المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقول الشيطان: {رَبِّ … } [الحجر:‌ ‌ 39] هو إقرار بالربوبية؛ ولكن - تفسير الشعراوي - جـ ١٢

[الشعراوي]

الفصل: وقول الشيطان: {رَبِّ … } [الحجر:‌ ‌ 39] هو إقرار بالربوبية؛ ولكن

وقول الشيطان: {رَبِّ

} [الحجر:‌

‌ 39]

هو إقرار بالربوبية؛ ولكن هذا الإقرار متبوع بعد الاعتراف بأنه قد سبّب لنفسه الطَّرد واللعنة؛ فقد قال: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي

} [الحجر: 39]

والحق سبحانه لم يُغوِه؛ بل أعطاه الاختيار الذي كان له به أن يؤمن ويطيع، أو يعصي ويُعاقب، فسبحانه قد مَكّن إبليس من الاختيار بين الفعل وعدم الفعل؛ فخالف إبليسُ أمرَ الله وعصاه.

ويتابع إبليس: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض

} [الحجر: 39]

وفي هذا إيضاح أن كُلّ وسوسة للشيطان تقتصر فقط على الحياة المترفة. وفي الأشياء التي تُدمّر العافية، كمَنْ يشرب الخمر، أو يتناول المخدرات، أو يتجه إلى كل ما يُغضب الله بالانحراف.

ولذلك نجد أن مَنْ يحيا بدخْلٍ يكفيه الضرورات؛ فهو يَأْمن على نفسه من الانحراف. ونقول أيضاً لمَنْ يحاولون أن يضبطوا موازينهم المالية: إن الاستقامة لا تُكلّف؛ ولن تتجه بك إلى الانحراف.

وتزيين الشيطان لن يكون في الأمور الحلال؛ لأن كل الضرورات لم يُحرِّمها الحق سبحانه؛ بل يكون التزيين دائماً في غير الضرورات، ولذلك فالاستقامة عملية اقتصادية، تُوفّر على الإنسان مشقة التكلفة العالية من ألوان الإنحراف.

ولذلك نجد المسرفين على أنفسهم يحسدون مَنْ هم

ص: 7703

على الاستقامة، ويحاولون أَخْذهم إلى طريق الانحراف؛ لأن كل منحرف إنما يلوم نفسه متسائلاً: لماذا أخيب وحدي؛ ولا يخيب معي مثل هذا المستقيم؟ وتمتلئ نفسه بالاحتقار لنفسه.

وكذلك كان إبليس في حُمْق رده على الله، ولكنه ينتبه إلى مكانته ومكانة ربه؛ أيدخل في معركة مع الله، أم مع أبناء آدم الذي خلقه سبحانه كخليفة ليعمر الأرض؟

لقد حدّد إبليس موقعه من الصراع، فقال: {

فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36]

وهذا يعني أن مجالَ معركته مع الخَلْق لا مع الخالق؛ لذلك قال: {

وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]

وكلمة (أجمعين) تفيد الإحاطةَ لكل الأفراد، وهذا فوق قدرته بعد أنْ عرف مُقَامه من نفسه ومن ربه، فقال ما جاء به الحق سبحانه في الآية التالية: {إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ

}

ص: 7704

فهؤلاء العباد الذين خلَّصتهم لنفسك يا ربّ؛ فلن أقدر عليهم؛ لأنك أخذتهم من طريق الغواية؛ لأنهم أحسنوا الإيمان، وقد وصلوا

ص: 7704

إلى مرتبة من الإخلاص التعبُّدي درجةً يصعب بها على الشيطان غوايتهم.

ويقول أهل المعرفة والإشراق: «أنت تصل بطاعة الله إلى كرامة الله» .

ولو شاء الله أن يكون جميع خَلْقه مهديين ما استطاع أحد أنْ يُضلّهم، ولكن عِزَّة الله عن خَلْقه هي التي أفسحت المجالَ للإغواء، ولذلك نجد إبليس يُقِرّ بعجزه عن غواية مَنْ أخلصوا لله العبادة.

ونجد رد الحق سبحانه على إبليس واضحاً لا لَبْس فيه، ولا قبول لِمَا قد يظنُّه إبليس مجاملةً منه لله، فيقول سبحانه في الآية التالية: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ

}

ص: 7705

وهكذا أوضح الحق سبحانه أن صراطه المستقيم هو الذي يقود العباد إلى الطاعة؛ فليس في الأمر تفضُّل من إبليس الذي سبق له أنْ حدَّد المواقع والاتجاهات التي سيأتي منها لغواية البشر، حيث قال الحق سبحانه ما جاء على لسان إبليس:{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]

ص: 7705

في ذلك القول حدَّد إبليس جهات الغواية التي يأتي منها وترك «الفَوْق» و «التَّحْت» ، لذلك نقول: إن العبد إذا استحضر دائماً عُلُوَّ عِزّة الربوبية، وذُلّ العبودية؛ فالشيطان لا يدخل له أبداً.

