الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو سبحانه يُنزِل الماء من جهة العُلو وهو السماء، ونعلم أن الماء يتبخَّر من البحار والأنهار والأرض التي تتفجّر فيها العيون ليتجمع كسحاب؛ ثم يتراكم السحاب بعضُه على بعض؛ ويمرُّ بمنطقة باردة فيتساقط المطر.
ويقول الحق سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
…
} [الرعد:
17]
والوادي هو المُنْخفض بين الجبلين؛ وساعةَ ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الأودية؛ وكل وَادٍ يستوعب من المياه على اتساعه.
ولنا أن نلحظ أن حكمة الله شاءتْ ذلك كَيْلا يتحول الماء إلى طوفان، فلو زاد الماء في تلك الأودية لَغرقتْ نتيجة ذلك القرى، ولَخرِبت الزراعات، وتهدمتْ البيوت.
والمَثَل على ذلك هو فيضان النيل حين كان يأتي مناسباً في الكمية لحجم المَجْرى؛ وكان مثل هذا القَدْر من الفيضان هو الذي يُسعد أهل مصر؛ أما إذا زاد فهو يُمثِّل خطراً يَدْهَم القرى ويخربها.
وهكذا نجد أن من رحمة الحق سبحانه أن الماء يسيل من السماء مطراً على قدر اتساع الأودية؛ اللهم إلا إذا شاء غير ذلك.
والحق سبحانه هنا يريد أنْ يضرب مثلاً على ما ينفع الناس؛ لذلك جاء بجزئية نزول الماء على قَدْر اتساع الأودية.
ومَنْ رأى مشهد نزول المطر على هذا القَدْر يمكنه أنْ يلحظ أن نزول السَّيْل إنما يكنس كل القَشِّ والقاذورات؛ فتصنع تلك الزوائد
رَغْوةً على سطح الماء الذي يجري في النهر، ثم يندفع الماء إلى المَجْرى؛ لِيُزيح تلك الرَّغاوى جانباً؛ ليسير الماء من بعد ذلك صَافِياً رَقْراقاً. {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً
…
} [الرعد: 17]
وهذا المَثَل يدركه أهل البادية؛ لأنها صحراء وجبال ووديان؛ فماذا عن مَثَلٍ يناسب أهل الحضر؟
ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم؛ فيقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ
…
} [الرعد: 17]
وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة؛ تجده يُوقِد النار ليتحول المعدن إلى سائل مَصْهور؛ ويطفو فوق هذا السائل الزَّبَد وهو الأشياء التي دخلت إلى المعدن، وليست منه في الأصل؛ ويبقى المعدن صافياً من بعد ذلك.
والصَّانع يضع الذهب في النار لِيُخلِّصه من الشوائب؛ ثم يضيف إليه من المواد ما يُقوِّي صلابته؛ أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً، وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه «عيار 24» ، والأقل درجة هو الذهب من «عيار 21» ، والأقل من ذلك هو الذهب من «عيار 18» .
والذهب الخالص النقاء يكون ليِّناً؛ لذلك يُضيفون إليه ما يزيد من صلابته، ويصنع الصائغ من هذا الذهب الحُلي.
وهذا هو المَثَلُ المناسب لأهل الحضر؛ حين يصنعون الحلي، وهم أيضاً يصنعون أدواتٍ أخرى يستعملونها ويستعملها مثلهم أهل البادية كالسيوف مثلاً، وهي لابُدَّ أن تكون من الحديد الصُّلْب؛ ذلك أن كل أداة تصنع منه لها ما يناسبها من الصَّلابة؛ فإنْ أراد الحدَّاد أن يصنع سيفاً فلابد أنْ يختار له من الحديد نوعيةً تتناسب مع وظائف السيف.
والزَّبَد في الماء النازل من السماء إنما يأتي إليه نتيجة مرور المطر أثناء نزوله على سطح الجبال؛ فضلاً عن غسيل مَجْرى النهر الذي ينزل فيه؛ وعادة ما يتراكم هذا الزَّبَد على الحَوافّ؛ ليبقى الماء صافياً من بعد ذلك.
وحين تنظر إلى النيل مثلاً فأنت تجد الشوائب، وقد ترسبتْ على جانبي النهر وحَوافّه، وكذلك حين تنظر إلى مياه البحر؛ فأنت تجد ما تلقيه المركب، وهو طافٍ فوق الأمواج؛ لِتُلقيه الأمواج على الشاطئ.
