق، وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له المنقادين لشرعه، وهو المجيب أيضا للمضطرين، ومن انقطع رجاؤهم من المخلوقين وقوي تعلقهم به طمعا ورجاء وخوفا.
"الكافي" عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه، الكافي كفاية خاصة من آمن به، وتوكل عليه، واستمد منه حوائج دينه ودنياه.
"الأول، والآخر، والظاهر، والباطن".
قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا جامعا واضحا، فقال:"أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء".
"الواسع" الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. واسع العظمة والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم.
"الهادي، الرشيد" أي: الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه منقادة لأمره.
وللرشيد معنى بمعنى الحكيم، فهو الرشيد في أقواله وأفعاله، وشرائعه كلها خير ورشد وحكمة، ومخلوقاته مشتملة على الرشد.
"الحق" في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا.
فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم إلى يوم الدين.
قال ذلك وكتبه العبد الفقير إلى ربه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر السعدي غفر الله له ولوالديه، ومشايخه، وأحبابه، وجميع المسلمين آمين.
(1) كذا في الأصل ولعلها: (الإثابة) والله أعلم.'
ملحق بتفسير الآيات التي اختلفت فيها النسختان
{238- 239} ثم قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} يأمر تعالى بالمحافظة {عَلَى الصَّلَوَاتِ} عموما، وعلى {الصَّلاةِ الْوُسْطَى} وهي العصر خصوصا.
والمحافظة عليها: أداؤها بوقتها، وشروطها، وأركانها، وخشوعها، وجميع ما لها، من واجب ومستحب.
وبالمحافظة على الصلوات، تحصل المحافظة على سائر العبادات، وتفيد النهي عن الفحشاء والمنكر، خصوصا إذا أكملها كما أمر بقوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي: ذليلين مخلصين خاشعين، فإن القنوت دوام الطاعة مع الخشوع.
{239} وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} حذف المتعلق، ليعم الخوف من العدو، والسبع، وفوات ما يتضرر العبد بفوته فصلوا، {رِجَالا} ماشين على أرجلكم.
{أَوْ رُكْبَانًا} على الخيل والإبل، وسائر المركوبات، وفي هذه الحال، لا يلزمه الاستقبال، فهذه صفة صلاة المعذور بالخوف، فإذا حصل الأمن، صلى صلاة كاملة.
ويدخل في قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} تكميل الصلوات، ويدخل فيه أيضا، الإكثار من ذكر الله، شكرا له على نعمة الأمن وعلى نعمة التعليم، لما فيه سعادة العبد.
وفي الآية الكريمة، فضيلة العلم، وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم الإكثار من ذكر الله.
وفيه الإشعار أيضا أن الإكثار من ذكره، سبب لتعليم علوم أخر، لأن الشكر مقرون بالمزيد.
{240} اشتهر عند كثير من المفسرين، أن هذه الآية الكريمة نسختها الآية التي قبلها وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وأن الأمر كان على الزوجة أن تتربص حولا كاملا، ثم نسخ بأربعة أشهر وعشر.
ويجيبون عن تقدم الآية الناسخة، أن ذلك تقدم في الوضع، لا في النزول، لأن شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، وهذا القول لا دليل عليه.
ومن تأمل الآيتين، اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشرا على وجه التحتيم على المرأة، وأما في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولا كاملا، جبرا لخاطرها، وبرا بميتهم، ولهذا قال:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} أي: وصية من الله لأهل الميت، أن يستوصوا بزوجته، ويمتعوها ولا يخرجوها.
فإن رغبت أقامت في وصيتها، وإن أحبت الخروج فلا حرج عليها، ولهذا قال:{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} أي: من التجمل واللباس. لكن الشرط أن يكون بالمعروف، الذي لا يخرجها عن حدود الدين والاعتبار، وختم الآية بهذين الاسمين العظيمين، الدالين على كمال العزة، وكمال الحكمة، لأن هذه أحكام صدرت عن عزته، ودلت على كمال حكمته، حيث وضعها في مواضعها اللائقة بها.
{241- 242} {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لما بيّن في الآية السابقة، إمتاع المفارقة بالموت، ذكر هنا أن كل مطلقة، فلها على زوجها، أن يمتعها ويعطيها ما يناسب حاله وحالها، وأنه حق، إنما يقوم به المتقون، فهو من خصال التقوى الواجبة أو المستحبة.
فإن كانت المرأة لم يسم لها صداق، وطلقها قبل الدخول، فتقدم أنه يجب عليه بحسب يساره وإعساره.
وإن كان مسمى لها، فمتاعها نصف المسمى.
وإن كانت مدخولا بها، صارت المتعة مستحبة، في قول جمهور العلماء.
ومن العلماء من أوجب ذلك، استدلالا بقوله:{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} والأصل في "الحق" أنه واجب، خصوصا وقد أضافه إلى المتقين، وأصل التقوى واجبة.
فلما بيّن تعالى هذه الأحكام الجليلة بين الزوجين، أثنى على أحكامه وعلى بيانه لها وتوضيحه، وموافقتها للعقول السليمة، وأن القصد من بيانه لعباده أن يعقلوا عنه ما بينه، فيعقلونها حفظا، وفهما، وعملا بها، فإن ذلك من تمام عقلها.
{243} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي: ألم تسمع بهذه القصة العجيبة الجارية على من قبلكم من بني إسرائيل، حيث حل الوباء بديارهم، فخرجوا بهذه الكثرة، فرارا من الموت، فلم ينجهم الفرار، ولا أغنى عنهم من وقوع ما كانوا يحذرون، فعاملهم بنقيض مقصودهم، وأماتهم الله عن آخرهم، ثم تفضل عليهم، فأحياهم، إما بدعوة نبي، كما قاله كثير من المفسرين، وإما بغير ذلك.
ولكن ذلك بفضله وإحسانه، وهو لا زال فضله على الناس، وذلك موجب لشكرهم لنعم الله بالاعتراف بها وصرفها في مرضاة الله، ومع ذلك فأكثر الناس قد قصروا بواجب الشكر.
وفي هذه القصة عبرة بأنه على كل شيء قدير، وذلك آية محسوسة على البعث، فإن هذه القصة معروفة منقولة نقلا متواترا عند بني إسرائيل ومن اتصل بهم، ولهذا أتى بها تعالى، بأسلوب الأمر الذي قد تقرر عند المخاطبين.
ويحتمل أن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم خوفا من الأعداء، وجبنا عن لقائهم، ويؤيد هذا أن الله ذكر بعدها الأمر بالقتال وأخبر عن بني إسرائيل أنهم كانوا مخرجين من ديارهم وأبنائهم.
وعلى الاحتمالين فإن فيها ترغيبا في الجهاد، وترهيبا من التقاعد عنه، وأن ذلك لا يغني عن الموت شيئا. {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}
{244- 245} {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} جمع الله بين الأمر بالقتال في سبيله بالمال والبدن لأن الجهاد لا يقوم إلا بالأمرين، وحث على الإخلاص فيه، بأن يقاتل العبد لتكون كلمة الله هي العليا، فإن الله
{سَمِيعٌ} للأقوال، وإن خفيت، {عَلِيمٌ} بما تحتوي عليه القلوب من النيات الصالحة وضدها.
وأيضا، فإنه إذا علم المجاهد في سبيله أن الله سميع عليم، هان عليه ذلك، وعلم أنه بعينه ما يتحمل المتحملون من أجله، وأنه لا بد أن يمدهم بعونه ولطفه.
وتأمل هذا الحث اللطيف على النفقة، وأن المنفق قد أقرض الله المليء الكريم، ووعده المضاعفة الكثيرة، كما قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
ولما كان المانع الأكبر من الإنفاق خوف الإملاق، أخبر تعالى أن الغنى والفقر بيد الله، وأنه يقبض الرزق على من يشاء، ويبسطه على من يشاء، فلا يتأخر من يريد الإنفاق خوف الفقر، ولا يظن أنه ضائع، بل مرجع العباد كلهم إلى الله، فيجد المنفقون والعاملون أجرهم عنده مدخرا، أحوج ما يكونون إليه، ويكون له من الوقع العظيم ما لا يمكن التعبير عنه.
والمراد بالقرض الحسن: هو ما جمع أوصاف الحسن، من النية الصالحة، وسماحة النفس بالنفقة، ووقوعها في محلها، وأن لا يتبعها المنفق منا ولا أذى؛ ولا مبطلا ومنقصا.
{246} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر القصة. يقص الله تعالى هذه القصة على الأمة ليعتبروا وليرغبوا في الجهاد، ولا ينكلوا عنه، فإن الصابرين صارت لهم العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، والناكلين خسروا الأمرين.
فأخبر تعالى أن أهل الرأي من بني إسرائيل وأصحاب الكلمة النافذة تراودوا في شأن الجهاد، واتفقوا على أن يطلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا؛ لينقطع النزاع بتعيينه، وتحصل الطاعة التامة، ولا يبقى لقائل مقال.
وأن نبيهم خشي أن طلبهم هذا مجرد كلام لا فعل معه، فأجابوا نبيهم بالعزم الجازم، وأنهم التزموا ذلك التزاما تاما، وأن القتال متعين عليهم، حيث كان وسيلة لاسترجاع ديارهم؛ ورجوعهم إلى مقرهم ووطنهم.
{247} وأنه عين لهم نبيهم طالوت ملكا، يقودهم في هذا الأمر الذي لا بد له من قائد يحسن القيادة، وأنهم استغربوا تعيينه لطالوت، وثم من هو أحق منه بيتا وأكثر مالا.
فأجابهم نبيهم: إن الله اختاره عليكم؛ بما آتاه الله من قوة العلم بالسياسة؛ وقوة الجسم، اللذين هما آلة الشجاعة والنجدة، وحسن التدبير، وأن الملك ليس بكثرة المال؛ ولا يكون صاحبه ممن كان الملك والسيادة في بيوتهم، فالله يؤتي ملكه من يشاء.
{248} ثم لم يكتف ذلك النبي الكريم بإقناعهم بما ذكره؛ من كفاءة طالوت؛ واجتماع الصفات المطلوبة فيه حتى قال لهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} وكان هذا التابوت قد استولت عليه الأعداء.
فلم يكتفوا بالصفات المعنوية في طالوت، ولا بتعيين الله له على لسان نبيهم، حتى يؤيد ذلك هذه المعجزة، ولهذا قال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فحينئذ سلموا وانقادوا.
{249} فلما ترأس فيهم طالوت، وجندهم، ورتبهم، وفصل بهم إلى قتال عدوهم، وكان قد رأى منهم من ضعف العزائم والهمم، ما يحتاج إلى تمييز الصابر من الناكل، فقال:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} تمرون عليه وقت حاجة إلى الماء.
{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي: لا يتبعني؛ لأن ذلك برهان على قلة صبره، ووفور جزعه، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} لصدقه وصبره، {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أي: فإنه مسامح فيها.
فلما وصلوا إلى ذلك النهر وكانوا محتاجين إلى الماء، شربوا كلهم منه {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} فإنهم صبروا ولم يشربوا.
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا} أي: الناكلون أو الذين عبروا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}
فإن كان القائلون هم الناكلين، فهذا قول يبررون به نكولهم، وإن كان القائلون هم الذين عبروا مع طالوت، فإنه حصل معهم نوع استضعاف لأنفسهم، ولكن شجعهم على الثبات والإقدام أهل الإيمان الكامل حيث قالوا:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} بعونه وتأييده، ونصره، فثبتوا، وصبروا لقتال عدوهم جالوت وجنوده.
{250} {وَقَتَلَ دَاوُدُ} صلى الله عليه وسلم {جَالُوتَ} وحصل بذلك الفتح والنصر على عدوهم.
{وَآتَاهُ اللَّهُ} أي: داود {الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} النبوة والعلوم النافعة، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
{251} ثم بين تعالى فائدة الجهاد فقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} باستيلاء الكفرة والفجار، وأهل الشر والفساد.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} حيث لطف بالمؤمنين، ودافع عنهم وعن دينهم، بما شرعه وبما قدره.
{252} فلما بين هذه القصة قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
ومن جملة الأدلة على رسالته، هذه القصة، حيث أخبر بها وحيا من الله، مطابقا للواقع، وفي هذه القصة عبر كثيرة للأمة.
منها: فضيلة الجهاد في سبيله، وفوائده، وثمراته، وأنه السبب الوحيد في حفظ الدين، وحفظ الأوطان، وحفظ الأبدان والأموال، وأن المجاهدين- ولو شقت عليهم الأمور- فإن عواقبهم حميدة، كما أن الناكلين- ولو استراحوا قليلا- فإنهم سيتعبون طويلا.
ومنها: الانتداب لرياسة من فيه كفاءة، وأن الكفاءة ترجع إلى أمرين: إلى العلم الذي هو علم السياسة والتدبير، وإلى القوة التي ينفذ بها الحق، وأن من اجتمع فيه الأمران فهو أحق من غيره. ومنها: الاستدلال بهذه القصة على ما قاله العلماء، أنه ينبغي لأمير الجيوش
أن يتفقدها عند فصولها، فيمنع من لا يصلح للقتال، من رجال وخيل وركاب، لضعفه، أو ضعف صبره، أو لتخذيله، أو خوف الضرر بصحبته، فإن هذا القسم ضرر محض على الناس. ومنها: أنه ينبغي عند حضور البأس، تقوية المجاهدين، وتشجيعهم، وحثهم على القوة الإيمانية، والاتكال الكامل على الله، والاعتماد عليه، وسؤال الله التثبيت، والإعانة على الصبر والنصر على الأعداء. ومنها: أن العزم على القتال والجهاد غير حقيقته، فقد يعزم الإنسان، ولكن عند حضوره تنحل عزيمته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:(أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد) .
فهؤلاء الذين عزموا على القتال، وأتوا بكلام يدل على العزم المصمم، لما جاء الوقت نكص أكثرهم، ويشبه هذا قوله صلى الله عليه وسلم:(وأسألك الرضا بعد القضاء) ؛ لأن الرضا بعد وقوع القضاء المكروه للنفوس هو الرضا الحقيقي.
{253} وقوله تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} يخبر الباري أنه فاوت بين الرسل في الفضائل الجليلة، والتخصيصات الجميلة، بحسب ما من الله به عليهم، وقاموا به من الإيمان الكامل؛ واليقين الراسخ، والأخلاق العالية، والآداب السامية، والدعوة، والتعليم، والنفع العميم.
فمنهم من اتخذه خليلا، ومنهم من كلمه تكليما، ومنهم من رفعه فوق الخلائق درجات.