ويواصل الحق سبحانه قوله المبلغ عنه لنا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

}

ص: 7706

وهكذا أصدر الحق سبحانه حُكْمه بألَاّ يكون لإبليس سلطان على مَنْ أخلص لله عبادة، وأمر إبليس ألَاّ يتعرض لهم؛ فسبحانه هو الذي يَصُونهم منه؛ إلا مَنْ ضَلَّ عن هدى الله سبحانه، وهم مَنْ يستطيع إبليس غوايتهم.

وهكذا نجد أن «الغاوين» هي ضد «عبادي» ، وهم الذين اصطفاهم الله من الوقوع تحت سلطان الشيطان؛ لأنهم أخلصوا وخَلَّصوا نفسهم لله، وسنجد إبليس وهو ينطق يوم القيامة أمام الغاوين: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلَا تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ

} [إبراهيم: 22]

ص: 7706

ومن نِعَم الله علينا أن أخبرنا الحق سبحانه بكلّ ذلك في الدنيا، ولسوف يُقِر الشيطان بهذا كله في اليوم الآخر؛ ذلك أنه لم يملك سلطاناً يقهرنا به في الدنيا، بل مجرد إشارة ونَزْغ؛ ولا يملك سلطانَ إقناع ليجعلنا نفعل ما ينزغ به إلينا.

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما يُؤكّد أن جزاء الغاوين قَاسٍ أليم: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ

}

ص: 7707

ولأن المصير لهؤلاء هو جهنم؛ فعلى العبد الذكيّ أن يستحضرَ هذا الجزاء وقتَ الاختيار للفعل؛ كي لا يرتكب حماقةَ الفعل الذي يُزيّنه له الشيطان، أو تُلِح عليه به نفسه. ولو أن المُسرِف على نفسه استحضر العقوبة لحظةَ ارتكاب المعصية لَماَ أقدم عليها، ولكن المُسْرف على نفسه لا يقرِن المعصية بالعقوبة؛ لأنه يغفل النتائج عن المقدمات.

ولذلك أقول دائماً: هَبْ أن إنساناً قد استولتْ عليه شراسة الغريزة الجنسية، وعرف عنه الناس ذلك، وأعدّوا له مَا يشاء من رغبات، وأحضروا له أجملَ النساء؛ وسهّلوا له المكان المناسب للمعصية بما فيه من طعام وشراب.

وقالوا: هذا كله ذلك، شَرْط أن تعرف أيضاً ماذا ينتظرك. وأضاءوا له من بعد ذلك قَبْواً في المنزل؛ به فرن مشتعل. ويقولون له: بعد أنْ تَفْرُغ من لَذّتِك ستدخل في هذا الفرن المشتعل. ماذا سيصنع هذا الإنسان؟

ص: 7707

لابُدّ أنه سيرفض الإقدام على المعصية التي تقودهم إلى الجحيم.

وهكذا نعلم أن مَنْ يرتكب المعاصي إنما يستبطِئ العقوبة، والذكيّ حقاً هو مَنْ يُصدِّق حديث النبي صلى الله عليه وسلم َ الذي يقول فيه «الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته» . ولا أحدَ يعلم متى يموت.

ويُبيِّن الحق سبحانه من بعد ذلك مراتبَ الجحيم، فيقول: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ

}

ص: 7708

وفي جهنمَ يكون مَوْعِد هؤلاء الغَاوين، ومعهم إبليس الذي أَبَى واستكبر، وصَمَّم على غواية البشر، وألوان العذاب ستختلف، ولكن جماعة لهم جريمة يُقْرنون بها معاً. فمَنْ يشربون الخمر سيكونون معاً؛ ومَنْ يلعبون الميسر يكونون معاً.

ولكُلّ باب من أبواب جهنم جماعة تدخل منه ربطَتْ بينهم في الدنيا معصيةٌ ما؛ وجمعهم في الدنيا وَلاءٌ ما، وتكوّنتْ من بينهم

ص: 7708

صداقاتٌ في الدنيا، واشتركوا بالمخالطة؛ ولذلك فعليهم الاشتراك في العقوبة والنكال. وهكذا يتحقق قول الحق سبحانه:{الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين} [الزخرف: 67]

وفي الجحيم أماكن تَأويهم؛ فقِسْم يذهب إلى اللظى؛ وآخر إلى الحُطَمة؛ وثالث إلى سَقَر، ورابع إلى السَّعير، وخامس إلى الهاوية.

وكل جُزْء له قِسْم مُعيَّن به؛ وفي كل قسم دَركَات، لأن الجنة درجات، والنار دركات تنزل إلى أسفل.