وهكذا ضرب الله المَثَل لأهل البدو ولأهل الحضر بما يفيدهم في حياتهم؛ سواء حلية يلبسونها، أو أداة يقاتلون بها، أو أداة أخرى يستخدمونها في أَوْجُه أعمالهم الحياتية؛ وهم في كل ذلك يلجئون إلى تصفية المعادن التي يصنعون منها تلك الحلي أو الأدوات الحياتية ليستخلصوا المعادن من الخَبَث أو الزَّبَد.
وكذلك يفعل الحق سبحانه:
{كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض
…
} [الرعد: 17]
وحين يضرب الله الحقَّ والباطل؛ فهو يستخلص ما يفيد الناس؛ ويُذهب ما يضرُّهم، وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَآءً
…
} [الرعد: 17]
أي: يبعده؛ ف «جُفَاء» يعني «مَطْروداً» ؛ من الجَفْوة؛ ويُقال: «فلان جَفَا فلاناً» أي: أبعده عنه.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {
…
كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17]
وشاء سبحانه أن يُبيِّن لنا بالأمور الحِسِّية؛ ما يساوي الأمور المعنوية؛ كي يعلمَ الإنسانُ أن الظُّلْمَ حين يستشري ويَعْلو ويَطْمِس الحق، فهو إلى زَوَال؛ مثله مثل الزَّبد.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى
…
}
والذين يستجيبون للرب الذي خلق من عَدَم، وأوجد لهم مُقومِّات الحياة واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر؛ فإذا دعاهم لشيء فليعلموا أن ما يطلبه منهم مُتمِّم لصالحهم؛ الذي بدأه بإيجاد كل شيء لهم من البداية.
وهؤلاء الذين يستجيبون لهم الحُسْنى؛ فسبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأنت في الدنيا مَوْكُول لقدرتك على الأَخْذ بالأسباب؛ ولكنك في الآخرة مَوْكُول إلى المُسبِّب.
ففي الدنيا أنت تبذُر وتحرُث وتروي وتحصد، وقد تختلف حياتك شَظفاً وتَرفاً بقدرتك على الأسباب.
فإذا استجبْتَ لله واتبعتَ منهجه؛ فأنت تنتقل إلى حياة أخرى؛ تحيا فيها مع المسبب؛ لا الأسباب؛ فإذا خطر ببالك الشيء تَجِدْهُ أمامك؛ لأنك في الحياة الأخرى لا يكِلك الله إلى الأسباب، بل أنت مَوْكُول لذات الله، والموكول إلى الذَّاتِ بَاقٍ ببقاء الذات.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ
…
} [النساء: 175]
وبعض المُفسِّرين يقولون «إنها الجنة» وأقول: هذا تفسير مقبول؛ لأن الجنة من رحمة الله؛ ولكن الجنة باقية بإبقاء الله لها؛ ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى
…
} [الرعد: 18]
ويقول تعالى في آية أخرى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ
…
} [يونس: 26]
والحسنى هي الأمر الأحسن؛ وسبحانه خلق لك في الدنيا الأسباب التي تكدح فيها؛ ولكنك في الآخرة تحيا بكل ما تتمنى دون كدح، وهذا هو الحسن.
وهَبْ أن الدنيا ارتقتْ؛ والذين يسافرون إلى الدول المُتقدمة؛ وينزلون في الفنادق الفاخرة؛ يُقال لهم اضغط على هذا الزر تنزل لك القهوة؛ والزِّر الآخر ينزل لك الشاي.
وكل شيء يمكن أن تحصل عليه فَوْر أن تطلبه من المطعم حيث يُعدُّه لك آخرون؛ ولكن مهما ارتقتْ الدنيا فلن تصل إلى أنْ يأتي لك ما يمرُّ على خاطرك فَوْر أنْ تتمناه؛ وهذا لن يحدث إلا في الآخرة.
وكلمة «الحسنى» مُؤنَّثة وأفعل تفضيل؛ ويُقَال «حسنة وحُسْنى» ؛ وفي المذكر يُقَال «حسن وأحسن» . والمقابل لمن لم يستجيبوا معروف.
والحق سبحانه يقول هنا: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ
…
} [الرعد: 18]
أي: يقول خذوا ما أملك كله واعتقوني، لكن لا يُستجاب له.
ويقول الحق سبحانه: