الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25] .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب
…
} .
وهذا خطاب من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم َ أن يُنذِرهم بضرورة الاستعداد ليوم القيامة، وأنه قادمٌ لا محالةَ.
وكلمة «يوم» هي ظَرْف زمان، وظرف الزمان لا بُدَّ له من حَدثٍ يقع فيه، ويوم القيامة ليس محلَّ إنذار أو تبشير؛ لأن الإنذار أو البشارة لا بُدّ أنْ يكونا في وقت التكليف في الحياة الدنيا.
وهكذا يكون المُنْذر به هو تخويفهم مِمّا يحدث لهم في هذا اليوم، فما سوف يحدث لهم هو العذاب؛ وكأنه قنبلة موقوتة ما إنْ يأتي يوم القيامة حتى تنفجر في وجوههم.
وهنا يقول أهل ظُلْم القمة في العقيدة، وظُلْم الرسالة بمقاومتها؛ وظلم الكون المُسبِّح لله:
{رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل
…
} [إبراهيم:
44]
.
وهم يطلبون تأجيل العذاب لِمُهْلة بسيطة، يُثبتون فيها أنهم سيُجيبون الدعوة ويطيعون الرسول، وهم يطلبون بذلك تأجيل قيامتهم.
فيكون الجواب من الحق سبحانه:
{أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] .
فأنتم قد سبق وأنْ أقسمتُم بأن الله لا يبعث مَنْ يموت؛ وقد قال الحق سبحانه ما قلتم: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ
…
} [النحل: 38] .
وساعة ترى كلمة «بلى» بعد نَدْب، فهذا يعني تكذيب ما جاء قبلها، وهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ظَنُّوا أنهم لن يُبعثُوا، وظنُّوا أنهم بعد الموت سيصيرون تراباً؛ وهم الذين قالوا:{إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] .
وهكذا أكَّدوا لأنفسهم أنه لا بَعْث من بَعْد الحياة، ومن بعد البعث سنسمع من كل فرد فيهم:{ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] .
أو: أنهم ظَنُّوا أن الذين أنعَم الله عليهم في الدنيا؛ لن يحرمهم في الآخرة، كما أورد الحق سبحانه هذا المَثل، في قوله تعالى:
والذي يقول ذلك فَهِم أنه سوف يموت؛ لكنه توهّم أن جنته تلك ستظل على ما هي عليه، وأنكر قيام الساعة، وقال:«حتى لو قامت الساعة، ورُدِدتُ إلى الله فسأجد أفضل من جنتي تلك» .
وهو يدعي ذلك وهو لم يُقدّم إيماناً بالله ليجده في الآخرة، فهو إذن مِمَّنْ أنكروا الزوال أي البعث من جديد، ووقع في دائرة مَنْ لم يُصدّقوا البعث، وسبق أنْ قال الحق سبحانه ما أورده على ألسنتهم:
{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] .
والذين أنكروا البعث يُورِد الحق سبحانه لنا حواراً بينه وبينهم، فيقول سبحانه وتعالى:{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] .
فيرد الحق سبحانه عليهم: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير} [غافر: 12] .
وفي موقع آخر من القرآن نجد حواراً واستجداءً منهم لله؛ يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً
…
} [السجدة: 12] .
ويأتي رَدُّ الحق سبحانه عليهم: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ
…
} [السجدة: 14] .
وفي موقع ثالث يقول الواحد منهم عند الموت: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100] .
فيأتي ردّ الحق سبحانه: {كَلَاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا
…
} [المؤمنون: 100] .
وبعد دخولهم النار يقولون: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] .
فيقول الحق سبحانه: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .
وفي موضع آخر يقولون عند اصطراخهم في النار: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ
…
} [فاطر: 37] .
فيأتي الرد من الحق سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37] .
ونلحظ أنهم في كل آيات التوسُّل لله كي يعودوا إلى الحياة الدنيا يقولون (ربنا) ، وتناسَوْا أنهم مأخوذون إلى العذاب بمخالفات الألوهية؛ ذلك أن الربوبية عطاؤها كان لكم في الدنيا، ولم ينقصكم الحق سبحانه شيئاً على الرغم من كفركم.
هكذا يكون حال هؤلاء الذين أقسموا أن الحق سبحانه لن يبعثهم، وأنكروا يوم القيامة، وأنه لا زوال لهم. أي: لا بَعْث ولا نشور.
ويتابع الحق سبحانه القول الكريم: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين
…
} .
والسكون هو الاطمئنان إلى الشيء من عدم الإزعاج، ونعلم أن
المرأة في الزواج تعتبر سكناً، والبيت سكن، وهنا يتكلم الحق سبحانه عن مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أي: أنكم لم تتعِظُوا بالسوابق التي ما كان يجب أن تغيبَ عنكم، فأنتم تمرون في رحلات الصيف والشتاء على مدائن صالح، وترون آثار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك، وتمرون على الأحقاف؛ وترون ماذا حاقَ بقوم عاد.
وكُلُّ أولئك نالوا العقاب من الله، سواء بالريح الصرصر العاتية، أو: أنه سبحانه قد أرسل عليهم حاصباً من السماء، أو: أنزل عليهم الصيحة؛ أو: أغرقهم كآل فرعون، وأخذ كل قوم من هؤلاء بذنبه.
وصدق الله وَعْده في عذاب الدنيا؛ فلماذا لم تأخذوا عِبْرة من ذلك؛ وأنه سبحانه وتعالى صادق حين تحدَّث عن عذاب الآخرة؟
وهنا قال الحق سبحانه:
{وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ
…
} [إبراهيم: 45] .
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138] .
أي: أنكم تمرُّون على تلك الأماكن التي أقامها بعضٌ مِمَّنْ سبقُوكم وظلمُوا أنفسهم بالكفر؛ وأنزل الحق سبحانه عليهم العقَاب؛ ولذلك يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45] .
نعم؛ فحين تمشي في أرض قوم عاد، وترى حضارتهم التي قال عنها الحق سبحانه:{إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 7 - 8] .
وهي حضارة لم نكشف آثارها بعد؛ وما زالت في المطمورات وكل مطمور في الأرض بفعل من غضب السماء؛ تضع السماءُ ميعادَ كشف له ليتعظَ أهلُ الأرض؛ ويحدث هذا الكشف كلما زاد الإلحاد واستشرى.
قد حدث أن اكتشفنا حضارة ثمود، وكذلك حضارة الفراعنة؛ وهي الحضارة التي سبقتْ كل الحضارات في العلوم والتكنولوجيا، ورغم ذلك لم يعرف أصحاب تلك الحضارة أن يصونوها من الاندثار الذي شاءه الله.
وما زال الناس يتساءلون: لماذا لم يترك المصريون القدماء خبرتهم الحضارية مكتوبة ومُسجّلة في خطوات يمكن أن تفهمها البشرية من بعد ذلك؟
{وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45] .
أي: أن الحق سبحانه يوضح هنا أن مشيئته في إنزال العقاب قد وَضْحَتْ أمام الذين عاصروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ في مساكن الأقوام التي سبقتهم؛ وكفروا برسالات الرسل، وسبق أن ضرب لهم الحق سبحانه الأمثال بهؤلاء القوم وبما حدث لهم. والمَثلُ إنما يضربه الله لِيُقرِّب بالشيء الحسي ما يُقرِّب إلى الأذهانِ الشيءَ المعنوي.
ويستمر قوله الحق من بعد ذلك: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ
…
} .
والمكْر - كما نعلم - هو تبييت الكَيْد في خفاء مستورٍ، ومأخوذ من الشجرة المكمورة؛ أي: الشجرة التي تُداري نفسها. ونحن نرى في البساتين الكبيرة شجرةً في حجم الإصْبع؛ وهي مجدولةٌ على شجرة أخرى كبيرة. ولا تستطيع أن تتعرف على ورقة منها، أو أن تنسب تلك الورقة إلى مكان خروجها، ومن أيّ فرع في الشجرة المُلتْفة إلا إذا نزعتها من حول الشجرة التي تلتفّ من حولها.
ومَنْ يُبيِّت إنما يشهد على نفسه بالجُبْن والضعف وعدم القدرة على المواجهة، قد يصلح أن تُبيِّت مُسَاوٍ لك؛ أما أنْ تُبّيت على الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ فتلك هي الخيبة بعينها.
ولذلك يقول الحق سبحانه في مواجهة ذلك: {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] .
وقال عن مَكْر هؤلاء: {وَلَا يَحِيقُ المكر السيىء إِلَاّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] .
ونعلم أننا حين ننسب صِفةً لله فنحن نأخذها في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
…
} [الشورى: 11] .
وعادة ما ننسب كل فعل من الله للخير، كقوله سبحانه:{وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89] . {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] .
وقوله هنا: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ
…
.} [إبراهيم: 46] .
أي: قاموا بالتبييت المناسب لحيلتهم ولتفكيرهم ولقوتهم؛ فإذا ما قابل الحق سبحانه ذلك؛ فلسوف يقابله بما يناسب قوته وقدرته المطلقة، وهو سبحانه قد علم أزلاً بما سوف يمكرونه، وتركهم في مَكْرهم.
فانتصارات الرسالات مرهونٌ بقوة المُرْسَل وأتباعه، وهم
يقابلون خصوماً هُم حيثية وجود الرسالة؛ ذلك أنهم قد ملأوا الأرض بالفساد، ويريدون الحفاظ على الفساد الذي يحفظ لهم السلطة؛ والدين الجديد سيدُكُّ سيادتهم ويُزلزلها؛ لذلك لا بُدَّ ألاّ يدخروا وُسْعاً في محاولة الكَيْد والإيقاع بالرسول للقضاء على الرسالة.
وقد حاولوا ذلك بالمواجهة وقت أنْ كان الإسلام في بدايته؛ فأخذوا الضعاف الذين أسلموا، وبدءوا في تعذيبهم؛ ولم يرجع واحد من هؤلاء عن الدين.
وحاولوا بالحرب؛ فنصر الله الذين آمنوا، ولم يَيْق لهم إلا المَكْر، وسبحانه القائل:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] .
وحاولوا أن يفسدوا خليّة الإيمان الأولى، وهي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم َ، وظنُّوا أنهم إنْ نجحوا في ذلك؛ فسوف تنفضُّ الرسالة. فحاولوا أن يشتروه بالمال؛ فلم يُفلحوا.
وحاولوا أن يشتروه بالسيادة والمُلْك فلم ينجحوا، وقال قولته المشهورة:«والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته» .
ثم قرروا أن يقتلوه وأن يُوزَّعوا دمه بين القبائل، وأخذوا من كل قبيلة شاباً ليضربوا محمداً صلى الله عليه وسلم َ بالسيوف ضَرْبة رجلٍ واحد ولكنه صلى الله عليه وسلم َ يهاجر في تلك الليلة، وهكذا لم ينجح تبييتهم:
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ.
. .} [إبراهيم: 46] .
أي: أنه سبحانه يعلم مكرهم.
ويتابع سبحانه قائلاً:
{وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46] .
أي: اطمئن يا محمد، فلو كان مكرهم يُزيل الجبال فلنْ ينالوك، والجبال كانت أشد الكائنات بالنسبة للعرب، فلو كان مكرهم شديداً تزول به الجبال، فلن يُفلِحوا معك يا رسول الله، ولن يُزَحزِحوك عن هدفك ومهتمك.
والحق سبحانه يقول: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .
وإذا كان مكرهم يبلغ من الشدة ما تزول به الجبال؛ فاعلم أن الله أشدُّ بَأْساً.
ويُقدِّم سبحانه من بعد ذلك حيَثْية عدم فاعلية مَكْرهم، فيقول:
{فَلَا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ
…
}
ولو كان لمكرهم مفعولٌ أو فائدة لَمَا قال الحق سبحانه أن وعده لرسله لن يُخْلفَ، ولكن مكرَهم فاسدٌ من أوله وبلا مفعول، وسبحانه هو القائل:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] .
إذن: فوَعْد الله لرُسله لا يمكن أن يُخْلفَ.
الوعود في القرآن كثيرة؛ فهناك وَعْد الشيطان لأوليائه، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً
…
} [البقرة: 168]
وهناك وَعْد من الله للمؤمنين: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض
…
} [النور: 55] .
فإذا كان الحق سبحانه لا يُخلِف وَعْده لأتباع الرسول؛ أيُخلِف وَعْده للرسول؟
طبعاً لا؛ لأن الوعد على إطلاقه من الله؛ مُوفّى؛ فكيف إذا كان للرسل وللمؤمنين؟ يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} [غافر: 51] والنصر يقتضي هزيمة المقابل، ويحتاج النصر لصفة تناسبه؛ والصفة المناسبة هي صدوره من عزيز لا يُغلب؛ والهزيمة لمن كفروا تحتاج إلى صفة؛ والصفة المناسبة هي تحقُّق الهزيمة بأمر مُنتقِم جبّار.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض
…
} .
ويُخوّفهم الحق سبحانه هنا من يوم القيامة بعد أن صَوّر لهم ما سوف يدّعونه، بأن يُؤخّر الحق حسابهم، وأنْ يُعيدهم إلى الدنيا لعلّهم يعملون عملاً صالحاً، ويجيبوا دعوة الرسل.
ويوضح سبحانه هنا أن الكون الذي خلقه الله سبحانه، وطرأ
عليه آدم وخلفتْه من بعده ذريته؛ قد أعدّه سبحانه وسخَّره في خدمة آدم وذريته من بعده؛ وهم يعيشون في الكون بأسباب الله المَمْدودة في أنفسهم، والمنثورة في هذا الكون لكل مخلوق لله، مؤمنهم وكافرهم؛ فمَنْ يأخذ بتلك الأسباب هو مَنْ يغلب.
وسبحانه القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] .
وهكذا شاء الله أنْ يهبَ عباده الارتقاء في الدنيا بالأسباب؛ أما حياة الآخرة فنحن نحياها بالمُسبِّب؛ وبمجرد أنْ تخطرَ على بال المؤمن رغبةٌ في شيء يجده قد تحقق.
وهذا أمر لا يحتاج إلى أرض قَدَّر فيها الحق أقواتها، وجعل فيها رواسي؛ وأنزل عليها من السماء ماء، إذن: فهي أرض غير الأرض؛ وسماء غير السماء؛ لأن الأرض التي نعرفها هي أرض أسباب؛ والسماء التي نعرفها هي سماء أسباب.
وفي جنة الآخرة لا أسبابَ هناك؛ لذلك لا بُدّ أن تتبدَّل الأرض، وكذلك السماء.
وقوله الحق:
{وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] .
فهو يعني ألا يكون هناك أحد معهم سوِى ربهم؛ لأن البروز هو الخروج والمواجهة.
والمؤمن وجد ربه إيماناً بالغيب في دُنْياه؛ وهو مؤمن به وبكل ما جاء عنه؛ كقيام الساعة، ووجود الجنة والنار.
هذا هو حال المؤمن، أما الكافر فحاله مختلف. فهو يبرز ليجد الله الذي أنكره، وهي مواجهة لم يَكُنْ ينتظرها، ولذلك قال الحق سبحانه في وَصْف ذاته هنا:
{الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] .
وليس هناك إله آخر سيقول له» اتركهم من أجل خاطري «.
وفي آية أخرى يقول عن هؤلاء: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ
…
} [النور: 39] .
أي: أنه يُفَاجأ بمثل هذا الموقف الذي لم يستعِد له.
وقوله:
{الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] .
أي: القادر على قَهْر المخلوق على غير مُرَاده.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَتَرَى المجرمين
…
.} .
والمجرم هو مَن ارتكب ذنباً، وهو هنا مَنِ ارتكب ذنب القِمّة. وهو الكفر بالله، ومن بعده َمَنِ ارتكب الذنوب اليت دون الكفر، وتراهم جميعاً مجموعين بعضهم مع بعض في «قرنٍ» وهو الحبل أو الَيْد الذي يُقيَّدون.
والأصفاد جمع صَفَد، وهو القيد الذي يوضع في الرِّجلْ؛ وهو مِثْل الخُلْخال؛ وهناك مَنْ يُقيّدون في الأصفاد أي: من أرجلهم، وهناك مَنْ يقيد بالأغلال. أي: أنْ توضع أيديهم في سلاسل، وتُعلَّق تلك السلاسل في رقابهم أيضاً.
وكلُّ أصحاب جريمة مُعيّنة يجمعهم رباط واحد، ذلك أن أهل كل جريمة تجمعهم أثناء الحياة الدنيا - في الغالب - مودَّة وتعاطف، أما هنا فسنجدهم متنافرين، وعلى عداء، ويلعن كل منهم الآخر؛ وكل
منهم يناكف الآخر ويضايقه، ويعلن ضِيقة منه، مصداقاً لقول الحق سبحانه:{الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين} [الزخرف: 67] .
وكأن كلاً منهم يُعذّب الآخر من قبل أنْ يذوقوا جميعاً العذاب الكبير.
ولذلك نجدهم يقولون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلَاّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29] .
ويقولون: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 67 - 68] .
ويستكمل الحق سبحانه صورة هؤلاء المُذْنبين: فيقول: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ
…
.} .