ويأتي الحق سبحانه بالمقابل؛ لأن ذِكْر المقابل كما نعلم يُعطي الكافر حَسْرة؛ ويعطي المؤمن بشارةً بأنه لم يكُنْ من العاصين، ويقول: {إِنَّ المتقين فِي

}

ص: 7709

والمُتقِي هو الذي يحولُ بين ما يُحبّ وما يكره؛ ويحاول ألَاّ يصيب مَنْ يحب ما يكره. وتتعدى التقوى إلى متقابلاتٍ، فنجد الحق سبحانه يقول: {اتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله

} [البقرة: 282]

ويقول أيضاً:

ص: 7709

{فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة

} [البقرة: 24]

وقلنا من قَبْل: إن الحقَّ سبحانه له صفاتُ جلال، وصفات كمال وجمال. يَهَبُ بصفات الكمال والجمال العطايا، ويهَبُ بصفات الجلال البَلايا؛ فهو غفّار، وهو قهار، وهو عَفْو، وهو مُنْتِقم.

وعلينا أن نجعلَ بيننا وبين صفات الجلال وقاية؛ وأن نجعل بيننا وبين صفات الجمال قُرْبى؛ والطريق أن نتبعَ منهجه؛ فلا ندخل النار التي هي جُنْد من جنود الله.

وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45]

وهم الذين لم يرتكبوا المعاصي بعد أن آمنوا بالله ورسوله واتبعوا منهجه. وإنْ كانت المعصية قد غلبتْ بعضهم، وتابوا عنها واستغفروا الله؛ فقد يغفر الله لهم، وقد يُبدّل سيئاتِهم حسناتٍ.

ومَنْ يدخل الجنة سيجد فيها العيون والمقصود بها الأنهار؛ والحق سبحانه هو القائل: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ

} [محمد: 15]

ولعل هناك عيوناً ومنابعَ لا يعلمها إلا الحق سبحانه.

ويقول الحق سبحانه:

ص: 7710

{ادخلوها

}

ص: 7711

وهنا يدعوهم الحق سبحانه بالدخول إلى الجنة في سلام الأمن والاطمئنان. ونحن نعلم أن سلامَ الدنيا والاطمئنان فيها مُختلِف عن سلام الجنة؛ فسلامُ الدنيا يعكره خوف افتقاد النعمة، أو أن يفوت الإنسانُ تلك النعمة بالموت. ونعلم أن كل نعيم في الدنيا إلى زوال.

أما نعيم الآخرة فهو نعيم مقيم.

ويتابع سبحانه ما ينتظر أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ

}

ص: 7711

وهكذا يُخرِج الحق سبحانه من صدورهم أيَّ حقد وعداوة. ويرون أخلاء الدنيا في المعاصي وهم مُمْتلئون بالغِلّ، بينما هم قد طهَّرهم الحق سبحانه من كل ما كان يكرهه في الآخرة، ويحيا كل منهم مع أزواج مُطهَّرة. ويجمعهم الحق بلا تنافس، ولا يشعر أيٌّ منهم بحسد لغيره.

والغِلُّ كما نعلم هو الحقد الذي يسكُن النفوس، ونعلم أن البعض من المسلمين قد تختلف وُجهات نظرهم في الحياة، ولكنهم على إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم َ.

والمثل أن علياً كرم الله وجهه وأرضاه دخل موقعه الجمل، وكان

ص: 7711

في المعسكر المقابل طلحةُ والزبير رضي الله عنهما؛ وكلاهما مُبشَّر بالجنة، وكان لكل جانب دليل يُغلّبه.

«ولحظةَ أنْ قامت المعركة جاء وَجْه علي كرَّم الله وجهه في وَجْه الزبير؛ فيقول علي رضي الله عنه: تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأنتما تمرَّان عليَّ، سلَّم النبي وقلْتَ أنت: لا يفارق ابنَ أبي طالب زَهْوُه، فنظر إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال لك:» إنك تقاتل علياً وأنتَ ظالم له «. فرمى الزبير بالسلاح، وانتهى من الحرب.

ودخل طلحة بن عبيد الله على عليٍّ كرم الله وجهه؛ فقال عليٌّ رضوان الله عليه: يجعل لي الله ولأبيك في هذه الآية نصيباً» فقال أحد الجالسين: إن الله أعدل من أنْ يجمعَ بينك وبين طلحة في الجنة. فقال عليٌّ: وفيما نزل إذنْ قوله الحق:

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] .

وكلمة «نزعنا» تدل على أن تغلغل العمليات الحِقْدية في النفوس يكون عميقاً، وأن خَلْعها في اليوم الآخر يكون خَلْعاً من الجذور، وينظر المؤمن إلى المؤمن مثله؛ والذي عاداه في الدنيا نظرتُه إلى مُحسِن له؛ لأنه بالعداوة والمنافسة جعله يخاف أن يقع عَيْب منه.

ص: 7712