المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فكلمة «من» تُوضِّح أن مَنْ تهوي قلوبهم إلى المكان هم - تفسير الشعراوي - جـ ١٢

[الشعراوي]

الفصل: فكلمة «من» تُوضِّح أن مَنْ تهوي قلوبهم إلى المكان هم

فكلمة «من» تُوضِّح أن مَنْ تهوي قلوبهم إلى المكان هم قطعةٌ من أفئدة الناس، وقال بعَضٌ من العارفين بالله: لو أن النصَّ قد جاء «فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم» لوجدنا أبناء الديانات الأخرى قد دخلت أيضاً في الحجيج، ومن رحمة الله سبحانه أن جاء النص:

{فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ

} [إبراهيم: 37] .

فاقتصر الحجيج على المسلمين.

ويقول سبحانه من بعد ذلك مُستْكمِلاً ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي

} .

ص: 7579

وبعد أن اطمأن إبراهيم عليه السلام أن لهذا البلد أمناً عاماً وأمناً خاصاً، واطمأن على مُقوِّمات الحياة؛ وأن كل شيء من عند الله، بعد كل ذلك عاودته المسألة التي كانت تشغله، وهي مسألة تَرْكه لهاجر وإسماعيل في هذا المكان.

وبعض المُفسِّرين قالوا: إن الضمير بالجمع في قوله تعالى:

{تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ

} [إبراهيم:‌

‌ 38]

.

ص: 7579

مقصود به ما يُكِنّه من الحُبِّ لهاجر وإسماعيل، وما يُعلِنه من الجفاء الذي يُظهِره لهما أمام سارة، وكأن المعاني النفسية عاودتْه لحظةَ أنْ بدأ في سلام الوداع لهاجر وابنه إسماعيل.

ونقول: لقد كانت هاجر هي الأخرى تعيش موقفاً صَعْباً؛ ذلك أنها قد وُجدت في مكان ليس فيه زَرْع ولا ماء، وكأنها كتمتْ نوازعها البشرية طوال تلك الفترة وصبرتْ.

ولحظة أنْ جاء إبراهيم لِيُودّعها؛ قالت له: أين تتركنا؟ وهل تتركنا مِنْ رأيك أم من أمر ربَك؟ فقال لها إبراهيم عليه السلام: بل هو من أَمر الله. فقالت: إذن لن يضيعنا.

وتأكدت هاجر من أن ما قالتْه قد تحقَّق؛ ولن يُضيّعهما الله، وحين يعطش وحيدها تجري بين الصفا والمروة بَحْثاً عن مياه؛ ولكنها ترى تفجُّر الماء تحت قَدَمَيْ ابنها في المكان الذي تركته فيه؛ ويبدأ بئر زمزم في عطاء البشر منذ ذلك التاريخ مياهه التي لا تنضب.

وهكذا يتحقق قول إبراهيم عليه السلام في أن الله يعلم ما نُسِرّ وما نُعلِن؛ ذلك أن كل مُعْلَن لا يكون إلا بعد أن كل مَخْفياً، وعلى الرغم منَ أن الله غَيْبٌ إلا أن صِلَته لا تقتصر على الغيب؛ بل تشمل العالم الظاهر والباطن؛ وكل مظروف في السماء أو الأرض معلومٌ لله؛ لأن ما تعتبره أنت غيباً في ذهنك هو معلوم لله من قبل أن يتحرك ذهنك إليه.

ص: 7580

ولذلك يقول سبحانه في موقع آخر: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] .

فإذا كان السِّر هو ما أسررْت به لغيرك؛ وخرج منك لأنك استأمنتَ الغير على ألاّ يقوله، أو كان السر ما أخفيتَه أنت في نفسك؛ فالله هو العَالِم به في الحالتين.

ويقول القرآن: {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً. .} [التحريم: 3] .

أي: أن السِّرَّ كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وانتقل إلى بعضٍ من أزواجه. والأَخْفى هو ما قبل أنْ تبوحَ بالسرِّ؛ وكتمته ولم تَبُحْ به.

وسبحانه يعلم هذا السر وما تخفيه. أي: السر الذي لم تَقًُلْه لأحد، بل ويعلمه قبل أنْ يكونَ سرِاً.

ويقول سبحانه ما قاله إبراهيم عليه السلام ضراعةَ وحَمْداً له سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي

} .

ص: 7581

والوَهْب هو عطاء من مُعْطٍ بلا مقبال منك. وكل الذرية هِبَة،

ص: 7581

لو لم تكُنْ هبة لكانت رتيبة بين الزوجين؛ وأينما يوجد زوجان توجد. ولذلك قال الله: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] .

والدليل على أن الذرية هِبَة هو ما شاءه سبحانه مع زكريا عليه السلام؛ وقد طلب من الله سبحانه أن يرزقه بغلام يرثه، على الرغم من أنه قد بلغَ من الكِبَر عِتياً وزوجه عاقر؛ وقد تعجَّب زكريا من ذلك؛ لأنه أنجب بقوة، وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه:{كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] .

وهذا يعني ألَاّ يدخل زكريا في الأسباب والمُسبِّبات والقوانين.

وقد سمَّى الحق سبحانه الذرية هِبةً؛ لذلك يجب أن نشكرَ الله لأن الذي يقبل هبة الله في إنجاب الإناث برضاً يرزقه الله بشباب يتزوجون البنات؛ ويصبحون أطوعَ له من أبنائه، رغم أنه لم يَشْقَ في تربيتهم.

وكل منّا يرى ذلك في مُحِِيطة، فمَنْ أنجب الأولاد الذكور يظل يرقب: هل يتزوج ابنه بمَنْ تخطفه وتجعله أطوعَ لغيره منه.

وإنْ وهب لك الذكور فعلى العين والرأس أيضاً، وعليك أنْ تطلبَ

ص: 7582

من الله أن يكون ابنك من الذرية الصالحة، وإنْ وهبكَ ذُكْرنا وإناثاً فلكَ أن تشكره، وتطلب من الله أن يُعينك على تربيتهم.

وعلى مَنْ جعله الحق سبحانه عقيماً أن يشكرَ ربه؛ لأن العُقْم أيضاً هبةٌ منه سبحانه؛ فقد رأينا الابن الذي يقتل أباه وأمه، ورأينا البنت التي تجحد أباها وأمها.

وإنْ قَبِل العاقر هبةَ الله في ذلك؛ وأعلن لنفسه ولمَنْ حوله هذا القبول؛ فالحق سبحانه وتعالى يجعل نظرة الناس كلهم له نظرة أبناء لأب، ويجعل كل مَنْ يراه من شباب يقول له:«أتريد شيئاً يا عم فلان؟» ويخدمه الجميع بمحبة صافية.

وإبراهيم عليه السلام قد قال للحق سبحانه:

{الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر

} [إبراهيم: 39] .

والشكر على الهبة - كما عرفنا - يُشكِّل عطاءَ الذرية في الشباب، أو في الشيخوخة.

وأهل التفسير يقولون في:

{عَلَى الكبر

} [إبراهيم: 39] .

أنه يشكر الحق سبحانه على وَهْبه إسماعيل وإسحق مع أنه كبير. ولماذا يستعمل الحق سبحانه (على) وهي من ثلاثة حروف؛ بدلاً من «مع» ولم يَقُل «الحمد لله الذي وهب لي مع الكِبَر إسماعيل وإسحاق» .

وأقول: إن (على) تفيد الاستعلاء، فالكِبَر ضَعْف، ولكن إرادة

ص: 7583

الله أقوى من الضعف؛ ولو قال «مع الكبر» فالمعيّة هنا لا تقتضي قوة، أما قوله:

{وَهَبَ لِي عَلَى الكبر

} [إبراهيم: 39] .

فيجعل قدرة الله في العطاء فوق الشيخوخة.

وحين يقول إبراهيم عليه السلام ذلك؛ فهو يشكر الله على استجابته لما قاله من قبل: {إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] .

أي: أنه دعا أن تكونَ له ذرية.

ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقول إبراهيم:

{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} [إبراهيم: 39] .

ويقول سبحانه من بعد ذلك: {رَبِّ اجعلني

} .

ص: 7584

وكأن إبراهيم عليه السلام حين دعا بأمر إقامة الصلاة فهذه قضية تخصُّ منهج الله، وهو يسأل الله أنْ يقبلَ، ذلك أن الطلبات الأخرى قد طلبها ببشريته؛ وقد يكون ما طلبه شراً أو خيراً؛ ولكن الطلب بأن يجعله مُقيماً للصلاة هو وذريته هو طَلَبٌ بالخير.

ويتتابع الدعاء في قول الحق سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلام:

ص: 7584

{رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ

} .

ص: 7585

ونعلم أن طلب الغُفْران من المعصوم إيذانٌ بطلاقة قدرة الله في الكون، ذلك أن اختيار الحق سبحانه للرسول أيّ رسول لا يُعفى الرسول المختار من الحذَر وطلب المغفرة، وها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول:«إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» .

وطلب المغفرة من الله إن لم يَكُنْ لذنب كما في حال الرُّسل المعصومين فهو من الأدب مع الله؛ لأن الخالق سبحانه وتعالى يستحق منّا فوق ما كلَّفنا به، فإذا لم نقدر على المندوبات وعلى التطوّعات؛ فَلْندعُ الحق سبحانه أنْ يغفرَ لنا.

ومِنّا مَنْ لا يقدر على الفرائض؛ فليْدعُ الله أنْ يغفرَ له؛ ولذلك يُقال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .

ص: 7585

والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: 2] .

ولذلك أقول دائماً؛ إن الحق - جَلَّ جلالُ ذاته - يستحق أن يُعبَد بفوق ما كَلّف به؛ فإذا اقتصرنا على أداء ما كَلَّف به سبحانه؛ فكأننا لم نُؤدِّ كامل الشُّكْر؛ وما بالنا إذا كان مثل هذا الحال هو سلوك الرُّسل، خصوصاً وأن الحق سبحانه قد زادهم عن خَلْقه اصطفاءً؛ أفلا يزيدنه شُكْراً وطلباً للمغفرة؟

ونلحظ أن طلب المغفرة هنا قد شمل الوالدين والمؤمنين:

{رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] .

والإنسان كما نعلم له وجود أصليّ من آدم عليه السلام؛ وله وجود مباشر من أبويْه، وما دام الإنسان قد جاء إلى الدنيا بسبب من والديْه، وصار مؤمناً فهو يدعو لهما بالمغفرة، أو: أن الأُسْوة كانت منهما؛ لذلك يدعو لهما بالمغفرة.

والإنسان يدعو للمؤمنين بالمغفرة؛ لأنهم كانوا صُحْبة له وقُدْوة، وتواصى معهم وتواصوا معه بالحق والصبر، وكأن إبراهيم عليه السلام صاحب الدعاء يدعو للمؤمنين من ذريته؛ وتلك دعوة وشفاعة منه لمَنْ آمن؛ ويرجو الحقَّ سبحانه أنْ يتقبلها.

ص: 7586