وجميعهم لا سبيل لأحد من البشر إلى الوصول إلى فضلهم الشامخ.
وخص عيسى ابن مريم أنه آتاه البينات الدالة على أنه رسول الله حقا، وعبده صدقا، وأن ما جاء به من عند الله كله حق، فجعله يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وكلم الناس في المهد صبيا، وأيده بروح القدس، أي: بروح الإيمان.
فجعل روحانيته فائقة روحانية غيره، فحصل له بذلك القوة والتأييد، وإن كان أصل التأييد بهذه الروح عاما لكل مؤمن، بحسب إيمانه، كما قال:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} لكن ما لعيسى أعظم مما لغيره، لهذا خصه الله بالذكر.
وقيل: إن روح القدس- هنا- جبريل، أيده الله بإعانته ومؤازرته، لكن المعنى هو الأول.
ولما أخبر عن كمال الرسل، وما أعطاهم من الفضل والخصائص، وأن دينهم واحد، ودعوتهم إلى الخير واحدة، وكان موجب ذلك ومقتضاه أن تجتمع الأمم على تصديقهم، والانقياد لهم، لما آتاهم من البينات التي على مثلها يؤمن البشر، لكن أكثرهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، ووقع الاختلاف بين الأمم.
فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، ووقع لأجل ذلك الاقتتال الذي هو موجب الاختلاف والتعادي، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فما اختلفوا، ولو شاء الله أيضا- بعدما وقع الاختلاف الموجب للاقتتال- ما اقتتلوا.
ولكن حكمته اقتضت جريان الأمور على هذا النظام بحسب الأسباب، ففي هذه الآية أكبر شاهد على أنه تعالى يتصرف في جميع الأسباب المقتضية لمسبباتها، وأنه إن شاء أبقاها، وإن شاء منعها، وكل ذلك تبع لحكمته وحده، فإنه فعال لما يريد، فليس لإرادته ومشيئته ممانع ولا معارض ولا معاون.
{254} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يحث الله المؤمنين على النفقات في جميع طرق الخير؛ لأن حذف المعمول يفيد التعميم، ويذكرهم نعمته عليهم، بأنه هو الذي رزقهم، ونوع عليهم النعم، وأنه لم يأمرهم بإخراج جميع ما في أيديهم، بل أتى بـ "من" الدالة على التبعيض، فهذا مما يدعوهم إلى الإنفاق.
ومما يدعوهم أيضا إخبارهم أن هذه النفقات مدخرة عند الله في يوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه، ولا التبرعات، ولا الشفاعات، فكل أحد يقول: ما قدمت لحياتي.
فتنقطع الأسباب كلها، إلا الأسباب المتعلقة بطاعة الله والإيمان به، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}
ثم قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وذلك لأن الله خلقهم لعبادته، ورزقهم، وعافاهم ليستعينوا بذلك على طاعته، فخرجوا عما خلقهم الله له، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، واستعانوا بنعمه على الكفر، والفسوق، والعصيان، فلم يبقوا للعدل موضعا، فلهذا حصر الظلم المطلق فيهم.
{255} {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعظم آيات القرآن، لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة، وسعة الصفات للباري تعالى.
فأخبر أنه {اللهُ} الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره، وعبادة غيره باطلة.
وأنه {الْحَيُّ} الذي له جميع معاني الحياة الكاملة، من السمع والبصر، والقدرة، والإرادة، وغيرها، والصفات الذاتية.
كما أن {الْقَيُّومُ} تدخل فيه جميع صفات الأفعال، لأنه القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمدها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها. ومن كمال حياته وقيوميته، أنه
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} أي: نعاس {وَلا نَوْمٌ} ؛ لأن السنة والنوم، إنما يعرضان للمخلوق، الذي يعتريه الضعف، والعجز، والانحلال، ولا يعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال.
وأخبر أنه مالك جميع ما في السماوات والأرض فكلهم عبيد لله مماليك، لا يخرج أحد منهم عن هذا الطور، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فهو المالك لجميع الممالك، وهو الذي له صفات الملك والتصرف، والسلطان، والكبرياء.
ومن تمام ملكه أنه لا {يَشْفَعُ عِنْدَهُ} أحد {إِلا بِإِذْنِهِ} فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى، ولا يرتضي إلا توحيده، واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا، فليس له في الشفاعة نصيب.
ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط، وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق، من الأمور المستقبلة، التي لا نهاية لها {وَمَا خَلْفَهُمْ} من الأمور الماضية التي لا حد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}
وأن الخلق لا يحيط أحد بشيء من علم الله ومعلوماته {إِلا بِمَا شَاءَ} منها وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية، وهو جزء يسير جدا مضمحل في علوم الباري ومعلوماته، كما قال أعلم الخلق به، وهم الرسل والملائكة:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا}
ثم أخبر عن عظمته وجلاله، وأن كرسيه، وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات، التي جعلها الله في المخلوقات.
ومع ذلك فـ {لا يَئُودُهُ} أي: يثقله حفظهما، لكمال عظمته، واقتداره، وسعة حكمته في أحكامه.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ} بذاته، على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب.
{الْعَظِيمُ} الجامع، لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلت عن الصفة، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.
فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني، يحق أن تكون أعظم آيات القرآن، ويحق لمن قرأها، متدبرا متفهما، أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان.
{256} {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله وقبول الفطرة له، لا يحتاج إلى الإكراه عليه؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لما تخفى براهينه وآياته، وإلا فمن جاءه هذا الدين، ورده ولم يقبله، فإنه لعناده.
فإنه قد تبين الرشد من الغي، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة، إذا رده ولم يقبله، ولا منافاة بين هذا المعنى، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين.
وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر، وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي والجهاد الفعلي.
فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد، فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف، لفظا ومعنى، كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة، كما نبهنا عليه.
ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين: قسم آمن بالله وحده لا شريك له، وكفر بالطاغوت- وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره-، فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها، بل هو مستقيم على الدين الصحيح، حتى يصل به إلى الله؛ وإلى دار كرامته.
ويؤخذ القسم الثاني من مفهوم الآية، أن من لم يؤمن بالله، بل كفر به، وآمن بالطاغوت، فإنه هالك هلاكا أبديا، ومعذب عذابا سرمديا.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي: لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، وسميع لدعاء الداعين، وخضوع المتضرعين.
{عَلِيمٌ} بما أكنته الصدور، وما خفي من خفايا الأمور، فيجازي كل أحد بحسب ما يعلمه، من نياته وعمله.
{257} {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذه الآية مترتبة على الآية التي قبلها، فالسابقة هي الأساس، وهذه هي الثمرة.
فأخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله، وصدقوا إيمانهم، بالقيام بواجبات الإيمان، وترك كل ما ينافيه، أنه وليهم، يتولاهم بولايته الخاصة، ويتولى تربيتهم، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإيمان، والطاعة والإقبال الكامل على ربهم، وينور قلوبهم بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى.
وأما الذين كفروا، فإنهم لما تولوا غير وليهم، ولّاهم الله ما تولوا لأنفسهم، وخذلهم، ووكلهم إلى رعاية من تولاهم، ممن ليس عنده نفع ولا ضر، فأضلوهم وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع والعمل الصالح وحرموهم السعادة، وصارت النار مثواهم، خالدين فيها مخلدين.
اللهم تولنا فيمن توليت.
{258} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين، ما به تتبين الحقائق، وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد.
فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حيث حاج هذا الملك الجبار، وهو نمرذ (1) البابلي، المعطل المنكر لرب العالمين، وانتدب لمقاومة إبراهيم الخليل ومحاجته في هذا الأمر، الذي لا يقبل شكا، ولا إشكالا، ولا ريبا، وهو توحيد الله وربوبيته، الذي هو أجلى الأمور وأوضحها.
ولكن هذا الجبار غره ملكه وأطغاه، حتى وصلت به الحال إلى أن نفاه، وحاج إبراهيم الرسول العظيم، الذي أعطاه الله من العلم واليقين ما لم يعط أحدا من الرسل، سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال إبراهيم مناظرا له: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: هو المنفرد بالخلق والتدبير، والإحياء والإماتة، فذكر من هذا الجنس أظهرها، وهو الإحياء والإماتة، فقال ذلك الجبار مباهتا:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} وعنى بذلك أني أقتل من أردت قتله، وأستبقي من أردت استبقاءه.
ومن المعلوم أن هذا تمويه وتزوير، وحيدة عن المقصود، وأن المقصود أن الله تعالى هو الذي تفرد بإيجاد الحياة في المعدومات، وردها على الأموات، وأنه هو الذي يميت العباد والحيوانات بآجالها، بأسباب ربطها وبغير أسباب.
فلما رآه الخليل مموها تمويها، ربما راج على الهمج الرعاع، قال إبراهيم- ملزما له بتصديق قوله إن كان كما يزعم-:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي: وقف، وانقطعت حجته، واضمحلت شبهته.
وليس هذا من الخليل انتقالا من دليل إلى آخر، وإنما هو إلزام لنمرود، بطرد دليله إن كان صادقا، وأتى بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه.
فجميع الأدلة: السمعية، والعقلية، والفطرية، قد قامت شاهدة بتوحيد الله، معترفة بانفراده بالخلق والتدبير، وأن من هذا شأنه، لا يستحق العبادة إلا هو، وجميع الرسل متفقون على هذا الأصل العظيم، ولم ينكره إلا معاند مكابر، مماثل لهذا الجبار العنيد، فهذا من أدلة التوحيد.
هذان دليلان عظيمان، محسوسان في الدنيا قبل الآخرة، على البعث والجزاء، واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح، كما تدل عليه الآية الكريمة، والآخر على يد خليله إبراهيم.
كما أجرى دليل التوحيد السابق على يده، فهذا الرجل مر على قرية قد دمرت تدميرا، وخوت على عروشها، قد مات أهلها وخربت عمارتها، فقال- على وجه الشك والاستبعاد-:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ؟، أي: ذلك بعيد، وهي في هذه الحال، يعني: وغيرها مثلها، بحسب ما قام بقلبه تلك الساعة.
فأراد الله رحمته ورحمة الناس، حيث أماته الله مائة عام، وكان معه حمار، فأماته معه، ومعه طعام وشراب، فأبقاهما الله بحالهما كل هذه المدد الطويلة، فلما مضت الأعوام المائة، بعثه الله، فقال:{كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وذلك بحسب ما ظنه، فقال الله:{بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} والظاهر أن هذه المجاوبة على يد بعض الأنبياء الكرام.
ومن تمام رحمة الله به وبالناس، أنه أراه الآية عيانا، ليقتنع بها، فبعدما عرف أنه ميت قد أحياه الله، قيل له:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي: لم يتغير في هذه المدد الطويلة، وذلك من آيات قدرة الله، فإن الطعام والشراب- خصوصا ما ذكره المفسرون: أنه فاكهة وعصير- لا يلبث أن يتغير، وهذا قد حفظه الله، مائة عام، وقيل له:{وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فإذا هو قد تمزق وتفرق، وصار عظاما نخرة.
{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أي: نرفع بعضها إلى بعض، ونصل بعضها ببعض، بعدما تفرقت، {ثُمَّ نَكْسُوهَا} بعد الالتئام {لَحْمًا} ثم نعيد فيه الحياة.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} رأي عين لا يقبل الريب بوجه من الوجوه، {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
فاعترف بقدرة الله على كل شيء، وصار آية للناس، لأنهم قد عرفوا موته وموت حماره، وعرفوا قضيته، ثم شاهدوا هذه الآية الكبرى، هذا هو الصواب في هذا الرجل.
وأما قول كثير من المفسرين: إن هذا الرجل مؤمن أو نبي من الأنبياء، إما عزير أو غيره، وأن قوله:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني: كيف تعمر هذه القرية بعد أن كانت خرابا، وأن الله أماته، ليريه ما يعيد لهذه القرية من عمارتها بالخلق، وأنها عمرت في هذه المدة، وتراجع الناس إليها، وصارت عامرة، بعد أن كانت دامرة، فهذا لا يدل عليه اللفظ، بل ينافيه، ولا يدل عليه المعنى.
فأي آية وبرهان، برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة، وهذه لم تزل تشاهد، تعمر قرى ومساكن، وتخرب أخرى، وإنما الآية العظيمة في إحيائه بعد موته، وإحياء حماره، وإبقاء طعامه وشرابه، لم يتعفن ولم يتغير.
ثم قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} صريح في أنه لم يتبين له إلا بعدما شاهد هذه الحال الدالة على كمال قدرته عيانا.
{260} وأما البرهان الآخر، فإن إبراهيم قال طالبا من الله، أن يريه كيف يحيي الموتى، فقال الله له:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ليزيل الشبهة عن خليله.
{قَالَ} إبراهيم: {بَلَى} يا رب، قد آمنت أنك على كل شيء قدير، وأنك تحيي الموتى، وتجازي العباد، ولكن أريد
(1) في الأصل وسيأتي بعد قليل تسميته بـ (نمرود) .
أن يطمئن قلبي، وأصل إلى درجة عين اليقين.
فأجاب الله دعوته، كرامة له، ورحمة بالعباد، {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} ولم يبين أي الطيور هي، فالآية حاصلة بأي نوع منها، وهو المقصود، {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: ضمهن، واذبحهن، ومزقهن.
ففعل ذلك، وفرق أجزاءهن على الجبال، التي حوله، ودعاهن بأسمائهن، فأقبلن إليه، أي: سريعات، لأن السعي: السرعة، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن، وإنما جئن طائرات، على أكمل ما يكون من الحياة.
وخص الطيور بذلك، لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن.
وأيضا أزال في هذا كل وهم، ربما يعرض للنفوس المبطلة، فجعلهن متعددات أربعة، ومزقهن جميعا، وجعلهن على رؤوس الجبال، ليكون ذلك ظاهرا علنا، يشاهد من قرب ومن بعد، وأنه نحاهن عنه كثيرا، لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل، وأيضا أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات.
فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته.
وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه، وتمام عدله وفضله.
{261- 262} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أ، َ،،، م، ْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا حث عظيم من الله لعباده في إنفاق أموالهم في سبيله، وهو طريقه الموصل إليه، فيدخل في هذا إنفاقه في ترقية العلوم النافعة، وفي الاستعداد للجهاد في سبيله، وفي تجهز المجاهدين وتجهيزهم، وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين.
ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين، والفقراء والمساكين.
وقد يجتمع الأمران، فيكون في النفقة دفع الحاجات، والإعانة على الخير والطاعات، فهذه النفقات مضاعفة، هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك، ولهذا قال:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان، والإخلاص التام، وفي ثمرات نفقته ونفعها، فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة، ومصالح متنوعة، فكان الجزاء من جنس العمل.
ثم أيضا ذكر ثوابا آخر للمنفقين أموالهم في سبيله، نفقة صادرة، مستوفية لشروطها، منتفية موانعها، فلا يتبعون المنفق عليه منا منهم عليه، وتعدادا للنعم، وأذية له، قولية أو فعلية.
فهؤلاء {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} بحسب ما يعلمه منهم، وبحسب نفقاتهم ونفعها، وبفضله الذي لا تناله، ولا تصل إليه صدقاتهم.
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فنفى عنهم المكروه الماضي، بنفي الحزن، والمستقبل بنفي الخوف عليهم، فقد حصل لهم المحبوب، واندفع عنهم المكروه.
{263} {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} ذكر الله أربع مراتب للإحسان: المرتبة العليا: النفقة الصادرة عن نية صالحة، ولم يتبعها المنفق منا ولا أذى.
ثم يليها قول المعروف، وهو: الإحسان القولي بجميع وجوهه، الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئا، وغير ذلك من أقوال المعروف.
والثالثة: الإحسان بالعفو والمغفرة، عمن أساء إليك، بقول أو فعل.
وهذان أفضل من الرابعة، وخير منها وهي التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطى، لأنه كدر إحسانه وفعل خيرا وشرا.
فالخير المحض- وإن كان مفضولا- خير من الخير الذي يخالطه شر، وإن كان فاضلا، وفي هذا التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه، كما فعله أهل اللؤم والحمق والجهل.
{وَاللهُ} تعالى {غَنِيٌّ} عن صدقاتهم، وعن جميع عباده.
{حَلِيمٌ} مع كمال غناه، وسعة عطاياه، يحلم عن العاصين، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يعافيهم ويرزقهم، ويدر عليهم خيره، وهم مبارزون له بالمعاصي.
{264- 266} ثم نهى أشد النهي عن المن والأذى، وضرب لذلك مثلا، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه، ولم يتبع نفقته منا ولا أذى، ولمن أتبعها منا وأذى، وللمرائي.
{265} فأما الأول، فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة، لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: ينفقون، وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق، فمثل هذا العمل {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} وهو المكان المرتفع، لأنه يتبين للرياح والشمس، والماء فيها غزير.
فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير، حصل طل كاف، لطيب منبتها، وحسن أرضها، وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها. ولهذا {آتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أي: متضاعفا.
وهذه الجنة التي على هذا الوصف، هي أعلى ما يطلبه الناس، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل.
{266} وأما من أنفق لله، ثم أتبع نفقته منا وأذى، أو عمل عملا، فأتى بمبطل لذلك العمل، فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة، لكن سلط عليها {إِعْصَارٌ} وهو الريح الشديدة {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} وله ذرية ضعفاء، وهو
ضعيف قد أصابه الكبر.
فهذه الحال من أفظع الأحوال، ولهذا صدر هذا المثل بقوله:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته، فإن تلفها دفعة واحدة، بعد زهاء أشجارها، وإيناع ثمارها، مصيبة كبرى.
ثم حصول هذه الفاجعة- وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل، وله ذرية ضعفاء، لا مساعدة منهم له، ومؤنتهم عليه- فاجعة أخرى، فصار صاحب هذا المثل، الذي عمل لله، ثم أبطل عمله بمناف له، يشبه حال صاحب الجنة، التي جرى عليها ما جرى، حين اشتدت ضرورته إليها.
المثل الثالث: الذي يرائي الناس، وليس معه إيمان بالله، ولا احتساب لثوابه، حيث شبه قلبه بالصفوان، وهو الحجر الأملس، عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر، أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة، ولكنه كالحجر، الذي أصابه الوابل الشديد، فأذهب ما عليه من التراب، وتركه صلدا.
وهذا مثل مطابق لقلب المرائي، الذي ليس فيه إيمان، بل هو قاس لا يلين ولا يخشع.
فهذا أعماله ونفقاته لا أصل لها، تؤسس عليه، ولا غاية لها، تنتهي إليها، بل ما عمله، فهو باطل، لعدم شرطه.
والذي قبله بطل بعد وجود الشرط، لوجود المانع، والأول مقبول مضاعف، لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات، وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة، تنطبق على جميع العاملين، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة، والأمثال المطابقة. {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} .
{267- 268} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} يحث الباري عباده على الإنفاق مما كسبوا في التجارات، ومما أخرج لهم من الأرض، من الحبوب والثمار، وهذا يشمل زكاة النقدين، والعروض كلها، المعدة للبيع والشراء، والخارج من الأرض، من الحبوب والثمار، ويدخل في عمومها الفرض والنفل.
وأمر تعالى أن يقصدوا الطيب منها، ولا يقصدوا الخبيث، وهو الرديء الدون، يجعلونه لله، ولو بذله لهم من لهم حق عليه، لم يرتضوه ولم يقبلوه إلا على وجه المغاضاة والإغماض.
فالواجب إخراج الوسط من هذه الأشياء، والكمال إخراج العالي، والممنوع إخراج الرديء، فإن هذا لا يجزئ عن الواجب، ولا يحصل فيه الثواب التام في المندوب.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فهو غني عن جميع المخلوقين، وهو الغني عن نفقات المنفقين، وعن طاعات الطائعين، وإنما أمرهم بها، وحثهم عليها، لنفعهم، ومحض فضله وكرمه عليهم.
ومع كمال غناه، وسعة عطاياه، فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام.
وحميد في أفعاله، التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة، وحميد الأوصاف، لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات، لا يبلغ العباد كنهها، ولا يدركون وصفها.
{268} فلما حثهم على الإنفاق النافع، ونهاهم عن الإمساك الضار، بين لهم أنهم بين داعيين:
داعي الرحمن، يدعوهم إلى الخير، ويعدهم عليه الخير، والفضل والثواب العاجل والآجل، وإخلاف ما أنفقوا.
وداعي الشيطان، الذي يحثهم على الإمساك ويخوفهم، إن أنفقوا أن يفتقروا، فمن كان مجيبا لداعي الرحمن، وأنفق مما رزقه الله، فليبشر بمغفرة الذنوب، وحصول كل مطلوب، ومن كان مجيبا لداعي الشيطان، فإنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فليختر العبد أي الأمرين أليق به.
وختم الآية بأنه {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: واسع الصفات، كثير الهبات، عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين، وعليم بمن هو أهل، فيوفقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات.
{269} {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} لما ذكر أحوال المنفقين للأموال، وأن الله أعطاهم، ومن عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية، وينالون بها المقامات السنية، ذكر ما هو أفضل من ذلك، وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده، ومن أراد بهم خيرا من خلقه.
والحكمة هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال.
وهذا أفضل العطايا، وأجل الهبات، ولهذا قال:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} ؛ لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع، في دينهم ودنياهم.
وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام.
ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم. {إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} وهم أهل العقول الوافية، والأحلام الكاملة، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه، والضار فيتركونه.
وهذان الأمران، وهما بذل النفقات المالية، وبذل الحكمة العلمية، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات.
وهما اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس) .
{270- 271} {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يخبر تعالى، أنه مهما أنفق المنفقون أو تصدق المتصدقون، أو نذر الناذرون، فإن الله يعلم ذلك.
ومضمون الإخبار بعلمه، يدل على الجزاء، وأن الله لا يضيع عنده مثقال ذرة، ويعلم ما صدرت عنه، من نيات صالحة، أو سيئة، وأن الظالمين الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم، أو يقتحمون ما حرم عليهم، ليس لهم من دونه أنصار، ينصرونهم ويمنعونهم، وأنه لا بد أن تقع بهم العقوبات.
{271} وأخبر أن الصدقة إن أبداها المتصدق، فهي خير، وإن أخفاها، وسلمها للفقير، كان أفضل، لأن الإخفاء على الفقير، إحسان آخر.
وأيضا فإنه يدل على قوة الإخلاص، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله:"من تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
وفي قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فائدة لطيفة، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها، إذا أعطيت للفقير.
فأما إذا صرفت في مشروع خيري، لم يكن في الآية، ما يدل على فضيلة إخفائها، بل هنا قواعد الشرع، تدل على مراعاة المصلحة، فربما كان الإظهار خيرا، لحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير.
وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} في هذا: أن الصدقات يجتمع فيها الأمران: حصول الخير، وهو: كثرة الحسنات والثواب والأجر، ودفع الشر والبلاء الدنيوي والأخروي، بتكفير السيئات.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازي كلا بعمله، بحسب حكمته.
{272} {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي: إنما عليك- أيها الرسول- البلاغ، وحث الناس على الخير، وزجرهم عن الشر، وأما الهداية، فبيد الله تعالى.
ويخبرهم عن المؤمنين حقا، أنهم لا ينفقون إلا لطلب مرضاة ربهم، واحتساب ثوابه، لأن إيمانهم يدعوهم إلى ذلك، فهذا خير وتزكية للمؤمنين، ويتضمن التذكير لهم بالإخلاص.
وكرر علمه- تعالى- بنفقاتهم، لإعلامهم أنه لا يضيع عنده مثقال ذرة:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}
{273- 274} {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني أنه ينبغي أن تتحروا بصدقاتكم الفقراء، الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله، وعلى طاعته، وليس لهم إرادة في الاكتساب، أو ليس لهم قدرة عليه، وهم يتعففون، إذا رآهم الجاهل ظن أنهم أغنياء {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فهم لا يسألون بالكلية، وإن سألوا اضطرارا، لم يلحفوا في السؤال.
فهذا الصنف من الفقراء، أفضل ما وضعت فيهم النفقات لدفع حاجتهم، وإعانة لهم على مقصدهم وطريق الخير، وشكرا لهم على ما اتصفوا به من الصبر، والنظر إلى الخالق، لا إلى الخلق.
{274} ومع ذلك، فالإنفاق في طرق الإحسان وعلى المحاويج حيثما كانوا، فإنه خير وأجر، وثواب عند الله، ولهذا قال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
فإن الله يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، وإن الله ينيلهم الخيرات ويدفع عنهم الأحزان والمخاوف والكريهات.
وقوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: كل أحد منهم بحسب حاله.
وتخصيص ذلك، بأنه عند ربهم، يدل على شرف هذه الحال، ووقوعها في الموقع الأكبر، كما في الحديث الصحيح:(إن العبد ليتصدق بالتمرة من كسب طيب فيتقبلها الجبار بيده، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم) .
{275- 281} {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لما ذكر الله حالة المنفقين وما لهم من الله، من الخيرات، وما يكفر عنهم من الذنوب والخطيئات، ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة، وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم، فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين، عوقبوا في البرزخ والقيامة، أنهم لا يقومون من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي: من الجنون والصرع.
وذلك عقوبة، وخزي وفضيحة لهم، وجزاء لهم على مراباتهم ومجاهرتهم بقولهم:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فجمعوا- بجراءتهم- بين ما أحل الله، وبين ما حرم الله، واستباحوا بذلك الربا.
ثم عرض تعالى العقوبة على المرابين وغيرهم، فقال:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بيان مقرون به الوعد والوعيد.
{فَانْتَهَى} عما كان يتعاطاه من الربا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} مما تجرأ عليه وتاب منه.
{وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فيما يستقبل من زمانه، فإن استمر على توبته، فالله لا يضيع أجر المحسنين.
{وَمَنْ عَادَ} بعد بيان الله وتذكيره وتوعده لآكل الربا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها، وذلك لشناعته، ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان.
وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها، وليس فيها حجة للخوارج، كغيرها من آيات الوعيد.
فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة، فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص، من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان من النار.
ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار، إن لم يتب منها.
{276} ثم أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين، ويربي صدقات المنفقين، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق، أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده، فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره.
فالمتجرئ على الربا، يعاقبه بنقيض مقصوده، وهذا مشاهد بالتجربة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا}
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وهو الذي كفر نعمة الله، وجحد منة ربه، وأثم بإصراره على معاصيه.
ومفهوم الآية، أن الله يحب من كان شكورا على النعماء، تائبا من المآثم والذنوب.
{277} ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا، وهي قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} الآية، لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه، خصوصا إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإن الزكاة إحسان إلى الخلق، ينافي تعاطي الربا، الذي هو ظلم لهم، وإساءة عليهم.
{278} ثم وجه الخطاب للمؤمنين، وأمرهم أن يتقوه، ويذروا ما بقي من معاملات الربا، التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك، وأنهم إن لم يفعلوا ذلك، فإنهم محاربون لله ورسوله، وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا، حيث جعل المصر عليه، محاربا لله ورسوله.
{279} ثم قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ} يعني من المعاملات الربوية.
{فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} الناس بأخذ الربا {وَلا تُظْلَمُونَ} ببخسكم رؤوس أموالكم.
فكل من تاب من الربا، فإن كانت معاملات سالفة، فله ما سلف، وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة، وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة، فقد تجرأ على الربا.
وفي هذه الآية، بيان لحكمة الربا، وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة، وتضاعف الربا عليهم، وهو واجب إنظارهم.
{280} ولهذا قال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي: وإن كان الذي عليه الدين معسرا، لا يقدر على الوفاء، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة.
وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح، أن يوفي ما عليه.
وإن تصدق عليه غريمه- بإسقاط الدين كله أو بعضه- فهو خير له، ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية، واجتناب المعاملات الربوية، والإحسان إلى المعسرين، علمه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله، ويوفيه عمله، ولا يظلمه مثقال ذرة، كما ختم هذه الآية بقوله:
احتوت هاتان الآيتان، على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة والإصلاحات التي لا يقترح العقلاء أعلى ولا أكمل منها، فإن فيها فوائد كثيرة.
منها: جواز المعاملات في الديون، سواء كانت ديون سلم أو شراء مؤجلا ثمنه، فكله جائز؛ لأن الله أخبر به عن المؤمنين، وما أخبر به عن المؤمنين، فإنه من مقتضيات الإيمان وقد أقرهم عليه الملك الديان.
ومنها: وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وحلول الإجارات.
ومنها: أنه إذا كان الأجل مجهولا، فإنه لا يحل، لأنه غرر وخطر، فيدخل في الميسر.
ومنها: أمره تعالى بكتابة الديون.
وهذا الأمر قد يجب، إذا وجب حفظ الحق، كالذي للعبد عليه ولاية، كأموال اليتامى، والأوقاف، والوكلاء، والأمناء، وقد يقارب الوجوب، كما إذا كان الحق متمحضا للعبد، فقد يقوى الوجوب وقد يقوى الاستحباب، بحسب الأحوال المقتضية لذلك.
وعلى كل حال، فالكتابة من أعظم ما تحفظ بها هذه المعاملات المؤجلة، لكثرة النسيان، ولوقوع المغالطات، وللاحتراز من الخونة الذين لا يخشون الله تعالى.
ومنها: أمره تعالى للكاتب أن يكتب بين المتعاملين بالعدل، فلا يميل مع أحدهما لقرابة ولا غيرها، ولا على أحدهما لعداوة ونحوها.
ومنها: أن الكتابة بين المتعاملين من أفضل الأعمال، ومن الإحسان إليهما، وفيها حفظ حقوقهما، وبراءة ذممهما كما أمره الله بذلك، فليحتسب الكاتب بين الناس هذه الأمور، ليحظى بثوابها.
ومنها: أن الكاتب لا بد أن يكون عارفا بالعدل، معروفا بالعدل؛ لأنه إذا لم يكن عارفا بالعدل لم يتمكن منه، وإذا لم يكن معتبرا عدلا عند الناس رضيا، لم تكن كتابته معتبرة، ولا حاصلا بها المقصود، الذي هو حفظ الحقوق.
ومنها: أن من تمام الكتابة والعدل فيها، أن يحسن الكاتب الإنشاء، والألفاظ المعتبرة في كل معاملة بحسبها، وللعرف في هذا المقام اعتبار عظيم.
ومنها: أن الكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها، وأن من علمه الله الكتابة، فقد تفضل عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى، أن يقضي بكتابته حاجات العباد، ولا يمتنع من الكتابة، ولهذا قال:{وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}
ومنها: أن الذي يكتبه الكاتب، هو اعتراف من عليه الحق، إذا كان يحسن التعبير عن الحق الذي عليه، فإن كان لا يحسن ذلك- لصغره، أو سفهه، أو جنونه، أو خرسه، أو عدم استطاعته- أملى عنه وليه، وقام وليه في ذلك مقامه.
ومنها: أن الاعتراف من أعظم الطرق، التي تثبت بها الحقوق، حيث أمر الله تعالى أن يكتب الكاتب ما أملى عليه من عليه الحق.
ومنها: ثبوت الولاية على القاصرين، من الصغار والمجانين، والسفهاء ونحوهم.
ومنها: أن الولي يقوم مقام موليه، في جميع اعترافاته المتعلقة بحقوقه.
ومنها: أن من أمنته في معاملة، وفوضته فيها، فقوله في ذلك مقبول، وهو نائب منابك، لأنه إذا كان الولي على القاصرين ينوب منابهم، فالذي وليته باختيارك وفوضت إليه الأمر، أولى بالقبول، واعتبار قوله وتقديمه على قولك عند الاختلاف.
ومنها: أنه يجب على الذي عليه الحق- إذا أملى على الكاتب- أن يتقي الله، ولا يبخس الحق الذي عليه، فلا ينقصه في قدره، ولا في وصفه، ولا في شرط من شروطه، أو قيد من قيوده، بل عليه أن يعترف بكل ما عليه من متعلقات الحق، كما يجب ذلك إذا كان الحق على غيره له، فمن لم يفعل ذلك، فهو من المطففين الباخسين.
ومنها: وجوب الاعتراف بالحقوق الجلية والحقوق الخفية، وأن ذلك من أعظم خصال التقوى، كما أن ترك الاعتراف بها من نواقض التقوى ونواقصها.
ومنها: الإرشاد إلى الإشهاد في البيع، فإن كانت في المداينات، فحكمها حكم الكتابة كما تقدم، لأن الكتابة هي كتابة الشهادة، وإن كان البيع بيعا حاضرا، فينبغي الإشهاد فيه، ولا حرج فيه بترك الكتابة، لكثرته وحصول المشقة فيه.
ومنها: الإرشاد إلى إشهاد رجلين عدلين، فإن لم يمكن، أو تعذر، أو تعسر، فرجل وامرأتان، وذلك شامل لجميع المعاملات، بيوع الإدارة، وبيوع الديون، وتوابعها من الشروط والوثائق وغيرها.
وإذا قيل: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، والآية الكريمة ليس فيها إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، قيل: الآية الكريمة، فيها إرشاد الباري عباده إلى حفظ حقوقهم ولهذا أتى فيها بأكمل الطرق، وأقواها، وليس فيها ما ينافي ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالشاهد واليمين.
فباب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر، يرشد فيه العبد إلى الاحتراز والتحفظ التام، وباب الحكم بين المتنازعين، ينظر فيه إلى المرجحات والبينات، بحسب حالها.
ومنها: أن شهادة المرأتين قائمة مقام الرجل الواحد، في الحقوق الدنيوية، وأما في الأمور الدينية- كالرواية والفتوى- فإن المرأة فيه، تقوم مقام الرجل، والفرق ظاهر بين البابين.
ومنها: الإرشاد إلى الحكمة في كون شهادة المرأتين عن شهادة الرجل، وأنه لضعف ذاكرة المرأة غالبا، وقوة حافظة الرجل.
ومنها: أن الشاهد لو نسي شهادته، فذكّره الشاهد الآخر، فذكر أنه لا يضر ذلك النسيان، إذا زال بالتذكير لقوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ومن باب أولى، إذا نسي الشاهد، ثم ذكر من دون تذكير، فإن الشهادة مدارها على العلم واليقين.
ومنها: أن الشهادة لا بد أن تكون عن علم ويقين، لا عن شك، فمتى صار عند الشاهد ريب في شهادته- ولو غلب على ظنه- لم يحل له أن يشهد إلا بما يعلم.
ومنها: أن الشاهد ليس له أن يمتنع، إذا دعي للشهادة سواء دعي للتحمل أو للأداء، وأن القيام بالشهادة من أفضل الأعمال الصالحة، كما أمر الله بها، وأخبر عن نفعها ومصالحها.
ومنها: أنه لا يحل الإضرار بالكاتب، ولا بالشهيد، بأن يدعيا في وقت أو حالة تضرهما.
وكما أنه نهي لأهل الحقوق والمتعاملين، وأن يضار الشهود والكتاب، فإنه أيضا نهي للكاتب والشهيد، أن يضار المتعاملين أو أحدهما.
وفي هذا أيضا أن الشاهد والكاتب إذا حصل عليهما ضرر في الكتابة والشهادة أنه يسقط عنهما الوجوب.
وفيها التنبيه على أن جميع المحسنين الفاعلين للمعروف، لا يحل إضرارهم، وتحميلهم ما لا يطيقون، فـ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} ؟
وكذلك على من أحسن وفعل معروفا، أن يتمم إحسانه يترك الإضرار القولي والفعلي بمن أوقع به المعروف، فإن الإحسان لا يتم إلا بذلك.
ومنها: أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الكتابة والشهادة، حيث وجبت، لأنه حق أوجبه الله على الكاتب والشهيد، ولأنه من مضارة المتعاملين.
ومنها: التنبيه على المصالح والفوائد المترتبة على العمل بهذه الإرشادات الجليلة، وأن فيها حفظ الحقوق والعدل، وقطع التنازع والسلامة من النسيان والذهول، ولهذا قال:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} وهذه مصالح ضرورية للعباد.
ومنها: أن تعلم الكتابة من الأمور الدينية، لأنها وسيلة إلى حفظ الدين والدنيا وسبب للإحسان.
ومنها: أن من خصه الله بنعمة من النعم، يحتاج الناس إليها، فمن تمام شكر هذه النعمة، أن يعود بها على عباد الله، وأن يقضي بها حاجتهم، لتعليل الله النهي عن الامتناع عن الكتابة، بتذكير الكاتب بقوله:{كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} ومع هذا: فمن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته.
ومنها: أن الإضرار بالشهود والكتاب، فسوق بالإنسان، فإن الفسوق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، وهو يزيد وينقص، ويتبعض، ولهذا لم يقل:"فأنتم فساق" أو فاسقون"، بل قال:
{فَإِنَّهُ
فُسُوقٌ بِكُمْ} فبقدر خروج العبد عن طاعة ربه، فإنه يحصل به من الفسوق، بحسب ذلك.
واستدل بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أن تقوى الله، وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل.
ومنها: أنه كما أنه من العلم النافع، تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات، فمنه أيضا، تعليم الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات، فإن الله تعالى حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم، وكتابه العظيم فيه تبيان كل شيء.
{283} ومنها: مشروعية الوثيقة بالحقوق، وهي الرهون والضمانات، التي تكفل للعبد حصوله حقه، سواء عامل برا أو فاجرا، أمينا أو خائنا، فكم في الوثائق من حفظ حقوق، وانقطاع منازعات.
ومنها: أن تمام الوثيقة في الرهن، أن يكون مقبوضا، ولا يدل ذلك على أنه لا يصح الرهن إلا بالقبض، بل التقييد بكون الرهن مقبوضا، يدل على أنه قد يكون مقبوضا، تحصل به الثقة التامة، وقد لا يكون مقبوضا، فيكون ناقصا.
ومنها: أنه يستدل بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين الذي به الرهن، أن القول قول المرتهن، صاحب الحق، لأن الله جعل الرهن وثيقة به، فلولا أنه يقبل قوله في ذلك، لم تحصل به الوثيقة لعدم الكتابة والشهود.
ومنها: أنه يجوز التعامل بغير وثيقة، ولا شهود، لقوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ولكن في هذه الحال يحتاج إلى التقوى والخوف من الله، وإلا فصاحب الحق مخاطر في حقه، ولهذا أمر الله في هذه الحال، من عليه الحق، أن يتقي الله ويؤدي أمانته.
ومنها: أن من ائتمنه معامله، فقد عمل معه معروفا عظيما، ورضي بدينه وأمانته، فيتأكد على من عليه الحق، أداء الأمانة من الجهتين: أداء لحق الله، وامتثالا لأمره، ووفاء بحق صاحبه، الذي رضي بأمانته، ووثق به.
ومنها: تحريم كتم الشهادة، وأن كاتمها قد أثم قلبه، الذي هو ملك الأعضاء، وذلك لأن كتمها- كالشهادة بالباطل والزور- فيها ضياع الحقوق، وفساد المعاملات، والإثم المتكرر في حقه، وحق من عليه الحق.
وأما تقييد الرهن بالسفر- مع أنه يجوز حضرا وسفرا- فللحاجة إليه لعدم الكاتب والشهيد.
وختم الآية بأنه {عَلِيمٌ} بكل ما يعمله العباد، كالترغيب لهم في المعاملات الحسنة، والترهيب من المعاملات السيئة.
{284} {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يخبر تعالى، بعموم ملكه لأهل السماء والأرض، وإحاطة علمه بما أبداه العباد، وما أخفوه في أنفسهم، وأنه سيحاسبهم به، فيغفر لمن يشاء، وهو المنيب إلى ربه، الأواب إليه {إِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} ويعذب من يشاء، وهو المصر على المعاصي، في باطنه وظاهره.
وهذه الآية لا تنافي الأحاديث الواردة في العفو، عما حدث به العبد نفسه، ما لم يعمل أو يتكلم، فتلك الخطرات التي تتحدث بها النفوس، التي لا يتصف بها العبد ولا يصمم عليها، وأما هنا فهي العزائم المصممة، والأوصاف الثابتة في النفوس، أوصاف الخير، وأوصاف الشر، ولهذا قال:{مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: استقر فيها وثبت، من العزائم والأوصاف.
وأخبر أنه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فمن تمام قدرته، محاسبة الخلائق، وإيصال ما يستحقونه من الثواب والعقاب.
{285- 286} {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلته كفتاه، أي: من جميع الشرور، وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة، فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان، بجميع أصوله في قوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية.
وأخبر في هذه الآية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، آمنوا بهذه الأصول العظيمة، وبجميع الرسل، وجميع الكتب، ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض، وكفر ببعض، كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة.
وفي قرْن المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم، والإخبار عنهم جميعا بخبر واحد، شرف عظيم للمؤمنين.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم مشارك للأمة في توجه الخطاب الشرعي له، وقيامه التام به، وأنه فاق المؤمنين، بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه.
وقوله: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} هذا التزام من المؤمنين، عام لجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد، ومضمون ذلك تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات، وما ارتكبوه من المحرمات، وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة، والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:"قد فعلت".
فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعا، ومن أفرادهم، إذا لم يمنع من ذلك مانع في الأفراد، وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ والنسيان، وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل، ولم يحملهم من المشاق، والآصار، والأغلال، ما حمله على من قبلهم، ولم يحملهم فوق طاقتهم، وقد غفر لهم ورحمهم، ونصرهم على القوم الكافرين.
فنسأل الله تعالى، بأسمائه وصفاته، وبما من به علينا من التزام دينه، أن يحقق لنا ذلك، وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه، وأن يصلح أحوال المؤمنين.
ويؤخذ من هنا قاعدة التيسير، ونفي الحرج في أمور الدين كلها.
وقاعدة العفو عن النسيان والخطأ، في
العبادات، وفي حقوق الله تعالى.
وكذلك في حقوق الخلق من جهة رفع المأثم، وتوجه الذم.
وأما وجوب ضمان المتلفات، خطأ أو نسيانا، في النفوس والأموال، فإنه مرتب على الإتلاف بغير حق، وذلك شامل لحالة الخطأ والنسيان، والعمد.
تم تفسير سورة البقرة، ولله الحمد والثناء، وصلى الله على محمد وسلم.
تفسير سورة آل عمران وهي مدنية
{2- 3} فأخبر تعالى أنه {الْحَيُّ} كامل الحياة، {الْقَيُّومُ} القائم بنفسه، المقيم لأحوال خلقه، وقد أقام أحوالهم الدينية، وأحوالهم الدنيوية والقدرية، فأنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب بالحق، الذي لا ريب فيه، وهو مشتمل على الحق {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب، أي: شهد بما شهدت به، ووافقها، وصدق من جاء بها من المرسلين.
وكذلك {أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}
{4} {مِنْ قَبْلُ} هذا الكتاب {هُدًى لِلنَّاسِ}
وأكمل الرسالة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتابه العظيم الذي هدى الله به الخلق، من الضلالات، واستنقذهم به من الجهالات، وفرق به بين الحق والباطل، والسعادة والشقاوة، والصراط المستقيم، وطرق الجحيم، فالذين آمنوا به واهتدوا، حصل لهم به الخير الكثير، والثواب العاجل والآجل.
و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} التي بينها في كتابه وعلى لسان رسوله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ممن عصاه.
{5} ومن تمام قيوميته تعالى، أن علمه محيط بالخلائق {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} حتى ما في بطون الحوامل.
{6} فهو {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} من ذكر وأنثى، وكامل الخلق وناقصه، متنقلين في أطوار خلقته وبديع حكمته، فمن هذا شأنه مع عباده، واعتناؤه العظيم بأحوالهم، من حين أنشأهم إلى منتهى أمورهم لا مشارك له في ذلك- فيتعين أنه لا يستحق العبادة إلا هو.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ} الذي قهر الخلائق بقوته، واعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم {الْحَكِيمُ} في خلقه وشرعه.
{7- 8} {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} يخبر تعالى عن عظمته، وكمال قيوميته، أنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم، الذي لم يوجد- ولن يوجد- له نظير أو مقارب في هدايته، وبلاغته وإعجازه، وإصلاحه للخلق، وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين، الذي لا يشتبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها، حتى تضم إلى المحكم.
فالذين في قلوبهم مرض وزيغ، وانحراف، لسوء قصدهم، يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة، طلبا للفتنة، وتحريفا لكتابه، وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا.
وأما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل والمعارف- فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأن كله حق، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف.
فلعلمهم أن المحكمات، معناها في غاية الصراحة والبيان، يردون إليها المشتبه، الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم، وناقص المعرفة.
فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكما، ويقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} للأمور النافعة، والعلوم الصائبة {إِلا أُولُو الأَلْبَابِ}
أي: أهل العقول الرزينة.
ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه، من أوصاف أهل الآراء السقيمة، والعقول الواهية، والقصود السيئة.
وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما تنتهي وتؤول إليه، تعين الوقوف على "إلا الله" حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى، وإن أريد بالتأويل: معنى التفسير، ومعرفة معنى الكلام كان العطف أولى، فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم، أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة، محكمها ومتشابهها، ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين، دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان، فقالوا:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي: لا تملها عن الحق إلى الباطل.
{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} تصلح بها أحوالنا {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي: كثير الفضل والهبات.
وذلك أن الله تعالى ذكر عن الراسخين، أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم، بعد إذ هداهم، وقد أخبر في آيات أخر الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف، وأن ذلك بسبب كسبهم، كقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
فالعبد إذا تولى عن ربه، ووالى عدوه، ورأى الحق، فصدف عنه، ورأى الباطل فاختاره، ولاه الله ما تولى لنفسه، وأزاغ قلبه، عقوبة له على زيغه، وما ظلمه الله، ولكنه ظلم نفسه، فلا يلم إلا نفسه الأمارة بالسوء، والله أعلم.
{9} {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} هذا
من تتمة كلام الراسخين في العلم، وهو يتضمن الإقرار بالبعث والجزاء، واليقين التام، وأن الله لا بد أن يوقع ما وعد به، وذلك يستلزم موجبه ومقتضاه، من العمل والاستعداد لذلك اليوم، فإن الإيمان بالبعث والجزاء، أصل صلاح القلوب وأصل الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، اللذين هما أساس الخيرات.
{10- 11} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لما ذكر يوم القيامة، ذكر أن جميع من كفر بالله، وكذب رسول الله، لا بد أن يدخلوا النار ويصلوها، وأن أموالهم وأولادهم لن تغني عنهم شيئا من عذاب الله، وأنه سيجري عليهم في الدنيا من الأخذات والعقوبات، ما جرى على فرعون وسائر الأمم المكذبة بآيات الله {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} وعجل لهم العقوبات الدنيوية، متصلة بالعقوبات الأخروية.
{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فإياكم أن تستهينوا بعقابه، فيهون عليكم الإقامة على الكفر والتكذيب.
{12- 13} {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} وهذا خبر وبشرى للمؤمنين، وتخويف للكافرين، أنهم لا بد أن يغلبوا في هذه الدنيا، وقد وقع كما أخبر الله، فغلبوا غلبة لم يكن لها مثيل ولا نظير.
وجعل الله تعالى ما وقع في "بدر" من آياته الدالة على صدق رسوله، وأنه على الحق، وأعداءه على الباطل، حيث التقت فئتان، فئة المؤمنين لا يبلغون إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا مع قلة عددهم، وفئة الكافرين، يناهزون الألف، مع استعدادهم التام في السلاح وغيره، فأيد الله المؤمنين بنصره، فهزموهم بإذن الله، ففي هذا عبرة لأهل البصائر.
فلولا أن هذا هو الحق الذي إذا قابل الباطل أزهقه واضمحل الباطل لكان- بحسب الأسباب الحسية- الأمر بالعكس.
{14- 15} {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أخبر تعالى في هاتين الآيتين، عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، وبين التفاوت العظيم، والفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، واستحلوها بالقلوب، وعكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر هممهم، ومبلغ علمهم، وهي- مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة.
فهذا {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
{15} ثم أخبر عن ذلك بأن المتقين لله، القائمين بعبوديته، لهم خير من هذه اللذات، فلهم أصناف الخيرات، والنعيم المقيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهم رضوان الله الذي هو أكبر من كل شيء.
ولهم الأزواج المطهرة، من كل آفة ونقص، جميلات الأخلاق، كاملات الخلائق، لأن النفي يستلزم ضده، فتطهيرها من الآفات، مستلزم لوصفها بالكمالات.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} فييسر كلا منهم لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسرهم للعمل لهذه الدار الباقية، ويأخذون من هذه الحياة الدنيا، ما يعينهم على عبادة الله وطاعته، وأما أهل الشقاوة والإعراض، فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة، ويرضون بالحياة الدنيا، ويطمئنون بها، ويتخذونها قرارا.
{16- 17} {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} أي: هؤلاء الراسخون في العلم، أهل العلم والإيمان، يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم، لمغفرة ذنوبهم، ووقايتهم عذاب النار، وهذا من الوسائل التي يحبها الله، أن يتوسل العبد إلى ربه، بما مَنَّ به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة، إلى تكميل نعم الله عليه، بحصول الثواب الكامل، واندفاع العقاب.
{17} ثم وصفهم بأجمل الصفات: بالصبر الذي هو حبس النفوس على ما يحبه الله، طلبا لمرضاته، يصبرون على طاعة الله، ويصبرون عن معاصيه، ويصبرون على أقداره المؤلمة.
وبالصدق بالأقوال والأحوال، وهو استواء الظاهر والباطن، وصدق العزيمة على سلوك الصراط المستقيم، وبالقنوت الذي هو دوام الطاعة، مع مصاحبة الخشوع والخضوع، وبالنفقات في سبيل الخيرات، وعلى الفقراء، وأهل الحاجات، وبالاستغفار، خصوصا وقت الأسحار، فإنهم مدوا الصلاة إلى وقت السحر، فجلسوا يستغفرون الله تعالى.
{18} {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هذه أجل الشهادات الصادرة من الملك العظيم، ومن الملائكة، وأهل العلم، على أجل مشهود عليه، وهو توحيد الله، وقيامه بالقسط، وذلك يتضمن الشهادة على جميع الشرع، وجميع أحكام الجزاء.
فإن الشرع والدين، أصله وقاعدته توحيد الله وإفراده بالعبودية، والاعتراف بانفراده بصفات العظمة والكبرياء، والمجد، والعز، والقدرة، والجلال، وبنعوت الجود، والبر والرحمة، والإحسان، والجمال، وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق أن يحيطوا بشيء منه، أو يبلغوه، أو يصلوا إلى الثناء عليه، والعبادات الشرعية، والمعاملات وتوابعها، والأمر والنهي، كله عدل وقسط، لا ظلم فيه ولا جور، بوجه من الوجوه، بل هو في غاية الحكمة والإحكام، والجزاء على الأعمال الصالحة والسيئة، كله قسط وعدل.
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} فتوحيد الله، ودينه، وجزاؤه، قد ثبت
ثبوتا لا ريب فيه، وهو أعظم الحقائق وأوضحها، وقد أقام الله على ذلك من البراهين، والأدلة ما لا يمكن إحصاؤه وعده.
وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء؛ لأن الله خصهم بالذكر، من دون البشر، وقرن شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة.
وفي ضمن ذلك: تعديلهم، وأن الخلق تبع لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف، وعلو المكانة، ما لا يقادر قدره.
{19} {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يخبر تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ} أي: الدين الذي لا دين لله سواه، ولا مقبول غيره، هو {الإِسْلامُ} وهو الانقياد لله وحده، ظاهرا وباطنا بما شرعه على ألسنة رسله، قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فمن دان بغير دين الإسلام، فهو لم يدن لله حقيقة، لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله.
ثم أخبر تعالى، أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، وإنما اختلفوا، فانحرفوا عنه عنادا وبغيا، وإلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف الموجب للزوم الدين الحقيقي.
ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عرفوه حق المعرفة، ولكن الحسد والبغي والكفر بآيات الله هي التي صدتهم عن اتباع الحق.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: فلينتظر ذلك فإنه آت، وسيجزيهم الله بما كانوا يعملون.
{20} {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} لما بين أن الدين الحقيقي عنده الإسلام، وكان أهل الكتاب قد شافهوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمجادلة، وقامت عليهم الحجة، فعاندوها، أمره الله تعالى عند ذلك، أن يقول ويعلن: أنه قد أسلم وجهه، أي: ظاهره وباطنه لله، وأن من اتبعه كذلك، قد وافقوه على هذا الإذعان الخالص.
وأن يقول للناس كلهم، من أهل الكتاب، والأميين، أي: الذين ليس لهم كتاب، من العرب وغيرهم: إن أسلمتم فأنتم على الطريق المستقيم، والهدى والحق، وإن توليتم فحسابكم على الله، وأنا ليس علي إلا البلاغ، وقد أبلغتكم وأقمت عليكم الحجة.
{21- 22} {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي الذين جمعوا بين هذه الشرور: الكفر بآيات الله، وتكذيب رسل الله، والجناية العظيمة على أعظم الخلق حقا على الخلق وهم الرسل، وأئمة الهدى، الذين يأمرون الناس بالقسط، الذي اتفقت عليه الأديان والعقول.
{22} فهؤلاء قد {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} واستحقوا العذاب الأليم، وليس لهم ناصر من عذاب الله، ولا منقذ من عقوبته.
{23- 25} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: ألا تنظر وتعجب من هؤلاء {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} و {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} الذي يصدق ما أنزله على رسله.
{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عن اتباع الحق، فكأنه قيل: أي داع دعاهم إلى هذا الإعراض، وهم أحق بالاتباع، وأعرفهم بحقيقة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ فذكر لذلك سببين:
أمنهم، وشهادتهم الباطلة لأنفسهم بالنجاة، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة حددوها بحسب أهوائهم الفاسدة، كأن تدبير الملك راجع إليهم، حيث قالوا:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ومن المعلوم أن هذه أماني باطلة، شرعا وعقلا.
والسبب الثاني: أنهم لما كذبوا بآيات الله وافتروا عليه، زين لهم الشيطان سوء عملهم، واغتروا بذلك، وتراءى لهم أنه الحق، عقوبة لهم على إعراضهم عن الحق، فهؤلاء كيف يكون حالهم- إذا جمعهم الله يوم القيامة، ووفى العاملين ما عملوا، وجرى عدل الله في عباده، فهنالك لا تسأل عما يصلون إليه من العقاب، وما يفوتهم من الخير والثواب، وذلك بما كسبت أيديهم:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}
{26- 27} {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أصلا- وغيره تبعا- أن يقول عن ربه، معلنا بتفرده بتصريف الأمور، وتدبير العالم العلوي والسفلي، واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق، والتصريف المحكم، وأنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
فليس الأمر بأماني أهل الكتاب، ولا غيرهم، بل الأمر أمر الله، والتدبير له، فليس له معارض في تدبيره، ولا معاون في تقديره، وأنه كما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس، فهو المتصرف بنفس الزمان.
{27} {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: يدخل هذا على هذا، ويحل هذا محل هذا، ويزيد في هذا، ما ينقص من هذا، ليقيم بذلك مصالح خلقه.
ويخرج الحي من الميت، كما يخرج الزروع والأشجار المتنوعة من بذورها، والمؤمن من الكافر، والميت من الحي.
كما يخرج الحبوب والنوى، والزروع والأشجار، والبيضة من الطائر، فهو الذي
يخرج المتضادات، بعضها من بعض، وقد انقادت له جميع العناصر (1)
وقوله {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي: الخير كله منك، ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشر، فإنه لا يضاف إلى الله تعالى، لا وصفا، ولا اسما، ولا فعلا، ولكنه يدخل في مفعولاته، ويندرج في قضائه وقدره.
فالخير والشر، كله داخل في القضاء والقدر، فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه، ولكن الشر لا يضاف إلى الله، فلا يقال:"بيدك الخير والشر"، بل يقال:"بيدك الخير" كما قاله الله، وقاله رسوله.
وأما استدراك بعض المفسرين حيث قال: "وكذلك الشر بيد الله" فإنه وهم محض، ملحظهم، حيث ظنوا أن تخصيص الخير بالذكر، ينافي قضاءه وقدره العام، وجوابه ما فصلنا.
وقوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقد ذكر الله في غير هذه الآية الأسباب التي ينال بها رزقه كقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق، إلا من الله، ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها.
{28} {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} هذا نهي من الله، وتحذير للمؤمنين، أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والله وليهم.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} التولي، {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: فهو بريء من الله، والله بريء منه، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}
وقوله: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين، فلكم- في هذه الحال- الرخصة في المسالمة والمهادنة، لا في التولي الذي هو محبة القلب، الذي تتبعه النصرة.
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: فخافوه واخشوه، وقدموا خشيته على خشية الناس، فإنه هو الذي يتولى شؤون العباد، وقد أخذ بنواصيهم، وإليه يرجعون وسيصيرون إليه، فيجازي من قدم خوفه ورجاءه على غيره بالثواب الجزيل، ويعاقب الكافرين، ومن تولاهم بالعذاب الوبيل.
{29- 30} {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} يخبر تعالى بإحاطة علمه بما في الصدور، سواء أخفاه العباد، أو أبدوه، كما أن علمه محيط بكل شيء، في السماء والأرض، فلا تخفى عليه خافية.
ومع إحاطة علمه، فهو العظيم القدير على كل شيء، الذي لا يمتنع عن إرادته موجود.
{30} ولما ذكر لهم من عظمته وسعة أوصافه، ما يوجب للعباد أن يراقبوه في كل أحوالهم، ذكر لهم أيضا، داعيا آخر إلى مراقبته وتقواه، وهو أنهم كلهم صائرون إليه، وأعمالهم- حينئذ، من خير وشر- محضرة.
فحينئذ يغتبط أهل الخير، بما قدموا لأنفسهم، ويتحسر أهل الشر إذا وجدوا ما عملوه محضرا ويودون أن بينهم وبينه أمدا بعيدا.
فإذا عرف العبد أنه ساع إلى ربه، وكادح في هذه الحياة، وأنه لا بد أن يلاقي ربه، ويلاقي سعيه، أوجب له أخذ الحذر، والتوقي من الأعمال التي توجب الفضيحة والعقوبة، والاستعداد بالأعمال الصالحة، التي توجب السعادة والمثوبة، ولهذا قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وذلك بما يبدي لكم من أوصاف عظمته، وكمال عدله وشدة نكاله، ومع شدة عقابه، فإنه رؤوف رحيم.
ومن رأفته ورحمته، أنه خوف العباد، وزجرهم عن الغي والفساد، كما قال تعالى- لما ذكر العقوبات -:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} فرأفته ورحمته، سهلت لهم الطرق، التي ينالون بها الخيرات، ورأفته ورحمته، حذرتهم من الطرق التي تفضي بهم إلى المكروهات.
فنسأله تعالى أن يتمم علينا إحسانه بسلوك الصراط المستقيم، والسلامة من الطرق التي تفضي بسالكها إلى الجحيم.
{31- 32} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} هذه الآية هي الميزان، التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة، فعلامة محبة الله، اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه، طريقا إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه، إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما.
فمن فعل ذلك، أحبه الله، وجازاه جزاء المحبين، وغفر له ذنوبه، وستر عليه عيوبه، فكأنه قيل: ومع ذلك، فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟
{32} فأجاب بقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} بامتثال الأمر، واجتناب النهي، وتصديق الخبر، {فَإِنْ تَوَلَّوْا} عن ذلك، فهذا هو الكفر، والله {لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}
{33- 34} {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إلى آخر القصة.
لله تعالى من عباده أصفياء، يصطفيهم ويختارهم، ويمن عليهم بالفضائل العالية، والنعوت السامية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والخصائص المتنوعة، فذكر هذه البيوت الكبار، وما احتوت عليه من كمال الرجال، الذين حازوا أوصاف الكمال، وأن الفضل والخير تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم، وهذا
(1) قدم الشيخ- رحمه الله هذا الجزء من الآية، وقد آثرت إبقاءه على ما هو عليه، مع التنبيه إلى هذا التقديم.
من أجل مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعلم من يستحق الفضل والتفضيل، فيضع فضله حيث اقتضت حكمته.
{34- 36} فلما قرر عظمة هذه البيوت، ذكر قصة مريم وابنها عيسى صلى الله عليه وسلم، وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة، وكيف تنقلت بهما الأحوال، من ابتداء أمرهما إلى آخره، وأن امرأة عمران، قالت- متضرعة إلى ربها، متقربة إليه بهذه القربة التي يحبها، التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته -:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} أي: خادما لبيت العبادة، المشحون بالمتعبدين.
{فَتَقَبَّلْ مِنِّي} هذا العمل، أي: اجعله مؤسسا على الإيمان والإخلاص، مثمرا للخير والثواب، {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}
كان في هذا الكلام نوع تضرع منها، وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك، ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك، فجبر الله قلبها، وتقبل الله نذرها، وصارت هذه الأنثى، أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد، أعظم مما يحصل بالذكر، ولهذا قال:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي: ربيت تربية عجيبة، دينية، أخلاقية، أدبية، كملت بها أحوالها، وصلحت بها أقوالها وأفعالها، ونما فيها كمالها، ويسر الله لها زكريا كافلا.
وهذا من منة الله على العبد، أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين.
{37- 39} ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا، حيث يسر لمريم من الرزق الحاصل بلا كد ولا تعب، وإنما هو كرامة أكرمها الله به.
إذ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وهو محل العبادة، وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها، {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} هنيئا معدا.
فلما رأى زكريا هذه الحال، والبر واللطف من الله بها، ذكره أن يسأل الله تعالى حصول الولد، على حين اليأس منه، فقال:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} اسمه أي: الكلمة التي من الله "عيسى ابن مريم".
فكانت بشارته بهذا النبي الكريم، تتضمن البشارة بـ "عيسى" ابن مريم، والتصديق له، والشهادة له بالرسالة.
فهذه الكلمة من الله، كلمة شريفة، اختص الله بها عيسى ابن مريم، وإلا فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات، كما قال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
وقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} أي: هذا المبشر به وهو يحيى، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم:"والحصور"، قيل: هو الذي لا يولد له، ولا شهوة له في النساء، وقيل: هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة، وهذا أليق المعنيين.
{وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين بلغوا في الصلاح ذروته العالية.
{40} {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} فهذان مانعان، فمن أي طريق- يا رب- يحصل لي ذلك، مع ما ينافي ذلك؟!
{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} فإنه كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة، فإنه قد يخرق ذلك، لأنه الفعال لما يريد، الذي قد انقادت الأسباب لقدرته، ونفذت فيها مشيئته وإرادته، فلا يتعاصى على قدرته شيء من الأسباب، ولو بلغت في القوة، ما بلغت.
{41} {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} ليحصل السرور والاستبشار، وإن كنت- يا رب- متيقنا ما أخبرتني به، ولكن النفس تفرح، ويطمئن القلب إلى مقدمات الرحمة واللطف.
{قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} (و) في هذه المدة {اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} أول النهار وآخره، فمنع من الكلام في هذه المدة، فكان في هذا، مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ الكبير، والمرأة العاقر.
وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين، ولسانه منطلق بذكر الله، وتسبيحه، آية أخرى.
فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار، وشكر الله، وأكثر من الذكر والتسبيح بالعشايا والأبكار.
و، كان هذا المولود من بركات مريم بنت عمران، على زكريا، فإن ما من الله به عليها، من ذلك الرزق الهني، الذي يحصل بغير حساب، ذكره وهيجه على التضرع والسؤال، والله تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب، ولكنه يقدر أمورا محبوبة على يد من يحبه، ليرفع الله قدره، ويعظم أجره.
{42} ثم عاد تعالى إلى ذكر مريم، وأنها بلغت في العبادة والكمال، مبلغا عظيما، فقال تعالى:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أي: اختارك، ووهب لك من الصفات الجليلة، والأخلاق الجميلة.
{وَطَهَّرَكِ} من الأخلاق الرذيلة، {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام) .
{43} فنادتها الملائكة عن أمر الله لها بذلك، لتغتبط بنعم الله، وتشكر الله، وتقوم بحقوقه، وتشتغل بخدمته، ولهذا قالت الملائكة:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أي: أكثري من الطاعة، والخضوع والخشوع لربك، وأديمي ذلك {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: صلي مع المصلين، فقامت بكل ما أمرت به وبرزت، وفاقت في كمالها.
ولما كانت هذه القصة وغيرها من أكبر الأدلة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بها مفصلة محققة، لا زيادة فيها ولا نقص، وما ذاك إلا لأنه وحي من الله العزيز الحكيم، لا بتعلم من الناس- قال تعالى -:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} حيث جاءت بها أمها،
فاختصموا أيهم يكفلها، لأنها بنت إمامهم ومقدمهم، وكلهم يريد الخير والأجر من الله، حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن اقترعوا عليها، فألقوا أقلامهم مقترعين، فأصابت القرعة زكريا، رحمة من الله به وبها. فأنت- يا أيها الرسول- لم تحضر تلك الحالة لتعرفها، فتقصها على الناس، وإنما الله نبأك بها، وهذا هو المقصود الأعظم من سياق القصص أنه يحصل بها العبرة، وأعظم العبر، الاستدلال بها على التوحيد والرسالة، والبعث وغيرها من الأصول الكبار.
{45} {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: له الوجاهة، والجاه العظيم في الدنيا والآخرة عند الخلق.
ومع ذلك فهو- عند الله- من المقربين، الذين هم أقرب الخلائق إلى الله، وأعلاهم درجة، وهذه بشارة لا يشبهها شيء من البشارات.
ومن تمام هذه البشارة أنه: {يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} فيكون تكليمه آية من آيات الله، ورحمة منه بأمه وبالخلق، { (و) كذلك يكلمهم {كَهْلا} أي: في حال كهولة، وهذا تكليم النبوة والدعوة والإرشاد.
فكلامه في المهد، فيه آيات وبراهين على صدقه ونبوته، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة، وكلامه في كهولته، فيه نفعه العظيم للخلق، وكونه واسطة بينهم وبين ربهم، في وحيه، وتبليغ دينه وشرعه.
ومع ذلك فهو {مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه، وألسنتهم بالثناء عليه وذكره، وجوارحهم بطاعته وخدمته.
{47} {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} وهذا من الأمور المستغربة {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ليعلم العباد أنه على كل شيء قدير، وأنه لا ممانع لإرادته.
{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} أي: جنس الكتب السابقة، والحكم بين الناس، ويعطيه النبوة.
{49} { (و) يجعله {رَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ويؤيده بالآيات البينات، والأدلة القاهرة حيث قال:{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} تدلكم أني رسول الله حقا.
وذلك {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ} وهو ممسوح العينين، الذي فقد بصره وعينيه، {وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور {لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} فأيده الله بجنسين من الآيات والبراهين الخوارق المستغربة التي لا يمكن لغير الأنبياء الإتيان بها، والرسالة والدعوة، والدين الذي جاء به، وأنه دين التوراة، ودين الأنبياء السابقين، وهذا أكبر الأدلة على صدق الصادقين.
فإنه لو كان من الكاذبين، لخالف ما جاءت به الرسل، ولناقضهم في أصولهم وفروعهم، فعلم بذلك أنه رسول الله، وأن ما جاء به حق لا ريب فيه.
وأيضا فقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي: ولأخفف عنكم بعض الآصار، والأغلال.
{51} {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وهذا ما يدعو إليه جميع الرسل، عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعتهم.
وهذا هو الصراط المستقيم الذي من يسلكه أوصله إلى جنات النعيم، فحينئذ اختلفت أحزاب بني إسرائيل في عيسى، فمنهم من آمن به واتبعه، ومنهم من كفر به وكذبه، ورمى أمه بالفاحشة كاليهود.
{52} {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} والاتفاق على رد دعوته، {قَالَ} نادبا لبني إسرائيل على مؤازرته {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} أي: الأنصار.
{نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وهذا من منة الله عليهم، وعلى عيسى، حيث ألهم هؤلاء الحواريين، الإيمان به، والانقياد لطاعته، والنصر لرسوله.
{53} {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} وهذا التزام تام للإيمان، بكل ما أنزل الله، ولطاعة رسوله.
{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، ولدينك بالحق والصدق.
{54} وأما من أحس عيسى منهم الكفر وهم جمهور بني إسرائيل، فإنهم {مَكَرُوا} بعيسى {وَمَكَرَ اللَّهُ} بهم، {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فاتفقوا على قتله وصلبه، وشبه لهم شبه عيسى.
{55} فقبضوا على من شبه لهم به، وقال الله لعيسى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وصلبوا من قتلوه، ظانين أنه عيسى، وباءوا بالإثم العظيم.
وسينزل عيسى ابن مريم، في آخر هذه الأمة حكما عدلا، يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلم الكاذبون غرورهم وخداعهم، وأنهم مغرورون مخدوعون.
وقوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} المراد بمن اتبعه: الطائفة التي آمنت به، ونصرهم الله على من انحرف عن دينه.
ثم لما جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا هم أتباعه حقا، فأيدهم الله ونصرهم على الكفار كلهم، وأظهرهم بالدين الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} الآية.
ولكن حكمة الله عادلة، فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين، نصره الله النصر المبين، وأن من ترك أمره ونهيه، ونبذ شرعه، وتجرأ على معاصيه، إنه يعاقبه ويسلط عليه الأعداء، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
وقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
{56- 57} فقد بين ما يفعله بهم، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ} وهذا الجزاء عام لكل من اتصف بهذه الأوصاف، من جميع أهل الأديان السابقة.
ثم لما بعث سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ونسخت رسالته الرسالات كلها، ونسخ دينه جميع الأديان، صار المتمسك بغير هذا الدين من الهالكين.
{58} وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أي: هذا القرآن العظيم، الذي فيه نبأ الأولين والآخرين، والأنبياء والمرسلين، هو آيات الله البينات، وهو الذي يذكر العباد كل ما يحتاجونه، وهو الحكيم المحكم، صادق الأخبار، حسن الأحكام.
{59- 62} {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لما ذكر قصة مريم وعيسى ونبأهما الحق، وأنه عبد أنعم الله عليه، وأن من زعم أن فيه شيئا من الإلهية، فقد كذب على الله، وكذب جميع أنبيائه، وكذب عيسى صلى الله عليه وسلم، فإن الشبهة التي عرضت لمن اتخذه إلها، شبهة باطلة، فلو كان لها وجه صحيح، لكان آدم أحق منه، فإنه خلق من دون أم ولا أب، ومع ذلك، فاتفق البشر كلهم على أنه عبد من عباد الله، فدعوى إلهية عيسى، بكونه خلق من أم بلا أب، دعوى من أبطل الدعاوى.
{60} وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه، أن عيسى- كما قال عن نفسه:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، وقد تصلبوا على باطلهم، بعدما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم البراهين بأن عيسى عبد الله ورسوله، حيث زعموا إلهيته.
{61} فوصلت به وبهم الحال، إلى أن أمره الله تعالى أن يباهلهم، فإنه قد اتضح لهم الحق، ولكن العناد والتعصب منعاهم منه.
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم، ثم يدعون الله تعالى، أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين، فتشاوروا هل يجيبونه إلى ذلك؟
فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه، لأنهم عرفوا أنه نبي الله حقا وأنهم- إن باهلوه- هلكوا، هم وأولادهم وأهلوهم، فصالحوه وبذلوا له الجزية، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة.
فأجابهم صلى الله عليه وسلم ولم يحرجهم، لأنه حصل المقصود من وضوح الحق، وتبين عنادهم حيث صمموا على الامتناع عن المباهلة، وذلك يبرهن على أنهم كانوا ظالمين.
{62} ولهذا قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أي: لا ريب فيه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي قهر بقدرته وقوته جميع الموجودات، وأذعنت له سكان الأرض والسماوات.
ومع ذلك فهو {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها (1) .
{64} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هذه الآية الكريمة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب، وكان يقرأ أحيانا في الركعة الأولى من سنة الفجر:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية.
ويقرأ بها في الركعة الآخرة من سنة الصبح، لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد، قد اتفق عليه الأنبياء والمرسلون، واحتوت على توحيد الإلهية المبني على عبادة الله وحده، لا شريك له، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية، لا يستحق منهم أحد شيئا من خصائص الربوبية، ولا من نعوت الإلهية.
فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخرها.
{65- 68} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} كانت الأديان كلها، اليهود والنصارى، والمشركون، وكذلك المسلمون كلهم، يدعون أنهم على ملة إبراهيم.
فأخبر الله تعالى أن أولى الناس به، محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وأتباع الخليل، قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما اليهود والنصارى، والمشركون فإبراهيم بريء منهم، ومن ولايتهم، لأن دينه، الحنيفية السمحة، التي فيها الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب، وهذه خصيصة المسلمين.
وأما دعوى اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم، فقد علم أن اليهودية والنصرانية، التي هم يدعون أنهم عليها، لم تؤسس إلا بعد الخليل.
فكيف يحاجون في هذا الأمر، الذي يعلم به كذبهم وافتراؤهم؟! فهب أنهم حاجوا فيما لهم به علم، فكيف يحاجون في هذه الحالة؟ فهذا قبل أن ينظر ما احتوى عليه قولهم من البطلان، يعلم فساد دعواهم.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا يحل للإنسان أن يقول أو يجادل فيما لا علم له به.
وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فكلما قوي إيمان العبد، تولاه الله بلطفه، ويسره لليسرى، وجنبه العسرى.
{69- 74} {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
(1) لم يفسر- رحمه الله الآية الثالثة والستين، وقد قام النجار بإضافة تفسيرها من عنده.
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} هذا من منة الله على هذه الأمة، حيث أخبرهم بمكر أعدائهم من أهل الكتاب، وأنهم- من حرصهم على إضلال المؤمنين- ينوعون المكرات الخبيثة.
فقالت طائفة منهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} أي: أوله، وارجعوا عن دينهم آخر النهار، فإنهم- إذا رأوكم راجعين، وهم يعتقدون فيكم العلم استرابوا بدينهم، وقالوا: لولا أنهم رأوا فيه ما لا يعجبهم، ولا يوافق الكتب السابقة، لم يرجعوا.
هذا مكرهم، والله تعالى هو الذي يهدي من يشاء، وهو الذي بيده الفضل، يختص به من يشاء فخصكم- يا هذه الأمة- بما لم يخص به غيركم.
ولم يدر هؤلاء الماكرون أن دين الله حق، إذا وصلت حقيقته إلى القلوب، لم يزدد صاحبه- على طول المدى- إلا إيمانا ويقينا.
ولم تزده الشبه، إلا تمسكا بدينه، وحمدا لله، وثناء عليه حيث من به عليه.
وقولهم: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يعني: أن الذي حملهم على هذه الأعمال المنكرة، الحسد والبغي، وخشية الاحتجاج عليهم.
كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} الآية.
{75- 76} {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يخبر تعالى عن أهل الكتاب، أن منهم طائفة أمناء، بحيث لو أمنته على قناطير من النقود، وهي المال الكثير، يؤده إليك، ومنهم طائفة خونة، يخونك في أقل القليل، ومع هذه الخيانة الشنيعة، فإنهم يتأولون بالأعذار الباطلة فيقولون:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: ليس علينا جناح إذا خناهم واستبحنا أموالهم، لأنهم لا حرمة لهم.
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن عليهم أشد الحرج، فجمعوا بين الخيانة وبين احتقار العرب، وبين الكذب على الله، وهم يعلمون ذلك، ليسوا كمن فعل ذلك جهلا وضلالا.
ثم قال تعالى: {بَلَى} أي: ليس الأمر كما قالوا.
فإنه {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} أي: قام بحقوق الله، وحقوق خلقه، فإن هذا هو المتقي، والله يحبه.
أي: ومن كان بخلاف ذلك، فلم يف بعهده وعقوده، التي بينه وبين الخلق، ولا قام بتقوى الله، فإن الله يمقته، وسيجازيه على ذلك أعظم النكال.
{77} {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: إن الذين يشترون الدنيا بالدين، فيختارون الحطام القليل من الدنيا، ويتوسلون إليها بالأيمان الكاذبة، والعهود المنكوثة، فهؤلاء {لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: قد حق عليهم سخط الله، ووجب عليهم عقابه، وحرموا ثوابه، ومنعوا من التزكية، وهي التطهير. بل يردون القيامة، وهم متلوثون بالجرائم، متدنسون بالذنوب العظائم.
{78} {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: وإن من أهل الكتاب فريقا هم محرفون لكتاب الله، {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} وهذا يشمل التحريف اللفظي، والتحريف المعنوي.
ثم هم- مع هذا التحريف الشنيع- يوهمون أنه من الكتاب، وهم كذبة في ذلك، ويصرحون بالكذب على الله، وهم يعلمون حالهم وسوء مغبتهم.
{79- 80} {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: يمتنع ويستحيل كل الاستحالة لبشر من الله عليه بالوحي والكتاب والنبوة، وأعطاه الحكم الشرعي أن يأمر الناس بعبادته، ولا بعبادة النبيين والملائكة واتخاذهم أربابا، لأن هذا هو الكفر، فكيف، وقد بعث بالإسلام المنافي للكفر من كل وجه، فكيف يأمر بضده؟!! هذا من الممتنع، لأن حاله وما هو عليه، وما من الله به عليه من الفضائل والخصائص تقتضي العبودية الكاملة، والخضوع التام لله الواحد القهار.
وهذا جواب لوفد نجران، حين تمادى بهم الغرور، ووصلت بهم الحال والكبر أن قالوا: أتامرنا- يا محمد- أن نعبدك؟ حين أمرهم بعبادة الله وطاعته، فبين الباري انتفاء ما قالوا، وأن كلامهم وكلام أمثالهم في هذا ظاهر البطلان.
{81- 82} {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} هذا إخبار منه تعالى أنه أخذ عهد النبيين وميثاقهم كلهم، بسبب ما أعطاهم ومن به عليهم، من الكتاب والحكمة، المقتضي للقيام التام، بحق الله وتوفيته، أنه إن جاءهم رسول مصدق لما معهم، بعث بما بعثوا به من التوحيد والحق والقسط والأصول التي اتفقت عليه الشرائع، أنهم يؤمنون به، وينصرونه.
فأقروا على ذلك، واعترفوا، والتزموا وأشهدهم، وشهد عليهم، وتوعد من خالف هذا الميثاق.
وهذا أمر عام بين الأنبياء أن جميعهم طريقهم واحد، وأن دعوة كل واحد منهم، قد اتفقوا وتعاهدوا عليها، وعموم ذلك أنه أخذ على جميعهم الميثاق، بالإيمان،
والنصرة لمحمد صلى الله عليه وسلم. فمن ادعى أنه من أتباعهم، فهذا دينهم الذي أخذه الله عليهم، وأقروا به واعترفوا.
فمن تولى عن اتباع محمد، ممن يزعم أنه من أتباعهم، فإنه فاسق خارج عن طاعة الله، مكذب للرسول الذي يزعم أنه من أتباعه، مخالف لطريقه.
وفي هذا إقامة الحجة والبرهان، على كل من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتب والأديان، وأنه لا يمكنهم الإيمان برسلهم، الذين يزعمون أنهم أتباعهم، حتى يؤمنوا بإمامهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم.
{83-85} {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قد تقدم في سورة البقرة أن هذه الأصول التي هي أصول الإيمان التي أمر الله بها هذه الأمة قد اتفقت عليها الكتب والرسل، وأنها هي الفرض الموجه لكل أحد، وأنها هي الدين والإسلام الحقيقي، وأن من ابتغى غيرها، فعمله مردود، وليس له دين يعول عليه.
فمن زهد عنه، ورغب عنه، فأين يذهب إلى عبادة الأشجار والأحجار والنيران؟ أو إلى اتخاذ الأحبار والرهبان والصلبان، أو إلى التعطيل لرب العالمين؟، أو إلى الأديان الباطلة، التي هي من وحي الشياطين؟ وهؤلاء كلهم- في الآخرة- من الخاسرين.
{86-91} {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يعني: أنه يبعد كل البعد، أن يهدي الله قوما عرفوا الإيمان، ودخلوا فيه، وشهدوا أن الرسول حق، ثم ارتدوا على أعقابهم، ناكصين ناكثين؛ لأنهم عرفوا الحق فرفضوه.
ولأن من هذه الحالة وصفه، فإن الله يعاقبه بالانتكاس، وانقلاب القلب جزاء له، إذ عرف الحق فتركه، والباطل فآثره، فولاه الله ما تولى لنفسه.
فهؤلاء {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} خالدين في اللعنة والعذاب {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} إذا جاءهم أمر الله لأن الله عمرهم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءهم النذير.
ثم إنه تعالى استثنى من هذا الوعيد، التائبين من كفرهم وذنوبهم، المصلحين لعيوبهم، فإن الله يغفر لهم ما قدموه، ويعفو عنهم ما أسلفوه.
{91} ولكن من كفر وأصر على كفره، ولم يزدد إلا كفرا حتى مات على كفره، فهؤلاء هم الضالون عن طريق الهدى، السالكون لطريق الشقاء، وقد استحقوا بهذا العذاب الأليم، فليس لهم ناصر من عذاب الله، ولو بذلوا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به، لم ينفعهم شيئا، فعياذا بالله من الكفر وفروعه.
{92} {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} يعني: لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها.
فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها.
ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة.
وأيضا فمن قام بهذه النفقة على هذا الوجه، كان قيامه ببقية الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، من طريق الأولى والأحرى، ومع أن النفقة من الطيبات، هي أكمل الحالات، فمهما أنفق العبد من نفقه قليلة أو أكثر من طيب أو غيره، فإن الله به عليم.
وسيجزي كل منفق، بحسب عمله، سيجزيه في الدنيا بالخلف العاجل، وفي الآخرة بالنعيم الآجل.
{93-94} {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} من جملة الأمور التي قدح فيها اليهود بنبوة عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، أنهم زعموا أن النسخ باطل، وأنه لا يمكن أن يأتي نبي يخالف النبي الذي قبله.
فكذبهم الله بأمر يعرفونه، فإنهم يعترفون بأن جميع الطعام- قبل نزول التوراة- كان حلالا لبني إسرائيل، إلا أشياء يسيرة حرمها إسرائيل، وهو: يعقوب عليه السلام على نفسه ومنعها إياه لمرض أصابه.
ثم إن التوراة، فيها من التحريمات التي نسخت، ما كان حلا قبل ذلك شيء كثير.
قل لهم- إن أنكروا ذلك-: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ ك، ُنْتُمْ صَادِقِينَ} بزعمكم أنه لا نسخ ولا تحليل ولا تحر، يم.،
وهذا من أبلغ الحجج، أن يحتج على الإنسان بأمر يقوله ويعترف به ولا ينكره، فإن انقاد للحق، فهو الواجب، وإن أبى ولم ينقد بعد هذا البيان، تبين كذبه وافتراؤه، وظلمه وبطلان ما هو عليه، وهو الواقع من اليهود.
{95} {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: قل صدق الله في كل ما قاله، ومن أصدق من الله قيلا وحديثًا، وقد بين في هذه الآيات، من الأدلة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبراهين دعوته، وبطلان ما عليه المنحرفون من أهل الكتاب، الذين كذبوا رسوله، وردوا دعوته، فقد صدق الله في ذلك، وأقنع عباده على ذلك، ببراهين وحجج، تتصدع لها الجبال، وتخضع لها الرجال.
فتعين عند ذلك على الناس كلهم اتباع ملة إبراهيم، من توحيد الله وحده لا شريك له، وتصديق كل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله، والإعراض عن الأديان الباطلة المنحرفة.
فإن إبراهيم كان معرضا عن كل ما يخالف التوحيد، متبرئا من الشرك وأهله.
{96-97} {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} يخبر تعالى بعظمة بيته الحرام، وأنه أول البيوت التي وضعها الله في الأرض لعبادته، وإقامة ذكره، وأن فيه من البركات، وأنواع الهدايات، وتنوع المصالح والمنافع للعالمين شيء كثير، وفضل غزير، وأن فيه آيات بينات، تذكر بمقامات إبراهيم الخليل، وتنقلاته في الحج، ومن بعده تذكر بمقامات سيد الرسل وإمامهم.
وفيه الأمن (1) الذي من دخله كان آمنا قدرا، مؤمنا شرعا ودينا.
فلما احتوى على هذه الأمور التي هذه مجملاتها، وتكثر تفصيلاتها أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلا، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه، وزاد يتزوده، ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكنه تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة، والتي ستحدث.
وهذا من آيات القرآن، حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال، ولا يمكن الصلاح التام بدونها، فمن أذعن لذلك وقام به فهو من المهتدين المؤمنين، ومن كفر فلم يلتزم حج بيته، فهو خارج عن الدين، ومن كفر، فإن الله غني عن العالمين.
{98-99} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} لما أقام فيما تقدم الحجج على أهل الكتاب- مع أنهم قبل ذلك يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم- وبخ المعاندين منهم بكفرهم بآيات الله، وصدهم الخلق عن سبيل الله، لأن عوامهم تبع لعلمائهم، والله تعالى يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
{100-101} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لما أقام الحجج على أهل الكتاب، ووبخهم بكفرهم وعنادهم، حذر عباده المؤمنين عن الاغترار بهم، وبين لهم أن هذا الفريق منهم، حريصون على إضراركم وردكم إلى الكفر بعد الإيمان.
ولكن- ولله الحمد- أنتم- يا معشر المؤمنين- بعدما من الله عليكم بالدين، ورأيتم آياته ومحاسنه ومناقبه وفضائله، وفيكم رسول الله الذي أرشدكم إلى جميع مصالحكم، واعتصمتم بالله وبحبله الذي هو دينه، يستحيل أن يردوكم عن دينكم، لأن الدين الذي بني على هذه الأصول والدعائم الثابتة الأساس المشرقة الأنوار، تنجذب إليه الأفئدة، ويأخذ بمجامع القلوب، ويوصل العباد إلى أجل غاية، وأفضل مطلوب.
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} أي: يتوكل عليه، ويحتمي بحماه، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا فيه الحث على الاعتصام به، وأنه السبيل إلى السلامة والهداية.
{102-105} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هذه الآيات فيها حث الله عباده المؤمنين أن يقوموا بشكر نعمه العظيمة، بأن يتقوه حق تقواه، وأن يقوموا بطاعته، وترك معصيته، مخلصين له بذلك، وأن يقيموا دينهم، ويستمسكوا بحبله الذي أوصله إليهم، وجعله السبب بينهم وبينه، وهو دينه وكتابه، والاجتماع على ذلك وعدم التفرق، وأن يستديموا ذلك إلى الممات.
وذكرهم ما هم عليه قبل هذه النعمة، وهو: أنهم كانوا أعداء متفرقين، فجمعهم بهذا الدين، وألف بين قلوبهم، وجعلهم إخوانا، وكانوا على شفا حفرة من النار، فأنقذهم من الشقاء، ونهج بهم طريق السعادة.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى شكر الله والتمسك بحبله، وأمرهم بتتميم هذه الحالة، والسبب الأقوى الذي يتمكنون به من إقامة دينهم، بأن يتصدى منهم طائفة يحصل فيها الكفاية.
{يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} وهو الدين، أصوله، وفروعه وشرائعه.
{وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو ما عرف حسنه شرعا وعقلا.
{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهو ما عرف قبحه شرعا وعقلا.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المدركون لكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب.
ويدخل في هذه الطائفة أهل العلم والتعليم، والمتصدون للخطابة ووعظ الناس، عموما وخصوصا، والمحتسبون الذين يقومون بإلزام الناس بإقامة الصلوات، وإيتاء الزكاة، والقيام بشرائع الدين، وينهونهم عن المنكرات.
فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم، أو على وجه الخصوص، أو قام بنصيحة عامة أو خاصة، فإنه داخل في هذه الآية الكريمة.
ثم نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين، الذين جاءهم الدين والبينات، الموجب لقيامهم به، واجتماعهم، فتفرقوا واختلفوا وصاروا شيعا، ولم يصدر ذلك عن جهل
(1) مراد المؤلف- رحمه الله في أي من الحرم: الأمن وقد غيرت الكلمة في المطبوع إلى: وفيه الحرم الذي من دخله.
وضلال، وإنما صدر عن علم وقصد سيئ، وبغي من بعضهم على بعض، ولهذا قال:{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{106-107} ثم يبين متى يكون هذا العذاب العظيم، ويمسهم هذا العذاب الأليم، فقال:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
يخبر تعالى، بتفاوت الخلق يوم القيامة، في السعادة والشقاوة، وأنه تبيض وجوه أهل السعادة الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وأن الله تعالى يدخلهم الجنات ويفيض عليهم أنواع الكرامات، وهم فيها خالدون.
وتسود وجوه أهل الشقاوة، الذين كذبوا رسله، وعصوا أمره، وفرقوا دينهم شيعا وأنهم يوبخون، فيقال لهم:{أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فكيف اخترتم الكفر على الإيمان؟! {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .
{108-109} {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يثني تعالى، على ما قصه على نبيه من آياته، التي حصل بها الفرقان بين الحق والباطل، وبين أولياء الله وأعدائه، وما أعده لهؤلاء من الثواب، وللآخرين من العقاب، وأن ذلك مقتضى فضله وعدله، وحكمته، وأنه لم يظلم عباده، ولم ينقصهم من أعمالهم، أو يعذب أحدا بغير ذنبه، أو يحمل عليه وزر غيره.
ولما ذكر أن له الأمر والشرع، ذكر أن له تمام الملك والتصرف والسلطان، فقال:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فيجازي المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بعصيانهم.
وكثيرا ما يذكر الله أحكامه الثلاثة مجتمعة يبين لعباده أنه الحاكم المطلق، فله الأحكام القدرية والأحكام الشرعية، والأحكام الجزائية، فهو الحاكم بين عباده في الدنيا والآخرة.
ومن سواه من المخلوقات، محكوم عليها ليس لها من الأمر شيء.
{110- 111} {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب، التي تميزوا بها وفاقوا بها سائر الأمم، وأنهم خير الناس للناس، نصحا، ومحبة للخير، ودعوة، وتعليما، وإرشادا، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وجمعا بين تكميل الخلق، والسعي في منافعهم، بحسب الإمكان، وبين تكميل النفس بالإيمان بالله، والقيام بحقوق الإيمان.
وأن أهل الكتاب، لو آمنوا بمثل ما آمنتم به، لاهتدوا وكان خيرا لهم، ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل، وأما الكثير، فهم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، وطاعة رسوله، محاربون للمؤمنين، ساعون في إضرارهم بكل مقدورهم، ومع ذلك، فلن يضروا المؤمنين إلا أذى باللسان، وإلا فلو قاتلوهم، لولوا الأدبار، ثم لا ينصرون.
وقد وقع ما أخبر الله به، فإنهم لما قاتلوا المسلمين، ولوا الأدبار، ونصر الله المسلمين عليهم.
{112} {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} هذا إخبار من الله تعالى أن اليهود ضربت عليهم الذلة، فهم خائفون أينما ثقفوا، ولا يؤمنهم شيء إلا معاهدة، وسبب يأمنون به، يرضخون لأحكام الإسلام، ويعترفون بالجزية.
أو {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي: إذا كانوا تحت ولاية غيرهم ونظارتهم، [كما شوهد حالهم سابقا ولاحقا، فإنهم لم يتمكنوا في الوقت الأخير من الملك المؤقت في فلسطين، إلا بنصر الدول الكبرى، وتمهيدهم لهم كل سبب](1) .
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي: قد غضب الله عليهم، وعاقبهم بالذلة والمسكنة، والسبب في ذلك كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، أي ليس ذلك عن جهل، وإنما هو بغي وعناد.
تلك العقوبات المتنوعة عليهم {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} فالله تعالى لم يظلمهم ويعاقبهم بغير ذنب، وإنما الذي أجراه عليهم بسبب بغيهم وعدوانهم، وكفرهم وتكذيبهم للرسل، وجناياتهم الفظيعة.
{113- 115} {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} لما ذكر الله المنحرفين من أهل الكتاب، بين حالة المستقيمين منهم، وأن منهم أمة مقيمين لأصول الدين وفروعه.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو الخير كله، وينهون عن المنكر وهو جميع الشر. كما قال تعالى:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} والمسارعة إلى الخيرات، قدر زائد على مجرد فعلها، فهو وصف لهم بفعل الخيرات، والمبادرة إليها، وتكميلها بكل ما تتم به من واجب ومستحب.
ثم بين تعالى أن كل ما فعلوه، من خير قليل أو كثير، فإن الله تعالى سيقبله، حيث كان صادرا عن إيمان وإخلاص، {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} يعني: لن ينكر ما عملوه، ولن يهدر.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} وهم الذين قاموا بالخيرات، وتركوا المحرمات،
(1) قد يشكل- على القارئ- هذا الموضع إذ هو عن ملك اليهود لفلسطين مع أن الشيخ ألف التفسير قبل ذلك، ولكن هذه الجمل الموضوعة بين القوسين المركنين زيادة من هامش النسخة، لعل الشيخ كتبها بعد سنين من كتابته التفسير، والله أعلم.
لقصد رضا الله، وطلب ثوابه.
{116- 117} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بين تعالى: أن الكفار، الذين كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، أنه لا ينقذهم من عذاب الله منقذ، ولا ينفعهم نافع، ولا يشفع لهم عند الله شافع، وأن أموالهم وأولادهم التي كانوا يعدونها للشدائد والمكاره، لا تفيدهم شيئا، وأن نفقاتهم التي أنفقوها في الدنيا لنصر باطلهم ستضمحل.
وأن مثلها {كَمَثَلِ} حرث أصابته {رِيحٍ} شديدة {فِيهَا صِرٌّ} أي: برد شديد، أو نار محرقة، فأهلكت ذلك الحرث، وذلك بظلمهم فلم يظلمهم الله ويعاقبهم بغير ذنب، وإنما ظلموا أنفسهم.
وهذه كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}
{118- 119} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} هذا تحذير من الله لعباده عن ولاية الكفار، واتخاذهم بطانة، أو خصيصة وأصدقاء، يسرون إليهم، ويفضون لهم بأسرار المؤمنين، فوضح لعباده المؤمنين الأمور الموجبة للبراءة من اتخاذهم بطانة بأنهم لا يألونكم خبالا، أي: هم حريصون غير مقصرين في إيصال الضرر بكم، وقد بدت البغضاء من كلامهم، وفلتات ألسنتهم، وما تخفيه صدورهم، من البغضاء والعداوة، أكبر مما ظهر لكم من أقوالهم وأفعالهم.
فإن كانت لكم فهوم وعقول، فقد وضح الله لكم أمرهم. وأيضا، فما الموجب لمحبتهم واتخاذهم أولياء وبطانة، وقد تعلمون منهم الانحراف العظيم في الدين وفي مقابلة إحسانكم؟
فأنتم مستقيمون على أديان الرسل، تؤمنون بكل رسول أرسله الله، وبكل كتاب أنزله الله، وهم يكفرون بأجل الكتب، وأشرف الرسل، وأنتم تبذلون لهم من الشفقة والمحبة، ما لا يكافئونكم على أقل القليل منه. فكيف تحبونهم، وهم لا يحبونكم، وهم يداهنونكم وينافقونكم، فإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا مع بني جنسهم، عضوا عليكم الأنامل من شدة الغيظ والبغض لكم ولدينكم.
قال تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} أي: سترون من عز الإسلام وذل الكفر ما يسوؤكم، وتموتون بغيظكم، فلن تدركوا شفاء ذلك بما تقصدون.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فذلك بين لعباده المؤمنين، ما تنطوي عليه صدور أعداء الدين من الكفار والمنافقين.
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} عز ونصر وعافية وخير {تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} من إدالة العدو، أو حصول بعض المصائب الدنيوية {يَفْرَحُوا بِهَا} وهذا وصف العدو الشديد عداوته.
لما بين تعالى شدة عداوتهم، وشرح ما هم عليه من الصفات الخبيثة، أمر عباده المؤمنين بالصبر، ولزوم التقوى، وأنهم إذا قاموا بذلك، فلن يضرهم كيد أعدائهم شيئا، فإن الله محيط بهم وبأعمالهم وبمكائدهم، التي يكيدونكم فيها. وقد وعدكم عند القيام بالتقوى، أنهم لا يضرونكم شيئا، فلا تشكوا في حصول ذلك.
{121- 123} {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى آخر القصة. وذلك يوم "أحد" حين خرج صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، حين وصل المشركون- بجمعهم- إلى قريب من "أحد". فنزلهم صلى الله عليه وسلم منازلهم، ورتبهم في مقاعدهم، ونظمهم تنظيما عجيبا، يدل على كمال رأيه وبراعته الكاملة في فنون السياسة والحرب، كما كان كاملا في كل المقامات.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء من أموركم.
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} وهم بنو سلمة وبنو حارثة، لكن تولاهما الباري بلطفه ورعايته وتوفيقه.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فإنهم إذا توكلوا عليه، كفاهم وأعانهم، وعصمهم من وقوع ما يضرهم، في دينهم ودنياهم.
وفي هذه الآية ونحوها، وجوب التوكل وأنه على حسب إيمان العبد، يكون توكله، والتوكل هو اعتماد العبد على ربه في حصول منافعه، ودفع مضاره، فلما ذكر حالهم في "أحد" وما جرى عليهم من المصيبة، أدخل فيها تذكيرهم بنصره، ونعمته عليهم يوم "بدر" ليكونوا شاكرين لربهم، وليخفف هذا هذا، فقال:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في عددكم وعددكم، فكانوا ثلاثمائة، وبضعة عشر، في قلة ظهر، ورثاثة سلاح، وأعداؤهم يناهزون الألف، في كمال العدة والسلاح.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الذي أنعم عليكم بنصره.
{إِذْ تَقُولُ} مبشرا {لِلْمُؤْمِنِينَ} مثبتا لجنانهم: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} أي: من حملتهم هذه بهذا الوجه.
{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} أي: معلمين علامة الشجعان.
واختلف الناس، هل كان هذا الإمداد حصل فيه من الملائكة مباشرة للقتال، كما قاله بعضهم، أو أن ذلك تثبيت من الله لعباده المؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قاله كثير من المفسرين.
ويدل عليه قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وفي هذا أن الأسباب لا يعتمد عليها العبد، بل يعتمد على الله.
وإنما الأسباب وتوفرها، فيها طمأنينة للقلوب، وثبات على الخير.
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} أي: نصر الله لعباده المؤمنين، لا يعدو أن يكون قطعا لطرف
من الكفار، أو ينقلبوا بغيظهم، لم ينالوا خيرا، كما أرجعهم يوم الخندق، بعدما كانوا قد أتوا على حرد قادرين، أرجعهم الله بغيظهم خائبين.
{128} {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} لما أصيب صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" وكسرت رباعيته، وشج في رأسه، جعل يقول:(كيف يفلح قوم، شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته) ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أن الأمر كله لله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، لأنه عبد من عبيد الله، والجميع تحت عبودية ربهم، مدبَّرون لا مدبِّرون.
وهؤلاء الذين دعوت عليهم، أيها الرسول، أو استبعدت فلاحهم وهدايتهم، إن شاء الله تاب عليهم، ووفقهم للدخول في الإسلام، وقد فعل، فإن أكثر أولئك هداهم الله فأسلموا. وإن شاء عذبهم، فإنهم ظالمون، مستحقون لعقوبات الله وعذابه.
{129} {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يخبر تعالى، أنه هو المتصرف في العالم العلوي والسفلي، وأنه يتوب على من يشاء، فيغفر له، ويخذل من يشاء، فيعذبه.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فمن صفته اللازمة، كمال المغفرة والرحمة، ووجود مقتضياتهما في الخلق والأمر، يغفر للتائبين، ويرحم من قام بالأسباب الموجبة للرحمة، قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
تم الجزء المجلد الأول من تيسير الرحيم الرحمن في تفسير القرآن بخط مؤلفه عبد الرحمن الناصر بن سعدي 9 ربيع أول 1343 غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ويليه المجلد الثاني أوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا}